سورة الدخانمكية وهي سبع وقيل تسع وخمسون آية وثلاثمائة وست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وأحد وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) ١٥قوله عز وجل : حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني المبين ما يحتاج الناس إليه من حلال وحرام وغير ذلك من الأحكام إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ قيل هي ليلة القدر أنزل اللّه تعالى فيها القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما على حسب الوقائع في عشرين سنة ، وقيل هي ليلة النصف من شعبان عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن اللّه تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب) أخرجه الترمذي. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي مخوفين عقابنا فِيها أي في تلك الليلة المباركة يُفْرَقُ أي يفصل كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أي محكم ، قال ابن عباس : يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال : يحج فلان ويحج فلان وقيل هي ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ، وروى البغوي بسنده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى) وعن ابن عباس (إن اللّه يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر) أَمْراً أي أنزلنا أمرا مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ومن قبله من الأنبياء. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) ٦١١رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال ابن عباس رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل وقيل أنزلناه في ليلة مباركة رحمة من ربك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالهم الْعَلِيمُ أي بأحوالهم رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن اللّه رب السموات والأرض وما بينهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي من هذا القرآن يَلْعَبُونَ أي يهزئون به لاهون عنه فَارْتَقِبْ أي يا محمد يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (ق) عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد اللّه بن مسعود وهو مضطجع بيننا فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الرّحمن إن قاصا عند باب كندة يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ويأخذ المؤمنين منها كهيئة الزكام فقام عبد اللّه وجلس وهو غضبان فقال يا أيها الناس اتقوا اللّه من علم منكم شيئا فليقل به ومن لا يعلم شيئا فليقل اللّه أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم اللّه أعلم فإن اللّه عز وجل قال لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) (إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما رأى من الناس إدبارا قال اللهم سبعا كسبع يوسف) وفي رواية (لما دعا قريشا فكذبوه واستعصوا عليه قال : اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف) فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان فأتاه أبو سفيان فقال يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة اللّه وبصلة الرّحم وإن قومك قد هلكوا فادع اللّه لهم قال اللّه عز وجل : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله عائِدُونَ قال عبد اللّه فيكشف عذاب الآخرة يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون فالبطشة يوم بدر وفي رواية للبخاري قالوا : رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) ١٢١٦رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له إن كشفناه عنهم عادوا فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا فانتقم اللّه منهم يوم بدر فذلك قوله تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إلى قوله إِنَّا مُنْتَقِمُونَ قوله حصت كل شيء بالحاء والصاد المهملتين أي أهلكت واستأصلت كل شيء (ق). عن عبد اللّه بن مسعود قال : (خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان قيل أصابهم من الجوع كالظلمة في أبصارهم وسبب ذلك أن في سنة القحط العظيم تيبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع الغبار ويظلم الهواء والجو وذلك يشبه الدخان وقيل هو دخان يجيء قبل قيام الساعة ولم يأت بعد فيدخل في أسماع الكفار والمنافقين حتى يكون الرجل رأسه كالرأس الحنيذ يعني المشوي ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ، وهو قول ابن عباس وابن عمر والحسن يدل عليه ما روى البغوي بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، قال حذيفة : يا رسول اللّه وما الدخان؟ فتلا هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام وأما الكافر فكمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى أي كيف يتذكرون ويتعظون بهذه الحالة وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ معناه وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المعجزات الظاهرات والآيات البينات الباهرة ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي أعرضوا عنه وَقالُوا مُعَلَّمٌ أي يعلمه بشر مَجْنُونٌ أي تلقي إليه الجن هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ أي الجوع قَلِيلًا أي زمنا يسيرا قيل إلى يوم بدر إِنَّكُمْ عائِدُونَ أي إلى كفركم يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى هو يوم بدر إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي منكم في ذلك اليوم ، وهو قول ابن مسعود وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس أنه يوم القيامة. وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) ١٧٢٧قوله تعالى : وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني على اللّه وهو موسى بن عمران عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ يعني على الوحي وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يعني ببرهان بيّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون وقال ابن عباس : تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ أي فاتركون لا معي ولا عليّ ، وقال ابن عباس : اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي مشركون فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي أجاب اللّه دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أي يتبعكم فرعون وقومه وَاتْرُكِ الْبَحْرَ أي إذا قطعته أنت وأصحابك رَهْواً أي ساكنا والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه ، وقيل اتركه طريقا يابسا وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو كَمْ تَرَكُوا أي بعد الغرق مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ أي مجلس شريف حسن وَنَعْمَةٍ أي وعيش لين رغد كانُوا فِيها أي في تلك النعمة فاكِهِينَ أي ناعمين وقرئ فكهين أي أشرين بطرين. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) ٢٨٣٧كَذلِكَ أي أفعل بمن عصاني وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه. عن أنس بن مالك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال (ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه) فذلك قوله تعالى : فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، قيل : بكاء السماء حمرة أطرافها ، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا فقيل : أو تبكي ، فقال : وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عز وجل : وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً أي جبارا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي علمه اللّه تعالى فيهم عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة إِنَّ هؤُلاءِ يعني مشركي مكة لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه فَأْتُوا بِآبائِنا أي الذين ماتوا قبل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى : أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أم ليسوا خيرا من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعا لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعا لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه. عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم) أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي) وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت (لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا) وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره ، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا : كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها ، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل ، فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم ، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة ، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار ، فقالوا : ما نعلم للّه في الأرض بيتا غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجدا وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك. وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها اللّه تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف ، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال : إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم. قال تبع أنصفتم فخرج القوم بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه وخرجت النار فأقبلت حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما يتلوان التوراة تعرق جباههما لم تضرهما النار ونكصت النار حتى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينها فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن ، وقال الرياشي كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ممن آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وقال كعب ذم اللّه قومه ولم يذمه. قوله تعالى : وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من الأمم الكافرة أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) ٣٨٤٦وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قوله عز وجل : إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي الذي يفصل اللّه فيه بين العباد مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يمنعون من عذاب اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ أي في انتقامه من أعدائه الرَّحِيمُ أي بأوليائه المؤمنين ، قوله تعالى : إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ أي ذي الإثم وهو أبو جهل كَالْمُهْلِ أي كدردي الزيت الأسود يَغْلِي فِي الْبُطُونِ أي في بطون الكفار كَغَلْيِ الْحَمِيمِ يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (في قوله كالمهل قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه) أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه. عن ابن عباس (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ هذه الآية : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) ٤٧٥٦قوله تعالى : خُذُوهُ أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم فَاعْتِلُوهُ أي دافعوه وسوقوه بالعنف إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي إلى وسط النار ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميما قد انتهى حره ثم يقال له ذُقْ أي هذا العذاب إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه اللّه كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين فِي مَقامٍ أَمِينٍ أي في مجلس أمنوا فيه من الغير فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر. فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي. قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجميا لأن معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب مُتَقابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا كَذلِكَ أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك وَأكرمناهم بأن زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن وليس هو من عقد التزويج وقيل جعلناهم أزواجا لهن أي جعلناهم اثنين واثنين الحور من النساء النقيات البيض ، وقيل يحار الطرف من بياضهن وصفاء لونهن وقيل الحور الشديدات بياض العينين يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يعني أرادوها واشتهوها آمِنِينَ أي من نفادها ومن مضرتها وقيل آمنين فيها من الموت والأوصاب والشيطان لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى أي لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا إلا وقيل إلا بمعنى لكن ، وتقديره ليذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل إنما استثنى الموتة من موت الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف اللّه إلى أسباب الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة فكان موتهم في الدنيا كأنه في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩) ٥٧٥٩فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص من عذاب النار والفوز بالجنة إنما حصل لهم ذلك بفضل اللّه تعالى وفعل ذلك بهم تفضلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ أي سهلنا القرآن على لسانك كناية عن غير مذكور لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون فَارْتَقِبْ أي فانتظر النصر من ربك وقيل انتظر لهم العذاب إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي منتظرون قهرك بزعمهم وقيل منتظرون موتك قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وعمر بن خثعم أحد رواته وهو ضعيف ، وقال البخاري : هو منكر الحديث وعنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة غفر له) أخرجه الترمذي وقال هشام أبو المقداد أحد رواته ضعيف واللّه أعلم. |
﴿ ٠ ﴾