سورة التوبة

وهي مدنية بإجماعهم قال ابن الجوزي : سوى آيتين في آخرها لقد جاءكم رسول من أنفسكم فإنهما نزلتا بمكة وهي مائة وتسع وعشرون آية

وقيل مائة وثلاثون آية وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمة وعشرة آلاف وأربعة وثمانون حرفا ولهذه السورة أسماء عشرة التوبة وسورة براءة وهذان الاسمان مشهوران وهي المقشقشة قاله ابن عمر سميت بذلك لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه وهي المبعثرة لأنها تبعثر عن أخبار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها والفاضحة قاله ابن عباس لأنها فضحت المنافقين وسورة العذاب قاله حذيفة وهي المخزية لأن فيها خزي المنافقين وهي المدمدمة سميت بذلك لأن فيها هلاك المنافقين وهي المشردة سميت بذلك لأنها شردت جموع المنافقين وفرقتهم وهي المثيرة سميت بذلك لأنها أثارت مخازي المنافقين وكشفت عن أحوالهم وهتكت أستارهم.

عن سعيد بن جبير : قال قلت لابن عباس سورة التوبة فقال بل هي الفاضحة ما زالت تقول ومنهم ومنهم حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها قال قلت سورة الأنفال قال نزلت في بدر قال قلت سورة الحشر قال بل سورة بني النضير أخرجاه في الصحيحين.

( (فصل في بيان سبب ترك كتابة التسمية في أول هذه السورة)) عن ابن عباس قال : قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا نزلت عليه الآية يقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وظننت أنها منها وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها من أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال أخرجه أبو داود والترمذي ، وقال حديث حسن.

قال الزجاج : والشبه الذي بينهما في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نقضها وكان قتادة يقول : هما سورة واحدة وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب لم لم تكتبوا في براءة بسم اللّه الرحمن الرحيم قال يا بني إن براءة نزلت بالسيف وأن بسم اللّه الرحمن أمان وسئل سفيان بن عيينة عن هذا فقال لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وقال المبرد لم تفتتح هذه السورة الشريفة ببسم اللّه الرحمن الرحيم لأن التسمية افتتاح للخير وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود فلذلك لم تفتتح بالتسمية وسئل أبي بن كعب عن هذا فقال إنها نزلت في آخر القرآن وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمر في كل سورة بكتابة بسم اللّه الرحمن الرحيم ولم يأمر في براءة بذلك فضمت إلى الأنفال لشبهها بها

وقيل إن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة براءة هل هما سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم سورة واحدة لأنهما نزلتا

في القتال ومجموعها معا مائتان وخمس آيات فكانت هي السورة السابعة من السبع الطوال وقال بعضهم هما سورتان فلما حصل هذا الاختلاف بين الصحابة تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان ولم يكتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة أما التفسير فقوله تعالى.

بَراءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَأَنَّ اللّه مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)

١

٢

بَراءَةٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ يعني هذه براءة من اللّه ورسوله وأصل البراءة في اللغة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة

وقيل معناها التباعد مما تكره مجاورته قال المفسرون لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأمر اللّه عز وجل بنقض عهودهم وذلك

قوله سبحانه وتعالى :

وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً الآية ففعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أمر به ونبذ إليهم عهودهم قال الزجاج : أي قد برئ اللّه ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الخطاب مع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وإن كان النبي صلى اللّه عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم إلا أنه هو الذي عاقدهم وأصحابه بذلك راضون فكأنهم هم عقدوا وعاهدوا.

قوله سبحانه وتعالى : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي فسيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحدا من المشركين وأصل السياحة الضرب من الأرض والاتساع فيها والبعد عن مواضع العمارة قال ابن الأنباري : قوله فسيحوا فيه مضمر أي قل لهم فسيحوا وليس هذا من باب الأمر بل المقصود منه الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وزوال الخوف يعني سيحوا في الأرض وأنتم آمنون من القتل والقتال أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يعني مدة أربعة أشهر واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ اللّه ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال مجاهد : هذا التأجيل من اللّه للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر حطه إلى أربعة أشهر ومن كان عهده بغير أجل معلوم محدود حده بأربعة أشهر ثم هو بعد ذلك حرب للّه ولرسوله يقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان ،

وقيل : إن المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل فيصير هذا داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام ولئلا ينسب المسلمون إلى الغدر ونكث العهد وكان ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر.

فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما قال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال و

القول الأول أصوب وعليه الأكثرون.

وقال الكلبي : إنما كانت الأربعة أشهر عهدا لمن كان له عهد دون الأربعة أشهر فأتم له الأربعة أشهر.

فأما من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى : فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ

وقيل كان ابتداؤها في العاشر من ذي القعدة وآخرها العاشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسإ ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة وفيها حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال (إن الزمان قد استدار) الحديث قال الحسن : أمر اللّه عز وجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين

فقال تعالى : قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فكان لا يقاتل إلا من قاتله ثم أمره بقتال

المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكة وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منهم وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال :

لا هم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أبا وكنا ولدا ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك اللّه نصرا أبدا وادع عباد اللّه يأتوا مددا

فيهم رسول اللّه قد تجردا في فليق كالبحر يجري مزبدا

أبيض مثل الشمس يسمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تنجي أحدا وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا نصرت إن لم أنصركم. وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحج فقيل له المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال : لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فبعث أبا بكر في تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال : يا رسول اللّه بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال : لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض؟ قال : بلى يا رسول اللّه فسار أبو بكر أميرا على الحجاج وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم فأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال يزيد بن تبيع سألنا عليا بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن يكون له عهده فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في حج ثم حج النبي صلى اللّه عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع

(ق). عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع

(ق).

عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان

وفي رواية ثم أردف النبي صلى اللّه عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان

وفي رواية ويوم الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس للعمرة الحج الأصغر قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه حج فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم حجة الوداع مشرك وأنزل اللّه في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ الآية.

( (فصل)) قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا المتوهم ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميرا على الموسم في تلك السنة أول حديث أبي هريرة المتقدم أن أبا بكر بعثه في رهط يؤذنون في الناس الحديث وفي لفظ أبو داود والنسائي قال بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فقوله بعثني أبو بكر فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا ليؤذن في الناس ببراءة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها أو رجل من أقاربه وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه فبعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف

ما نعرفه من عادتنا في عقد العهود ونقضها

وقيل لما خص أبا بكر بتوليته على الموسم خص علينا بتبليغ هذه الرسالة تطييبا لقلبه ورعاية لجانبه

وقيل إنما بعث عليا في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا بكر أميرا على الحجاج وولاه الموسم وبعث عليا خلفه ليقرأ على الناس براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر المتولي أمر الموسم والأمير على الناس ولم يكن ذلك لعلي فدل ذلك على تقديم أبي بكر على علي وفضله عليه واللّه أعلم.

وقوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لمصلحة ولطف بكم ليتوب تائب

وقيل : معناه فسيحوا في الأرض أربعة أشهر عالمين أنكم لا تعجزون اللّه بل هو يعجزكم ويأخذكم لأنكم في ملكه وقبضته وتحت قهره وسلطانه

وقيل معناه إنما أمهلكم هذه المدة لأنه لا يخاف الفوت ولا يعجزه شيء وَأَنَّ اللّه مُخْزِي الْكافِرِينَ يعني بالقتل والعذاب في الآخرة.

وَأَذانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)

٣

قوله عز وجل : وَأَذانٌ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ الأذان في اللغة الإعلام ومنه الأذان للصلاة لأنه إعلام بدخول وقتها والمعنى وإعلام صادر من اللّه ورسوله واصل إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ اختلفوا في يوم الحج الأكبر فروى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة ويروى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعن علي بن أبي طالب قال : سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر فقال : يوم النحر أخرجه الترمذي وقال ويروى موقوفا عليه وهو أصح وعن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال : أي يوم هذا ، فقالوا يوم النحر فقال : هذا يوم الحج الأكبر أخرجه أبو داود ويروى ذلك عن عبد اللّه بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي.

وروى ابن جريج عن مجاهد أن يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول الحج الأكبر أيام منى كلها لأن اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقولك يوم صفين ويوم الجمل لأن الحروب دامت في تلك الأيام ويطلق عليها يوم واحد وقال عبد اللّه بن الحرث بن نوفل : يوم الحج الأكبر الذي حج فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو قول ابن سيرين لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم عند المؤمنين والكافرين. قال مجاهد : الحج الأكبر القرآن لأنه قرن بين الحج والعمرة ، وقال الزهري والشعبي وعطاء : الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة وإنما قيل لها الأصغر

لنقصان أعمالها عن الحج

وقيل : سمي الحج الأكبر لموافقة حجة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجة الوداع وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فودع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم وذكر في خطبته أن الزمان قد استدار وأبطل النسيء وجميع أحكام الجاهلية.

وقوله سبحانه وتعالى : أَنَّ اللّه بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فيه حذف والتقدير وأذان من اللّه ورسوله بأن اللّه بريء من المشركين وإنما حذفت الباء لدلالة الكلام عليها وفي رفع رسوله وجوه الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير أن اللّه بريء من المشركين ورسوله أيضا بريء الثاني تقديره بريء اللّه ورسوله من المشركين الثالث إن اللّه في محل الرفع بالابتداء وبريء خبره ورسوله عطف على المبتدأ.

فإن قلت : لا فرق بين قوله براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين وبين قوله إن اللّه بريء من المشركين ورسوله فما فائدة هذا التكرار قلت المقصود من الآية الأولى البراءة من العهد ومن الآية الثانية البراءة التي هي تفيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذي يدل على صحة هذا الفرق أنه قال في أولها براءة من اللّه ورسوله إلى يعني بريء إليهم وفي الثانية بريء منهم

وقوله تعالى : فَإِنْ تُبْتُمْ يعني فإن رجعتم عن شرككم وكفركم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني من الإقامة على الشرك وهذا ترغيب من اللّه في التوبة والإقلاع عن الشكر الموجب لدخول النار وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّه فيه وعيد عظيم وإعلام لهم بأن اللّه سبحانه وتعالى قادر على إنزال العذاب بهم وهو

قوله تعالى : وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني في الآخرة ولفظ البشارة هنا إنما ورد على سبيل الاستهزاء. كما يقال : تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم

قوله سبحانه وتعالى :

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

٤

٥

إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هذا الاستثناء راجع إلى

قوله تعالى براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يعني إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد وهو

قوله تعالى : ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً يعني من عهودهم التي عاهدتموهم عليها وَلَمْ يُظاهِرُوا يعني ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً يعني من عدوكم وقال صاحب الكشاف : وجهه أن يكون مستثنى قوله فسيحوا في الأرض لأن الكلام خطاب للمسلمين ومعناه براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم : سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل لهم بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أن قضية التقوى تقتضي أن لا يسوى بين القبيلتين يعني الوافي بالعهد والناكث له والغادر فيه.

قوله سبحانه وتعالى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ يعني فإذا انقضت الأشهر الحرم ومضت وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق : هي شهور العهد سميت حرما لحرمة نقض

العهد فيما فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم وذلك خمسون يوما

وقيل إنما قال لها حرم لأن اللّه سبحانه وتعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.

فإن قلت : على هذا القول هذه المدة وهي الخمسون يوما بعض الأشهر الحرم واللّه سبحانه وتعالى قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم.

قلت : لما كان هذا القدر من الأشهر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع والمعنى فإذا مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني في الحل والحرم وهذا أمر إطلاق يعني اقتلوهم في أي وقت وأي مكان وجدتموهم وَخُذُوهُمْ يعني واسروهم وَاحْصُرُوهُمْ أي واحبسوهم.

قال ابن عباس : يريد أن تحصنوا فاحصروهم وامنعوهم من الخروج.

وقيل : امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ يعني على كل طريق والمرصد الوضع الذي يقعد فيه للعدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته والمعنى كونوا لهم رصدا حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا.

وقيل : معناه اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها فَإِنْ تابُوا يعني من الشرك ورجعوا إلى الإيمان وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني وأتموا أركان الصلاة المفروضة وَآتَوُا الزَّكاةَ الواجبة عليهم طيبة بها أنفسهم فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ يعني إلى الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم إِنَّ اللّه غَفُورٌ يعني لمن تاب ورجع من الشرك إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة رَحِيمٌ يعني بأوليائه وأهل طاعته ، وقال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء.

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)

٦

٨

قوله تعالى : وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللّه يعني وإن استأمنك يا محمد أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام اللّه الذي أنزل عليك وهو القرآن فأجره حتى يسمع كلام اللّه ويعرف ماله من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه وإن قاتلك بعد ذلك وقدرت عليه فاقتله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون دين اللّه وتوحيده فهم يحتاجون إلى سماع كلام اللّه عز وجل ، قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّه وَعِنْدَ رَسُولِهِ هذا على وجه التعجيب ومعناه الجحد أي لا يكون لهم عهد عند اللّه ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قال ابن عباس : هم قريش.

وقال قتادة : هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية وقال السدي محمد بن عباد ومحمد بن إسحاق هم بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو الديل قبائل من بني بكر كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية ، وقال مجاهد : هم أهل العهد من خزاعة فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ يعني على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم إما أن يسلموا

وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا فأسلموا بعد الأربعة الأشهر والصواب من ذلك قول من قال إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمة وبنو مدلج من ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة وإنما كان الصواب هذا القول لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وذلك قبل فتح مكة لأن بعد الفتح كيف يقول لشيء قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم وإنما هم الذين قال اللّه عز وجل فيهم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا كما نقصكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقوله تعالى : إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى يحب الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا ويتقون نقضه كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ قبل هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً قال الأخفش معناه ، كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظهروا بكم ويغلبوكم ويعلوا عليكم لا يرقبوا أي لا يحفظوا.

وقيل : معناه لا ينتظروا.

وقيل : معناه لا يراعوا فيكم إلّا.

قال ابن عباس : يعني قرابة.

وقيل : رحما وهذا معنى قول ابن عباس أيضا. وقال قتادة : الإل الحلف. وقال السدي : هو العهد وكذلك الذمة وإنما كرر للتأكيد أو لاختلاف اللفظين : وقال أبو مجلز ومجاهد : الإل هو اللّه عز وجل ومنه قول أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه لما سمع كلام مسيلمة الكذاب إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني من اللّه وعلى هذا القول يكون معنى الآية لا يرقبون اللّه فيكم ولا يحفظونه لا يراعونه وَلا ذِمَّةً يعني ولا يحفظون عهدا يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ يعني يطيعونكم بألسنتهم بخلاف ما في قلوبهم وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ

فإن قلت إن الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أخبث وأقبح من الفسق فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم وما الفائدة في قوله وأكثرهم فاسقون مع أن الكفار كلهم فاسقون.

قلت : قد يكون الكافر عدلا في دينه وقد يكون فاسقا خبيث الفسق في دينه فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين أنهم نقضوا العهد وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم فيكون أبلغ في الذم وإنما قال أكثرهم ولم يقل كلهم فاسقون لأن منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه وأكثرهم نقضوا العهد فلهذا قال سبحانه وتعالى وأكثرهم فاسقون.

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللّه ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)

٩

١١

وقوله تعالى : اشْتَرَوْا بِآياتِ اللّه ثَمَناً قَلِيلًا يعني استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها عرضا قليلا من متاع الدنيا وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبب أكلة أطعمهم إياها أبو سفيان بن حرب فذمهم اللّه بذلك. قال مجاهد : أطعم أبو سفيان حلفاءه وترك حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعني منعوا الناس عن الدخول في دين اللّه قال ابن عباس : وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني من الشرك ونقضهم العهد ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإسلام لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يعني أن هؤلاء المشركين لا يراعون في مؤمن عهدا ولا ذمة إذا قدروا عليه قتلوه فلا تبقوا أنتم عليهم كما لم يبقوا عليكم إذا ظهروا عليكم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ يعني في نقض العهد.

قوله عز وجل : فَإِنْ تابُوا يعني فإن رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني وبذلوا الزكاة المفروضة عليهم طيبة بها أنفسهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ يعني إذا فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم مالكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني ونبين حجج أدلتنا ونوضح بيان آياتنا لمن يعلم ذلك ويفهمه. قال ابن عباس : حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة وقال ابن مسعود : أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له.

وقال ابن زيد : افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال : يرحم اللّه أبا بكر ما كان أفقهه يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة وهو قوله : واللّه لا أفرق بين شيئين جمع اللّه بينهما يعني الصلاة والزكاة

(ق) يعني أبي هريرة قال لما توفي النبي صلى اللّه عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه فمن قال لا إله إلا اللّه فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على اللّه عز وجل) فقال أبو بكر : واللّه لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال واللّه لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها.

وفي رواية ، عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، فقال عمر : فو اللّه ما هو إلا أن رأيت أن اللّه شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. عن أنس قال.

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة اللّه وذمة رسوله.

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣)

١٢

١٣

وقوله سبحانه وتعالى : وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعني وإن نقضوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ يعني من بعد ما عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدا من أعدائكم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ يعني وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه وثلبوه.

وفي هذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام وعابه ظاهرا لا يبقى له عهد والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد كفار قريش وهو

قوله تعالى : فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ يعني رؤوس المشركين وقادتهم.

قال ابن عباس : نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش وهم الذين نقضوا عهدهم وهموا بإخراج الرسول

وقيل أراد جميع الكفار وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة ففي قتالهم قتال الأتباع ، وقال مجاهد : هم فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان : ما قوتل أهل هذه الآية بعد ولم يأت أهلها ولعل حذيفة أراد بذلك الذين يظهرون مع الدجال من اليهود فإنهم أئمة الكفر في ذلك الزمان واللّه أعلم بمراده.

وقوله سبحانه وتعالى : إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ جمع يمين أي لا عهد لهم

وقيل معناه إنهم لا وفاء لهم بالعهود وقرئ لا إيمان لهم بكسر الهمزة ومعناه لا دين لهم ولا تصديق

وقيل هو من الأمان أي اقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تؤمنوهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم ويرجعوا عن الكفر إلى الإيمان ثم حض المؤمنين على جهاد الكفار وبين السبب في ذلك

فقال تعالى : أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعني نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ

يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ يعني بالقتال أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا لا ننصرف حتي نستأصل محمدا وأصحابه

وقيل أراد به أنهم بدءوا بقتال خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أَتَخْشَوْنَهُمْ يعني أتخافوهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم فَاللّه أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ يعني في ترك القتال إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مصدقين بوعد اللّه ووعيده.

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّه عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّه شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)

١٤

١٧

قوله سبحانه وتعالى : قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم اللّه بأيديكم.

فإن قلت : كيف الجمع بين قوله يعذبهم اللّه بأيديكم وبين قوله وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم؟

قلت : المراد بقوله وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان اللّه ليستأصلهم بالعذاب جميعا وأنت فيهم والمراد بقوله : قاتلوهم ، يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم.

والفرق بين العذابين ، أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق ، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف

وقوله تعالى : وَيُخْزِهِمْ يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ يعني بأن يظفركم بهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه اللّه منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة اليقين وثبات العزيمة. قال مجاهد والسدي : أراد صدور خزاعة حلفاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى اللّه صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعني ويذهب وجد قلوبهم بما نالوه من بني بكر.

روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم فتح مكة : ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر ذكره البغوي بغير سند. ثم قال تعالى : وَيَتُوبُ اللّه عَلى مَنْ يَشاءُ هذا كلام مستأنف ليس له تعلق بالأول والمعنى ويهدي اللّه من يشاء إلى الإسلام فيمن عليه بالتوبة من الشرك والكفر ويهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منّ اللّه عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وَاللّه عَلِيمٌ يعني بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة فيتوب عليه ويهديه إلى الإسلام حَكِيمٌ يعني في جميع أفعاله

قوله عز وجل : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أراد بالعلم :

المعلوم ، لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند اللّه لا جرم جعل علم اللّه بوجوده كناية عن وجوده. قاله الإمام فخر الدين الرازي : ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا

وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً قال الفراء : الوليجة : البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادة : وليجة ، يعني خيانة. وقال الضحاك : خديعة. وقال عطاء : أولياء. يعني لا تتخذوا المشركين أولياء من دون اللّه ورسوله والمؤمنين. وقال أبو عبيدة : كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة من الولوج فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس.

وقال الراغب : الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم وليس منهم والمقصود من هذا نهي المؤمنين عن موالاة المشركين وإن يفشوا إليهم أسرارهم وَاللّه خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني من موالاة المشركين وإخلاص العمل للّه وحده.

قوله سبحانه وتعالى : ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللّه يعني به المسجد الحرام وقرئ مساجد اللّه على الجمع والمراد به المسجد الحرام أيضا وإنما ذكر بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر ومنهم العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعيرونهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقطيعة الرحم. فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا؟ فقيل له : وهل لكم من محاسن؟ قال : نعم.

نحن أفضل منكم نحن نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فنزلت هذه الآية : ما كان للمشركين أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه أوجب اللّه على المسلمين منعهم من ذلك المساجد إنما تعمر لعبادة اللّه تعالى وحده فمن كان كافرا باللّه فليس له أن يعمر مساجد اللّه واختلفوا في المراد بالعمارة على قولين أحدهم أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من بناء المساجد وتشييدها ومرمتها عند خرابها فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى ببناء مسجد لم تقبل وصيته

والقول الثاني إن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه فيمتنع الكافر من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذن لم يعزر ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها.

وقوله تعالى : شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ يعني : لا يدخلون المساجد في حال كونهم شاهدين.

وقيل : تقديره وهم شاهدون فلما حذفت وهم نصب. وقال ابن عباس : شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش كانوا قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام فلم يزدادوا بذلك من اللّه إلا بعدا. وقال الحسن : إنهم لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شهادة عليهم بالكفر. وقال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي والمشرك يقول مشرك. وقال ابن عباس : في رواية عنه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه من أنفسهم أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني الأعمال التي عملوها في حال الكفر من أعمال البر مثل قرى الضيف وسقي الحاج وفك العاني لأنها لم تكن للّه فلم يكن لها تأثير مع الكفر وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ يعني من مات منهم على كفره.

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّه فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)

١٨

قوله عز وجل : إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّه مَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لما بين اللّه عز وجل أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد اللّه بين في هذه الآية من هو المستحق لعمارة المساجد وهو من آمن باللّه فإن الإيمان باللّه شرط

فيمن يعمر المسجد لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد اللّه فيه فمن لم يكن مؤمنا باللّه امتنع أن يعمر موضعا يعبد اللّه فيه واليوم الآخر يعني وآمن باليوم الآخر وأنه حق كائن لأن عمارة المسجد لأجل عبادة اللّه وجزاء أجره إنما يكون في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يعبد اللّه ولم يعمر له مسجدا.

فإن قلت لم لم يذكر الإيمان برسول اللّه مع أن الإيمان به شرط في صحة الإيمان.

قلت : إن الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم داخل في الإيمان باللّه فإن من آمن باللّه واليوم الآخر فقد آمن برسول اللّه لأن من جهته عرف الإيمان باللّه واليوم الآخر لأنه هو الداعي إلى ذلك

وقيل إن المشركين كانوا يقولون أن محمدا إنما ادعى النبوة طلبا للرياسة والملك فأخبر اللّه عز وجل أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم إنما دعا إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر لا لطلب الرياسة والملك فلذلك قال سبحانه وتعالى إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وترك ذكر الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

وقيل : إنه تبارك وتعالى قال بعد الإيمان باللّه واليوم الآخر وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وكان ذلك مما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة فقد آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واعلم أن الاعتبار بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المساجد أن الإنسان إذا عمر المسجد أقام الصلاة وآتى الزكاة لأن عمارة المسجد إنما تلزم لإقامة الصلاة فيه ولا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مؤديا للزكاة لأن الزكاة واجبة وعمارة المسجد نافلة ولا يشتغل الإنسان بالنافلة إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه.

وقوله تعالى : وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللّه يعني ولم يخف في الدين غير اللّه ولم يترك أمر اللّه لخشية الناس فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ وعسى من اللّه واجب يعني وأولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعة اللّه التي تؤدي إلى الجنة عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان فإن اللّه عز وجل يقول إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر) الآية أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن

(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : من غدا إلى المسجد أو راح أعد اللّه له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح النزل ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم

(ق) عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : من بنى للّه مسجدا يبتغي به وجه اللّه تعالى بنى اللّه له بيتا في الجنة.

وفي رواية : بنى اللّه له في الجنة مثله. وعن أنس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من بنى للّه مسجدا صغيرا كان أو كبيرا بنى اللّه له بيتا في الجنة. أخرجه الترمذي عن عمرو بن عنبسة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : من بنى للّه مسجدا ليذكر اللّه فيه بنى اللّه له بيتا في الجنة ، أخرجه النسائي.

أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّه لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّه وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)

١٩

قوله سبحانه وتعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الآية

(م) عن النعمان بن بشير قال :

كنت عند منبر النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. قال الآخر : الجهاد في سبيل اللّه أفضل مما قلتم فزجره عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل اللّه عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر إلى آخرها.

وقيل : قال العباس حين أسروا يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد

الحرام ونسقي الحاج فأنزل اللّه هذه الآية وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك باللّه وإن الإيمان والجهاد مع نية خير مما هم عليه. وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي :

نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن أبي شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه. وقال العباس : وأنا صاحب السقاية والقيامة عليها وقال ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل اللّه هذه الآية أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ والسقاية مصدر كالرعاية والحماية وهي : سقي الحاج وكان العباس ابن عبد المطلب بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك وعمارة المسجد الحرام يعني بناؤه وتشييده ومرمته كَمَنْ آمَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه حذف تقديره كإيمان من آمن باللّه واليوم الآخر وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّه أي وكجهاد من جاهد في سبيل اللّه.

وقيل : السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر تقديره : أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّه يعني : لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا باللّه وجاهدوا في سبيل اللّه بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفره لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يقبل عملا إلا مع الإيمان به وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

(خ) عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال : يا رسول اللّه إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا يعني عاتقه

(م) عن بكر بن عبد اللّه المزني قال : كنت جالسا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد للّه ما بنا من حاجة ولا بخل إنما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة فقال : أحسنتم أو أجملتم كذا فاصنعوا فلا نريد تغيير ما أمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النبيذ تمر ينقع في الماء غدوة ويشرب عشاء أو ينقع عشاء ويشرب غدوة وهذا حلال فإن غلى وحمض حرم.

قوله عز وجل :

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّه وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)

٢٠

٢٣

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّه يعني أن من كان موصوفا بهذه الصفات يعني الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل اللّه بالمال والنفس كان أعظم درجة عند اللّه ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام وإنما لم يذكر القسم المرجوح لبيان فضل القسم الراجح على الإطلاق على من سواهم والمراد بالدرجة المنزلة والرفعة عند اللّه في الآخرة وَأُولئِكَ يعني من هذه صفتهم هُمُ الْفائِزُونَ يعني بسعادة الدنيا والآخرة يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ يعني يخبرهم ربهم والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه عند سماعه ذلك الخبر السار ثم ذكر الخبر الذي يبشرهم به

فقال تعالى :

بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وهذا أعظم البشارات لأن الرحمة والرضوان من اللّه عز وجل على العبد نهاية مقصوده وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ يعني أن نعيم الجنة دائم غير منقطع أبدا خالِدِينَ فِيها يعني في الجنان وفي

النعيم أَبَداً يعني لا انقطاع له إِنَّ اللّه عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يعني لمن عمل بطاعته وجاهد في سبيله.

قوله سبحانه وتعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ قال مجاهد : هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال ابن عباس : لما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك اللّه أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مقاتل : نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى اللّه المؤمنين عن موالاتهم وأنزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة. قال بعضهم : حمل هذه الآية على ترك الهجرة مشكل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي من آخر القرآن نزولا والأقرب أن يقال إن اللّه سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالتبري من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فذكر اللّه أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه وهو

قوله تعالى : إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ يعني إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه وتركوا الإيمان باللّه ورسوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يعني ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر اللّه واختيار الكفار على المؤمنين ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا : لم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا فأنزل اللّه سبحانه وتعالى :

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)

٢٤

٢٥

قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها يعني اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها يعني بفراقكم لها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها يعني تستوطنوها راضين بسكناها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ يعني أحب إليكم من الهجرة إلى اللّه ورسوله وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فبين اللّه سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة اللّه وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل اللّه فَتَرَبَّصُوا أي فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللّه بِأَمْرِهِ يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني الخارجين عن طاعته ، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلم ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا.

قوله عز وجل : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه النصر المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني أماكن كثيرة والمراد بها غزوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسراياه وبعوثه وكانت غزوات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما ذكره في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منهم ويقال إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون

وقيل : ثمانون وهو

قوله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ

حُنَيْنٍ يعني : ونصركم اللّه في يوم حنين أيضا فأعلم اللّه سبحانه وتعالى أنه هو الذي يتولى نصر المؤمنين في كل موقف وموطن ومن يتولى اللّه نصره فلا غالب له وحنين اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا. وقال عروة : هو إلى جنب ذي المجاز وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان فخرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وقال عطاء : كانوا ستة عشر ألفا. وقال الكلبي : كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان على هوازن مالك بن عوف النصري وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن رقيش لن نغلب اليوم من قلة فساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل.

وفي رواية : فلم يرض اللّه قوله ووكلهم إلى أنفسهم. وذكر ابن الجوزي عن سعيد بن المسيب ، أن القائل لذلك أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير الطبري : أن القائل لذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإسناد هذه الكلمة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيه بعد لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان في جميع أحواله متوكلا على اللّه عز وجل لا يلتفت إلى كثرة عدد ولا إلى غيره بل نظره إلى ما يأتي من عند اللّه عز وجل من النصر والمعونة قالوا : فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم تنادوا :

يا حماة السواد اذكروا الفضائح. فتراجعوا وانكشف المسلمون. وقال قتادة : ذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا

(ق) عن أبي إسحاق قال : جاء رجل إلى البراء فقال : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد على نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من النسا وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برقش من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللّهم نصرك. زاد أبو خيثمة ثم وصفهم. قال البراء :

كنا واللّه إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم. عن أبي إسحاق قال : قال رجل للبراء بن عازب يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا واللّه ما ولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤه حسرا ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبنى نصر فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل ودعا واستنصر وقال :

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ثم صفهم وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : قال البراء إن هوازن كانوا قوما رماة ولما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يفر.

قوله : ولكنه انطلق إخفاء من الناس. الإخفاء : جمع خفيف وهم المسرعون من الناس الذين ليس لهم ما يعوقهم. والحسر : جمع حاسر وهو الذي لا درع عليه يقال إذا رمى القوم بأسرهم إلى جهة واحدة : رمينا رشقا ، والرجل من الجراد القطعة الكبيرة منه.

وقوله : كنا إذا احمر البأس يعني إذا اشتد الحرب والبأس بالموحدة من تحت الشدة والخوف. وقال الكلبي : كان حول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وقال غيره لم يبق مع النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ غير عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن قتل يوم حنين بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا أيمن أخو أسامة بن زيد لأمه أمهما بركاة مولاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحاضنته

(م) عن العباس بن عبد المطلب قال : شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن

الحارث بن عبد المطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم نفارقه ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على بلغة له بيضاء أهداها له فروة بن فاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولي المسلمون مدبرين فطفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال العباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال العباس ، وكان رجلا صيتا : فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة. قال : فو اللّه لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا لبيك لبيك. قال : فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون : يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال : ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج. فقالوا : يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس قال ثم أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال : انهزموا ورب محمد. قال : فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال :

فو اللّه ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا.

قوله حمي الوطيس ، أي اشتد الحرب. قال الخطابي : هذه الكلمة لم تسمع قبل أن يقولها النبي صلى اللّه عليه وسلم من العرب وهي ما اقتضبه وأنشأه. والوطيس في اللغة : التنور.

وقوله : حدهم كليلا يعني لا يقطع شيئا

(م) عن سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حنينا قال : فلما غشوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نزل عن بلغته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم. وقال : شاهت الوجوه فما خلق اللّه منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم اللّه بذلك وقسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين أخرجه مسلم بزيادة فيه قال سعيد بن جبير : أمد اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين.

وروى أن رجلا من بني نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البالق والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : تلك الملائكة. وروي أن رجلا من المشركين قال يوم حنين لما التقينا وأصحاب محمد لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم فبينا نحن نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا. قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.

واختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم حنين على قولين والصحيح أنها لم تقاتل إلا يوم بدر وإنما كانت الملائكة يوم حنين مددا وعونا. وذكر البغوي أن الزهري قال : بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع اللّه رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال أعيذك باللّه يا شيبة فأرعدت فرائضي فنظرت إليه وهو أحب إليّ من سمعي وبصري فقلت أشهد أنك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أطلعك اللّه على ما في نفسي فلما هزم اللّه المشركين وولوا مدبرين انطلقوا إلى أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على الجيش فسار إلى أوطاس فاقتتلوا بها وقتل دريد بن الصمة وهزم اللّه المشركين وسبى المسلمون عيال المشركين وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أبو عامر أمير المسلمين. قال الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف صبي ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم وأتى الجعرانة فأحرم منها بعمرة وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناسا منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم

(ق). عن أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء اللّه على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر اللّه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الأنصار : أما ذوو رأينا يا رسول اللّه لم يقولوا شيئا

وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر اللّه لرسول اللّه يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فو اللّه ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به. قالوا : بلى يا رسول اللّه قد رضينا. قال : فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا اللّه ورسوله على الحوض قالوا سنصبر زاد في رواية قال أنس فلم نصبر

(ق) عن عبد اللّه بن زيد بن عاصم قال لما أفاء اللّه على رسوله صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم اللّه بي وكنتم متفرقين فألفكم اللّه بي وعالة فأغناكم اللّه بي كلما قال شيئا قالوا اللّه ورسوله أمن قال : فما منعكم أن تجيبوا رسول اللّه كلما قال شيئا قالوا اللّه ورسوله آمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبوا بالنبي إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار

(م) عن رافع بن خديج قال : أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس :

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع

قال : فأتم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له مائة

(خ) عن المسور ومروان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال

وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم.

وفي رواية : وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الناس فأثنى على اللّه بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل فقال الناس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول اللّه. فقال لهم في ذلك : إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلمتهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا الذي بلغنا من سبي هوازن وأنزل اللّه عز وجل في قصة حنين لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة ويوم حنين إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ يعني حين قلتم لن نغلب اليوم من قلة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يعني كثرتكم شَيْئاً يعني أن الظفر بالعدو ليس بكثرة العدد ولكن إنما يكون بنصر اللّه ومعونته وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يعني بسعتها وفضائها ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ يعني منهزمين.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللّه مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)

٢٦

٢٨

ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ يعني بعد الهزيمة والسكينة والطمأنينة والأمنة ، وهي فعلية من السكون وذلك أن الإنسان إذا خاف رجف فؤاده فلا يزال متحركا وإذا أمن سكن فؤاده وثبت فلما كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.

وقوله تعالى : عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ إنما كان إنزال السكينة على المؤمنين لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ساكن القلب ليس عنده اضطراب كما حصل للمؤمنين من الهزيمة واضطراب في هذه الواقعة ثم من اللّه عليهم بإنزال السكينة عليهم حتى رجعوا إلى قتال عدوهم بعد الهزيمة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثابت لم يفر وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة تثبيت المؤمنين وتشجيعهم وتخذيل المشركين وتجبينهم لا للقتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بالأسر والقتل وسبي العيال والأموال وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ يعني في الدنيا ثم إذا أفضوا إلى الآخرة كان لهم عذاب أشد من ذلك العذاب وأعظم ثُمَّ يَتُوبُ اللّه مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ يعني فيهديه إلى الإسلام كما فعل بمن بقي من هوازن حيث أسلموا وقدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تائبين فمنّ عليهم وأطلق سبيهم وَاللّه غَفُورٌ إن تاب رَحِيمٌ بعباده.

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قيل : أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار.

وقيل : بل أراد جميع أصناف الكفار عبدة الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى. والنجس :

الشيء القذر من الناس وغيرهم.

وقيل : النجس الشيء الخبيث وأراد بهذه النجاسة نجاسة الحكم لا نجاسة العين. سموا نجسا على الذم لأن الفقهاء اتفقوا على طهارة أبدانهم.

وقيل : هم أنجاس العين كالكلب والخنزير.

حتى قال الحسن بن صالح : من مس مشركا فليتوضأ. ويروى هذا عن الزيدية من الشيعة و

القول الأول أصح وقال قتادة سماهم : نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ المراد : منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ويؤكد هذا

قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام أراد به الحرم لأنه أسرى به صلى اللّه عليه وسلم من بيت أم هانئ.

قال العلماء : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام

أحدها : الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية وبه قال الشافعي وأحمد ومالك فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهدة حول الحرم

القسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي.

وقيل : كلها حجازي. وقال ابن الكلبي : حد الحجاز ما بين جبل طيء وطريق العراق سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ، ونجد.

وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة.

وقيل : لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام. قال الحربي : وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام

(م) عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما زاد في رواية لغير مسلم وأوصى فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا.

عن ابن شهاب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه مالك في الموطأ مرسلا

(م) عن جابر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن

في التحريش بينهم. قال سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر وقال غيره حد جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.

وقوله تعالى : بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق بالناس وفيه نادى على براءة وأن لا يحج بعد العام مشرك وهو سنة تسع من الهجرة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يعني فقرا وفاقة وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يجلبون إلى مكة الطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خاف أهل مكة من الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه عز وجل وإن خفتم عيلة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ قال عكرمة : فأغناهم اللّه بأن أنزل المطر مدرارا وكثر خيرهم وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم اللّه ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة : عوضهم اللّه منها الجزية فأغناهم بها إِنْ شاءَ قيل : إنما شرط المشيئة في الغنى المطلوب ليكون الإنسان دائم التضرع والابتهال إلى اللّه تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات وأن يقطع العبد أمله من كل أحد إلا من اللّه عز وجل فإنه هو القادر على كل شيء

وقيل إن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله تبارك وتعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين إِنَّ اللّه عَلِيمٌ يعني بما يصلحكم حَكِيمٌ يعني أنه تعالى لا يفعل شيئا إلا عن حكمة وصواب فمن حكمة أن منع المشركين من دخول الحرم وأوجب الجزية والذل والصغار على أهل الكتاب

فقال تعالى :

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّه وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)

٢٩

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك ، وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود فصالحهم فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين وهذا خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه المؤمنين والمعنى قاتلوا أيها المؤمنون القوم الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر.

فإن قلت اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون باللّه واليوم الآخر فكيف أخبر اللّه عنهم أنهم لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر؟

قلت : إيمانهم باللّه ليس كإيمان المؤمنين وذلك أن اليهود يعتقدون التجسيم والتشبيه ، والنصارى يعتقدون الحلول ، ومن اعتقد ذلك فليس بمؤمن باللّه.

وقيل : من اعتقد أن عزيزا ابن اللّه وأن المسيح ابن اللّه فليس بمؤمن باللّه بل هو مشرك باللّه.

وقيل : من كذب رسولا من رسل اللّه فليس بمؤمن باللّه واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء فليسوا بمؤمنين باللّه.

وأما إيمانهم باليوم الآخر ، فليس كإيمان المؤمنين ، وذلك أنهم يعتقدون بعثة الأرواح دون الأجساد ويعتقدون أن أهل الجنة لا يأكلون فيها ولا يشربون ولا ينكحون ومن اعتقد ذلك فليس إيمانه كإيمان المؤمنين وإن زعم أنه مؤمن.

وقوله تعالى : وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللّه وَرَسُولُهُ يعني : ولا يحرمون الخمر والخنزير.

وقيل : معناه أنهم لا يحرمون ما حرم اللّه في القرآن ولا ما حرم رسوله في السنة.

وقيل : معناه لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ يعني : ولا يعتقدون صحة الإسلام الذي هو

دين الحق.

وقيل : الحق هو اللّه تعالى ومعناه : ولا يدينون دين اللّه ودينه الإسلام وهو

قوله تعالى إن الدين عند اللّه الإسلام

وقيل معناه ولا يدينون دين أهل الحق وهم المسلمون ولا يطيعون اللّه كطاعتهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهي ما يعطى المعاهد من أهل الكتاب على عهده وهي الخراج المضروب على رقابهم سميت جزية للاجتزاء بها في حقن دمائهم عَنْ يَدٍ يعني عن قهر وغلبة يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس أعطى عن يد وقال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم

وقيل : يعطونها نقدا لا نسيئة.

وقيل : يعطونها مع إقرارهم بإنعام المسلمين عليهم بقبولها منهم وَهُمْ صاغِرُونَ من الصغار وهو الذل والإهانة يعني يعطون الجزية وهم أذلاء مقهورون وقال عكرمة : يعطون الجزية وهم قائمون والقابض جالس. وقال ابن عباس : تؤخذ الجزية من أحدهم وتوطأ عنقه وقال الكلبي : إذا أعطى يصفع قفاه وقال هو أن يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه ويقال له أدّ حق اللّه يا عدو اللّه وقال الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه : الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم.

( (فصل في بيان أحكام الآية)) اجتمعت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا واختلفوا في أهل الكتاب العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ، فذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من عبدة الأوثان بحال واحتج بما روي عن أنس :

أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية أخرجه أبو داود وقال الشافعي : وهو رجل من العرب يقال إنه من غسان وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب وذهب مالك والأوزاعي إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد. وقال أبو حنيفة : تؤخذ من أهل الكتاب على العموم وتؤخذ من مشركي العجم ولا تؤخذ من مشركي العرب وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا

وأما المجوس فاتفقت الصحابة على جواز الأخذ منهم ويدل عليه ما روي عن بجالة بن عبيدة ويقال عبدة : لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. أخرجه البخاري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد أني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أخرجه مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر أخذها من مجوس فارس وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر أخرجه مالك في الموطأ وفي امتناع عمر من أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذها منهم دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك وإنما تؤخذ من أهل الكتاب واختلفوا في أن المجوس هل هم من أهل الكتاب.

فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبائحهم ومناكحتهم بخلاف أهل الكتاب

وأما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين فينظر فإن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل فإنهم يقرون بالجزية وتحل مناكحتهم وذبائحهم وإن كانوا دخلوا فيه بعد النسخ بمجيء محمد صلى اللّه عليه وسلم ونسخ شريعتهم بشريعته فإنهم لا يقرون بالجزية ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم ومن شككنا في أمرهم هل دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ولا تحل ذبائحهم ومناكحتهم تغليبا للتحريم ومنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب أقرهم عمر على الجزية. وقال : لا تحل لنا ذبائحهم

وأما الصابئة والسامرة فسبيلهم سبيل أهل الكتاب فهم في أهل الكتاب كأهل البدع في المسلمين

وأما قدر الجزية فأقلها دينار ولا يجوز أن ينقص عنه ويقبل

الدينار من الغني والفقير والمتوسط ويدل عليه ما روي عن معاذ بن جبل : (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم أي محتلم دينارا أو عدله من المغافرية ثياب تكون باليمن) أخرجه أبو داود فالنبي صلى اللّه عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل محتلم وهو البالغ دينارا ولم يفرق بين الغني والفقير والمتوسط وفيه دليل على أنه لا تؤخذ الجزية من الصبيان والنساء وإنما تؤخذ من الأحرار البالغين وذهب قوم إلى أن على كل موسر أربعة دنانير وعى كل متوسط دينارين وعلى كل فقير دينارا وهو قول أصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أسلم أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام أخرجه مالك في الموطأ. قال أصحاب الشافعي : أقل الجزية دينار لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي فإذا رضي أهل الذمة بالزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير

قال العلماء : إنما أقر أهل الكتاب على دينهم الباطل بخلاف أهل الشرك حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الدين من شريعة التوراة والإنجيل قبل النسخ والتبديل وأيضا فإن بأيديهم كتبا قديمة فربما تفكروا فيها فيعرفون صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم وصحة نبوته فأمهلوا لهذا المعنى وليس المقصود من أخذ الجزية من أهل الكتاب إقرارهم على كفرهم بل المقصود من ذلك حقن دمائهم وإمهالهم رجاء أن يعرفوا

الحق فيرجعوا إليه بأن يؤمنوا ويصدقوا إذا رأوا محاسن الإسلام وقوة دلائله وكثرة الداخلين فيه.

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠)

٣٠

قوله عز وجل : وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّه وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّه الآية لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون باللّه ولا يدينون دين الحق بينه في هذه الآية فأخبر عنهم أنهم أثبتوا للّه ولدا ومن جوز ذلك على اللّه فقد أشرك به لأنه لا فرق بين من يعبد صنما وبين من يعبد المسيح فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون باللّه ولا يدينون دين الحق وقد تقدم سبب أخذ الجزية منهم وإبقائهم على هذا الشرك وهو حرمة الكتب القديمة التي بأيديهم ولعلهم يتفكرون فيها ويعرفون الحق فيرجعون إليه. روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن اللّه فأنزل اللّه هذه الآية.

وقال عبيد بن عمير إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن اللّه فقير ونحن أغنياء فعلى هذين القولين القائل لهذه المقالة جماعة من اليهود أو واحد وإنما نسب ذلك إلى اليهود في وقالت اليهود جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد تقول العرب فلان يركب الخيل وإنما يركب فرسا واحدا منها. وتقول العرب : فلان مجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا واحدا منهم وروى عطية العوفي عن ابن عباس أنه قال : إنما قالت اليهود ذلك من أجل أن عزير كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع اللّه سبحانه وتعالى عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا اللّه عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوراة فبينما هو يصلي مبتهلا إلى اللّه عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت إليه فأذن في قومه وقال يا قوم قد أتاني اللّه التوراة وردها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء اللّه ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن اللّه. وقال الكلبي : إن بختنصر لما غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغيره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث اللّه لهم عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون لهم آية بعد ما أماته اللّه مائة سنة

قال فأتى ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إن رجلا منهم قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا إن اللّه لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود : عزير ابن اللّه فعلى هذين القولين أن هذا القول كان فاشيا في اليهود جميعا ثم إنه انقطع واندرس فأخبر اللّه تعالى به عنهم وأظهره عليهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن خبر اللّه عز وجل أصدق وأثبت من إنكارهم

وأما قول النصارى المسيح ابن اللّه فكان السبب فيه أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه ثم أتى إلى النصارى فقالوا له من أنت قال : أنا عدوكم بولص فقد نوديت من السماء أنه ليس لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه السكينة ونصروه وأدخلوه بيتا منها لم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال قد نوديت أن اللّه قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال اسم الواحد منهم نسطور والآخر يعقوب والآخر ملكان فعلم نسطور أن عيسى ومريم والإله ثلاثة وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن اللّه وعلم ملكان أن عيسى هو اللّه لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك فيهم دعا كل واحد منهم في

الخلوة وقال له : أنت خالصتي وادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ثم قال لهم : إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وقال لكل واحد منهم : إني سأذبح نفسي تقربا إلى عيسى ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرقوا واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن اللّه

. وقال الإمام فخر الدين الرازي ، بعد أن حكى هذه الحكاية : والأقرب عندي أن يقال لعله ذكر لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك منهم وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام واللّه أعلم بحقيقة الحال ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يعني أنهم يقولون ذلك القول بألسنتهم من غير علم يرجعون إليه قال أهل المعاني : لم يذكر اللّه قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك القول زورا وكذبا لا حقيقة له يُضاهِؤُنَ قال ابن عباس : يشابهون والمضاهاة المشابهة. وقال مجاهد : يواطئون وقال الحسن : يوافقون قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قال قتادة والسدي : معناه ضاهت النصارى قول اليهود من قبلهم فقالوا : المسيح ابن اللّه كما قالت اليهود عزير ابن اللّه. وقال مجاهد : معناه يضاهئون قول المشركين من قبل لأن المشركين كانوا يقولون : الملائكة بنات اللّه وقال الحسن : شبه اللّه كفر اليهود والنصارى بكفر الذين مضوا من الأمم الخالية الكافرة. وقال القتيبي :

يريد أن من كان في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم قاتَلَهُمُ اللّه قال ابن عباس :

لعنهم اللّه وقال ابن جريج : قتلهم اللّه

وقيل ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب أي حق أن يقال لهم هذا القول تعجبا من بشاعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلا يتعجب منه قاتله اللّه ما أعجب فعله أَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني أنى يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل وإقامة الحجة بأن اللّه واحد أحد فجعلوا له ولدا تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا

الخطاب على عادة العرب في مخاطبتهم فاللّه سبحانه وتعالى عجب نبيه صلى اللّه عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل.

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)

٣١

قوله سبحانه وتعالى : اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه يعني اتخذ اليهود والنصارى علماءهم وقراءهم والأحبار العلماء من اليهود والرهبان أصحاب الصوامع من النصارى أربابا من دون اللّه يعني أنهم أطاعوهم في معصية اللّه تعالى وذلك أنهم أحلوا لهم أشياء وحرموا عليهم أشياء من قبل أنفسهم فأطاعوهم فيها فاتخذوهم كالأرباب لأنهم عبدوهم واعتقدوا فيهم الإلهية. عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال : (يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه فقال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه) أخرجه الترمذي وقال : حديث غريب. قال عبد اللّه بن المبارك :

وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ يعني اتخذوه إلها وذلك لما اعتقدوا فيه النبوة والحلول اعتقدوا فيه الإلهية وَما أُمِرُوا يعني وما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لأنه سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة لا غيره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى اللّه وتنزه عن أن يكون له شريك في العبادة والأحكام وأن يكون له شريك في الإلهية يستحق التعظيم والإجلال.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)

٣٢

٣٣

يُرِيدُونَ يعني يريد رؤساء اليهود والنصارى أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّه بِأَفْواهِهِمْ يعني يريد هؤلاء إبطال دين اللّه الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم بتكذيبهم إياه.

وقيل المراد : من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته صلى اللّه عليه وسلم وهي أمور

أحدها المعجزات الباهرات الخارقة للعادة التي ظهرت على يد النبي صلى اللّه عليه وسلم الدالة على صدقه

وثانيها القرآن العظيم الذي نزل عليه من عند اللّه فهو معجزة له باقية على الأبد دالة على صدقه

وثالثها أن دينه الذي أمر به هو دين الإسلام ليس فيه شيء سوى تعظيم اللّه والثناء عليه والانقياد لأمره ونهيه واتباع طاعته والأمر بعبادته والتبرئ من كل معبود سواه فهذه أمور نيرة ودلائل واضحة في صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم فمن أراد إبطال ذلك بكذب وتزوير فقد خاب سعيه وبطل عمله ثم إن اللّه سبحانه وتعالى وعد نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بمزيد النصر وإعلاء الكلمة وإظهار الدين بقوله : وَيَأْبَى اللّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ يعني ويأبى اللّه إلا أن يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله محمدا صلى اللّه عليه وسلم ولو كره ذلك الكافرون.

قوله عز وجل : هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني أن اللّه الذي يأبى إلا أن يتم نوره هو الذي أرسل رسوله يعني محمدا صلى اللّه عليه وسلم بِالْهُدى يعني بالقرآن الذي أنزله عليه وجعله هاديا إليه وَدِينِ الْحَقِّ يعني دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ يعني ليعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني على سائر الأديان وقال ابن عباس : الهاء في ليظهره عائدة إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمعنى ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه شيء منها وقال غيره من المفسرين الهاء راجعة إلى الدين الحق والمعنى ليظهر دين الإسلام على الأديان كلها وهو ألا يعبد اللّه إلا به وقال

أبو هريرة والضحاك ذلك عند نزول عيسى عليه السلام فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى عليه السلام قال : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ويهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام. عن المقداد قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام إما بعز عزيز أو بذل ذليل إما أن يعزهم فيجعلهم من أهله فيعزوا به

وإما أن يذلهم فيدينون له) أخرجه البغوي بغير سند

(م) عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت يا رسول اللّه إني كنت أظن حين أنزل اللّه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله إن ذلك تام قال إنه سيكون ذلك ما شاء اللّه ثم يبعث ريحا طيبة تتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم) قال الشافعي : وقد أظهر اللّه دين رسوله صلى اللّه عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل وقال وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين فقهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها وقتل أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعضهم الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه فهذا هو ظهوره على الدين كله وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ

قوله تعالى :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤)

٣٤

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وفي

قوله سبحانه وتعالى : إِنَّ كَثِيراً دليل على أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في

قوله تعالى :

لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام

وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتبا يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند اللّه ويأخذون بها ثمنا قليلا وهي المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وصفته في كتبه لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهبت عنهم تلك المآكل

وقيل إن التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلبا للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك

قوله تعالى : وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والدخول في دين الإسلام وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم اللّه بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب. قال معاوية بن أبي سفيان : لأن اللّه سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس : نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريقة الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق اللّه منه. وقال أبو ذر : نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين.

ووجه هذا القول أن اللّه سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين

(خ) عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة فإذا بأبي ذر ف

قلت : ما أنزلك هذا المنزل؟ قال : كنت في الشأم فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فقال معاوية :

نزلت في أهل الكتاب. ف

قلت : نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال إن شئت تنحيت فكنت قريبا فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ولو أمر على عبد حبشي لسمعت وأطعت واختلف العلماء في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته وروي عن ابن عمر : أنه قال له أعرابي أخبرني عن قول اللّه عز وجل : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها ويل له هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها اللّه طهرا للأموال. أخرجه البخاري.

وفي رواية مالك عن عبد اللّه بن دينار قال : سمعت عبد اللّه بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال :

هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة ورواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال : كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره اللّه في القرآن يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفونا.

وروي عن علي بن أبي طالب قال : أربعة آلاف فما فوقها كنز وما دونها نفقة.

وقيل : الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.

وروى الطبري بسنده عن أبي أمامة قال : توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم كيتان كان هذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الزكاة فكان يجب على كل من فضل معه شيء من المال إخراجه لاحتياج غيره إليه فلما فرضت الزكاة نسخ ذلك الحكم.

عن ابن عباس قال : (لما نزلت هذه الآية : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، كبر على المسلمين فقال عمر :

أنا أفرج عنكم. فانطلق فقال : يا نبي اللّه إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال : إن اللّه لم يفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم. قال : فكبر عمر ثم قال له : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته) أخرجه أبو داود عن ثوبان قال (لما نزلت والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة فلو علمنا أي المال خيرا اتخذناه؟

فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن والصحيح من هذه الأقوال

القول الأول وهو ما ذكرنا عن ابن عمر أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر وإن كان كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب عليه وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة ويستحق على منع الزكاة الوعيد من اللّه إلا أن يتفضل اللّه عز وجل عليه بعفوه وغفرانه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقتضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة

وإما إلى النار قيل يا رسول اللّه فالإبل قال : ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة

وإما إلى النار قيل يا رسول اللّه فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة

وإما إلى النار) أخرجه مسلم بزيادة فيه قوله كلما ردت أعيدت له هكذا هو في بعض نسخ صحيح مسلم ردت بضم الراء وفي بعضها بردت بالباء وهذا هو الصواب والرواية الأولى هي رواية الجمهور قوله حلبها هو بفتح اللام على المشهور وحكى إسكانها وهو ضعيف قوله بقاع قرقر هو المستوي من الأرض الواسع الأملس والعقصاء هي الشابة الملتوية القرنين وإنما استثناها لأنها لا تؤلم بنطحها وكذا الجلحاء وهي الشاة التي لا قن لها وكذا العضباء وهي الشاة المكسورة القرن

(خ) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من أتاه اللّه مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا

قوله سبحانه وتعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللّه مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الآية الشجاع الحية والأقرع صفة له بطول العمر لأن من طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات والزبيبتان هما الزبدتان في الشدقين واللّهزمتان عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.

وقوله تعالى : وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّه يعني ولا يؤدون زكاتها وإنما قال ولا ينفقونها ولم يقل ينفقونهما لأنه رد الكناية إلى المال المكنوز وهي أعيان الذهب والفضة

وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب أموال الناس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يعني الكافرين الذين لا يؤدون زكاة أموالهم

(ق) عن أبي ذر قال : (انتهيت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول اللّه فداك أبي وأمي من هم؟ قال : هم الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس) هذا لفظ مسلم وفرقه البخاري في موضعين.

٣٥

٣٦

يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللّه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)

وقوله تعالى : يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها يعني الكنوز فتدخل النار فيوقد عليها حتى تبيض من شدة الحرارة فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ يعني الكنوز جباه كانزيها وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ قال ابن عباس : لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته. قال بعض العلماء : إنما خص هذه الأعضاء ، بالكي من بين سائر الأعضاء لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئا تبدو منه آثار الكراهة والمنع فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه ثم إن كرر السائل الطلب نأى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانبا ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال ولاه ظهره وأعرض عنه واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل وهذا دأب ما نعى البر والإحسان. وعادة البخلاء فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة.

وقوله سبحانه وتعالى : هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي يقال لهم ذلك يوم القيامة فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي فذوقوا عذاب ما كنزتم في الدنيا من الأموال ومنعتم حق اللّه منها

(ق) عن الأحنف بن قيس قال : قدمت

المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال : إن هؤلاء لا يعقلون شيئا هذا لفظ مسلم وفيه زيادة لم أذكرها. وزاد البخاري

قلت : (١) من هذا؟ قالوا : أبا ذر. قال : فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل فقال ما قلت إلا شيئا سمعته من نبيهم صلى اللّه عليه وسلم.

قوله عز وجل إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّه اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي : المحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وربيع الآخر ، وجمادى الأولى ، وجمادى الآخرة ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، وهذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتد بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوما والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة تامة وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الحج والصوم تارة في الشتاء وتارة في الصيف. قال المفسرون : وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان يقع حجهم تارة في وقته وتارة في المحرم وتارة في صفر وتارة في غيره من الشهور فأعلم اللّه عز وجل أن عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهرا على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تبارك وتعالى إن عدة الشهور عند اللّه يعني في علمه وحكمه اثنا عشر شهرا فِي كِتابِ اللّه يعني في اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه جميع أحوال الخلق وما يأتون وما يذرون.

وقيل : أراد بكتاب اللّه القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر

وقيل أراد بكتاب اللّه الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعني أن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض أن السنة اثنا عشر شهرا مِنْها يعني من الشهور أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وهي رجب فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وإنما سميت حرما لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه وابنه وأخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يهجه ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيما ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف وكذلك السيئات أيضا أشد من غيرها فلا يجوز انتهاك حرمة الأشهر الحرم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي فالدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : الكيس من دان نفسه. يعني : حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت.

وقيل : أراد بالدين القيم الحكم الذي لا يغير ولا يبدل.

والقيم هنا : بمعنى الدائم الذي لا يزول. فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبياعاتهم وأجل ديونهم وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور

(ق) عن أبي بكر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا اللّه ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا اللّه ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلد الحرام؟ قلنا : بلى. قال : فأي يوم هذا؟

قلنا : اللّه ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال : أليس يوم النحر. قلنا : بلى. قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم

________

(١) قوله وزاد البخاري إلخ ، هذه الزيادة لمسلم لا للبخاري ا ه من هامش.

فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال : ألا هل بلغت ألا هل بلغت قلنا نعم قال : اللّهم اشهد.

وقوله تعالى : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ قيل : الكناية في فيهن ترجع إلى جميع الأشهر أي لا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقا في جميع الأوقات إلى الممات.

وقيل : إن الكناية ترجع إلى الأشهر الحرم وهو قول أكثر المفسرين. وقال قتادة : العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل حال عظيما. وقال ابن عباس : لا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن وقال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كفعل أهل الشرك وهو النسيء.

وقيل : إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس لا جرم أن اللّه خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات فربما تركها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة سببا لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم وكذلك الأمكنة أيضا. و

قوله سبحانه وتعالى : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً يعني قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة والمعنى تعاونوا وتناصروا على قتالهم ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم وكونوا عباد اللّه مجتمعين متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيرا حراما ثم نسخ بقوله : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يعني في الأشهر الحرم وفي غيرهن وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري.

قالوا : لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون : إنه غير منسوخ. قال ابن جريج : حلف باللّه عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ يعني بالنصر والمعونة على أعدائه

قوله سبحانه وتعالى :

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّه فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللّه زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)

٣٧

إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ النسيء : في اللغة ، عبارة عن التأخير في الوقت ومنه النسيئة في البيع ومعنى النسيء المذكور في الآية هو تأخير شهر حرام إلى شهر آخر وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظيمها وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وكانت عامة معايش العرب من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية وربما وقعت حروب في بعض الأشهر الحرم فكانوا يكرهون تأخير حروبهم إلى الأشهر الحلال فنسؤوا يعني أخروا تحريم شهر إلى شهر آخر فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيستحلون المحرم ويحرمون صفر فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع الأول فكانوا يصنعون هكذا يؤخرون شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر في السنة التاسعة قبل حجة الوداع المرة الثانية من ذي القعدة ثم حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجة شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع

وخطب الناس في اليوم العاشر بمنى وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان وعاد الأمر إلى ما وضع اللّه عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض وهو قوله صلى اللّه عليه وسلم : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والأرض الحديث المتقدم. وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام واختلفوا في أول من نسأ النسيء. فقال ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد : أول من نسأ النسيء ، بنو مالك بن كنانة وكان يليه جنادة بن عوف بن أمية الكناني وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان يقوم على الناس في الموسم فإذا همّ الناس بالصدر قام فخطف الناس فيقول لا مرد لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول : إن صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك ، حلّوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة ، والأزجة من الرماح ، وإن قال : حلال ، عقدوا أوتار القسي ، وركبوا الأسنة في الرماح ، وأغاروا وكان من بعد نعيم بن ثعلبة رجل يقال له جنادة بن عوف : وهو الذي أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من بني كنانة يقال له القلمس قال شاعرهم :

وفينا ناسئ الشهر القلمس وكانوا يفعلون ذلك إذا اجتمعت العرب في الموسم وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف والذي صح من حديث أبي هريرة وعائشة أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب وقال فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار فهذا ما ورد في تفسير النسيء الذي ذكره اللّه في

قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر يعني زيادة كفر على كفرهم وسبب هذه الزيادة أنهم أمروا بإيقاع كل فعل في وقته من الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب أغراضهم الفاسدة أخروه إلى وقت آخر بسبب ذلك النسيء فأوقعوه في غير وقته من الأشهر الحرم فكان ذلك الفعل زيادة في كفرهم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرئ : يضل بفتح الياء وكسر الضاد ومعناه يضل اللّه به الطين كفروا أو يضل به الشيطان الذين كفروا بتزيين ذلك لهم

وقيل يضل بالنسيء الذين كفروا وقرئ يضل بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبارهم أضلوهم وحملوهم عليه وقرئ يضل به الذين كفروا بضم الياء وكسر الضاد ومعناه يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأفعالهم وهذا الوجه أقوى الوجهين في تفسير قراءة من قرأ يضل بضم الياء وكسر الضاد يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً يعني يحلون ذلك الإنساء عاما ويحرمونه عاما والمعنى يحلون الشهر المحرم عاما فيجعلونه حلالا ليغيروا فيه ويحرمونه عاما فيجعلونه محرما فلا يغيرون فيه لِيُواطِؤُا يعني ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللّه يعني أنهم ما أحلوا شهرا من المحرم إلا حرموا شهرا مكانه من الحلال ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة كما حرم اللّه فيكون ذلك موافقة في العدد لا في الحكم فذلك

قوله سبحانه وتعالى : فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللّه زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ قال ابن عباس : زين لهم

الشيطان هذا العمل وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى لا يرشد من هو كافر أثيم لما سبق له في الأزل أنه من أهل النار.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنا فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيا وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)

٣٨

٤٠

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ نزلت هذه الآية في الحث على غزوة تبوك وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر حين طابت الظلال ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز وعددا كثيرا وجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم يعني قال لكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : انفروا في سبيل اللّه ، أي اخرجوا إلى الجهاد. يقال : استنفر الإمام الناس إذا حثهم على الخروج إلى الجهاد ودعاهم إليه ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : (و إذا استنفرتم فانفروا).

والإثم النفير اثاقلتم أي تثاقلتم وتباطأتم عن الخروج إلى الغزو إلى الأرض يعني لزمتم أرضكم ومساكنكم وإنما استثقل ذلك الغزو لشدة الزمان وضيق الوقت وشدة الحر وبعد المسافة والحاجة إلى كثرة الاستعداد من العدد والزاد وكان ذلك الوقت وقت إدراك ثمار المدينة وطيب ظلالها وكان العدو كثيرا فاستثقل الناس تلك الغزوة فعاتبهم اللّه تعالى بقوله : أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ يعني أرضيتم بخفض العيش وزهرة الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ يعني أن لذات الدنيا ونعيمها فان زائل ينفد عن قليل ونعيم الآخرة باق على الأبد فلهذا السبب كان متاع الدنيا قليلا بالنسبة إلى نعيم الآخرة وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأن اللّه سبحانه وتعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجبا لما عاتبهم على ذلك التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور الآية الآتية وهي

قوله تعالى :

إِلَّا تَنْفِرُوا يعني إن لم تنفروا أيها المؤمنون إلى ما استنفركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليه : يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني في الآخرة لأن العذاب الأليم لا يكون إلا في الآخرة.

وقيل : إن المراد به احتباس المطر في الدنيا. قال نجدة بن نفيع : سألت ابن عباس عن هذه الآية ، فقال : استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك اللّه تعالى عنهم المطر فكان ذلك عذابهم وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني خيرا منكم وأطوع.

قال سعيد بن جبير : هم أبناء فارس.

وقيل : هم أهل اليمن نبه سبحانه وتعالى على أنه قد تكفل بنصرة نبيه صلى اللّه عليه وسلم وإعزاز دينه فإن سارعوا معه إلى الخروج إلى حيث استنفروا حصلت النصرة بهم ووقع أجرهم على اللّه عز وجل وإن تثاقلوا وتخلفوا عنه حصلت النصرة بغيرهم وحصلت العتبى لهم لئلا يتوهموا أن إعزاز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونصرته لا تحصل إلا بهم وهو

قوله تعالى : وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قيل : الضمير راجع إلى اللّه تعالى يعني ولا تضروا اللّه شيئا لأنه غني عن العالمين وإنما تضرون أنفسكم بترككم الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : الضمير راجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني : ولا تضروا محمدا صلى اللّه عليه وسلم شيئا فإن اللّه ناصره على أعدائه ولا يخذله وَاللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني أنه تعالى قادر على كل شيء فهو ينصر نبيه ويعز دينه قال الحسن وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال الجمهور هذه الآية محكمة لأنها خطاب لقوم استنفرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم ينفروا كما نقل عن ابن عباس وعلى هذا التقدير فلا نسخ.

قوله عز وجل : إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه يعني إلا تنصروا محمدا صلى اللّه عليه وسلم أيها المؤمنون هذا خطاب لمن تثاقل عن الخروج معه إلى تبوك فأعلم اللّه عز وجل أنه هو المتكفل بنصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإعزاز دينه وإعلاء كلمته أعانوه أو لم يعينوه وإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد

إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنه تعالى نصره في الوقت الذي أخرجه فيه كفار مكة من مكة حين مكروا به وأرادوا قتله ثانِيَ اثْنَيْنِ يعني هو واحد اثنين وهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر إِذْ هُما فِي الْغارِ يعني إذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر في الغار والغار نقب عظيم يكون في الجبل وهذا الغار في جبل ثور وهو قريب من مكة إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ يعني يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر الصديق لا تحزن وذلك أن أبا بكر خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهم فجزع من ذلك فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تحزن إِنَّ اللّه مَعَنا يعني بالنصر والمعونة قال الشعبي : عاتب اللّه عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر وقال الحسن بن الفضل : من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ولا يكون كافرا.

عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي بكر : أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار. أخرجه الترمذي. وقال : حديث حسن غريب

(ق) عن أبي بكر الصديق قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت يا رسول اللّه لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما. قال الشيخ محيي الدين النووي معناه : ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد وهو داخل في

قوله سبحانه وتعالى أن اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وفيه بيان عظيم على توكل النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى في هذا المقام وفيه فضيلة لأبي بكر وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها اللفظ الدال على أن اللّه ثالثهما ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورئاسته في طاعة اللّه وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم وملازمته النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعاداة الناس فيها ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك.

روي عن عمر بن الخطاب أنه ذكر عنده أبو بكر فقال : وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه أما فليلته ليلة سار مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار فلما انتهيا إليه قال واللّه لا تدخله حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شيء أصابني دونك فدخله فكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به وبقي منهما ثقبان فألقمهما رجليه ثم قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادخل فدخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : مالك يا أبا بكر فقال : لدغت فداك أبي وأمي فتفل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته

وأما يومه فلما قبض صلى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب ، وقالوا : لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تألف الناس وارفق بهم. قال : لي أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام أنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد قال البغوي وروي أنه حين انطلق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : مالك يا أبا بكر؟

فقال : أذكر الطلب فأمشي خلفك واذكر الرصد فأمشي بين يديك فلما انتهيا إلى الغار قال : مكانك يا رسول اللّه حتى أستبرئ الغار فدخل فاستبرأه ثم قال انزل يا رسول اللّه فنزل وقال له : إن أقتل فأنا رجل واحد من المسلمين وإن قتلت هلكت الأمة.

( (ذكر سياق حديث الهجرة وهو من أفراد البخاري)) عن عائشة قالت : لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا فلما ابتلي المسلمون ، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال : أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في

الأرض فأعبد ربي. فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصلالرحم ويحمل الكل ويقري الضيق ويعين على نوائب الحق فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة

وفي رواية فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذ عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر ، فقال : قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك

وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر : فإني أراد إليك جوارك وأرضى بجوار اللّه والنبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم للمسلمين : إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر هو الخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب : قال عروة قالت عائشة : فبينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر :

فداء له أبي وأمي واللّه ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستأذن ، فأذن له فدخل فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي بكر : اخرج من عندك. فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه. قال : فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم. قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه إحدى راحلتي هاتين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بالثمن. قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد اللّه بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق السواحل

وفي رواية طريق الساحل.

قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو

أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.

فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له :

إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكبر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ الأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال أخف عنا ما استطعت فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم فكسا الزبير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على ظهر أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم

السارب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه قال فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار لمن لم ير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند ذلك فلبث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين بركت به راحلته هذا إن شاء اللّه المنزل ثم دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقال لا بل نهبه لك يا رسول اللّه فأبى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا وطفق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول :

هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول : اللّهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة ، فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي. قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت أخرجه البخاري بطوله.

( (شرح غريب ألفاظ الحديث)) قولها : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ، يعني ، أنهما كانا ينقادان إلى الطاعة ، وبرك الغماد بفتح الباء من برك وكسر الغين المعجمة اسم موضع بينه وبين مكة خمس ليال مما يلي ساحل البحر إلى المدينة من بلاد غفار.

وقيل : هو قليب ماء لبني ثعلبة. قوله : تكسب المعدوم فيه قولان :

أحدهما : أنه لقوة سعده وحظه من

الدنيا لا يتعذر عليه كسب كل شيء حتى المعدوم الذي يتعذر كسبه على غيره.

والقول الثاني : إنه يملك الشيء المعدوم المتعذر لمن لا يقدر عليه ففيه وصفة بالإحسان والكرم والكل ما يثقل حمله من حقوق الناس وصلة الأرحام والقيام بأمر العيال وإقراء الضيف ونوائب الحق ما ينوب الإنسان من المغارم وقضاء الحقوق لمن يقصده أنا لك جار أي حام وناصر ومدافع عنك والاستعلان إظهار المخفي.

وقوله : فينقذف النساء عليه يعني يزدحمن عليه والذمة العهد والأمان وإخفاؤها نقضها. واللابة : الجبل. والحرة :

الأرض التي تعلوها حجارة سود. يقال : افعل الشيء على رسلك بكسر الراء أي على هينتك. والراحلة : البعير القوي على الحمل والسير ، والظهيرة : وقت شدة الحر والنطاق : حبل أو نحوه تشد به المرأة وسطها وترفع ثوبها من تحته فتعطف طرفا من أعلاه إلى أسفله لئلا يصل إلى الأرض. وقولها : ثقف لقن. يقال : ثقف الرجل ثقافة إذا صار حاذقا فطنا واللقن السريع الفهم. والإدلاج : بتخفيف الدال سير أول الليل وبتشديدها سير آخره والمنحة الشاة ذات اللبن والرسل بكسر الراء وسكون السين هو اللبن يقال : نعق الراعي بالغنم إذا دعاها لتجتمع إليه.

والغلس : ظلام آخر الليل. والخريت : تقدم شرحه في الحديث وهو الماهر بالهداية وأراد به هداية الطريق فهو الدليل. وقد غمس حلفا يقال : غمس فلان حلفا في آل فلان إذا أخذ بنصيب من عهدهم وحلفهم والأسودة الأشخاص. والأكمة : التل المرتفع من الأرض. يقال : قرب الفرس يقرب تقريبا إذا عدا عدوا دون الإسراع والكناية هي الجعبة التي تجعل فيها السهام والأزلام القداح التي كانوا يستقسمون بها عند طلب الحوائج كالفأل والعثان الغبار. يقال : ما رزأت فلانا شيئا أي ما أصبت منه شيئا والمراد أنهم لم يأخذوا منه شيئا وقوله أوفى أي أشرف وأطلع.

والأطم : البناء المرتفع كالحصن ،

وقوله : مبيضين هو بكسر الياء أي : هم ذو ثياب بيض والمربد الموضع يوضع فيه التمر كالبيدر.

وقوله : هذا الحمال هو بالحاء المهملة يعني هذا الحمل والمحمول من اللبن أبر عند اللّه وأطهر وأبقى ذخرا وأدوم منفعة في الآخرة لأحمال خيبر يعني ما يحمل من خيبر من التمر والزبيب والطعام المحمول منها. والمعنى : أن ذلك الحمل الذي نحمله من اللبن لأجل عمارة المسجد أفضل عند اللّه مما يحمل من خيبر وقد روى هذا الجمال بالجيم من التجمل ، والرواية الأولى أشهر وأكثر واللّه أعلم قال الزهري : لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل اللّه سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضتا في أسفل النقب ونسجت العنكبوت بيتا.

وقيل : أتت يمامة على فم الغار وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (اللّهم أعم أبصارهم) فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت ووجدت في بعض التفاسير شعرا وقد نسب إلى أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وهو قوله :

قال النبي ولم يجزع يوقرني ونحن في سدف في ظلمة الغار

لا تخش شيئا فإن اللّه ثالثنا وقد تكفل لي منه بإظهار

وإنما كيد من تخشى بوادره كيد الشياطين قد كادت لكفار

واللّه مهلكهم بما صنعوا وجاعل المنتهي منهم طم إلى النار

وقوله سبحانه وتعالى : فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ يعني فأنزل اللّه الطمأنينة والسكون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ابن عباس عن أبي بكر لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك.

( (فصل في الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على فضل سيدي أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه)) منها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما اختفى في الغار من الكفار كان مطلعا على باطن أبي بكر الصديق في سره وإعلانه

وأنه من المؤمنين الصادقين الصديقين المخلصين فاختار صحبته في ذلك المكان المخوف لعمله بحاله. ومنها :

أن هذه الهجرة كانت بإذن اللّه فخصّ اللّه بصحبة نبيه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر دون غيره من أهله وعشيرته وهذا التخصيص يدل على شرف أبي بكر وفضله على غيره. ومنها : أن اللّه سبحانه وتعالى عاتب أهل الأرض بقوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره اللّه سوى أبي بكر الصديق وهذا دليل على فضله. ومنها : أن سيدنا أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه لم يتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر ولا حضر بل كان ملازما له وهذا دليل على صدق محبته وصحة صحبته له ومنها مؤانسته للنبي صلى اللّه عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفي هذا دليل على فضله. ومنها : أن اللّه سبحانه وتعالى جعله ثاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ب

قوله سبحانه وتعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وفي هذا نهاية الفضيلة لأبي بكر رضي اللّه تعالى عنه. وقد ذكر بعض العلماء أن أبا بكر كان ثاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أكثر الأحوال ومنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان باللّه فكان أبو بكر أول من آمن ثم دعا أبو بكر إلى الإيمان باللّه ورسوله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير فآمنوا على يدي أبي بكر ثم حملهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ومنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر معه في ذلك الموقف ومنه أنه لما مرض صلى اللّه عليه وسلم قام مقامه في الإمامة فكان ثانيه ومنها أنه ثانيه في تربته صلى اللّه عليه وسلم وفي هذا دليل على فضل أبي بكر الصديق ومنها أن اللّه سبحانه وتعالى نص على صحبة أبي بكر دون غيره ب

قوله سبحانه وتعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن ومنها أن اللّه سبحانه وتعالى كان ثالثهما ومن كان اللّه معه دل على فضله وشرفه على غيره ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بها دليل على فضله واللّه أعلم.

وقوله سبحانه وتعالى : وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني : وأيد النبي صلى اللّه عليه وسلم بإنزال الملائكة ليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.

وقيل : ألقى الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي : أعانه بالملائكة يوم بدر فأخبر اللّه سبحانه وتعالى أنه نصره وصرف عنه كيد الأعداء وهو في الغار في حالة القلة والخوف ثم نصره بالملائكة يوم بدر وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يعني كلمة الشرك فهي سفلى إلى يوم القيامة وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيا وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال ابن عباس : هي كلمة لا إله إلا اللّه فهي باقية إلى يوم القيامة عالية.

وقيل : إن كلمة الذين كفروا هي ما كانوا قدروها فيما بينهم من الكيد للنبي صلى اللّه عليه وسلم ليقتلوه وكلمة اللّه هي ما وعده من النصر والظفر بهم فكان ما وعد اللّه سبحانه وتعالى حقا وصدقا.

انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)

٤١

قوله سبحانه وتعالى : انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا يعني انفروا على الصفة التي يخفف عليكم الجهاد بها وعلى الصفة التي يثقل عليكم فيها وهذان الوصفان يدخل تحتها أقسام كثيرة فلهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها.

فقال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة : يعني شبابا وشيوخا. وقال ابن عباس : نشاطا وغير نشاط.

وقال عطية العوفي : ركبانا ومشاة. وقال أبو صالح : خفافا من المال يعني فقراء وثقالا يعني أغنياء. وقال ابن زيد : الخفيف الذي لا ضيعة له والثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته.

ويروى عن ابن عباس قال : خفافا أهل اليسرة من المال وثقالا أهل العسرة.

وقيل : خفافا يعني من السلاح مقلين منه وثقالا يعني مستكثرين منه.

وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل.

وقيل : أصحاء ومرضى.

وقيل : عزابا ومتأهلين.

وقيل : خفافا من الحاشية والأتباع وثقالا مستكثرين منهم.

وقيل : خفافا يعني مسرعين في الخروج إلى الغزو ساعة سماع النفير وثقالا يعني بعد التروي فيه والاستعداد له والصحيح أن هذا عام لأن هذه الأحوال كلها داخلة تحت

قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا يعني على أي حال كنتم فيهما.

فإن قلت : فعلى هذا يلزم الجهاد لكل أحد حتّى المريض والزمن والفقير وليس الأمر كذلك فما معنى هذا الأمر.

قلت : من العلماء من حمله على الوجوب ثم إنه نسخ.

قال ابن عباس : نسخت هذه الآية بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية. وقال السدي : نسخت بقوله :

ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية ومنهم من حمل هذا الأمر على الندب. قال مجاهد : إن أبا أيوب الأنصاري شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون بعده فقيل له في ذلك ، فقال : سمعت اللّه عز وجل يقول انفروا خفافا وثقالا ولا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا وقال الزهري : خرج سعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنك عليل صاحب ضر فقال : استنفر اللّه الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد أو حفظت المتاع. وقال صفوان بن عمرو : كنت واليا على حمص فلقيت شيخا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت يا عم أنت معذور عند اللّه ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا اللّه خفافا وثقالا إلا أنه من يحبه يبتليه والصحيح. هو

القول الأول أنها منسوخة وأن الجهاد من فروض الكفايات ويدل عليه أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم خلف في المدينة في تلك الغزوة النساء وبعض الرجال فدل ذلك على أن الجهاد من فروض الكفايات ليس على الأعيان واللّه أعلم.

وقوله سبحانه وتعالى : وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّه فيه قولان الأول أن الجهاد إنما يجب على من له مال يتقوى به على تحصيل آلاف الجهاد ونفس سليمة قوية صالحة للجهاد فيجب عليه فرض الجهاد

والقول الثاني أن من كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للحرب فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره ممن يصلح للجهاد فيغزو بماله فيكون مجاهدا بماله دون نفسه ذلِكُمْ يعني ذلكم الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ يعني من القعود والتثاقل عنه.

وقيل : معناه أن الجهاد خير حاصل لكم ثوابه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يعني أن ثواب الجهاد خير لكم من القعود عنه ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك

قوله عز وجل :

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)

٤٢

٤٥

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً فيه إضمار تقديره لو كان ما تدعوهم إليه عرضا يعني غنيمة سهلة قريبة التناول والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وَسَفَراً قاصِداً يعني سهلا قريبا لَاتَّبَعُوكَ يعني لخرجوا معك وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة والشقة السفر البعيد ، لأنه يشق على الإنسان سلوكها. ومعنى الآية : لو كان العرض قريبا والغنيمة سهلة والسفر قاصدا لاتبعوك طمعا في تلك المنافع التي تحصل لهم ولكن لما كان السفر بعيدا وكانوا يستعظمون غزو الروم لا جرم أنهم تخلفوا لهذا السبب ثم أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم أنه إذا رجع النبي عليه السلام من هذا الجهاد يحلفون باللّه وهو

قوله تعالى : وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّه يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في هذه الغزوة لَوِ اسْتَطَعْنا

لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يعني إلى هذه الغزوة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني بسبب هذه الأيمان الكاذبة والنفاق وفيه دليل على أن الأيمان الكاذبة تهلك صاحبها وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في أيمانهم وهو قولهم : لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.

قوله عز وجل : عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ قال الطبري : هذا عتاب من اللّه عز وجل عاتب اللّه به نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم أي في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه من المنافقين حين شخص إلى تبوك لغزو الروم. والمعنى :

عفا اللّه عنك يا محمد ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك.

قال عمرو بن ميمون الأودي : اثنان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه اللّه كما تسمعون وقال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.

( (فصل)) استدل بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنوب من الأنبياء وبيانه من وجهين :

أحدهما ، أنه سبحانه وتعالى. قال : عفا اللّه عنك والعفو يستدعي سابقة الذنب

الوجه الثاني أنه سبحانه وتعالى قال لم أذنت لهم وهذا استفهام معناه الإنكار.

والجواب عن

الأول : إنا لا نسلم أن

قوله تعالى عفا اللّه عنك يوجب صدور الذنب بل نقول إن ذلك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير فهو كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظما له عفا اللّه عنك ما صنعت في أمري رضي اللّه عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك اللّه وغفر لك كل هذه الألفاظ في ابتداء الكلام وافتتاحه تدل على تعظيم المخاطب به قال علي بن الجهم يخاطب المتوكل :

عفا اللّه عنك إلا حرمة تعود بفضلك أن أبعدا

ألم تر عبدا عدا طوره ومولى عفا ورشيدا هدى

أقلني أقالك من لم يزل يقيل ويصرف عنك الردى

والجواب عن الثاني : أنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله لم أذنت لهم الإنكار عليه وبيانه : إما أن يكون قد صدر عنه ذنب في هذه الواقعة أولا فإن كان قد صدر عنه ذنب فذكر الذنب بعد العفو لا يليق. فقوله : عفا اللّه عنك ، يدل على حصول العفو وبعد حصول العفو ، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه وإن لم يكن قد صدر عنه ذنب امتنع الإنكار عليه فثبت بهذا أن الإنكار يمتنع في حقه صلى اللّه عليه وسلم وقال القاضي عياض في كتابه الشفاء في الجواب عن قوله عفا اللّه عنك لم أذنت لهم : أنه أمر لم يتقدم للنبي صلى اللّه عليه وسلم فيه من اللّه تعالى نهي فيعد معصية ولا عده تعالى عليه معصية بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه : وقد حاشاه للّه من ذلك بل كان مخيرا في أمرين قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي فكيف وقد قال اللّه سبحانه وتعالى له فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه اللّه بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا وأنه لا حرج عليه فيما فعل وليس عفا هنا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم عفا اللّه لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولم تجب عليهم قط أي يلزمكم ذلك ونحوه للقشيري. قال :

وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب قال ومعنى عفا اللّه عنك أي لم يلزمك ذنب.

قال الداودي : إنها تكرمة. وقال مكي : هو استفتاح كلام مثل أصلحك اللّه وأعزك وحكى السمرقندي أن معناه عفاك اللّه.

وقيل معناه : أدام اللّه لك العفو لم أذنت لهم يعني في التخلف عنك وهذا يحمل على ترك الأولى

والأكمل لا سيما وهذه كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني في اعتذارهم وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يعني فيما يعتذرون به. قال ابن عباس : لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ حتى نزلت براءة.

قوله سبحانه وتعالى : لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي في أن يجاهدوا وإنما حسن هذا الحذف لظهوره وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ يعني الذين يتقون لمخالفته ويسارعون إلى طاعته إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ يعني في التخلف عن الجهاد معك يا محمد من غير عذر الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهم المنافقون لقوله وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ يعني شكت قلوبهم في الإيمان وإنما أضاف الشك والارتياب إلى القلب لأنه محل المعرفة والإيمان أيضا فإذا داخله الشك كان ذلك نفاقا فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ يعني أن المنافقين متحيرون لا مع الكفار ولا مع المؤمنين وقد اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية. فقيل : إنها منسوخة بالآية التي في سورة النور وهي

قوله سبحانه وتعالى إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون باللّه ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم

وقيل إنها محكمات كلها ووجه الجمع بين هذه الآيات أن المؤمنين كانوا يسارعون إلى طاعة اللّه وجهاد عدوهم من غير استئذان فإذا عرض لأحدهم عذرا استأذن في التخلف فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مخيرا في الإذن لهم بقوله تعالى فأذن لمن شئت منهم

وأما المنافقون فكانوا يستأذنون في التخلف من غير عذر فعيرهم اللّه تعالى بهذا الاستئذان لكونه بغير عذر.

وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)

٤٦

٤٨

وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعني إلى الغزو معكم لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً لتهيئوا له بإعداد آلات السفر وآلات القتال من الكراع والسلاح وَلكِنْ كَرِهَ اللّه انْبِعاثَهُمْ يعني خروجهم إلى الغزو معكم فَثَبَّطَهُمْ يعني منعهم وحبسهم عن الخروج معكم والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى كره خروج المنافقين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فصرفهم عنه وهاهنا يتوجه سؤال وهو أن خروج المنافقين مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إما أن يكون فيه مصلحة أو مفسدة فإن كان فيه مصلحة فلم قال :

ولكن كره اللّه انبعاثهم فثبطهم ، وإن كان فيه مفسدة. فلم عاتب نبيه صلى اللّه عليه وسلم في أذنه لهم بالقعود والجواب عن السؤال أن خروجهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان فيه مفسدة عظيمة بدليل أنه تعالى أخبر عن تلك المفسدة بقوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، بقي فلم عاتب اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وسلم بقوله لم أذنت لهم فنقول إنه صلى اللّه عليه وسلم أذن لهم قبل تمام الفحص وإكمال التأمل والتدبر في حالهم فلهذا السبب قال اللّه تعالى : لم أذنت لهم؟

وقيل إنما عاتبه لأجل أنه أذن لهم قبل أن يوحي إليه في أمرهم بالقعود

وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ معناه أنهم لما استأذنوه في القعود.

قيل لهم : اقعدوا مع القاعدين وهم النساء والصبيان والمرضى وأهل الأعذار ثم اختلفوا في القائل من هو فقيل ، قال بعضهم لبعض : اقعدوا مع القاعدين.

وقيل : القائل هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإنما قال ذلك لهم على سبيل الغضب لما استأذنوه في القعود فقال لهم اقعدوا مع القاعدين فاغتنموا ذلك وقعدوا

وقيل إن القائل ذلك هو اللّه سبحانه وتعالى بأن ألقى في قلوبهم القعود لما كره انبعاثهم مع المسلمين إلى الجهاد ثم بيّن سبحانه وتعالى ما في خروجهم من المفاسد

فقال تعالى : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا يعني لو خرج هؤلاء المنافقون معكم إلى الغزو ما زادوكم إلا فسادا وشرا وأصل الخبال اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون قال بعض النحاة :

هذا من الاستثناء المنقطع والمعنى لو خرجوا فيكم ما زادوكم قوة لكن خبالا والمراد به هنا الإفساد وإيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر وشدة السفر وكثرة العدوان وقوتهم وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يعني ولأسرعوا فيكم وساروا بينكم بإلقاء النميمة والأحاديث الكاذبة فيكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني يطلبون لكم ما تفتتنون به وذلك أنهم يقولون للمؤمنين لقد جمع لكم كذا وكذا ولا طاقة لكم بهم وإنكم ستهزمون منهم وسيظهرون عليكم ونحو ذلك من الأحاديث الكاذبة التي تجبن

وقيل معناه يطلبون العيب والشر وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد : يعني وفيكم عيون لهم يؤدون إليهم أخباركم وما يسمعون منكم وهم الجواسيس. وقال قتادة : وفيكم مطيعون لهم يسمعون كلام المنافقين ويطيعونهم وذلك أنهم يلقون إليهم أنواعا من الشبهات الموجبة لضعف القلب فيقبلونها منهم.

فإن قلت : كيف يجوز أن يكون في المؤمنين المخلصين من يسمع ويطيع للمنافقين؟

قلت : يحتمل أن يكون بعض المؤمنين لهم أقارب من كبار المنافقين ورؤسائهم فإذا قالوا قولا ربما أثر ذلك القول في قلوب ضعفة المؤمنين في بعض الأحوال وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وهذا وعيد وتهديد للمنافقين الذين يلقون الفتن والشبهات بين المؤمنين و

قوله سبحانه وتعالى : لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ يعني لقد طلبوا صد أصحابك يا محمد عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنكم قيل هذا اليوم كما فعل عبد اللّه بن أبي بن سلول يوم أحد حين انصرف بأصحابه عنكم وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ يعني وأجالوا فيك وفي أمرك وفي إبطال دينك الرأي وبالغوا في تخذيل الناس عنك وقصدهم تشتيت أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ يعني النصر والظفر وَظَهَرَ أَمْرُ اللّه وَهُمْ كارِهُونَ يعني ذلك.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللّه لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)

٤٩

٥٠

٥٢

قوله عز وجل : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي نزلت في الجد بن قيس وكان من المنافقين وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما تجهز إلى غزوة تبوك قال للجد بن قيس : يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم تتخذ منهم سراري ووصفاء. فقال الجد : يا رسول اللّه لقد عرف قومي أني رجل مغرم بحب النساء وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي قال ابن عباس : اعتل الجد بن قيس ولم تكن له علة إلا النفاق فأعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال : قد أذنت لك فأنزل اللّه عز وجل فيه ومنهم يعني ومن المنافقين من يقول ائذن لي يعني في التخلف والقعود في المدينة ولا تفتني يعني ببنات بني الأصفر وهم الروم أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعني أنهم وقعوا في الفتنة العظيمة وهي النفاق ومخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والقعود عنه وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني يوم القيامة تحيط بهم وتجمعهم فيها.

قوله سبحانه وتعالى : إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ يعني إن تصبك يا محمد حسنة من نصر وغنيمة تحزن المنافقين وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يعني من هزيمة أو شدة يَقُولُوا يعني المنافقين قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا يعني أخذنا أمرنا بالجد والحزم في القعود عن الغزو مِنْ قَبْلُ يعني من قبل هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ يعني

مسرورين لما نالك من المصيبة وسلامتهم منها قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللّه لَنا يعني قل يا محمد لهؤلاء الذين يفرحون بما يصيبك من المصائب والمكروه لن يصيبنا إلا ما قدره اللّه لنا وعلينا وكتبه في اللوح المحفوظ لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة من خير وشر فلا يقدر أحد أن يدفع عن نفسه مكروها نزل به أو يجلب لنفسه نفعا أراده لم يقدر له هُوَ مَوْلانا يعني أن اللّه سبحانه وتعالى هو ناصرنا وحافظنا وهو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني في جميع أمورهم قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا يعني :

قل يا محمد لهؤلاء المنافقين هل تنتظرون بنا أيها المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ يعني إما النصر والغنيمة

وإما الشهادة والمغفرة وذلك أن المسلم إذا ذهب إلى الغزو والجهاد في سبيل اللّه إما أن يغلب عدوه فيفوز بالنصر والغنيمة والأجر العظيم في الآخرة

وإما أن يقتل في سبيل اللّه فتحصل له الشهادة وهي الغاية القصوى ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (تكفل اللّه

وفي رواية تضمن اللّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة) أخرجاه في الصحيحين.

وقوله سبحانه وتعالى : وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ يعني ونحن ننتظر بكم إحدى السوأيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللّه بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ يعني فيهلككم كما أهلك من كان قبلكم من الأمم الخالية أَوْ بِأَيْدِينا يعني أو يصيبكم بأيدي المؤمنين بأن يظفرنا بكم ويظهرنا عليكم فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ قال الحسن : فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعيد اللّه من إظهار دينه واستئصال من خالفه.

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)

٥٣

٥٥

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نزلت في الجد بن قيس المنافق وذلك أنه استأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القعود عنه وقال أنا أعطيكم مالي فأنزل اللّه عز وجل ردا عليه قل أي قل يا محمد لهذا المنافق وأمثاله في النفاق أنفقوا طوعا أو كرها يعني أنفقوا طائعين من قبل أنفسكم أو مكرهين بالإنفاق بإلزام اللّه ورسوله إياكم بالإنفاق لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ لأن هذا الإنفاق إنما وقع لغير اللّه وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين فهي عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه اللّه بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه ثم علل بسبب منع القبول بقوله إِنَّكُمْ أي لأنكم كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ والمراد بالفسق هنا الكفر ويدل عليه

قوله سبحانه وتعالى : وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَبِرَسُولِهِ أي المانع من قبول نفقاتهم هو كفرهم باللّه وبرسوله وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى جمع كسلان يعني متثاقلين في الإتيان إلى الصلاة وذلك لأنهم لا يرجون على فعلها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا فلذلك ذمهم مع فعلها وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم كانوا يعتقدون الإنفاق في سبيل اللّه مغرما ومنع ذلك الإنفاق مغنما فَلا تُعْجِبْكَ يا محمد أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ هذا الخطاب وإن كان مختصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم إلا أن المراد به جميع المؤمنين والمعنى فلا تعجبوا بأموال المنافقين وأولادهم والإعجاب السرور بالشيء مع نوع من الافتخار به مع الاعتقاد أنه ليس لغيره مثله وهذا يدل على استغراق النفس بذلك الشيء ويكون سبب انقطاعه عن اللّه عز وجل فينبغي للإنسان أن لا يعجب بشيء من أمور الدنيا ولذاتها فإن العبد إذا كان من اللّه عز وجل في استدراج كثر ماله وولده فيكثر إعجابه بماله وولده

فيبطر ويكفر نعم اللّه عليه ولهذا

قال سبحانه وتعالى : إِنَّما يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

فإن قلت كيف يكون المال والولد عذابا في الدنيا وفيهما اللذة والسرور في الدنيا.

قلت : قال مجاهد وقتادة : في الآية تقديم وتأخير وتقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة.

وقيل : إن سبب كون المال والولد عذابا في الدنيا هو ما يحصل من المتاعب والمشاق في تحصيلهما فإذا حصلا ازداد التعب وتحمل المشاق في حفظهما ويزداد الحزن والغم بسبب المصائب الواقعة فيهما ، فعلى هذا القول ، لا حاجة إلى التقديم والتأخير في نظم الآية وأورد على هذا القول بأن هذا التعذيب حاصل لكل أحد من بني آدم مؤمنهم وكافرهم فما فائدة تخصيص المنافقين بهذا التعذيب في الدنيا وأجيب عن هذا الإيراد بأن المنافقين مخصوصون بزيادة من هذا العذاب وهو أن المؤمن قد علم أنه مخلوق للآخرة وإنه يثاب بالمصائب الحاصلة له في الدنيا فلم يكن المال والولد في حقه عذابا في الدنيا

وأما المنافق فإنه لا يعتقد كون الآخرة له وإنه ليس فيها ثواب فبقي ما يحصل له في الدنيا من التعب والشدة والغم والحزن على المال والولد عذابا عليه في الدنيا فثبت بهذا الاعتبار أن المال والولد عذاب على المنافقين في الدنيا دون المؤمنين.

وقيل : إن تعذيبهم بهما في الدنيا أخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل اللّه غير مثابين على ذلك وربما قتل الولد في الغزو فلا يثاب الوالد المنافق على قتل ولده وذهاب ماله.

وقيل : يعذبهم بالتعب في جمعه وحفظه والكره في إنفاقه والحسرة على تخليفه عند من لا يحمده ثم يقدم في الآخرة على ملك لا يعذره وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ يعني وتخرج أنفسهم وَهُمْ كافِرُونَ والمعنى أنهم يموتون على الكفر فتكون عاقبتهم بعد عذاب الدنيا عذاب الآخرة.

وَيَحْلِفُونَ بِاللّه إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨)

٥٦

٥٨

قوله عز وجل : وَيَحْلِفُونَ بِاللّه يعني المنافقين إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يعني على دينكم وملتكم وَما هُمْ مِنْكُمْ يعني أنهم كاذبون في أيمانهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يعني أنهم يخافون أن تظهروا على ما هم عليه من النفاق لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يعني حرزا وحصنا ومعقلا يلجئون إليه

وقيل لو وجدوا مهربا لهربوا إليه

وقيل لو يجدون قوما يأمنون عندهم على أنفسهم منكم لصاروا إليهم ولفارقوكم أَوْ مَغاراتٍ يعني غيرانا في الجبل جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان أي يستتر أَوْ مُدَّخَلًا يعني موضع دخول يدخلون فيه وهو السرب في الأرض كنفق اليربوع وقال الحسن : وجها يدخلونه على خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لَوَلَّوْا إِلَيْهِ والمعنى أنهم لو وجدوا مكانا بهذه الصفة أو على أحد هذه الوجوه الثلاثة وهي شر الأمكنة وأضيقها لولوا إليه أي لرجعوا إليه وتحرزوا فيه وَهُمْ يَجْمَحُونَ يعني وهم يسرعون إلى ذلك المكان والمعنى أن المنافقين لشدة بغضهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين لو قدروا أن يهربوا منكم إلى أحد هذه الأمكنة لصاروا إليه لشدة بغضهم إياكم.

قوله سبحانه وتعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ نزلت في ذي الخويصرة التميمي واسمه حرقوص بن زهير وهو أصل الخوارج

(ق) عن أبي سعيد الخدري قال : (بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم فيئا فأتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم فقال يا رسول اللّه اعدل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ويلك من يعدل إذا لم أعدل

وفي رواية : قد خبت وخسرت إن لم أعدل فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم) زاد في رواية (يقرءون القرآن

لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين)

وفي رواية (من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية) وقال الكلبي : قال رجل من المنافقين ، يقال له أبو الجواظ لم تقسم بالسوية فنزلت هذه الآية ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال : يا محمد واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل فما عدلت فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويلك فمن ذا يعدل بعدي وقال ابن زيد قال المنافقون واللّه ما يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثرها إلا من يهواه فأنزل اللّه سبحانه وتعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات يعني ومن المنافقين من يعيبك في قسم الصدقات وفي تفريقها ويطعن عليك في أمرها يقال همزه ولمزه بمعنى واحد أي عابه فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها يعني من الصدقات رَضُوا يعني رضوا عنك في قسمتها وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ يعني وإن لم تعطهم منها عابوا عليك وسخطوا.

٥٩

٦٠

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّه راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّه وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّه وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا يعني ولو أن المنافقين الذين عابوا عليك رضوا بما قسم اللّه لهم وقنعوا ما آتاهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللّه أي كافينا اللّه سَيُؤْتِينَا اللّه مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ يعني إليه إِنَّا إِلَى اللّه راغِبُونَ يعني في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وعن غيرها من أموال الناس وجواب لو محذوف تقديره لكان خيرا لهم وأعود عليهم.

قوله عز وجل : إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الآية اعلم أن المنافقين لما لمزوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعابوه في قسم الصدقات بيّن اللّه عز وجل في هذه الآية إن المستحقين للصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ومصرفها إليهم ولا تعلن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها بشيء ولم يأخذ لنفسه منها شيئا فلم يلمزونه ويعيبون عليه فلا مطعن لهم فيه بسبب قسم الصدقات. عن زياد بن الحرث الصدائي قال (أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إن اللّه لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) أخرجه أبو داود.

(فصل في بيان حكم هذه الآية وفيه مسائل)

المسألة الأولى : في بيان وجه الحكمة في إيجاب الزكاة على الأغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس وذلك من وجوه ، الوجه الأول أن المال محبوب بالطبع وسببه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها والمال سبب لتحصيل تلك القدرة فكان المال محبوبا بالطبع فإذا استغرق القلب في حب المال اشتغل به عن حب اللّه عز وجل وعن الاشتغال بالطاعات المقربة إلى اللّه عز وجل فاقتضت الحكمة الإلهية إيجاب الزكاة في ذلك المال الذي هو سبب البعد عن اللّه فيصير سببا للقرب من اللّه عز وجل بإخراج الزكاة منه.

الوجه الثاني : إن كثرة المال توجب قسوة القلب وحب الدنيا والميل إلى شهواتها ولذاتها فأوجب اللّه سبحانه وتعالى الزكاة ليقل ذلك المال الذي هو سبب لقساوة القلب. و

الوجه الثالث سبب وجوب الزكاة امتحان العبد المؤمن لأن التكاليف البدنية غير شاقة على العبد وإخراج المال مشق على النفس فأوجب اللّه عز وجل الزكاة على العباد ليمتحن بإخراج الزكاة أصحاب الأموال لتميز بذلك المطيع المخرج لها طيبة بها نفسه من العاصي المانع لها.

الوجه الرابع أن المال مال اللّه والأغنياء خزان اللّه والفقراء عيال اللّه فأمر اللّه سبحانه وتعالى خزانه الذين هم أغنياء بدفع طائفة من ماله إلى

عياله فيثيب العبد المؤمن المطيع المسارع إلى امتثال الأمر المشفق على عياله ويعاقب العبد العاصي المانع لعياله من ماله

(ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : إن الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ وربما قال يعطي ما أمر به فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي أمر له به أحد المتصدقين.

الوجه الخامس أن الفقراء ربما تعلقت قلوبهم بالأموال التي بأيدي الأغنياء فأوجب اللّه عز وجل نصيبا للفقراء في ذلك المال تطييبا لقلوبهم.

الوجه السادس أن المال الفاضل عن حاجة الإنسان الأصلية إذا أمسك بقي معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال فأمر بدفع الزكاة إلى الفقراء حتى لا يصير ذلك المال معطلا بالكلية.

المسألة الثانية : الآية تدل على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا هؤلاء الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه لأن كلمتي إنما تفيدان الحصر وذلك لأنها مركبة من إن وما فكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما يفيدان الحكم المذكور وصرفه عما عداه فدل ذلك على أن الصدقات لا تصرف إلا إلى الأصناف الثمانية.

المسألة الثالثة : في بيان الأصناف الثمانية فالصنف الأول للفقراء

والثاني للمساكين وهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة والزهري : الفقير الذي لا يسأل والمسكين السائل وقال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على الشيء يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. وقال قتادة : الفقير المحتاج الزمن والمسكين الصحيح المحتاج وقال الشافعي رضي اللّه تعالى عنه :

الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا زمنا كان أو غير زمن والمسكين من له مال أو حرفة ولكن لا تقع منه موقعا لكفايته سائلا كان أو غير سائل فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير. وقال أبو حنيفة ، وأصحاب الرأي :

الفقير أحسن حالا من المسكين ومن الناس من قال لا فرق بين الفقير والمسكين حجة الشافعي ومن وافقه أن اللّه سبحانه وتعالى حكم بصرف الصدقات إلى هؤلاء الأصناف الثمانية دفعا لحاجتهم وتحصيلا لمصلحتهم فبدأ بالفقر وإنما يبدأ بالأهم فالأهم فلو لم تكن حاجتهم أشد من حاجة المساكين لما بدأ بهم وأصل الفقير المكسور الفقار قال لبيد :

لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل

قال ابن الأعرابي : الفقير في هذا البيت المكسور الفقار فثبت بهذا أن الفقير إنما سمي فقيرا لزمانته وحاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر وقال (اللّهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة) رواه الترمذي من حديث أنس فلو كان المسكين أسوأ حالا من الفقير لما تعوذ من الفقر وسأل المسكنة فثبت بهذا أن المسكين أحسن حالا من الفقير ولأن اللّه سبحانه وتعالى قال أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة لأن السفينة من سفن البحر تساوي دنانير كثيرة ولأن الغنى والفقر ضدان والمسكنة قسم ثالث بينهما فثبت بهذا أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وحجة أبي حنيفة ومن وافقه على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير قوله أو مسكينا ذا متربة وصف المسكين بكونه ذا متربة وهو الذي لصق جلده بالتراب وهذا يدل على غاية الضر والشدة ولأن اللّه تعالى جعل الكفارات للمساكين فلو لم يكن المسكين أشد حاجة من غيره لما جعلها له واحتج أيضا بقول الراعي :

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد

واحتج أيضا بقول الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له

وكذا قال القتيبي : الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له

وقيل : الفقير الذي له المسكن والخادم والمسكين الذي لا ملك له

وقيل : إن كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره قال اللّه سبحانه وتعالى : أنتم الفقراء إلى اللّه فأثبت لهم اسم الفقر مع وجدان المال والجواب عن هذه الحجج أما قوله أو مسكينا ذا متربة فهو حجة لمذهب الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه لأنه قيد المسكين المذكور هنا بكونه ذا متربة فدل على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة والجواب عن جعل الكفارات للمسكين أنه هو الفقير الذي لصق جلده بالتراب من شدة المسكنة والجواب عن الاستدلال ببيت الراعي إنه ذكر الفقير وجده فكل فقير أفرد بالاسم جاز إطلاق المسكين عليه فسقط الاستدلال به

وأما الروايات المذكورة فهي معارضة بما تقدم من الروايات عن ابن عباس وغيره من المفسرين. وبالجملة أن الفقر والمسكنة عبارتان عن شدة الحاجة وضعف الحال فالفقير هو الذي كسرت الحاجة فقار ظهره والمسكين هو الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت.

عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) أخرجه النسائي وأبو داود وله في رواية أخرى (و لا لذي مرة قوي) عن عبيد اللّه بن عدي بن الخيار قال (أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في حجة الوداع وهو يقسم الصدقات فسألاه منها فرفع فينا النظر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) أخرجه أبو داود والنسائي وأخرجه الشافعي ولفظه (أن رجلين أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألاه عن الصدقة فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب) واختلف العلماء في حد الغنى الذي يمنع من أخذ الصدقة فقال الأكثرون حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة وهو قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي : حده أن يملك مائتي درهم.

وقال قوم : من ملك خمسين درهما أو قيمتها لا تحل له الصدقة لما روي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

(من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول اللّه وما يغنيه قال : خمسون درهما أو قيمتها من الذهب) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وهذا قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقالوا : لا يجوز أن يعطى الرجل أكثر من خمسين درهما من الزكاة

وقيل : أربعين درهما لما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف) أخرجه أبو داود وكانت الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما الصنف الثالث

قوله سبحانه وتعالى : وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم السعاة الذين يتولون جباية الصدقات وقبضها من أهلها ووضعها في جهتها فيعطون من مال الصدقات بقدر أجور أعمالهم سواء كانوا فقراء أو أغنياء وهذا قول ابن عمر وبه. قال الشافعي وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات.

وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي يقول : هو وأجرة عمل تتقدر بقدر العمل والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات لما روي عن أبي رافع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (لا تحل لنا الصدقة وأن مولى القوم منهم) أخرجه الترمذي والنسائي الصنف الرابع

قوله تعالى : وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم قسمان : قسم مسلمون وقسم كفار فأما قسم المسلمين فقسمان

القسم الأول هم قوم من أشراف العرب كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم من الصدقات يتألفهم بذلك كما أعطى عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فهؤلاء أسلموا وكانت نيتهم ضعيفة فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم لتقوى رغبتهم في الإسلام وقوم أسلموا وكانت نيتهم قوية في الإسلام وهم أشراف قومهم مثل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام فيجوز للإمام أن يعطي أمثال هؤلاء من خمس خمس الغنيمة والفيء من سهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يعطيهم من ذلك ومن الصدقات أيضا.

القسم الثاني من مؤلفة المسلمين هم قوم من المسلمين يكونون بإزاء قوم كفار في موضع لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بكلفة كبيرة ومؤنة عظيمة وهؤلاء الذين بإزائهم من المسلمين

لا يجاهدونهم لضعف نيتهم أو لضعف حالهم فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة

وقيل من سهم المؤلفة قلوبهم ومن هؤلاء قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة فيأخذون منهم الزكاة ويحملونها إلى الإمام فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات

وقيل من سهم سبيل اللّه. روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا

وأما مؤلفة الكفار فهم قوم يخشى شرهم أو يرجى إسلامهم فيجوز للإمام أن يعطي من يخاف شره أو يرجو إسلامه فقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما أعطى صفوان بن أمية لما كان يرى من ميله إلى الإسلام أما اليوم فقد أعز اللّه الإسلام وله الحمد على ذلك وأغناه عن أن يتألف عليه أحد من المشركين فلا يعطى مشرك تألفا بحال وقد قال بهذا كثير من أهل العلم ورأوا أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط يروى ذلك عن ابن عمر وعكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه. وقال قوم : سهمهم ثابت لم يسقط. يروى ذلك عن الحسن وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور وقال أحمد يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك الصنف الخامس

قوله سبحانه وتعالى : وَفِي الرِّقابِ قال الزجاج : فيه حذف تقديره وفي فك الرقاب وفي تفسير الرقاب أقوال الأول أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين فيدفع إليهم ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وهو قول أكثر الفقهاء منهم سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد ويدل عليه أيضا

قوله تعالى وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم ،

القول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق أن سهم

الرقاب موضوع لعتق الرقاب فيشترى به عبيد ويعتقون ويدل عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال لا بأس أن يعتق الرجل من الزكاة القول الثالث وهو قول أبي حنيفة وأصحابه أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في عتق رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله في الرقاب يقتضي التبعيض. القول الرابع وهو قول الزهري أن سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين ونصف يشترى به عبيد ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة. قال أصحابنا : الأحوط في سهم الرقاب أن يدفع إلى السيد بإذن المكاتب ويدل عليه أنه سبحانه وتعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدمة بلام الملك فقال : إنما الصدقات للفقراء.

وقال : في الصنف الخامس وفي الرقاب فلا بد لهذا الفرق من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات فيصرفون ذلك فيما شاؤوا

وأما الرقاب فيوضع نصيبهم في تخليص رقابهم من الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف فيه وكذا القول في الغارمين فيصرف نصيبهم في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف نصيبهم فيما يحتاجون إليه في الغزو وكذا ابن السبيل فيصرف إليه ما يحتاج إليه في سفره إلى بلوغ غرضه الصنف السادس

قوله سبحانه وتعالى : وَالْغارِمِينَ أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق عليه النفس وسمى الدين غرما لكونه شاقا على الإنسان والمراد بالغارمين هنا المديونون وهم قسمان أدانوا لأنفسهم في غير معصية فيعطون من مال الصدقات بقدر ديونهم إذا لم يكن لهم مال يفي بديونهم فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فيعطون من مال الصدقات ما يقضون به دينهم وإن كانوا أغنياء لما روي عن عطاء بن يسار أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل اللّه أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل أسير إعانة أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني) أخرجه أبو داود مرسلا لأن عطاء بن يسار لم يدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم متصلا بمعناه أما من كان دينه في معصية فلا يعطى من الصدقات شيئا الصنف السابع

قوله تعالى : وَفِي سَبِيلِ اللّه يعني وفي النفقة في سبيل اللّه وأراد به الغزاة فلهم سهم من مال الصدقات فيعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ما يستعينون به على أمر الجهاد من النفقة والكسوة والسلاح والحمولة فيعطون ذلك وإن كانوا أغنياء لما تقدم من حديث عطاء وأبي سعيد الخدري ولا يعطى من سهم اللّه لمن أراد الحج عند أكثر أهل

العلم وقال قوم يجوز أن يصرف سهم

سبيل اللّه إلى الحج يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن وإليه ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه

وقال بعضهم : إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل اللّه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك قال لأن قوله وفي سبيل اللّه عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره و

القول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه الصنف الثامن

قوله سبحانه وتعالى : وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر من بلد إلى بلد والسبيل الطريق سمي المسافر ابن السبيل لملازمته الطريق قال الشاعر :

أنا ابن الحرب ربتني وليدا إلى أن شبت واكتهلت لداتي

فكل مريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به مسافة سفره يعطى من الصدقات ما يكفيه لمؤنة سفره سواء كان له مال في البلد الذي يقصده أو لم يكن له مال ، وقال قتادة : ابن السبيل هو الضيف وقال فقهاء العراق : ابن السبيل هو الحاج المنقطع.

وقوله تعالى : فَرِيضَةً مِنَ اللّه يعني أن هذه الأحكام التي ذكرها في الآية فريضة واجبة من اللّه

وقيل فرض اللّه هذه الأشياء فريضة وَاللّه عَلِيمٌ يعني بمصالح عباده حَكِيمٌ يعني فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقض ولا خلل.

المسألة الرابعة : في أحكام متفرقة تتعلق بالزكاة اتفق العلماء على أن المراد بقوله إنما الصدقات للفقراء هي الزكاة المفروضة بدليل

قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة واختلفوا في كيفية قسمتها وفي جواز صرفها كلها إلى بعض الأصناف دون بعض فذهب جماعة من الفقهاء إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعض الأصناف مع وجود الباقين وهو قول عكرمة وإليه ذهب الشافعي قال : يجب أن يقسم زكاة ماله على الموجودين من الأصناف الستة الذين سماهم ثمانية أقسام قسمة على السواء لأن سهم المؤلفة ساقط وسهم العامل ساقط إذا قسم زكاته بنفسه ثم حصة كل صنف من الأصناف الستة لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منه ثلاثة أو أكثر فلو فاوت بين أولئك الثلاثة جاز فإن لم يجد من بعض الأصناف إلا واحدا دفع حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج من حد الاستحقاق فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف أو إلى شخص واحد منهم جاز لأن اللّه سبحانه وتعالى إنما سمى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الثمانية إلا إيجابا منه لقسمتها بينهم جميعا وهذا قول عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل.

قال أحمد بن حنبل : يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى. وقال إبراهيم النخعي : إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف وإن كان قليلا وضعه في صنف واحد. وقال مالك : يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة فإن رأى الخلة في الفقراء في عام قدمهم وإن رآها في صنف آخر في عام حولها إليهم وكل من دفع إليه شيئا من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق فلا يزيد الفقير على قدر غناه وهو ما يحتاج إليه فإن حصل أدنى اسم الغني فلا يعطي بعده شيئا وإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته فيعطي قدر ما يحصل به آلة حرفته فالاعتبار عند الإمام الشافعي رضي اللّه عنه ما يدفع الحاجة من غير حد. وقال أحمد بن حنبل : لا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما وقال أبو حنيفة : أكره أن يعطى رجل واحد من الزكاة مائتي درهم فإن أعطيته أجزأ فإن أعطى من يظنه فقيرا فبان أنه غني فهل يجزئ فيه قولان ولا يجوز أن يعطي صدقته لمن تلزمه نفقته وبه قال مالك والثوري وأحمد وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يعطى والدا وإن علا ولا ولدا وإن سفل ولا زوجة ويعطي من عداهم وتحرم الصدقة على ذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب فلا

يدفع إليهم من الزكاة شيء لقوله صلى اللّه عليه وسلم : (إنا آل بيت لا تحل لنا الصدقة) وقال أبو حنيفة تحرم على بني هاشم ولا تحرم على بني المطلب دليلنا قوله صلى اللّه عليه وسلم (إنا وبنو المطلب شيء واحد لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام) وتحرم الصدقة على موالي بني هاشم وبني المطلب لقوله صلى اللّه عليه وسلم (مولى القوم منهم) وقال مالك لا تحرم واختلفوا في نقل الصدقة من بلد إلى بلد آخر مع وجود المستحقين في بلد المال فكرهه أكثر أهل العلم لتعلق قلوب فقراء ذلك البلد بذلك المال ولقوله صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ (و أعلمهم أن اللّه سبحانه وتعالى افترض عليهم صدقة من أغنيائهم وترد على فقرائهم) الحديث بطوله في الصحيحين واتفقوا على أنه إذا نقل المال إلى بلد آخر وأداه إلى فقراء ذلك البلد سقط عنه الفرض إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز فإنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام فردها إلى مكانها من خراسان واللّه أعلم.

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)

٦١

٦٢

قوله سبحانه وتعالى : وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويعيبونه ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد وهو من المنافقين بل نقول ما شئنا ثم نأتيه وننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن أي يسمع كل ما يقال له ويقبله

وقيل معنى هو أذن أي ذو أذن سامعة ، وقال محمد بن إسحاق : نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان أزنم ثائر الشعر أحمر العينين أسقع الخدين مشوه الخلقة وقد قال فيه النبي : (من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث) وكان ينم حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المنافقين. فقيل له : لا تفعل ذلك. فقال : إنما محمد أذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا ، فأنزل اللّه هذه الآية.

ومقصود المنافقين بقوله هو أذن أنه ليس بعيد غور بل هو سليم سريع الاغترار بكل ما يسمع فأجاب اللّه سبحانه وتعالى عنه بقوله : قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يعني هب أنه أذن لكنه أذن خير لكم كقولك رجل صدق وشاهد عدل والمعنى أنه مستمع خير وصلاح لا مستمع شر وفساد وقرئ أذن خير مرفوعين منونين ومعناه يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم ثم وصف اللّه سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بقوله تعالى :

يُؤْمِنُ بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني أنه يصدق المؤمنين ويقبل قولهم ولا يقبل قول المنافقين وإنما عدي الإيمان باللّه بالياء والإيمان للمؤمنين باللام لأن الإيمان باللّه هو نقيض الكفر فلا يتعدى إلا بالياء فيقال : آمن باللّه والإيمان للمؤمنين معناه تصديق المؤمنين فيما يقولونه فلا يقال إلا باللام ومنه

قوله تعالى أنؤمن لك وقوله آمنتم له وَرَحْمَةٌ أي هو رحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وإنما قال منكم لأن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فبين اللّه سبحانه وتعالى كذبهم بقوله إنه رحمة للمؤمنين المخلصين لا للمنافقين

وقيل في كونه صلى اللّه عليه وسلم رحمة لأنه يجري أحكام الناس على الظاهر ولا ينقب عن أحوالهم ولا يهتك أسرارهم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّه لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة.

قوله عز وجل : يَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ قال قتادة والسدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ثم وديعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وكان عندهم غلام من الأنصار اسمه عامر بن قيس فحقروه وقالوا هذه المقالة فغضب الغلام من قولهم وقال واللّه

إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ثم أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبره فدعاهم فسألهم فأنكروا وحلفوا أن عامرا كذاب وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى اللّه عليه وسلم فجعل عامر يدعو ويقول : اللّهم صدق الصادق وكذب الكاذب.

فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون ، فأنزل اللّه هذه الآية. والمعنى : يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون ليرضوكم يعني فيما بلغكم عنهم من أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ اختلفوا في معنى هذا الضمير إلى ماذا يعود فقيل : الضمير عائد على اللّه تعالى لأن في رضا اللّه رضا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمعنى واللّه ورسوله أحق أن يرضوه بالتوبة والإخلاص.

وقيل : يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر

أحدهما عن الآخر.

وقيل : معناه واللّه أحق أن يرضوه وكذلك رسوله : إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ يعني إن كان هؤلاء المنافقون مصدقين بوعد اللّه ووعيده في الآخرة.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللّه وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤)

٦٣

٦٤

قوله سبحانه وتعالى : أَلَمْ يَعْلَمُوا قال أهل المعاني ألم تعلم خطاب لمن علم شيئا ثم نسيه أو أنكره فيقال له ألم تعلم أنه كان كذا وكذا ولما طال مكث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين أظهر المؤمنين والمنافقين وعلمهم من أحكام الدين ما يحتاجون إليه خاطب المنافقين بقوله ألم يعلموا يعني من شرائع الدين التي علمهم رسولنا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللّه وَرَسُولَهُ يعني أنه من يخالف اللّه ورسوله.

وأصل المحاداة في اللغة : المخالفة والمجانبة والمعادة. واشتقاقه : من الحد. يقال : حاد فلان فلانا إذا صار في غير حده وخالفه في أمره.

وقيل : معنى يحادد اللّه ورسوله أي يحارب اللّه ورسوله ويعاند اللّه ورسوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ أي فحق أن له نار جهنم خالِداً فِيها يعني على الدوام ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعني ذلك الخلود في نار جهنم هو الفضيحة العظيمة.

قوله عز وجل : يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ يعني يخشى المنافقون أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ يعني على المؤمنين تُنَبِّئُهُمْ يعني تخبر المؤمنين بِما فِي قُلُوبِهِمْ يعني بما في قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين وذلك أن المنافقين كانوا فيما بينهم يذكرون المؤمنين بسوء ويسترونه ويخافون الفضيحة ونزول القرآن في شأنهم.

قال قتادة : وهذه السورة كانت تسمى الفاضحة والمبعثرة والمثيرة يعني أنها فضحت المنافقين وبعثرت عن أخبارهم وأثارتها وأسفرت عن مخازيهم ومثالبهم.

وقال ابن عباس : أنزل اللّه ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم وأسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة منه على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لأن أولادهم كانوا مؤمنين قُلِ اسْتَهْزِؤُا أمر تهديد فهو كقوله اعملوا ما شئتم إِنَّ اللّه مُخْرِجٌ أي مظهر ما تَحْذَرُونَ والمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يظهر إلى الوجود ما كان المنافقون يسترونه ويخفونه عن المؤمنين. قال ابن كيسان : نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين

وقفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبريل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قد أضمروا له وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم وكان معه عمار بن ياسر يقود ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحذيفة يسوقها فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم فضربها حذيفة حتى نحاهم عن الطريق فلما نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال لم أعرف منهم أحدا يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

فإنهم فلان وفلان حتى عدّهم كلهم فقال حذيفة هلا بعثت إليهم من يقتلهم فقال : أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيناهم اللّه بالدبيلة

(م) عن قيس بن عباد قال : قلت لعمار : أرأيت قتالكم أرأيا رأيتموه فإن الرأي يخطئ ويصيب أم عهدا عهده إليكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال ما عهد إلينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة وقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (إن في أمتي) قال شعبة وأحسبه قال حدثني حذيفة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم).

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّه وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧)

٦٥

٦٦

قوله سبحانه وتعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ الآية وسبب نزولها على ما قال زيد بن أسلم أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك : ما لقرائنا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء؟ فقال له عوف بن مالك : كذبت ولكنك منافق ولأخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. قال زيد : قال عبد اللّه بن عمر : فنظرت إليه ، يعني إلى المنافق ، متعلقة بحقب ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنكبه الحجارة يقول إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبا للّه وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ما يزيده قال محمد بن إسحاق الذي قال هذه المقالة فيما بلغني هو وديعة بن ثابت أخو أمية بن زيد بن عمرو بن عوف.

وقال قتادة : (بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع اللّه نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم على ذلك فقال نبي صلى اللّه عليه وسلم احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي اللّه إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل اللّه فيهم ما تسمعون) وقال الكلبي ومقاتل : (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين اثنان منهم يستهزئان بالقرآن والرسول والثالث يضحك) قيل كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم ما أبعده من ذلك.

وقيل : كانوا يقولون إن محمدا يزعم أنه أنزل في أصحابنا قرآن إنما هو قوله وكلامه فأطلع اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ذلك. فقال : احبسوا على الركب فدعاهم. وقال لهم : قلتم كذا وكذا فقالوا إنما كنا نخوض ونلعب ، ومعنى الآية : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين عما كانوا يقولون فيما بينهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب يعني كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعله الركب يقطعون الطريق باللعب والحديث ، وأصل الخوض : الدخول في

مائع كالماء مع الطين كثر استعماله حتى صار يستعمل في كل دخول مع تلويث وأذى قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المنافقين أَبِاللّه وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فيه توبيخ وتقريع للمنافقين وإنكار عليهم والمعنى كيف تقدمون على إيقاع الاستهزاء باللّه يعني بفرائض اللّه وحدوده وأحكامه والمراد بآياته كتابه وبرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم فيحتمل أن المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشام. قال بعض المسلمين : اللّه يعينه على ذلك فذكر بعض المنافقين كلاما يشعر بالقدح في قدرة اللّه وإنما ذكروا ذلك على طريق الاستهزاء.

قوله عز وجل : لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يعني قل لهؤلاء المنافقين لا تعتذروا بالباطل.

ومعنى الاعتذار محو أثر الموجدة من قلب المعتذر إليه.

وقيل : معنى العذر قطع اللائمة عن الجاني. قد كفرتم بعد إيمانكم : يعني الاستهزاء باللّه كفر والإقدام عليه يوجب الكفر فلهذا قال سبحانه وتعالى لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم

فإن قلت إن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فكيف قال قد كفرتم بعد إيمانكم.

قلت : معناه أظهرتم الكفر بعد ما كنتم قد أظهرتم الإيمان وذلك أن المنافقين كانوا يكتمون الكفر ويظهرون الإيمان فلما حصل ذلك الاستهزاء منهم وهو كفر قيل لهم قد كفرتم بعد إيمانكم.

وقيل : معناه قد كفرتم عند المؤمنين بعد أن كنتم عندهم مؤمنين.

وقوله سبحانه وتعالى : إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة فالواحد طائفة والاثنان طائفة. والعرب توقع لفظ الجمع على الواحد فلهذا أطلق لفظ الطائفة على الواحد.

قال محمد بن إسحاق : الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشى بن حمير الأشجعي يقال إنه هو الذي كان يضحك ولا يخوض.

وقيل : إنه كان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فكان ذنبه أخف فلما نزلت الآية تاب من نفاقه ورجع إلى الإسلام وقال : اللّهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ عني بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللّهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه

قوله سبحانه وتعالى : الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يعني أنهم على أمر واحد ودين واحد مجتمعون على النفاق والأعمال الخبيثة كما يقول الإنسان لغيره أنا منك وأنت مني أي أمرنا واحد لا مباينة فيه يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ يعني يأمر بعضهم بعضا بالشرك والمعصية وتكذيب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ يعني عن الإيمان والطاعة وتصديق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يعني عن الإنفاق في سبيل اللّه تعالى وفي كل خير نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ هذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان الحقيقي لم يستحقوا ذما عليه لأن النسيان ليس في وسع البشر دفعه وأيضا فإن النسيان في حق اللّه محال فلا بد من التأويل وقد ذكروا فيه وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صاروا بمنزلة الناسين له فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسى من ثوابه ورحمته فخرج على مزاوجة الكلام فهو كقوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.

الوجه الثاني : أن النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر اللّه وعبادته ترك الذكر لأن من ترك شيئا لم يذكره

وقيل لما تركوا طاعة اللّه والإيمان به تركهم من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته في العقبى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني هم الخارجون عن الطاعة.

وَعَدَ اللّه الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّه وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)

٦٨

٦٩

وَعَدَ اللّه الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ يقال : وعده بالخير وعدا ، ووعده بالشر وعيدا. فالوعد يكون في الخير والشر نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فيه حذف تقديره يصلونها خالدين يعني مقيمين فيها هِيَ حَسْبُهُمْ يعني هي كافيتهم جزاء على كفرهم ونفاقهم وتركهم الإيمان والطاعة وَلَعَنَهُمُ اللّه يعني وأبعدهم من رحمته وطردهم عن بابه وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم لا ينقطع.

فإن قلت قوله خالدين فيها بمعنى ولهم عذاب مقيم وهذا تكرار فما معناه؟

قلت ليس ذلك تكرارا.

وبيان الفرق من وجهين الأول أن معناه ولهم نوع آخر من العذاب المقيم سوى الصلي بالنار. ولقائل أن يقول : هذا التأويل مشكل لأنه سبحانه وتعالى قال في النار هي حسبهم وذلك يمنع من ضم شيء آخر إلى عذاب النار.

وأجيب عن هذا الإشكال بأن قوله هي حسبهم في الإيلام ولا يمتنع أن لا يحصل نوع آخر من العذاب من غير جنس النار كالزمهرير ونحوه ويكون ذلك زيادة في عذابهم.

الوجه الثاني : أن العذاب المقيم هو العذاب المعجل لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من خوف اطلاع المسلمين عليهم وما هم فيه من النفاق وكشف فضائحهم وهذا هو العذاب المقيم.

قوله سبحانه وتعالى : كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هذا رجوع عن الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم ، شبه فعل المنافقين بفعل الكفار الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة

وقيل : إنه تعالى شبه المنافقين في عدو لهم عن طاعة اللّه واتباع أمره لأجل طلب الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصف الكفار بأنهم كانوا أشد من هؤلاء المنافقين قوة وأكثر أموالا وأولادا

فقال تعالى : كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً يعني بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ يعني فتمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضا عن الآخرة والخلاق النصيب وهو ما خلق اللّه للإنسان وقدر له من خير كما يقال قسم له فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ وهذا خطاب للحاضرين يعني فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ

فإن قلت ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم إعادة ذكره في حق الأولين ثالثا.

قلت فائدته أنه يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها ورضاهم بها وتركهم النظر فيما يصلحهم في الدار الآخرة ثم شبه حال المخاطبين من المنافقين والكفار بحال من تقدمهم ثم رجع إلى ذكر حال الأولين ثالثا وهذا كما تريد أن تبكت بعض الظلمة على قبح ظلمة فتقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير حق ويعذب بغير جرم فأنت تفعل مثل ما كان يفعل فالتكرير هنا للتأكيد وتقبيح فعلهم وفعل من شابههم في فعلهم.

وقوله تعالى : وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا معطوف على ما قبله ومستند إليه يعني وسلكتم في فعلكم مثل ما سلكوا في اتباع الباطل والكذب على اللّه وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطلت أعمالهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني أن أعمالهم لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة بل يعاقبون عليها وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ والمعنى أنه كما بطلت أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون

وتخسرون

(ق). عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول اللّه اليهود والنصارى قال فمن)

قوله تعالى :

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللّه وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّه إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللّه أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)

٧٠

٧٢

أَلَمْ يَأْتِهِمْ رجع من الخطاب إلى الغيبة يعني ألم يأت هؤلاء المنافقين والكفار وهو استفهام بمعنى التقرير أي قد أتاهم نَبَأُ يعني خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأمم الماضية الذين خلوا من قبلهم كيف أهلكناهم حين خالفوا أمرنا وعصوا رسلنا ثم ذكرهم

فقال تعالى : قَوْمِ نُوحٍ يعني أنهم أهلكوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح العقيم وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلكوا بسلب النعمة وكان هلاك نمرود ببعوضة وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وهم قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ يعني المنقلبات التي جعل اللّه عاليها سافلها وهي مدائن قوم لوط.

وإنما ذكر اللّه سبحانه وتعالى هذه الطوائف الستة ، لأن آثارهم باقية وبلادهم بالشام والعراق واليمن وكل ذلك قريب من أرض العرب ، فكانوا يمرون عليهم ويعرفون أخبارهم أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالمعجزات الباهرات والحجج الواضحات الدالة على صدقهم فكذبوهم وخالفوا أمرنا كما فعلتم أيها المنافقون والكفار فاحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فتعجل لكم النقمة كما عجلت لهم فَما كانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ يعني بتعجيل العقوبة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يعني أن الذي استحقوه من العقوبة بسبب ظلمهم أنفسهم.

قوله عز وجل : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لما وصف اللّه المنافقين بالأعمال الخبيثة والأحوال الفاسدة ثم ذكر بعده ما أعد لهم من أنواع الوعيد في الدنيا والآخرة عقبه بذكر أوصاف المؤمنين وأعمالهم الحسنة وما أعد لهم من أنواع الكرامات والخيرات في الدنيا والآخرة

فقال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يعني الموالاة في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة.

فإن قلت : إنه سبحانه وتعالى قال في وصف المنافقين : بعضهم من بعض وقال في وصف المؤمنين :

بعضهم أولياء بعض فما الفائدة في ذلك.

قلت : لما كان نفاق الأتباع وكفرهم إنما حصل بتقليد المتبوعين وهم الرؤساء والأكابر وحصل بمقتضى الطبيعة أيضا قال فيهم بعضهم من بعض ولما كانت الموافقة الحاصلة بين المؤمنين بتسديد اللّه وتوفيقه وهدايته لا بمقتضى الطبيعة وهوى النفس وصفهم بأن بعضهم أولياء بعض فظهر الفرق بين الفريقين وظهرت الفائدة.

وقوله سبحانه وتعالى : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني بالإيمان باللّه ورسوله واتباع أمره والمعروف كل ما عرف في الشرع من خير وبر وطاعة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك والمعصية والمنكر كل ما ينكره الشرع وينفر منه الطبع وهذا في مقابلة ما وصف به المنافقون وضده وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني الصلاة المفروضة

ويتممون أركانها وحدودها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني الواجبة عليهم وهو في مقابلة ويقبضون أيديهم وَيُطِيعُونَ اللّه وَرَسُولَهُ يعني فيما يأمرهم به وهو في مقابلة نسوا اللّه فنسيهم أُولئِكَ يعني المؤمنين والمؤمنات الموصوفين بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللّه لما ذكر اللّه ما وعد به المنافقين من العذاب في نار جهنم ذكر ما وعد به المؤمنين والمؤمنات من الرحمة والرضوان وما أعد لهم في الجنان والسين في قوله سيرحمهم اللّه للمبالغة والتوكيد إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ وهذا يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو الذي لا يمتنع عليه شيء أراده فهو قادر على إيصال العقوبة لمن أراد والحكيم هو الذي يدبر عباده على ما يقتضيه العدل والإنصاف وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لما ذكر اللّه في الآيات المتقدمة وعيد المنافقين وما أعد لهم في نار جهنم من العذاب ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية ما وعد به المؤمنين من الخير والثواب والمراد بالجنات التي تجري من تحتها الأنهار البساتين التي يتحير في حسنها الناظر لأنه سبحانه وتعالى قال ومساكن طيبة في جنات عدن والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون جنات عدن هي المساكن التي يسكنونها والجنات الأخر هي البساتين التي يتنزهون فيها فهذه فائدة المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه والفرق بينهما وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يعني ومنازل يسكنونها طيبة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ يعني في بساتين خلد وإقامة يقال عدن بالمكان إذا أقام به.

روى الطبري بسنده عن عمران بن حصين وأبي هريرة قال : (سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية ومساكن طيبة في جنات عدن قال : قصر من لؤلؤة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين)

وفي رواية : كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من طعام وفي كل بيت سبعون وصيفة ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع) وروي بسنده عن أبي الدرداء قال : (قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عدن داره يعني دار اللّه التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وهي مسكنه ولا يسكنها مع بني آدم غير ثلاثة النبيين والصديقين والشهداء يقول اللّه عز وجل طوبى لمن دخلك) هكذا رواه الطبري فإن صحت هذه الرواية فلا بد من تأويلها فقوله عدن داره يعني دار اللّه وهو من باب حذف المضاف تقديره عدن دار أصفياء اللّه تعالى التي أعدها لأوليائه وأهل طاعته والمقربين من عباده.

عن أبي موسى الأشعري : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلى رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) أخرجه البخاري ومسلم. وقال عبد اللّه بن مسعود : عدن بطنان الجنة يعني وسطها. وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص :

إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.

وقال عطاء بن السائب : عدن نهر في الجنة خيامه على حافتيه ، وقال مقاتل والكلبي : عدن أعلى درجة في الجنة فيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من حين خلقها اللّه حتى ينزلها أهلها وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء اللّه وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأبيض.

قال الإمام فخر الدين الرازي : حاصل هذا الكلام أن في جنات عدن قولين :

أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار تقوي هذا القول قال صاحب الكشاف وعدن علم بدليل قوله (جنات عدن التي وعد الرحمن عباده)

والقول الثاني إنه صفة للجنة.

قال الأزهري : العدن مأخوذ من قولك : عدن بالمكان إذا أقام به. يعدن عدوانا فبهذا الاشتقاق قالوا :

الجنات كلها جنات عدن.

وقوله سبحانه وتعالى : وَرِضْوانٌ مِنَ اللّه أَكْبَرُ يعني أن رضوان اللّه الذي ينزله عليهم أكبر من كل ما سلف ذكره من نعيم الجنة ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما تقدم ذكره من نعيم الجنة والرضوان

(ق) عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (إن اللّه تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون ومالنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبدا).

٧٣

٧٤

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللّه ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّه عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)

قوله سبحانه وتعالى : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ يعني بالسيف والمحاربة والقتال وَالْمُنافِقِينَ يعني وجاهد المنافقين واختلفوا في صفة جهاد المنافقين وسبب هذا الاختلاف أن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام ولما كان الأمر كذلك لم تجز مجاهدته بالسيف والقتال لإظهاره الإسلام فقال ابن عباس : أمر اللّه سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وإذهاب الرفق عنهم وهذا قول الضحاك أيضا وقال ابن : مسعود بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه.

وقال الحسن وقتادة : بإقامة الحدود عليهم يعني إذا تعاطوا أسبابها وهذا القول فيه بعد لأن إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق وإنما قال الحسن وقتادة ذلك لأن غالب من كان يتعاطى أسباب الحدود فتقام عليهم في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم المنافقون.

قال الطبري : وأولى الأقوال قول ابن مسعود لأن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وقد دلت الآية على وجوب جهاد المنافقين وليس في الآية ذكر كيفية ذلك الجهاد فلا بد من دليل آخر وقد دلت الدلائل المنفصلة أن الجهاد مع الكفار إنما يكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة عليهم تارة وبترك الرفق بهم تارة وبالانتهار تارة وهذا هو قول ابن مسعود وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يعني شدد عليهم بالجهاد والإرهاب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ بمعنى أن جهنم مسكنهم وبئس المصير مصيرهم إليها.

فإن قلت كيف ترك النبي صلى اللّه عليه وسلم المنافقين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم وبحالهم.

قلت : إنما أمر اللّه عز وجل نبيه سيدنا محمدا صلى اللّه عليه وسلم بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام على إظهارها.

فأما من تكلم بالكفر في السر فإذا اطلع عليه أنكره ورجع عنه وقال : إني مسلم فإنه يحكم بإسلامه في الظاهر في حقن دمه وماله وولده وإن كان معتقدا غير ذلك في الباطن لأن اللّه سبحانه وتعالى أمر بإجراء الأحكام على الظواهر فلذلك أجرى النبي صلى اللّه عليه وسلم المنافقين على ظواهرهم ووكل سرائرهم إلى اللّه سبحانه وتعالى لأنه العالم بأحوالهم وهو يجازيهم في الآخرة بما يستحقون.

قوله عز وجل : يَحْلِفُونَ بِاللّه ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقال عروة بن الزبير : نزلت في الجلاس بن سويد أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء.

فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب : أما واللّه يا عدو اللّه لأخبرن النبي صلى اللّه عليه وسلم بما قلت وخفت أن ينزل في القرآن أو أن تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ف

قلت : يا رسول اللّه أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئته أو تصيبني قارعة ما أخبرتك. قال : فدعا الجلاس ، فقال له : يا جلاس أقلت ما قال مصعب؟ فحلف ما قال ، فأنزل اللّه عز وجل : يَحْلِفُونَ بِاللّه ما قالُوا ، الآية.

وروي عن مجاهد ونحوه. وقال ابن عباس : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال : إنه سيأتينكم إنسان فينظر إليكم بعين الشيطان فإذا جاء فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال :

علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا باللّه ما قالوا وما فعلوا حتى تجاوز عنه فأنزل اللّه عز وجل : يَحْلِفُونَ بِاللّه ما قالُوا. ثم نعتهم جميعا إلى آخر الآية.

وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا

أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهني فقال عبد اللّه بن أبي بن سلول للأوس : انصروا أخاكم فو اللّه ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فحلف باللّه ما قال فأنزل اللّه هذه الآية ، هذه روايات الطبري.

وذكر البغوي عن الكلبي قال : نزلت في الجلاس بن سويد وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين وسماهم رجسا وعابهم فقال الجلاس : لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس. فقال الجلاس : كذب يا رسول اللّه عليّ فأمرهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف باللّه الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب على عامر ثم قام عامر فحلف باللّه الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يده إلى السماء فقال : اللّهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون آمين فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فإن يتوبوا يك خيرا لهم فقام الجلاس فقال : يا رسول اللّه أسمع اللّه قد عرض علي التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وأنا أستغفر اللّه وأتوب إليه فقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه فتاب وحسنت توبته فذلك

قوله سبحانه وتعالى : يَحْلِفُونَ بِاللّه ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ يعني أظهروا كلمة الكفر بعد إسلامهم وتلك الكلمة هي سب النبي صلى اللّه عليه وسلم فقيل : هي كلمة الجلاس بن سويد لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير

وقيل هي كلمة عبد اللّه بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وستأتي القصة في موضعها في سورة المنافقين إن شاء اللّه تعالى.

قوله سبحانه وتعالى : وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قال مجاهد : همّ الجلاس بقتل الذي سمع مقالته خشية أن يفشيها عليه

وقيل همّ عبد اللّه بن أبي بن سلول وكان همه قوله لئن رجعنا إلى المدينة فلم ينله

وقيل : همّ اثنا عشر رجلا من المنافقين بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوقفوا على العقبة وقت رجوعه من تبوك ليقتلوه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأرسل حذيفة لذلك.

وقال السدي : قال المنافقون إذا رجعنا إلى المدينة عقدنا على رأس عبد اللّه بن أبي بن سلول تاجا فلم يصلوا إليه وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني وما أنكروا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا إلا أن أغناهم اللّه ورسوله من فضله والمعنى أن المنافقين عملوا بضد الواجب فجعلوا موضع شكر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن نقموا عليه

وقيل إنهم بطروا النعمة فنقموا أشرا وبطرا وقال ابن قتيبة : معناه ليس ينقمون شيئا ولا يتعرفون إلا الصنع وهذا كقول الشاعر :

ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا

وهذا ليس مما ينقم وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا فهو كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي ليس فيهم عيب.

قال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم استغنوا بالغنائم.

فعلى هذا القول يكون الكلام عاما. وقال عروة : كان الجلاس قتل له مولى فأمر له النبي صلى اللّه عليه وسلم بديته فاستغنى.

وقال قتادة : كانت لعبد اللّه بن أبي دية فأخرجها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له. وقال عكرمة : إن مولى لبني عدي قتل رجلا من الأنصار فقضى له النبي صلى اللّه عليه وسلم بالدية اثني عشر ألفا وفيه نزلت وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللّه وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ يعني : فإن يتوبوا من كفرهم ونفاقهم يك ذلك خيرا لهم في العاجل والآجل وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعني وإن يعرضوا عن الإيمان والتوبة ويصروا على النفاق والكفر يُعَذِّبْهُمُ اللّه عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا يعني بالخزي والإذلال وَالْآخِرَةِ أي ويعذبهم في الآخرة بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني وليس لهم أحد يمنعهم من عذاب اللّه أو ينصرهم في الدنيا والآخرة.

وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)

قوله سبحانه وتعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية.

روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي أمامة الباهلي قال : (جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أمالك في رسول اللّه أسوة حسنة والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه بعد ذلك فقال : يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا والذي بعثك بالحق لئن رزقني اللّه مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : اللّهم ارزق ثعلبة مالا. قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما ينمو الدود فكان يصلي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الظهر والعصر ويصلي في غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة أيضا حتى صار لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم جمعة خرج فتلقى الناس يسألهم عن الأخبار فذكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فقال : ما فعل ثعلبة؟ فقالوا : يا رسول اللّه اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة.

فأنزل اللّه سبحانه وتعالى آية الصدقة ، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا من بني سليم ورجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما : مرا على ثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بها السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأياها قالا : ما هذه عليك. قال : خذاها فإن نفسي بذلك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية اذهبا حتى أرى رأيي. قالا : فأقبلا فلما رآهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال قبل أن يتكلما : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة فأنزل اللّه سبحانه وتعالى فيه : وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّه لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الآية إلى

قوله سبحانه وتعالى : وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة

فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة لقد أنزل اللّه فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن اللّه منعني أن أقبل منك صدقتك ، فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فلما أبى أن يقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقته رجع إلى منزله وقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتى أبا بكر فقال : اقبل صدقتي. فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنا لا أقبلها. فقبض أبو بكر ولم يقبلها منه فلما ولي عمر أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها منك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا أبو بكر فأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها. ثم ولي عثمان فأتاه فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان). وأخرجه الطبري أيضا بسنده. قال بعض العلماء : إنما لم يقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة ثعلبة ، لأن اللّه سبحانه وتعالى منعه من قبولها منه مجازاة له على إخلافه ما وعد اللّه عليه وإهانة له على قوله : إنما هي جزية أو أخت الجزية ، فلما صدر هذا القول منه ردت صدقته عليه إهانة له وليعتبر غيره فيه فلا يمتنع من بذل الصدقة عن طيب نفس بإخراجها ويرى أنها واجبة عليه وأنه يثاب على إخراجها ويعاقب على منعها.

وقال ابن عباس : إن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني اللّه من فضله آتيت منه كل ذي حق حقه وتصدقت منه ووصلت القرابة فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد اللّه عليه فأنزل اللّه فيه هذه الآية. وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير وهما من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا لئن رزقنا اللّه من فضله لنصدقن فلما رزقهما اللّه بخلا به. وقال ابن السائب : إن حاطب بن أبي بلتعة (١) كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف باللّه لئن آتاني اللّه من فضله يعني ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن فلما آتاه ذلك المال لم يف بما عاهد اللّه عليه فنزلت هذه الآية وحاصله أن ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد اللّه لئن آتاه من فضله ليصدقن وليفعلن فيه أفعال الخير والبر والصلة فلما آتاه اللّه من فضله ما سأل لم يف بما عاهد اللّه عليه ومعنى الآية ومن المنافقين من أعطى اللّه عهدا لئن رزقنا من فضله بأن يوسع علينا في الرزق لنصدقن يعني لنتصدقن ولنخرجن من ذلك المال صدقته وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني : ولنعملن في ذلك المال ما يعمله أهل الصلاح بأموالهم من صلة الأرحام والإنفاق في سبيل اللّه وجميع وجوه البر والخير وإخراج الزكاة وإيصالها إلى أهلها والصالح ضد المفسد والمفسد هو الذي يبخل بما يلزمه في حكم الشرع.

وقيل : إن المراد بقوله لنصدقن ، إخراج الزكاة الواجبة.

وقوله : ولنكونن من الصالحين إشارة إلى كل ما يفعله أهل الصلاح على الإطلاق من جميع أعمال البر والطاعة.

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦)

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ يعني فلما رزقهم اللّه لم يفعلوا من أعمال البر شيئا وَتَوَلَّوْا يعني عما عاهدوا اللّه عليه وَهُمْ مُعْرِضُونَ يعني عن العهد.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّه ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللّه عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩)

٧٧

٧٩

(١) قوله إن حاطب إلخ لم يذكر البغوي هذا القول وأصاب فإن حاطبا مهاجري بدري وفضل آل بدر لا يخفى ا ه.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ يعني فأعقبهم اللّه نفاقا بأن صيرهم منافقين يقال أعقبت فلانا ندامة إذا صارت عاقبة أمره إلى ذلك

وقيل معناه أنه سبحانه وتعالى عاقبهم بنفاق قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يعني أنه سبحانه وتعالى حرمهم التوبة إلى يوم القيامة فيوافونه على النفاق فيجازيهم عليه بِما أَخْلَفُوا اللّه ما وَعَدُوهُ يعني الصدقة والإنفاق في سبيله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ يعني في قولهم لنصدقن ولنكونن من الصالحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة

وفي رواية خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر) قال الشيخ محيي الدين النووي : هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلا من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق مخلد في النار فإن إخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال وكذا قد يوجد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذا أو كله.

قال الشيخ : هذا ليس بحمد اللّه إشكالا ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في هذه الخصال ويتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا موجود في صاحب هذه الخصال فيكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي صلى اللّه عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى اللّه عليه وسلم كان منافقا خالصا معناه كان شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من ندر ذلك منه فليس ذلك حاصلا فيه هذا هو المختار في معنى الحديث.

وقال جماعة من العلماء : المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخافوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه أيضا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال القاضي عياض : وإليه مال أكثر أئمتنا. وحكى الخطابي قولا آخر : إن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال وحكى أيضا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقولا فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله صلى اللّه عليه وسلم : (ما بال أقوام يفعلون كذا) واللّه أعلم. وقال الإمام فخر الدين الرازي : ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد اللّه في أمر فليجتهد في الوفاء به.

وقوله سبحانه وتعالى : أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني هؤلاء المنافقين أَنَّ اللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ يعني ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق وَنَجْواهُمْ يعني ويعلم ما يفاوض به بعضهم بعضا فيما بينهم والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم والمعنى أنهم يعلمون أن اللّه يعلم جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها وَأَنَّ اللّه عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا مبالغا في العلم يعني أن اللّه عالم بجميع الأشياء فكيف تخفى عليه أحوالهم.

قوله عز وجل : الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ الآية

(ق) عن أبي مسعود البدري قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن اللّه لغني عن صاع هذا فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حث على الصدقة ، فجاء

عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول اللّه مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل اللّه وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك اللّه في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : يا رسول اللّه بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت

أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينثره في الصدقات فلمزهم المنافقون.

فقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن اللّه ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل اللّه سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بواجب عليه وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم

وقيل : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعا عند اللّه تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند اللّه تعالى كما قال سبحانه وتعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة اللّه تعالى وطاعة رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو قولهم لقد كان اللّه عن صدقة هؤلاء غنيا وكانوا يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون : إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند اللّه من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به و

قوله سبحانه وتعالى : سَخِرَ اللّه مِنْهُمْ يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو

قوله تعالى : وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الآخرة.

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّه وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)

٨٠

٨٢

قوله سبحانه وتعالى : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ قال المفسرون : لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وبان نفاقهم وظهر للمؤمنين جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه ويقولون استغفر لنا فنزلت استغفر لهم أو لا تستغفر فلن يغفر اللّه لهم وإنما خص سبحانه وتعالى السبعين من العدد بالذكر لأن العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما صلى على عمه حمزة رضي اللّه تعالى عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبعة وهو عدد شريف فإن السموات والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم السيارة سبع فلهذا خص اللّه تبارك وتعالى السبعين بالذكر للمبالغة في اليأس من طمع المغفرة لهم. قال الضحاك ولما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل اللّه أن يغفر لهم فأنزل اللّه سبحانه وتعالى سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلن يغفر اللّه لهم

(ق) عن ابن عمر قال : لما توفي عبد اللّه يعني بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إنما خيرني اللّه عز وجل

فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين قال إنه منافق فصلى عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه عز وجل ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون زاد في رواية فترك الصلاة عليهم.

وقوله سبحانه وتعالى : ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ يعني أن هذا الفعل من اللّه وهو ترك العفو عنهم وترك المغفرة لهم من أجل أنهم اختاروا الكفر على الإيمان باللّه ورسوله وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعني واللّه لا يوافق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة اللّه وطاعة رسوله.

قوله عز وجل : فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّه يعني فرح المتخلفون عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بمقعدهم يعني بقعودهم في المدينة خلاف رسول اللّه يعني بعده وعلى هذا المعنى خلاف بمعنى خلف فهو اسم للجهة المعينة لأن الإنسان إذا توجه إلى قدامه فمن تركه خلفه فقد تركه بعده

وقيل معناه مخالفة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين سار إلى تبوك وأقاموا بالمدينة لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قد أمرهم بالخروج إلى الجهاد فاختاروا القعود مخالفة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو

قوله سبحانه وتعالى : وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّه والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الخروج إلى الجهاد وذلك أن الإنسان يميل بطبعه إلى إيثار الراحة والقعود مع الأهل والولد ويكره إتلاف النفس والمال وهو

قوله سبحانه وتعالى : وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر فأجاب اللّه عن هذا ب

قوله سبحانه وتعالى : قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعني : قل يا محمد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر أن نار جهنم التي هي موعد في الآخرة أشد حرا من حر الدنيا لو كانوا يعلمون. قال ابن عباس : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف.

فقال رجال : يا رسول اللّه الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فقال اللّه عز وجل قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فأمره اللّه تعالى بالخروج فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا يعني فليضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرحين قليلا في الدنيا الفانية بمقعدهم خلافه وَلْيَبْكُوا كَثِيراً يعني مكان ضحكهم في الدنيا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار والمعنى : أنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني إن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيثة في الدنيا

(خ). عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا) فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت).

فَإِنْ رَجَعَكَ اللّه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)

٨٣

٨٥

قوله سبحانه وتعالى : فَإِنْ رَجَعَكَ اللّه يعني فإن ردك اللّه يا محمد من غزاتك هذه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ

يعني إلى المتخلفين عنك وإنما قال منهم لأنه ليس كل من تخلف بالمدينة عن غزوة تبوك كان منافقا مثل أصحاب الأعذار فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يعني فاستأذنك المنافقون الذين تخلفوا عنك وتحقق نفاقهم في الخروج معك إلى غزوة أخرى فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً يعني فقل يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج وهم مقيمون على نفاقهم لن تخرجوا معي أبدا لا إلى غزوة ولا إلى سفر وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ يعني لأنكم رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني أنكم رضيتم بالتخلف عن غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ يعني : مع المتخلفين من النساء والصبيان.

وقيل : مع المرضى والزمنى. وقال ابن عباس : مع الذين تخلفوا بغير عذر.

وقيل : مع المخالفين يقال صاحب خالف إذا كان مخالفا كثير الخلاف وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته لأن اللّه سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الجهاد وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات.

قوله عز وجل : وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية ، قال قتادة : بعث عبد اللّه بن أبي بن سلول إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو مريض ليأتيه قال فنهاه عمر عن ذلك فأتاه نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما دخل عليه نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : أهلكك حب اليهود فقال يا نبي اللّه إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه فأعطاه إياه واستغفر له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات فكفنه في قميصه صلى اللّه عليه وسلم ونفث في جلده ودلاه في قبره فأنزل اللّه سبحانه وتعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره الآية

(خ).

عن عمر بن الخطاب : قال لما مات عبد اللّه بن أبي بن سلول دعى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول اللّه أتصلي عليه فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول اللّه أتصلي على ابن أبي بن سلول وقد قال يوم كذا كذا وكذا عدد عليه قوله فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال : أخر عني يا عمر فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها قال فصلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إلى قوله وهم فاسقون قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ واللّه ورسوله أعلم. وأخرجه الترمذي وزاد فيه فما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه اللّه تعالى

(ق) عن جابر قال : أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه واللّه أعلم. قال : وكان كسا عباسا قميصا قال سفيان وقال أبو هارون :

وكان على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قميصان فقال له ابن عبد اللّه يا رسول اللّه ألبس عبد اللّه قميصك الذي يلي جلدك. قال سفيان : فيرون أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أليس عبد اللّه قميصه مكافأة لما صنع

وفي رواية عن جابر قال : لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى اللّه عليه وسلم له قميصا فوجدوا قميص عبد اللّه بن أبي يقدر عليه فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي صلى اللّه عليه وسلم قميصه الذي ألبسه.

( (فصل)) قد وقع في هذه الأحاديث التي تتضمن قصة موت عبد اللّه بن أبي بن سلول المنافق صورة اختلاف في الروايات ففي حديث ابن عمر المتقدم ، أنه لما توفي عبد اللّه بن أبي بن سلول أتى ابنه عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه وصلى عليه وفي حديث عمر بن الخطاب من إفراد البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعى له ليصلي عليه. وفي حديث جابر : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاه بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه. قميصه ووجه الجمع بين هذه الروايات أنه صلى اللّه عليه وسلم

أعطاه قميصه فكفن فيه ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم صلى عليه وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه فالظاهر واللّه أعلم أنه صلى عليه أولا كما في حديث عمر وابن عمر ثم إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه ثانيا بعد ما أدخل حفرته فأخرجه منها ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه لينفث عليه من ريقه ثم إنه صلى اللّه عليه وسلم ألبسه قميصه بيده الكريمة فعل هذا كله بعبد اللّه بن أبي تطيبا لقلب ابنه عبد اللّه فإنه كان صحابيا مسلما صالحا مخلصا ،

وأما قول قتادة : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاده في مرضه وأنه سأله أن يستغفر له وأن يعطيه قميصه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه واستغفر له وصلى عليه ونفث في جلده ودلاه في حفرته فهذه جمل من القول ظاهرها الترتيب وما المراد بهذا الترتيب إلا توفيقا بين الأحاديث فيكون قوله : ونفث في جلده ودلاه في قبره جملة منقطعة عما قبلها. يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم فعل ذلك بعد ما أعطاه القميص وبعد أن صلى عليه واللّه أعلم. وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم له أن عبد اللّه بن أبي بن سلول كان سيد الخزرج في آخر جاهليتهم فلما ظهر النبي صلى اللّه عليه وسلم وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة غير أن الإسلام غلب عليه فنافق وكان رأسا في المنافقين وأعظمهم نفاقا وأشدهم كفرا وكان المنافقون كثيرا حتى لقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة وكان ولده عبد اللّه يعني ولد عبد اللّه بن أبي من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاما وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدرا وكان أبر الناس بأبيه ومع ذلك فقد قال يوما للنبي صلى اللّه عليه وسلم : يا رسول اللّه إنك لتعلم أني من أبر الناس بأبي وإن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

بل نعفو عنه وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه وعلى أن ينتفع من بركات النبي صلى اللّه عليه وسلم بشيء ولذلك لما مات أبوه سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فينال من بركته فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه كل ذلك إكراما لابنه عبد اللّه وإسعافا له ولطلبته من قول عمر تصلي عليه وقد نهاك اللّه أن تصلي عليه يحتمل أن يكون قبل نزول ولا تصل على أحد منهم مات أبدا. ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن اللّه نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي صلى اللّه عليه وسلم.

ويحتمل أن يكون فهمه من سياق قوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وهذان التأويلان فيهما بعد. قال القرطبي : والذي يظهر لي ، واللّه أعلم ، أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقه سياقة هي أبين من هذه وليس فيها هذا اللفظ فقال عن ابن عباس عن عمر لما مات عبد اللّه بن أبي بن سلول دعى له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عمر : وثبت إليه الحديث ، إلى قوله فصلى عليه ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيرا حتى أنزلت عليه الآيتان من براءة. قال القرطبي : وهذا مساق حسن وتنزيل متقن ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم فهو الأولى وقوله صلى اللّه عليه وسلم : سأزيد على السبعين وعد بالزيادة وهو مخالف لما في حديث ابن عباس عن ابن عمر فإن فيه لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضا ويقيد بعضها بعضا فلذلك قال لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت فقد علم أنه لا يغفر له. وقوله صلى اللّه عليه وسلم : إني خيرت مشكل مع

قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافرا وهو متقدم على الآية التي فيها التخيير والجواب عن هذا الإشكال أن المنهي عنه استغفاره لمن تحقق موته على الكفر والشرك.

وأما استغفاره لأولئك المنافقين المخير فيهم فهو قد علم صلى اللّه عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع وغايته وإن وقع كان تطييبا لقلوب الأحياء من قراباتهم فانفصل الاستغفار المنهي عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال بحمد اللّه واللّه أعلم.

وقال الشيخ محيي الدين النووي : إنما أعطاه قميصه ليكفنه فيه تطييبا لقلب ابنه عبد اللّه فإنه كان صحابيا صالحا وقد سأل ذلك فأجابه إليه

وقيل بل أعطاه مكافأة لعبد اللّه بن أبي المنافق الميت لأنه ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصا وفي الحديث بيان مكارم أخلاق النبي صلى اللّه عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء له

وقابله بالحسنى وألبسه قميصه كفنا وصلى عليه واستغفر له قال اللّه سبحانه وتعالى وإنك لعلى خلق عظيم وقال البغوي : قال سفيان بن عيينة كانت له يد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأحب أن يكافئه بها ويروى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد اللّه بن أبي فقال صلى اللّه عليه وسلم : وما يغني عنه قميصي وصلاتي من اللّه واللّه إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه.

فيروى أنه أسلم ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى اللّه عليه وسلم.

وقوله سبحانه وتعالى : وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ يعني لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّه وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره ولما نزلت هذه الآية ما صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على منافق ولا قام على قبره وبعدها.

فإن قلت : الفسق أدنى حالا من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافرا دخل تحته الفسق وغيره فما الفائدة في وصفه بكونه فاسقا بعد ما وصفه بالكفر قلت إن الكافر قد يكون عدلا في نفسه بأن يؤدي الأمانة ولا يضمر لأحد سوءا وقد يكون خبيثا في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير وهذا أمر مستقبح عند كل أحد ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر.

قوله تعالى : وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللّه أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ الكلام على هذه الآية في مقامين المقام الأول في وجه التكرار والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل أولا وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بال ولا يغفل عنه ولا ينساه وأن يعتقد أن العمل به مهم وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه وهو أن أشد الأشياء جذبا للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى وبالجملة فالتكرير يراد به التأييد والمبالغة في التحذير من ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به

وقيل أيضا إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوما من المنافقين كان لهم أموال وأولاد عند نزولها وبالآية الأخرى أقواما آخرين منهم المقام الثاني في وجه بيان ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك بالفاء وقال هنا ولا تعجبك بالواو والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله ولا ينفقون إلا وهم كارهون وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء في قوله فلا تعجبك

وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بحرف الواو وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وأسقط حرف لا هنا قال سبحانه وتعالى وأولادهم والسبب فيه أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد وكان إعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى إنما يريد اللّه ليعذبهم بحرف اللام وقال سبحانه وتعالى هنا أن يعذبهم بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على

أن التعليل في أحكام اللّه محال وأنه أينما ورد حرف اللام فمعناه أن ك

قوله سبحانه وتعالى وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه ومعناه وما أمروا إلا بأن يعبدوا اللّه وقال تبارك وتعالى في الآية الأولى في الحياة الدنيا وقال تعالى هنا في الدنيا والفائدة في إسقاط لفظة الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث أنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيها على كمال دنائتها فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه.

وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّه وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللّه لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّه وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)

٨٦

٨٩

قوله عز وجل : وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يحتمل أن يراد بالسورة بعضها لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز ويحتمل أن يراد جميع السورة ، فعلى هذا المراد بالسورة براءة لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان والأمر بالجهاد أَنْ أي بأن آمِنُوا بِاللّه وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ.

فإن قلت : كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين فهو من باب تحصيل الحاصل

قلت : معناه الأمر بالدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل.

وقيل : إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد في كل ساعة.

وقيل : إن هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون والمعنى أن أخلصوا الإيمان باللّه وجاهدوا مع رسوله وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلا فكأنه قيل للمنافقين : الواجب عليكم أن تؤمنوا باللّه أولا وتجاهدوا مع رسوله ثانيا حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة.

وقوله سبحانه وتعالى : اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ قال ابن عباس : يعني أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال

وقيل : هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم وفي تخصيص أولى الطول بالذكر قولان :

أحدهما أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد.

والقول الثاني : إنما خص أولي الطول بالذكر لأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان وَقالُوا يعني أولي الطول ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ يعني في البيوت مع النساء والصبيان

وقيل مع المرضى والزمنى رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قيل : الخوالف النساء اللواتي يتخلفن في البيوت فلا يخرجن منها ، والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء

وقيل : خوالف جمع خالفة وهم أدنياء الناس وسفلتهم يقال فلان خالفة قومه إذا كان دونهم وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ يعني : وختم على قلوب هؤلاء المنافقين فهم لا يفقهون مراد اللّه في الأمر بالجهاد.

قوله سبحانه وتعالى : لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم يعني الرسول والمؤمنين وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة

وقيل الحور لقوله فيهن خيرات حسان وهي جمع خيرة تخفيف خيرة وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطالب.

قوله سبحانه وتعالى : أَعَدَّ اللّه لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.

قوله سبحانه وتعالى : وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ يعني وجاء المعتذرون من أعراب البوادي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتذرون إليه في التخلف عن الغزو معه. قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معتذرين إليه دفاعا عن أنفسهم فقالوا يا نبي اللّه إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قد أنبأني اللّه من أخباركم وسيغنى اللّه عنكم.

وقيل : هم نفر من بني غفار رهط خفاف بن إيماء بن رحضة.

وقيل : هم من أسد وغطفان. وقال ابن

عباس هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وجاء المعذرون : أي المقصرون. يعني : أنهم قصروا ولم يبالغوا فيما اعتذروا به والمعذر من يرى أن له عذرا ولا عذر له.

وقيل : إن الأصل في هذا اللفظ عند النحاة المعتذرون أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما والاعتذار في كلام العرب على قسمين يقال اعتذر إذا كذب في عذره ومنه

قوله تعالى يعتذرون إليكم فرد اللّه عليهم بقوله قل لا تعتذروا فدل ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه ويقال اعتذر إذا أتى بعذر صحيح ومنه قول لبيد :

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر.

يعني فقد جاء بعذر صحيح.

وقيل : هو من التعذير الذي هو التقصير. يقال : عذر تعذيرا إذا قصر ولم يبالغ فعلى هذا المعنى ، يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسرين من قال : إنهم كانوا صادقين ، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعده وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللّه وَرَسُولَهُ فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دلّ ذلك على أنهم ليسوا كاذبين ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام ، قال : إن قوما تكلفوا عذرا بباطل فهم الذين عناهم اللّه تعالى بقوله وجاء المعذرون وتخلف آخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جرأة على اللّه تعالى فهم المراد بقوله وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله وهم منافقو الأعراب الذين ما جاءوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا اللّه ورسوله يعني في ادعائهم الإيمان سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال منهم لأنه سبحانه وتعالى علم أن منهم من سيؤمن ويخلص في إيمانه فاستثناهم اللّه من المنافقين الذين أصروا على الكفر والنفاق وماتوا عليه.

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا للّه وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل ٍ وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)

٩٢

٩٣

قوله عز وجل لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد واعتذروا بأعذار باطلة عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقية الصحيحة وعذرهم وأخبر أن فرض الجهاد عنهم ساقط فقال سبحانه وتعالى : ليس على الضعفاء والضعيف هو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو وتحمل مشاق السفر والجهاد مثل الشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفا نحيفا ويدل على أن هؤلاء الأصناف هم الضعفاء أن اللّه سبحانه وتعالى عطف عليهم المرضى فقال سبحانه وتعالى : وَلا عَلَى الْمَرْضى والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فأما المرضى فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ يعني الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد ، فلا يجدون الزاد والراحلة والسلاح ومؤنة السفر لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج أي إثم في التخلف عن الغزو. وقال الإمام فخر الدين الرازي : ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم فإن ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطا معينا و

قوله سبحانه وتعالى : إِذا نَصَحُوا للّه وَرَسُولِهِ

ومعناه : أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو وقاموا بمصالح بيوتهم وأخلصوا الإيمان والعمل للّه وتابعوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن جملة هذه الأمور تجري مجرى النصح للّه ورسوله ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس على من أحسن فنصح للّه ولرسوله في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه والمعنى أنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه ويستنبط من قوله ما على المحسنين من سبيل أن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه مخلصا من قلبه ليس عليه سبيل في نفسه وماله إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل وَاللّه غَفُورٌ يعني لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع رَحِيمٌ يعني : أنه تعالى رحيم بجميع عباده.

قال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاك : نزلت في عبد اللّه بن أم مكتوم وكان ضرير البصر ولما ذكر اللّه عز وجل هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين أتبعه بذكر قسم رابع وهو

قوله تعالى : وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ يعني ولا حرج ولا إثم في التخلف عنك على الذين إذا ما أتوك لِتَحْمِلَهُمْ يعني يسألونك الحملان ليبلغوا إلى غزو عدوك وعدوهم والجهاد معك يا محمد. قال ابن إسحاق :

نزلت في البكائين وكانوا سبعة. ونقل الطبري عن محمد بن كعب وغيره قالوا : جاء ناس من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستحملونه فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فأنزل اللّه هذه الآية وهم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف جرمي بن عمير ومن بني مازن ابن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد وهو الذي تصدق بعرضه فقبل اللّه منه ذلك ومن بني سلمة عمرو بن عنمة وعبد اللّه بن عمر المزني.

وقال البغوي : هم سبعة نفر سموا البكائين معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء ، وعبد اللّه بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن عنمة ، وعبد اللّه بن مغفل المزني. قال : أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : يا رسول اللّه إن اللّه عز وجل قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا. فقال : لا أجد ما أحملكم عليه. وقال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بنو مقرن.

وقيل :

نزلت في العرباض بن سارية ، ويحتمل أنها نزلت في كل ما ذكر.

قال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب.

وقيل : بل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : لا أجد ما أحملكم عليه ، فولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين. فذلك

قوله سبحانه وتعالى : قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ قال صاحب الكشاف :

وكقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ومن البيان كقولك أفديك من رجل حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ يعني على أنفسهم في الجهاد إِنَّمَا السَّبِيلُ لما قال اللّه سبحانه وتعالى : ما على المحسنين من سبيل. قال تعالى في حق من يعتذر ولا عذر له إنما السبيل يعني إنما يتوجه الطريق بالعقوبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمد في التخلف عنك والجهاد معك وَهُمْ أَغْنِياءُ يعني قادرين على الخروج معك رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ يعني رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان والقعود معهم وَطَبَعَ اللّه عَلى قُلُوبِهِمْ يعني ختم عليها فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو

وأما في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع.

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّه عَلى رَسُولِهِ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨)

٩٤

٩٨

قوله سبحانه وتعالى : يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ يعني يعتذر هؤلاء المنافقون المتخلفون عنك يا محمد إليك وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيما له صلى اللّه عليه وسلم ويحتمل أنهم اعتذروا إليه وإلى المؤمنين فلهذا قال تعالى يعتذرون إليكم يعني بالأعذار الباطلة الكاذبة إذا رجعتم إليهم يعني من سفركم قُلْ أي قل لهم يا محمد لا تَعْتَذِرُوا قال البغوي : روي أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين فقال اللّه تعالى قل لا تعتذروا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ يعني لن نصدقكم فيما اعتذرتم به قَدْ نَبَّأَنَا اللّه مِنْ أَخْبارِكُمْ يعني قد أخبرنا اللّه فيما سلف من أخباركم وَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ يعني في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه

وقيل :

يحتمل أنهم وعدوا بأن ينصروا المؤمنين في المستقبل فلهذا قال وسيرى اللّه عملكم ورسوله هل تفون بما قلتم أم لا ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ يعني فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لأنه هو المطلع على ما في ضمائركم في الخيانة والكذب وإخلاف الوعد.

قوله عز وجل : سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ يعني إذا رجعتم من سفركم إليهم يعني إلى المتخلفين بالمدينة من المنافقين لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ يعني لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم ولا توبخوهم بسبب تخلفهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ يعني فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق.

وقيل : يريد ترك الكلام يعني لا تكلموهم ولا تجالسوهم فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة قال لا تجالسوهم ولا تكلموهم قال أهل المعاني إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم

فقال تعالى : إِنَّهُمْ رِجْسٌ يعني أن بواطنهم خبيثة نجسة وأعمالهم قبيحة وَمَأْواهُمْ يعني مسكنهم في الآخرة جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يعني من الأعمال الخبيثة في الدنيا. قال ابن عباس : نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي : صلى اللّه عليه وسلم لا تجالسوهم ولا تكلموهم. وقال مقاتل : نزلت في عبد اللّه بن أبي حلف للنبي صلى اللّه عليه وسلم الذي لا إله إلا هو أنه لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية والتي بعدها يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ يعني : يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ يعني فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا لكم وقبلتم عذرهم فَإِنَّ اللّه لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم أبدا.

وقوله سبحانه وتعالى : الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً نزلت في سكان البادية يعني أن أهل البدو أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر.

قال أهل اللغة : يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. ورجل أعرابي إذا كان بدويا يطلب مساقط الغيث والكلأ. ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فمن استوطن القرى والمدن العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم الأعراب ، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك. والعربي إذا قيل له : يا أعرابي غضب والعرب أفضل من الأعراب ، لأن المهاجرين والأنصار وعلماء الدين من العرب.

والسبب في كون الأعراب أشد كفرا ونفاقا بعدهم عن مجالسة العلماء وسماع القرآن والسنن والمواعظ وهو

قوله سبحانه وتعالى وَأَجْدَرُ يعني وأخلق وأحرى أَلَّا يَعْلَمُوا يعني بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللّه عَلى رَسُولِهِ يعني الفرائض والسنن والأحكام وَاللّه عَلِيمٌ يعني بما في قلوب عباده حَكِيمٌ فيما فرض من فرائضه وأحكامه وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً يعني لا يرجو على إنفاقه ثوابا ولا يخاف على إمساكه عقابا إنما ينفق خوفا أو رياء. والمغرم : التزام ما لا يلزم. والمعنى : أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل اللّه غرامة لأنه لا ينفق ذلك إلا خوفا من المسلمين أو مرآة لهم ولم يرد بذلك الإنفاق وجه اللّه وثوابه وَيَتَرَبَّصُ يعني : وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني بالدوائر تقلب الزمان وصروفه التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر. قال يمان بن رباب : يعني تقلب الزمان فيموت الرسول وتظهر المشركون عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ يعني : بل يتقلب عليهم الزمان ويدور السوء والبلاء والحزن بهم ولا يرون في محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ودينه إلا ما يسوءهم وَاللّه سَمِيعٌ يعني لأقوالهم عَلِيمٌ يعني بما يخفون في ضمائرهم من النفاق والغش وإرادة السوء للمؤمنين نزلت هذه الآية في أعراب أسد وغطفان وتميم ثم استثنى اللّه عز وجل فقال تبارك وتعالى :

وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّه وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّه فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)

٩٩

١٠٠

وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.

قال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبي : هم أسلم وغفار وجهينة

(ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيرا من بني تميم وبني أسد وبني عبد اللّه بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة فقال رجل : خابوا وخسروا. قال : نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد اللّه بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة).

وفي رواية (أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : إنما تابعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال وجهينة. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال : وجهينة خيرا من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان قال خابوا وخسروا قال نعم)

(ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (أسلم سالمها اللّه وغفار غفر اللّه لها) زاد مسلم في رواية له : أما إني لم أقلها لكن اللّه قالها

(ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي ليس لهم مولى دون اللّه ورسوله) و

قوله سبحانه وتعالى : وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّه جمع قربة أي يطلب بما ينفق القربة إلى اللّه تعالى : وَصَلَواتِ الرَّسُولِ يعني ويرغبون في دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم (اللّهم صل على آل أبي أوفى) أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ يحتمل أن يعود الضمير في إنها إلى صلوات الرسول ويحتمل أن يعود إلى الإنفاق وكلاهما قربة لهم عند اللّه وهذه شهادة من اللّه تعالى للمؤمن المتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات عند اللّه وصلوات الرسول له مقبولة عند اللّه لأن اللّه سبحانه وتعالى أكد ذلك بحرف التنبيه وهو

قوله تعالى ألا وبحرف التحقيق وهو

قوله تعالى إنها قربة لهم سَيُدْخِلُهُمُ اللّه فِي رَحْمَتِهِ وهذه النعمة هي أقصى مرادهم إِنَّ اللّه غَفُورٌ للمؤمنين المنفقين في سبيله رَحِيمٌ يعني بهم حيث وفقهم لهذه الطاعة.

قوله سبحانه وتعالى : وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ اختلف العلماء في السابقين الأولين فقال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة : هم الذين صلوا إلى القبلتين. وقال عطاء بن أبي رباح : هم أهل بدر. وقال الشعبي : هم أهل بيعة الرضوان وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وقال محمد بن كعب القرظي هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال حميد بن زياد : قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بينهم وأردت الفتن فقال : إن اللّه قد غفر لجميعهم محسنهم ومسيئهم وأوجب لهم الجنة في كتابه فقلت له في أي موضع أوجب لهم الجنة فقال سبحان اللّه ألا تقرأ والسابقون الأولون إلى آخر الآية فأوجب اللّه الجنة لجميع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم زاد في رواية في قوله والذين اتبعوهم بإحسان قال شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أعمالهم الحسنة دون السيئة. قال حميد :

فكأني لم أقرأ هذه الآية قط. واختلف العلماء في أول الناس إسلاما بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاما وأول من صلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال بعض العلماء أول من آمن بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر بن عبد اللّه ثم اختلفوا في سنة وقت إسلامه فقيل : كان ابن عشر سنين.

وقيل : أقل من ذلك. قيل :

أكثر.

وقيل : كان بالغا. والصحيح ، أنه لم يكن بالغا وقت إسلامه.

وقال بعضهم : أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير : أول من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب ، ومن العبيد زيد بن حارثة رضي اللّه تعالى عنهم فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام.

قال ابن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا الناس إلى اللّه ورسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش لقريش وأعلمها بما كان فيها وكان رجلا تاجرا وكان ذا خلق حسن ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد اللّه فجاء بهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأسلموا على يده وصلوا معه فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق الناس إلى الإسلام ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول إلى الإسلام

وأما السابقون من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة وهي العقبة الأولى وكانوا ستة نفر (١) أسعد بن زرارة وعوف بن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر وجابر بن عبد اللّه بن رباب ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلا ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلا منهم البراء بن معرور وعبد اللّه بن عمرو بن حرام أبو جابر وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وعبد اللّه بن رواحة فهؤلاء سباق الأنصار ثم بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلمهم القرآن فأسلم على يده خلق كثير من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة وذلك قبل أن يهاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة

وقيل : إن المراد بالسابقين الأولين من سبق إلى الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين بما ذا سبقوا فبقي اللفظ مجملا فلما قال تعالى من المهاجرين والأنصار ووصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا وجب صرف اللفظ المجمل إليه وهو الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أيضا أن الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية من حيث إن الهجرة أمر شاق على النفس لمفارقة الوطن و

العشيرة وكذلك النصرة فإنها مرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى اللّه عز وجل عليهم ومدحهم فقال سبحانه وتعالى :

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ.

________

(١) قوله ستة نفر المعدود هنا خمسة والسادس عقبة بن عامر كما في المواهب.

قوله تعالى : وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين فعلى هذا القول ، يكون الجميع من الصحابة.

وقيل : هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة وقال عطاء هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار فيترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم

(ق) عن عمران بن حصين أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا

(ق) عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا

وفي رواية أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

أراد بالقرن في الحديث الأول أصحابه. والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضا واختلفوا في مدته من الزمان. فقيل : من عشر سنين إلى عشرين.

وقيل : من مائة إلى مائة وعشرين سنة. والمد : المذكور في الحديث الثاني هو ربع صاع. والنصيف : نصفه. والمعنى : لو أن أحدا عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في سبيل اللّه ما بلغ هذا القدر اليسير التافه من أعمال الصحابة وإنفاقهم لأنهم أنفقوا وبذلوا المجهود في وقت الحاجة. و

قوله سبحانه وتعالى : رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يعني رضي اللّه عن أعمالهم ورضوا عنه بما جازاهم عليها من الثواب وهذا اللفظ عام يدخل فيه كل الصحابة وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

قوله سبحانه وتعالى :

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)

١٠١

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ذكر جماعة من المفسرين المتأخرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي أنهم من أعراب مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم وكانت منازلهم حول المدينة ويعني ومن هؤلاء الأعراب منافقون وما ذكروه مشكل لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا لهؤلاء القبائل ومدحهم فإن صح نقل المفسرين فيحمل

قوله سبحانه وتعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ على القليل لأن لفظة من للتبعيض ويحمل دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم على الأكثر والأغلب وبهذا يمكن الجمع بين قول المفسرين ودعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم لهم.

وأما الطبري ، فإنه أطلق القول ولم يعين أحدا من القبائل المذكورة بل قال في تفسير هذه الآية : من القوم الذين حول مدينتكم أيها المؤمنون من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضا أمثالهم أقوام منافقون وقال البغوي : وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ من الأوس والخزرج منافقون مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ فيه تقديم وتأخير تقديره وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق يعني مرنوا عليه يقال تمرد فلان على ربه إذا عتا وتجبر ومنه الشيطان المارد وتمرد في معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ولم يتب منها قال ابن إسحاق : لجوا فيه وأبوا غيره.

وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا منه لا تَعْلَمُهُمْ يعني أنهم بلغوا في النفاق إلى حيث أنك لا تعلمهم يا محمد مع صفاء خاطرك واطلاعك على الأسرار نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ يعني لكن نحن نعلمهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اختلف المفسرون في العذاب الأول مع اتفاقهم على العذاب الثاني هو عذاب القبر بدليل قوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار في الآخرة فثبت بهذا أنه سبحانه وتعالى يعذب المنافقين ثلاث مرات مرة في الدنيا ومرة في القبر ومرة في الآخرة أما المرة الأولى وهي التي اختلفوا فيها فقال الكلبي والسدي (قام النبي صلى اللّه عليه وسلم خطيبا في يوم جمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج من المسجد أناسا وفضحهم) فهذا هو العذاب الأول.

والثاني : هو عذاب القبر فإن صح هذا القول فيحتمل أن يكون بعد أن أعلمه اللّه حالهم وسماهم له لأن اللّه

سبحانه وتعالى قال لا تعلمهم نحن نعلمهم ثم بعد ذلك أعلمه بهم. وقال مجاهد : هذا العذاب الأول هو القتل والسبي وهذا القول ضعيف ، لأن أحكام الإسلام في الظاهر كانت جارية على المنافقين فلم يقتلوا ولم يسبوا وعن مجاهد رواية أخرى أنهم عذبوا بالجوع مرتين. وقال قتادة : المرة الأولى هي الدبيلة في الدنيا وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها خراج من نار تظهر في أكتافهم حتى تنجم من صدورهم يعني تخرج من صدورهم. وقال ابن زيد : الأولى هي المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن عباس : الأولى إقامة الحدود عليهم في الدنيا والأخرى عذاب القبر. وقال ابن إسحاق : الأولى هي ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه كرها غير حسبة والأخرى عذاب القبر.

وقيل : إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، والأخرى عذاب القبر.

وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنم وهو

قوله سبحانه وتعالى : ثم يردون إلى عذاب جهنم يخلدون فيه.

١٠٢

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)

قوله عز وجل : وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان :

أحدهما : أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن

قوله تعالى وآخرون عطف على قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري. عن ابن عباس أنه قال : هم الأعراب.

والقول الثاني : وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك.

واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وقال قتادة والضحاك : كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة.

وقيل : كانوا ثلاثة : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء؟ فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا : واللّه لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم مرّ بهم فرآهم فقال : من هؤلاء؟ فقالوا : هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا اللّه أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : وأنا أقسم باللّه لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا : يا رسول اللّه هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فأنزل اللّه : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية. وقال قوم : نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد : نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة : إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية.

وقال : واللّه لا أحل نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ، فأنزل اللّه هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال : واللّه لا أحل نفسي حتى يكون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحله بيده فقال أبو لبابة : يا رسول اللّه إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى اللّه وإلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة. قالوا جميعا فأخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن اللّه سبحانه وتعالى قال : خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم. لأن لفظة (من) تقتضي التبعيض. وقال الحسن وقتادة : وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم.

أما تفسير الآية : فقوله تعالى : وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا.

فإن قلت : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا؟

قلت : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة.

وقوله سبحانه وتعالى : خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً قيل : أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : العمل الصالح هو خروجهم مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك.

وقيل : إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصا بمن تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك.

وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم.

فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطا فما المخلوط به.

قلت : إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملا صالحا بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي. وقال : اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معا بقي كل واحد منهما على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب ف

قوله سبحانه وتعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر

أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع المطلق.

وقال الواحدي : العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيدا وعمرا. والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط. ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيء كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما و

قوله سبحانه وتعالى : عَسَى اللّه أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين : عسى من اللّه واجب والدليل عليه

قوله سبحانه وتعالى : فعسى اللّه أن يأتي بالفتح وقد فعل ذلك. وقال أهل المعاني : لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال.

وقيل : إن اللّه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا يفيد إنجاز الوعد

قوله سبحانه وتعالى :

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)

١٠٣

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها. قال ابن عباس : لما أطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيهانطلق أبو لبابة وصاحبه فأتوا بأموالهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : خذ أموالنا وتصدق بها عنا وصل علينا يريدون

استغفر لنا وطهرنا. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا آخذ شيئا منها حتى أومر به ، فأنزل اللّه عز وجل : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية ، وهذا قول زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. ثم اختلف العلماء في المراد بهذه الصدقة فقال بعضهم : هو راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك أنهم بذلوا أموالهم صدقة فأوجب اللّه سبحانه وتعالى أخذها وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم لتكون جارية مجرى الكفارة. وأصحاب هذا القول يقولون ليس المراد بها الصدقة الواجبة.

وقال بعضهم : إن الزكاة كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر اللّه سبحانه وتعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذها منهم وقال بعضهم إن الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء وهذا قول أكثر الفقهاء واستدلوا بها على إيجاب أخذ الزكاة.

أما حجة أصحاب

القول الأول ، فإنهم قالوا : إن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسبة فلو حملناها على أخذ الزكاة الواجبة ، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها ، ولأن جمهور المفسرين ذكروا في سبب نزولها أنها نزلت في شأن التائبين

وأما أصحاب القول الأخير فإنهم قالوا : المناسبة حاصلة أيضا على هذا التقدير وذلك أنهم لما تابوا وأخلصوا وأقروا أن السبب الموجب للتخلف وحب المال أمروا بإخراج الزكاة التي هي طهرة فلما أخرجوها علمت صحة قولهم وصحة توبتهم. ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فإن قالوا : إن الزكاة قدر معلوم لا يبلغ ثلث المال وقد أخذ منهم ثلث أموالهم قلنا : لا يمنع هذا صحة ما قلناه لأنهم رضوا ببذل الثلث من أموالهم فلأن يكونوا راضين بإخراج الزكاة أولى. ثم في هذه الآية أحكام : الأول

قوله سبحانه وتعالى : خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ، الخطاب فيه للنبي صلى اللّه عليه وسلم أي خذ يا محمد من أموالهم صدقة فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يأخذها منهم أيام حياته ثم أخذها من بعده الأئمة فيجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويدفعها إلى الفقراء.

الحكم الثاني : قوله من أموالهم ، ولفظة (من) تقتضي التبعيض وهذا البعض المأخوذ غير معلوم ولا مقدر بنص القرآن فلم يبق إلا الصدقة التي بيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدرها وصفتها في أخذ الزكاة.

الحكم الثالث : ظاهر قوله خذ من أموالهم صدقة يفيد العموم فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون وفي مال الركاز.

الحكم الرابع : ظاهر قوله تطهرهم ، أن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي وهذا قول أبي حنيفة ثم أجاب أصحاب الشافعي : بأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا.

وللعلماء في

قوله سبحانه وتعالى تطهرهم أقوال :

الأول : أن معناه خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بأخذها من دنس الآثام.

القول الثاني : أن يكون تطهرهم متعلقا بالصدقة تقديره خذ من أموالهم صدقة فإنها طهرة لهم وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة من أوساخ الناس فإذا أخذ الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ وكان ذلك الاندفاع جاريا مجرى التطهير : فعلى هذا القول يكون

قوله سبحانه وتعالى وتزكيهم بها متقطعا عن قوله تطهرهم ويكون التقدير : خذ يا محمد من أموالهم صدقة تطهرهم تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها.

القول الثالث : أن تجعل التاء في قوله تطهرهم وتزكيهم ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت يا محمد بأخذها منهم وتزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة.

القول الرابع : أن معناه تطهرهم من ذنوبهم وتزكيهم يعني ترفع منازلهم عن منازل المنافقين إلى منازل

الأبرار المخلصين

وقيل معنى وتزكيهم أي تنمي أموالهم ببركة أخذها منهم.

الحكم

الخامس :

قوله سبحانه وتعالى : وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يعني ادع لهم واستغفر لهم لأن أصل الصلاة في اللغة الدعاء. قال الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول :

آجرك اللّه فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.

وقال بعضهم : يجب على الإمام أن يدعو للمتصدق.

وقال بعضهم : يستحب ذلك.

وقيل : يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع.

وقيل : يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي.

وقال بعضهم : يستحب أن يقول اللّهم صلّ على فلان. ويدل عليه ما روي عن عبد اللّه بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال : اللّهم صلّ عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال (اللّهم صلّ على آل أبي أوفى) أخرجاه في الصحيحين.

وقوله سبحانه وتعالى : إِنَّ صَلاتَكَ وقرئ : صلواتك على الجمع سَكَنٌ لَهُمْ يعني إن دعاءك رحمة لهم. وقال ابن عباس : طمأنينة لهم.

وقيل : إن اللّه قد قبل منهم. وقال أبو عبيدة : تثبيت لقلوبهم.

وقيل : إن السكن ما سكنت إليه النفس والمعنى إن صلواتك توجب سكون نفوسهم إليها والمعنى أن اللّه قد قبل توبتهم أو قبل زكاتهم وَاللّه سَمِيعٌ يعني لأقوالهم أو لدعائك لهم عَلِيمٌ يعني بنياتهم.

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ

وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)

١٠٤

١٠٦

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر اللّه عز وجل هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن اللّه تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة.

وقيل : إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين : هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل اللّه هذه الآية ترغيبا لهم في التوبة. و

قوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل : لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذ لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك.

وقيل : بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيرا بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها و

قوله سبحانه وتعالى : وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيبا في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء

وقيل معنى أخذ اللّه الصدقات تضمنه الجزاء عليها.

ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها ، أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخذ لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن اللّه تعالى يقبلها من عبده المتصدق

(ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله) لفظ مسلم. وفي البخاري : (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى اللّه إلا الطيب).

وفي رواية : (و لا يقبل اللّه إلا الطيب فإن اللّه يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل) وأخرجه الترمذي ولفظه : (إن اللّه سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد) وتصديق ذلك في كتاب اللّه سبحانه وتعالى : أَلَمْ يَعْلَمُوا

أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق اللّه الربا ويربى الصدقات.

وقوله : من كسب طيب.

أي : حلال. وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن اللّه سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي ، لأن من عادة الفقير أو السائل ، أخذ الصدقة بكفه اليمين ، فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة.

وقوله : فتربو أي تكبر. يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر. والفلو : بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها.

وقوله سبحانه وتعالى : وَأَنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد ل

قوله سبحانه وتعالى : أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وتبشير لهم بأن اللّه هو التواب الرحيم.

قوله عز وجل : وَقُلِ أي : قل يا محمد لهؤلاء التائبين اعْمَلُوا يعني للّه بطاعته وأداء فرائضه فَسَيَرَى اللّه عَمَلَكُمْ فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن اللّه تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ يعني ويرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون أعمالكم أيضا.

أما رؤية رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فباطلاع اللّه إياه على أعمالكم.

وأما رؤية المؤمنين ، فبما يقذف اللّه عز وجل في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني : وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم فَيُنَبِّئُكُمْ أي فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم.

قوله سبحانه وتعالى : وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أي مؤخرون والإرجاء التأخير لِأَمْرِ اللّه يعني لحكم اللّه فيهم قال بعضهم إن اللّه سبحانه وتعالى قسم المتخلفين على ثلاثة أقسام :

أولهم : المنافقون وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه.

والقسم الثاني : التائبون وهم الذين سارعوا إلى التوبة بعد ما اعترفوا بذنوبهم وهم أبو لبابة وأصحابه فقبل اللّه توبتهم.

والقسم الثالث : موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم اللّه تعالى فيهم وهم المراد بقوله : وآخرون مرجون لأمر اللّه. والفرق بين

القسم الثاني والقسم الثالث ، أن

القسم الثاني سارعوا إلى التوبة فقبل اللّه توبتهم ، والقسم الثالث توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة فأخر اللّه أمرهم.

نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وستأتي قصتهم عند

قوله تعالى : وعلى الثلاثة الذين خلفوا وذلك أنهم لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن كلامهم وكانوا من أهل بدر ، فجعل بعض الناس يقول هلكوا وبعضهم يقول : عسى اللّه أن يتوب عليهم ويغفر لهم وهو

قوله سبحانه وتعالى : إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ

وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ يعني أن أمرهم إلى اللّه تعالى إن شاء عذبهم بسبب تخلفهم وإن شاء غفر لهم وعفا عنهم وَاللّه عَلِيمٌ يعني بما في قلوبهم حَكِيمٌ يعني بما يقضي عليهم.

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧)

١٠٧

قوله سبحانه وتعالى : وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا

يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضرارا يعني مضارة للمؤمنين وكفرا يعني ليكفروا فيه باللّه ورسوله وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شابا يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه ، فلما فرغوا من بنائه ، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول اللّه إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء اللّه تعالى أتيناكم فصلينا فيه.

وقوله سبحانه وتعالى : وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصادا يعني انتظارا وإعدادا لمن حارب اللّه ورسوله مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر ، فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : جئت بالحنيفية دين إبراهيم.

فقال أبو عامر : فأنا عليها. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : إنك لست عليها. قال أبو عامر : بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية. فقال أبو عامر : أمات اللّه الكاذب منا طريدا وحيدا غريبا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : آمين وسماه الناس : أبا عامر الفاسق. فلما كان يوم أحد ، قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى اللّه عليه وسلم : لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن ، يئس أبو عامر وخرج هاربا إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك

وقوله : سبحانه وتعالى : وَإِرْصاداً يعني انتظارا لمن حارب اللّه ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب اللّه ورسوله من قبل مسجد الضرار وَلَيَحْلِفُنَّ يعني الذين بنوا المسجد إِنْ أَرَدْنا يعني ما أردنا ببنائه إِلَّا الْحُسْنى يعني إلا الفعلة الحسنى وهي : الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قيلهم وحلفهم.

روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما انصرف من تبوك راجعا نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل اللّه هذه الآية وأخبره خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشيا فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار ، فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة.

مات أبو عامر الراهب بالشام غريبا وحيدا. وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم. فقال : لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار؟ قال مجمع : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فو اللّه لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما

أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى اللّه ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء.

قال عطاء : لما فتح اللّه على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار

أحدهما الآخر و

قوله سبحانه وتعالى :

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨)

١٠٨

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً قال ابن عباس : معناه لا تصلّ فيه أبدا منع اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى اللام فيه لام الابتداء.

وقيل : لام القسم تقديره واللّه مسجد أسس يعني بني أصله ووضع أساسه على التقوى يعني على تقوى اللّه عز وجل مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يعني من أول يوم بني ووضع أساسه كان ذلك البناء على التقوى أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يعني مصليا واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعني مسجد المدينة ويدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : (دخلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول اللّه أي المسجدين أسس على التقوى؟ قال فأخذ كفا من حصى فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة) أخرجه مسلم

(ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي)

(ق) عن عبد اللّه بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة) أخرجه النسائي قوله رواتب يعني : ثوابت. يقال : رتب بالمكان إذا قام فيه وثبت.

وفي رواية عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أنه مسجد قباء ويدل عليه سياق الآية وهو

قوله سبحانه وتعالى : فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ويدل على أنهم أهل قباء ما روي عن أبي هريرة (قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم) أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث غريب.

هكذا ذكره صاحب جامع الأصول من رواية أبي داود والترمذي موقوفا على أبي هريرة ورواه البغوي من طريق أبي داود مرفوعا عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللّه يحب المطهرين قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية ومما يدل على فضل مسجد قباء ما روي عن ابن عمر قال : (كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يزور قباء أو يأتي قباء راكبا وماشيا) زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين

وفي رواية (أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا وكان ابن عمر يفعله) أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم وأخرج الرواية الثانية البخاري عن سهل بن حنيف قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة) أخرجه النسائي عن أسد بن ظهير أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة) أخرجه الترمذي.

وقوله سبحانه وتعالى : فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا يعني من الأحداث والجنابات وسائر النجاسات وهذا قول أكثر المفسرين. قال عطاء : ولما كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة وروى الطبري بسنده عن عويمر بن ساعدة وكان من أهل بدر ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأهل قباء (إني أسمع اللّه عز وجل قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور) قالوا : يا رسول اللّه ما نعمل شيئا إلا أن جيرانا لنا من اليهود

رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا. وعن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لأهل قباء (إن اللّه سبحانه وتعالى قد أحسن عليكم بالثناء في الطهور فما تصنعون؟ قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول) وقال الإمام فخر الدين الرازي : المراد من هذه الطهارة الطهارة من الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه :

الأول : أن التطهر من الذنوب هو المؤثر في القرب من اللّه عز وجل واستحقاق ثوابه ومدحه.

الوجه الثاني : أن اللّه سبحانه وتعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والتفريق بينهم والكفر باللّه وكون هؤلاء يعني أهل قباء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا لكونهم مبرئين من الكفر والمعاصي وهي الطهارة الباطنية.

الوجه الثالث : أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند اللّه إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي

وقيل يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين يعني طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء وَاللّه يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّه وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩)

١٠٩

قوله سبحانه وتعالى : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللّه وَرِضْوانٍ يعني طلب ببنائه المسجد الذي بناه تقوى اللّه ورضاه. والمعنى : أن الباني لما بنى ذلك البناء كان قصده تقوى اللّه وطلب رضاه وثوابه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ الشفا : هو الشفير وشفا كل شيء حرفه ومنه يقال : أشفى على كذا إذا دنا منه وقرب أن يقع فيه. والجرف : المكان الذي أكل الماء تحته فهو إلى السقوط قريب وقال أبو عبيد : الجرف هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينحفر بالماء فيبقى واهيا هار أي هائر وهو الساقط فهو من هار يهور فهو هائر

وقيل : هو من هاريها إذا تهدم وسقط وهو الذي تداعى بعضه في أثر بعض كما يهار الرمل والشيء الرخو فَانْهارَ بِهِ يعني سقط بالباني فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ والمعنى أن بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهله فيها. وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للمسجدين مسجد الضرار ومسجد التقوى مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومعنى المثل : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهو الحق الذي هو تقوى اللّه ورضوانه خير أم من أسس دينه على أضعف القواعد وأقلها بقاء وثباتا وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل بناء على غير أساس ثابت وهو شفا جرف هار وإذا كان كذلك كان أسرع إلى السقوط في نار جهنم ولأن الباني الأول قصد ببنائه تقوى اللّه ورضوانه فكان بناؤه أشرف البناء ، والباني الثاني قصد ببنائه الكفر والنفاق وإضرار المسلمين فكان بناؤه أخسّ البناء وكانت عاقبته إلى نار جهنم.

قال ابن عباس : صيرهم نفاقهم إلى النار. وقال قتادة : واللّه ما تناهى بناؤهم حتى وقع في النار ولقد ذكر لنا أنه حفرت بقعة منه فرؤي الدخان يخرج منها. وقال جابر بن عبد اللّه : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار.

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠) إِنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)

١١١

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً يعني شكا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ والمعنى : أن ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم ، لأن المنافقين فرحوا ببناء مسجدهم ، فلما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتخريبه ، ثقل ذلك عليهم وازدادوا غما وحزنا وبغضا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان سبب الريبة في قلوبهم.

وقيل : إنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه كما حبب العجل إلى بني إسرائيل فلما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتخريبه ، بقوا شاكّين مرتابين لأي سبب أمر بتخريبه. وقال السدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة أي حرارة وغيظا في قلوبهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي تجعل قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء إما بالسيف

وإما بالموت. والمعنى : أن هذه الريبة باقية في قلوبهم إلى أن يموتوا عليها وَاللّه عَلِيمٌ يعني بأحوالهم وأحوال جميع عباده حَكِيمٌ يعني فيما حكم به عليهم.

قوله عز وجل : إِنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الآية قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا قال عبد اللّه بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا إذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة. قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت إِنَّ اللّه اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ قال ابن عباس : بالجنة.

قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري اللّه شيئا هو له في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والأشياء كلها ملك اللّه عز وجل ، ولهذا قال الحسن : أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقنا إياها لكن جرى هذا مجرى التلطف في الدعاء إلى الطاعة والجهاد ، وذلك لأن المؤمن إذا قاتل في سبيل اللّه حتى يقتل أو أنفق ماله في سبيل اللّه عوّضه اللّه الجنة في الآخرة جزاء لما فعل في الدنيا فجعل ذلك استبدالا واشتراء فهذا معنى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة والمراد باشتراء الأموال إنفاقها في سبيل اللّه وفي جميع وجوه البر والطاعة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه هذا تفسير لتلك المبايعة.

وقيل : فيه معنى الأمر أي قاتلوا في سبيل اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ يعني : فيقتلون أعداء اللّه ويقتلون في طاعته وسبيله وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يعني ذلك الوعد بأن لهم الجنة وعدا على اللّه حقا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ يعني أن هذا الوعد الذي وعده اللّه تعالى للمجاهدين في سبيله قد أثبته في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن وفيه دليل على أن الأمر بالجهاد موجود في جميع الشرائع ومكتوب على جميع أهل الملل وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه يعني لا أحد أوفى بالعهد من اللّه فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فاستبشروا أيها المؤمنون بهذا البيع الذي بايعتم اللّه به وَذلِكَ يعني هذا البيع هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه رابح في الآخرة. قال عمر بن الخطاب : إن اللّه بايعك وجعل الصفقتين لك وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع اللّه بها كل مؤمن وعنه قال : إن اللّه سبحانه وتعالى أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها. وقال قتادة : ثامنهم فأغلى لهم.

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)

١١٢

١١٣

قوله سبحانه وتعالى : التَّائِبُونَ قال الفراء : استؤنف لفظ التائبون بالرفع لتمام الآية الأولى وانقطاع الكلام.

وقال الزجاج : التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر. والمعنى : التائبون إلى آخره لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا غير معاندين ولا قاصدين بترك الجهاد وهذا وجه حسن فكأنه وعد بالجنة جميع المؤمنين. كما قال تعالى : وكلا وعد اللّه الحسنى ومن جعله تابعا للأول ، كان الوعد بالجنة خاصا بالمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات ، فيكون رفع التائبون على المدح يعني المؤمنين المذكورين في قوله : إن اللّه اشترى.

وأما التفسير :

ف

قوله سبحانه وتعالى التائبون يعني الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق.

وقيل : التائبون من كل معصية فيدخل فيه التوبة من الكفر والنفاق.

وقيل : التائبون من جميع المعاصي ، لأن لفظ التائبين لفظ عموم فيتناول الكل. واعلم أن التوبة المقبولة إنما تحصل بأمور أربعة : أولها احتراق القلب عند صدور المعصية ،

وثانيها الندم على فعلها فيما مضى ،

وثالثها العزم على تركها في المستقبل ،

ورابعها أن يكون الحامل له على التوبة طلب رضوان اللّه وعبوديته فإن كان غرضه بالتوبة تحصيل مدح الناس له ودفع مذمتهم فليس بمخلص في توبته.

الْعابِدُونَ يعني المطيعين للّه الذين يرون عبادة اللّه واجبة عليهم

وقيل هم الذين أتوا بالعبادة على أقصى وجوه التعظيم للّه تعالى وهي أن تكون العبادة خالصة للّه تعالى : الْحامِدُونَ يعني الذين يحمدون اللّه تعالى على كل حال في السراء والضراء.

روى البغوي بغير سند عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء.

وقيل : هم الذين يحمدون اللّه ويقومون بشكره على جميع نعمه دنيا وأخرى السَّائِحُونَ قال ابن مسعود وابن عباس : هم الصائمون. قال سفيان بن عيينة : إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال الأزهري : قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا زاد معه فكان ممسكا عن الأكل وكذلك الصائم ممسك عن الأكل.

وقيل : أصل السياحة استمرار الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي وقال عطاء : السائحون هم الغزاة المجاهدون في سبيل اللّه ويدل عليه ما روي عن عثمان بن مظعون قال قلت يا رسول اللّه ائذن لي في السياحة. فقال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل اللّه ذكره البغوي بغير سند.

وقال عكرمة : السائحون هم طلبة العلم لأنهم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلبه

وقيل إن السياحة لها أثر عظيم في تهذيب النفس وتحسين أخلاقها لأن السائح لا بد أن يلقى أنواعا من الضر والبؤس ولا بد له من الصبر عليها ويلقى العلماء والصالحين في سياحته فيستفيد منهم ويعود عليه من بركتهم ويرى العجائب وأثار قدرة اللّه تعالى فيتفكر في ذلك فيدله على وحدانية اللّه سبحانه وتعالى وعظيم قدرته الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود ، لأنهما معظم أركانها وبهما يتميز المصلي من غير المصلي بخلاف حالة القيام والقعود لأنهما حالة المصلي وغيره الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني يأمرون الناس بالإيمان باللّه وحده وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن الشرك باللّه.

وقيل : إنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم واتباع الرشد والهدى والعمل الصالح وينهونهم عن كل قول وفعل نهى اللّه عباده عنه أو نهى عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الحسن : أما أنهم لم يأمروا الناس بالمعروف حتى كانوا من أهله ولم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه

وأما دخول الواو في والناهون عن المنكر فإن العرب تعطف بالواو على السبعة ومنه

قوله سبحانه وتعالى : وثامنهم كلبهم

وقوله تعالى في صفة الجنة : وفتحت أبوابها.

وقيل : فيه وجه آخر وهو أن الموصوفين بهذه الصفات الست هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، فعلى هذا يكون

قوله تعالى التائبون إلى قوله الساجدون مبتدأ خبره الآمرون يعني هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللّه قال ابن عباس : يعني القائمين بطاعة اللّه وقال الحسن : الحافظون لفرائض اللّه وهم أهل الوفاء ببيعة اللّه.

وقيل : هم المؤدون فرائض اللّه المنتهون إلى أمره ونهيه فلا يضيعون شيئا من العمل الذي ألزمهم به ولا يرتكبون منهيا نهاهم عنه وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني بشر يا محمد المصدقين بما وعدهم اللّه به

إذا وفوا اللّه تعالى بعهده فإنه موف لهم بما وعدهم من إدخال الجنة.

وقيل : وبشر من فعل هذه الأفعال التسع وهو

قوله تعالى التائبون إلى آخر الآية بأن له الجنة وإن لم يغز.

قوله عز وجل : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى الآية واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية فقال قوم : نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى اللّه عليه وسلم والد علي وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته فنهاه اللّه عن ذلك ويدل على ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن (قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد اللّه بن أبي أمية بن المغيرة فقال أي عم قل لا إله إلا اللّه كلمة أحاجّ لك بها عند اللّه فقال أبو جهل وعبد اللّه بن أبي أمية بن المغيرة : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قالوا : أبو طالب آخر ما كلمهم أنا على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل اللّه تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل اللّه في أبي طالب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء) أخرجاه في الصحيحين.

فإن قلت قد استبعد بعض العلماء نزول هذه الآية في شأن أبي طالب وذلك أن وفاته كانت بمكة أول الإسلام ونزول هذه السورة بالمدينة وهي من آخر القرآن نزولا.

(قلت الذي نزل في أبي طالب

قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) كما في الحديث فيحتمل أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يستغفر له في بعض الأوقات إلى أن نزلت هذه الآية فمنع من الاستغفار واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه

(م).

عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمه عند الموت : (قل لا إله إلا اللّه أشهد لك بها يوم القيامة فأبى فأنزل اللّه إنك لا تهدي من أحببت ولكن اللّه يهدي من يشاء) الآية

وفي رواية قال : (لولا تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل اللّه) الآية)

(ق).

(عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر عنده عمه طالب فقال (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه تغلى منه أم دماغه)

وفي رواية : (يغلى منه دماغه من حرارة نعليه)

(ق) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (قلت يا رسول اللّه ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال : هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)

وفي رواية قال قلت يا رسول اللّه إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال (نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته إلى ضحضاح) وقال أبو هريرة وبريدة (لما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية وروى الطبري بسنده عن بريدة : (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قال وأكثر ظني أنه قال قبر أمه فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا : يا رسول اللّه إنا رأينا ما صنعت قال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يؤذن لي فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ).

وحكى ابن الجوزي (عن بريدة قال إن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر بقبر أمه فتوضأ وصلى ركعتين ثم بكى فبكى الناس لبكائه ثم انصرف إليهم فقالوا : ما أبكاك؟ قال : مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها فنهيت فبكيت ثم عدت فصليت ركعتين فاستأذنت ربي أن أستغفر لها فزجرت زجرا فأبكاني ثم دعا براحلته فركبها فما سار إلا هنيهة حتى قامت الناقة لثقل الوحي فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) الآية

(ق) (عن أبي هريرة قال زار النبي صلى اللّه عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت

ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت) وقال قتادة قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه) فأنزل اللّه هذه الآية وروى الطبري بسنده عنه قال : (ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا نبي اللّه إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بلى واللّه لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل اللّه عز وجل ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية ثم عذر اللّه إبراهيم

فقال تعالى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه الآية عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فذكرت ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية أخرجه النسائي والترمذي. وقال :

حديث حسن وأخرجه الطبري. وقال فيه : فأنزل اللّه عز وجل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه الآية ومعنى الآية ما كان ينبغي للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين وليس لهم ذلك لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يغفر للمشركين ولا يجوز أن يطلب منه ما لا يفعله ففيه النهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى لأن النهي عن الاستغفار للمشركين عام فيستوي فيه القريب والبعيد ثم ذكر عز وجل سبب المنع

فقال تعالى : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعني تبين لهم أنهم ماتوا على الشرك فهم من أصحاب الجحيم وأيضا فقد قال تبارك وتعالى إن اللّه لا يغفر أن يشرك به واللّه تعالى لا يخلف وعده أما

قوله سبحانه وتعالى :

وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)

١١٤

وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فمعناه وما كان طلب إبراهيم لأبيه المغفرة من اللّه إلا من أجل موعدة وعدها إبراهيم إياه أن يستغفر له رجاء إسلامه قال علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه :

(لما أنزل اللّه خبرا عن إبراهيم) أنه قال سلام عليك سأستغفر لك ربي سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أولم يستغفر إبراهيم لأبيه فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل اللّه عز وجل : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك) يعني أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار لأنه إنما استغفر لأبيه وهو مشرك لمكان الوعد الذي وعده أن يسلم فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ فعلى هذا الهاء في إياه راجعة إلى إبراهيم والوعد كان من أبيه وذلك أن أبا إبراهيم وعد إبراهيم أن يسلم فقال إبراهيم : سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمت.

وقيل : إن الهاء راجعة إلى الأب وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه. ويؤكد هذا قوله : سأستغفر لك ربي ويدل عليه أيضا قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة فلما تبين له أنه عدو للّه ، تبرأ منه يعني : فلما ظهر لإبراهيم وبان له أن أباه عدو للّه يعني بموته على الكفر تبرأ منه عند ذلك

وقيل يحتمل أن اللّه سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم أن أباه عدو له فتبرأ منه

وقيل لما تبين له في الآخرة أنه عدو للّه تبرأ منه ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة (أن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

قال : يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي فيقول اللّه تبارك وتعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار) أخرجه البخاري زاد غيره فتبرأ منه والقترة غبرة يعلوها سواد والذيخ بذال معجمة ثم ياء مثناة من تحت ثم خاء معجمة هو ذكر الضباع والأنثى ذيخة.

وقوله تبارك وتعالى : إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ جاء في الحديث إن الأواه الخاشع المتضرع. وقال ابن مسعود : الأواه الكثير الدعاء وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : هو المؤمن التواب ، وقال الحسن وقتادة : الأواه الرحيم بعباد اللّه وقال مجاهد : الأواه الموقن وقال كعب الأحبار : هو الذي يكثر التأوه وكان إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم يكثر أن يقول أوه من النار قبل أن لا ينفع أوه وقال عقبة بن عامر : الأواه الكثير الذكر للّه عز وجل وقال سعيد بن جبير هو المسبح وعنه أنه المعلم للخير. وقال عطاء : هو الراجع عما يكره اللّه الخائف من النار. وقال أبو عبيدة : هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع إيقانا ولزوما للطاعة. وقال الزجاج : انتظم في قول أبي عبيدة جميع ما قيل في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوت تنفس الصعداء والفعل منه أوه هو قول الرجل عند شدة خوفه وحزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن تحمي الروح داخل القلب ويشتد حرها فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق في القلب ليخف بعض ما به من الحزن والشدة

وأما الحليم : فمعناه ظاهر وهو الصفوح عمن سبه أو أتاه بمكروه ثم يقابله بالإحسان واللطف كما فعل إبراهيم بأبهى حين قال لئن لم تنته لأرجمنك ، فأجابه إبراهيم بقوله سلام عليك سأستغفر لك ربي. وقال ابن عباس : الحليم : السيد ، وإنما وصف اللّه عز وجل إبراهيم عليه السلام بهذين الوصفين وهما شدة الرقة والخوف الوجل والشفقة على عباد اللّه ليبين سبحانه وتعالى أنه مع هذه الصفات الجميلة الحميدة تبرأ من أبيه لما ظهر له إصراره على الكفر فاقتدوا به أنتم في هذه الحالة أيضا.

وَما كانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥)

١١٥

وقوله سبحانه وتعالى : وَما كانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني : وما كان اللّه ليقضي عليكم بالضلال بسبب استغفاركم لموتاكم المشركين بعد أن رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله وذلك أنه لما منع المؤمنين من الاستغفار للمشركين وكانوا قد استغفروا لهم قبل المنع خافوا ما صدر منهم فأعلمهم أن ذلك ليس بضائرهم حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ يعني ما يأتون وما يذرون وهو أن يقدم إليهم النهي عن ذلك الفعل فأما قبل النهي فلا حرج عليهم في فعله

وقيل : إن جماعة من المسلمين كانوا قد ماتوا قبل النهي عن الاستغفار للمشركين فلما منعوا من ذلك وقع في قلوب المؤمنين خوف على من مات على ذلك فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية وبين أنه لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه ويتركوه. وقال مجاهد : بيان اللّه للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة. وقال الضحاك : وما كان اللّه ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون. وقال مقاتل والكلبي : هذا في أمر المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم وأسلموا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ورجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة إلى الكعبة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا بعد ذلك إلى المدينة فوجودا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت إلى الكعبة فقالوا : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن على ضلال فأنزل اللّه عز وجل : وَما كانَ اللّه لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني وما كان اللّه ليبطل عمل قوم وقد عملوا بالمنسوخ حتى بين الناسخ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعني أنه سبحانه وتعالى عليم بما خالط نفوسكم من الخوف عند ما نهاكم عن الاستغفار للمشركين ويعلم ما يبين لكم من أوامره ونواهيه.

إِنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)

١١٦

١١٧

إِنَّ اللّه لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه سبحانه وتعالى هو القادر على ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه يحكم فيهم بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ يعني أنه تعالى يحيي من يشاء على الإيمان ويميته عليه ويحيي من يشاء على الكفر ويميته عليه لا اعتراض لأحد عليه في حكمه وعبيده وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّه مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يعني أنه تعالى هو وليكم وناصركم ليس لكم غيره يمنعكم من عدوكم وينصركم عليهم.

قوله عز وجل : لَقَدْ تابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ

الآية تاب اللّه بمعنى تجاوز وصفح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرين والأنصار ومعنى توبته على النبي صلى اللّه عليه وسلم : عدم مؤاخذته بإذنه للمنافقين بالتخلف في غزوة تبوك وهي ك

قوله سبحانه وتعالى : عَفَا اللّه عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا. وقال أصحاب المعاني : هو مفتاح كلام للتبرك ك

قوله سبحانه وتعالى فأن للّه خمسه. ومعنى هذا : أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى اللّه عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم اللّه في قوله فإن للّه خمسه وللرسول فهو تشريف له.

وأما معنى : توبة اللّه على المهاجرين والأنصار ، فلأجل ما وقع في قلوبهم من الميل إلى القعود عن غزوة تبوك لأنها كانت في وقت شديد وربما وقع في قلوب بعضهم أنا لا نقدر على قتال الروم وكيف لنا بالخلاص منهم فتاب اللّه عليهم وعفا عنهم ما وقع في قلوبهم من هذه الخواطر والوساوس النفسانية.

وقيل : إن الإنسان لا يخلو من زلات وتبعات في مدة عمره إما من باب الصغائر

وإما من باب ترك الأفضل.

ثم إن النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين معه لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد العظيمة التي حصلت لهم في ذلك السفر غفر اللّه لهم وتاب عليهم لأجل ما تحملوه من الشدائد العظيمة في تلك الغزوة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنما ضم ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الرتبة التي لأجلها ضم ذكر الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى ذكرهم الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في تلك الغزوة من المهاجرين والأنصار وقد ذكر بعض العلماء أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سار إلى تبوك في سبعين ألفا ما بين راكب وماش من المهاجرين والأنصار وغيرهم من سائر القبائل فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ يعني في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها والعسرة الشدة والضيق وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش الذي سار فيه يسمى جيش العسرة لأنه كان عليهم عسرة في الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة : منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم يركب الرجل منهم ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون وما معهم إلا التمرات اليسيرة بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يخرجها من فيه ويعطيها صاحبه ثم يشرب عليها جرعة من الماء ويفعل صاحبه كذلك حتى تأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم على صدقهم ويقينهم رضي اللّه عنهم.

وقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، وحتى أن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق : يا رسول اللّه إن اللّه عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع اللّه قال أتحب ذلك قال : نعم فرفع يديه صلى اللّه عليه وسلم فلم يرجعا حتى أرسل اللّه سحابة فمطرت فملأوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر أسنده الطبري عن عمر.

قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يعني من بعد ما قارب أن تميل قلوب بعضهم عن الحق من أجل المشقة والشدة التي نالتهم والزيغ في اللغة الميل.

وقيل : همّ بعضهم أن يفارق الرسول صلى اللّه عليه وسلم عند تلك الشدة التي نالتهم لكنهم صبروا واحتسبوا وندموا على ما خطر في قلوبهم فلأجل ذلك قال تعالى : ثُمَّ تابَ

عَلَيْهِمْ يعني أنه سبحانه وتعالى علم إخلاص نيتهم وصدق توبتهم فرزقهم الإنابة والتوبة.

فإن قلت قد ذكر التوبة أولا ثم ذكرها ثانيا فما فائدة التكرار؟

قلت إنه سبحانه وتعالى ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب تفضلا منه وتطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى تعظيما لشأنهم وليعلموا أنه سبحانه وتعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم ثم أتبعه بقوله إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تأكيدا لذلك ومعنى الرؤوف في صفة اللّه تعالى أنه الرفيق بعباده لأنه لم يحملهم ما لا يطيقون من العبادات وبين الرؤوف والرحيم فرق لطيف وإن تقاربا في المعنى. قال الخطابي : قد تكون الرحمة مع الكراهة للمصلحة ولا تكاد الرأفة تكون مع الكراهة.

وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللّه إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّه وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠)

١١٨

١٢٠

قوله سبحانه وتعالى : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا هذا معطوف على ما قبله تقديره لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار وعلى الثلاثة الذين خلفوا وفائدة هذا العطف بين قبول توبتهم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وهم المرادون ب

قوله سبحانه وتعالى وآخرون مرجون لأمر اللّه وفي معنى خلفوا قولان :

أحدهما أنهم خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وذلك أنهم لم يخضعوا كما خضع أبو لبابة وأصحابه فتاب اللّه على أبي لبابة وأصحابه وأخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب عليهم بعد ذلك

والقول الثاني أنهم تخلفوا عن غزوة تبوك ولم يخرجوا مع رسول اللّه فيها

وأما حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه ، فقد روي عن ابن شهاب الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالك أن عبد اللّه بن كعب وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : سمعت كعب بن مالك بن عبد اللّه بن مالك بن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك.

قال : لم أتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع اللّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حتى تخلفت عنه في تلك الغزوة واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قط حين جمعتهما في تلك الغزوة ولم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجههم الذي يريد والمسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ يريد بذلك الديوان قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من اللّه عز وجل وغزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر فتجهز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع

ولم أقض شيئا فأقول في نفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا مما عذر اللّه من الضعفاء ولم يذكرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك : ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة يا رسول اللّه حبسه برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبينما هو كذلك ، رأى رجلا مبيضا يزول به السراب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون قال كعب : فلما بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني بثي فطفقت أتذكر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي

رأي من أهلي فلما قيل إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفره بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى اللّه عز وجل حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعالى فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك قال قلت يا رسول اللّه إني واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكني واللّه لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن اللّه أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى اللّه ،

وفي رواية عفو اللّه عز وجل ، واللّه ما كان لي عذر واللّه ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي اللّه فيك فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي : واللّه ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لك قال فو اللّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكذب نفسي.

قال : ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد معي قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت

وقيل لهما مثل ما قيل لك قلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي قال فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدوا بدرا ففيهما أسوة قال فمضيت حين ذكروهما لي ونهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان

وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو اللّه مارد علي السلام ف

قلت : يا أبا قتادة أنشدك باللّه هل تعلم أني أحب اللّه ورسوله قال : فسكت فعدت فناشدته فسكت فعدت فناشدته فقال : اللّه ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل عليّ كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إليّ حتى جاءني فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك قال : فقلت حين قرأتها وهذه أيضا

من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي وإذا رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل قال لا بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللّه في هذا الأمر قال فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خدام فهل تكره أن أخدمه قال لا ولكن لا يقربنك فقالت إنه واللّه ما به حركة إلى

شيء وو اللّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه قال فقلت لا استأذن فيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب قال فلبثت بذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا. قال ثم صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللّه عز وجل عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج قال وآذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس بتوبة اللّه علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا فذهب قبل صاحبي مبشرون وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم قبلي وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته واللّه ما أملك غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أتأمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون ليهنك توبة اللّه عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتى صافحني وهنأني واللّه ما قام إلا رجل من المهاجرين غيره.

قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب : فلما سلمت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور :

أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال : قلت أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه؟ فقال : لا بل من عند اللّه. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه حتى كان وجهه قطعة قمر قال وكنا نعرف ذلك منه قال فلما جلست بين يديه

قلت : يا رسول اللّه إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه رسوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر قال وقلت يا رسول اللّه إن اللّه إن أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال فو اللّه ما علمت أن أحدا من المسلمين أبلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحسن مما أبلاني اللّه ، واللّه ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي قال فأنزل اللّه عز وجل لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة حتى بلغ أنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين قال كعب : واللّه ما أنعم اللّه عليهم الأرض بما رحبت حتى بلغ اتقوا اللّه وكونوا مع الصادقين قال كعب : واللّه ما أنعم اللّه علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا إن اللّه عز وجل قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال اللّه سبحانه وتعالى : سَيَحْلِفُونَ بِاللّه لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّه لا يَرْضى عَنِ

الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال كعب : كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللّه تعالى فيه فبذلك قال اللّه عز وجل : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر مما خلفنا عن الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه

وفي رواية ونهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر فما

من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى اللّه عليه وسلم أو يموت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي علي ولا يسلم علي قال : وأنزل اللّه عز وجل توبتنا على نبيه صلى اللّه عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند أم سلمة. وكانت أم سلمة محسنة في شأني معتنية بأمري فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت : أفلا أرسل إليه فأبشره قال : إذا يحطمكم الناغس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلاة الفجر آذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتوبة اللّه علينا أخرجه البخاري ومسلم. (شرح غريب هذا الحديث) ..

قوله حين تواثقنا على الإسلام : التواثق تفاعل من الميثاق وهو العهد. والراحلة : الجمل أو الناقة القويان على الحمل والسفر.

وقوله : ورى بغيرها يقال : ورى عن الشيء إذا أخفاه وأظهره غيره. والمفازة : البرية القفراء سميت بذلك تفاؤلا بالفوز والنجاة منها قوله فجلا هو بالتخفيف يعني كشف لهم مقصدهم وأظهره لهم والأهبة الجهاز وما يحتاج إليه المسافر قوله فأنا إليها صعر هو بالعين المهملة أي أميل والصعر الميل. قوله : وتفارط الغزو أي تباعد ما بيني وبين الجيش من المسافة وطفق مثل جعل والمغموص المعيب المشار إليه بالعيب.

يقال : فلان ينظر في عطفيه إذا كان معجبا بنفسه ويقال : زال به السراب يزول إذا ظهر شخص الإنسان خيالا فيه من بعد. والسراب : هو ما يظهر للإنسان في البرية في وقت الهاجرة كأنه ماء والمبيض بكسر الياء لابس البياض.

قوله : كن أبا خيثمة معناه أنت أبو خيثمة

وقيل معناه : اللّهم اجعله أبا خيثمة أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة قوله الذي لمزه المنافقون يعني عابوه واحتقروه والقافل الراجع من سفره إلى وطنه قوله حضرني بثني البث أشد الحزن كأنه لشدته يظهر قوله زاح عني الباطل أي زال وذهب عني وأجمعت صدقه أي عزمت عليه لقد أعطيت جدلا أي فصاحة وقوة في الكلام بحيث أخرج عن عهدة ما أردت بما أشاء من الكلام والمغضب بفتح الضاد هو الغضبان قوله فما زالوا يؤنبونني أي يلومونني أشد اللوم قوله حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي الأرض التي أعرف : معناه تغير علي كل شيء من الأرض وتوحشت عليّ وصارت كأنها أرض لا أعرفها وقوله فأما صاحباي فاستكانا يعني خضعا وسكنا قوله تسورت حائط أبي قتادة أي علوته وصعدت سوره وهو أعلاه والأنباط الفلاحون والزراعون وهم من العجم والروم والمضيعة مفعلة من الضياع والأطراح ، وقوله فتيممت بها التنور فسجرته بها أي فقصدت بالصحيفة التي أرسل بها ملك غسان فأحرقتها في التنور وسلع جبل بالمدينة معروف وقوله وانطلقت أتأمم يعني أقصد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والفوج : الجماعة من الناس. يقال : برق وجهه إذا لمع وظهر عليه أمارات الفرح والسرور قوله أنخلع من مالي أي أخرج منه جميعه وأتصدق به كما يخلع الإنسان قميصه. قوله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه اللّه في صدق الحديث أحسن مما أبلاني البلاء.

والابتلاء : يكون في الخير وفي الشر وإذا أطلق كان في الشر غالبا فإذا أريد به الخير قيد به كما قيد هنا بقوله أحسن مما أبلاني أن أنعم على قوله أن لا أكون كذبته ، هذا هو في جميع روايات الحديث بزيادة لفظ لا قال بعض العلماء لفظة لا زائدة ومعناه أن أكون كذبته وقوله فأهلك هو بكسر اللام وإرجاؤه أمرنا تأخيره وقوله في الرواية الأخرى يحطمكم الناس أي يطؤكم ويزدحمون عليكم وأصل الوطء الكسر وقوله سائر الليل يعني باقي الليل وقوله وآذن بتوبة اللّه علينا أي أعلم والأذان الإعلام واللّه أعلم.

قوله عز وجل : حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ يعني بما اتسعت والرحب سعة المكان والمعنى أنه ضاق عليهم المكان بعد أن كان واسعا وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ يعني من شدة الغم والحزن ومجانبة الناس إياهم وترك كلامهم وَظَنُّوا يعني وأيقنوا وعلموا أَنْ لا مَلْجَأَ يعني لا مفزع ولا مفر مِنَ اللّه إِلَّا إِلَيْهِ ولا عاصم من عذابه إلا هو ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فيه إضمار وحذف تقديره وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا

إليه فرحمهم ثم تاب عليهم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه وقوله ثم تاب عليهم تأكيد لقبول توبتهم لأنه قد ذكر توبتهم في

قوله تعالى : وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا كما تقدم بيانه وأنه عطف على قوله لَقَدْ تابَ اللّه عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ أي وتاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار أي وتاب اللّه على الثلاثة الذين خلفوا.

وقوله تعالى : لِيَتُوبُوا معناه : أن اللّه سبحانه وتعالى تاب عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل فيرجعوا ويداوموا عليها

وقيل إن أصل التوبة الرجوع ومعناه ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالتهم الأولى يعني إلى عادتهم في الاختلاط بالناس ومكالمتهم فتسكن نفوسهم بذلك إِنَّ اللّه هُوَ التَّوَّابُ يعني على عباده الرَّحِيمُ بهم وفيه دليل على أن قبول التوبة بمحض الرحمة والكرم والفضل والإحسان وأنه لا يجب على اللّه تعالى شيء.

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه يعني في مخالفة الرسول صلى اللّه عليه وسلم وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يعني مع من صدق النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا مع المتخلفين من المنافقين الذين قعدوا في البيوت وتركوا الغزو. وقال سعيد بن جبير : مع الصادقين يعني مع أبي بكر وعمر. قال ابن جريج : مع المهاجرين.

وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية.

وقيل : كونوا مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب وهم يعتذرون بالأعذار الباطلة الكاذبة وهذه الآية تدل على فضيلة الصدق لأن الصدق يهدي إلى الجنة والكذب إلى الفجور كما ورد في الحديث. وقال ابن مسعود : الكذب لا يصلح في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صاحبه شيئا ثم لا ينجزه اقرءوا إن شئتم وكونوا مع الصادقين.

وروي أن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية على الأنصار في يوم السقيفة وذلك أن الأنصار قالوا : منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر : يا معشر الأنصار إن اللّه سبحانه وتعالى يقول في كتابه للفقراء المهاجرين إلى قوله أولئك هم الصادقون من هم قالت الأنصار : أنتم هم فقال أبو بكر : إن اللّه تعالى يقول : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ فأمركم أن تكونوا معنا ولم يأمرنا أن نكون معكم نحن الأمراء وأنتم الوزراء

وقيل مع بمعنى من والمعنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وكونوا من الصادقين

قوله سبحانه وتعالى : ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ يعني لساكني المدينة من المهاجرين والأنصار : وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ يعني سكان البوادي من مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار

وقيل : هو عام في كل الأعراب لأن اللفظ عام وحمله على العموم أولى أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّه يعني إذا غزا وهذا ظاهر خبر ومعناه النهي أي ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَلا يَرْغَبُوا يعني ولا أن يرغبوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ يعني ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يختاره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويرضاه لنفسه ولا يختاروا لأنفسهم الخفض والدعة ويتركوا مصاحبته والجهاد معه في حال الشدة والمشقة وقال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم وغزواتهم ظَمَأٌ أي عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ يعني مجاعة شديدة فِي سَبِيلِ اللّه وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ يعني ولا يضعون قدما على الأرض يكون ذلك القدم سببا لغيظ الكفار وغمهم وحزنهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا يعني أسرا أو

قتلا أو هزيمة أو غنيمة أو نحو ذلك قليلا كان أو كثيرا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ يعني إلا كتب اللّه لهم بذلك ثواب عمل صالح قد ارتضاه لهم وقبله منهم إِنَّ اللّه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ يعني أن اللّه سبحانه وتعالى لا يدع محسنا من خلقه قد أحسن في عمله وأطاعه فيما أمره به أو نهاه عنه أن يجازيه على إحسانه وعمله الصالح وفي الآية دليل

على أن من قصد معصية اللّه كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند اللّه من قصد معصية اللّه كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها سيئات إلا أن يغفرها اللّه بفضله وكرمه واختلف العلماء في حكم هذه الآية. فقال قتادة : هذا الحكم خاص برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين أن يتخلف عنه إذا لم يكن للمسلمين إليه ضرورة.

وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعيدا يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها فعلى هذا تكون هذه الآية محكمة لم تنسخ. وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها اللّه عز وجل وأباح التخلف لمن شاء بقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة ونقل الواحدي عن عطية أنه قال : وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دعاهم وأمرهم. وقال : هذا هو الصحيح لأنه لا تتعين الطاعة والإجابة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلا إذا أمر وكذا غيره من الأئمة والولاة قالوا إذا ندبوا أو عينوا لأنّ لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد ولم يختص بذلك بعض دون بعض لأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد واللّه أعلم.

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّه أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)

١٢١

وقوله عز وجل : وَلا يُنْفِقُونَ يعني في سبيل اللّه نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً يعني تمرة فما دونها أو أكثر منها حتى علاقة سوط وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً يعني ولا يجاوزون في مسيرهم واديا مقبلين أو مدبرين فيه إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ يعني كتب اللّه لهم آثارهم وخطاهم ونفقاتهم لِيَجْزِيَهُمُ اللّه يعني يجازيهم أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال الواحدي : معناه بأحسن ما كانوا يعملون. وقال الإمام فخر الدين الرازي : فيه وجهان :

الأول : أن الأحسن من صفة أفعالهم وفيها الواجب والمندوب والمباح فاللّه سبحانه وتعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح.

والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب وفي الآية دليل على فضل الجهاد وأنه من أحسن أعمال العباد

(ق) عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل اللّه أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها

وفي رواية وما فيها

(ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (تضمن اللّه لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي وإيمانا بي وتصديقا برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل اللّه إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل اللّه أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو فأقتل في سبيل اللّه ثم أغزو فأقتل ثم أغزوا فأقتل) لفظ مسلم وللبخاري بمعناه

(ق).

عن أبي سعيد الخدري قال : (أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أي الناس أفضل قال مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه قال ثم من قال ثم رجل في شعب من الشعاب يعبد اللّه)

وفي رواية (يتقي اللّه ويدع الناس من شره)

(خ) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا باللّه وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة) يعني حسنات

(خ) عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال (ما اغبرت قدما عبد في سبيل اللّه فتمسه النار)

(م) عن أبي مسعود الأنصاري البدري قال : (جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال هذه في سبيل اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) عن خريم بن

فاتك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من أنفق نفقة في سبيل اللّه كتب اللّه له سبعمائة ضعف أخرجه الترمذي والنسائي.

وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

١٢٢

قوله سبحانه وتعالى : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية. قال عكرمة : لما نزلت هذه الآية ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه قال ناس من المنافقين. هلك من تخلف فنزلت هذه الآية ومن كان المؤمنون لينفروا كافة. وقال ابن عباس : أنها ليست في الجهاد ولكن لما دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل اللّه عز وجل الآية يخبر نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم إذا رجعوا إليهم فذلك

قوله سبحانه وتعالى : وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال : (كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ما تأمرنا أن نفعله وأخبرنا عما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم فيأمرهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطاعة اللّه وطاعة رسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة فكانوا إذا أتوا قومهم نادوا أن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى أن الرجل ليفارق أباه وأمه وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخبرهم بما يحتاجون إليه من أمر الدين وأن ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الإسلام وينذروهم ويبشروهم بالجنة وقال مجاهد : إن ناسا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الحطب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم

تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اللّه عز وجل فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ يبتغون الخير وقعد طائفة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليسمعوا ما أنزل اللّه وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ من الناس إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وقال ابن عباس : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيرون إلا بإذنه فإذا رجعت السرايا وقد نزل في بعضهم قرآن تعلمه القاعدون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا إن اللّه قد أنزل على نبيكم من بعدكم قرآنا وقد تعلمناه فمكث السرايا يتعلمون ما أنزل اللّه على نبيهم بعدهم وتبعث سرايا أخرى فذلك

قوله سبحانه وتعالى ليتفقهوا في الدين يقول ليتعملوا ما أنزل اللّه على نبيهم ويعلموا السرايا إذا رجعت إليهم لعلهم يحذرون نقل هذه الأقوال كلها الطبري

وأما تفسير الآية فيمكن أن يقال إنها من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد فعلى الاحتمال الأول فقد قيل : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا خرج للغزو ولم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ اللّه في الكشف عن عيوب المنافقين وفضحهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المؤمنون واللّه لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا عن سرية يبعثها فلما قدم المدينة وبعث السرايا نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده فنزلت هذه الآية فيكون المعنى ما كان ينبغي للمؤمنين ولا يجوز لهم أن ينفروا بكليتهم إلى الجهاد ويتركوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل يجب أن ينقسموا إلى قسمين فطائفة يكونون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وطائفة ينفرون إلى

الجهاد لأن ذلك الوقت كانت الحاجة داعية إلى انقسام أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى قسمين : قسم للجهاد ، وقسم لتعلم العلم والتفقه في الدين ، لأن الأحكام والشرائع كانت تتجدد شيئا بعد شيء فالملازمون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحفظون ما نزل من الأحكام وما تجدد من الشرائع فإذا قدم الغزاة أخبروهم بذلك فيكون معنى الآية وما كان المؤمنون

لينفروا

كافة فلولا يعني فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للجهاد وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الذين نفروا إلى الجهاد إذا رجعوا إليهم من غزوهم لعلهم يحذرون يعني مخالفة أمر اللّه وأمر رسوله وهذا معنى قول قتادة.

وقيل : إن التفقه صفة للطائفة النافرة قال الحسن : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم اللّه من الظهور على المشركين والنصرة وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ومعنى ذلك أن الفرقة النافرة إذا شاهدوا نصر اللّه لهم على أعدائهم وأن اللّه يريد إعلاء دينه وتقوية نبيه صلى اللّه عليه وسلم وأن الفئة القليلة قد غلبت جمعا كثيرا ، فإذا رجعوا من ذلك النفير إلى قومهم من الكفار ، أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لهم لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والنفاق وأورد على هذا القول أن هذا النوع لا يعد تفقها في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا علموا أن اللّه هو ناصرهم ومقويهم على عدوهم كان ذلك زيادة في إيمانهم فيكون ذلك فقها في الدين.

وأما الاحتمال الثاني :

وهو أن يقال إن هذه الآية كلام مبتدأ لا تعلق له بالجهاد وهو ما ذكرناه عن مجاهد أن ناسا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خرجوا إلى البوادي فأصابوا معروفا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم : ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجا فأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه هذه الآية والمعنى هلا نفر من كل فرقة طائفة وقعد طائفة ليتفقهوا في الدين ويبلغوا ذلك إلى النافرين لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون يعني بأس اللّه ونقمته إذا خالفوا أمره في الآية دليل على أنه يجب أن يكون المقصود من العلم والتفقه دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم فكل من تفقه وتعلم بهذا القصد كان المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وتعلم العلم لطلب الدنيا كان من الأخسرين أعمالا الآية

(ق).

عن معاوية قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول (من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطى اللّه ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة وحتى يأتي أمر اللّه)

(ق).

عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا). عن ابن عباس : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد). أخرجه الترمذي وأصل الفقه في اللغة الفهم يقال فقه الرجل إذا فهم وفقه فقاهة إذا صار فقيها.

وقيل : الفقه هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم وفي الاصطلاح الفقه عبارة عن العلم بأحكام الشرائع وأحكام الدين وذلك ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ففرض العين معرفة أحكام الطهارة وأحكام الصلاة والصوم فعلى كل مكلف معرفة ذلك قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ذكره البغوي بغير سند وكذلك كل عبادة وجبت على المكلف بحكم الشرع يجب عليه معرفة علمها مثل علم الزكاة إذا صار له مال يجب في مثله الزكاة وعلم أحكام الحج إذا وجب عليه.

وأما فرض الكفاية من الفقه ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ودرجة الفتيا وإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام به من كل بلد واحد فتعلم حتى بلغ درجة الفتيا سقط الفرض عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث.

عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) أخرجه الترمذي مع زيادة فيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل اللّه له طريقا إلى الجنة) أخرجه الترمذي عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل اللّه حتى يرجع) أخرجه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة) أخرجه أبو داود.

الآية المحكمة هي التي لا اشتباه فيها ولا اختلاف في حكمها أو ما ليس بمنسوخ ، والسنة القائمة هي المستمرة الدائمة التي العمل بها متصل لا يترك ، والفريضة العادلة هي التي لا جور فيها ولا حيف في قضائها.

قال الفضيل بن عياض : عالم عامل معلم يدعى عظيما في ملكوت السموات. وأخرجه الترمذي موقوفا وقال الإمام الشافعي رضي اللّه عنه : (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة)

قوله سبحانه وتعالى :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤)

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)

١٢٣

١٢٥

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب قال ابن عباس : مثل قريظة والنضير وخيبر ونحوها. وقال ابن عمر : هم الروم لأنهم كانوا مكان الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق.

وقال بعضهم : هم الديلم. وقال ابن زيد : كان الذين يلونهم من الكفار العرب فقاتلوهم حتى فرغوا منهم فأمروا بقتال أهل الكتاب وجهادهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد. ونقل عن بعض العلماء أنه قال : نزلت هذه الآية قبل الأمر بقتال المشركين كافة فلما نزلت : وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً صارت ناسخة لقوله تعالى : قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وقال المحققون من العلماء : لا وجه للنسخ ، لأنه سبحانه وتعالى لما أمرهم بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد وبهذا الطريق يحصل الغرض من قتال المشركين كافة لأن قتالهم في دفعة واحدة لا يتصور ، ولهذا السبب قاتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أولا قومه ، ثم انتقل منهم إلى قتال سائر العرب ثم انتقل إلى قتال أهل الكتاب وهم : قريظة ، والنضير ، وخيبر ، وفدك ، ثم انتقل إلى غزو الروم في الشأم فكان فتح الشأم في زمن الصحابة ثم إنهم انتقلوا إلى العراق ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار لأنه إذا قاتل الأقرب تقوى بما ينال منهم من الغنائم على الأبعد.

قوله سبحانه وتعالى : وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً يعني شدة وقوة وشجاعة والغلظة ضد الرقة. وقال الحسن :

صبرا على جهادهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَعَ الْمُتَّقِينَ يعني بالعون والنصرة.

قوله عز وجل : وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً يعني : وإذا أنزل اللّه سورة من سور القرآن فمن المنافقين من يقول يعني يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه يعني السورة إيمانا يعني تصديقا ويقينا وإنما يقول ذلك المنافقون استهزاء

وقيل : يقول ذلك المنافقون لبعض المؤمنين فقال سبحانه وتعالى :

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يعني تصديقا ويقينا وقربة من اللّه ، ومعنى الزيادة ، ضم شيء إلى آخر من جنسه مما هو في صفته فالمؤمنون إذا أقروا بنزول سورة القرآن عن ثقة واعترفوا أنها من عند اللّه عز وجل زادهم ذلك القرار والاعتراف إيمانا وقد تقدم بسط الكلام على زيادة الإيمان في أول سورة الأنفال وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعني أن المؤمنين يفرحون بنزول القرآن شيئا بعد شيء لأنهم كلما نزل ازدادوا إيمانا وذلك يوجب مزيد الثواب في الآخرة كما تحصل الزيادة في الإيمان بسبب نزول القرآن كذلك تحصل الزيادة في الكفر وهو قوله سبحانه

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق سمي الشك في الدين مرضا لأنه فساد في القلب يحتاج إلى علاج كالمرض في البدن إذا حصل يحتاج إلى العلاج فَزادَتْهُمْ يعني السورة من القرآن رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ يعني

كفرا إلى كفرهم وذلك أنهم كلما جحدوا نزول سورة أو استهزءوا بها ازدادوا كفرا مع كفرهم الأول وسمي الكفر رجسا لأنه أقبح الأشياء وأصل الرجس في اللغة الشيء المستقذر وَماتُوا يعني هؤلاء المنافقين وَهُمْ كافِرُونَ يعني وهم جاحدون لما أنزل اللّه عز وجل على رسوله صلى اللّه عليه وسلم. قال مجاهد : في هذه الآية الإيمان يزيد وينقص وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه ويقول تعالوا حتى نزداد إيمانا. وقال علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : إن الإيمان يبدو لمعة بيضاء في القلب وكلما ازدادا الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله ، وإن النفاق يبدو لمعة سوداء في القلب وكلما ازداد النفاق ازداد السواد حتى يسود القلب كله ، وأيم اللّه لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود.

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)

١٢٦

١٢٨

قوله سبحانه وتعالى : أَوَلا يَرَوْنَ قرئ ترون بالتاء على خطاب المؤمنين وقرئ بالياء على أنه خبر عن المنافقين المذكورين في قوله في قلوبهم مرض أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يعني يبتلون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يعني بالأمراض والشدائد.

وقيل : بالقحط والجدب.

وقيل : بالغزو والجهاد.

وقيل : إنهم يفتضحون بإظهار نفاقهم.

وقيل : إنهم ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون.

وقيل إنهم ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ يعني من النفاق ونقض العهد ولا يرجعون إلى اللّه وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يعني ولا يتعظون بما يرون من صدق وعد اللّه بالنصر والظفر للمسلمين وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يعني فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يريدون بذلك الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني هل أحد من المؤمنين يراكم إن قمتم من مجلسكم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أن أحدا يراهم من المؤمنين أقاموا ولبثوا على تلك الحال ثُمَّ انْصَرَفُوا يعني عن الإيمان بتلك السورة النازلة.

وقيل : انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها ما يكرهون صَرَفَ اللّه قُلُوبَهُمْ يعني عن الإيمان. وقال الزجاج : أضلهم اللّه مجازاة لهم على فعلهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ يعني لا يفقهون عن اللّه دينه ولا شيئا فيه نفعهم.

قوله سبحانه وتعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ هذا خطاب للعرب يعني : لقد جاءكم أيها العرب رسول من أنفسكم تعرفون نسبه وحسبه وأنه من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام قال ابن عباس ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى اللّه عليه وسلم وله فيهم نسب وقال جعفر بن محمد الصادق : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح) هكذا ذكره الطبري وذكر البغوي بإسناد الثعلبي. عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح أهل الإسلام) قال قتادة : جعله اللّه من أنفسكم فلا يحسدونه على ما أعطاه اللّه من النبوة والكرامة. قال بعض العلماء في تفسير قول ابن عباس : ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، يعني : من مضرها وربيعتها ويمانيها فأما ربيعة ومضر فهم من ولد معد بن عدنان وإليه تنسب قريش وهو منهم

وأما نسبه إلى عرب اليمن وهم القحاطنة فإن آمنة لها نسب في الأنصار وإن كانت من قريش والأنصار أصلهم من عرب اليمن من ولد قحطان بن سبأ فعلى هذا القول يكون المقصود من قوله : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم).

ترغيب العرب في نصره والإيمان به فإنه تم شرفهم بشرفه وعزتهم بعزته وفخرهم بفخره وهو من عشيرتهم يعرفونه بالصدق والأمانة والصيانة والعفاف وطهارة النسب والأخلاق الحميدة. وقرأ ابن عباس والزهري : من أنفسكم بفتح الفاء. ومعناه : أنه من أشرفكم وأفضلكم

(خ) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه)

(م) عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : (إن اللّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) عن العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : قلت يا رسول اللّه إن قريشا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فقالوا مثلك كمثل نخلة في كدية من الأرض فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إن اللّه خلق الخلق فجعلني من خير فريقهم وخير الفريقين ثم تخير القبائل فجعلني من خير قبيلة ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا) أخرجه الترمذي.

وقيل إن

قوله سبحانه وتعالى : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عام فحمله على العموم أولى فيكون المعنى على هذا القول لقد جاءكم أيها الناس رسول من أنفسكم يعني من جنسكم بشر مثلكم إذ لو كان من الملائكة لضعفت قوى البشر عن سماع كلامه والأخذ عنه.

قوله سبحانه وتعالى : عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم يعني مكروهكم.

وقيل : يشق عليه ضلالكم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حريص على إيمانكم وإيصال الخير إليكم وقال قتادة : حريص على هدايتكم وأن يهديكم اللّه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني أنه صلى اللّه عليه وسلم رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين

(ق).

عن جبير بن مطعم قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي) وقد سماه اللّه رؤوفا رحيما. قال الحسن بن الفضل : لم يجمع اللّه سبحانه وتعالى لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا النبي صلى اللّه عليه وسلم فسماه رؤوفا رحيما قال سبحانه وتعالى : إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)

١٢٩

قوله سبحانه وتعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أعرض هؤلاء الكفار والمنافقون عن الإيمان باللّه ورسوله وناصبوك للحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللّه يعني يكفيني اللّه وينصرني عليكم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ يعني لا على غيره وبه وثقت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ إنما خص سبحانه وتعالى العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات فيدخل ما دونه في الذكر فيكون المعنى فهو رب العرش العظيم فما دونه أو يكون خصه بالذكر تشريفا له كما يقال بيت اللّه ، وروي عن أبي بن كعب أنه قال : هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر السورة آخر القرآن نزلا

وفي رواية عنه أنه قال : أحدث القرآن عهدا باللّه هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم إلى آخر الآيتين واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

﴿ ٠