سورة الأحقاف

مكية

وقيل غير قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ

وقيل وقوله فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فإنهما نزلتا بالمدينة وهي أربع

وقيل خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)

١

٨

قوله عز وجل : حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب مُعْرِضُونَ أي لا يؤمنون به قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب جاءكم من اللّه قبل القرآن فيه بيان ما تقولون أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم

وقيل برواية عن علم الأنبياء

وقيل علامة من علم

وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن للّه شريكا وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني لا تجيب أبدا ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ سموا القرآن سحرا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال اللّه عز وجل قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على اللّه من أجلكم هُوَ أَعْلَمُ أي اللّه أعلم بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن لباب التأويل في معاني

والقول فيه أنه سحر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القرآن جاء من عنده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي في تأخير العذاب عنكم

وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به.

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)

٩

قوله تعالى : قُلْ يا محمد ما كُنْتُ بِدْعاً أي بديعا مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند اللّه إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل اللّه عز وجل : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبي اللّه قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل اللّه عز وجل : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الآية وأنزل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فبين اللّه ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك

(خ) عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ف

قلت : رحمة اللّه عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : وما يدريك أن اللّه أكرمه ، ف

قلت : بأبي أنت يا رسول اللّه فمن يكرمه اللّه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :

أما هو فقد جاءه اليقين واللّه إني لأرجو له الخير واللّه ما أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي قالت فو اللّه لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله)

وفي رواية غير البخاري قالت (لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه واللّه ما أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي ولا بكم

وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار) فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل اللّه هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي

وقيل (لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي

وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره اللّه عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها

فقال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وقال في أمته (و ما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون) فأعلمه ما يصنع به وبأمته

وقيل معناه لا أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم ومن الغالب والمغلوب ثم أخبره أنه يظهر دينه على الأديان وأمته على سائر الأمم.

وقوله : إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه ما أتبع غير القرآن الذي يوحى إليّ ولا أبتدع من عندي شيئا وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم العذاب وأبين لكم الشرائع.

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)

١٠

قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني ماذا تقولون إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن وَكَفَرْتُمْ بِهِ أيها المشركون وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أي أنه من عند اللّه فَآمَنَ يعني الشاهد وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان به والمعنى إذا كان الأمر كذلك أليس قد ظلمتم وتعديتم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ واختلفوا في هذا الشاهد فقيل هو عبد اللّه بن سلام آمن بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وشهد بصحة نبوته واستكبر اليهود فلم يؤمنوا يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك قال : بلغ عبد اللّه بن سلام مقدم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وهو في أرض يخترف النخل فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخبرني بهن آنفا جبريل قال فقال عبد اللّه ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ،

وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ،

وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها قال أشهد أنك رسول اللّه ثم قال يا رسول اللّه إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد اللّه البيت ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أي رجل فيكم عبد اللّه بن سلام فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أفرأيتم إن أسلم عبد اللّه قالوا أعاذه اللّه من ذلك زاد في رواية فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج عبد

اللّه إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه) زاد في رواية (فقال يعني عبد اللّه بن سلام هذا الذي كنت أخاف يا رسول اللّه) أخرجه البخاري في صحيحه

(ق). (عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد اللّه بن سلام قال وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله) قال الراوي لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث

وقيل الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام قال مسروق في هذه الآية واللّه ما نزلت في عبد اللّه بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد اللّه بن سلام بالمدينة ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لقومه ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن وكل يصدق الآخر فيكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن إنها من عند اللّه كما شهد محمد صلّى اللّه عليه وسلّم على القرآن أنه كلام اللّه فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن إن لا يهدي القوم الظالمين. قيل إنه تهديد وهو قائم مقام جواب الشرط المحذوف والتقدير قل أرأيتم إن كان من عند اللّه ثم كفرتم به فإنكم لا تكونون مهتدين بل تكونون ضالين.

وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)

١١

١٥

قوله تعالى : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني من اليهود لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً يعني دين محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعنون عبد اللّه بن سلام وأصحابه ،

وقيل نزلت في مشركي مكة قالوا لو كان ما يدعونا إليه محمد خيرا ما سبقنا إليه فلان

وقيل الذين كفروا أسد وغطفان قالوا للذين آمنوا يعني جهينة ومزينة لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم قال اللّه تعالى وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ يعني كذب متقدم وَمِنْ قَبْلِهِ يعني من قبل القرآن كِتابُ مُوسى يعني التوراة إِماماً يعني جعلناه إماما يقتدى به وَرَحْمَةً يعني من اللّه لمن آمن به وَهذا كِتابٌ يعني القرآن مُصَدِّقٌ يعني للكتب التي قبله لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي مكة وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ تقدم تفسيره.

قوله عز وجل : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي يوصل إليهما إحسانا وهو ضد الإساءة حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً يريد شدة الطلق وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً يعني ومدة حمله إلى أن ينفصل من الرضاع وهو الفطام ثلاثون شهرا. فأقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهرا. قال ابن عباس : إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة وهو

قوله تعالى : وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قيل : نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وقد تقدمت القصة.

وقيل إنها على العموم والأصح أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه وذلك أنه صحب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام فنزلوا منزلا فيه سدرة فقعد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة فقال هو محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب فقال الراهب : هذا واللّه نبي وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان ، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، فكان لا يفارق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في سفر ولا حضر ، فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أربعين سنة أكرمه اللّه تعالى بنبوته واختصه برسالته فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل : قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي بالإيمان والهداية.

وقال علي بن أبي طالب في قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا في أبي بكر أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أوصاه اللّه بهما ولزم ذلك من بعده وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ قال ابن عباس : أجابه اللّه تعالى فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في اللّه منهم بلال ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه اللّه عليه ودعا أيضا فقال وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأجابه اللّه تعالى فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع لأبي بكر إسلام أبويه : أبوه قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أم الخير بنت صخر بن عمرو وابنه عبد الرّحمن وابن عبد الرّحمن أبي عتيق محمد فهؤلاء أربعة أبو بكر وأبوه وابنه عبد الرّحمن وابن ابنه محمد كلهم أدركوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأسلموا ولم يجتمع ذلك لأحد من الصحابة غير أبي بكر

وقوله : إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت إليك إلى كل ما تحب وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي : وأسلمت بقلبي ولساني.

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)

١٦

١٧

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن فالأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي مع أصحاب الجنة وَعْدَ الصِّدْقِ يعني الذي وعدهم بأن يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ووعده صدق

وقيل :

وعدهم بأن يدخلهم الجنة الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ يعني في الدنيا على لسان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم.

قوله تعالى : وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ يعني إذ دعواه إلى الإيمان باللّه والإقرار بالبعث بعد الموت أُفٍّ لَكُما وهي كلمة كراهية أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ يعني من قبري حيا وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي يعني فلم يبعث منهم أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يعني يستصرخان باللّه عليه ويقولان له وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني بالبعث فَيَقُولُ ما هذا يعني الذي تدعونني إليه إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال ابن عباس نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد اللّه بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون. وأنكرت عائشة أن يكون قد نزل هذا في عبد الرّحمن بن أبي بكر

(خ). عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له ، فقال له عبد الرّحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه ، فقال له مروان :

هذا الذي أنزل اللّه فيه والذي قال لوالديه أف لكما فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل اللّه فينا شيئا من القرآن إلا ما أنزل اللّه في سورة النور من براءتي والقول الصحيح أنه ليس المراد من الآية شخص معين بل المراد كل شخص كان موصوفا بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث فأبى وأنكر.

وقيل نزلت في كل كافر عاقّ لوالديه قال الزجاج : قول من قال إنها نزلت في عبد الرّحمن بن أبي بكر قبل إسلامه يبطله

قوله تعالى :

أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)

١٨

٢٠

أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أعلم اللّه أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب وعبد الرّحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب أي وجب عليهم العذاب فِي أُمَمٍ أي مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا قال ابن عباس : يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة

وقيل لكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين والبار والعاق درجات يعني منازل ومراتب عند اللّه يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قيل درجات الجنة تذهب إلى علو ودرجات النار تذهب إلى أسفل وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ يعني جزاء أعمالهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ

قوله عز وجل :

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعني يجاء بهم فيكشف لهم عنها ويقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها يعني أن كل ما قدر لكم من الطيبات واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الذي فيه ذل وخزي بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ علق هذا العذاب بأمرين ،

أحدهما : الاستكبار وهو الترفع ، ويحتمل أن يكون عن الإيمان ،

والثاني : الفسق وهو المعاصي ، والأول من عمل القلوب ،

والثاني من عمل الجوارح.

(فصل) لما وبخ اللّه تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات ، آثر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة

(ق) (عن عمر بن الخطاب قال : دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه ، ف

قلت : أستأنس يا رسول اللّه. قال : نعم فجلست ، فرفعت رأسي في البيت ، فو اللّه ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة ثلاثة ، ف

قلت : ادع اللّه أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون اللّه فاستوى جالسا ثم قال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول اللّه

(ق). (عن عائشة قالت : ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم)

(ق) (عنها قالت : كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا إنما هو الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحيم)

وفي رواية أخرى قالت : (إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نار. قال عروة :

قلت : يا خالة فما كان يعيشكم؟ قالت : الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من ألبانها فيسقينا) عن ابن عباس قال : (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) أخرجه الترمذي وله عن أنس قال : (قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لقد أخفت في اللّه ما لم يخف أحد وأوذيت في اللّه ما لم يؤذ أحد ولقد أتى عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام إلا شيء يواري إبط بلال

(خ). (عن أبي هريرة قال : لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار

وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته)

(خ). (عن إبراهيم بن عبد الرّحمن أن عبد الرّحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائما فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه. قال : وأراه قال : قتل حمزة وهو خير مني ، فلم يوجد ما يكفن فيه إلا برده. ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) وقال جابر بن عبد اللّه : (رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال ما هذا يا جابر؟

قلت : اشتهيت لحما فاشتريته ، فقال عمر : كلما اشتهيت يا جابر اشتريت ، أما تخاف هذه الآية : أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا؟.

وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)

٢١

٢٥

قوله تعالى : وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال ابن عباس :

الأحقاف واد بين عمان ومهرة.

وقيل : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود ، رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم.

وقيل : إن عادا كانوا أحياء باليمن وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. والأحقاف : جمع حقف وهو المستطيل من الرمل فيه اعوجاج كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا.

وقيل : الأحقاف ما استدار من الرمل وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي

مضت الرسل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبل هود وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى : أن هودا قد أنذرهم بذلك وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا أي عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ يعني أن العذاب نازل بنا قالَ يعني هودا إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ يعني هو يعلم متى يأتيكم العذاب وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ يعني من الوحي الذي أنزله اللّه عليّ وأمرني بتبليغه إليكم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ يعني قدر العذاب الذي ينزل بكم فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني رأوا ما يوعدون به من العذاب ثم بينه

فقال تعالى : عارِضاً يعني رأوا سحابا عارضا وهو السحاب الذي يعرض في ناحية السماء ثم يطبق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ وذلك أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية واد يقال له المغيث وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة فلما رأوا تلك السحابة استبشروا بها ثم قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا قال اللّه ردا عليهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ يعني من العذاب ثم بين ماهية ذلك العذاب

فقال تعالى : رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ ثم وصف تلك الريح

فقال تعالى : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها يعني تهلك كل شيء مرت به من رجال عاد وأموالهم يقال : إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة فلما رأوا ذلك ، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت الأبواب وصرعتهم. وأمر اللّه الريح ، فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين. ثم أمر اللّه الريح فكشفت عنهم الرمل واحتملتهم فرمت بهم في البحر.

وقيل : إن هودا عليه السلام لما أحس بالريح ، خط على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطا فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام.

وقيل : إن اللّه تعالى أمر خازن الريح أن يرسل عليهم مثل مقدار الخاتم فأهلكهم اللّه بهذا القدر وفي هذا إظهار كمال القدرة

(ق) (عن عائشة قالت : ما رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم) زاد في رواية : (و كان إذا رأى غيما عرف في وجهه قالت يا رسول اللّه الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيت غيما عرف في وجهك الكراهة؟ فقال : يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا)

وفي رواية قالت (كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا رأى مخيلة في السماء أقبل وأدبر ودخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت السماء سري عنه فرفعته عائشة ذلك فقال وما أدري لعله كما قال قوم هود فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) الآية

وفي رواية أخرى قالت : (كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت السماء سري عنه فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا المخيلة : السحاب الذي يظن فيه مطر. وتخيلت السماء : إذا تغيمت.

وقولها : سري عنه أي كشف وأزيل عنه ما كان به من الغم والحزن.

وقوله تعالى : فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرئ بالتاء مفتوحة على أنه خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم. والمعنى :

ما ترى يا محمد إلا مساكنهم خاوية عاطلة من السكان ليس فيها أحد وقرئ بالياء مضمومة والمعنى لا يرى إلا آثار مساكنهم لأن الريح لم تبق منها إلا الآثار والمساكن المعطلة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ يخوف بذلك كفار مكة ثم قال تعالى :

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)

٢٦

٢٨

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئا إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك وَصَرَّفْنَا الْآياتِ يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر فَلَوْ لا يعني فهلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى اللّه تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى : بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم وَذلِكَ إِفْكُهُمْ يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى اللّه تعالى وتشفع لهم عنده وَما كانُوا يَفْتَرُونَ يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم.

وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)

٢٩

قوله عز وجل : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية.

(ذكر القصة في ذلك) قال المفسرون : لما مات أبو طالب عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه ، فلما مات وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحشة من قومه ، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف ، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمير. وعندهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى اللّه وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان اللّه أرسلك. وقال الآخر : ما وجد اللّه أحدا يرسله غيرك وقال الثالث : لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من اللّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على اللّه فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي) وكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه ، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك؟ فلما اطمأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال :

(اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين ، وأنت

رب المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك) فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له يأكل منه. ففعل عداس ذلك ثم أقبل بالطبق حتى وضعه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال له : كل. فلما رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يده قال : بسم اللّه ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال واللّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ فقال : أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟

فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكبّ عداس على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقبل رأسه ويديه وقدميه قال فقال أحد ابني ربيعة : أما غلامك ، فقد أفسده عليك. فلما جاءهم عداس قال له : ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل. لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. فقال له : ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف حتى إذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن نصيبين كانوا قاصدين اليمن وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا به وأجابوا لما سمعوا القرآن فقص اللّه خبرهم عليه

فقال تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وفي الآية قول آخر وسيأتي في سورة الجن وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس. وروي أن الجن لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه ليعرف الخبر فكان أول بعث بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم فبعثهم إلى تهامة.

وقال أبو حمزة : بلغنا أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس فلما رجعوا إلى قومهم قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا وقال جماعة : بل أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى اللّه ويقرأ عليهم القرآن فصرف اللّه عز وجل إليه نفرا من الجن وهم من أهل نينوى وجمعهم له فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد اللّه بن مسعود قال عبد اللّه بن مسعود لم يحضر معه أحد غيري قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق حتى قام عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثال النسور تهوي وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم مع الفجر فانطلق إليّ فقال لي نمت ف

قلت : لا واللّه يا رسول اللّه لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول لهم اجلسوا فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ثم قال : هل رأيت شيئا؟

قلت : نعم رأيت رجالا سودا عليهم ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فقالوا يا رسول اللّه يقذرها الناس علينا فنهى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يستنجي بالعظم والروث قال : فقلت يا رسول اللّه وما يغني ذلك عنهم؟ فقال : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ف

قلت : يا رسول اللّه سمعت لغطا شديدا فقال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم

بالحق قال ثم تبرز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأتاني فقال لهم معك ماء؟

قلت : يا رسول اللّه معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ وقال : تمرة طيبة وماء طهور.

قال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم ثم قال أظهروا؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط. فقال : ما أشبههم بالنفر. الذين صرفوا إلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الجن قلت حديث التوضؤ بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه الخلافيات بأسانيده وأجاب عنها كلها.

والذي صح عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال : ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلة فقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول اللّه فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا ليلة بات قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال : فانطلق بنا فأرنا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن. زاد في رواية قال الشعبي : وكانوا من جن الجزيرة أخرجه مسلم في صحيحه

وأما تفسير الآية : فقوله تعالى : وإذ صرفنا إليك الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم يعني واذكر إذ بعثنا إليك يا محمد نفرا من الجن.

واختلفوا في عدد أولئك النفر فقال ابن عباس : كانوا سبعة من جن نصيبين فجعلهم رسول اللّه رسلا إلى قومهم. وقال آخرون : كانوا تسعة. وروي عن زر بن حبيش قال : كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن.

وروي أن الجن ثلاثة أصناف : صنف منهم لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء وصنف على صور الحيات والكلاب وصنف يحلون ويظعنون ونقل بعضهم أن أولئك الجن كانوا يهودا فأسلموا. قالوا في الجن ملل كثيرة مثل الإنس ففهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام وفي مسلمهم مبتدعة ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع وأطبق المحققون من العلماء على أن الكل مكلفون. سئل ابن عباس هل للجن ثواب؟

فقال : نعم وعليهم عقاب يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ الضمير يعود إلى القرآن يعني : فلما حضروا القرآن

وقيل يحتمل أنه يعود على الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم. ويكون المعنى : فلما حضروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. لأجل استماع القرآن قالُوا أَنْصِتُوا يعني قال بعضهم لبعض اسكتوا لنسمع قراءته ولا يحول بيننا وبين سماعه شيء فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم على سماعه فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من قراءته وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يعني داعين لهم إلى الإيمان مخوفين لهم من المخالفة ذلك بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لهم وذلك بعد إيمانهم لأنهم لا يدعون غيرهم إلى سماع القرآن والتصديق إلا بعد إيمانهم به وتصديقهم له.

قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)

٣٠

٣٣

قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً قال عطاء : كان دينهم اليهودية ولذلك قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء وذلك أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد وتصديق الأنبياء والإيمان بالمعاد والحشر والنشر وجاء هذا الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلّم كذلك فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يعني : يهدي إلى دين الحق وهو دين الإسلام ويهدي إلى طريق الجنة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ

اللَّهِ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لأنه لا يوصف بهذا غيره وفي الآية دليل على أنه مبعوث إلى الإنس والجن جميعا قال مقاتل لم يبعث اللّه نبيا إلى الإنس والجن قبله وَآمِنُوا بِهِ.

فإن قلت

قوله تعالى أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين.

قلت : إنما أعاده لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به وأشرفها فلذلك ذكره على التعيين فهو من باب ذكر العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال بعضهم : لفظة من هنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم

وقيل : هي على أصلها وذلك أن اللّه يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام فإذا أسلموا جرت عليهم أحكام الإسلام فمن أتى بذنب أخذ به ما لم يتب منه أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء اللّه غفر له وإن شاء آخذه بذنبه واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن ، فقال قوم : ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار. وتأولوا قوله : يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ

. وإليه ذهب أبو حنيفة. وحكي عن الليث قال : ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم. وعن أبي الزناد قال : إذا قضى بين الناس ، قيل لمؤمني الجن : عودوا ترابا ، فيعودون ، ترابا. فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا. وقال الآخرون :

لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس وهذا هو الصحيح وهو قول ابن عباس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى. قال الضحاك : الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقال أرطأة بن المنذر :

سألت ضمرة بن حبيب : هل للجن ثواب؟ قال : نعم وقرأ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال : فالإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال عمر بن عبد العزيز : إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها يعني في الجنة.

وقوله تعالى : وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ يعني لا يعجز اللّه فيفوته وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ يعني أنصارا يمنعونه من اللّه أُولئِكَ يعني الذين لم يجيبوا داعي اللّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ

قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يعني أنه تعالى خلق هذا الخلق العظيم ولم يعجز عن إبداعه واختراعه وتكوينه بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى يعني أن إعادة الخلق وإحياءه بعد الموت أهون عليه من إبداعه وخلقه فالكل عليه هين إبداع الخلق وإعادته بعد الموت وهو قوله بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني من إماتة الخلق وإحيائهم لأنه قادر على كل شيء.

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)

٣٤

٣٥

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيه إضمار تقديره فيقال لهم أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ يعني هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل وهو الحق قالُوا بَلى وَرَبِّنا هذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك وفيه توبيخ وتقريع لهم فعند ذلك قالَ لهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

قوله عز وجل : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمره اللّه تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر.

واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث اللّه نبيا إلا

كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي. قال : لأن لفظة من في قوله مِنَ الرُّسُلِ للتبين لا للتبعيض كما تقول : ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم

وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال قوم : أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبيا لقوله بعد ذكرهم أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء اللّه.

وقيل : هم ستة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء. وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر على الذبح ، في قول ، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف صبر على الجب والسجن ، وأيوب صبر على الضر.

وقال ابن عباس وقتادة : هم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم اللّه على التخصيص والتعيين في قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وفي قوله : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت : (قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن اللّه لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وإني واللّه لا بد لي من طاعته واللّه لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا باللّه).

قوله تعالى : وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ يعني اصبر على أذاهم لا تستعجل بنزول العذاب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة كأنه صلّى اللّه عليه وسلّم ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم فأمره اللّه تعالى بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر بقرب العذاب

فقال تعالى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ يعني من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا يعني في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ يعني أنهم إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه قدر ساعة من نهار لأن ما مضى وإن كان طويلا فهو يسير إلى ما يدوم عليهم من العذاب وهو أبد الآبدين بلا انقطاع ولا فناء وتم الكلام عند قوله ساعة من نهار ثم ابتدأ

فقال تعالى : بَلاغٌ أي هذا القرآن وما فيه من البينات والهدى بلاغ من اللّه إليكم. والبلاغ : بمعنى التبليغ فَهَلْ يُهْلَكُ يعني : بالعذاب إذا نزل إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ يعني الخارجين عن الإيمان باللّه وطاعته قال الزجاج : تأويله لا يهلك من رحمة اللّه وفضله إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم ما في الرجاء لرحمة اللّه آية أقوى من هذه الآية واللّه أعلم.

﴿ ٠