سورة فاطر

وتسمى سورة الملائكة مكية وهي خمس وأربعون آية وتسعمائة وسبعون كلمة وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)

١

٢

قوله عز وجل الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي إلى الأنبياء أُولِي أَجْنِحَةٍ أي ذوي أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء. قال عبد اللّه بن مسعود في قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ،

وقيل في قوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ هو حسن الصوت

وقيل حسن الخلق وتمامه

وقيل هو الملاحة في العينين

وقيل هو العقل والتمييز إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مما يريد أن يخلقه.

قوله تعالى ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ قيل المطر

وقيل من خير ورزق فَلا مُمْسِكَ لَها أي لا يستطيع أحد حبسها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ أي لا يقدر أحد على فتح ما أمسك وَهُوَ الْعَزِيزُ يعني فيما أمسك الْحَكِيمُ أي فيما أرسل

(م) عن المغيرة بن شعبة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول في دبر كل صلاة (لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) والجد الغنى والبخت أي لا ينفع المبخوت والغني حظه وغناه لأنهما منك إنما ينفعه الإخلاص والعمل بطاعتك.

قوله عز وجل :

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)

أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)

٣

١٠

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قيل الخطاب لأهل مكة ونعمة اللّه عليهم إسكانهم الحرم ومنع الغارات عنهم هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي لا خالق إلا اللّه وهو استفهام تقرير وتوبيخ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ أي المطر وَالْأَرْضِ أي النبات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد اللّه وإنكار البعث وأنتم مقرون بأن اللّه خالقكم ورازقكم وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ يعزي نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي فيجزي المكذب من الكفار بتكذيبه.

قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعد القيامة فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي لاتخد عنكم بلذاتها وما فيها عن عمل الآخرة وطلب ما عند اللّه وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا يقل لكم اعملوا ما شئتم فان اللّه يغفر كل ذنب وخطيئة ثم بين الغرور من هو

فقال تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي عادوه بطاعة اللّه ولا تطيعوه فيما يأمركم به من الكفر والمعاصي إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ أي أشياعه وأولياءه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ثم بين حال موافقيه ومخالفته

فقال تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.

قوله عز وجل أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ قال ابن عباس نزلت في أبي جهل ومشركي مكة

وقيل نزلت في أصحاب الأهواء والبدع ومنهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم لأنهم لا يستحلونها ويعتقدون تحريمها مع ارتكابهم إياها ومعنى زين له شبه له وموه عليه قبيح عمله فَرَآهُ حَسَناً وفي الآية حذف مجازه أفمن زين له سوء عمله فرأي الباطل حقا كمن هداه اللّه فرأى الحق حقا والباطل باطلا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ

وقيل مجاز الآية أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ فان اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء والحسرة شدة الحزن على ما فات والمعنى لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إن لم يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيه وعيد بالعقاب على سوء صنيعهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي تزعجه من مكانه

وقيل تجمعه وتجيء به فَسُقْناهُ أي فنسوقه إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات روى ابن الجوزي في تفسيره عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول اللّه كيف يحيي اللّه الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال (هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا قلت نعم قال كذلك يحيي اللّه الموتى وتلك آيته في خلقه)

قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً قيل معناه من كان يريد أن يعلم لمن العزة فلله العزة جميعا

وقيل معناه من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة اللّه وهو دعاء إلى طاعة من له العزة أي فليطلب العزة من عند اللّه بطاعته ، وذلك أن الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز ، فبين اللّه أن لا عزة إلا للّه ولرسوله ولأوليائه المؤمنين إِلَيْهِ يعني إلى اللّه

يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قيل هو قول لا إله إلا اللّه

وقيل هو سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر روى البغوي باسناده عن ابن مسعود قال (إذا حدثتكم حديثا أنبأتكم بمصداقه من كتاب اللّه عز وجل ما من عبد مسلم يقول خمس كلمات سبحانه اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر وتبارك اللّه ، إلا أخذهن ملك تحت جناحه ثم يصعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجيء بها وجه رب العالمين ، ومصداقه من كتاب اللّه قوله : إليه يصعد الكلم الطيب) هذا حديث موقوف على ابن مسعود وفي إسناده الحجاج بن نصير ضعيف ،

وقيل الكلم الطيب ذكر اللّه تعالى

وقيل معنى إليه يصعد أي يقبل اللّه الكلم

الطيب وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال ابن عباس أي يرفع العمل الصالح الكلم الطيب ،

وقيل الكلم الطيب ذكر اللّه والعمل الصالح أداء الفرائض فمن ذكر اللّه ، ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وليس الإيمان بالتمني وليس بالتحلي ولكن ما وقرفي القلوب وصدقته الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد اللّه عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه العمل ذلك بأن اللّه يقول إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وجاء في الحديث (لا يقبل اللّه قولا إلا بعمل ولا قولا ولا عملا إلا بنية)

وقيل الهاء في يرفعه راجعة إلى العمل الصالح أي الكلم الطيب يرفع العمل الصالح فلا يقبل عملا إلا أن يكون صادرا عن توحيد

وقيل معناه العمل الصالح يرفعه اللّه

وقيل العمل الصالح هو الخالص ، وذلك أن الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأفعال وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يعملون السيئات أي الشرك

وقيل يعني الذين مكروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في دار الندوة

وقيل هم أصحاب الرياء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يبطل ويهلك في الآخرة.

قوله عز وجل :

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)

١١

١٩

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني ذريته ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يعني أصنافا ذكرانا وإناثا

وقيل زوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ يعني لا يطول عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ يعني عمر آخر ،

وقيل ينصرف إلى الأول قال سعيد بن جبير ، مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا وكذا سنة ، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ، ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره ،

وقيل معناه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب قال كعب الأحبار حين حضرت عمر الوفاة واللّه لو دعا عمر ربه أن يؤخر أجله لأخر ، فقيل له إن اللّه تعالى يقول فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ذلك وقرأ هذه الآية إِلَّا فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي كتابة الآجال والأعمال على اللّه هين.

قوله تعالى وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ يعني العذب والمالح ثم وصفهما فقال هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي طيب يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ أي سهل في الحلق هنيء مريء وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي شديد الملوحة يحرق الحلق بملوحته

وقيل هو المر وَمِنْ كُلٍّ يعني من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ يعني من الملح دون العذب حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ والمرجان

وقيل نسب اللؤلؤ إليهما لأنه يكون في البحر المالح عيون عذبة فتمتزج بالملح فيكون

اللؤلؤ منهما وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ يعني جواري مقبلة ومدبرة بريح واحدة لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني بالتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني تشكرون اللّه على نعمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأصنام ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة التي تكون على النواة إِنْ تَدْعُوهُمْ يعني الأصنام لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ يعني أنهم جماد وَلَوْ سَمِعُوا أي على سبيل الفرض والتمثيل مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ أي ما أجابوكم

وقيل ما نفعوكم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني نفسه أي لا ينبئك أحد مثلي لأني عالم بالأشياء

قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى فضله وإحسانه والفقير المحتاج إلى من سواه والخلق كلهم محتاجون إلى اللّه فهم الفقراء وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه لا يحتاج إليهم الْحَمِيدُ يعني المحمود في إحسانه إليهم المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لاتخاذكم أندادا وكفركم بآياته وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعني يخلق بعدكم من يعبده ولا يشرك به شيئا وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي يمتنع وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ بذنب غيرها

فان قلت كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم.

قلت هذه الآية في الضالين وتلك في المضلين أنهم يحملون أثقال من أضلوه من الناس مع أثقال أنفسهم وذلك كله من كسبهم وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها معناه وإن تدع نفس مثقلة بذنوبها إلى حمل ذنوب غيرها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يعني ولو كان المدعو ذا قرابة كالأب والأم والابن والأخ قال ابن عباس يعلق الأب والأم بالابن فيقول يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعني يخافون ربهم بِالْغَيْبِ يعني لم يروه والمعنى وإنما ينفع إنذارك الذين يخشون ربهم بالغيب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى يعني أصلح وعمل خيرا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ يعني لها ثوابه وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني الجاهل والعالم

وقيل الأعمى عن الهدى وهو الشرك والبصير بالهدى وهو المؤمن.

وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)

لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)

٢٠

٣٢

وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ يعني الكفر والإيمان وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني الجنة والنار وقال ابن عباس : الحرور الريح الحارة بالليل والسموم بالنهار وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني المؤمنين والكفار

وقيل العلماء والجهال إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ يعني حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني الكفار شبههم بالأموات في القبور لأنهم لا يجيبون إذا دعوا إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما أنت إلا منذر تخوفهم بالنار إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيرا بالثواب لمن آمن ونذيرا بالعقاب لمن كفر وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة كثيرة فيما مضى إِلَّا خَلا أي سلف فِيها نَذِيرٌ أي نبي منذر.

فان قلت كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم لم يخل فيها نذير.

قلت : إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلا أن تندرس ، وحين اندرست آثار رسالة عيسى عليه السلام بعث اللّه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وآثار نذارته باقية إلى يوم للقيامة لأنه لا نبي بعده وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الدالة على نبوتهم وَبِالزُّبُرِ أي الصحف وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الواضح قيل أراد بالكتاب التوراة والإنجيل والزبور

وقيل ذكر الكتاب بعد الزبر تأكيدا ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها يعني أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب والرطب ونحوها

وقيل يعني ألوانها في الحمرة والصفرة والخضرة وغير ذلك مما لا يحصر ولا يعد وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ يعني الخطط والطرق في الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها يعني منها ما هو أبيض ومنها ما هو أحمر ومنها ما هو أصفر وَغَرابِيبُ سُودٌ يعني شديدة السواد كما يقال أسود غربيب تشبيها بلون الغراب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعني خلق مختلف ألوانه كَذلِكَ يعني كاختلاف الثمرات والجبال وتم الكلام ها هنا ، ثم ابتدأ

فقال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال ابن عباس يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني

وقيل : عظموه وقدروا قدره وخشوه حق خشيته ومن ازداد به علما ازداد به خشية

(ق) عن عائشة قالت صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فخطب فحمد اللّه ثم قال (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو اللّه إني لأعلمهم باللّه وأشدهم له خشية) قولها

فرخص فيه أي لم يشدد فيه قولها فتنزه عن أقوام أي تباعد عنه وكرهه قوم

(ق) عن أنس قال خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا) فغطى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وجوههم لهم خنين الخنين بالخاء المعجمة ، هو البكاء مع غنة وانتشاق الصوت من الأنف وقال مسروق كفى بخشية اللّه علما وكفى بالاغترار باللّه جهلا وقال رجل للشعبي أفتني أيها العالم فقال الشعبي إنما العالم من خشي اللّه عز وجل وقال مقاتل أشد الناس خشية للّه أعلمهم به ، وقال الربيع بن أنس : من لم يخش اللّه فليس بعالم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي من ملكه غَفُورٌ يعني لذنوب عباده وهو تعليل لوجوب الخشية لأنه المثيب المعاقب وإذا كان كذلك فهو أحق أن يخشى ويتقى.

قوله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءته ويعلمون ما فيه ويعملون به وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي ويقيمون الصلاة في أوقاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني في سبيل اللّه سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ يعني لن تفسد ولن تهلك والمراد من التجارة ما وعد اللّه من الثواب لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قال ابن عباس سوى الثواب يعني مما لم تر عين ولم تسمع أذن إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ قال ابن عباس : يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر اليسير من أعمالهم وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.

قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ يعني أوحينا إليك الكتاب وهو القرآن ثم أورثناه يعني حكمنا بتوريثه

وقيل أورثناه بمعنى نورثه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا قال ابن عباس يريد أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، لأن اللّه اصطفاهم على سائر الأمم واختصهم بكرامته بأن جعلهم أتباع سيد الرسل وخصهم بحمل أفضل الكتب ثم قسمهم ورتبهم

فقال تعالى

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ روي عن أسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (كلهم من هذه الأمة) ذكره البغوي بغير سند وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال في هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة) أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر ثم أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فقال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له) قال أبو قلابة أحد رواته فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه أخرجه البغوي بسنده وروى بسنده عن ثابت (أن رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق إلي جليسا صالحا فقال أبو الدرداء لئن كنت صادقا لأنا أسعد بك منك سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ قال أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب

وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا

وأما ظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول اللّه عز وجل ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية.

فقالت : يا بني كلهم في الجنة أما السابق فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشهد له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالجنة

وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به ،

وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم ، فجعلت نفسها معنا) وقال ابن عباس السابق المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر ، نعمة اللّه غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال (جنات عدن يدخلونها)

وقيل الظالم هم أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق هم السابقون المقربون من الناس كلهم

وقيل : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والمقتصد من استوت سيئاته وحسناته والظالم من رجحت سيئاته على حسناته

وقيل الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه والمقتصد الذي استوى ظاهره وباطنه والسابق الذي باطنه خير من ظاهره

وقيل الظالم التالي للقرآن ولم يعمل به والمقتصد التالي له العامل به والسابق القارئ له العالم به العامل بما فيه

وقيل الظالم أصحاب الكبائر والمقتصد أصحاب الصغائر والسابق الذي لم يرتكب صغيرة ولا كبيرة

وقيل الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم والسابق العالم.

فان قلت لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق.

قلت : قال جعفر الصادق بدأ بالظالمين إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين ، لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره ، وكلهم في الجنة

وقيل رتبهم الترتيب على مقامات الناس ، لأن أحوال العباد ثلاثة معصية وغفلة ثم توبة ، ثم قربة فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين ، فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين ،

وقيل قدم الظالم لكثرة الظلم وغلبته ثم المقتصد قليل بالإضافة إلى الظالمين ، والسابق أقل من القليل فلهذا أخرهم ومعنى سابق بالخيرات أي بالأعمال الصالحة إلى الجنة ، أو إلى رحمة اللّه بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمر اللّه وإرادته ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني إيراثهم الكتاب ، واصطفاءهم ثم أخبر بثوابهم

فقال تعالى :

جَنَّاتُ عَدْنٍيَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)

٣٣

٣٥

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يعني الأصناف الثلاثة يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها

حَرِيرٌ

تقدم تفسيره وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال ابن عباس حزن النار

وقيل حزن الموت

وقيل حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم

وقيل حزن زوال النعم وتقليب القلوب وخوف العاقبة

وقيل حزن أهوال يوم القيامة وهموم الحصر والمعيشة في الدنيا

وقيل ذهب عن أهل الجنة كل حزن كان لمعاش أو معاد. روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا اللّه ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن) إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ يعني غفر العظيم من الذنوب وشكر القليل من الأعمال الَّذِي أَحَلَّنا يعني أنزلنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ أي لا بأعمالنا لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي لا يصيبنا فيها عناء ولا مشقة وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي إعياء من التعب.

قوله تعالى :

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)

٣٦

٤٣

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي فيستريحوا مما هم فيه وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها أي من عذاب النار كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ أي يستغيثون ويصيحون فِيها يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا أي من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والسيئات فيقول اللّه تعالى توبيخا لهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قيل : هو البلوغ

وقيل ثمان عشرة سنة

وقيل أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن علي وهو العمر الذي أعذر اللّه تعالى لابن آدم

(خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (أعذر اللّه إلى كل امرئ آخر أجله حتى بلغ ستين سنة) عنه بإسناد الثعلبي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بالقرآن قاله ابن عباس :

وقيل هو الشيب والمعنى أو لم نعمركم حتى شبتم. ويقال الشيب : نذير الموت وفي الأثر (ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت) فَذُوقُوا أي يقال لهم ذوقوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ أي لهم من مانع يمنعهم من عذابه إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ

يعني إنه إذا علم ذلك وهو أخفى ما يكون ، فقد علم غيب كل شيء في العالم.

قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا

وقيل جعلكم أمة خلفت من قبلها من الأمم ورأت ما ينبغي أن يعتبر به ،

وقيل جعلكم خلفاء في أرضه وملككم منافعها ومقاليد التصرف فيها لتشكروه بالتوحيد والطاعة فَمَنْ

كَفَرَ

أي جحد هذه النعمة وغطمها فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً يعني غضبا

وقيل المقت أشد البغض وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً يعني في الآخرة قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام جعلتموها شركاء بزعمكم أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ يعني أي جزء استبدوا بخلقه من الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي خلق في السموات والأرض أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي على حجة وبرهان من ذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ يعني الرؤساء بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً يعني قولهم هؤلاء الأصنام شفعاؤنا عند اللّه.

قوله عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا يعني لكي لا تزولا فيمنعهما من الزوال والوقوع وكانتا جديرتين بأن تزولا وتهدهد العظم كلمة الشرك وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعني ليس يمسكهما أحد سواه إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً يعني غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما وكانتا قد همتا بعقوبة الكفار لولا حلمه وغفرانه وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني كفار مكة وذلك لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن اللّه اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا باللّه لو جاءنا نذير لنكونن أهدى دينا منهم وذلك قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلما بعث محمد كذبوه فأنزل اللّه هذه الآية وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني اليهود والنصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً يعني تباعدا عن الهدى اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ يعني عتوا وتكبرا عن الإيمان به وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعني عمل القبيح وهو اجتماعهم على الشرك

وقيل هو مكرهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعني لا يحل ولا يحيط إلا بأهله فقتلوا يوم بدر قال ابن عباس عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي ينظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني أن ينزل العذاب بهم كما نزل بمن مضى من الكفار فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي تحويل العذاب عنهم إلى غيرهم.

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)

٤٤

٤٥

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ معناه أنهم يعتبرون بمن مضى وبآثارهم وعلامات هلاكهم وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليفوت عنه مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا أي من الجرائم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي من نسمة تدب عليها يريد بني آدم وغيرهم كما أهلك من كان في زمن نوح بالطوفان إلا من كان في السفينة وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يريد أهل طاعته وأهل معصيته

وقيل بصيرا بمن يستحق العقوبة وبمن يستحق الكرامة واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.

تم الجزء الثالث من تفسير الخازن ويليه الجزء الرابع ، وأوله سورة يس عليه الصلاة والسلام

﴿ ٠