سورة الفرقان

مكية وهي سبع وسبعون آية وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة وثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)

قوله عزّ وجلّ تَبارَكَ تفاعل من البركة قيل : معناه جاء بكل بركة وخير

وقيل معناه تعظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي القرآن سماه فرقانا لأنه فرق بين الحق ، والباطل والحلال والحرام

وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة ولهذا قال نزل بالتشديد لتكثير التفريق عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ أي للإنس والجن نَذِيراً قيل هو القرآن

وقيل النذير هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو المتصرف فيهما كيف يشاء وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي هو الفرد في وحدانيته ، وفيه رد على النصارى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ يعني هو المنفرد بالإلهية ، وفيه رد على الثنوية وعباد الأصنام وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ مما تطلق عليه صفة المخلوق فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً أي سواه وهيأه لما يصلح له لا خلل فيه ولا تفاوت ،

وقيل : قدر كل شيء تقديرا من الأجل والرزق فجرت المقادير على ما خلق.

قوله تعالى :

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧)

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)

٣

٨

وَاتَّخَذُوا يعني عبدة الأوثان مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني الأصنام لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعني دفع ضر ولا جر نفع وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي إماتة وَلا حَياةً أي إحياء وَلا نُشُوراً أي بعثا بعد الموت وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحارث وأصحابه إِنْ هَذا أي ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ أي كذب افْتَراهُ أي اختلقه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ قيل : هم اليهود

وقيل عبيد بن الخضر الحبشي الكاهن ،

وقيل جبر ويسار وعداس بن عبيد كانوا بمكة من أهل الكتاب ، فزعم المشركون أن

محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يأخذ منهم قال اللّه تعالى فَقَدْ جاؤُ يعني قائلي هذه المقالة ظُلْماً وَزُوراً أي بظلم وزور ، وهو تسميتهم كلام اللّه بالإفك والافتراء وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها يعني النضر بن الحارث كان يقول : إن هذا القرآن ليس من اللّه وإنما هو مما سطره الأولون مثل حديث رستم وإسفنديار ومعنى اكتتبها انتسخها محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من جبر ويسار وعداس وطلب أن تكتب له لأنه كان لا يكتب فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه ليحفظها لأنه لا يكتب بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني غدوة وعشية قال اللّه تعالى ردا عليهم قُلْ يا محمد أَنْزَلَهُ يعني القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ أي الغيب فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لولا ذلك لعاجلهم بعذابه وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يَأْكُلُ الطَّعامَ أي كما نأكل نحن وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أي يلتمس المعاش كما نمشي نحن وإذا كان كذلك فمن أين له الفضل علينا ، ولا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة وكانوا يقولون له لست بملك لأنك بشر مثلنا ، والملك لا يأكل ولا يملك لأن الملك لا يتسوق وأنت تتسوق وتبتذل وما قالوه فاسد لأن أكله الطعام لكونه آدميا ، ولم يدع أنه ملك ومشيه في الأسواق لتواضعه وكان ذلك صفته في التوراة ولم يكن سخابا في الأسواق وليس شيء من ذلك ينافي النبوة ولأنه لم يدع أنه ملك من الملوك لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ أي يصدقه ويشهد له فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أي داعيا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي ينزل عليه كنز من السماء ينفقه فلا يحتاج إلى التصرف في طلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يعني بستان يَأْكُلُ مِنْها أي هو فلا أقل من ذلك إن لم يكن له كنز وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعني مخدوعا و

قيل مصروفا عن الحق.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣)

لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧)

٩

١٧

انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه التي لا فائدة لها فقالوا مسحور محتاج فَضَلُّوا أي عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى ومخرجا عن الضلالة.

قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي من الذي قالوا : وأفضل من البستان الذي ذكروا وقال ابن عباس يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش ثم بين ذلك الخير فقال جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي بيوتا مشيدة عن أبي أمامة أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال (عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا قلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما أو قال ثلاثا أو نحو هذا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك) عن عائشة قالت : (قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : لو شئت لسارت معي جبال مكة ذهبا جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول : إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك ، ف

قلت : نبيا عبدا قالت فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك لا يأكل متكئا يقول : أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد) ذكر هذين الحديثين البغوي بسنده.

قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي القيامة وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي نارا مسعرة إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قيل : من مسيرة عام

وقيل من

مسيرة مائة عام.

فإن

قلت : كيف تتصور الرؤية من النار وهو قوله إذا رأتهم

قلت يجوز أن يخلق اللّه لها حياة وعقلا ورؤية

وقيل : معناه رأتهم زبانيتها سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي غليانا كالغضبان إذا غلى صدره من الغضب وَزَفِيراً أي صوتا

فإن قلت كيف يسمع التغليظ.

قلت : معناه رأوا وعلموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر :

ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا

أي وحاملا رمحا ،

وقيل : سمعوا لها صوت التغيظ من التلهب والتوقد ، وقال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قال ابن عباس تضيق عليه كما يضيق الزج في الرمح مُقَرَّنِينَ أي مصفدين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ،

وقيل :

مقرنين مع الشياطين في السلاسل دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً قال ابن عباس : ويلا

وقيل هلاكا وفي الحديث (إن أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من خلفه وهو يقول يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فينادي يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً هكذا ذكره البغوي بغير سند ،

وقيل معناه هلاككم أكثر من أن تدعوا مرة واحدة فادعوا أدعية كثيرة.

قوله عز وجل قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أي الذي ذكرت من صفة النار وأهلها أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أي ثوابا ومرجعا لهم قال تعالى لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ أي أن جميع المرادات لا تحصل إلا في الجنة ، لا في غيرها.

فإن

قلت : قد يشتهي الإنسان شيئا ، وهو لا يحصل في الجنة كأن يشتهي الولد ونحوه وليس هو في الجنة قلت إنّ اللّه يزيل ذلك الخاطر عن أهل الجنة ، بل كل واحد من أهل الجنة مشتغل بما هو فيه من اللذات الشاغلة عن الالتفات إلى غيره خالِدِينَ أي في نعيم الجنة ومن تمام النعيم أن يكون دائما ، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم وأنشد في المعنى :

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا

كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي مطلوبا ، وذلك أن المؤمنين سألوا ربهم في الدنيا حين قالوا (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) وقالوا (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) يقول كان إعطاء اللّه المؤمنين جنة وعدا ، وعدهم على طاعتهم إياه في الدنيا ومسألتهم إياه ذلك الوعد

وقيل الطلبة من الملائكة للمؤمنين وذلك قولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.

قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني من الملائكة والإنس والجن مثل عيسى والعزير ،

وقيل يعني الأصنام ثم يخاطبهم فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي أخطئوا الطريق.

قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)

وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣)

١٨

٢٣

قالُوا يعني المعبودين سُبْحانَكَ نزهوا اللّه سبحانه وتعالى من أن يكون معه آلهة ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ يعني ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك ، بل أنت ولينا من دونهم

وقيل معناه ، ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك ونحن عبيدك وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ أي بطول العمر والصحة والنعمة في الدنيا حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ معناه تركوا المواعظ والإيمان بالقرآن

وقيل تركوا ذكرك وغفلوا عنه وَكانُوا قَوْماً بُوراً معناه هلكى أي غلب عليهم الشقاء والخذلان فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ هذا خطاب مع المشركين أي كذبكم المعبودون بِما تَقُولُونَ يعني أنهم آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ أي الآلهة صَرْفاً أي صرف العذاب عن أنفسهم وَلا نَصْراً يعني ولا نصر أنفسهم

وقيل لا ينصرونكم أيها العابدون بدفع العذاب عنكم وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يعني يشرك نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً.

قوله عز وجل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ أي يا محمد مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قال ابن عباس : لما عير المشركون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أنزل اللّه تعالى على هذه الآية والمعنى أن هذه عادة مستمرة من اللّه تعالى على رسله فلا وجه لهذا الطعن وما أنا إلا رسول ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وهم كانوا بشرا مثلي ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي بلية قال ابن عباس أي جعلنا بعضكم بلاء بعض ، لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا أنتم الهدى ، قيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم رأى الوضيع ، قد أسلم قبله فأنف وقال : أسلم بعده فيكون له السابقة والفضل علي فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام فذلك افتتان بعضهم ببعض

وقيل : نزلت في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل السهمي والنضر بن الحارث وذلك أنهم رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر وبلالا ، وصهيبا وعامر بن فهيرة وذويهم ، قد أسلموا قبلهم فقالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء

وقيل : نزلت في ابتلاء فقراء المسلمين بالمستهزئين من قريش كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم من موالينا وأراذلنا فقال اللّه تعالى لهؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ أي على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى

وقيل إن الغني فتنة الفقير يقول ما لي لم أكن مثله والصحيح فتنة المريض والشريف فتنة الوضيع وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي بمن صبر وبمن جزع

(ق) عن أبي هريرة يبلغ به النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه بالمال والجسم فلينظر إلى من هو دونه في المال والجسم) لفظ البخاري و

لمسلم (انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم).

قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي يخافون البعث والرجاء ، بمعنى الخوف لغة تهامة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فتخبرنا أن محمدا صادق أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا أي تعظموا فِي أَنْفُسِهِمْ بهذه المقالة وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي طغوا

وقيل عتوا في القول وهو أشد الكفر والفحش وعتوهم ، طلبهم رؤية اللّه حتى يؤمنوا به.

قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ أي عند الموت

وقيل يوم القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وذلك أن الملائكة يبشرون المؤمنين ، يوم القيامة ويقولون للكفار : لا بشرى لكم

وقيل : لا بشارة لهم بالجنة كما بشر المؤمن وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً قال ابن عباس تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة ، إلا من قال لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه ،

وقيل : إذا خرج الكفار من قبورهم تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم أن تكون لكم البشرى

وقيل هذا قول : الكفار للملائكة وذلك أن العرب كانت إذا نزلت بهم شدة ورأوا ما يكرهون قالوا حجرا محجورا فهم يقولون ذلك إذا عاينوا الملائكة.

قوله عز وجل وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ يعني من أعمال البر التي عملوها في حال الكفر فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي باطلا لا ثواب له

لأنهم لم يعملوه للّه عز وجل ومنه الحديث الصحيح كل عمل ليس عليه أمرنا ، فهو رد والهباء هو ما يرى في الكوة كالغبار ، إذا وقعت الشمس فيها فلا يمس بالأيدي ، ولا يرى في الظل والمنثور المفرق قال ابن عباس هو ما تسقيه الرياح ، وتذريه من التراب كحطام الشجر

وقيل هو ما يسطع من حوافر الدواب عند السير من الغبار.

قوله تعالى :

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨)

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)

٢٤

٢٩

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي من هؤلاء المشركين المستكبرين وَأَحْسَنُ مَقِيلًا أي موضع القائلة ، وذلك أن أهل الجنة لا يمر بهم يوم القيامة إلا قدر من أول النهار إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة قال ابن مسعود لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار والقيلولة الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن مع ذلك نوم لأن اللّه تعالى قال وَأَحْسَنُ مَقِيلًا والجنة لا نوم فيها قال ابن عباس الحساب في ذلك اليوم في أوله ، ويروى أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون ، كما بين العصر إلى غروب الشمس.

قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ أي عن الغمام وهو غمام أبيض مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا قال ابن عباس تشقق السماء الدنيا فينزل أهلها ، وهم أكثر ممن في الأرض من الإنس والجن ثم تتشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الدنيا ومن الجن والإنس ثم كذلك حتى تتشق السماء السابعة وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي تليها ثم تنزل الكروبيون ثم حملة العرش الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي الملك الذي هو الملك حقا ملك الرحمن يوم القيامة ، قال ابن عباس : يريد أن يوم القيامة لا ملك يقضي غيره وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي شديد وفيه دليل على أنه لا يكون على المؤمنين عسيرا وجاء في الحديث (أنه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا).

قوله تعالى وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ أراد بالظالم عقبة بن أبي معيط ، وذلك أنه كان لا يقدم من سفر ، إلا صنع طعاما ودعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقدم ذات يوم من سفر ، فصنع طعاما ودعا الناس إليه ودعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلما قرب الطعام ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأني رسول اللّه فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه. فأكل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من طعامه. وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف ، فلما أخبر أبيّ بن خلف ، قال له : يا عقبة صبأت ، قال لا واللّه ما صبأت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له ، فاستحييت أن يخرج من بيتي ، ولم يطعم فشهدت له فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبدا إلا أن تأتيه فتبزق في وجهه ، ففعل ذلك عقبة فقال عليه الصلاة والسلام ، لا أراك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فقتل عقبة يوم بدر صبرا

وأما أبيّ بن خلف فقتله النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بيده يوم أحد ،

وقيل : لما بزق عقبة في وجه النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عاد بزاقه في وجهه ، فاحترق خداه فكان أثر ذلك في وجهه ، حتى قتل

وقيل كان عقبة بن أبي معيط خليلأمية بن خلف ، فأسلم عقبة فقال له أمية :

وجهي من وجهك حرام إن تابعت محمدا فكفر وارتد ، فأنزل اللّه فيه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ يعني عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، على يديه ، أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب اللّه ، وأوبق نفسه

بالمعصية والكفر لطاعة خليله الذي صده عن سبيل ربه ، قال عطاء : يأكل يديه حتى يبلغ مرفقيه ثم ينبتان ، ثم يأكلهما هكذا كلما نبتت يده أكلها على ما فعل ، تحسرا وندامة يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ أي في الدنيا مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي ليتني اتبعت محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم واتخذت معه طريقا إلى الهداية يا وَيْلَتى دعا على نفسه بالويل لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا قيل يعني أبي بن خلف لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ أي عن الإيمان والقرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي يعني الذكر مع الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وَكانَ الشَّيْطانُ وهو كل متمرد عات صد عن سبيل اللّه من الجن والإنس لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي كثير الخذلان يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب به وحكم الآية عام في كل خليلين ، ومتحابين اجتمعا على معصية اللّه

(ق) عن أبي موسى الأشعري عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك ،

وإما أن تبتاع منه

وإما أن تجد منه ريحا طيبا ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ،

وإما أن تجد منه ريحا خبيثة) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) أخرجه أبو داود والترمذي.

ولهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم (لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي).

قوله عز وجل :

وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)

٣٠

٤٠

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)

وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)

وَقالَ الرَّسُولُ يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي متروكا وأعرضوا عنه ، ولم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه

وقيل جعلوه بمنزلة الهجر وهو السيئ من القول فزعموا أنه سحر وشعر ، والمعنى أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ، يشكو قومه إلى اللّه عز وجل يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فعزاه اللّه تعالى فقال وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلت لك أعداء من مشركي مكة ، وهم قومك كذلك جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي المشركين والمعنى لا يكبرن عليك ذلك فإن الأنبياء قبلك قد لقوا هذا من قومهم ، فصبروا فاصبر أنت كما صبروا فإني ناصرك ، وهاديك وهو

قوله تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً

قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً أي كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود صلوات اللّه عليهم أجمعين قال اللّه كَذلِكَ فعلنا ذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي أنزلناه مفرقا لنقوي به قلبك ، فتعيه وتحفظه فإن الكتب المتقدمة نزلت على أنبياء ، يكتبون ويقرءون وأنزلنا القرآن على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور تحدث في أوقات مختلفة ففرقناه ليكون أوعى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأيسر على العامل به وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا.

قال ابن عباس : وبيناه بيانا والترتيل التبيين في ترسل وتثبت

وقيل فرقناه تفريقا آية بعد آية وَلا يَأْتُونَكَ يعني يا محمد هؤلاء المشركون بِمَثَلٍ يعني يضربونه لك في إبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي بما ترد به ما جاءوا به من ما يوردون المثل ، وتبطله فسمي ما يوردون من الشبه مثلا ، وسمي ما يدفع به الشبه حقا وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً يعني أحسن بيانا وتفصيلا ثم ذكر ما لهؤلاء المشركين

فقال تعالى الَّذِينَ يعني هم الذين يُحْشَرُونَ أي يساقون ويجرون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني منزلا ومصيرا وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا.

قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معينا وظهيرا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القبط فَدَمَّرْناهُمْ فيه إضمار أي فكذبوهما فدمرناهم تَدْمِيراً يعني أهلكناهم إهلاكا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني رسولهم ومن كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل فلذلك ذكره بلفظ الجمع أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً أي عبرة لمن بعدهم وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ في الآخرة عَذاباً أَلِيماً يعني سيرى ما حل بهم من عاجل العذاب في الدنيا وَعاداً وَثَمُودَ أي أهلكنا عادا وثمود وَأَصْحابَ الرَّسِّ قال وهب بن منبه كان أهل بئر الرس نزولا عليها ، وكانوا أصحاب مواش يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا ، يدعوهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وآذوا شعيبا فبينما هم حول البئر في منازلهم ، انهارت البئر وخسف بهم وبديارهم ورباعهم

وقيل : الرس بئر بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فأهلكهم اللّه.

وقال سعيد بن جبير : كان لهم نبي يقال له حنظلة بن صفوان فقتلوه فأهلكهم اللّه

وقيل الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار هم الذين ذكرهم اللّه في سورة (يس)

وقيل هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً أي وأهلكنا قرونا كثيرا بين عاد وثمود وأصحاب الرس وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي الأشباه في إقامة الحجة عليهم فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي أهلكناهم إهلاكا

قوله تعالى وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني الحجارة وهي قريات قوم لوط ، وهي خمس قرى أهلك اللّه منها أربعا ونجت واحدة. وهي أصغرها وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها يعني إذا مروا بها في أسفارهم فيعتبروا ويتعظوا لأن مدائن قوم لوط كانت على طريقهم في ممرهم إلى الشأم بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً يعني لا يخافون بعثا.

قوله تعالى :

وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥)

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)

٤١

٤٨

وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً نزلت في أبي جهل كان إذا مر مع أصحابه قال مستهزئا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا يعني قد قارب أن يضلنا عَنْ عبادة آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعني على عبادتها والمعنى لو لم نصبر عليها لصرفنا عنها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي في الآخرة عيانا مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي أخطأ طريقا أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد حجرا ، فإذا رأى حجرا أحسن منه رماه وأخذ الأحسن منه وعبده وقال ابن عباس : أرأيت من ترك عبادة اللّه خالقه ، ثم هوى

حجرا فعبده ما حاله عندي

وقيل الهوى إله يعبد أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أي حافظا تحفظه من اتباع الهوى وعبادة ما يهواه من دون اللّه والمعنى لست كذلك وقال الكلبي نسختها آية القتال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أي ما تقول سماع طالب الإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ يعني ما يعاينون من الحجج والأعلام وهذه المذمة أعظم من التي تقدمت ، لأنهم لشدة عنادهم لا يسمعون القول وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه ، فكأنهم لا سمع لهم ولا عقل البتة فعند ذلك شبههم بالأنعام

فقال تعالى إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكير ثم قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها الذين يتعاهدونها ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربهم الذي خلقهم ورزقهم لأن الأنعام تسجد وتسبح والكفار لا يفعلون ذلك.

قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا ، لأنه ظل لا شمس معه وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا معنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل ، ولولا النور لما عرفت الظلمة ، والأشياء تعرف بضدها ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني بالشمس التي تأتي عليه والمعنى أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس فإذا طلعت الشمس قبض اللّه الظل جزأ فجزأ قبضا خفيفا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني سترا تسترون به والمعنى أن الظلمة الليل تغشى كل شيء كاللباس ، الذي يشتمل على لابسه وَالنَّوْمَ سُباتاً يعني راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً يعني يقظة وزمانا تنتشرون فيه لابتغاء رزقكم وطلب الاشتغال وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً الطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره فهو اسم لما يتطهر به بدليل ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

وأراد به المطهر والماء المطر لأنه يطهر الإنسان من الحدث والنجاسة فثبت أن التطهير مختص بالماء وذهب أصحاب الرأي إلى أن الطهور وهو الطاهر حتى جوزوا إزالة النجاسة بالمائعات الطاهرة مثل الخل والريق ونحوها ، ولو جاز إزالة النجاسة بها لجاز إزالة الحدث بها وذهب بعضهم إلى أن الطهور ما تكرر منه التطهير ، وهو قول مالك حتى جوز الوضوء بالماء إذا توضئ به مرة ، وإن وقع في الماء شيء غير طعمه أو لونه أو ريحه هل تزول طهوريته نظر إن كان الواقع شيئا لا يمكن صون الماء عنه ، كالطين والتراب وأوراق الأشجار فتجوز الطهارة به كما لو تغير بطول المكث في قراره ، وكذلك لو وقع فيه ما لا يختلط كالدهن يصب فيه فيتروح الماء برائحته تجوز الطهارة به لأن تغيره للمجاورة لا للمخالطة ، وإن كان شيئا يمكن صون الماء عنه ، ومخالطته كالخل والزعفران ونحوهما تزول طهوريته فلا يجوز الوضوء به وإن لم يتغير أحد أوصافه نظر إن كان الواقع شيئا طاهرا لا يزيل طهوريته يجوز الوضوء به سواء كان الماء قليلا أو كثيرا ، وإن كان الواقع شيئا نجسا نظر فيه فإن كان الماء ، أقل من قلتين نجس الماء وإن كان قدر قلتين فأكثر فهو طاهر يجوز الوضوء به والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي يدل عليه ما روي عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنه سئل عن الماء يكون في الفلاة ، ترده السباع والذئاب فقال : (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) أخرجه أبو داود والترمذي.

وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث ، أن الماء إذا بلغ هذا الحد لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه ، وذهب جماعة إلى أن الماء القليل لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه ، وهذا قول الحسن وعطاء والنخعي والزهري واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدري قال : (قيل يا رسول اللّه إنه يستقى لك من بئر بضاعة ويلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض وعذر النساء ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن الماء طهور لا ينجسه شي ء)

وفي رواية قال (قلت يا رسول اللّه أيتوضأ من بئر بضاعة ، وهي بئر تطرح فيها خرق الحيض ولحوم الكلاب والنتن

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (الماء طهور لا ينجسه شي ء)

وقوله تعالى :

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)

٤٩

٥٧

لِنُحْيِيَ بِهِ أي بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً قيل : أراد به موضع البلدة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أي نسقي من ذلك الماء أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي بشرا كثيرا والأناسي جمع إنسي

وقيل جمع إنسان

قوله عز وجل وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ يعني المطر مرة ببلدة ومرة ببلدة أخرى وقال ابن عباس ما عام بأمطر من عام ولكن اللّه يصرفه في الأرض وقرأ هذه الآية ، وهذا كما روي مرفوعا (ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه اللّه حيث يشاء) وروي عن ابن مسعود يرفعه ، قال : ليس من سنة بأمطر من سنة أخرى ولكن اللّه عزّ وجلّ قسم هذه الأرزاق فجعلها في هذه السماء الدنيا في هذا القطر ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ، ووزن معلوم وإذا عمل قوم بالمعاصي حول اللّه ذلك إلى غيرهم وإذا عصوا جميعا صرف اللّه ذلك المطر إلى الفيافي والبحار ،

وقيل : المراد من تصريف المطر تصريفه وابلا وطشا ورذاذا ونحوها

وقيل التصريف راجع إلى الريح لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتفكروا في قدرة اللّه تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا في كفرهم هو أنهم إذا مطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا

(ق) عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال (هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا اللّه ورسوله أعلم قال أصبح عن عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل اللّه ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب

وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)

قوله تعالى : وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي رسولا ينذرهم ولكن بعثناك إلى القرى كلها وحملناك ثقل النذارة لتستوجب بصبرك ما أعددنا لك من الكرامة والدرجة الرفيعة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم و

مداهنتهم وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً أي شديدا.

قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلطهما وأفاض

أحدهما على الآخر

وقيل أرسلهما في مجاريهما هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي شديد العذوبة يميل إلى الحلاوة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة

وقيل مر وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا بقدرته فلا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب وَحِجْراً مَحْجُوراً أي سترا ممنوعا فلا يبغي

أحدهما على الآخر ولا يفسد الملح العذب.

قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي جعله ذا نسب وصهر

وقيل النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه والنسب ما يوجب الحرمة والصهر ما لا يوجبها

وقيل النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح وقد حرم اللّه بالنسب سبعا وبالسبب سبعا ويجمعها قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية وقد تقدم تفسير ذلك وبيانه في تفسير سورة النساء وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني هؤلاء المشركين ما لا يَنْفَعُهُمْ أي إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ أي

إن تركوه وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا أعان الشيطان على ربه بالمعاصي لأن عبادتهم الأصنام معاونة للشيطان

وقيل معنى ظهيرا هينا ذليلا من قولك ظهرت بفلان إذا جعلته وراء ظهرك ولم تلتفت إليه

وقيل أراد بالكافر أبا جهل والأصح أنه عام في كل كافر.

وقوله تعالى : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً أي بالثواب على الإيمان والطاعة وَنَذِيراً منذرا بالعقاب على الكفر والمعصية قُلْ يا محمد ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ فتقولون إنما يطلب محمد أموالنا بما يدعوننا إليه فلا نتبعه إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا معناه لكن من شاء أن يتخذ بإنفاق ماله سبيلا إلى ربه فعلى هذا يكون المعنى لا أسألكم لنفسي أجرا ، ولكن أمنع من إنفاق المال إلا في طلب مرضاة اللّه ، واتخاذ السبيل إلى جنته.

قوله عز وجل :

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)

وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)

٥٨

٦٤

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ معناه أنه سبحانه وتعالى لما أمر نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم بأن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره أن يتوكل عليه في جميع أموره ، وإنما قال على الحي الذي لا يموت لأن من توكل على حي يموت انقطع توكله عليه بموته ،

وأما اللّه سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا ينقطع توكل من توكل عليه ، ولا يضيع البتة وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي صل له شكرا على نعمه

وقيل : معناه قل سبحان اللّه والحمد للّه وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني أنه تعالى عالم بجميع ذنوب عباده فيجازيهم بها.

وقيل : معناه أنه لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير عالم قادر على مكافأتهم وفيه وعيد شديد ، كأنه إذا قدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة.

قوله عز وجل الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي فاسأل الخبير بذلك ، يعني بما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش.

وقيل : معناه أيها الإنسان لا ترجع في طلب العلم ، بهذا إلى غيري

وقيل معناه فاسأل عنه خبيرا وهو اللّه تعالى

وقيل : هو جبريل عليه السلام وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب كانوا يسمونه رحمان اليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أنت يا محمد وَزادَهُمْ يعني قول القائل اسجدوا للرحمن نُفُوراً يعني عن الإيمان والسجود.

فصل

وهذه السجدة من عزائم السجدات فيسن للقارئ ، والمستمع أن يسجدا عند سماعها وقراءتها.

قوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل : البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها ،

وقيل : البروج قصور فيها الحرس. وقال ابن عباس : هي البروج الاثنا عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة ، وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت سميت بالبروج ، التي هي القصور العالية لأنها للكواكب كالمنازل لسكانها وَجَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً قال ابن عباس معناه خلفا ، وعوضا يقوم

أحدهما مقام صاحبه فمن

فاته عمله في

أحدهما قضاه في الآخر. قال شقيق : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب. قال فاتتني الصلاة الليلة قال أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإنّ اللّه جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر.

وقيل جعل كل واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض

وقيل يخلف

أحدهما صاحبه إذا ذهب هذا جاء هذا فهما يتعقبان في الضياء ، والظلمة والزيادة والنقصان لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي يتذكر ويتعظ أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني شكر نعمة ربه عليه فيهما.

قوله عز وجل وَعِبادُ الرَّحْمنِ قيل هذه الإضافة للتخصيص ، والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد اللّه الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ، ولا مرحين ولا متكبرين بل علماء حكماء ، أصحاب وقار وعفة وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء بما يكرهونه قالُوا سَلاماً يعني سدادا من القول يسلمون فيه لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا ولم يجهلوا وليس المراد منه السلام المعروف

وقيل هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ثم نسختها آية القتال ويروى عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذا وصف نهارهم ثم إذا قرأ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً قال هذا وصف ليلهم ، والمعنى يبيتون لربهم في الليل بالصلاة سجدا على وجوههم وقياما على أقدامهم. قال ابن عباس ، من صلّى بعد العشاء الأخيرة ركعتين أو أكثر فقد بات للّه ساجدا وقائما

(م) عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه : قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف الليل ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة)

قوله عز وجل :

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩)

إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)

٦٥

٧٧

وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي ملحا دائما لازما غير مفارق من عذب من الكفار. قال محمد بن كعب القرظي : سأل اللّه الكفار ثمن نعمته فلم يؤدوه فأغرمهم فبقوا في النار ، وقال كل غريم مفارق غريمه إلا جهنم :

وقيل : الغرام الشر اللازم والهلاك الدائم إِنَّها يعني جهنم ساءَتْ بئست مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قيل الإسراف النفقة في معصية اللّه ، وإن قلت والإقتار منع حقوق اللّه تعالى وهو قول ابن عباس.

وقيل : الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق ، حتى يدخل في حد التبذير والإقتار التقصير عما لا بد منه وهو أن لا يجيع عياله ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي قصدا وسطا بين الإسراف والإقتار وحسنة بين السيئتين قيل : هذه الآية في صفة أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا لا يأكلون الطعام للتنعم واللذة لا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربهم ومن الثياب ما يسترون به العورة ، ويقيهم من الحر والبرد.

قال عمر بن الخطاب كفى سرفا أن لا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ

(ق) عن ابن عباس (أن أناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : إن الذي تقول وتدعونا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ ونزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ

(ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رجل (يا رسول اللّه أي الذنب أكبر عند اللّه قال :

تدعو للّه ندا وهو خلقك ، قال : ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال : ثم أي قال أن تزاني حليلة

جارك ، فأنزل اللّه تعالى تصديقه ، والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه إلا بالحق ولا يزنون) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي ومن يفعل شيئا من ذلك يلق أثاما قال ابن عباس إنما يريد جزاء الإثم ،

وقيل عقوبة

وقيل : الأثام واد في جهنم ويروى في الحديث (أن الغي والأثام بئران في جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وسبب تضعيف العذاب ، أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك يضاعف له العذاب على شركه ومعصيته وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً أي ذليلا.

قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ أي عن ذنبه وَآمَنَ يعني بربه وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً أي فيما بينه وبين ربه روي عن ابن عباس رضي اللّه عنه عنهما قال : قرأناها على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سنين والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر الآية ثم نزلت إلا من تاب فما رأيت النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فرح بشيء قط مثل ما فرح بها وفرحه بإنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر).

وقوله تعالى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن عباس : يبدلهم اللّه بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصانا

وقيل يبدل اللّه سيئاتهم التي عملوها في الإسلام حسنات يوم القيامة

(م) عن أبي ذر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة ، وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغارها فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا قال فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه

وقيل إن اللّه تعالى يمحو بالندم جميع السيئات ثم يثبت مكان كل سيئة حسنة.

وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)

خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)

٧١

٧٧

وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً قيل هذا في التوبة من غير ما سبق ذكره في الآية الأولى من القتل والزنا ومعناه ، ومن تاب من الشرك وعمل صالحا يعني أدّى الفرائض ممن لم يقتل ولم يزن فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يعود إليه بعد الموت مَتاباً أي حسنا يفضل على غيره ممن قتل وزنا فالآية الأولى وهي قوله : ومن تاب رجوع عن الشرك

والثانية رجوع إلى اللّه للجزاء والمكافأة.

وقيل : هذه الآية أيضا في التوبة عن جميع السيئات ومعناه ومن أراد التوبة ، وعزم عليها فليتب إلى اللّه فقوله يتوب إلى اللّه خبر بمعنى الأمر أي تب إلى اللّه

وقيل معناه فليعلم أن توبته ومصيره إلى اللّه تعالى.

قوله تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني الشرك

وقيل هي شهادة الزور

(ق) عن أبي بكر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا : بلى يا رسول اللّه قال :

الإشراك باللّه وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ويطوف به في الأسواق

وقيل :

لا يشهدون الزور يعني أعياد المشركين

وقيل : الكذب

وقيل : النوح

وقيل لا يساعد أهل الباطل على باطلهم

وقيل الزور اللهو واللعب والغناء. قال ابن مسعود : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. وأصل الزور

حقيقة تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ هو كل ما يجب أن يلغى ويترك مَرُّوا كِراماً يعني إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا فعلى هذا التفسير ، تكون الآية منسوخة بآية القتال.

وقيل : اللغو المعاصي كلها ، والمعنى إذا مروا بمجالس اللهو والباطل مروا كراما أي مسرعين معرضين ، وهو أن ينزه المرء نفسه ويكرمها عن هذه المجالس السيئة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً قيل : معناه أنه ليس فيه نفي الخرور إنما هو إثبات له ونفي الصمم والعمى والمعنى إذا ذكروا بها أكبوا على استماعها بأذان واعية وأقبلوا على المذكر بها بعيون مبصرة راعية.

وقيل : معناه لم يخروا أي لم يسقطوا ولم يقعوا عليها صما وعميانا ، كأنهم بآذانهم صمم وبأعينهم عمى بل يسمعون ما يذكرون به ، فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.

قوله عز وجل وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني أبرارا أتقياء فيقرون أعيننا بذلك قيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته ، وأولاده مطيعين للّه عز وجل فيطمع أن يحلوا معه في الجنة فيتم سروره ، وتقر عينه بذلك

وقيل : إن العرب تذكر قرة العين عند السرور والفرح وسخنة العين عند الغم والحزن. ويقال : دمع العين عند السرور والفرح بارد وعند الحزن حار

وقيل معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه ، فتقر عينه به عن النظر إلى غيره وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني يقتدون في الخير بنا.

وقيل : معناه نقتدي بالمتقين وتقتدي بنا المتقون وقال ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى

وقيل : معناه أنهم سألوا اللّه أن يبلغهم في الطاعات المبلغ الذي يشار إليهم فيه ويقتدي بهم. قال بعضهم : فيه دليل على أن الرياسة في الدين مطلوبة مرغوب فيها

وقيل هذا من المقلوب معناه ، واجعل المتقين لنا إماما واجعلنا مقتدين مؤتمين بهم أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ أي يثابون الْغُرْفَةَ الدرجة العالية الرفيعة في الجنة

وقيل : يريد غرف الدر والزبرجد واللؤلؤ والياقوت في الجنة بِما صَبَرُوا يعني على طاعة اللّه تعالى وأوامره وعلى أذى المشركين

وقيل : بما صبروا عن الشهوات وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً أي ملكا

وقيل بقاء دائما وَسَلاماً أي يسلم بعضهم على بعض أو يرسل الرب عز وجل إليهم السلام

وقيل سلاما أي سلامة من الآفات.

قوله تعالى خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي موضع قرار وإقامة.

قوله تعالى قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي ما يصنع ما يفعل بكم فوجودكم وعدمكم سواء ،

وقيل :

معناه أي وزن ومقدار لكم عنده لَوْلا دُعاؤُكُمْ إياه. قيل معناه لولا عبادتكم إياه

وقيل : لولا إيمانكم

وقيل لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان فإذا آمنتم ظهر لكم عنده قدر.

وقيل : معناه ما يعبأ بخلقكم ربي لولا عبادتكم وطاقتكم ، والمعنى أنه خلقكم لطاعته وعبادته وهذا قول ابن عباس

وقيل : معنى ما يعبأ أي ما يبالي بمغفرتكم ربي لولا دعاؤكم معه آلهة.

وقيل معناه ما خلقتكم ولي إليكم حاجة إلا أن تسألوني ، فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أيها الكافرون يخاطب أهل مكة يعني أن اللّه دعاكم إلى توحيده وعبادته على لسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكذبتم الرسول ولم تجيبوه إلى الإيمان فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً هذا تهديد لهم أي يكون تكذيبهم لزاما قال ابن عباس : موتا

وقيل هلاكا

وقيل : قتالا والمعنى يكون التكذيب لازما لمن كذب فلا يعطى التوبة حتى يجازى بعمله.

وقيل : معناه عذابا دائما وهلاكا لازما لمن كذب مفنيا يلحق بعضكم بعضا

وقيل : هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون وهو قول عبد اللّه بن مسعود وأبي بن كعب ، يعني أنهم قتلوا يوم بدر واتصل بهم عذاب الآخرة لازما لهم

(ق) عن عبد اللّه بن مسعود قال (خمس قد مضين الدخان واللزام والروم والبطشة والقمر

وفي رواية الدخان والقمر والروم واللزام والبطشة) واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

﴿ ٠