٣١٢خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تقدم تفسيره خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي ، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : تزعم أن اللّه يحيي هذا بعد ما رم فنزلت فيه هذه الآية ، ونزل فيه أيضا قوله تعالى (قال من يحيي العظام وهي رميم) والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة ، وحملها على العموم أولى ، وفيها بيان القدرة وأن اللّه خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جبارا كثيرا لخصومة ، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم اللّه تعالى مع ظهورها عليهم. قوله عز وجل وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض ، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان ، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك ، وهو الأنعام. فقال تعالى وَالْأَنْعامَ خَلَقَها وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي : تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى لَكُمْ فِيها دِفْءٌ قال : ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى : فيها دفء. قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء ، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله ، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية ، ومنها غير ضرورية ، بدأ اللّه سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية ، فقال تعالى : لكم فيها دفء وهو ما يستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها ، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم وَمَنافِعُ يعني النسل والدر والركوب ، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني من لحومها. فإن قلت : قوله تعالى وَمِنْها تَأْكُلُونَ يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها. قلت : الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر ، فغير معتد به في الأغلب : وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت : منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل. وقوله سبحانه وتعالى وَلَكُمْ فِيها أي في الأنعام جَمالٌ أي زينة حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه بالليل. وقال : سرح القوم إبلهم تسريحا إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة : وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث ، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة ، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن اللّه سبحانه وتعالى بالتجمل بها فيه كما من بالانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى ، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضا ، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت ، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع ، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن ، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة ، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه. وقوله سبحانه وتعالى وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر إِلى بَلَدٍ يعني غير بلدكم قال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن ، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس : هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة وأكثر تجاراتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء ، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة ، النفس وذهاب نصفها إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع. قوله سبحانه وتعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها هذه الآية عطف على ما قبلها ، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها ، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء وَزِينَةً يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها. فصل احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال : هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم اللّه ، واستدلوا أيضا بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره اللّه تعالى ، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا لكان هذا المعنى أولى بالذكر ، لأن اللّه سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال : لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير : وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت : (نحرنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه) أخرجه البخاري ومسلم (ق). عن جابر (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن الحمار الأهلي) هذه رواية البخاري ومسلم ، وفي رواية أبي داود قال : (ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل) وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة ، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك ، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود ، قالوا : ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم ، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل ، وقال البغوي : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم ، بل المراد منها تعريف اللّه عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة ، وكان الأكل مسكوتا عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير ، فأخذنا بها جمعا بين النصين واللّه أعلم وقوله تعالى وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته ، وضرورياته على سبيل التفضيل ، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان في الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات اللّه عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه ، فلهذا ذكرها على الإجمال ، وقال بعضهم : ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد اللّه لأهل الجنة في الجنة ، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله : ويخلق ما لا تعلمون يعني السوس في النبات والدود في الفواكه. قوله سبحانه وتعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد استقامة الطريق ، يقال : طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى اللّه بيان قصد السبيل ، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل : معناه وعلى اللّه بيان طريق الحق بالآيات والبراهين وَمِنْها جائِرٌ يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام ، والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر ، وقال جابر بن عبد اللّه : قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض ، وقال عبد اللّه بن المبارك وسهل بن عبد اللّه : قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فيه دليل على أن اللّه تعالى ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم. قوله عز وجل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لما ذكر اللّه سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة : عقبه بذكر إنزال المطر من السماء ، وهو من أعظم النعم على العباد فقال : هو الذي أنزل من السماء. يعني ، واللّه الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر لَكُمْ مِنْهُ يعني من ذلك الماء شَرابٌ يعني تشربونه وَمِنْهُ يعني ومن ذلك الماء شَجَرٌ الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض ، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا : الشجر أصناف ما جل وعظم ، وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء ، وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول ، وقال أبو إسحاق : كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد : نطعمها اللحم إذا عز الشجر أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض ، وقال ابن قتيبة : في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر فِيهِ يعني في الشجر تُسِيمُونَ يعني ترعون مواشيكم. يقال : أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت يُنْبِتُ لَكُمْ أي ينبت اللّه لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم بِهِ أي بذلك الماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لما ذكر اللّه في الحيوان تفصيلا وإجمالا ذكر في الثمار تفصيلا وإجمالا فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان ، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة ، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة ، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكه ، والتغذية ، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالا لينبه بذلك على عظيم قدرته ، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ يعني الذي ذكر من أنواع الثمار لَآيَةً يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ تقدم تفسيره في سورة الأعراف مُسَخَّراتٌ يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادته ، وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر اللّه تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات بِأَمْرِهِ يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء ، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلا عن غيرها ، ولما ذكر اللّه سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن اللّه سبحانه وتعالى ، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته ، وقهره وتسخيره لما أراده منهم. وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) |
﴿ ٣ ﴾