٢٣٤إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ لما أمر اللّه سبحانه وتعالى بطاعته وطاعة رسوله في الآية المتقدمة ثم قال بعد ذلك إن كنتم مؤمنين لأن الإيمان يستلزم الطاعة ، بيّن في هذه الآية صفات المؤمنين وأحوالهم فقال سبحانه وتعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ولفظة إنما تفيد الحصر والمعنى ليس المؤمنون الذين يخالفون اللّه ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم أي خضعت وخافت ورقت قلوبهم وقيل إذا خوفوا باللّه انقادوا خوفا من عقابه. وقال أهل الحقائق : الخوف على قسمين : خوف عقاب وهو خوف العصاة ، وخوف الهيبة والعظمة وهو خوف الخواص ، لأنهم يعلمون عظمة اللّه عز وجل فيخافونه أشد خوف ، وأما العصاة فيخافون عقابه فالمؤمن إذا ذكر اللّه وجل قلبه وخافه على قدر مرتبته في ذكر اللّه. فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى قال في هذه الآية وجلت قلوبهم بمعنى خافت وقال في آية أخرى تطمئن قلوبهم بذكر اللّه فكيف الجمع بينهما؟ قلت : لا منافاة بين هاتين الحالتين لأن الوجل هو خوف العقاب والاطمئنان إنما يكون من ثلج اليقين وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهذا مقام الخوف والرجاء وقد جمعا في آية واحدة وهي قوله سبحانه وتعالى : تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّه. والمعنى : تقشعر جلودهم من خوف عقاب اللّه ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند ذكر اللّه ورجاء ثوابه وهذا حاصل في قلب المؤمنين ثم قال تعالى : وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً يعني وإذا قرأت عليهم آيات القرآن زادتهم تصديقا قاله ابن عباس. والمعنى : أنه كلما جاءهم شيء من عند اللّه آمنوا به فيزدادون بذلك إيمانا وتصديقا لأن زيادة الإيمان بزيادة التصديق وذلك على وجهين الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين فتكون معرفته باللّه أقوى فيزداد إيمانه. الوجه الثاني : هو أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند اللّه ولما كانت التكاليف متوالية في زمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلما تجدد تكليف صدقوا به فيزدادون بذلك الإقرار تصديقا وإيمانا ومن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان أكبر ممن يصدقه في شيء واحد فقوله تعالى : وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم واختلف أناس في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقص أم لا؟ فالذين قالوا إن الإيمان عبارة عن التصديق القلبي قالوا لا يقبل الزيادة لإجماع أهل اللغة على أن الإيمان هو التصديق والاعتقاد بالقلب وذلك لا يقبل الزيادة ومن قال إن الإيمان عبارة عن مجموع أمور ثلاثة وهي التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان فقد استدل على ذلك بهذه الآية من وجهين أحدهما أن قوله زادتهم إيمانا صريح في أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان عبارة عن التصديق بالقلب فقط لما قبل الزيادة وإذا قيل لزيادة فقد قبل النقص. الوجه الثاني : أنه ذكر في هذه الآية أوصافا متعددة من أحوال المؤمنين ثم قال سبحانه وتعالى بعد ذلك : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. وذلك يدل على أن تلك الأوصاف داخلة في مسمى الإيمان. وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) أخرجاه في الصحيحين ففي هذا الحديث دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى وإذا كان كذلك كان قابلا للزيادة والنقص. قال عمير بن حبيب ، وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصانا. قيل له : فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا اللّه وحمدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي : أن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. وقوله سبحانه وتعالى : وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ معناه يفوضون جميع أمورهم إليه ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه. واعلم أن المؤمن إذا كان واثقا بوعد اللّه ووعيده كان من المتوكلين عليه لا على غيره وهي درجة عالية ومرتبة شريفة لأن الإنسان يصير بحيث لا يبقى له اعتماد في شيء من أموره إلا على اللّه عز وجل واعلم أن هذه المراتب الثلاث أعني الوجل عند ذكر اللّه وزيادة الإيمان عند تلاوة القرآن والتوكل على اللّه من أعمال القلوب ولما ذكر اللّه سبحانه وتعالى هذه الصفات الثلاث أتبعها بصفتين من أعمال الجوارح فقال سبحانه وتعالى : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يعني يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها وينفقون أموالهم فيما أمرهم اللّه به من الإنفاق فيه ويدخل فيه النفقة في الزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والقربات ثم قال تعالى : أُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا يعني يقينا لا شك في إيمانهم قال ابن عباس برءوا من الكفر. وقال قتادة : استحقوا الإيمان وأحقه اللّه لهم وفيه دليل على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأن اللّه سبحانه وتعالى إنما وصف بذلك أقواما مخصوصين على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه وهذا يتعلق بمسألة أصولية وهي أن العلماء اتفقوا على أنه يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز له أن يقول أنا مؤمن حقا أم لا؟ فقال أصحاب الإمام أبي حنيفة : الأولى أن يقول أنا مؤمن حقا ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه واستدلوا على صحة هذا القول بوجهين : الأول : أن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء اللّه وكذا القول في القائم والقاعد ، فكذلك هذه المسألة يجب فيها أن يكون المؤمن مؤمنا حقا ، ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه. الوجه الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم اللّه لهم بكونهم مؤمنين حقا وفي قوله أنا مؤمن إن شاء اللّه تشكيك فيما قطع اللّه لهم به وذلك لا يجوز وقال أصحاب الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء اللّه واحتجوا لصحة هذا القول بوجوه : الأول أن الإيمان عندهم عبارة عن الاعتقاد والإقرار والعمل وكون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة المقبولة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في الماهية فيجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه وإن كان اعتقاده وإقراره صحيحا وعند أصحاب أبي حنيفة أن الإيمان عبارة عن الاعتقاد فيخرج العمل من مسمى الإيمان فلم يلزم حصول الشك. الوجه الثاني : أن قولنا أنا مؤمن إن شاء اللّه ليس هو على سبيل الشك ولكن إذا قال الرجل أنا مؤمن فقد مدح نفسه بأعظم المدائح فربما حصل له بذلك عجب فإذا قال : إن شاء اللّه زال عنه ذلك العجب وحصل له الانكسار. روي أن أبا حنيفة قال لقتادة : لم استثنيت في إيمانك؟ فقال قتادة : اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله : وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فقال أبو حنيفة هلا اقتديت به في قوله أو لم تؤمن؟ قال : بلى فانقطع قتادة قال بعضهم كان لقتادة أن يقول إن إبراهيم قال بعد قوله بلى ولكن ليطمئن قلبي فطلب. مزيد الطمأنينة. الوجه الثالث : أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في أول الآية إنما المؤمنون ولفظة إنما تفيد الحصر يعني إنما المؤمنون الذين هم كذا وكذا وذكر بعد ذلك أوصافا خمسة وهي الخوف من اللّه والإخلاص للّه والتوكل على اللّه والإتيان بالصلاة كما أمر اللّه سبحانه وتعالى وإيتاء الزكاة كذلك ثم بعد ذلك قال : أولئك هم المؤمنون حقا يعني أن من أتى بجميع هذه الأوصاف كان مؤمنا حقا ولا يمكن لأحد أن يقطع بحصول هذه الصفات له فكان الأولى له أن يقول أنا مؤمن إن شاء اللّه. وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال أمؤمن أنت؟ فقال الحسن : إن كنت سألتني عن الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن وإن كنت سألتني عن قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم الآية فلا أدري أنا منهم أم لا. وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوم فقلنا من القوم؟ فقالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد اللّه بن مسعود فأخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم شيئا قال هلا قلتم لهم أمن أهل الجنة أنتم إن المؤمنين هم أهل الجنة؟ وقال سفيان الثوري : من زعم أنه مؤمن حقا عند اللّه ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف الآخر. الوجه الرابع : إن قولنا أنا مؤمن إن شاء اللّه للتبرك لا للشك فهو كقوله صلى اللّه عليه وسلم (و إنا إن شاء اللّه بكم لاحقون) مع العلم القطعي أنه لاحق بأهل القبور. الوجه الخامس : إن المؤمن لا يكون مؤمنا حقا إلا إذا ختم له بالإيمان ومات عليه وهذا لا يحصل إلا عند الموت ، فلهذا السبب حسن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء اللّه. فالمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة. وأجاب أصحاب هذا القول ، وهم أصحاب الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنهم ، عن استدلال أصحاب أبي حنيفة رضي اللّه تعالى عنهم بقولهم : إن المتحرك لا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء اللّه بأن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمنا وبين وصفه بكونه متحركا أن الإيمان يتوقف حاله على الخاتمة والحركة فعل يقيني فحصل الفرق بينهما والجواب عن الوجه الثاني وهو قولهم إنه سبحانه وتعالى قال : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم لهم بكونهم مؤمنين حقا أنه تعالى حكم للموصوفين بتلك الصفات المذكورة في الآية بكونهم مؤمنين حقا إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة ولا يقدر أحد أن يأتي بتلك الأوصاف على الحقيقة ونحن نقول أيضا إن من أتى بتلك الأوصاف على الحقيقة كان مؤمنا حقا ولكن لا يقدر على ذلك أحد واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى : لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني لهم مراتب بعضها أعلى من بعض لأن المؤمنين تتفاوت أحوالهم في الأخذ تلك الأوصاف المذكورة فلهذا تتفاوت مراتبهم في الجنة لأن درجات الجنة على قدر الأعمال. قال عطاء : درجات الجنة يرتقون فيها بأعمالهم ، وقال الربيع بن أنس : درجات الجنة سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس المضمر سبعين سنة وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام) أخرجه الترمذي وله عن أبي سعيد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم) وَمَغْفِرَةٌ يعني ولهم مغفرة لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يعني ما أعدّ لهم في الجنة وصفه بكونه كريما لأن منافعه حاصلة لهم دائمة عليهم مقرونة بالإكرام والتعظيم. كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّه أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) |
﴿ ٢ ﴾