سورة الشعراءوهي مكية إلا أربع آيات من آخر السورة من قوله تعالى وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وهي مائتان وسبع وعشرون آية وألف ومائتان وتسع وسبعون كلمة وخمسة آلاف وخمسمائة وأربعون حرفا ، روي عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (أعطيت طه والطواسين من ألواح موسى عليه الصلاة والسلام). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) ١٢قوله عز وجل طسم قال ابن عباس : عجزت العلماء عن علم تفسيرها وفي رواية أخرى عنه أنه قسم ، وهو من أسماء اللّه تعالى وقيل اسم من أسماء القرآن ، وقيل اسم السورة وقيل أقسم بطوله وسنائه وملكه تِلْكَ آياتُ أي هذه الآيات آيات الْكِتابِ الْمُبِينِ قيل لما كان القرآن فيه دلائل التوحيد ، والإعجاز الدالة على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ودلائل الأحكام أجمع ثبت بذلك أن آيات القرآن كافية مبينة لجميع الأحكام. لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) ٣٨لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتل نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي إن لم يؤمنوا وذلك حين كذبه أهل مكة فشق عليه ذلك وكان يحرص على إيمانهم ، فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي لو شاء اللّه لأنزل عليهم آية يذلون منها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية اللّه سبحانه وتعالى. وقيل : معناه لو شاء اللّه لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بعده معصية. فإن قلت : كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق قلت أصل الكلام فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت الأعناق لبيان الخضوع وترك الكلام على أصله أو لما ، وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين. وقيل : أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم أي فظلت كبراؤهم لها خاضعين وقيل أراد بالأعناق الجماعات ، يقال جاء عنق من الناس أي جماعة قوله تعالى وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ أي وعظ وتذكير مُحْدَثٍ أي محدث إنزاله فهو محدث التنزيل وكلما نزل شيء من القرآن بعد شيء فهو أحدث من الأول إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي عن الإيمان به فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أي فسوف يأتيهم أَنْبؤُا أي أخبار وعواقب ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ يعني المشركين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها أي بعد أن لم يكن فيها نبات مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي جنس ونوع وصنف حسن من النبات مما يأكل الناس والأنعام ، قال الشعبي : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم إِنَّ فِي ذلِكَ أي الذي ذكر لَآيَةً تدل على أنه واحد أي دلالة على كمال قدرتنا وتوحيدنا كما قيل : وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ووَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي سبق علمي فيهم أن أكثرهم لا يؤمنون ولا يصدقون. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢) ٩٢٢وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ ذو الرحمة لأوليائه. قوله تعالى وَإِذْ نادى أي واذكر يا محمد إذ نادى رَبُّكَ مُوسى أي حين رأى الشجرة والنار أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي وظلموا بني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب قَوْمَ فِرْعَوْنَ يعني القبط أَلا يَتَّقُونَ أي يصرفون عن أنفسهم عقوبة اللّه بطاعته والإيمان به قالَ يعني موسى رَبِّ أي يا رب إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي أي بتكذيبهم إياي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي أي للعقدة التي كانت على لسانه فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليوازرني ويعينني على تبليغ الرسالة وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي دعوى ذنب وهو قتله القبطي فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي به قالَ اللّه تعالى كَلَّا أي لن يقتلوك فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ أي سامعون ما تقولون وما يقال لكم. فإن قلت : كيف ذكرهم بلفظ الجمع في قوله معكم وهما اثنان. قلت : أجراهما مجرى الجماعة ، وهو جائز في لغة العرب أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن قلت هلا ثنى الرسول كما في قوله : فائتياه فقولا إنا رسولا ربك. قلت : الرسول قد يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعله ثم بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته ، وجعله هنا بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه ، إذا وصف به الواحد والتثنية والجمع والمعنى أنا ذو رسالة كما قال كثير : لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بشيء ولا أرسلتهم برسول أي برسالة وقيل إنهما لاتفاقهما في الرسالة ، والشريعة والإخوة فصارا كأنهما رسول واحد وقيل كل واحد منا رسول رب العالمين أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم وأطلقهم معنا إلى أرض فلسطين ، ولا تستعبدهم وكان فرعون قد استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا ، فانطلق موسى برسالة ربه إلى مصر وهارون بها فأخبره بذلك ، وفي القصة أن موسى رجع إلى مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه والمكتل معلق في رأس العصا ، وفيه زاده فدخل دار نفسه وأخبر هارون أن اللّه قد أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك ندعو فرعون إلى اللّه تعالى فخرجت أمهما فصاحت وقالت : إن فرعون يطلبك ليقتلك فإذا ذهبت إليه ، قتلك فلم يمتنع لقولها وذهبا إلى باب فرعون وذلك بالليل فدقا الباب ففزع البوابون ، وقالوا : من بالباب فقال أنا موسى رسول رب العالمين فذهب البوابون إلى فرعون وقالوا إن مجنونا بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فترك حتى أصبح ثم دعاهما وقيل إنهما انطلقا جميعا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول ، ثم دخل البواب فقال لفرعون ها هنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون : ائذن له لعلنا نضحك منه فدخلا على فرعون وأديا رسالة اللّه تعالى فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته ف قالَ له أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً يعني صبيا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أي ثلاثين سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتلت القبطي وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قال أكثر المفسرين من الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي يقول ربيناك فينا فكافأتنا أن قتلت منا نفسا ، وكفرت نعمتنا وهي رواية عن ابن عباس قال إن فرعون لم يكن يعلم الكفر بالربوبية ولأن الكفر غير جائز على الأنبياء لا قبل النبوة ، ولا بعدها وقيل معناه وأنت من الكافرين بفرعون وإلهيته قالَ يعني موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين بأن ذلك يؤدي إلى قتله لأن فعل الوكزة على وجه التأديب لا على وجه القتل وقيل من الضالين عن طريق الصواب وقيل من المخطئين فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي إلى مدين لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً يعني النبوة وقيل العلم والفهم وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اتخذتهم عبيدا قيل : عدها موسى نعمة منه عليه حيث رباه لم يقتله كما قتل ولدان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد بني إسرائيل فيكون معنى الآية ، وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركتني فلم تستعبدني ، وقيل هو على طريق الإنكار ومعنى الآية أو تلك نعمة على طريق الاستفهام ، فحذف الألف كما قال عمر بن عبد اللّه بن ربيعة : لم أنس يوم الرحيل وقفتها وطرفها من دموعها غرق وقولها والركاب واقفة تتركني هكذا وتنطلق أي أتتركني ، والمعنى أتمن علي أن ربيتني ، وتنسى جنايتك على بني إسرائيل بالاستعباد والمعاملات القبيحة أو يريد كيف تمن علي بالتربية ، وقد استعبدت قومي ومن أهين قومه فقد ذل فتعبد بني إسرائيل قد أحبط حسناتك إلي ، ولو لم تستعبدهم ولم تقتل أولادهم لم أرفع إليك حتى تربيني وتكلفني ، ولكان لي من أهلي من يربيني ولم يلقوني في اليم. قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) ٢٣٤١قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ يقول أي شيء رب العالمين الذي تزعم أنك رسوله أي يستوصفه إلهه الذي أرسله إليه ، وهو سؤال عن جنس الشيء ، واللّه تعالى منزه عن الجنسية والماهية فلهذا عدل موسى عن جوابه ، وأجابه بذكر أفعاله وآثار قدرته التي تعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أنه خالقهما فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفة إلا بما ذكرته لكم ، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا أنه لا جواب لكم عن هذا السؤال إلا ما ذكرته من الجواب ، وقال أهل المعاني أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينونها ، فأيقنوا أن إله الخلق هو اللّه تعالى الذي خلقها وأوجدها فلما قال ذلك موسى تحير فرعون في جواب موسى قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أي من أشراف قومه قال ابن عباس : كانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة أَلا تَسْتَمِعُونَ وإنما قال فرعون : ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أني إنما أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بأفعاله وآثاره وقيل : إنهم كانوا يعتقدون إن آلهتهم ملوكهم ثم زادهم موسى في البيان قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني أن موسى ذكر ما هو أقرب فقال ربكم يعني أنه خالقكم وخالق آبائكم الأولين قالَ يعني فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من السؤال طلب الماهية ، وهو يجيب بالآثار الخارجة وهذا لا يفيد البتة فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ، ويتكلم بكلام لا نقبله ولا نعرف صحته ، وكان عندهم أن من لا يعتقد ما يعتقدون ليس بعاقل فزاد في البيان قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، ومعنى إن كنتم تعقلون قد عرفتم أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت قالَ فرعون حين لزمته الحجة ، وانقطع عنه الجواب تكبرا عن الحق لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قيل كان سجن فرعون أشد من القتل ، لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في مكان يهوي فيه إلى الأرض وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه قالَ له موسى حين توعده بالسجن أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي بآية بينة والمعنى أتفعل ذلك ، ولو جئتك بحجة بينة وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بالبيان قالَ يعني فرعون فَأْتِ بِهِ أي إنا لن نسجنك حينئذنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ قيل إنها لما صارت حية ارتفعت في السماء ، قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون فقال : بالذي أرسلك ألا أخذتها فأخذها موسى ، فعادت عصا كما كانت فقال وهل غيرها قال نعم وأراه يده ثم أدخلها في جيبه ثم أخرجها ، فإذا هي بيضاء من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس وهو قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ فعند ذلك قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا يعني موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ وكان زمان السحر فلهذا روج فرعون هذا القول على قومه ثم قال يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ قال هذا القول على سبيل التنفير لئلا يقبلوا قول موسى فَما ذا تَأْمُرُونَ يعني ما رأيكم فيه وما الذي أعمله فعند ذلك قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخره وأخاه وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ قيل إن فرعون أراد قتل موسى فقالوا لا تفعل فإنك إن قتلته دخلت الناس شبهة في أمره ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا تثبت له عليك حجة. قوله تعالى فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ يعني يوم الزينة قال ابن عباس وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة ، وهو يوم النيروز وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ أي لتنظروا ما يفعل الفريقان ، ولمن تكون الغلبة لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لموسى قيل أراد بالسحرة موسى وهارون وقالوا : ذلك على طريقة الاستهزاء فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ طلبوا من فرعون الجزاء ، وهو بذل المال والجاه فبذل لهم ذلك كله ، وأكده بقوله : قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) ٤٢٦١وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بعظمة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم قيل : إن عصى موسى صارت حية وابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ثم أخذها موسى فإذا هي كما كانت أول مرة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قيل إنهم لما رأوا ما جاوز حد السحر علموا أنه ليس بسحر ، ثم لم يتمالكوا أن خروا ساجدين ثم إنهم قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وإنما قالوا رب موسى وهارون ، لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيد مطلق وتهديد شديد ثم بين ذلك الوعيد فقال لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا ضرر علينا فيما ينالنا في الدنيا ، لأنا ننقلب ونصير إلى ربنا في الآخرة مؤمنين مؤملين غفرانه وهو قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أي الكفر والسحر أَنْ أي لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي من أهل زماننا وقيل أول المؤمنين أي من الجماعة الذين حضروا ذلك الجمع. قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج ، قيل : أوحى اللّه إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل ، كل أهل أربعة أبيات في بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وآمرهم أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم ، ثم اخبزوا فطيرا فإنه أسرع لكم ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر ، فيأتيك أمري ففعل ذلك موسى ، ثم إن قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيدا فاستعاروا منهم حليهم ، ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جهة البحر فلما سمع فرعون ذلك ، قال : هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأخذوا أموالنا فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرط يحشرون الجيش قيل : كانت المدائن ألف مدينة واثني عشر ألف قرية ، فأرسل فرعون في أثر موسى وقومه ألف ألف وخمسمائة ألف ، وخرج فرعون في الكرسي العظيم في مائتي ألف ملك مسورين مع كل ملك ألف فلذلك قال إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ قال أهل التفسير كانت الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف مقاتل ، لم يعدوا دون العشرين وفوق الستين سنة وقال ابن مسعود كانت ستمائة ألف وسبعين ألفا ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ الغيظ الغضب يعني أنهم أغضبونا بمخالفتهم فينا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها ، وخروجهم من أرضنا بغير إذن منا وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي خائفون من شرهم وقرئ حذرون ، أي ذوو قوة وأداة شاكو السلاح وقيل الحاذر الذي يحذرك الآن بالتحقيق من المتلبس بحمل السلاح ، والحذر الذي لا تلقاه إلا خائفا فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ قيل : كانت البساتين ممتدة في حافتي النيل فيها عيون وأنهار جارية وَكُنُوزٍ يعني الأموال الظاهرة من الذهب والفضة ، وسماها كنوزا لأنه لم يؤد حق اللّه منها وكل مال لم يعط ، ولم يؤد حق اللّه منه فهو كنز وإن كان ظاهرا قيل كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق ، في عنق كل فرس طوق من ذهب قال اللّه تعالى وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس حسن قيل : أراد مجالس الأمراء والرؤساء التي كانت لهم وقيل إنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف من قومه والأمراء وعليهم أقبية الديباج مخوصة بالذهب والمعنى أنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها العيون وأموالهم ومجالسهم الحسنة كَذلِكَ أي كما وصفنا وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك أن اللّه عز وجل رد بني إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون ، وقومه ، فأعطاهم جميع ما كان لفرعون ، وقومه من الأموال والأماكن الحسنة فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي لحق فرعون وقومه موسى ، وأصحابه وقت شروق الشمس وهو إضاءتها فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ يعني تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي سيدركنا فرعون وقومه ولا طاقة لنا بهم. قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) ٦٢٨١قالَ أي موسى لثقته وعد اللّه تعالى إياه كَلَّا أي لن يدركونا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ يعني يدلني على طريق النجاة فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أي فضربه فانشق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي قطعة من الماء كَالطَّوْدِ أي الجبل الْعَظِيمِ قيل لما انتهى موسى ومن معه إلى البحر هاجت الرياح فصار البحر يرمي بموج كالجبال ، قال يوشع : يا كليم اللّه أين أمرت فقد غشينا فرعون من خلفنا ، والبحر أمامنا قال موسى ، ها هنا فخاض يوشع الماء لا يواري حافر دابته ، وقال : الذي يكتم إيمانه يا كليم اللّه أين أمرت قال : ها هنا فكبح فرسه فصكه بلجامه حتى طار الزبد من شدقه ، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع فأوحى اللّه إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل سرجه ولا لبده وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني قربنا فرعون وجنوده إلى البحر وقدمناهم إلى الهلاك وقيل إن جبريل كان بين بني إسرائيل ، وبين قوم فرعون يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم أولكم ، ويقول للقبط رويدا ليلحق آخركم أولكم ، فكان بنو إسرائيل يقولون ما رأينا أحسن سياقة من هذا الرجل ، وكان قوم فرعون يقولون ما رأينا أحسن دعة من هذا الرجل وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني أنه تعالى جعل البحر يبسا حتى خرج موسى وقومه ، منه وأغرق فرعون وقومه ، وذلك أنهم لما تكاملوا في البحر انطبق عليهم فأغرقهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني ما حدث في البحر من انفلاقه آية من الآيات العظام الدالة على قدرته ومعجزة لموسى عليه السلام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أهل مصر قيل : لم يؤمن منهم إلا آسية امرأة فرعون ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، ومريم ابنة مامويا التي دلت على قبر يوسف حين أخرجه موسى من البحر وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ يعني أي شيء تعبدون وإنما قال إبراهيم ذلك مع علمه بأنهم عبدة لأصنام ، ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ يعني نقيم على عبادتها وإنما قالوا : نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يعني يسمعون دعاءكم إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ يعني بالرزق أَوْ يَضُرُّونَ يعني إن تركتم عبادتهم وإذا كان كذلك ، فكيف يستحقون العبادة؟ فلما لزمتهم الحجة القاطعة قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ المعنى أنها لا تسمع قولا ولا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ولكن اقتدينا بآبائنا في ذلك ، وفي الآية دليل على إبطال التقليد في الدين وذمه ومدح الأخذ بالاستدلال قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ أي الأولون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي أي أعداء لي وإنما وحده على إرادة الجنس. فإن قلت : كيف وصف الأصنام بالعداوة؟ وهي جمادات لا تعقل. قلت : معناه فإنهم عدو لي يوم القيامة لو عبدتهم في الدنيا وقيل : إن الكفار لما عبدوها ونزلوها منزلة الأحياء العقلاء أطلق إبراهيم لفظ العداوة عليها وقيل : هو من المقلوب أراد فإني عدو لهم لأن من عاديته فقد عاداك إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ أي ولكن رب العالمين ، فإنه ربي وولي وقيل إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع اللّه تعالى فقال إبراهيم كل ما تعبدون أعداء لي إلا رب العالمين ثم وصف معبوده الذي يستحق العبادة فقال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى طريق النجاة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أي يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب وَإِذا مَرِضْتُ أصابني مرض أضاف المرض إلى نفسه استعمالا للأدب وإن كان المرض والشفاء من اللّه فَهُوَ يَشْفِينِ أي يبرئني ويعافيني من المرض وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أي يميتني في الدنيا ثم يحييني في الآخرة. وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) ٨٢١٠٢فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) وَالَّذِي أَطْمَعُ أي أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ أي يوم الجزاء والحساب قيل : خطيئته كذباته الثلاث وتقدم الكلام عليها (م) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : قلت يا رسول اللّه ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين أكان ذلك نافعا له؟ قال (لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه ، أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً قال ابن عباس : معرفة حدود اللّه وأحكامه وقيل : العلم والفهم وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي بمن سلف قبلي من الأنبياء في المنزلة والدرجة العالية وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ثناء حسنا وذكرا جميلا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي ، فأعطاه اللّه ذلك وجعل كل الأديان يتولونه ، ويثنون عليه وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ أي ممن تعطيه جنة النعيم لأنها السعادة الكبرى وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ قيل دعا لأبيه على رجاء أن يسلم فيغفر له فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه وَلا تُخْزِنِي أي ولا تفضحني يَوْمَ يُبْعَثُونَ وهو يوم القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي خالص من الشرك والشك فأما الذنوب فلا يسلم منها أحد قال سعيد بن المسيب القلب السليم هو الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقيل : القلب السليم هو الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ أي أظهرت لِلْغاوِينَ أي للكافرين وَقِيلَ لَهُمْ يعني يوم القيامة أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أي يمنعونكم من عذاب اللّه أَوْ يَنْتَصِرُونَ لأنفسهم فَكُبْكِبُوا قال ابن عباس جمعوا وقيل قذفوا وطرحوا بعضهم على بعض وقيل : ألقوا على رؤوسهم فِيها أي في جهنم هُمْ وَالْغاوُونَ يعني الآلهة والعابدين وقيل : الجن والكافرين وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ يعني أتباعه ومن أطاعه من الإنس والجن وقيل ذريته قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ يعني العابدين والمعبودين تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ أي نعدلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدكم وَما أَضَلَّنا يعني دعانا إلى الضلال إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس ، وقيل : الأولون الذين اقتدينا بهم وقيل يعني إبليس وابن آدم الأول وهو قابيل ، وهو أول من سن القتل وأنواع المعاصي فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ يعني من يشفع لنا يعني كما أن للمؤمنين شافعين من الملائكة والأنبياء وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ أي قريب يشفع لنا ، يقول ذلك الكفار حين يشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، والصديق هو الصادق في المودة مع موافقة الدين عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (إن الرجل يقول في الجنة ما فعل بصديقي فلان وصديقه في الجحيم ، فيقول اللّه عز وجل أخرجوا له صديقه إلى الجنة ، فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم) رواه البغوي بإسناد الثعلبي. وقال الحسن : استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فإن لهم شفاعة يوم القيامة فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي رجعة إلى الدنيا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أنهم تمنوا الرجعة حين لا رجعة لهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) ١٠٣١٢٩إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي مع هذه الدلائل والآيات وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي المنتقم الذي لا يغالب وهو في وصف عزته رحيم. قوله وعز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أي كذبت جماعة قوم نوح ، قيل : القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة. فإن قلت : كيف قال المرسلين وإنما هو رسول واحد وكذلك باقي القصص. قلت : لأن دين الرسل واحد وإن الآخر منهم جاء بما جاء به الأول فمن كذب واحد من الأنبياء فقد كذب جميعهم إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أي أخوهم في النسب لا في الدين أَلا تَتَّقُونَ أي ألا تخافون فتتركوا الكفر والمعاصي إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي على الوحي ، وكان معروفا عندهم بالأمانة فَاتَّقُوا اللَّهَ أي بطاعته وعبادته وَأَطِيعُونِ أي فيما أمرتكم به من الإيمان والتوحيد وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي من جعل وجزاء إِنْ أَجْرِيَ أي ثوابي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قيل : كرره ليؤكده عليهم ويقرره في نفوسهم وقيل ليس فيه تكرار ومعنى الأول ألا تتقون اللّه في مخالفتي وأنا رسول اللّه ومعنى الثاني ألا تتقون اللّه في مخالفتي وإني لست آخذ منكم أجرا قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي السفلة قال ابن عباس : يعني القافة وقيل هم الحاكة والأساكفة قالَ يعني نوحا وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي وما أعلم أعمالهم وصنائعهم ، وليس علي من دناءة مكاسبهم وأحوالهم شيء إنما كلفت أن أدعوهم إلى اللّه تعالى ، وما لي إلا ظواهر أمرهم وقال الزجاج الصناعات لا تضر في الديانات وقيل : معناه إني لم أعلم أن اللّه يهديهم ويضلكم ويوفقهم ويخذلكم إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ أي لو تعلمون ذلك ما عيرتموهم بصنائعهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي عني وقد آمنوا إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ معناه أخوف من كذبني فمن آمن فهو القريب مني ، ومن لم يؤمن فهو البعيد عني قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ أي عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي من المقتولين بالحجارة وهو أسوأ القتل وقيل من المشتومين قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ أي احكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي حكما وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي الموقر المملوء من الناس والطير والحيوان ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ أي بعد إنجاء نوح ومن معه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أي أمين على الرسالة فكيف تتهمونني اليوم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ قال ابن عباس : أي بكل شرف وفي رواية عنه بكل طريق ، وقيل : هو الفج بين الجبلين وقيل : المكان المرتفع آيَةً أي علامة وهي العلم تَعْبَثُونَ يعني بمن مر بالطريق والمعنى ، أنهم كانوا : يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم ، وقيل إنهم بنوا بروج الحمام فأنكر عليهم هود باتخاذها ، ومعنى تعبثون تلعبون بالحمام وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ قال ابن عباس أبنية وقيل قصورا مشيدة وحصونا مانعة ، وقيل مآخذ الماء يعني الحياض لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي كأنكم تبقون فيها خالدين لا تموتون. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) ١٣٠١٥٥وَإِذا بَطَشْتُمْ أي وإذا أخذتم وسطوتم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ أي قتلا بالسيف وضربا بالسوط والجبار الذي يضرب ويقتل على الغضب ، وهو مذموم في وصف البشر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيه زيادة زجر عن حب الدنيا والشرف والتفاخر وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي أعطاكم من الخير ما تعلمون ثم ذكر ما أعطاهم فقال أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فيه التنبيه على نعمة اللّه تعالى عليهم إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ قال ابن عباس إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فكان جوابهم أن قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أي أنهم أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه ، واستخفافهم بما أورده من المواعظ والوعظ كلام يلين القلب يذكر الوعد والوعيد إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرئ بفتح الخاء أي اختلاق الأولين وكذبهم وقرئ خلق بضم الخاء ، واللام أي عادة الأولين من قبلنا أنهم يعيشون ما عاشوا ثم يموتون ولا بعث ولا حساب وقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي أنهم أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكارهم المعاد فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ أي في الدنيا من العذاب فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها أي ثمرها الذي يطلع منها هَضِيمٌ قال ابن عباس : لطيف وعنه يانع نضيج وقيل : هو اللين الرخو. وقيل : متهشم يتفتت إذا مس. وقيل : الهضيم هو الذي دخل بعضه في بعض من النضج أو النعومة وقيل هو المدرك وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ وقرئ فرهين قيل : الفاره الحاذق بنحتها والفره قال ابن عباس : الأشر والبطر وقيل : معناه متجبرين فرحين معجبين بصنعكم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس : أي المشركين وقيل يعني التسعة الذين عقروا الناقة الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يطيعون اللّه فيما أمرهم قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من المسحورين المخدوعين وقال ابن عباس : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا والمعنى أنت بشر مثلنا ولست بملك فَأْتِ بِآيَةٍ يعني على صحة ما تقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أنك رسول إلينا قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ أي حظ من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) ١٥٦١٨٨وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ أي على عقرها لما رأوا العذاب فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ يعني نكاح الرجال من بني آدم وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ يعني أتتركون العضو المباح من النساء وتميلون إلى أدبار الرجال بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ أي معتدون مجاوزون الحلال إلى الحرام قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من قريتنا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي من التاركين المبغضين رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من العمل الخبيث قال اللّه تعالى فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً أي امرأته فِي الْغابِرِينَ أي بقيت في المهلكين ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أي أهلكناهم وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الكبريت والنار فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قوله عز وجل كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ أي الغيضة الملتفة من الشجر وقيل هو اسم البلد إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لم يقل لهم أخوهم لأنه لم يكن منهم وإنما كان من مدين وأرسل إليهم أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ إنما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء فيما حكي عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على تقوى اللّه وطاعته ، والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي الناقصين لحقوق الناس في الكيل والوزن وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ أي بالميزان العدل الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ يعني الخليقة والأمم المتقدمة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً يعني قطعا مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ يعني من نقصان الكيل والوزن وهو مجازيكم بأعمالكم ، وليس العذاب إلي وما علي إلا الدعوة والتبليغ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) ١٨٩٢١٤فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وذلك أنهم أصابهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب ، فيجدونها أحر من ذلك فيخرجون فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وقد تقدم الكلام على هذه القصص في سورة الأعراف وهود فأغنى عن الإعادة هنا واللّه أعلم بمراده قوله عز وجل وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني أن فيه من أخبار الأمم الماضية ما يدل على أنه من رب العالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبريل عليه السلام سماه زوجا لأنه خلق من الروح وسماه أمينا ، لأنه مؤتمن على وحيه لأنبيائه عَلى قَلْبِكَ يعني على قلبك حتى تعيه وتفهمه ولا تنساه وإنما خص القلب لأنه هو المخاطب في الحقيقة ، وأنه موضع التمييز والعقل والاختيار وسائر الأعضاء مسخرة له ويدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) أخرجاه في الصحيحين. ومن المعقول أن موضع الفرح والسرور ، والغم والحزن هو القلب ، فإذا فرح القلب أو حزن يتغير حال سائر الأعضاء فكأن القلب كالرئيس لها ، ومنه أن موضع العقل هو القلب على الصحيح من القولين فإذا ثبت ذلك كان القلب هو الأمير المطلق ، وهو المكلف والتكليف مشروط بالعقل والفهم. قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي المخوفين بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ قال ابن عباس بلسان قريش ليفهموا ما فيه وَإِنَّهُ يعني القرآن وقيل ذكر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصفته ونعته لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي كتب الأولين أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً يعني أولم يكن لهؤلاء المتكبرين علامة ودلالة على صدق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أَنْ يَعْلَمَهُ يعني يعلم محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا إن هذا لزمانه وإنا نجد في التوراة نعته وصفته فكان ذلك آية على صدقه صلّى اللّه عليه وسلّم قيل كانوا خمسة عبد اللّه بن سلام وابن يامين وثعلبة وأسد وأسيد. قوله تعالى وَلَوْ نَزَّلْناهُ يعني القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ جمع أعجمي وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية ، وإن كان عربيا في النسب ومعنى الآية ، وأنزلنا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ يعني القرآن ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أي لقالوا لا نفقه قولك وقيل معناه لما آمنوا به أنفة من اتباع من ليس من العرب كَذلِكَ سَلَكْناهُ قال ابن عباس : يعني أدخلنا الشرك والتكذيب فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ أي القرآن حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي لنؤمن ونصدق وتمنوا الرجعة ولا رجعة لهم أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ قيل لما وعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالعذاب قالوا إلى متى توعدنا بالعذاب ومتى هذا العذاب ، فأنزل اللّه أفبعذابنا يستعجلون أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أي كفار مكة في الدنيا ولم نهلكهم ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ يعني العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي في تلك السنين الكثيرة والمعنى أنهم وإن طال تمتعهم بنعيم الدنيا ، فإذا أتاهم العذاب لم يغن عنهم طول التمتع شيئا ويكونوا كأنهم لم يكونوا في نعيم قط وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ أي رسل ينذرونهم ذِكْرى أي تذكره وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي في تعذيبهم حيث قدمنا الحجة عليهم وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ يعني أن المشركين كانوا يقولون : إن الشياطين يلقون القرآن على قلب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أن ينزلوا بالقرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ذلك ، ثم إنه تعالى ذكر سبب ذلك فقال إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ أي محجوبون بالرمي بالشهب فلا يصلون إلى استراق السمع فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمراد به غيره لأنه معصوم من ذلك. قال ابن عباس : يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق علي ، ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك. قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ روى محمد بن إسحاق بسنده عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال : (لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يا علي إن اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت أني متى أباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال : يا محمد أن لا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لنا طعاما واجعل لنا عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له وكانوا يومئذ نحو أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعت فجئت به ، فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال : خذوا باسم اللّه فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة وايم اللّه أن كان الرجل الواحد ليأكل ، مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعا ، وايم اللّه أن كان الرجل الواحد ليشرب مثله فلما أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يكلمهم بدره أبو لهب فقال : سحركم صاحبكم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال الغد يا : علي فإن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فاعدد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثم أجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا ثم تكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخبري الدنيا والآخرة ، وقد أمرني اللّه عز وجل أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعا ، وأنا أحدثهم سنا فقلت أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ، ثم قال هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيعه) (ق) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما : لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين صعد النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر يا بني عدي لبطون من قريش ، حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وفي رواية قد تب وفي رواية للبخاري ، لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه ، فقالوا من هذا واجتمعوا إليه وذكر نحوه (ق) عن أبي هريرة قال قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزل اللّه تعالى (و أنذر عشيرتك الأقربين وقال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من اللّه شيئا ، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من اللّه شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللّه شيئا ، ويا صفية عمة رسول اللّه لا أغني عنك من اللّه شيئا ويا فاطمة بنت رسول اللّه سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من اللّه شيئا) (م) عن قبيصة بنت مخارق وزهير بن عمرو قالا لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى رضمة جبل فعلا أعلاها حجرا ثم نادى (يا بني عبد مناف إني نذير لكم إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه ، فجعل يهتف يا صباحاه) ومعنى الآية أن الإنسان إذا بدأ بنفسه أولا وبالأقرب فالأقرب من أهله ثانيا لم يكن لأحد عليه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧) ١٢٥٢٢٧وَاخْفِضْ أي ألن جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله (من المؤمنين) و قلت : معناه لمن اتبعك من المؤمنين المصدقين بقلوبهم وألسنتهم دون المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون فَإِنْ عَصَوْكَ يعني فيما تأمرهم به فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعني من الكفر والمخالفة وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ التوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ، ويقدر على نفعه وضره وهو اللّه تعالى العزيز الذي يقهر أعداءك ، بعزته الرحيم الذي ينصرك عليهم برحمته الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إلى صلاتك وقيل يراك أينما كنت وقيل يراك حين تقوم لدعائك وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال ابن عباس : ويرى تقلبك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك وقيل مع المصلين في الجماعة يقول يراك إذا صليت وحدك ومع الجماعة ، وقيل : معناه يرى تقلب بصرك في المصلين فإنه كان صلّى اللّه عليه وسلّم يبصر من خلفه كما يبصر من قدامه عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (هل ترون قبلتي ها هنا فو اللّه ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري) وقيل : معناه يرى تصرفك وذهابك ومجيئك في أصحابك المؤمنين. وقيل : تصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك وقال ابن عباس أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يعني لقولك ودعائك الْعَلِيمُ يعني بنيتك وعملك قل يا محمد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا جواب لقولهم ينزل عليه شيطان ثم بين على من تنزل الشياطين فقال تعالى تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ يعني كذاب أَثِيمٍ يعني فاجر وهم الكهنة وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ، ثم يلقون ذلك إلى أوليائهم من الإنس وهو قوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني ما يسمعون من الملائكة فيلقونه إلى الكهنة وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون به كذبا كثيرا وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال أهل التفسير أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منهم عبد اللّه بن الزبعرى السهمي ، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عمرو بن عبد اللّه الجمحي وأمية بن أبي الصلت الثقفي تكلموا بالكذب ، والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد وقالوا الشعر ، واجتمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأصحابه وكانوا يروون عنهم قولهم فذلك قوله يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ فهم الرواة الذين يروون هجاء المسلمين ، وقيل الغاوون هم الشياطين وقيل هم السفهاء الضالون وفي رواية أن الرجلين أحدهما من الأنصار تهاجيا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومع كل واحد غواة من قومه ، وهم السفهاء فنزلت هذه الآية أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام يَهِيمُونَ يعني حائرين وعن طريق الحق حائدين ، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وقال ابن عباس في كل لغو يخوضون ، وقيل يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل أنهم يمدحون الشيء ثم يذمونه لا يطلبون الحق والصدق ، فالوادي مثل لفنون الكلام والغوص في المعاني والقوافي وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أنهم يكذبون في شعرهم وقيل إنهم يمدحون الجود والكرم ويحثون عليه وهم لا يفعلونه ويذمون البخل ويصرون عليه ويهجون الناس بأدنى شيء صدر منهم (ق) عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا) ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجتنبون شعر الكفار ، ويهجون وينافحون عن محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه منهم حسان بن ثابت وعبد اللّه بن رواحة وكعب بن مالك فقال تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ روي أن كعب بن مالك قال للنبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه أنزل في الشعر ما أنزل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل) عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول : خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر يا ابن رواحة بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي حرم اللّه تقول الشعر؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (خل عنه يا عمر فلهي أسرع فيهم من نضح النبل) أخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي : وقد روي في غير هذا الحديث أن النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وكعب بن مالك بين يديه ، وهذا أصح عند بعض أهل الحديث لأن عبد اللّه بن رواحة قتل يوم مؤتة ، وكانت عمرة القضاء بعد ذلك قلت الصحيح ، هو الأول لأن عمرة القضاء كانت سنة سبع ويوم مؤتة سنة ثمان واللّه أعلم (ق) عن البراء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوم قريظة لحسان : (أهج المشركين فإن جبريل معك) (خ) عن عائشة قالت (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يضع لحسان منبرا في المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وينافح ويقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : إن اللّه يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول اللّه) (م) عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (اهجوا قريشا فإنه أشد عليها من رشق النبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال : اهجهم فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه حسان : قال : قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال : والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها ، وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال : يا رسول اللّه قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق نبيا لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين قالت عائشة : فسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لحسان : إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن اللّه ورسوله قالت وسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول هجاهم حسان فشفى واشتفى) فقال حسان : هجوت محمدا فأجبت عنه وعند اللّه في ذاك الجزاء هجوت محم دا برا تقيا رسول اللّه شيمته الوفاء فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء ثكلت بنيتي إن لمم تروها تثير النقع موعدها كداء يبارين الأعنة مصعدات على أكنافها الأسل الظماء تظل جيادها متمطرات تلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتم عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لضراب يوم يعز اللّه فيه من يشاء وقال اللّه قد أرسلت عبدا يقول الحق ليس به خفاء وقال اللّه قد سيرت جندا هم الأنصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد سباب أو قتال أو هجاء فمن يهجو رسول اللّه منكم ويمدحه وينصره سواء وجبريل رسول اللّه فينا وروح القدس ليس له كفاء فصل في مدح الشعر (خ) عن أبي بن كعب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن من الشعر لحكمة) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال جاء أعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فجعل يتكلم بكلام فقال (إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما) أخرجه أبو داود (م) عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : (ردفت وراء النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوما فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء ، قلت نعم قال : هيه : فأنشدته بيتا فقال : هيه ثم أنشدته بيتا قال : هيه حتى أنشدته مائة بيت زاد في رواية لقد كاد يسلم في شعره) عن جابر بن سمرة قال : (جالست النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية ، وهو ساكت وربما تبسم معهم) أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح. وقالت عائشة : الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ منه الحسن ودع منه القبيح. وقال الشعبي : كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان علي أشعر منهما وروي عن ابن عباس أنه كان ينشد الشعر ويستنشده في المسجد ، فيروى أنه دعا عمر بن ربيعة المخزومي ، فاستنشده القصيدة التي قالها فقال : أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر فأنشده القصيدة إلى آخرها ، وهي قريب من تسعين بيتا ثم إن ابن عباس أعاد القصيدة جميعها ، وكان حفظها بمرة واحدة. قوله تعالى وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي لم يشغلهم الشعر عن ذكر اللّه وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدءوا بالهجاء ، ثم أوعد شعراء المشركين فقال تعالى وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا وهجوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو الطاهر المطهر من الهجاء أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي أيّ مرجع يرجعون إليه بعد الموت قال ابن عباس : إلى جهنم وبئس المصير واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. |
﴿ ٠ ﴾