١١٢٢فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من الموضع الذي كان يصلي فيه وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه حتى يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون ، إذ خرج إليهم زكريا متغيرا لونه فأنكروا ذلك عليه ، وقالوا له ما لك فَأَوْحى أي فأومأ وأشار إِلَيْهِمْ وقيل كتب لهم في الأرض أَنْ سَبِّحُوا أي صلوا للّه بُكْرَةً وَعَشِيًّا المعنى أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشيا فيأمرهم بالصلاة ، فلما كان وقت حمل امرأته ومنع من الكلام خرج إليهم فأمرهم بالصلاة إشارة. قوله عز وجل يا يَحْيى فيه إضمار ومعناه وهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة بِقُوَّةٍ أي بجد واجتهاد وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ قال ابن عباس : يعني النبوة صَبِيًّا وهو ابن ثلاث سنين وذلك أن اللّه تعالى أحكم عقله وأوحى إليه ، فإن قلت كيف يصح حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا قلت لأن أصل النبوة مبني على خرق العادات ، إذا ثبت هذا فلا تمنع صيرورة الصبي نبيا ، وقيل أراد بالحكم فهم الكتاب فقرأ التوراة وهو صغير وعن بعض السلف قال من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو من أوتي الحكم صبيا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا أي رحمة من عندنا قال الحطيئة يخاطب عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا أي ترحم علي وَزَكاةً قال ابن عباس : يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص ، وقيل هي العمل الصالح ، ومعنى الآية وآتيناه رحمة من عندنا وتحننا على العباد ليدعوهم إلى طاعة ربهم وعملا صالحا في إخلاصه وَكانَ تَقِيًّا أي مسلما مخلصا مطيعا ، وكان من تقواه إنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها قط وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ أي بارا لطيفا بهما محسنا إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم اللّه تعالى أعظم من بر الوالدين يدل عليه قوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الآية وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً الجبار المتكبر وقيل الذي يقتل ويضرب على الغضب ، وقيل الجبار الذي لا يرى لأحد على نفسه حقا وهو التعظيم بنفسه يرى أن لا يلزمه قضاء لأحد عَصِيًّا قيل هو أبلغ من المعاصي والمراد وصف يحيى بالتواضع ولين الجانب وهو من صفات المؤمنين وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا معناه وأمان له من اللّه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وأمان له يوم يموت من عذاب القبر ويوم يبعث حيا من عذاب يوم القيامة ، وقيل أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد لأنه يرى نفسه خارجا من مكان قد كان فيه ، ويوم يموت لأنه يرى قوما ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث لأنه يرى مشهدا عظيما فأكرم اللّه تعالى يحيى في هذه المواطن كلها فخصه بالسلامة فيها. قوله عز وجل وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ أي تنحت واعتزلت مِنْ أَهْلِها أي من قومها مَكاناً شَرْقِيًّا أي مكانا في الدار ما يلي المشرق ، وكان ذلك اليوم شاتيا شديد البرد فجلست في مشرقه تفلي رأسها وقيل إن مريم كانت قد طهرت من الحيض فذهبت تغتسل ، قيل ولهذا المعنى اتخذت النصارى المشرق قبلة فَاتَّخَذَتْ أي فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً قال ابن عباس أي سترا وقيل جلست وراء جدار ، وقيل إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من الحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه سوي الخلق فذلك. قوله تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا أي سوي الخلق لم ينقص من الصورة الآدمية شيئا ، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، وقيل المراد من الروح روح عيسى جاءت في صورة بشر فحملت به و القول الأول أصح ، فلما رأت مريم جبريل عليه السلام يقصد نحوها بادرته من بعيد قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي مؤمنا مطيعا للّه تعالى ، دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها. فإن قلت إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت إن كنت تقيا قلت هذا كقول القائل إن كنت مؤمنا فلا تظلمني أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعا من الظلم ، كذلك ها هنا معناه ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور قالَ لها جبريل عليه السلام إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ أسند الفعل إليه وإن كانت الهبة من اللّه تعالى لأنه أرسل به لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قال ابن عباس ولدا صالحا طاهرا من الذنوب قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي أي من أين يكون لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي ولم يقربني زوج وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي فاجرة تريد أن الولد إنما يكون من نكاح أو سفاح ولم يكن ها هنا واحد منهما قالَ جبريل كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ أي هكذا قال ربك هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أي خلق ولدك بلا أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أي علامة لهم ودلالة على قدرتنا وَرَحْمَةً مِنَّا أي ونعمة لمن تبعه على دينه إلى بعثة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا أي محكوما مفروغا من لا يرد ولا يبدل. قوله عز وجل فَحَمَلَتْهُ قيل إن جبريل رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبست الدرع ، وقيل مد جيب درعها بإصبعه ثم نفخ في الجيب ، وقيل نفخ في كمها وقيل في ذيلها ، وقيل في فيها ، وقيل نفخ من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فلما حملته تنحت بالحمل وانفردت مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا من أهلها. قال ابن عباس : أقصى الوادي ، وهو بيت لحم فرارا من أهلها وقومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج. قال ابن عباس : كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وقيل كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر الحوامل من النساء ، وقيل كانت مدة حملها ثمانية أشهر ، وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدة وعاش ، وقيل ولد لستة أشهر وهي بنت عشر سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وقيل ست عشرة سنة وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى ، وقال وهب : إن مريم لما حملت بعيسى كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي يمنة جبل صهيون ، وكانا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم من أهل زمانها أحد أشد عبادة واجتهادا منها وأول من علم بحمل مريم يوسف ، فبقي متحيرا في أمرها كلما أراد أن يتهمها ذكر عبادتها وصلاحها وأنها لم تغب عنه ، وإذا أراد أن يبرئها رأى ما ظهر منها من الحمل فأول ما تكلم به أن قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن أتكلم به أشفي صدري ، فقالت : قل قولا جميلا ، قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل ينبت شجر بغير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت نعم ألم تعلم أن اللّه أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تر أن اللّه أنبت الشجرة بالقدرة من غير غيث أو تقول إن اللّه تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها قال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول إن اللّه تعالى يقدر على كل شيء يقول له كن فيكون ، قالت له مريم : ألم تعلم أن اللّه خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى. فعند ذلك زال ما عنده من التهمة وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل. فلما دنت ولادتها أوحى اللّه إليها أن اخرجي من أرض قومك فذلك قوله تعالى فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا قوله عز وجل : فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) |
﴿ ١١ ﴾