سورة إبراهيمهي مكية سوى آيتين ، وهما قوله سبحانه وتعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْراً إلى آخر الآيتين وهي إحدى وقيل : اثنتان وخمسون آية وثمانمائة وإحدى وستون كلمة وثلاثة ألاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا. بسم اللّه الرّحمن الرّحيم بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ١الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللّه الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) ٢قوله عز وجل : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يعني هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد والكتاب هو القرآن المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني بهذا القرآن والمراد من الظلمات الكفر والضلالة والجهل ، والمراد بالنور : الإيمان. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه اللّه : وفيه دليل على أن طرق الكفر والبدع كثيرة وطريق الحق ليس إلا واحدا لأنه تعالى قال : لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فعبر عن الجهل والكفر والضلال بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهدى بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الكفر والجهل كثيرة ، وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا واحد بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يعني بأمر ربهم وقيل : بعلم ربهم إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ يعني إلى دين الإسلام وهو دينه الذي أمر به عباده ، والعزيز هو الغالب الذي لا يغلب والحميد المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد اللّه قرئ بالرفع على الاستئناف وخبره ما بعده وقرئ بالجر نعتا للعزيز الحميد فقال أبو عمرو قراءة الخفض على التقديم والتأخير تقديره إلى صراط اللّه العزيز الحميد الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني ملكا وما فيهما عبيده وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ يعني الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وعبدوا من لا يملك شيئا البتة بل هو مملوك للّه لأنه من جملة خلق اللّه ، ومن جملة ما في السموات وما في الأرض مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ يعني معد لهم في الآخرة ثم وصفهم فقال تعالى : الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّه مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) ٣٧وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّه جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) ٨١٢الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يعني يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّه أي ويمنعون الناس عن قبول دين اللّه وَيَبْغُونَها عِوَجاً يعني ويطلبون لها زيغا وميلا ، فحذف الجار وأوصل الفعل. وقيل : معناه يطلبون سبيل اللّه حائدين عن القصد وقيل الهاء في ويبغونها راجعة إلى الدنيا ومعناه يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق والميل إلى الحرام أُولئِكَ يعني من هذه صفته فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ يعني عن الحق وقيل يجوز أن يراد في ضلال بعيد ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال يبعد عن الطريق. قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ يعني بلغة قومه ليفهموا عنه ما يدعوهم إليه وهو قوله تعالى لِيُبَيِّنَ لَهُمْ يعني ما يأتون وما يذرون. فإن قلت : لم يبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا بدليل قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعاً بل هو مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس ، وهم على ألسنة مختلفة ولغات شتى وقوله بلسان قومه وليس قومه سوى العرب يقتضي بظاهره أنه مبعوث إلى العرب خاصة فكيف يمكن الجمع؟ قلت : بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من العرب وبلسانهم والناس تبع للعرب فكان مبعوثا إلى جميع الخلق ، لأنهم تبع للعرب ثم إنه يبعث الرسل إلى الأطراف ، فيترجمون لهم بألسنتهم ويدعونهم إلى اللّه تعالى بلغاتهم. وقيل : يحتمل أنه أراد بقومه أهل بلده ، وفيهم العرب وغير العرب فيدخل معهم من غير جنسهم في عموم الدعوى وقيل : إن الرسول إذا أرسل بلسان قومه وكانت دعوته خاصة وكان كتابه بلسان قومه كان أقرب لفهمهم عنه وقيام الحجة عليهم في ذلك ، فإذا فهموه ونقل عنهم انتشر عنهم علمه وقامت التراجم ببيانه وتفهيمه لمن يحتاج إلى ذلك ممن هو من غير أهله ، وإذا كان الكتاب بلغة واحدة مع اختلاف الأمم وتباين اللغات كان ذلك أبلغ في اجتهاد المجتهدين في تعليم معانيه ، وتفهيم فوائده وغوامضه وأسراره وعلومه وجميع حدوده وأحكامه وقوله فَيُضِلُّ اللّه مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني أن الرسول ليس عليه إلا التبليغ والتبيين واللّه هو الهادي المضل يفعل ما يشاء وَهُوَ الْعَزِيزُ يعني الذي يغلب ولا يغلب الْحَكِيمُ في جميع أفعاله. قوله عز وجل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا المراد بالآيات المعجزات التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام ، مثل العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات العظيمة الباهرة أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي أن أخرج قومك بالدعوة من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة : يعني بنعم اللّه. وقال مقاتل : بوقائع اللّه في الأمم السالفة. يقال : فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم بما أراد بما كان في أيام اللّه من النعمة والنقمة ، فأخبر بذكر الأيام عن ذلك لأن ذلك كان معلوما عندهم وعلى هذا يكون المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. والترغيب والوعد أن يذكرهم بما أنعم اللّه عليهم به من النعمة ، وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما مضى من الأيام ، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس اللّه ، وشدة انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله ، وقيل : بأيام اللّه في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والشدة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب فخلصهم اللّه من ذلك ، وجعلهم ملوكا بعد أن كانوا مملوكين إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ الصبّار : الكثير الصبر ، والشكور : الكثير الشكر ، وإنما خص الشكور والصبور بالاعتبار بالآيات وإن كان فيها عبرة للكافة لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات ، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله (و هدى للمتقين) ولأن الانتفاع بالآيات لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابرا شاكرا أما من لم يكن كذلك فلا ينتفع بها البتة وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ لما أمر اللّه عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكر قومه بأيام اللّه امتثل ذلك الأمر ، وذكرهم بأيام اللّه فقال (اذكروا نعمة اللّه عليكم) إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي اذكروا إنعام اللّه عليكم في ذلك الوقت الذي أنجاكم فيه من آل فرعون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ. فإن قلت قال في سورة البقرة : يذبحون بغير واو وقال هنا ويذبحون بزيادة واو فما الفرق؟ قلت : إنما حذفت الواو في سورة البقرة لأن قوله يذبحون تفسير لقوله يسومونكم سوء العذاب ، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو كما تقول جاءني القوم زيد وعمرو إذا أردت تفسير القوم وأما دخول الواو هنا في هذه السورة فلأن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح وبالتذبيح أيضا فقوله : ويذبحون نوع آخر من العذاب لأنه تفسير العذاب وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني يتركونهن أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. فان قلت كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت : تمكينهم وإمهالهم حتى فعلوا ما فعلوا بلاء من اللّه ووجه آخر وهو أذن لكم إشارة إلى الإنجاء ، وهو بلاء عظيم لأن البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا ومنه قوله : (و نبلوكم بالشر والخير فتنة) وهذا الوجه أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله اذكروا نعمة اللّه عليكم. فإن قلت : هب أن تذبيح الأبناء فيه بلاء فكيف يكون استحياء النساء فيه بلاء. قلت : كانوا يستحيونهن ويتركونهن تحت أيديهم كالإماء فكان ذلك بلاء وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هذا من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل اذكروا نعمة اللّه عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ، ومعنى تأذن : آذن ، أي أعلم ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وأذن ربكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبه والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال : لَئِنْ شَكَرْتُمْ يعني يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ يعني نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما أتيتكم قيل شكر الموجود صيد المفقود. وقيل : لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب وأصل الشكر تصور النعمة ، وإظهارها وحقيقته الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ، وتوطين النفس على هذه الطريقة وهاهنا دقيقة وهي أن العبد إذا اشتغل بمطالعة أقسام نعم اللّه عز وجل عليه ، وأنواع فضله وكرمه وإحسانه إليه اشتغل بشكر تلك النعمة ، وذلك يوجب المزيد وبذلك تتأكد محبة العبد للّه عز وجل وهو مقام شريف ومقام أعلى منه وهو أن يشغله حب المنعم عن الالتفات إلى النعم ، وهذا مقام الصدّيقين نسأل اللّه القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه وإنعامه. وقوله وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ المراد بالكفر هاهنا كفران النعمة ، وهو جحودها لأنه مذكور في مقابلة الشكر إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ يعني لمن كفر نعمتي ولا يشكرها وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا يعني يا بني إسرائيل أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعني والناس كلهم جميعا فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم بحرمانها الخير كله فَإِنَّ اللّه لَغَنِيٌّ يعني عن جميع خلقه حَمِيدٌ أي محمود في جميع أفعاله لأنه متفضل وعادل أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا يعني خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ قال بعض المفسرين : يحتمل أن يكون هذا خطابا من موسى لقومه ، والمقصود منه أنه عليه الصلاة والسلام يذكرهم بأمر القرون الماضية والأمم الخالية والمقصود منه حصول العبرة بأحوال من تقدم وهلاكهم وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هؤلاء الأمم الثلاثة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه يعني لا يعلم كنه مقاديرهم وعددهم إلا اللّه لأن علمه محيط بكل شيء (ألا يعلم من خلق) وقيل : المراد بقوله والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه أقوام وأمم ما بلغنا خبرهم أصلا ومنه قوله : (و قرونا بين ذلك كثيرا) وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول : كذب النسابون. يعني أنهم يدعون علم النسب إلى آدم ، وقد نفى اللّه علم ذلك عن العباد. وعن عبد اللّه بن عباس أنه قال : بين إبراهيم وعدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا اللّه وكان مالك بن أنس يكره أن ينسب الإنسان نفسه أبا أبا إلى آدم ، لأنه لا يعلم أولئك إلا اللّه. وقوله تعالى جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ. وفي معنى الأيدي والأفواه قولان : أحدهما أن المراد بهما هاتان الجارحتان المعلومتان ثم في معنى ذلك وجوه. قال ابن مسعود : عضوا أيديهم غيظا. وقال ابن عباس : لما سمعوا كتاب اللّه عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردوا ما جاءوا به. يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته. وقال الكلبي : يعني أن الأمم ردوا أيديهم إلى أفواه أنفسهم ، يعني أنهم وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة منهم إلى الرسل أن اسكتوا. وقال مقاتل : ردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك وقيل : إن الأمم لما سمعوا كلام الرسل عجبوا منه. وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل الذي غلبه الضحك. القول الثاني : أن المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال لفلان عندي يد أي نعمة ، والمراد بالأفواه وتكذيبهم الرسل والمعنى كذبوهم بأفواههم وردوا قولهم وقيل إنهم كفوا عن قبول ما أمروا بقبوله من الحق ولم يؤمنوا به يقال فلان رد يده إلى فيه إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وهذا القول فيه بعد لأنهم قد أجابوا بالتكذيب وهو أن الأمم ردوا على رسلهم وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ يعني إنا كفرنا بما زعمتم أن اللّه أرسلكم به لأنهم لم يقروا بأنهم أرسلوا إليهم لأنهم لو أقروا بأن الرسل أرسلوا إليهم لكانوا مؤمنين وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ يعني يوجب الريبة أو يوقع في الريبة والتهمة ، والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي يشك فيه. فإن قلت : إنهم قالوا أولا إنا كفرنا بما أرسلتم به فكيف يقولون ثانيا وإنا لفي شك والشك دون الكفر أو داخل فيه. قلت : إنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل فكأنهم حصل لهم شبهة توجب لهم الشك فقالوا : إن لم تدع الجزم في كفرنا فلا أقل من أن نكون شاكّين مرتابين في ذلك قالَتْ رُسُلُهُمْ يعني مجيبين لأممهم أَفِي اللّه شَكٌّ يعني وهل تشكون في اللّه وهو استفهام إنكار ونفي لما اعتقدوه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني وهل تشكون في كونه خالق السموات والأرض وخالق جميع ما فيهما يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ يعني ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم وحرف (من) صلة وقيل : إنها أصل ليست بصلة ، وعلى هذا إنه يغفر لهم ما بينهم وبينه من الكفر والمعاصي دون مظالم العباد وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى حين انقضاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب قالُوا يعني الأمم مجيبين للرسل إِنْ أَنْتُمْ يعني ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يعني في الصورة الظاهرة لستم ملائكة تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا يعني ما تريدون بقولكم : هذا إلا صدنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني حجة بينة واضحة على صحة دعواكم قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم : هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك وَلكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللّه يعني وليس لنا مع ما خصنا اللّه به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية ، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن اللّه لنا في ذلك وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّه يعني أن الأنبياء قالوا أيضا قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء اللّه وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا يعني وقد عرفنا طريق النجاة ، وبين لنا الرشد وَلَنَصْبِرَنَّ اللام لام القسم تقديره واللّه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا يعني به من قول أو فعل وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. فإن قلت : كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت : نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين. قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعني ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم أيها الرسل من بلادنا وأرضنا وإما عودكم في ملتنا. فإن قلت : هذا يوهم بظاهره أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعود فيها قلت : معاذ اللّه ولكن العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب ، وفيه وجه آخر ، وهو أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل الرسالة لم يظهروا خلاف أممهم ، فلما أرسلوا إليهم أظهروا مخالفتهم ودعوا إلى اللّه فقالوا لهم : لتعودن في ملتنا ظنا منهم أنهم كانوا على ملتهم ثم خالفوهم وإجماع الأمة على أن الرسل من أول الأمر إنما نشئوا على التوحيد لا يعرفون غيره فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ يعني أن اللّه تعالى أوحى إلى رسله وأنبيائه بعد هذه المخاطبات والمحاورات لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ يعني أن عاقبة أمرهم إلى الهلاك فلا تخافوهم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد هلاكهم ذلِكَ يعني ذلك الإسكان لِمَنْ خافَ مَقامِي يعني خاف مقامه بين يدي يوم القيامة فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، لأن العرب قد تضيف أفعالها إلى أنفسها كقولهم : ندمت على ضربي إياك وندمت على ضربك مثله وَخافَ وَعِيدِ أي وخاف عذابي. قوله عز وجل : وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا للّه جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللّه مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللّه لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) ١٥١٧وَاسْتَفْتَحُوا يعني واستنصروا. قال ابن عباس : يعني الأمم وذلك أنهم قالوا : اللّهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا وقال مجاهد وقتادة : واستفتح الرسل على أممهم وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا اللّه ودعوا على قومهم بالعذاب وَخابَ يعني وخسر وقيل : هلك كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ والجبار في صفة الإنسان يقال لمن تجبر بنفسه بادعاء منزلة عالية لا يستحقها وهو صفة ذم في حق الإنسان ، وقيل : الجبار الذي لا يرى فوقه أحدا ، وقيل : الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه والعنيد المعاند للحق ومجانبه قال مجاهد. وقال ابن عباس : هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل : هو المتكبر. وقال قتادة : هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا اللّه. وقيل : العنيد هو المعجب بما عنده. وقيل العنيد الذي يعاند ويخالف مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني هي أمامه وهو صائر إليها قال أبو عبيدة : هو من الأضداد يعني أنه يقال : وراء بمعنى خلف وبمعنى أمام وقال الأخفش : هو كما يقال : هذا الأمر من ورائك يعني أنه سيأتيك وَيُسْقى يعني في جهنم مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ وهو ما سال من الجلد واللحم من القيح جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب القرظي : هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر وهو قوله يَتَجَرَّعُهُ أي يتحساه ويشربه لا بمرة واحدة بل جرعة بعد جرعة لمرارته وحرارته وكراهته ونتنه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقدر على ابتلاعه. يقال : ساغ الشراب في الحلق إذا سهل انحداره فيه. قال بعض المفسرين : إن يكاد صلة والمعنى يتجرعه ولا يسيغه وقال صاحب الكشاف : دخلت يكاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة وقال بعضهم ولا يكاد يسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء فعلى هذا كاد على أصلها وليست بصلة ، وقال ابن عباس : معناه لا يجيزه. وقيل : معناه يكاد لا يسيغه ويسيغه فيغلي في جوفه. عن أبي إمامة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى (و يسقى من ماء صديد يتجرعه) قال : (يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره قال وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا) أخرجه الترمذي. وقال : حديث غريب. قوله : وقعت فروة رأسه أي جلدة رأسه وإنما شبهها بالفروة للشعر الذي عليها. وقوله تعالى وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ يعني أن الكافر يجد ألم الموت وشدته من كل مكان من أعضائه. وقال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة من جسده وقيل يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه ، ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت فيستريح. وقال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة وَمِنْ وَرائِهِ يعني أمامه عَذابٌ غَلِيظٌ أي شديد قيل : هو الخلود في النار. قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ هذا كلام مستأنف منقطع عما قبله وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره فيما نقص ، أو فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا والمثل مستعار للقصة التي فيها غرابة ، وقوله : أعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقال أعمالهم كرماد. وقال المفسرون والفراء : مثل أعمال الذين كفروا بربهم فحذف المضاف اعتمادا على ما ذكره بعد المضاف إليه. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى صفة الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد كقولك في صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول والرماد معروف وهو ما يسقط من الحطب والفحم بعد إحراقه بالنار ، اشتدت به الريح يعني فنسفته وطيرته ولم تبق منه شيئا في يوم عاصف ، وصف اليوم بالعصوف والعصوف من صفة الريح ، لأن الريح تكون فيه كقولك : يوم بارد وحار وليلة ماطرة لأن الحر والبرد والمطر توجد فيهما وقيل : معناه في يوم عاصف الريح فحذف الريح لأنه قد تقدم ذكرها وهذا مثل ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفار التي لم ينتفوا بها ، ووجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتذهب به وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى منها شيء وكذلك أعمال الكفار تبطل ، وتذهب بسبب كفرهم وشركهم حتى لا يبقى منها شيء ثم اختلفوا في هذه الأعمال ما هي فقيل : هي ما عملوه من أعمال الخير في حال الكفر كالصدقة وصلة الأرحام ، وفك الأسير وإقراء الضيف وبر الوالدين ، ونحو ذلك من أعمال البر والصلاح فهذه الأعمال ، وإن كانت أعمال بر لكنها لا تنفع صاحبها يوم القيامة بسبب كفره لأن كفره أحبطها وأبطلها كلها وقيل : المراد بالأعمال عبادتهم الأصنام التي ظنوا أنها تنفعهم فبطلت وحبطت ولم تنفعهم البتة ، ووجه خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم في الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالا عليهم. وقيل : أراد بالأعمال الأعمال التي عملوها في الدنيا وأشركوا فيها غير اللّه فإنها لا تنفعهم لأنها صارت كالرماد الذي ذرته الريح وصار هباء لا ينتفع به وهو قوله تعالى : لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا يعني في الدنيا عَلى شَيْءٍ يعني من تلك الأعمال والمعنى أنهم لا يجدون ثواب أعمالهم في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يعني ذلك : الخسران الكبير لأن أعمالهم ضلت وهلكت ، فلا يرجى عودها والبعيد هنا الذي لا يرجى عوده أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني لم يخلقهما باطلا ولا عبثا وإنما خلقها لأمر عظيم وغرض صحيح إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني أيها الناس وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني : سواكم أطوع للّه منكم. والمعنى : أن الذي قدر على خلق السموات والأرض ، قادر على إفناء قوم وإماتتهم وإيجاد خلق آخر سواهم لأن القادر لا يصعب عليه شيء. وقيل هذا خطاب لكفار مكة يريد يمتكم يا معشر الكفار ، ويخلق قوما غيركم خيرا منكم وأطوع وَما ذلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ يعني بممتنع لأن الأشياء كلها سهلة على اللّه ، وإن جلت وعظمت. قوله عز وجل وَبَرَزُوا للّه جَمِيعاً يعني وخرجوا من قبورهم إلى اللّه ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم والبراز الفضاء ، وبرز حصل في البراز وذلك أن يظهر بذاته كلها والمعنى ، وخرجوا من قبورهم وظهروا إلى الفضاء وأورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر اللّه عنه ، فهو حق وصدق. وكائن لا محالة فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهم القادة والرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً يعني في الدين والاعتقاد فَهَلْ أَنْتُمْ يعني في هذا اليوم مُغْنُونَ عَنَّا يعني دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللّه مِنْ شَيْءٍ من هنا للتبعيض والمعنى هل تقدرون على أن تدفعوا عنا بعض عذاب اللّه الذي حل بنا قالُوا يعني الرؤساء والقادة ، والمتبوعين للتابعين لَوْ هَدانَا اللّه لَهَدَيْناكُمْ يعني لو أرشدنا اللّه لأرشدناكم ودعوناكم إلى الهدى ولكن لما أضلنا دعوناكم إلى الضلالة سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا يعني مستويان علينا الجزع والصبر. والجزع ، أبلغ من الحزن لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ، ويقطعه عنه ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ يعني من مهرب ، ولا منجاة مما نحن فيه من العذاب. قال مقاتل : يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون : تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فعند ذلك يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. وقال محمد بن كعب القرظي : بلغني أن أهل النار يستغيثون بالخزنة كما قال اللّه وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فردت الخزنة عليهم وقالوا ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى فردت الخزنة وقالوا ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلما يئسوا مما عند الخزنة ، نادوا يا مالك ليقض علينا ربك سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم كألف سنة مما تعدون ثم يجيبهم بقوله : إنكم ماكثون فلما يئسوا مما عنده قال بعضهم لبعض : تعالوا فلنصبر كما صبر أهل الطاعة لعل ذلك ينفعنا فصبروا وطال صبرهم فلم ينفعهم وجزعوا ، فلم ينفعهم عند ذلك قالوا : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. قوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ يعني لما فرغ منه وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. يأخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، وتوبيخه ، فيقوم فيها خطيبا قال مقاتل : يوضع له منبر في النار فيجتمع عليه أهل النار يلومونه فيقول لهم : ما أخبر اللّه عنه بقوله إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ فيه إضمار تقديره فصدق في وعده وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ يعني الوعد. وقيل يقول : لهم إني قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ يعني من ولاية وقهر ، وقيل : لم آتيكم بحجة فيما وعدتكم به إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ هذا استثناء منقطع معناه لكن دعوتكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة ، وقد سمعتم دلائل اللّه وجاءتكم الرسل فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفوا إليّ ولا تسمعوا قولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ، ومتابعتي من غير حجة ولا دليل ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ يعني بمغيثكم ولا منقذكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ يعني بمغيثيّ ولا منقذيّ مما أنا فيه إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ يعني كفرت بجعلكم إياي شريكا له في عبادته وتبرأت من ذلك والمعنى أن إبليس جحد ما يعتقده الكفار فيه ، من كونه شريكا للّه وتبرأ من ذلك إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ روى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث الشفاعة ، وذكر الحديث إلى قوله (فيأتوني فيأذن اللّه لي أن أقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نورا من رأسي إلى ظهر قدمي. ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ، فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم تعظم جهنم ، ويقول عند ذلك : إن اللّه وعدكم وعد الحق الآية. وقوله تعالى : وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللّه الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّه ما يَشاءُ (٢٧) ٢٣٢٧وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لما شرح اللّه عز وجل حال الكفار الأشقياء بما تقدم من الآيات الكثيرة ، شرح أحوال المؤمنين السعداء ، وما أعد لهم في الآخرة من الثواب العظيم الجزيل ، وذلك أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم والمنفعة الخالصة إليها الإشارة دائمة بقوله : وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، وكونها دائمة أشير إليه بقوله خالِدِينَ فِيها والتعظيم حصل من وجهين أحدهما قوله : بِإِذْنِ رَبِّهِمْ لأن تلك المنافع إنما كانت تفضلا من اللّه بإنعامه الثاني قوله تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيحتمل أن بعضهم يحيي بعضا بهذا الكلمة أو الملائكة تحييهم بها أو الرب سبحانه وتعالى يحييهم ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع الآفات لأن السلام مشتق من السلامة. قوله عز وجل : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلًا لما شرح اللّه عز وجل أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ، ضرب مثلا فيه حكم هذين القسمين فقال تعالى : ألم تر أي بعين قلبك فتعلم علم يقين بإعلامي إياك فعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب فيه للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ويدخل معه غيره فيه ويحتمل أن يكون الخطاب فيه لكل فرد من الناس ، فيكون المعنى ألم تر أيها الإنسان كيف ضرب اللّه مثلا يعني بين شبها ، والمثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ، بينهما مشابهة ليتبين أحدهما من الآخر ويتصور. وقيل : هو قول سائر لتشبيه شيء بشيء آخر كَلِمَةً طَيِّبَةً هي قول لا إله إلا اللّه في قول ابن عباس وجمهور المفسرين : كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ يعني كشجرة طيبة الثمرة وقال ابن عباس : هي النخلة. وبه قال ابن مسعود وأنس ومجاهد وعكرمة والضحاك (ق) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : كنا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : (أخبروني عن شجرة شبه الرجل أو قال كالرجل المسلم لا يتحات ورقها تؤتي أكلها كل حين) قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (هي النخلة) قال : فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه واللّه لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة فقال ما منعك أن تتكلم؟ فقلت لم أركم تتكلمون فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا فقال عمر لأن تكون قلته أحب إلي من كذا وكذا وفي رواية : (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟) فوقع الناس في شجر البوادي قال عبد اللّه ابن عمر ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت أن أتكلم ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول اللّه قال (هي النخلة) وفي رواية عن ابن عباس ، أنها شجرة في الجنة وفي رواية أخرى عنه أنها المؤمن. وقوله أَصْلُها ثابِتٌ يعني في الأرض وَفَرْعُها يعني أعلاها فِي السَّماءِ يعني ذاهبة في السماء تُؤْتِي أُكُلَها يعني ثمرها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها يعني بأمر ربها والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير واختلفوا في مقداره هذا وقال مجاهد وعكرمة : الحين هنا سنة كاملة لأن النخلة تثمر في كل سنة مرة واحدة. وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : ستة أشهر يعني من وقت طلعها إلى حين صرامها ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا. وقال علي بن أبي طالب : ثمانية أشهر يعني أن مدة حملها باطنا وظاهرا ثمانية أشهر. وقيل : أربعة أشهر من حين ظهور حملها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب : شهران يعني من وقت أن يؤكل منها إلى صرامها. وقال الربيع بن أنس : كل حين يعني غدوة وعشية ، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارا وصيفا وشتاء ، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب ، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت. قال العلماء : ووجه الحكمة في تمثيل هذه الكلمة التي هي كلمة الإخلاص وأصل الإيمان بالنخلة حاصل من أوجه : أحدها : أن كلمة الإخلاص شديدة الثبوت في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض. الوجه الثاني : أن هذه الكلمة ترفع عمل المؤمن إلى السماء. كما قال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وكذلك فرع النخلة الذي هو عال في السماء. الوجه الثالث : أن ثمر النخلة يأتي في كل حين ووقت وكذلك ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كل وقت وحين ببركة هذه الكلمة ، فالمؤمن كلما قال : لا إله إلا اللّه صعدت إلى السماء وجاءته بركتها وثوابها وخيرها ومنفعتها. الوجه الرابع : أن النخلة شبيهة بالإنسان في غالب الأمر لأنها خلقت من فضلة طينة آدم وأنها إذا قطع رأسها تموت كالآدمي بخلاف سائر الشجر فإنه إذا قطع نبت ، وأنها لا تحمل حتى تلقح بطلع الذكر. الوجه الخامس : في وجه الحكمة في تمثيل الإيمان بالشجر على الإطلاق لأن الشجرة لا تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء : عرق راسخ ، وأصل ثابت ، وفرع قائم ، وكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان ، و قوله سبحانه وتعالى : وَيَضْرِبُ اللّه الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يعني أن في ضرب الأمثال زيادة في الأفهام وتصويرا للمعاني وتذكيرا ومواعظ لمن تذكر واتعظ. قوله تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهو الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعني الحنظل قاله أنس بن مالك ومجاهد : وفي رواية عن ابن عباس إنها الكشوت وعنه أيضا أنها الثوم وعنه أيضا أنها الكافر لأنه لا يقبل عمله فليس له أصل ثابت ولا يصعد إلى السماء اجْتُثَّتْ يعني استؤصلت وقطعت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يعني ما لهذه الشجرة من ثبات في الأرض ، لأنها ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له. قول طيب ولا عمل صالح ولا لاعتقاده أصل ثابت ، فهذا وجه تمثيل الكافر بهذه الشجرة الخبيثة. عن أنس قال أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقناع عليه رطب فقال : (مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال : هي النخلة ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار قال هي الحنظلة) أخرجه الترمذي. مرفوعا وموقوفا ، وقال الموقوف أصح. قوله سبحانه وتعالى : يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ والقول الثابت : هي الكلمة الطيبة وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه ، في قول جمهور المفسرين. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدمة بكلمة الشرك قال : في هذه الآية ويضل اللّه الظالمين يعني بالكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك في قول جميع المفسرين وقوله : فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني في القبر عند السؤال وَفِي الْآخِرَةِ يعني يوم القيامة عند البعث والحساب وهذا القول واضح ويدل عليه ما روي عن البراء بن عازب. قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إن المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فذلك قوله : يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة قال : نزلت في عذاب القبر زاد في رواية يقال له من ربك فيقول ربي اللّه ونبيي محمد صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن أنس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وأنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد اللّه ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (فيراهما جميعا) قال قتادة : ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ، ثم رجع إلى حديث أنس وأما المنافق وفي رواية وأما الكافر فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال : لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربةبين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين) لفظ البخاري ولمسلم بمعناه زاد في رواية (أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ، ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون) وأخرجه أبو داود عن أنس قال : وهذا لفظه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إن المؤمن إذا وضع قبره آتاه ملك فيقول : ما كنت تعبد؟ فإن هداه اللّه ، قال : كنت أعبد اللّه فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول هو عبد اللّه ورسوله فلا يسأل عن شيء بعدها فينطلق به إلى بيت كان له في النار ، فيقال له : هذا كان مقعدك ولكن عصمك اللّه فأبدلك به بيتا في الجنة فيراه ، فيقول : دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي. فيقال له : اسكن. وإن الكافر والمنافق إذا وضع في قبره ، آتاه ملك فينهضه فيقول ما كنت تعبد؟ فيقول : لا أدري. فيقال له : لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيه فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين) وأخرجه النسائي. أيضا عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا قبر الميت أو قال إذا قبر أحدكم آتاه ملكان أسودان أزرقان يقال ل أحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول : كنت أقول هو عبد اللّه ورسوله أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا ، ثم ينور له فيه ثم يقال له : ثم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه ، حتى يبعثه اللّه تعالى من مضجعه ، ذلك وإن كان منافقا فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثلهم لا أدري فيقولان : قد كنا نعلم أنك كنت تقول ذلك. فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك) أخرجه الترمذي. عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهت إلى القبر ، ولما يلحد بعد فجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وبيده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : تعوذوا باللّه من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا زاد في رواية قال : إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : يا هذا من ربك وما دينك ومن نبيك وفي رواية يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي اللّه فيقولان له وما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو رسول اللّه فيقولان : وما يدريك؟ فيقول : قرأت كتاب اللّه وآمنت به وصدقت ، زاد في رواية فذلك قوله : يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم لقناه قال فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوا له من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من ريحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره وإن كان الكافر فذكر موته قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول : هاه هاه لا أدري. فيقولان ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن قد كذب عبدي فافرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا في النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه في رواية ثم يقيض له أعمى أبكم أصم معه مرزبة من حديد ، لو ضرب بها جبلا لصار ترابا فيضربه بها ضربة ، يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم تعاد فيه الروح) أخرجه أبو داود. عن عثمان بن عفان قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) أخرجه أبو داود. عن عبد الرحمن بن ثمامة المهري قال : حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياق الموت فبكى بكاء طويلا ، وحول وجهه إلى الجدر وجعل ابنه يقول : ما يبكيك يا أبتاه أما بشرك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بكذا وكذا فأقبل بوجهه وقال : إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، وذكر الحديث بطوله وفيه فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ، ولا نار فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي). أخرجه مسلم بزيادة طويلة فيه قيل المراد من التثبيت بالقول الثابت هو أن اللّه تعالى إنما يثبتهم في القبر بسبب كثرة مواظبتهم على شهادة الحق في الحياة الدنيا وحبهم لها ، فمن كانت مواظبته على شهادة الإخلاص أكثر كان رسوخها في قلبه أعظم فينبغي للعبد المسلم أن يكثر من قول لا إله إلا للّه محمد رسول اللّه في جميع حالاته ، من قيامه وقعوده ونومه ويقظته وجميع حركاته وسكناته ، فلعل اللّه عز وجل أن يرزقه ببركة مواظبته على شهادة الإخلاص التثبيت في القبر ، ويسهل عليه جواب الملكين بما فيه خلاصه من عذاب الآخرة ، نسأل اللّه التثبيت في القبر ، وحسن الجواب وتسهيله بفضله ومنه وكرمه وإحسانه ، إنه على كل شيء قدير وقوله تعالى : وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ يعني أن اللّه تعالى لا يهدي المشركين إلى الجواب الصواب في القبر وَيَفْعَلُ اللّه ما يَشاءُ يعني من التوفيق ، والخذلان والهداية والإضلال والتثبيت ، وتركة لا اعتراض عليه في جميع أفعاله لا يسئل عما يفعل وهم يسألون. قوله عز وجل : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا للّه أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) ٢٨٣١أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْراً (خ) عن ابن عباس في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة اللّه كفرا؟ قال : هم كفار مكة وفي رواية هم واللّه كفار قريش. قال عمر : هم قريش ونعمة اللّه هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قال البوار : يوم بدر وعن علي رضي اللّه عنه قال هم كفار قريش فجروا يوم بدر ، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فقد كفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فقد متعوا إلى حين فقوله بدلوا نعمة اللّه كفرا معناه أن اللّه تعالى لما أنعم على قريش بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فأرسله إليهم وأنزل عليه كتابه ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان اختاروا الكفر على الإيمان ، وغيروا نعمة اللّه عليهم. وقيل : يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة اللّه عليهم كفرا لأنهم لما وجب عليهم الشكر بسبب هذه النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر ، وبدلوه بالكفر وأحلوا قومهم ، يعني ومن تبعهم على دينهم وكفرهم دار البوار يعني دار الهلاك ثم فسرها بقوله جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ يعني المستقر وَجَعَلُوا للّه أَنْداداً يعني أمثالا وأشباها من الأصنام ، وليس للّه تعالى ند ولا شبيه ، ولا مثيل تعالى اللّه عن الند والتشبيه والمثيل علوا كبيرا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعني ليضلوا الناس عن طريق الهدى ودين الحق قُلْ تَمَتَّعُوا أي قل : يا محمد لهؤلاء الكفار تمتعوا في الدنيا أياما قلائل فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ يعني في الآخرة. قوله تعالى قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ يعني يقيموا الصلاة الواجبة ، وإقامتها إتمام أركانها وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ قيل أراد بهذا الإنفاق إخراج الزكاة الواجبة ، وقيل : أراد به جميع الإنفاق في جميع وجوه الخير والبر وحمله على العموم أولى ليدخل فيه إخراج الزكاة ، والإنفاق في جميع وجوه البر سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني ينفقون أموالهم في حال السر وحال العلانية ، وقيل : أراد بالسر صدقة التطوع وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ قال أبو عبيدة : البيع هنا الفداء يعني لا فداء في ذلك اليوم وَلا خِلالٌ يعني ولا خلة ، وهي المودة والصداقة التي تكون مخاللة بين اثنين. وقال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخاللة ولا قرابة ، إنما هي الأعمال إما أن يثاب بها أو يعاقب عليها. فإن قلت : كيف نفى الخلة في هذه الآية ، وفي الآية التي في سورة البقرة وأثبتها في قوله (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)؟ قلت : الآية الدالة على نفي الخلة محمولة على نفي الخلة الحاصلة ، بسبب ميل الطبيعة ، ورعونة النفس ، والآية الدالة على حصول الخلة وثباتها محمولة على الخلة الحاصلة بسبب محبة اللّه ألا تراه أثبتها للمتقين فقط ، ونفاها عن غيرهم. وقيل : إن ليوم القيامة أحوالا مختلفة ، ففي بعضها يشتغل كل خليله عن خليله وفي بعضها يتعاطف الأخلاء بعضهم على بعض. إذا كانت تلك المخالة للّه في محبته. قوله عز وجل : اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) ٣٢٣٧اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ اعلم أنه تقدم تفسير هذه الآية في مواضع كثيرة ، ونذكر هاهنا بعض فوائد هذه الآية الدالة على وجود الصانع المختار القادر الذي لا يعجزه شيء أراده ، فقوله تعالى : اللّه خلق السموات والأرض ، إنما بدأ بذكر خلق السموات والأرض ، لأنها أعظم المخلوقات الشاهدة الدالة على وجود الصانع الخالق القادر المختار وأنزل من السماء ماء يعني من السحاب سمي السحاب سماء لارتفاعه مشتق من السمو ، وهو الارتفاع وقيل إن المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض فأخرج به أي بذلك الماء من الثمرات رزقا لكم ، والثمر اسم يقع على ما يحصل من الشجر. وقد يقع على الزرع أيضا بدليل قوله : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده وقوله : من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقا هو الثمرات وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى إنعامه بإنزال المطر ، وإخراج الثمر لأجل الرزق والانتفاع به ذكر نعمته على عباده بتسخير السفن الجارية على الماء ، لأجل الانتفاع بها في جلب ذلك الرزق الذي هو الثمرات ، وغيرها من بلد إلى بلد آخر. فهي من تمام نعمة اللّه على عباده وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ يعني ذللّها لكم تجرونها حيث شئتم ، ولما كان ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب أيضا ذكر نعمته على عباده في تسخير الأنهار ، وتفجير العيون لأجل هذه الحاجة ، فهو من أعظم نعم اللّه على عباده وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ الدأب العادة المستمرة دائما على حالة واحدة ودأب في السير داوم عليه ، والمعنى أن اللّه سخر الشمس والقمر ، يجريان دائما فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران إلى آخر الدهر ، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها. قال ابن عباس : دؤبها في طاعة اللّه عز وجل. وقال بعضهم : معناه يدأبان في طاعة اللّه أي في مسيرهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وإصلاح النبات والحيوان لأن الشمس سلطان النهار وبها تعرف فصول السنة والقمر سلطان الليل ، وبه يعرف انقضاء الشهور وكل ذلك بتسخير اللّه عز وجل ، وإنعامه على عباده وتسخيره لهم وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني يتعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان ، والزيادة وذلك من إنعام اللّه على عباده وتسخيره لهم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى النعم العظام التي أنعم اللّه بها على عباده وسخرها لهم بين بعد ذلك ، أنه تعالى لم يقتصر على تلك النعم بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها العد والحصر. والمعنى : وآتاكم من كل ما سألتموه شيئا فحذف شيئا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض ، وقيل : هو على التكثير يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه ، وما لم تسألوه لأن نعمه علينا أكثر من أن تحصى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوها يعني أن نعم اللّه كثيرة على عباده ، فلا يقدر أحد على حصرها ولا عدها لكثرتها إِنَّ الْإِنْسانَ قال ابن عباس : يريد أبا جهل ، وقال الزجاج : هو اسم جنس ولكن يقصد به الكافر لَظَلُومٌ كَفَّارٌ يعني ظلوم لنفسه كفار بنعمة ربه ، وقيل : الظلوم الشاكر لغير من أنعم عليه فيضع الشكر في غير موضعه كفار جحود لنعم اللّه عليه. وقيل : يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها ، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع بالنعمة يجمع ويمنع. قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة. فإن قلت : أي فرق بين قوله اجعل هذا بلدا آمنا وبين قوله اجعل هذا البلد آمنا؟ قلت : الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام. فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم ، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها. الوجه الثاني : أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام ، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها. الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضا أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام ، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش ، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام. قلت : الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه : فالجواب على الوجه الأول : من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد اللّه ولم يقدر أحد على خراب مكة ، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) أخرجاه في الصحيحين. وأجيب عنه بأن قوله : اجعل هذا البلد آمنا يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل : هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين. الوجه الثاني : أن يكون المراد اجعل أهل هذا البلد آمنين ، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى بقوله : ويتخطف الناس من حولهم ، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك ، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد اللّه بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني : فمن وجوه أيضا : الوجه الأول : أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة والتثبيت ، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك. الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام ، وإن كان يعلم أن اللّه سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء ، هضما للنفس وإظهارا للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل اللّه تعالى ورحمته ، وأن أحدا لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه اللّه به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه ، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه ، ولم يعبد أحد منهم صنما قط. الوجه الثاني : أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم. الوجه الثالث قال الواحدي : دعا لمن أذن اللّه أن يدعو له فكأنه قال : وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص. الوجه الرابع : أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : فمن تبعني فإنه مني ، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه ، واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ يعني الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وهذا مجاز لأن الأصنام جمادات ، وحجارة لا تعقل شيئا حتى تضل من عبدها إلا أنه لما حصل الإضلال بعبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرتهم وإنما فتنوا بها واغتروا بسببها فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني فمن تبعني على ديني واعتقادي ، فإنه مني يعني المتدينين بديني المتمسكين بحبلي كما قال الشاعر : إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني أراد ولست من المتمسكين بحبلي ، وقيل : معناه أنه مني حكمه حكمي جار مجراي في القرب والاختصاص وَمَنْ عَصانِي يعني في غير الدين فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال السدي : ومن عصاني ثم تاب فإنك غفور رحيم. وقال مقاتل : ومن عصاني فيما دون الشرك فإنك غفور رحيم. وشرح أبو بكر بن الأنباري هذا فقال : ومن عصاني فخالفني في بعض الشرائع وعقائد التوحيد فإنك غفور رحيم إن شئت أن تغفر له غفرت إذا كان مسلما وذكر وجهين آخرين أحدهما أن هذا كان قبل أن يعلمه اللّه أنه لا يغفر الشرك كما استغفر لأبويه ، وهو يقول أن ذلك غير محظور ، فلما عرف أنهما غير مغفور لهما تبرأ منهما ، والوجه الآخر ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان ، والإسلام وتهديه إلى الصواب. قوله عز وجل إخبارا عن إبراهيم رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (خ) عن ابن عباس قال : أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم إلى أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آللّه أمرك بهذا؟ قال نعم قالت إذن لا يضيعنا ثم رجعت فانطلق إبراهيم فدعا بهذه الدعوات فرفع يديه فقال : رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع حتى بلغ يشكرون وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفاء أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليها ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت منه حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : فلذلك سعى الناس بينهما فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت صوتا أيضا فقالت : قد أسمعت أن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بقعبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه ، وتقول : بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها ، وهو يفور بعد ما تغرف وفي رواية قدر ما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : (يرحم اللّه أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال : لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا) قال : فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتا للّه تعالى ، يبنيه هذا الغلام وأبوه وأن اللّه لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا. فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي ، وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا ، وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا : قال ابن عباس قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : فألقى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا أهليهم ، فنزلوا معهم حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم وشب الغلام ، وتعلم العربية منهم وآنسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه بامرأة منهم وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته أخرجه البخاري بأطول من هذا ، وقد تقدم الحديث بطوله في تفسير سورة البقرة ، وأما تفسير الآية فقوله ربنا إني أسكنت من ذريتي من للتبعيض أي بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام بواد غير ذي زرع يعني ليس فيه زرع ، لأنه واد بين جبلين جبل أبي قبيس وجبل أجياد وهو واد بمكة عند بيتك المحرم سماه محرما لأنه يحترم عنده ما لا يحترم عند غيره ، وقيل : لأن اللّه حرمه على الجبابرة فلم ينالوه بسوء وحرم التعرض له والتهاون به ، وبحرمته وجعل ما حوله محرما لمكانه ، وشرفه وقيل : لأنه حرم على الطوفان بمعنى امتنع منه وقيل : سمي محرما لأن الزائرين له يحرمون على أنفسهم أشياء كانت مباحة لهم من قبل وسمي عتيقا أيضا لأنه أعتق من الجبابرة أو من الطوفان. فإن قلت : كيف قال عند بيتك المحرم ولم يكن هناك بيت حينئذ ، وإنما بناه إبراهم بعد ذلك. قلت : يحتمل أن اللّه عز وجل أوحى إليه وأعلمه أن له هناك بيتا قد كان في سالف الزمان ، وأنه سيعمر فلذلك قال عند بيتك المحرم ، وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بينك الذي كان ثم رفع عند الطوفان وقيل : يحتمل أن يكون المعنى عند بيتك الذي جرى في سابق علمك أنه سيحدث في هذا المكان رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام في ليقيموا متعلقة بأسكنت يعني أسكنت قوما من ذريتي ، وهم إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا أي لأجل أن يقيموا أو لكي يقيموا الصلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ قال البغوي جمع الموفد تَهْوِي إِلَيْهِمْ تحن وتشتاق إليهم. قال السدي رحمه اللّه : أمل قلوبهم إلى هذا الموضع وقال ابن الجوزي أفئدة من الناس أي قلوب جماعة من الناس فلهذا جعله جمع فؤاد قال ابن الأنباري : وإنما عبر عن القلوب بالأفئدة لقرب القلب من الفؤاد فجعل القلب والفؤاد جارحتين. وقال الجوهري : الفؤاد القلب والجمع أفئدة فجعلهما جارحة واحدة ولفظة من في قوله من الناس للتبعيض ، قال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير : لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أفئدة من الناس فهم المسلمون تهوي إليهم قال الأصمعي : يقال هوى يهوي هويا إذا سقط من علو إلى أسفل وقال الفراء تهوي إليهم تريدهم كما تقول : رأيت فلانا يهوي نحوك معناه يريدك وقال أيضا تهوي تسرع إليهم ، وقال ابن الأنباري : معناه تنحط إليهم وتنحدر وتنزل هذا قول أهل اللغة في هذا الحرف وأما أقوال المفسرين فقال ابن عباس : يريد تحن إليهم لزيارة بيتك وقال قتادة تسرع إليهم. وفي هذا بيان أن حنين الناس إليهم ، إنما هو لطلب حج البيت لا لأعيانهم ، وفيه دعاء للمؤمنين بأن يرزقهم حج البيت ودعاء لسكان مكة من ذريته بأنهم ينتفعون بمن يأتي إليهم من الناس لزيارة البيت فقد جمع إبراهيم عليه السلام في هذا الدعاء من أمر الدين ، والدنيا ما ظهر بيانه وعمت بركاته وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ يعني كما رزقت سكان القرى ذوات الماء والزرع فيكون المراد عمارة قرى بقرب مكة لتحصل تلك الثمار ، وقيل يحتمل أن يكون المراد جلب الثمرات إلى مكة بطريق النقل والتجارة فهو كقوله تعالى يجبى إليه ثمرات كل شيء. وقوله تعالى لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ يعني لعلهم يشكرون هذه النعم التي أنعمت بها عليهم ، وقيل : معناه لعلهم يوحدونك ويعظمونك وفيه دليل على أن تحصيل منافع الدنيا ، إنما هو ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللّه مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ للّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) وَلا تَحْسَبَنَّ اللّه غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) ٣٨٤٣رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ يعني إنك تعلم السر كما تعلم العلن عما لا تفاوت فيه والمعنى أنك تعلم أحوالنا ، وما يصلحنا وما يفسدنا وأنت أرحم بنا منا فلا حاجة بنا إلى الدعاء ، والطلب إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك ، وتخشعا لعظمتك وتذللا لعزتك وافتقارا إلى ما عندك ، وقيل : معناه تعلم ما نخفي من الوجد بفرقة إسماعيل وأمه حيث أسكنتهما بواد غير ذي زرع وما نعلن يعني من البكاء ، وقيل : ما نخفي يعني من الحزن المتمكن في القلب ، وما نعلن يعني ما جرى بينه وبين هاجر عند الوداع حين قالت لإبراهيم عليه السلام إلى من تكلنا قال : إلى اللّه قالت إذا لا يضيعنا وَما يَخْفى عَلَى اللّه مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فقيل : هذا من تتمة قول إبراهيم يعني وما يخفى على اللّه الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان وقال الأكثرون : إنه من قول اللّه تعالى تصديقا لإبراهيم فيما قال : فهو كقوله وكذلك يفعلون الْحَمْدُ للّه الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ قال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة ، ومعنى قوله : على الكبر مع الكبر لأن هبة الولد في هذا السن من أعظم المنن لأنه سن اليأس من الولد فلهذا شكر اللّه على هذه المنة. فقال : الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق. فإن قلت : كيف جمع بين إسماعيل وإسحاق في الدعاء في وقت واحد وإنما بشر بإسحاق بعد إسماعيل بزمان طويل؟ قلت : يحتمل أن إبراهيم عليه السلام إنما أتى بهذا الدعاء عند ما بشر بإسحاق وذلك أنه لما عظمت المنة على قلبه بهبة ولدين عظيمين عند كبره قال عند ذلك الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ولا يرد على هذا ما ورد في الحديث أنه دعا بما تقدم عند مفارقة إسماعيل وأمه لأن الذي صح في الحديث أنه دعا بقوله ربنا إني أسكنت ذريتي إلى قوله لعلهم يشكرون إذا ثبت هذا فيكون قوله الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق في وقت آخر واللّه أعلم بحقيقة الحال إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ كان إبراهيم عليه السلام قد دعا ربه وسأله الولد بقوله (رب هب لي من الصالحين) فلما استجاب اللّه دعاءه ووهبه ما سأل شكر اللّه على ما أكرمه به من إجابة دعائه فعند ذلك قال الحمد للّه الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء وهو من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ يعني ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها في أوقاتها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيم الصلاة وإنما أدخل لفظة من التي هي للتبعيض في قوله ومن ذريتي لأنه أعلم بإعلام اللّه إياه أنه قد يوجد من ذريته جمع من الكفار لا يقيمون الصلاة فلهذا قال ومن ذريتي وأراد بهم المؤمنين من ذريته رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ سأل إبراهيم عليه السلام ربه أن يتقبل دعاءه فاستجاب اللّه لإبراهيم وقيل دعاءه بفضله ومنه وكرمه رَبَّنَا اغْفِرْ لِي فان قلت طلب المغفرة من اللّه إنما يكون لسابق ذنب قد سلف حتى يطلب المغفرة من ذلك الذنب وقد ثبت عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الذنوب فما وجه طلب المغفرة له؟ قلت : المقصود منه الالتجاء إلى اللّه سبحانه وتعالى وقطع الطمع من كل شيء إلا من فضله وكرمه والاعتراف بالعبودية للّه تعالى والاتكال على رحمته وَلِوالِدَيَّ. فإن قلت : كيف استغفر إبراهيم لأبويه وكانا كافرين؟ قلت : أراد أنهما إن أسلما وتابا وقيل إنما قال ذلك قبل أن يتبين له أنهما من أصحاب الجحيم وقيل إن أمه أسلمت فدعا لها وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وَلِلْمُؤْمِنِينَ يعني واغفر للمؤمنين كلهم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ يعني يوم يبدو ويظهر الحساب وقيل أراد يوم الناس للحساب فاكتفى بذلك أي بذكر الحساب لكونه مفهوما عند السامع وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة واللّه سبحانه وتعالى لا يرد دعاء خليله إبراهيم عليه السلام ففيه بشارة عظيمة لجميع المؤمنين بالمغفرة. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَحْسَبَنَّ اللّه غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ الغفلة معنى يمنع الإنسان من الوقوف على حقائق الأمور وقيل حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وهذا في حق اللّه محال فلا بد من تأويل الآية فالمقصود منها أنه سبحانه وتعالى ينتقم من الظالم للمظلوم ففيه وعيد وتهديد للظالم وإعلام له بأن لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلا قال سفيان بن عيينة : فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم. فإن قلت : تعالى اللّه عن السهو والغفلة فكيف يحسبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غافلا وهو أعلم الناس به أنه لم غافلا حتى قيل له ولا تحسبن اللّه غافلا عما يعمل الظالمون. قلت : إذا كان المخاطب به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ففيه وجهان : أحدهما التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب اللّه غافلا فهو كقوله (و لا تكونن من المشركين- ولا تدع مع اللّه إلها آخر) وك قوله سبحانه وتعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) أي اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان. الوجه الثاني أن المراد بالنهي عن حسابه غافلا الإعلام بأنه سبحانه وتعالى عالم بما يفعل الظالمون ولا يخفى عليه شيء وأنه ينتقم منهم فهو على سبيل الوعيد والتهديد لهم والمعنى : ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عنهم ولكن يعاملهم معاملة الرقيب الحفيظ عليهم المحاسب لهم على الصغير والكبير وإن كان المخاطب غير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلا إشكال فيه ولا سؤال لأن أكثر الناس غير عارفين بصفات اللّه فمن جوز أن يحسبه غافلا فلجهله بصفاته إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ يقال : شخص بصر الرجل إذا بقيت عيناه مفتوحتين لا يطرفهما ، وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة من هول ما ترى في ذلك اليوم مُهْطِعِينَ قال قتادة مسرعين وهذا قول أبي عبيدة فعلى هذا المعنى أن الغالب من حال من بقي بصره شاخصا من شدة الخوف أن يبقى واقفا باهتا فبين اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية أن أحوال أهل الوقف يوم القيامة بخلاف الحال المعتادة فأخبر سبحانه وتعالى أنهم مع شخوص الأبصار يكونون مهطعين يعني مسرعين نحو الدعي وقيل المهطع الخاضع الذليل الساكت مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ الاقناع رفع الرأس إلى فوق فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء وهذا بخلاف المعتاد لأن من يتوقع البلاء فإنه يطرق ببصره إلى الأرض قال الحسن وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وهو قوله تعالى لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة الخوف فهي شاخصة لا ترتد إليهم قد شغلهم ما بين أيديهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية. قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت في حناجرهم فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها ومعنى الآية أن أفئدتهم خالية فارغة لا تعي شيئا ولا تعقل من شدة الخوف. وقال سعيد بن جبير : وأفئدتهم هواء مترددة تهوي في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه ، ومعنى الآية أن القلوب يومئذ زائلة عن أماكنها والأبصار شاخصة والرؤوس مرفوعة إلى السماء من هول ذلك اليوم وشدته. وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) ٤٤وَأَنْذِرِ النَّاسَ يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم : طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فأجيبوا بقوله أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ يعني ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور. وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا للّه الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) ٤٥٤٨وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ يعني الأمثال التي ضربها اللّه عز وجل في القرآن ليتدبروها ، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم ، ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك. قوله سبحانه وتعالى وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله ، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل : إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومكرهم ما ذكره اللّه تعالى بقوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد ، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك. وقوله تعالى وَعِنْدَ اللّه مَكْرُهُمْ يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند اللّه ليجازيهم به يوم القيامة وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل : معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي ابن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه في الآية قولا آخر : وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرود : إن كان ما يقول إبراهيم حقا فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت ، واتخذ تابوتا من خشب وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعا في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحما أحمر وقعد هو في التابوت ، وأقعد معه رجلا آخر ، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه ، وطارت إليه فطارت النسور يوما أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له : افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال : أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان. قال : فطارت النسور يوما آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه : افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها ، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة : وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس ، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخا بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائرا أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم ملطخا بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل ، وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت ، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها ، فذلك قوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال : إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه ، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية البتة فَلا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني فلا تحسبن اللّه يا محمد مخلف ما وعد به رسله من النصر وإعلاء الكلمة ، وإظهار الدين فإنه ناصر رسله وأوليائه ومهلك أعدائه ، وفيه تقديم وتأخير تقديره ولا تحسبن اللّه مخلف رسله وعده إِنَّ اللّه عَزِيزٌ أي غالب ذُو انتِقامٍ يعني من أعدائه قوله عز وجل يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ذكر المفسرون في معنى هذا التبديل قولين أحدهما أنه تبديل صفة الأرض والسماء لا ذاتهما فأما تبديل الأرض فبتغيير صفتها وهيئتها مع بقاء ذاتها وهو أن تدك جبالها وتسوى وهادها وأوديتها ، وتذهب أشجارها وجميع ما عليها من عمارة وغيرها لا يبقى على وجهها شيء إلا ذهب ، وتمد مد الأديم وأما تبديل السماء فهو أن تنتثر كواكبها وتطمس شمسها ، وقمرها ويكوران كونها تارة كالدهان ، وتارة كالمهل وبهذا القول قال جماعة من العلماء : ويدل على صحة هذا القول ما روي عن سهل بن سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس بها علم لأحد) أخرجاه في الصحيحين العفراء بالعين المهملة ، وهي البيضاء إلى الحمرة ولهذا شبهها بقرصة النقي ، وهو الخبز الجيد البياض الفائق المائل إلى حمرة كأن النار ميلت بياض وجهها إلى الحمرة وقوله : ليس بها علم لأحد يعني ليس فيها علامة لأحد بتبديل هيئتها ، وزوال جبالها وجميع بنائها فلا يبقى فيها أثر يستدل به والقول الثاني : هو تبديل ذوات الأرض والسماء وهذا قول جماعة من العلماء ، ثم اختلفوا في معنى هذا التبديل فقال ابن مسعود في معنى هذه الآية قال : تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك بها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه : الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال أبيّ بن كعب في معنى التبديل : بأن تصير الأرض نيرانا والسماء جنانا وقال أبو هريرة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه عن أبي سعيد الخدري قال. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة) أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه. قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح هذا الحديث : أما النزل فبضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله وأما الخبزة فبضم الخاء. وقال أهل اللغة : هي الظلمة التي توضع في الملة يتكفؤها بالهمزة بيده أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتسوى لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ، وقد حققنا الكلام في اليد في حق اللّه سبحانه وتعالى وتأويلها مع القطع باستحالة الجارحة عليه ليس كمثله شيء ، ومعنى الحديث أن اللّه سبحانه وتعالى ، يجعل الأرض كالظلمة أي الرغيف العظيم وتكون طعاما نزلا لأهل الجنة واللّه على كل شيء قدير. فإن قلت : إذا فسرت التبديل بما ذكرت فكيف يمكن الجمع بينه وبين قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها وهو أن تحدث أخبارها ، وهو أن تحدث بكل ما عمل عليها ، قلت : وجه الجمع بين الآيتين أن الأرض تبدل أولا صفتها مع بقاء ذاتها كما تقدم فيومئذ تحدث أخبارها ثم بعد ذلك تبدل تبديلا ثانيا ، وهو أن تبدل ذاتها بغيرها كما تقدم أيضا ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن عائشة قالت سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فأين يكون الناس يومئذ يا رسول اللّه فقال : (على الصراط) أخرجه مسلم وروى ثوبان أن حبرا من اليهود سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض قال : (هم في الظلمة دون الجسر) ذكره البغوي بغير سند ، ففي هذين الحديثين دليل على أن تبديل الأرض ثاني مرة يكون بعد الحساب واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقوله تعالى وَبَرَزُوا يعني وخرجوا من قبورهم للّه يعني لحكم اللّه ، والوقوف بين يديه للحساب الْواحِدِ الْقَهَّارِ صفتان للّه تعالى فالواحد الذي لا ثاني له ، ولا شريك معه المنزه عن الشبه والضد والند والقهار الذي يقهر عباده على ما يريد ، ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قوله تعالى : وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللّه كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢) ٤٩٥٢وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ يعني مشدودين بعضهم إلى بعض يقال : قرنت الشيء بالشيء إذا شددته معه في رباط واحد فِي الْأَصْفادِ يعني في القيود والأغلال. قال ابن عباس : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة. وقال أبو زيد : تقرن أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي القيود. وقال ابن قتيبة : يقرن بعضهم إلى بعض سَرابِيلُهُمْ يعني قمصهم واحدها سربال وقيل السربال كل ما لبس مِنْ قَطِرانٍ القطران دهن يتحلب من شجر الأبهل والعرعر والتوت كالزفت تدهن به الإبل إذا جربت ، وهو الهناء يقال هنأت البعير أهنؤه بالهناء وهو القطران قال الزجاج : وإنما جعل لهم القطران سرابيل لأنه يبالغ في اشتعال النار في الجلود ولو أراد اللّه المبالغة في إحراقهم بغير ذلك لقدر ولكنه حذرهم مما يعرفون وقرأ عكرمة ، ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين فالقطر النحاس المذاب والآن الذي انتهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ يعني تعلوها وتجللّها لِيَجْزِيَ اللّه كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعني من خير أو شر إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إذا حاسب عباده يوم القيامة هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ يعني هذا القرآن فيه تبليغ وموعظة للناس وَلِيُنْذَرُوا يعني وليخوفوا بالقرآن ومواعظه وزواجره وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعني وليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية اللّه تعالى وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني وليتعظ بهذا القرآن وما فيه من المواعظ ، أولو العقول والأفهام الصحيحة ، فإنه موعظة لمن اتعظ واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. |
﴿ ٠ ﴾