٥٧٥٨قوله عز وجل : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ هذا عطف على ما قبله. والمعنى أن ربكم اللّه الذي خلق السموات والأرض وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً قرئ نشرا بالنون أراد جمع نشور وهي الريح الطيبة الهبوب التي تهب من كل ناحية ، وقيل : هو جمع ناشر يقال أنشر اللّه الريح بمعنى أحياها. وقال الفراء : النشر الريح الطيبة اللينة التي تنشئ السحاب. وقال ابن الأنباري : النشر المنتشرة الواسعة الهبوب. وقيل : النشر خلاف الطيّ فيحتمل أنها كانت بانقطاعها كالمطوية فانتشرت بمعنى أرسلت. وقرئ بشرا بالباء جمع بشيرة وهي التي تبشر بالمطر والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة والرياح أربعة الصبا وهي الشرقية والدبور وهي الغربية والشمال وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي والجنوب وهي القبلية. وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني أمام المطر الذي هو رحمته وإنما سماه رحمة لأنه سبب لحياة الأرض الميتة. قال أبو بكر بن الأنباري رحمه اللّه تعالى : اليدان تستعملهما العرب في المجاز على معنى التقدمة تقول هذه تكون في الفتن بين يدي الساعة يريدون قبل أن تقوم الساعة تشبيها وتمثيلا بما إذا كانت يد الإنسان تتقدمانه كذلك الرياح تتقدم المطر وتؤذن به. عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله ما بلغكم في الريح فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس ف قلت : يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (الريح من روح اللّه تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا اللّه من خيرها واستعيذوا باللّه من شرها) رواه الشافعي رضي اللّه عنه بطوله وأخرجه أبو داود في المسند عنه. وقال كعب الأحبار : لو حبس اللّه الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض وقوله تعالى : حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا يقال أقل فلان الشيء إذا حمله واشتقاق الإقلال من القلة فإن من يرفع شيئا يراه قليلا والسحاب جمع سحابة وهو الغيم فيه ماء أو لم يكن فيه ماء سمي سحابا لانسحابه في الهواء. والمعنى : حتى إذا حملت هذه الرياح سحابا ثقالا بما فيه من الماء قال السدي : إن اللّه تبارك وتعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين وهما طرفا السماء والأرض حيث يلقيان فتخرجه من ثم ، ثم تنشره فتبسطه في السماء كيف يشاء ثم تفتح له أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك. وقيل إن اللّه تعالى دبر بحكمته أن الرياح تتحرك تحريكا شديدا فتثير السحاب ثم ينضم بعضه إلى بعض فيتراكم وينعقد ويحمل الماء ثم تسوقه إلى حيث يشاء اللّه عز وجل وهو قوله تعالى : سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني إلى بلد فتكون اللام بمعنى إلى. وقيل : معناه لأجل حياة بلد ميت وإنما قال سقنا ، لأن لفظ السحاب مذكر وإن كان جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا نظرا إلى اللفظ. قال الأزهري رحمه اللّه تعالى : قال الليث البلد كل موضع من الأرض عامرا أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منها بلدة والجمع بلاد. زاد غيره والمفازة تسمى بلدة ، لكونها مسكن الوحش والجن. قال الأعشى : وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل ومعنى الآية : إنا سقنا السحاب إلى بلد ميت محتاج لإنزال الماء لم ينزل فيه غيث ولم تنبت فيه خضرة فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ اختلفوا في الضمير في قوله تعالى به إلى ماذا يعود؟ فقال الزجاج رحمه اللّه وابن الأنباري جائز أن يكون المعنى فأنزلنا بالبلد الميت الماء وجائز أن يكون المعنى وأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لنزول الماء فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بذلك الماء لأن إنزال الماء كان سببا لإخراج الثمرات ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى فأخرجنا بذلك الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ يعني وأخرجنا بذلك البلد بعد موته وجد به من أصناف الثمار والزروع كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يعني كما أحيينا البلد الميت كذلك نخرج الموتى أحياء من قبورهم بعد فنائهم ودروس آثارهم واختلفوا في وجه التشبيه ، فقيل : إن اللّه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا. قال أبو هريرة وابن عباس رضي اللّه عنهما : إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر اللّه تعالى عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحيوان أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية : أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا فيناديهم المنادي : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون : قال مجاهد : إذا أراد اللّه تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تنشق الأرض ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها فكذلك يحيي اللّه الموتى بالمطر كإحيائه الأرض به وقيل إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد الميت بعد خرابه وموته فأنبت فيه الزرع والشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى ويخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا ورمما بالية لأن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس قادر على أن يحييهم ويخرجهم من قبورهم إلى حشرهم ونشرهم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الخطاب لمنكري البعث ، يقول : إنكم شاهدتم الأشجار وهي مزهرة مورقة مثمرة في أيام الربيع والصيف ثم إنكم شاهدتموها يابسة عارية من تلك الأزهار والأوراق والثمار ثم إن اللّه تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها. والمعنى : إنما وصفت ما وصفت من التشبيه والتمثيل لكي تعتبروا وتتذكروا وتعلموا أن من فعل ذلك كان هو الذي يعيد ويحيي. قوله تعالى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ يعني إذا أصابه المطر أخرج نباته بإذن اللّه عز وجل : وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ يعني والبلد الذي خبث أرضه فهي سبخة لا يخرج يعني لا يخرج نباته إِلَّا نَكِداً يعني عسرا بمشقة وكلفة قال الشاعر في المعنى يذم إنسانا : لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا يعني بالتافه القليل وبالنكد العسير ومعناه : إنك إن أعطيت أعطيت القليل بعسر ومشقة. قال المفسرون : هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر فشبه المؤمن بالأرض الحرة الطيبة وشبه نزول القرآن على قلب المؤمن بنزول المطر على الأرض الطيبة فإذا نزل المطر عليها أخرجت أنواع الأزهار والثمار وكذلك المؤمن إذ سمع القرآن آمن به وانتفع به وظهرت منه الطاعات والعبادات وأنواع الأخلاق الحميدة وشبه الكافر بالأرض الرديئة الغليظة السبخة التي لا ينتفع بها وإن أصابها المطر فكذلك الكافر إذا سمع القرآن لا ينتفع به ولا يصدقه ولا يزيده إلا عتوا وكفرا وإن عمل الكافر حسنة في الدنيا كانت بمشقة وكلفة ولا ينتفع بها في الآخرة. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن يقول هو طيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمره طيب ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي خرجت منها البركة فالكافر خبيث وعمله خبيث. وقال مجاهد : هذا مثل ضربه اللّه تعالى لآدم وذريته كلهم منهم خبيث وطيب ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن مثل ما بعثني اللّه تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبته كلأ فذلك مثل من فقه في دين اللّه عز وجل ونفعه ما بعثني اللّه تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللّه تعالى الذي أرسلت به) أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى : كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ يعني كما ضربنا هذا المثل كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية وحجة بعد حجة لقوم يشكرون اللّه تعالى على إنعامه عليهم بالهداية وحيث جنّبهم سبيل الضلالة وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا لسماع القرآن. لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّه ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) |
﴿ ٥٧ ﴾