٣٧وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ لما ذكر الدلالة على وحدانيته وكمال قدرته وهي رفع السموات بغير عمد ، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية ، فقال : وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء ، وقيل : كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام ، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف ، وعند أصحاب الهيئة : الأرض كرة ، ويمكن أن يقال : إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فكل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم ، فحصل الجمع ومع ذلك فاللّه تعالى قد أخبر أنه مد الأرض ، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح واللّه تعالى أصدق قيلا وأبين دليلا من أصحاب الهيئة وَجَعَلَ فِيها. يعني في الأرض رَواسِيَ يعني جبالا ثابتة ، يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس : كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض وَأَنْهاراً ، يعني وجعل في الأرض أنهارا جارية لمنافع الخلق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلوا وحامضا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته لَآياتٍ أي دلالات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب ، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء ، وقال صاحب المفردات : الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم ، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل ، وذلك للإنسان دون الحيوان ، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي (تفكروا في آلاء اللّه ولا تفكروا في اللّه) إذ كان اللّه منزلها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء : الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني ، وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها. قوله عز وجل وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ يعني متقاربات بعضها من بعض ، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت ، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع وَجَنَّاتٌ يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك ، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد ، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في عمه العباس (عم الرجل صنو أبيه) يعني أنهما من أصل واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ يعني أشجار الجنات وزروعها ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل : في حده جوهر سيال به قوام الأرواح وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام. عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (في قوله تعالى : وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ قال : الدقل والنرسيان والحلو والحامض) أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب. قال مجاهد : هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد ، وقال الحسن : هذا مثل ضربه اللّه لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات ، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها ، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلا. قيل : إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو ، ولا تسمع. وقال الحسن : واللّه ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال اللّه تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وقوله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته. قوله تعالى وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة ، وقيل : العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء : العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل : العجب في حق اللّه محال لأنه تعالى علّام الغيوب لا تخفى عليه خافية ، والخطاب في الآية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم ، وقيل : معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأن اللّه تعالى خالق السموات والأرض ، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة اللّه وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم. وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من اللّه فعجب قولهم ، وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من اللّه ، وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم أَإِذا كُنَّا تُراباً يعني بعد الموت أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني نعاد خلقا جديدا بعد الموت كما كنا قبله ثم إن اللّه تعالى قال في حقهم أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وفيه دليل على أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر باللّه تعالى ، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة ، وأن اللّه على كل شيء قدير ، ومن أنكر ذلك فهو كافر وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يعني يوم القيامة ، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلا بالغل وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يعني أنهم مقيمون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية ، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم ، وهو قولهم (اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم ، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلا ليرتدع غيره به ، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قال ابن عباس : معناه إنه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه. وقال مجاهد : إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم ، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من أهل مكة لَوْلا أي هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف ، وليس لك من الآيات شيء وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال ابن عباس : الهادي هو اللّه ، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي ، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو اللّه يهدي من يشاء. وقال عكرمة في رواية أخرى عنه وأبو الضحى : الهادي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المعنى : إنما أنت منذر وأنت هاد ، وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية : الهادي هو العمل الصالح. وقال أبو صالح : الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر. قوله عز وجل : اللّه يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّه إِنَّ اللّه لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللّه بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) |
﴿ ٣ ﴾