٤

١٧

وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني من أهل قرية وأراد إهلاك الاستئصال إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي أجل مضروب ، ووقت معين لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ولا يأتيهم إلا في الوقت الذي حدد لهم في اللوح المحفوظ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها من زائدة ، في قوله : من أمة كقولك ما جاءني من أحد.

وقيل : هي على أصلها لأنها تفيد التبعيض إلى هذا الحكم فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد ، ومعنى الآية أن الأجل المضروب لهم وهو وقت الموت ، أو نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وهو

قوله سبحانه وتعالى : وَما يَسْتَأْخِرُونَ وإنما أدخل الهاء في أجلها لإرادة الأمة ، وإخراجها من قوله وما يستأخرون لإرادة الرجال.

قوله عز وجل وَقالُوا يعني مشركي مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعني القرآن وأرادوا به محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ إنما نسبوه إلى الجنون لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم ، كان يظهر عند نزول الوحي عليه ما يشبه الغشي ، فظنوا أن ذلك جنون فلهذا السبب نسبوه إلى الجنون ،

وقيل : إن الرجل إذا سمع كلاما مستغربا من غيره فربما نسبه إلى الجنون ، ولما كانوا يستبعدون كونه رسولا من عند اللّه ، وأتى بهذا القرآن العظيم أنكروه ونسبوه إلى الجنون ، وإنما قالوا : يا

أيها الذي نزل عليه الذكر على طريق الاستهزاء

وقيل : معناه يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمه ، واعتقاده واعتقاد أصحابه وأتباعه إنك لمجنون في ادعائك الرسالة لَوْ ما قال الزجاج والفراء : لو ما ولولا لغتان ومعناهما هلا يعني هلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ يعني يشهدون لك بأنك رسول من عند اللّه حقا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني في قولك وادعائك الرسالة ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعني بالعذاب أو وقت الموت ، وهو

قوله تعالى وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة إليهم لم يمهلوا ولم يؤخروا ساعة واحدة وذلك أن كفار مكة كانوا يطلبون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنزال الملائكة عيانا فأجابهم اللّه عز وجل بهذا ، والمعنى لو نزلوا عيانا لزال عن الكفار الإمهال وعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدقوا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ يعني القرآن أنزلناه عليك يا محمد ، وإنما قال سبحانه وتعالى : إنا نحن نزلنا الذكر جوابا لقولهم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر فأخبر اللّه عز وجل أنه هو الذي نزل الذكر على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الضمير في له يرجع إلى الذكر يعني ، وإنا للذكر الذي أنزلناه على محمد لحافظون يعني من الزيادة فيه ، والنقص منه والتغيير والتبديل والتحريف ، فالقرآن العظيم محفوط من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه ، أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة ، وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف ، والتبديل والزيادة والنقصان ولما تولى اللّه عز وجل حفظ هذا الكتاب بقي مصونا على الأبد محروسا من الزيادة والنقصان ، وقال ابن السائب ومقاتل : الكناية في له راجعة إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء فهو

كقوله تعالى (و اللّه يعصمك من الناس) ووجه هذا القول أن اللّه سبحانه وتعالى لما ذكر الإنزال ، والمنزل دل ذلك على المنزل عليه وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فحسن صرف الكناية إليه لكونه أمرا معلوما إلا أن

القول الأول أصح ، وأشهر ، وهو قول الأكثرين لأنه أشبه بظاهر التنزيل ورد الكناية إلى أقرب مذكور أولى ، وهو الذكر وإذا قلنا : إن الكناية عائدة إلى القرآن ، وهو الأصح فاختلفوا في كيفية حفظ اللّه عز وجل للقرآن فقال بعضهم : حفظه بأن جعله معجزا باقيا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه ، والنقصان منه لأنهم لو أرادوا الزيادة فيه والنقصان منه لتغيير نظمه ، وظهر ذلك لكل عالم عاقل وعلموا ضرورة أن ذلك ليس بقرآن ، وقال آخرون : إن اللّه حفظه وصانه من المعارضة فلم يقدر أحد من الخلق أن يعارضه. وقال آخرون : بل أعجز اللّه الخلق عن إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض اللّه له العلماء الراسخين يحفظونه ، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي

جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد اللّه تعالى

قوله سبحانه وتعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ لما تجرأ كفار مكة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم : إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر اللّه سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم ، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلا من قبلك يا محمد ، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه ،

وقوله تعالى في شيع الأولين : الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه.

وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان. وقوله في شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ السلوك النفاذ في الطريق ، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط ، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين ، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة ، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق ، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا : أضاف اللّه سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار ، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه ، وقال الإمام فخر الدين الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل ، والضلال في

قلوب الكفار فقالوا قوله : كذلك نسلكه أي كذلك نسلك الباطل ، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال ، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه ، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال : ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه ، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا : إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ، أنه الكفر والضلال.

قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم

وقيل بالقرآن وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فيه وعيد وتهديد لكفار مكة ، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل ، والمعنى وقد مضت سنة اللّه بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة بابا من السماء فظلوا. يقال : ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار ، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون ، والمعارج المصاعد وفي المشار إليه بقوله : فظلوا به يعرجون قولان :

أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك ، والمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار فرأوا بابا من السماء مفتوحا والملائكة تصعد فيه لما آمنوا.

والقول الثاني : أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى :

فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات ، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم ، ولقالوا إنا سحرنا وهو

قوله تعالى : لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا قال ابن عباس : سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس ، ومنع من الجري

وقيل : هو من سكر الشراب والمعنى أن أبصارهم حارت ، ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع للرجل السكران من تغيير العقل ، وفساد النظر

وقيل سكرت يعني غشيت أبصارنا وسكنت عن النظر ، وأصله من السكور يقال سكرت عينه إذا تحيرت ، وسكنت عن النظر بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ يعني سحرنا محمد ، وعمل فينا سحره. وحاصل الآية أن الكفار لما طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أن ينزل عليهم الملائكة فيروهم عيانا ، ويشهدوا بصدقه أخبر اللّه سبحانه وتعالى أنه لو حصل لهم هذا وشاهدوه عيانا لما أمنوا ولقالوا سحرنا لما سبق لهم في الأزل من الشقاوة.

قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني البروج التي تنزلها الشمس في مسيرها واحدها برج ، وهي بروج الفلك الاثنا عشر برجا وهي :

الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين منزلا لكل برج منزلان وثلث منزل ، وقد تقدم ذكر منازل القمر في تفسير سورة يونس ، وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرة ، وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوما ، قال ابن عباس في هذه الآية يريد بروج الشمس والقمر ، يعني منازلهما وقال ابن عطية : هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق يريدون نجوم هذه البروج ، وهي نجوم على ما صورت به. وسميت وأصل هذا كله من الظهور وَزَيَّنَّاها يعني السماء بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ يعني المعتبرين المستدلين بها على وحيد خالقها ، وصانعها وهو اللّه الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوره وَحَفِظْناها يعني السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي مرجوم فعيل بمعنى مفعول ،

وقيل : ملعون مطرود من رحمة اللّه. قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها إلى الكهنة فيلقونها إليهم ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلما ولد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، منعوا من السموات أجمع فما منهم من أحد يريد أن يسترق السمع إلا رمي بشهاب فلما منعوا من تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتلو القرآن فقالوا : هذا واللّه حدث.

إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)

﴿ ٤