سورة الأنبياءوهي مكية وعدد آياتها مائة واثنتا عشرة آية وألف ومائة وثمان وستون كلمة وأربعة آلاف وثمانمائة وتسعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) ١١٠قوله عز وجل : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ أي وقت محاسبة اللّه إياهم على أعمالهم يوم القيامة. نزلت في منكري البعث وإنما ذكر اللّه هذا الاقتراب لما فيه من المصلحة للمكلفين ، فيكونون أقرب إلى التأهب له ، والمراد بالناس المحاسبون وهم المكلفون دون غيرهم ، وقيل هم المشركون وهذا من باب إطلاق اسم الجنس على بعضه وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ أي عن التأهب له وقيل معناه أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء المحسن والمسيء ثم إذا نبهوا من سنة الغفلة بما يتلى من الآيات والنذر أعرضوا عنه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني ما يحدث اللّه من تنزيل شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم به وقيل معناه إن اللّه يحدث الأمر بعد الأمر فينزل الآية بعد الآية والسورة بعد السورة في وقت الحاجة لبيان الأحكام وغيرها من الأمور والوقائع وقيل الذكر المحدث ما قاله النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن وأضافه إليه لأن اللّه تعالى قال وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي ساهية معرضة غافلة عن ذكر اللّه وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالغوا في إخفاء التناجي وهم الذين أشركوا ثم بين سرهم الذي تناجوا به ، فقال تعالى مخبرا عنهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يعني أنهم أنكروا إرسال البشر وطلبوا إرسال الملائكة والأولى إرسال البشر إلى البشر لأن الإنسان إلى القبول من أشكاله أقرب أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ يعني أتحضرون السحر وتقبلونه وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ يعني تعلمون أنه سحر قالَ لهم محمد رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني لا يخفى عليه شيء وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأفعالهم. قوله عز وجل : بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ يعني أباطيل وأهاويل رآها في النوم بَلِ افْتَراهُ يعني اختلقه بَلْ هُوَ شاعِرٌ وذلك أن المشركين اقتسموا القول في النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفيما يقوله ، فقال بعضهم أضغاث أحلام وقال بعضهم بل هو فرية وقال بعضهم هو شاعر وما جاءكم به شعر فَلْيَأْتِنا يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بِآيَةٍ يعني بحجة إن كان صادقا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي من الرسل بالآيات قال اللّه تعالى مجيبا لهم ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل مشركي مكة مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية أتتهم الآيات أَهْلَكْناها يعني بالتكذيب أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ يعني إن جاءتهم آية والمعنى أن أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما جاءتهم أفيؤمن هؤلاء. قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم ، والمعنى إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالا يوحى إليهم مثلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أهل التوراة والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب ، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أمر اللّه المشركين بسؤال أهل الكتاب لأن المشركين أقرب إلى تصديقهم من تصديق من آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل أراد بالذكر القرآن يعني فاسئلوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قوله عز وجل : وَما جَعَلْناهُمْ أي الرسل جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ هذا رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ، والمعنى لم نجعلهم ملائكة بل جعلناهم بشرا يأكلون الطعام وَما كانُوا خالِدِينَ يعني في الدنيا بل يموتون كغيرهم ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ يعني الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ يعني من المؤمنين الذين صدقوهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ يعني المشركين لأن المشرك مسرف على نفسه. قوله عز وجل : لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا معشر قريش كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ يعني شرفكم وفخركم وهو شرف لمن آمن به ، وقيل معناه فيه حديثكم ، وقيل فيه ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم وقيل فيه تذكرة لكم لتحذروا فيكون الذكر بمعنى الوعد والوعيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه بعث على التدبر لأن الخوف من لوازم العقل. قوله تعالى : وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) ١١٢٢وَكَمْ قَصَمْنا يعني أهلكنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً يعني كافرة والمراد أهل القرية وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي أحدثنا بعد هلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي عذابنا بحاسة البصر إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يعني يسرعون هاربين من قريتهم لما رأوا مقدمة العذاب لا تَرْكُضُوا يعني قيل لهم لا تهربوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ يعني تنعمتم فيه من العيش وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قال ابن عباس عن قتل نبيكم ، قيل نزلت هذه الآية في أهل حضر موت قرية باليمن ، وكان أهلها عربا فبعث اللّه إليهم نبيا يدعوهم إلى اللّه فكذبوه وقتلوه ، فسلط اللّه عليهم بختنصر فقتلهم وسباهم ، فلما استمر فيهم القتل هربوا فقالت الملائكة لهم استهزاء لا تركضوا ، أي لا تهربوا وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم لعلكم تسألون شيئا من دنياكم فتعطون من شئتم وتمنعون من شئتم ، فإنكم أهل ثروة ونعمة فأتبعهم بختنصر وأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من جو السماء يا لثارات الأنبياء فلما رأوا ذلك ، أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعني لأنفسنا حين كذبنا الرسل وذلك أنهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب ، وقالوا ذلك على سبيل الندامة ولم ينفعهم الندم فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ يعني تلك الكلمة وهي قولهم يا ويلنا حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً يعني بالسيوف كما يحصد الزرع خامِدِينَ يعني ميتين. قوله عز وجل : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ معناه ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب للعب واللهو ، سويناهما لفوائد منها التفكر في خلقهما وما فيهما من العجائب والمنافع التي لا تعد ولا تحصى لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال ابن عباس : اللهو المرأة وعنه أنه الولد لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا يعني من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض ، وقيل معناه لو كان ذلك جائزا في حقنا لم نتخذه بحيث يظهر لكم بل نستر ، ذلك حتى لا تتطلعوا عليه ، وذلك أن النصارى لما قالوا ، في المسيح وأمه ما قالوا رد اللّه عليهم بقوله لاتخذناه من لدنا لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يعني ما كنا فاعلين ، وقيل ما كنا ممن يفعل ذلك لأنه لا يليق بالربوبية بَلْ يعني دع ذلك الذي قالوه فإنه كذب وباطل نَقْذِفُ يعني نرمي ونسلط بِالْحَقِّ يعني بالإيمان عَلَى الْباطِلِ يعني على الكفر ، وقيل الحق قول اللّه أنه لا ولد له والباطل قولهم اتخذ اللّه ولدا فَيَدْمَغُهُ فيهلكه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ يعني ذاهب والمعنى أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يذهب ويضمحل ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال تعالى (وَ لَكُمُ الْوَيْلُ) يا معشر الكفار (مِمَّا تَصِفُونَ) اللّه بما لا يليق من الصاحبة والولد وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني عبيدا وملكا وهو الخالق لهم والمنعم عليهم بأصناف النعم وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة وإنما خص الملائكة وإن كانوا داخلين في جملة من في السموات لكرامتهم ومزيد الاعتناء بهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ يعني لا يتكبرون ولا يتعظمون عنها وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يعني لا يعيون ولا يتعبون ، وقيل لا ينقطعون عن العبادة ثم وصفهم اللّه تعالى يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ يعني لا يضعفون ولا يسأمون ، وذلك أن تسبيحهم متصل دائم لا يفتر في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو شغل أخر قال كعب الأحبار التسبيح لهم كالنفس لبني آدم أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني الأصنام من الحجارة والخشب وغيرهما من المعادن وهي من الأرض هُمْ يُنْشِرُونَ يعني يحيون الأموات ، إذ لا يستحق الإلهية إلا من يقدر على الإحياء والإيجاد من العدم والإنعام بأبلغ وجوه النعم ، وهو اللّه عز وجل لَوْ كانَ فِيهِما يعني في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ يعني غير اللّه (لفسدتا) يعني لخربتا وهلك من فيهما الوجود والتمانع من الآلهة لأن كل أمر صدر عن الاثنين فأكثر لم يجر على النظام وقال الإمام فخر الدين الرازي قال المتكلمون القول بوجود إلهين يفضي إلى المحال ، فوجب أن يكون القول بوجود إلهين محالا ، وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا لو فرضنا وجود إلهين ، فلا بد وأن يكون كل واحد منهما قادرا على كل المقدورات ، ولو كان كذلك لكان كل واحد منهما قادرا على تحريك زيد وتسكينه. لو فرضنا أن أحدهما أراد تحريكه وأراد تسكينه ، فإما أن يقع المرادان وهو محال لاستحالة الجمع بين الضدين أو لا يقع واحد منهما وهو محال لأن المانع من وجود مراد كل واحد منهما مراد الآخر فلا يمتنع مراد هذا إلا عند وجود مراد ذلك وبالعكس فلو امتنعن معا لوجدا معا وذلك محال أو يقع مراد أحدهما : دون الثاني وذلك أيضا محال لوجهين أحدهما أنه لو كان كل واحد منهما قادرا على ما لا نهاية له امتنع كون أحدهما أقدر من الآخر ، بل لا بد وأن يستويا في القدرة وإذا استويا في القدرة استحال أن يصير مراد أحدهما أولى بالوقوع من مراد الثاني وإلا لزم ترجيح الممكن من غير مرجح. وثانيهما : أنه إذا وقع مراد أحدهما دون الآخر فالذي وقع مراده يكون قادرا والذي لم يقع مراده يكون عاجزا والعجز نقص ، وهو على الإله محال. ولو فرضنا إلهين ، لكان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات فيفضي إلى وقوع مقدور من قادرين مستقلين من وجه واحد ، وهو محال لأن إسناد الفعل إلى الفاعل إنما كان لإمكانه ، فإذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد فالفعل لكونه مع هذا يكون واجب الوقوع فيستحيل إسناده إلى هذا لكونه حاصلا منهما جميعا ، فيلزم استغناؤه عنهما معا واحتياجه إليهما معا ، وذلك محال وهذه حجة تامة في مسألة التوحيد فنقول القول بوجود إلهين يفضي إلى امتناع وقوع المقدور بواحد منهما ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يقع البتة وحينئذ يلزم وقوع الفساد قطعا ، أو نقول لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا ، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما ، وهو محال وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما أو يقع أحدهما دون الثاني والكل محال فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات. واعلم أنك إذا وقفت على حقيقة هذه الدلالة عرفت أن جميع ما في العالم العلوي والسفلي من المحدثات والمخلوقات فهو دليل على وحدانية اللّه تعالى. وأما الدلائل السمعية على الوحدانية فكثيرة في القرآن ، واعلم أن كل من طعن في دلالة التمانع ففسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة يقول بإلهيتها عبدة الأصنام ، لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فلزم إفساد العالم قالوا وهذا أولى لأنه تعالى حكى عنهم في قوله : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ ثم ذكر الدلالة على فساد هذا فوجب أن يختص الدليل به وأما قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ففيه تنزيه اللّه سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يعني لا يسأل عما يفعله ويقضيه في خلقه وَهُمْ يُسْئَلُونَ يعني والناس عن أعمالهم ، والمعنى أنه لا يسأل عما يحكم في عباده من إعزاز وإذلال وهدى وإضلال وإسعاد وإشقاء ، لأنه الرب مالك الأعيان والخلق يسألون سؤال توبيخ. يقال لهم يوم القيامة لم فعلتم كذا لأنهم عبيد يجب عليهم امتثال أمر مولاهم. واللّه تعالى ليس فوقه أحد يقول له لشيء فعله لم فعلته قوله عز وجل : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) ٢٤٣٣أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لما أبطل اللّه تعالى أن تكون آلهة سواه ، بقوله لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا أنكر عليهم اتخاذهم الآلهة فقال أم اتخذوا من دونه آلهة وهو استفهام إنكار وتوبيخ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي حجتكم على ذلك ثم قال مستأنفا هذا يعني القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ يعني فيه خبر من معي على ديني ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَذِكْرُ يعني خبر مَنْ قَبْلِي أي من الأمم السالفة وما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وقال ابن عباس ذكر من معي القرآن وذكر من قبلي التوراة والإنجيل ، والمعنى راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب ، هل تجدون فيها أن اللّه اتخذ ولدا أو كان معه آلهة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ قوله عز وجل : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ أي فوحدوني ، وقيل لما توجهت الحجة عليهم ، ذمهم على جهلهم بمواضع الحق ، فقال بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ، أي عن التأمل والتفكر وما يجب عليهم من الإيمان بأنه لا إله إلا هو. قوله تعالى : وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ نزه نفسه عما قالوا. بَلْ عِبادٌ أي هم عباد يعني الملائكة مُكْرَمُونَ أي أكرمهم اللّه واصطفاهم لا يَسْبِقُونَهُ أي لا يتقدمونه بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ المعنى أنهم لا يخالفونه قولا ولا عملا يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أي ما عملوا وما هم عاملون وقيل ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قال ابن عباس إلا لمن قال لا إله إلا اللّه وقيل إلا لمن رضى اللّه تعالى عنه وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وجلون لا يأمنون مكره وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ قيل عنى به إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه فإن أحدا من الملائكة لم يقل إني إله من دون اللّه فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. قوله عزّ وجلّ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألم يعلم الذين كفروا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً قال ابن عباس كانتا شيئا واحدا ملتزقتين فَفَتَقْناهُما أي فصلنا بينهما بالهواء. قال كعب : خلق اللّه السموات والأرض بعضها على بعض ، ثم خلق ريحا بوسطهما ففتحهما بها ، وقيل كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة ، ففتقها وجعلها سبع سموات وكذلك الأرض ، وقيل كانت السماء رتقا لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي وأحيينا بالماء الذي ينزل من السماء كل شيء ، من الحيوان ويدخل فيه النبات والشجر ، وذلك لأنه سبب لحياة كل شيء ، وقال المفسرون : معناه أن كل شيء حي فهو مخلوق من الماء وقيل يعني النطفة. فإن قلت قد خلق اللّه بعض ما هو حي من غير الماء كآدم وعيسى والملائكة والجان. قلت خرج هذا الأمر مخرج الأغلب والأكثر يعني أن أكثر ما على وجه الأرض مخلوق من الماء أو بقاؤه بالماء أَفَلا يُؤْمِنُونَ أي أفلا يصدقون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي لئلا تميد بهم ، قيل إن الأرض بسطت على الماء فكانت تتحرك كما تتحرك السفينة في الماء فأرساها اللّه فأثبتها بالجبال وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي فِجاجاً أي طرقا ومسالك والفج الطريق الواسع بين الجبلين سُبُلًا هو تفسير الفجاج لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى مقاصدهم وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي من أن يسقط ويقع وقيل محفوظا من الشياطين بالشهب وَهُمْ يعني الكفار عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ أي عما خلق اللّه فيها من الشمس والقمر والنجوم ، وكيفية حركاتها في أفلاكها ومطالعها ومغاربها ، والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة القاهرة ، لا يتفكرون ولا يعتبرون بها وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. وإنما قال يسبحون ولم يقل تسبح ، على ما يقال لما لا يعقل لأنه ذكر عنها فعل العقلاء ، وهو السباحة والجري. والفلك مدار النجوم الذي يضمها وهو في كلام العرب كل شيء مستدير ، وجمعه أفلاك وقيل الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل ، يريد أن الذي تجري فيه النجوم مستدير كاستدارة الرحى ، وقيل الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب فكل كوكب يجري في السماء الذي قدر فيه ، وقيل الفلك استدارة السماء ، وقيل الفلك موج مكفوف دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم ، وقال أصحاب الهيئة الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول ، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات إلا بأخبار الصادق فسبحان الخالق المدبر لخلقه بالحكمة والقدرة الباهرة غير المتناهية. قوله عزّ وجلّ : وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) ٣٤٤٣وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعني الدوام والبقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت هذه الآية حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون نشمت بموته ، فنفى اللّه الشماتة عنه بهذا والمعنى أن اللّه تعالى قضى أن لا يخلد في الدنيا بشرا لا أنت ولا هم فإن مت أنت أفيبقى هؤلاء وفي معناه قول القائل : فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ هذا العموم مخصوص بقوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك فإن اللّه تعالى حي لا يموت ولا يجوز عليه الموت. والذوق ها هنا عبارة عن مقدمات الموت وآلامه العظيمة قبل حلوله وَنَبْلُوكُمْ أي نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ أي بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر ، وقيل مما تحبون وما تكرهون فِتْنَةً أي ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبون وصبركم فيما تكرهون وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي للحساب والجزاء. قوله عزّ وجلّ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أي ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي سخريا قيل نزلت في أبي جهل مر به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فضحك وقال هذا نبي بني عبد مناف أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يقول بعضهم لبعض أهذا الذي يعيب ألهتكم والذكر يطلق على المدح والذم مع القرينة وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وذلك أنهم كانوا يقولون لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة وهو مسيلمة الكذاب قوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ ، قيل معناه أن بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع ، وقيل لما دخل الروح في رأس آدم وعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلا إلى ثمار الجنة ، فوقع فقيل خلق الإنسان من عجل وأورث بنيه العجلة وقيل معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق اللّه إياه ، لأن خلقه كان بعد كل شيء في آخر النهار يوم الجمعة ، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس فلما أحيا الروح رأسه قال يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس ، وقيل خلق بسرعة وتعجيل على غير قياس خلق بنيه لأنهم خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أطوارا أطوارا طورا بعد طور وقيل خلق الإنسان من عجل أي من طين قال الشاعر : والنخل ينبت بين الماء والعجل أي بين الماء والطين. وقيل أراد بالإنسان النوع الإنساني يدل عليه قوله سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وذلك أن المشركين كانوا يستعجلون العذاب ، وقيل نزلت في النضر بن الحرث ، ومعنى سأريكم آياتي أي مواعيدي فلا تطلبوا العذاب قبل وقته فأراهم يوم بدر ، وقيل كانوا يستعجلون القيامة فلذلك قال تعالى وَيَقُولُونَ يعني المشركين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وهذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء فبين تعالى أنهم إنما يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم ، ثم بين ما لهؤلاء المستهزئين فقال تعالى : لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ يعني لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ قيل السياط وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي لا يمنعون من العذاب والمعنى لو علموا لما أقاموا على كفرهم ولما استعجلوا بالعذاب ولما قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني الساعة بَغْتَةً أي فجأة فَتَبْهَتُهُمْ أي تحيرهم فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي صرفها ودفعها عنهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون للتوبة والمعذرة وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أي يا محمد كما استهزأ بك قومك فَحاقَ أي نزل وأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقوبة استهزائهم وفيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أي فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم. قوله تعالى قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا انصرفتم في معايشكم مِنَ الرَّحْمنِ قال ابن عباس معناه من يمنعكم من عذاب الرحمن بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ أي عن القرآن ومواعظه مُعْرِضُونَ أي لا يتأملون في شيء منها أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا معناه ألهم آلهة من دوننا تمنعهم ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ أي لا يقدرون على نصر أنفسهم فكيف ينصرون من عبدهم وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال ابن عباس يمنعون وقيل يجارون وقيل ينصرون وقيل معناه لا يصبحون من اللّه بخير. بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) ٤٤٥٦بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ يعني الكفار وَآباءَهُمْ أي في الدنيا بأن أنعمنا عليهم وأمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي امتد بهم الزمان فاغتروا أَفَلا يَرَوْنَ يعني هؤلاء المشركين أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني ننقص من أطراف المشركين ، ونزيد من أطراف المؤمنين يريد بذلك ظهور النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفتحه ديار الشرك أرضا فأرضا وقرية فقرية ، والمعنى أفلا يرى هؤلاء المشركون باللّه المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في إتيان الأرض من جوانبها بأخذ الواحد ، بعد الواحد وفتح البلاد والقرى مما حول مكة وإدخالها في ملك محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وموت رؤوس المشركين المتنعمين بالدنيا ، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ويعلموا أنهم لا يقدرون على الامتناع منا ومن إرادتنا فيهم ثم قال أَفَهُمُ الْغالِبُونَ استفهام بمعنى التقريع معناه بل نحن الغالبون وهم المغلوبون قُلْ يا محمد إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ أي أخوفكم بالقرآن وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ أي يخوفون وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أي أصابتهم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ قال ابن عباس طرف وقيل شيء قليل لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا على أنفسهم بالظلم والشرك. قوله عزّ وجلّ وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي ذوات العدل وصفها بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل ومعنى وضعها إحضارها لِيَوْمِ الْقِيامَةِ أي لأهل يوم القيامة قيل المراد بالميزان العدل والقسط بينهم في الأعمال ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته فاز ونجا وبالعكس ذل وخسر ، والصحيح الذي عليه أئمة السلف أن اللّه سبحانه وتعالى يضع الموازين الحقيقية ويزن بها أعمال العباد ، وقال الحسن هو ميزان له كفتان ولسان وأكثر الأقوال أنه ميزان واحد وإنما جمع لاعتبار تعدد الأعمال الموزونة به. وروي أن داود عليه الصلاة والسلام سأل ربه عزّ وجلّ أن يريه الميزان فأراه كل كفته ما بين المشرق والمغرب فلما رآه غشي عليه ، ثم فاق فقال إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ قال يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. فعلى هذا ففي كيفية وزن الأعمال مع أنها أعراض طريقان : أحدهما : أن توضع صحائف الأعمال فتوضع صحائف الحسنات في كفة ، وصحائف السيئات في كفة. والثاني : أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة. فإن قلت كيف تصنع بقوله ونضع الموازين القسط مع قوله فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. قلت هذه في حق الكفار لأنهم ليس لهم أعمال توزن مع الكفر. وقوله تعالى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً يعني لا تبخس مما لها وما عليها من خير وشر شيئا وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها معناه أنه لا ينقص من إحسان محسن ، ولا يزاد في إساءه مسيء ، وأراد بالحبة الجزء اليسير من الخردل ، ومعنى أتينا بها يعني أحضرناها لنجازي بها. عن عبد اللّه بن عمرو ابن العاص أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن اللّه سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول أتنكر من هذا شيئا ، أظلمك كتبتي الحافظون ، فيقول لا يا رب ، فيقول أفلك عذر ، فيقول لا يا رب. فيقول اللّه تعالى بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول أحضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه شي ء) أخرجه الترمذي. السجل الكتاب الكبير ، وأصله من التسجيل لأنه يجمع أحكاما ، والبطاقة ورقة صغيرة تجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه ، والطيش الخفة ، قلت في الحديث دليل على أن صحائف الأعمال هي التي توزن ، لا أن الأعمال تتجسد جواهر فتوزن واللّه أعلم. قوله تعالى : وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قال ابن عباس معناه كفى بنا عالمين حافظين لأن من حسب شيئا فقد علمه وحفظه ، والغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون بأشد الخوف منه ويروى عن الشبلي أنه رؤي في المنام فقيل له ما فعل اللّه بك فقال : حاسبونا فدققوا ثم منوا فأعتقوا هكذا سيمة الملوك بالمماليك يرفقوا قوله عزّ وجلّ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ يعني الكتاب المفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ، وقيل الفرقان النصر على الأعداء فعلى هذا يكون وَضِياءً يعني التوراة ومن قال الفرقان هو التوراة جعل الواو زائدة في وضياء والمعنى آتينا موسى التوراة ضياء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ يعني يتذكرون بمواعظها ويعملون بما فيها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه ، وقيل يخافونه في الخلوات إذا غابوا عن أعين الناس وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي خائفون وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أي كما آتينا موسى التوراة ، فكذلك أنزلنا القرآن ذكرا مباركا ، أي هو ذكر لمن آمن به مبارك يتبرك به ويطلب منه الخير أَفَأَنْتُمْ يا أهل مكة لَهُ مُنْكِرُونَ أي جاحدون. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي صلاحه وهداه مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون ، وقيل من قبل البلوغ وهو حين خرج من السرب وهو صغير وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي إنه من أهل الهداية والنبوة إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ يعني الصور والأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أي مقيمون على عبادتها قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ أي فاقتدينا بهم قالَ يعني إبراهيم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في خطأ بين بعبادتكم إياها قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالصدق أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ يعنون أجاد أنت فيما تقول أم أنت لاعب قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي خلقهن وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي على أنه الإله الذي يستحق العبادة ، وقيل شاهد على أنه خالق السموات والأرض وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأمكرن بها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ أي منطلقين إلى عيدكم ، قيل إنما قال إبراهيم هذا القول سرا في نفسه ، ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد من قومه فأفشاه عليه ، وهو القائل إنا سمعنا فتى يذكرهم ، وقيل كان لهم في كل سنة مجمع وعيد فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم رجعوا إلى منازلهم فلما كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فخرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا ، فنادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس تاللّه لأكيدن أصنامكم فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهن في بهو عظيم ، ومستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه صنم أصغر منه والأصنام جنبها إلى جنب بعض كل صنم الذي يليه أصغر منه وهكذا إلى باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما بين يدي الآلهة وقالوا إذا رجعنا وقد بركت الآلهة عليه أكلنا منه ، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء (ألا تأكلون) فلما لم يجيبوه قال (ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين) وجعل يكسرهن بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم العظيم ، علق الفأس في عنقه ، وقيل في يده ثم خرج فذلك قوله تعالى. فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) ٥٨٦٨فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً أي كسرا وقطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي تركه ولم يكسره ووضع الفأس في عنقه ، ثم خرج وقيل ربطه على يده وكانت اثنين وسبعين صنما بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من نحاس ورصاص وحجر وخشب وكان الصنم الكبير من الذهب مكللا بالجواهر في عينيه ياقوتتان تتقدان وقوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قيل معناه يرجعون إلى إبراهيم وإلى دينه وما يدعوهم إليه ، إذا علموا ضعف الآلهة وعجزها ، وقيل معناه لعلهم يرجعون إلى الصنم فيسألونه ما لهؤلاء تكسروا وأنت صحيح والفأس في عنقك ، فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم مكسرة قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي في تكسيرها واجترائه عليها قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يسبهم ويعيبهم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ أي هو الذي نظن أنه صنع هذا فبلغ ذلك نمرود الجبار وأشراف قومه قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ أي جيئوا به ظاهرا بمرأى الناس وإنما قاله نمرود لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي عليه بأنه الذي فعل ذلك كرهوا أن يأخذوه بغير بينة وقيل معناه لعلهم يحضرون عذابه وما يصنع به فلما أتوا به قالُوا له أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ يعني إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبدون معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهن وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم فذلك قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي حتى يخبروا بمن فعل ذلك بهم ، وقيل : معناه إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم عن النطق وفي ضمنه أنا فعلت ذلك (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات اللّه قوله إني سقيم وقوله : فعله كبيرهم هذا ، وقوله لسارة : هذه أختي) لفظ الترمذي قيل في قوله إني سقيم أي : سأسقم وقيل : سقيم القلب مغتم بضلالتكم. وأما قوله بل فعله كبيرهم هذا فإنه علق خبره بشرط نطقه كأنه قال : إن كان ينطق فهو على طريق التبكيت لقومه وقوله لسارة : هذه أختي ، أي في الدين والإيمان قال اللّه تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فكل هذه الألفاظ صدق في نفسها ليس فيها كذب. فإن قلت : قد سماها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كذبات بقوله : لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات وقال في حديث الشفاعة ويذكر كذباته. قلت : معناه أنه لم يتكلم بكلام صورته صورة الكذب ، وإن كان حقا في الباطن إلا هذه الكلمات ولما كان مفهوم ظاهرها خلاف باطنها أشفق إبراهيم عليه الصلاة والسلام منها بمؤاخذته بها قال البغوي : وهذه التأويلات لنفي الكذب عن إبراهيم والأولى هو الأول للحديث ، ويجوز أن يكون اللّه أذن له في ذلك لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم ، كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال : أيتها العير إنكم لسارقون ولم يكونوا سرقوا قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا القول مرغوب عنه ، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذب لمصلحة ويأذن اللّه فيه فلنجوز هذا الاحتمال في كل ما أخبر الأنبياء عنه ، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع ويطرق التهمة إلى كلها ، والحديث محمول على المعاريض ، فإنه فيها مندوحة عن الكذب. وقوله : فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يعني تفكروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فَقالُوا ما نراه إلا كما قال إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ يعني بعبادتكم ما لا يتكلم وقيل معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه ، وهذه آلهتكم حاضرة فاسألوها ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ قال أهل التفسيسر أجرى اللّه الحق على ألسنتهم في القول الأول وهو إقرارهم على أنفسهم بالظلم ثم أدركتهم الشقاوة فرجعوا إلى حالهم الأولى وهو قوله : ثم نكسوا على رؤوسهم أي ردوا إلى الكفر وقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ يعني فكيف نسألهم ، فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليهم قالَ لهم أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً يعني إن عبدتموه وَلا يَضُرُّكُمْ يعني إن تركتم عبادته أُفٍّ لَكُمْ يعني تبا لكم وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ والمعنى أنه حقرهم وحقر معبودهم أَفَلا تَعْقِلُونَ يعني أليس لكم عقل تعقلون به أن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ يعني أنكم لا تنصرونها إلا بتحريق إبراهيم لأنه يعيبها ويطعن فيها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ يعني ناصرين آلهتكم. قال ابن عمر : الذي قال هذا رجل من الأكراد قيل اسمه هيزن فخسف اللّه به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل : قاله نمرود بن كنعان بن سنحاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. ذكر القصة في ذلك فلما اجتمع نمرود وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة بقرية يقال لها كوثى ثم جمعوا له صلاب الحطب وأصناف الخشب مدة شهر حتى كان الرجل يمرض فيقول : لئن عوفيت لأجمعن حطبا لإبراهيم وكانت المرأة تنذر في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحتطبن في نار إبراهيم ، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها احتسابا في دينها ، وكان الرجل يوصي بشراء الحطب من ماله لإبراهيم ، فلما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب نارا فاشتعلت النار واشتدت حتى إن الطير ليمر بها فتحرق من شدة وهجها وحرها ، فأوقدوا عليها سبعة أيام ، فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم لم يعلموا كيف يلقونه ، فقيل إن إبليس جاء وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه ثم عمدوا إلى إبراهيم فقيدوه ورفعوه على رأس البنيان ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا ، فصاحت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلا الثقلين صيحة واحدة : أي ربنا إبراهيم خليلك يلقى في النار وليس في أرضك أحد يعبدك غيره ، فأذن لنا في نصرته فقال اللّه تعالى : إنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فإن استغاث بأحد منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري ، فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه ، فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه وقال : إن أردت أخمدت النار ، وأتاه خازن الهواء وقال : إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم حسبي اللّه حسبي اللّه ونعم الوكيل. وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه في النار : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار ، فاستقبله جبريل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة فقال : أما إليك فلا قال جبريل فاسأل ربك فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي (خ) عن ابن عباس في قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قال : قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حين قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ قال كعب الأحبار : جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ في النار (ق) عن أم شريك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أمر بقتل الأوزاغ- زاد البخاري- وقال كان ينفخ على إبراهيم) (قلنا) يعني قال عز وجل. قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) ٦٩٧١يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال ابن عباس : لو لم يقل سلاما لمات إبراهيم من بردها ، وفي بعض الآثار أنه لم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت فلم ينتفع في ذلك اليوم بنار في العالم ، ولو لم يقل على إبراهيم بقيت ذات برد أبدا ، وقيل : أخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام ، قاله المنهال بن عمرو وقال إبراهيم : ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت في النار. قيل : وبعث اللّه تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه. قالوا : وبعث اللّه عز وجل جبريل بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه ، وقال جبريل : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. ثم نظر نمرود وأشرف على إبراهيم من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب ، فناداه يا إبراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين النار يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها قال نعم. قال : هل تخشى إن قمت أن تضرك قال لا. قال : فقم فاخرج منها فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها فلما وصل إليه قال له يا إبراهيم من الرجل الذي رأيته معك مثلك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال : ذلك ملك الظل أرسله إلي ربي ليؤنسني فيها فقال نمرود يا إبراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده وإني ذابح له أربعة آلاف بقرة. قال إبراهيم : لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال : لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها ، فذبحها نمرود ، وكف عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومنعه اللّه عز وجل منه قوله عز وجل وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً يعني أرادوا أن يكيدوه فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ قيل : معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم. وقيل : إن اللّه تعالى أرسل على نمرود وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت في دماغه بعوضة فأهلكته. قوله تعالى : وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً يعني من نمرود وقومه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني إلى أرض الشام بارك اللّه فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار. وقال أبي بن كعب : بارك اللّه فيها وسماها مباركة لأنه ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وقيل : لأن أكثر الأنبياء منها (ق) عن أبي قتادة أن عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه قال لكعب : ألا تتحول إلى المدينة فيها مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقبره فقال كعب : إني وجدت في كتاب اللّه المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز اللّه من أرضه وبها كنز من عباده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم) أخرجه أبو داود ، أراد بالهجرة الثانية الهجرة إلى الشام يرغب في المقام بها عن زيد بن ثابت قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (طوبى لأهل الشام فقلت وما ذاك يا رسول اللّه قال لأن الملائكة باسطة أجنحتها عليها) أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : (قلت يا رسول اللّه أين تأمرني؟ قال ها هنا ونحا بيده نحو الشام) أخرجه الترمذي. قال محمد بن إسحاق : استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع اللّه تعالى به من جعل النار عليه بردا وسلاما على خوف من نمرود وملئهم وآمنت به سارة بنت هاران الأكبر عم إبراهيم ، وتبعه لوط وكان ابن أخيه وهو لوط بن هاران وهو أخو إبراهيم ، وكان لهما أخ ثالث اسمه ناخور فثلاثتهم أولاد تارخ وهو آزر ، فخرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وسارة فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حران فمكث بها ما شاء اللّه ، ثم خرج مهاجرا حتى قدم مصر ، ثم خرج ورجع إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي على مسيرة يوم وليلة من السبع فبعثه اللّه نبيا إلى أهلها وما قرب منها فذلك قوله تعالى وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قوله تعالى : وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) ٧٢٧٩وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً يعني عطية من عطاء اللّه. قال ابن عباس : النافلة هو يعقوب لأن اللّه تعالى أعطى إبراهيم إسحاق بدعائه حيث قال : رب هب لي من الصالحين وزاده يعقوب نافلة وهو ولد الولد وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يعني قدوة يهتدى بهم في الخير يَهْدُونَ بِأَمْرِنا يعني يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ يعنى العمل بالشرائع وَإِقامَ الصَّلاةِ يعني المحافظة عليها وَإِيتاءَ الزَّكاةِ يعني الواجبة وخصهما لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية وشرعت لذكر اللّه والزكاة أفضل العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه وَكانُوا لَنا عابِدِينَ يعني موحدين قوله عز وجل وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً أي الفصل بين الخصوم بالحق وقيل أراد الحكمة والنبوة وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني قرية سدوم وأراد أهلها وأراد بالخبائث إتيان الذكور في أدبارهم ، وكانوا يتضارطون في مجالسهم مع أشياء أخرى كانوا يعلمونها من المنكرات إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا قيل : أراد بالرحمة النبوة وقيل أراد بها الثواب إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الأنبياء. قوله تعالى : وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس من الغرق وتكذيب قومه له ، وقيل : إنه كان أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء. والكرب أشد الغم وَنَصَرْناهُ أي منعناه مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من أن يصلوا إليه بسوء وقيل من بمعنى على إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. قوله عز وجل وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان الحرث كرما قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعا وهو أشبه بالعرف إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا فأفسدته وكان بلا راع وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا لا يخفى علينا علمه. وفيه دليل لمن يقول بأن أقل الجمع اثنان لقوله وكنا لحكمهم والمراد به داود وسليمان قال ابن عباس وغيره. إن رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الزرع إن غنم هذا دخلت زرعي ليلا فوقعت فيه فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأعطاه رقاب الغنم بالزرع ، فخرجا فمرا على سليمان فقال : كيف قضى بينكما فأخبراه فقال سليمان : لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي أنه قال غير هذا أرفق بالفريقين ، فأخبر بذلك داود فدعاه وقال : كيف تقضي ويروى أنه قال له بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه ، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود : القضاء ما قضيت وحكم بذلك ، فقيل : كان لسليمان يوم حكم بذلك من العمر إحدى عشر سنة. وحكم الإسلام في هذه المسألة أن ما أفسدته الماشية المرسلة من مال الغير بالنهار فلا ضمان على ربها وما أفسدته بالليل ضمنه ربها لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار والمواشي تسرح بالنهار وترد بالليل إلى المراح. ويدل على هذه المسألة ما روى حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا لرجل من الأنصار فأفسدت فيه فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار ، وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وزاد في رواية : وإن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ، أخرجه أبو داود مرسلا. وذهب أصحاب الرأي أن المالك إذا لم يكن مع ماشيته فلا ضمان عليه فيما أتلفت ليلا كان أو نهارا ، فذلك قوله تعالى : فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أي علمناه وألهمناه حكم القضية وَكُلًّا أي داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام قال الحسن لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا ولكن اللّه حمد هذا بصوابه وأثنى على هذا باجتهاده. واختلف العلماء في أن حكم داود كان باجتهاده أم بنص ، وكذلك حكم سليمان فقال بعضهم : حكما بالاجتهاد. قال : ويجوز الاجتهاد للأنبياء ليدركوا ثواب المجتهدين والعلماء لهم الاجتهاد في الحوادث إذا لم يجدوا فيها نص كتاب أو سنة وإذا أخطئوا فلا إثم عليهم (ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) وقال قوم إن داود وسليمان حكما بالوحي فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ومن قال بهذا يقول لا يجوز للأنبياء الحكم بالاجتهاد لأنهم مستغنون عنه بالوحي ، واحتج من ذهب إلى أن كل مجتهد مصيب بظاهر هذه الآية وبالحديث حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ ، وهو قول أصحاب الرأي وذهب جماعة إلى أنه ليس كل مجتهد مصيبا بل إذا اختلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ، ولو كان كل واحد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى ، وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذا اجتهد فأخطأ فله أجر) لم يرد به أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة والإثم في الخطأ عنه موضوع إذا لم يأل جهدا ، ووجه الاجتهاد في هذا الحكم أن داود قوم قدر الضرر في الحرث فكان مساويا لقيمة الغنم ، وكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر في الحرث قيمة المثل ، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه. وأما سليمان فإن اجتهاده أدى إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد ، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائزة ، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الحرث فحكم به. ومن أحكام داود وسليمان عليهما السلام ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما فقالت لصاحبتها إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك اللّه هو ابنها فقضى به للصغرى) أخرجاه في الصحيحين قوله تعالى وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ أي يسبحن مع داود إذا سبح قال ابن عباس كان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، قيل : كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح وكذلك الطير وقيل معنى يسبحن يصلين معه إذا صلى وقيل كان داود إذا فتر يسمعه اللّه تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه وَكُنَّا فاعِلِينَ يعني ما ذكر من التفهيم وإيتاء الحكم والتسخير. وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) ٨٠٨١وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي صنعة الدروع التي تلبس في الحرب قيل أول من صنع الدروع وسردها واتخذها حلقا داود وكانت من قبل صفائح قالوا إن اللّه ألان الحديد لداود بأن يعمل منه بغير نار كأنه طين والدرع يجمع بين الخفة والحصانة وهو قوله تعالى : لِتُحْصِنَكُمْ أي تمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ أي حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم وقيل ليحصنكم اللّه به فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي يقول ذلك لداود وأهل بيته. قوله عز وجل وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا لسليمان الريح وهو جسم متحرك لطيف ممتنع بلطفه من القبض عليه يظهر للحسن بحركته ويخفى عن البصر بلطفه عاصِفَةً أي شديدة الهبوب. فإن قلت : قد وصفها اللّه بالرخاء وهي الريح اللينة قلت : كانت الريح تحت أمره إن أراد أن تشتد اشتدت وإن أراد أن تلين لانت تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك لأنها كانت تجري بسليمان وأصحابه حيث يشاء سليمان ثم يعود إلى منزله بالشام وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي بصحة التدبير فيه وعلمنا أن ما يعطى سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قال وهب : كان سليمان عليه السلام إذا خرج إلى مجلسه حلقت عليه الطير وقام له الإنس والجن حتى يجلس على سريره ، وكان امرأ غزاء ، قلما كان يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلا أتاه حتى يذله ، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب فاحتملته ، حتى إذا استقلت به أمر الرخاء فمرت به شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد. وكانت تمر بعسكره الريح الرخاء وبالمزرعة فما تحركها ولا تثير ترابا ولا تؤذي طائرا. قال وهب : ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتبه بعض صحابة سليمان إما من الإنس أو من الجن نحن نزلناه وما بنيناه ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء اللّه فنازلون بالشام وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم وكان يوضع له منبر من ذهب وسط البساط فيقعد عليه وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة ، تقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظلله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه شمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ، وقال الحسن : لما شغلت نبي اللّه سليمان الخيل حتى فاتته ، صلاة العصر غضب للّه فعقر الخيل فأبدله اللّه مكانها خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره كيف شاء فكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحه ببابل. وروي أن سليمان سار من أرض العراق فقال بمدينة بلخ متخللا بلاد الترك ، ثم جاوزهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثل ذلك ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض السند وجاوزها وخرج منها إلى مكران وكرمان ، ثم جاوزها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما ، وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى الشام. وكان مستقره بمدينة تدمر وكان أمر الشياطين قبل شخوصه إلى العراق فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأصفر والأبيض ، وفي ذلك يقول النابغة : إلا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند وجيش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) ٨٢٨٣قوله عز وجل وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له من قعر البحر الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي دون الغوص وهو اختراع الصنائع العجيبة كما قال يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ الآية ، ويتجاوزون في ذلك إلى أعمال المدن والقصور والصناعات كاتخاذ النورة والقوارير والصابون وغير ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ يعني حتى لا يخرجوا عن أمره ، وقيل : حفظناهم من أن يفسدوا ما عملوا وذلك أنهم كانوا إذا عملوا عملا في النهار وفرغ قبل الليل أفسدوه وخربوه. قيل : إن سليمان كان إذا بعث شيطانا مع إنسان ليعمل له عملا قال له إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل ويخربه. قوله تعالى : وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ يعني دعا ربه. ذكر قصة أيوب عليه السلام قال وهب بن منبه : كان أيوب رجلا من الروم وهو أيوب بن أموص بن تارخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران ، وكان اللّه تعالى قد اصطفاه ونبأه وبسط له الدنيا ، وكانت له البثنية من أرض البلقاء من أعمال خوارزم مع أرض الشام كلها سهلها وجبلها وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدد والكثرة ، وكان له خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل له آلة كل فدان أتان لكل أتان من الولد اثنان أو ثلاثة أو أربع أو خمس وفوق ذلك ، وكان اللّه تعالى قد أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعمهم ويكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل وكان شاكرا لأنعم اللّه ، مؤديا لحق اللّه قد امتنع عن عدو اللّه إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من الغرة والغفلة والتشاغل عن أمر اللّه بما هو فيه من أمر الدنيا ، وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وصدقوه : رجل من أهل اليمن يقال له النغر وقيل نغير ، ورجلان من أهل بلده يقال ل أحدهما تلدد والآخر صافر وكان لهؤلاء مال ، وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات ، وكان يقف فيهن حيثما أراد حتى رفع اللّه عيسى فحجب عن أربع. فلما بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حجب عن السموات كلها إلا من استرق السمع ، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب ، وذلك حين ذكره اللّه وأثنى عليه ، فأدرك إبليس الحسد والبغي ، فصعد سريعا حتى وقف من السماء حيث كان يقف وقال : إلهي نظرت في أمر عبدك أيوب فوجدته عبدا أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ، ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج عن طاعتك ، قال اللّه تعالى : انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض عدو اللّه إبليس حتى وقع على الأرض فجمع عفاريت الجن ومردة الشياطين وقال لهم : ماذا عندكم من القوة فقد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال. فقال عفريت من الشياطين : أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من نار فأحرق كل شيء آتي عليه قال إبليس : اذهب فأت الإبل ورعاتها ، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها ورعت فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها ، ثم جاء عدو اللّه إبليس في صورة قيم ممن كانوا عليها على قعود إلى أيوب فوجده قائما يصلي فقال يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك وأحرقتها ومن فيها غيري ، فقال أيوب بعد أن فرغ من الصلاة : الحمد للّه هو أعطانيها وهو أخذها ، وإنها مال اللّه أعارنيها وهو أولى بها ، إذا شاء نزعها. قال فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها ، منهم من يقول : ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور ، ومنهم من يقول : لو كان إله أيوب يقدر أن يمنع شيئا لمنع وليه ، ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه ويفجع صديقه ، فقال أيوب : الحمد للّه حين أعطاني وحين نزع مني ، عريانا خرجت من بطن أمي وعريانا أعود إلى التراب وعريانا أحشر إلى اللّه عز وجل ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته ، اللّه أولى بك وبما أعطاك ، ولو علم اللّه فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا ولكنه علم منك شرا فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال : ما عندكم من القوة فاني لم أكلم قلبه. قال عفريت من الجن عندي من القوة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. قال إبليس : فأت الغنم ورعاتها فانطلق حتى توسطها ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتا من عند آخرها ومات رعاتها ، فجاء إبليس متمثلا بقهرمان الرعاء إلى أيوب فوجده يصلي فقال له مثل القول الأول ، فرد عليه أيوب مثل الرد الأول ، فرجع إبليس إلى أصحابه فقال : ماذا عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب ، فقال عفريت : عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحا عاصفة تنسف كل شيء تأتي عليه. قال : فأت الفدادين في الحرث والزرع فانطلق يؤمهم وذلك حين شرع الفدادون في الحرث والزرع فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصفة فنسفت كل شيء من ذلك ، حتى كأنه لم يكن ثم جاء إبليس متمثلا بقهرمانهم إلى أيوب وهو قائم يصلي ، فقال له مثل قوله الأول ، فرد عليه أيوب مثل رده الأول ، وجعل إبليس يصف ماله مالا مالا حتى مر على آخره كلما انتهى إلى هلاك مال من أمواله حمد اللّه وأحسن الثناء عليه ، ورضي عنه بالقضاء ، ووطن نفسه بالصبر والبلاء حتى لم يبق له مال. فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال : إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال قال اللّه عز وجل : انطلق فقد سلطتك على ولده. فانقض عدو اللّه حتى أتى بني أيوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم القصر حتى تداعى من قواعده ، وجعل جدره يضرب بعضها بعضا يرميهم بالخشب والحجارة ، فلما مثل بهم كل مثلة رفع القصر وقلبه عليهم ، وصاروا منكسين وانطلق إلى أيوب متمثلا بالمعلم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه فأخبره وقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا وكيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل دماؤهم وأدمغتهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لتقطع قلبك عليهم ، فلم يزل يقول هذا ونحوه حتى رق قلب أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه وقال : يا ليت أمي لم تلدني. فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيوب مسرورا به ، ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر ، فصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته فسبقت توبته إلى اللّه وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئا ذليلا وقال : إلهي إنما هون على أيوب المال والولد أنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده فقال اللّه عز وجل : انطلق فقد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله ، وكان اللّه أعلم به ، ولم يسلطه عليه إلا رحمة ليعظم له الثواب و يجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر ورجاء الثواب. فانقض عدو اللّه إبليس سريعا إليه فوجد أيوب ساجدا فعجل قبل أن يرفع رأسه ، فأتاه من قبل وجهه فنفخ في منخريه نفخة اشتعل منها جسده فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم ، ووقعت فيه حكة فحك بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة. فلم يزل يحك حتى قرح لحمه وتقطع وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة لهم وجعلوا له عريشة ، ورفضه خلق اللّه كلهم غير امرأته وهي رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب ، فكانت تختلف إليه بما يصلحه وتلزمه ، فلما رأى الثلاثة من أصحابه ما ابتلاه اللّه به اتهموه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه ، فلما طال به البلاء انطلق إليه أصحابه فبكتوه ولا موه وقالوا : تب إلى اللّه من الذنب الذي عوقبت به. قال : وحضر معهم فتى حديث السن قد آمن به وصدقه فقال لهم الفتى : إنكم تكلمتم أيها الكهول وأنتم أحق بالكلام مني لأسنانكم ولكن تركتم من القول ما هو أحسن من الذي قلتم ، ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لأيوب عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم ، وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم ألم تعلموا أن أيوب نبي اللّه وصفوته وخيرته من أهل الأرض إلى يومكم هذا ثم لم تعلموا ولم يطلعكم اللّه على أنه سخط شيئا من أمره منذ آتاه اللّه ما آتاه إلى يومكم هذا ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه اللّه بها ولا أن أيوب قال على اللّه غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا. فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ، ووضعه في أنفسكم فقد علمتم أن اللّه تعالى يبتلي المؤمنين والصديقين والشهداء والصالحين ، وليس بلاؤه لأولئك دليلا على سخطه عليهم ، ولا لهوانهم عليه ، ولكنها كرامة وخيرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من اللّه بهذه إلا أنه أخ أحببتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم وهو مكروب حزين ، ولكنه يرحمه ويبكي ويستغفر له ويحزن لحزنه ويدله على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا فاللّه اللّه أيها الكهول ، وقد كان في عظمة اللّه وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم ألم تعلموا أن للّه عبادا أسكنتهم الخشية من غير عيّ ولا بكم وإنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الألباء العالمون باللّه ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة اللّه انقطعت ألسنتهم واقشعرت جلودهم وانكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاما لأمر اللّه وإجلالا ، فإذا اشتاقوا من ذلك استبقوا إلى اللّه بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم من الظالمين والخاطئين وإنهم لأبرار برآء ومع المقصرين المفرطين وإنهم لأكياس أقوياء. قال أيوب عليه السلام : إن اللّه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير ، فإذا نبتت في القلب يظهرها اللّه على اللسان وليست تكون الحكمة من قبل السن ولا طول التجربة ، وإذا جعل اللّه العبد حكيما في الصبا لم تسقط منزلته عند الحكماء ، وهم يرون من اللّه سبحانه وتعالى عليه نور الكرامة ، ثم أقبل أيوب على الثلاثة وقال : أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم قبل أن تضربوا ، كيف بي لو قلت تصدقوا عني بأموالكم لعل اللّه أن يخلصني ، أو قربوا عني قربانا لعل اللّه أن يقبله ويرضى عني وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم ، وظننتم أنكم قد عوفيتم بإحسانكم ، ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربكم ثم صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها اللّه تعالى بالعافية التي ألبسكم. وقد كنتم فيما خلا توقرونني وأنا مسموع كلامي معروف حقي منتصف من خصمي ، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، فأنتم كنتم أشد عليّ من مصيبتي. ثم أعرض عنهم أيوب ، وأقبل على ربه مستغيثا به متضرعا إليه فقال : يا رب لأي شيء خلقتني؟ ليتني إذ كرهتني لم تخلقني ، يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتني فألحقتني بآبائي ، فالموت كان أجمل بي. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ، جعلتني للبلاء غرضا ، وللفتنة نصيبا ، وقد وقع عليّ من البلاء ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي. وإن قضاءك هو الذي أذلني ، وإن سلطانك هو الذي أسقمني وأنحل جسمي ، ولو أن ربي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلم بملء فيّ فأدلي بعذري وأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي لرجوت أن يعافيني عند ذلك مما بي ، ولكنه ألقاني وتعالى عني فهو يراني ولا أراه ويسمعني ولا أسمعه. فلما قال ذلك أيوب وأصحابه عنده أظله غمام حتى ظن أصحابه أنه عذاب ، ثم نودي يا أيوب إن اللّه يقول ها أنا قد دنوت منك ولم أزل منك قريبا قم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد أزرك وقم مقام جبار يخاصم جبارا إن استطعت ، فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار مثلي. لقد منتك نفسك يا أيوب أمرا ، ما يبلغ لمثله مثلك. أين أنت مني يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل كنت معي تمد بأطرافها؟ هل علمت أي مقدار قدرتها ، أم على أي شيء وضعت أكنافها. أبطاعتك حمل الماء الأرض ، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت مني يوم رفعت السماء سقفا في الهواء لا تعلق بسبب من فوقها ولا يقلها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسير نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم أنبعت الأنهار وسكبت البحار؟ أبسلطانك حبست أمواج البحار على حدودها أم بقدرتك فتحت الأرحام حين بلغت ملتها؟ أين كنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل تدري على أي شيء أرسيتها أم بأي مثقال وزنتها؟ أم هل لك من ذراع تطيق حملها؟ أم هل تدري من أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ أم هل تدري من أي شيء أنشأت السحاب؟ أم هل تدري أين خزانة الثلج؟ أم أين جبال البرد؟ أم أين خزانة الليل بالنهار وخزانة النهار بالليل؟ وأين خزانة الريح؟ وبأي لغة تتكلم الأشجار ومن جعل العقول في أجواف الرجال؟ وشق الأسماع والأبصار؟ ومن ذلت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم الأرزاق بحكمته؟ في كلام كثير يدل على آثار قدرته ذكرها لأيوب فقال أيوب : صغر شأني وكل لساني وعقلي ورأيي وضعفت قوتي عن هذا الأمر الذي يعرض عليّ إلهي. قد علمت أن كل الذي قد ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من ذلك وأعجب لو شئت عملت ولا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية إلهي أوثقني البلاء فتكلمت ولم أملك نفسي فكان البلاء هو الذي أنطقني. ليت الأرض انشقت بي فذهبت فيها ولم أتكلم بشيء يسخطك. ربي وليتني مت بغمي في أشد بلائي قبل ذلك. إنما تكلمت حين تكلمت بعذري ، وسكت حين سكت لترحمني كلمة زلت مني فلن أعود ، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدي ، أعوذ بك اليوم منك وأستجير بك من جهد البلاء ، فأجرني وأستغيث بك من عقابك فأغثني ، وأستعينك عن أمري فأعني ، وأتوكل عليك فاكفني ، وأعتصم بك فاعصمني وأستغفرك فاغفر لي فلن أعود لشيء تكرهه مني. قال اللّه تعالى : يا أيوب نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي ، فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وتكون عبرة لأهل البلاء وعزا للصابرين ، فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، فمنه تناول وقرب عن أصحابك قربانا واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك. روي عن أنس يرفعه أن أيوب لبث ببلائه ثماني عشرة سنة ، وقال وهب : ثلاث سنين لم يزد يوما ، وقال كعب : سبع سنين ، وقال الحسن : مكث أيوب مطروحا على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا يختلف فيه الدود ، لا يقربه أحد غير رحمة صبرت معه بصدق ، وكانت تأتيه بالطعام ، وتحمد اللّه معه إذا حمد ، وأيوب مع ذلك لا يفتر عن ذكر اللّه تعالى والصبر على بلائه ، فصرخ إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض ، فلما اجتمعوا إليه قالوا : ما أحزنك؟ قال : أعياني هذا العبد الذي لم أدع له مالا ولا ولدا ولم يزدد إلا صبرا ، ثم سلطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة لا تقربه إلا امرأته ، فاستعنت بكم لتعينوني عليه ، فقالوا له : فأين مكرك الذي أهلكت به من مضى؟ قال : بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا عليّ قالوا : من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال : من قبل امرأته. قالوا فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها وليس يقربه أحد غيرها. قال : أصبتم فانطلق إبليس حتى أتى رحمة امرأة أيوب وهي تصدق فتمثل لها في صورة رجل وقال لها : أين بعلك يا أمة اللّه؟ قالت هو ذاك يحك قروحه ويتردد الديدان في جسده. فلما سمعها طمع أن تكون كلمة جزع ، فوسوس إليها وذكرها ما كانت فيه من النعم والمال ، وذكرها جمال أيوب وشبابه وما هو فيه من الضر ، وأن ذلك لا ينقطع عنه أبدا ، فصرخت فعلم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة وقال : ليذبح لي هذه أيوب ويبرأ فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال أين الولد أين الصديق أين لونك الحسن أين جسمك الحسن؟ اذبح هذه السخلة واسترح. قال أيوب : أتاك عدو اللّه فنفخ فيك؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والصحة من أعطانيه؟ قالت اللّه قال كم متعنا به قالت ثمانين سنة. قال فمنذ كم ابتلانا قالت منذ سبع سنين وأشهر قال ويلك ما أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة ، واللّه لئن شفاني اللّه لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير اللّه. طعامك وشرابك الذي تأتيني به علي حرام أن أذوق منه شيئا اعزبي عني فلا أراك ، فطردها ، فذهبت. فلما نظر أيوب وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خر ساجدا للّه وقارب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك ، فركض برجله فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها فلم يبق عليه من درنه ودائه شيء ظاهر إلا سقط ، وعاد شبابه وجماله أحسن ما كان ، ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، فقام صحيحا وكسي حلة فجعل يلتفت فلا يرى شيئا مما كان عليه وما كان له. من أهل ومال إلا وقد ضعفه اللّه له وذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراد من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحى اللّه إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها؟ قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا؟ ويضيع فتأكله السباع؟ لأرجعن إليه. فرجعت إليه فلا الكناسة رأت ، ولا تلك الحالة التي كانت تعرف ، وإذا الأمور قد تغيرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعيني أيوب ، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عن أيوب ، فدعاها وقال : ما تريدين يا أمة اللّه فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل به؟ فقال أيوب : ما كان منك فبكت وقالت بعلي. فقال هل تعرفينه إذا رأيتيه؟ قالت وهل يخفى على أحد رآه ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ثم قالت : أما إنه أشبه خلق اللّه بك إذ كان صحيحا. قال : فإني أنا أيوب الذي أمرتني أن أذبح سخلة لإبليس ، وإني أطعت اللّه وعصيت الشيطان ودعوت اللّه فرد عليّ ما ترين. وقال وهب : لبث أيوب في البلاء ثلاث سنين ، فلما غلب أيوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس من مراكب الناس له عظم وبهاء. فقال لها : أنت صاحبة أيوب هذا الرجل المبتلى قالت نعم. قال : هل تعرفيني؟ قالت لا. قال : أنا إله الأرض وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت لأنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه كل ما كان لكما من مال وولد فإنه عندي ثم أراها إياه ببطن الوادي الذي لقيها فيه. وفي بعض الكتب أن إبليس قال لها اسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها وما أراها. قال : لقد أتاك عدو اللّه ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم إن عافاه اللّه ليضربنها مائة جلدة وقال عند ذلك : مسني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. ثم إن اللّه تعالى رحم رحمة امرأة أيوب بصبرها معه على البلاء وخفف عليها ، وأراد أن يبر يمين أيوب ، فأمره أن يأخذ ضغثا يشتمل على مائة عود صغير فيضربها به ضربة واحدة. وقيل : لم يدع اللّه بالكشف عنه حتى ظهرت له ثلاثة أشياء : أحدها : ما قيل في حقه : لو كان لك عند اللّه منزلة ما أصابك هذا ، والثاني : أن امرأته طلبت طعاما فلم تجد ما تطعمه فباعت ذؤابتها فأتته بطعام ، والثالث : قول إبليس : إني أداويه على أن يقول أنت شفيتني. وقيل مسني الضر أي من شماتة الأعداء حتى روي أنه قيل له بعد ما عوفي ما كان أشد عليك في بلائك؟ قال : شماتة الأعداء. فإن قلت كيف سماه اللّه صابرا وقد أظهر الشكوى والجزع بقوله مسني الضر وقوله مسني الشيطان بنصب وعذاب؟ قلت : ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء بدليل. فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) ٨٤قوله تعالى : فَاسْتَجَبْنا لَهُ والشكوى إنما تكون إلى الخلق لا إلى الخالق بدليل قول يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه وقال سفيان بن عيينة : من أظهر الشكوى إلى الناس وهو راض بقضاء اللّه تعالى لا يكون ذلك جزعا كما (روي أن جبريل عليه السلام دخل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في مرضه فقال كيف تجدك؟ قال : أجدني مغموما وأجدني مكروبا. وقال لعائشة حين قالت : وا رأساه بل أنا وا رأساه) قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي أجبنا دعاءه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وذلك أنه قال له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فركض برجله فنبعت عين ماء فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل ، فنبعت عين ماء بارد ، فأمره أن يشرب منها ، فشرب ، فذهب كل داء كان بباطنه فصار كأصح ما كان وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قال ابن مسعود وابن عباس وأكثر المفسرين : رد اللّه إليه أهله وأولاده بأعيانهم وأحياهم اللّه وأعطاه مثلهم معهم ، وهو ظاهر القرآن ، وعن ابن عباس رواية أخرى أن اللّه رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا. وقيل كان له سبع بنين وسبع بنات. وعن أنس يرفعه أن كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث اللّه سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب ، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاضا. وروى أن اللّه تعالى بعث إليه ملكا وقال له : إن ربك يقرئك السلام بصبرك فاخرج إلى أندرك ، فخرج إليه فأرسل اللّه عليه جرادا من ذهب فذهبت واحدة فاتبعها وردها إلى أندره فقال له الملك ما يكفيك ما في أندرك؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركاته (خ) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال : بلى يا رب ولكني لا غنى لي عن بركتك). وقيل : آتى اللّه أيوب مثل أهله الذين هلكوا. قال عكرمة : قيل لأيوب إن أهلك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا ، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال : بل يكونون لي في الآخرة وأوتى مثلهم في الدنيا. فعلى هذا يكون معنى الآية وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي نعمة وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ يعني عظة وعبرة لهم. قوله عز وجل : وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) ٨٥٨٧وَإِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِدْرِيسَ هو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ لما ذكر اللّه أمر أيوب وصبره على البلاء أتبعه بذكر هؤلاء الأنبياء لأنهم صبروا على المحن والشدائد والعبادة أيضا. أما إسماعيل صلّى اللّه عليه وسلّم فإنه صبر على الانقياد إلى الذبح. وأما إدريس فقد تقدمت قصته. وأما ذو الكفل فاختلفوا فيه فقيل نبيا من بني إسرائيل وكان ملكا أوحى اللّه إليه إني أريد قبض روحك فاعرض ملكك على بني إسرائيل فمن تكفل أنه يصلي الليل ولا يفتر ويصوم النهار ولا يفطر ويقضي بين الناس ولا يغضب فادفع ملكك إليه ففعل ذلك ، فقام شاب فقال : أنا أتكفل لك بهذا ، فتكفل ووفى فشكر اللّه له ونبأه فسمي ذا الكفل. وقيل : لما كبر اليسع قال إني أستخلف رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي أنظر كيف يعمل قال : فجمع الناس وقال : من يتقبل مني ثلاثا أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ويقضي ولا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا ، فاستخلفه فأتاه إبليس في صورة شيخ ضعيف حين أخذ مضجعه للقائلة ، وكان لا ينام من الليل والنهار إلا تلك النومة : فدق الباب فقال : من هذا ، فقال : شيخ كبير مظلوم ، فقام ففتح الباب فقال إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا ، وجعل يطول عليه حتى ذهبت القائلة فقال : إذا رحت فائتني حتى آخذ حقك ، فانطلق وراح فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ فلم يره فقام يبتغيه فلم يجده ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلم يره ، فلما رجع إلى القائلة وقال وأخذ مضجعه دق الباب فقال : من هذا فقال : الشيخ المظلوم ففتح له وقال له : ألم أقل إذا قعدت فائتني؟ قال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك إذا قمت جحدوني قال : فانطلق فإذا جلست فائتني وفاتته القائلة ، فلما جلس جعل ينظر فلا يراه وشق عليه النعاس فلما كان اليوم الثالث قال لبعض أهله لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنه قد شق علي النعاس فلما كانت تلك الساعة نام فجاء فلم يأذن له الرجل فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ، فإذا هو في البيت فدق الباب من داخل فاستيقظ فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي فلم تؤت فانظر من أين أتيت فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت فقال : أتنام والخصوم ببابك ، فنظر إليه فعرفه فقال : أعدو اللّه؟ قال نعم أعييتني وفعلت ما فعلت لأغضبك فعصمك اللّه فسمي ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به ، واختلف في نبوته فقيل كان نبيا ، وهو إلياس وقيل هو زكريا ، وقيل إنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا يعني ما أنعم به عليهم من النبوة وصبرهم إليه في الجنة من الثواب إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. قوله عز وجل : وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت أضيف إلى الحوت لابتلاعه إياه وهو يونس بن متى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً قال ابن عباس في رواية عنه : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك فسبى منها تسعة أسباط ونصفا وبقي منهم سبطان ونصف ، فأوحى اللّه إلى شعياء النبي أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك : فمن ترى ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء. قال : يونس إنه قوي أمين فدعا الملك يونس : وأمره أن يخرج فقال يونس هل اللّه أمرك بإخراجي؟ قال لا. قال فهل سماني اللّه لك؟ قال لا. قال ها هنا غيري أنبياء أقوياء ، فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي وللملك وقومه وأتى بحر الروم فركب وقيل ذهب عن قومه مغاضبا لربه لما كشف عنهم العذاب بعد ما أوعدهم وكره أن يكون بين أظهر قوم جربوا عليه الخلف فيما أوعدهم ، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع العذاب عنهم به فكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأنه يسمى كذابا لا كراهية لحكم اللّه. وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أنهم يقتلون من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتلوه ما لم يأتهم العذاب للميعاد فذهب مغاضبا. قال ابن عباس : أتى جبريل يونس فقال انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم فقال : ألتمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك فغضب وانطلق إلى السفينة. وقال وهب : إن يونس كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق فلما حمل أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها من يده وخرج هاربا منها فلذلك أخرجه اللّه من أولي العزم من الرسل وقال لنبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وقال وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نقضي عليه العقوبة. قاله ابن عباس في رواية عنه وقيل معناه فظن أن لن نضيق عليه الحبس وقيل معناه فظن أنه يعجر ربه فلا يقدر عليه ، قيل لما انطلق يونس مغاضبا لربه واستزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه وكان له سلف وعبادة أبى اللّه أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت فمكث فيه أربعين ما بين يوم وليلة. وقيل سبعة أيام وقيام ثلاثة. وقيل : إن الحوت ذهب به حتى بلغ تخوم الأرض السابعة فتاب إلى ربه وراجع نفسه في بطن الحوت فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي حيث عصيتك وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك فأخرجه اللّه من بطن الحوت برحمته وروى أبو هريرة مرفوعا قال أوحى اللّه تعال إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا فأوحى اللّه إليه هذا تسبيح دواب البحر قال فسبح هو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وفي رواية صوتا معروفا من مكان مجهول فقال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت فقالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل فذلك. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) ٨٨٩٢قوله تعالى فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي تلك الظلمات وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ أي من الكروب إذا دعونا واستغاثوا بنا. فإن قلت قد تمسك بمواضع من هذه القصة من أجاز وقوع الذنب من الأنبياء منها قوله إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ومنها فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ومنها قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قلت أما الجواب الكلي فقد اختلفوا في هذه الواقعة هل كانت قبل الرسالة أم لا؟ فقال ابن عباس : كانت رسالته بعد أن أخرجه اللّه من بطن الحوت بدليل قوله تعالى في الصافات بعد ذكر خروجه وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فثبت بهذا أن هذه الواقعة كانت قبل النبوة وقد أجاز بعضهم عليه الصغائر قبل النبوة ومنعها بعد النبوة وهو الصحيح. وأما الجواب التفصيلي لقوله إذ ذهب مغاضبا فحمله على أنه لقومه أو للملك أولى بحال الأنبياء وأما قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فقد تقدم معناه أي لن نضيق عليه وذلك أن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج. وإن اللّه تعالى لا يضيق عليه في اختياره وقيل هو من القدر لا من القدرة وأما قوله إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فالظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا اعتراف عند بعضهم بذنبه فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه وفي هذه الأشياء ترك الأفضل مع قدرته على تحصيله فكان ذلك ظلما. وقيل كانت رسالته قبل هذه الواقعة بدليل قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فعلى هذا يكون الجواب عن هذه الواقعة ما تقدم من التفصيل واللّه أعلم. قوله عز وجل وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ أي دعا ربه فقال رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا لا ولد لي يساعدني وارزقني وارثا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ هو ثناء على اللّه بأنه الباقي بعد فناء الخلق وأنه الوارث لهم وهذا على سبيل التمثيل والمجاز فهو كقوله وأنت خير الرازقين فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى أي ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما وقيل كانت سيئة الخلق فأصلحها اللّه تعالى له بأن رزقها حسن الخلق إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يعني الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وقيل زكريا وأهل بيته ، والمسارعة في الخيرات من أكبر ما يمدح به المرء لأنها تدل على حرص عظيم في طاعة اللّه عز وجل وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً يعني أنهم ضموا إلى فعل الطاعات أمرين : أحدهما : الفزغ إلى اللّه لمكان الرغبة في ثوابه والرهبة من عقابه. والثاني : الخشوع وهو قوله تعالى وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ الخشوع هو الخوف اللازم للقلب فيكون الخاشع هو الحذر الذي لا ينبسط في الأمور خوفا من الوقوع في الإثم. قوله تعالى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا كما قالت لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وهي مريم بنت عمران فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أمرنا جبريل حتى نفخ في جيب درعها فخلقنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه تشريفا لعيسى كبيت اللّه وناقة اللّه وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً أي دلالة لِلْعالَمِينَ على كمال قدرتنا على خلق ولد من غير أب ، فان قلت هما آيتان فكيف قال آية؟ قلت معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية واحدة أي ولادتها إياه من غير أب آية. قوله تعالى إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم ودينكم أُمَّةً واحِدَةً أي دينا واحدا وهو الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان والأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد ، وجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ أي لا دين سوى ديني ولا رب لكم غيري فاعبدوني أي وحدوني. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) ٩٣١٠٠وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا حتى لعن بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجزيهم بأعمالهم فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا يجحد ولا يبطل سعيه بل يشكر ويثاب عليه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي لعمله وحافظون له. وقيل : الشكر من اللّه المجازاة ، والكفران ترك المجازاة. قوله عز وجل وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ قال ابن عباس : ومعناه وحرام على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك ، وقيل : معناه وحرام على أهل قرية حكمنا بهلاكهم أن نقبل أعمالهم لأنهم لا يتوبون. قوله عز وجل حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ يريد فتح السد وذلك أن اللّه يفتحه أخبر عن يأجوج ومأجوج وهما قبيلتان ، يقال إنهما تسعة أعشار بني آدم وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أي يسرعون النزول من كل الآكام والتلال. وفي هذه الكناية وجهان : أحدهما أن المراد بهم يأجوج ومأجوج وهو الأصح بدليل ما روي عن النواس بن سمعان قال (ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظننا أنه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم؟ قلنا : يا رسول اللّه ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه واللّه خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط عينه طافئة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد اللّه فاثبتوا قلنا يا رسول اللّه وما لبثه في الأرض؟ قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول اللّه فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول اللّه وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر لهم السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأصبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه). قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم (و يمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى عليه السلام إلى قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح على وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى اللّه إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد أن يقاتلهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقول لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي اللّه عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه فيهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء اللّه ، ثم يرسل اللّه مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة. ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ودري بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة) أخرجه مسلم. شرح غريب ألفاظ الحديث قوله حتى ظنناه في طائفة النخل أي ناحية النخل وجانبه والطائفة القطعة من الشيء ، وقوله فخفض فيه ورفع خفض صوته ورفعه من شدة ما تكلم به في أمره. وقيل إنه خفض من أمره تهوينا له ورفع من شدة فتنته والتخويف من أمره. قوله إنه شاب قطط أي جعد الشعر وقوله طافئة أي خارجة عن حدها قوله إنه خارج خلة أي إنه يخرج قصدا وطريقا بين جهتين والتخلل الدخول في الشيء. قوله فعاث أي أفسد. قوله اقدروا له قدره أي قدروا قدر يوم من أيامكم المعهودة وصلوا فيه بقدر أوقاته ، وقوله فتروح عليهم سارحتهم أي مواشيهم ، وقوله فيصبحون ممحلين أي مقحطين قد أجدبت أرضهم وغلت أسعارهم. قوله كيعاسيب النحل جمع يعسوب وهو فحل النحل ورئيسها. قوله فيقطعه جزلتين رمية الغرض أي قطعتين والغرض الهدف الذي يرمى بالنشاب. قوله بين مهرودتين رويت بالدال المهملة وبالمعجمة أي شقتين وقيل حلتين وقيل الهرد الصبغ الأصفر بالورس والزعفران. قوله لا يدان لأحد بقتالهم أي لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم والنغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم فرسي جمع فريس وهو القتيل. قوله زهمهم أي ريحهم النتنة. قوله كالزلفة أي كالمرآة وجمعها زلف ويروى بالقاف وأراد به استواءها ونظافتها. قوله تأكل العصابة أي الجماعة قيل يبلغون أربعين وقحف الرمانة في الحديث قشرها ، والرسل بكسر الراء اللبن واللقحة الناقة ذات اللبن ، والفئام الجماعة من الناس ، والفخذ دون القبيلة ، وقوله يتهارجون أي يختلفون والتهارج الاختلاف ، وأصله القتل. الوجه في تفسير قوله تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قيل جميع الخلائق يخرجون من قبورهم إلى موقف الحساب (م) عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : اطلع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم علينا ونحن نتذاكر فقال : (ما تذكرون قالوا؟ نذكر الساعة قال إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). قوله عز وجل وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ أي القيامة قال حذيفة لو أن رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة. الفلو المهر فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل معنى الآية أن القيامة إذا قامت شخص أبصار الذين كفروا من شدة الأهوال ولا تكاد تطرف هول ذلك اليوم ويقولون يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا يعني في الدنيا حيث كذبنا به وقلنا إنه غير كائن بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أي في وضعنا العبادة في غير موضعها. قوله عز وجل إِنَّكُمْ الخطاب للمشركين وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ أي حطبها ووقودها وقيل يرمي بهم في النار كما يرمي بالحصباء وأصل الحصب الرمي أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ يعني الأصنام آلِهَةً أي على الحقيقة ما وَرَدُوها أي ما دخل الأصنام النار وعبدوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني العابدين والمعبودين لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قيل الزفير هو أن يملأ الرجل صدره غما ثم يتنفس وقيل هو شدة ما ينالهم من العذاب وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ قال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت أخر ثم تلك التوابيت في توابيت أخر عليها مسامير من نار فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذب غيره. إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) ١٠١١٠٧قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قال العلماء : إن هنا بمعنى إلا أي إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى يعني السعادة والعدة الجميلة بالجنة أُولئِكَ عَنْها أي عن النار مُبْعَدُونَ قيل : الآية عامة من كل من سبقت له من اللّه السعادة ، وقال أكثر المفسرين عنى بذلك كل من عبد من دون اللّه وهو للّه طائع ولعبادة من يعبده كاره وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أفحمه ثم تلا عليه إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآيات الثلاث ثم قام فأقبل عبد اللّه بن الزبعرى السهمي فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال ابن الزبعرى : أما واللّه لو وجدته لخصمته فدعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له ابن الزبعرى أنت قلت إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم؟ قال نعم قال أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبني مليح تعبد الملائكة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : بل هم يعبدون الشياطين فأنزل اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يعني عزيرا والمسيح والملائكة أولئك عنها مبعدون وأنزل في ابن الزبعرى ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وزعم جماعة أن المراد من الآية الأصنام لأن اللّه تعالى قال إنكم وما تعبدون من دون اللّه ، ولو أراد به الملائكة والناس لقال إنكم ومن تعبدون لأن من لمن يعقل وما لمن لا يعقل لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يعني صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم في الجنة وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ أي من النعيم والكرامة خالِدُونَ أي مقيمون. قوله تعالى : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ قال ابن عباس : يعني النفخة الأخيرة ، وقيل هو حين يذبح الموت وينادى يا أهل النار خلود بلا موت وقيل هو حين يطبق على جهنم وذلك بعد أن يخرج اللّه منها من يريد أن يخرجه وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي في الدنيا. قوله عز وجل يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قال ابن عباس : السجل الصحيفة والمعنى كطي الصحيفة على مكتوبها والطي هو الدرج الذي هو ضد النشر. وقيل : السجل اسم ملك يكتب أعمال العباد إذا رفعت إليه والمعنى نطوي السماء كما يطوي السجل الطومار الذي يكتب فيه والتقدير لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلا كذلك نعيدهم يوم القيامة (ق) عن ابن عباس قال : قام فينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بموعظة فقال : (أيها الناس إنكم تحشرون إلى اللّه حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده) قوله غرلا أي قلفا. وقوله تعالى وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني الإعادة والبعث بعد الموت. قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قيل : الزبور جميع الكتب المنزلة على الأنبياء والذكر هو أم الكتاب الذي عنده ومن ذلك الكتاب تنسخ جميع الكتب ومعنى من بعد الذكر أي بعد ما كتب في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس : الزبور والتوراة والذكر الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقيل الزبور : كتاب داود والذكر هو القرآن وبعد هنا بمعنى قبل أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني أرض الجنة يرثها أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى أن اللّه تعالى كتب في اللوح المحفوظ في كتب الأنبياء : أن الجنة يرثها من كان صالحا من عباده عاملا بطاعته. وقال ابن عباس : أراد أن أراضي الكفار يفتحها المسلمون وهذا حكم من اللّه تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين ، وقيل أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون بعد من كان فيها إِنَّ فِي هذا أي في القرآن لَبَلاغاً أي وصولا إلى البغية يعني من اتبع القرآن وعمل بما فيه وصل إلى ما يرجو من الثواب ، وقيل البلاغ الكفاية أي فيه كفاية لما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة فهو زاد العباد إلى الجنة وهو قوله تعالى لِقَوْمٍ عابِدِينَ يعني مؤمنين لا يعبدون أحدا من دون اللّه تعالى وقيل هم أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان والحج. وقال ابن عباس : عالمين وقيل : هم العالمون العاملون. قوله عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل : كان الناس أهل كفر وجاهلية وضلال وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم فبعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب فدعاهم إلى الحق ، وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام وبين الحلال من الحرام قال اللّه تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قيل يعني المؤمنين خاصة فهو رحمة لهم. وقال ابن عباس : هو عام في حق من آمن ومن لم يؤمن ، فمن آمن فهو رحمة له في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن فهو رحمة له في الدنيا بتأخير العذاب عنه ورفع المسخ والخسف والاستئصال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إنما أنا رحمة مهداة). قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢) ١٠٨١١٢قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يعني منقادون لما يوحى إلي من إخلاص الإلهية والتوحيد للّه والمراد بهذا الاستفهام الأمر أي أسلموا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا ولم يسلموا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم بالحرب وأن لا صلح بيننا عَلى سَواءٍ أي إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبد أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد بكم والمعنى آذنتكم على وجه نستوي نحن وأنتم في العلم به وقيل معناه لتستووا في الإيمان به وأعلمتكم بما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره وَإِنْ أَدْرِي أي وما أعلم أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يعني يوم القيامة لا يعلمه إلا اللّه إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ أي لا يغيب عن علمه شيء منكم في علانيتكم وسركم وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي لعل تأخير العذاب عنكم اختبار لكم ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم بكم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي تتمتعون إلى انقضاء آجالكم قالَ رَبِّ احْكُمْ أي افصل بيني وبين من كذبني بِالْحَقِّ أي بالعذاب كأنه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر. وقيل : معناه افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق من الجميع وهو أن تنصرني عليهم واللّه يحكم بالحق طلب ولم يطلب ومعنى الطلب ظهور الرغبة من الطالب وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي من الشرك والكفر والكذب والأباطيل ، كأنه سبحانه وتعالى قال قل داعيا إلى رب احكم بالحق ، وقل متوعدا للكفار وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء الرابع من تفسير الخازن ويليه الجزء الخامس وأوله : تفسير سورة الحج |
﴿ ٠ ﴾