٤٢

٤٤

قوله سبحانه وتعالى : إِذْ أَنْتُمْ أي اذكروا نعمة اللّه عليكم يا معشر المسلمين إذ أنتم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا يعني بشفير الوادي الأدنى من المدينة والدنيا هنا تأنيث الأدنى وَهُمْ يعني المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى يعني بشفير الوادي الأقصى من المدينة مما يلي مكة والقصوى تأنيث الأقصى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان وأصحابه وهم غير قريش التي خرجوا لأجلها وكانوا في موضع أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر وَلَوْ تَواعَدْتُمْ يعني أنتم والمشركون لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وذلك لأن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها من المسلمين فالتقوا على غير ميعاد والمعنى ولو تواعدتم أنتم والكفار على القتال لاختلفتم أنتم وهم لقتلكم وكثرة عدوكم وَلكِنْ يعني ولكن اللّه جمعكم على غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وأعداء دينه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ يعني ليموت من مات عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ يعني ويعيش من عاش عن بينة رآها وعبرة شاهدها وحجة قامت عليه وقال محمد بن إسحاق : معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك لأن الهلاك هو الكفر والحياة هي الإيمان ونحوه قال قتادة ليضل من ضل على بينة ويهتدي من اهتدى على بينة وَإِنَّ اللّه لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعني يسمع دعاءكم ويعلم نياتكم ولا تخفى عليه خافية.

قوله عز وجل : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه يعني : واذكر يا محمد نعمة اللّه عليك إذ يريك المشركين فِي مَنامِكَ يعني في نومك قَلِيلًا قال مجاهد : أراهم اللّه في منامه قليلا فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بذلك وكان ذلك تثبيتا.

وقال محمد بن إسحاق : فكان ما أراه اللّه من ذلك نعمة من نعمه عليهم يشجعهم بها على عدوهم ، فكف عنهم بها ما تخوف عليهم من ضعفهم لعلمه بما فيهم.

وقيل : لما أرى اللّه النبي صلى اللّه عليه وسلم كفار قريش في منامه قليلا فأخبر بذلك أصحابه قالوا : رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم حق فصار ذلك سببا لجراءتهم على عدوهم وقوة لقلوبهم. وقال الحسن : إن هذه الإراءة كانت في اليقظة. والمراد من المنام ، العين ، لأنها موضع النوم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ يعني لجبنتم والفشل ضعف مع جبن والمعنى ولو أراكهم كثيرا فذكرت ذلك لأصحابك لفشلوا وجبنوا عنهم وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني اختلفتم في أمر الإقدام عليهم أو الإحجام عنهم

وقيل معنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي تكون معه مخاصمة ومجادلة ومجاذبة كل واحد إلى واحد إلى ناحية والمعنى : لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم

وَلكِنَّ اللّه سَلَّمَ يعني : ولكن اللّه سلمكم من التنازع والمخالفة فيما بينكم.

وقيل : معناه ولكن اللّه سلمكم من الهزيمة والفشل إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعني أنه تعالى يعلم ما يحصل في الصدور من الجراءة والجبن والصبر والجزع. وقال ابن عباس : معناه أنه عليم بما في صدوركم من الحب للّه عز وجل : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا يعني أن اللّه سبحانه وتعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين يوم بدر لما التقوا في القتال ليتأكد في اليقظة ما رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم في منامه وأخبر به أصحابه قال ابن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال : أراهم مائة فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم قال : كنا ألفا. ويقللكم في أعينهم يعني ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعين المشركين. قال السدي : قال ناس من المشركين إن العير قد انصرف فارجعوا فقال أبو جهل الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتى نستأصلهم إنما محمد وأصحابه أكلة جزور يعني لقتلهم في عينيه ثم قال : فلا تقتلوهم واربطوهم في الحبال يقوله من القدرة التي في نفسه والحكمة في تقليل المشركين في أعين المؤمنين تصديق رؤيا النبي صلى اللّه عليه وسلم ولتقوى بذلك قلوب المؤمنين وتزداد جراءتهم عليه ولا يجبنوا عند قتالهم والحكمة في تقليل المؤمنين في أعين المشركين لئلا يهربوا وإذا استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب لقتالهم فيكون ذلك سببا لظهور المؤمنين عليهم.

فإن قلت : كيف يمكن تقليل الكثير وتكثير القليل؟

قلت : ذلك ممكن في القدرة الإلهية فإن اللّه سبحانه وتعالى على ما يشاء قدير ويكون ذلك معجزة للنبي صلى اللّه عليه وسلم والمعجزة من خوارق العادات فلا ينكر ذلك لِيَقْضِيَ اللّه أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني أمرا كان كائنا من إعلاء كلمة الإسلام ونصر أهله وإذلال كلمة الشرك وخذلان أهله

فإن قلت : قد قال في الآية المتقدمة ولكن ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا وقال في هذه الآية ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا فما معنى هذا التكرار؟

قلت : المقصود من ذكره في الآية المتقدمة ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه القهر والغلبة ليكون ذلك معجزة دالة على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمقصود من ذكره في هذه الآية لأنه تعالى قلل عدد الفريقين في أعين بعضهم بعضا للحكمة التي قضاها فلذلك قال ليقضي اللّه أمرا كان مفعولا وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني في الآخرة فيجازى كل عامل على قدر عمله فالمحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يغفر.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)

﴿ ٤٢