سورة ق(مكية وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) ١٤قوله عز وجل : ق قال ابن عباس : هو قسم وقيل : هو اسم للسورة وقيل اسم من أسماء اللّه وقيل اسم من أسماء القرآن وقيل هو مفتاح اسمه القدير والقادر والقاهر والقريب والقابض والقدوس والقيوم. وقيل : معناه قضى الأمر أو قضى ما هو كائن. وقيل : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كتفاها وخضرة السماء منه والعالم داخله ولا يعلم ما وراءه إلا اللّه تعالى ويقال هو من وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أي الشريف الكريم على اللّه الكثير الخير والبركة واختلفوا في وجواب القسم قيل جوابه محذوف تقديره لتبعثن وقيل جوابه بل عجبوا وقيل ما يلفظ من قول وقيل قد علمنا ومعنى بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن يخوفهم رجل منهم قد عرفوا وساطته فيهم وعدالته وأمانته وصدقه فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي معجب غريب أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي حين نموت ونبلى نبعث وترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي يبعد أن نبعث بعد الموت قال اللّه تعالى : قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل الأرض من لحومهم ودمائهم وعظامهم لا يعزب عن علمنا شيء وَعِنْدَنا أي مع علمنا بذلك كِتابٌ حَفِيظٌ بمعنى محفوظ أي من التبديل والتغيير وقيل حفيظ بمعنى حافظ أي حافظ لعددهم وأسمائهم ولما تنقص الأرض منهم وهو اللوح المحفوظ وقد أثبت فيه ما يكون. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١) ٥١١بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ أي بالقرآن لَمَّا جاءَهُمْ قيل : معناه كذبوا به لما جاءهم. وقيل : كذبوا المنذر لما جاءهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مختلط ملتبس قيل معنى اختلاط أمرهم قولهم للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم مرة شاعر ومرة ساحر ومرة معلم مجنون ويقولون في القرآن مرة سحر ومرة رجز ومرة مفتري فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم وقيل في هذه الآية من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه وقيل ما ترك قوم الحق إلا مرج عليهم أمرهم ثم دلهم على عظيم قدرته فقال تعالى : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها أي : بغير عمد وَزَيَّنَّاها أي بالكواكب وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي : شقوق وصدوع وَالْأَرْضَ مَدَدْناها أي بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي : جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي : من كل صنف حسن كريم يبتهج به أي : يسر به تَبْصِرَةً أي جعلنا ذلك تبصرة وَذِكْرى أي تذكرة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي : راجع إلى اللّه تعالى والمعنى ليتبصر ويتذكر به من أناب وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير الخير والبركة فيه حياة كل شيء وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ أي : بذلك الماء جَنَّاتٍ أي بساتين وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني البر والشعير وسائر الحبوب التي تحصد وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ أي : طوالا وقيل مستويات لَها طَلْعٌ أي : ثمر يطلع ويظهر ويسمى طلعا قبل أن يتشقق نَضِيدٌ أي : متراكب بعضه على بعض في أكمامه فإذا تشقق وخرج من أكمامه فليس بنضيد رِزْقاً أي : جعلنا ذلك رزقا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ أي : بالمطر بَلْدَةً مَيْتاً فأنبتنا فيها الكلأ والعشب كَذلِكَ الْخُرُوجُ أي : من القبور أحياء بعد الموت. قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) ١٢١٨كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل : كان لوط مرسلا إلى طائفة من قوم إبراهيم ولذلك قال إخوان لوط وَقَوْمُ تُبَّعٍ هو أبو كرب أسعد تبع الحميري وقد تقدم قصص جمعهم قيل ذم اللّه عز وجل قوم تبع ولم يذمه وذم فرعون لأنه هو المكذب المستخف لقومه فلهذا خص بالذكر دونهم كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أي : كل هؤلاء المذكورين كذبوا رسلهم فحق وعيدي أي وجب لهم عذابي وقيل فحق وعيدي للرسل بالنصر أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ هذا جواب لقولهم ذلك رجع بعيد والمعنى أعجزنا حين خلقناهم أولا فنعيا بالإعادة ثانيا وذلك لأنهم اعترفوا بالخلق الأول وأنكروا البعث بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ أي شك مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث. قوله عز وجل : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما يحدث به قلبه فلا تخفى علينا سرائره وضمائره وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ بيان لكمال علمه أي نحن أعلم به منه والوليد العرق الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن وهو بين الحلقوم والعلباوين ومعنى الآية أن أجزاء الإنسان وأبعاضه يحجب بعضها بعضا ولا يحجب عن علم اللّه شيء. وقيل : يحتمل أن يكون المعنى ونحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي يتلقن الملكان الموكلان به وبعمله ومنطقه فيكتبانه ويحفظانه عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ يعني أن أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فصاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات قَعِيدٌ أي قاعد وكل واحد منهما قعيد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر. وقيل : أراد بالقعيد الملازم الذي لا يبرح ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أي ما يتكلم من كلام يخرج من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ أي حافظ عَتِيدٌ أي حاضر أينما كان سوى وقت الغائط وعند جماعة فإنهما يتأخران عنه فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في هاتين الحالتين حتى لا يؤذي الملائكة بدنوهما منه وهو على تلك الحالة حتى يكتبا ما يتكلم به أنهما يكتبان عليه كل شيء يتكلم به حتى أتيته في مرضه وقيل لا يكتبان إلا ما له أجر وثواب أو عليه وزر وعقاب. وقيل : إن مجلسهما تحت الشعر على الحنك وكان الحسن البصري يعجبه أن ينظف عنفقته روى البغوي بإسناد الثعلبي. عن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر. قوله تعالى : وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) ١٩٢٤وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ أي غمرته وشدته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله بِالْحَقِّ أي بحقيقة الموت وقيل بالحق من أمر الآخرة حتى يتبينه الإنسان ويراه بالعيان وقيل بما يؤول إليه أمر الإنسان من السعادة والشقاوة ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي يقال لمن جاءته سكرة الموت : ذلك الذي كنت عنه تميل. وقيل : تهرب وقال ابن عباس : تكره وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي ذلك اليوم الذي وعد اللّه الكفار أن يعذبهم فيه وَجاءَتْ أي في ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ أي يسوقها إلى المحشر وَشَهِيدٌ أي يشهد عليها بما عملت. قال ابن عباس : السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم الأيدي والأرجل فيقول اللّه تعالى لصاحب تلك النفس لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي من هذا اليوم في الدنيا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ أي الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك في الدنيا فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي قوي ثابت نافذ تبصر ما كنت تتكلم به في الدنيا. وقيل : ترى ما كان محجوبا عنك وقيل نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك وَقالَ قَرِينُهُ يعني الملك الموكل به هذا ما لَدَيَّ أي عندي عَتِيدٌ أي معد محضر. وقيل : يقول الملك هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان عمله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أي يقول اللّه تعالى لقرينه وقيل هذا أمر للسائق والشهيد كُلَّ كَفَّارٍ أي شديد الكفر عَنِيدٍ أي عاص معرض عن الحق معاند للّه فيما أمره به. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) ٢٥٣٠مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للزكاة المفروضة وكل حق وجب عليه في ماله مُعْتَدٍ أي ظالم لا يقر بتوحيد اللّه مُرِيبٍ أي : شاكّ في التوحيد الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ يعني النار قالَ قَرِينُهُ يعني الشيطان الذي قيض لهذا الكافر رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ قيل : هذا جواب لكلام مقدر وهو أن الكافر حين يلقى في النار يقول : ربنا أطغاني شيطاني فيقول الشيطان ربنا ما أطغيته أي ما أضللته وما أغويته وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي عن الحق فيتبرأ منه شيطانه وقال ابن عباس : قرينه يعني الملك يقول الكافر ربّ إن الملك زاد عليّ في الكتابة فيقول الملك ربنا ما أطغيته أي ما زدت عليه وما كتبت إلا ما قال وعمل ولكن كان في ضلال بعيد أي طويل لا يرجع عنه إلى الحق قالَ اللّه تعالى : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي لا تعتذروا عندي بغير عذر وقيل هو خصامهم مع قرنائهم وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي بالقرآن وأنذرتكم على ألسن الرسل وحذرتكم عذابي في الآخرة لمن كفر ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي لا تبديل لقولي وهو قوله عز وجل : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وقضيت عليكم ما أنا قاض فلا يغير قولي ولا يبدل وقيل معناه ولا يكذب عندي ولا يغير القول عن وجهه ، لأني علام الغيوب وأعلم كيف ضلوا وهذا القول هو الأولى يدل عليه أنه قال ما يبدل القول لدي ولم يقل ما يبدل قولي وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي : فأعاقبهم بغير جرم. وقيل : معناه فأزيد على إساءة المسيء أو أنقص من إحسان المحسن. قوله عز وجل : يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ بيان لما سبق لها من وعد اللّه تعالى إياها أنه يملؤها من الجنة والناس وهذا السؤال من اللّه تعالى لتصديق خبره وتحقيق وعده وَتَقُولُ يعني جهنم هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يعني تقول قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكاري. وقيل : هو بمعنى الاستزادة. وهو رواية عن ابن عباس. فعلى هذا يكون السؤال وهو قوله : هل امتلأت؟ قبل دخول جميع أهلها فيها. وروي عن ابن عباس : (إن اللّه تعالى سبقت كلمته لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء اللّه إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شيء فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت؟ فتقول قط قط قد امتلأت وليس في مزيد) (ق) عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش- وفي رواية رب العزة- فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ اللّه لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة. ولأبي هريرة نحوه وزاد (و لا يظلم اللّه من خلقه أحدا). (فصل) هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان : أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نؤمن بأنها حق على ما أراد اللّه ورسوله ونجريها على ظاهرها ولها معنى يليق بها وظاهرها غير مراد والمذهب الثاني وهو قول جمهور المتكلمين أنها تتأول بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل هذا الحديث. فقيل : المراد بالقدم المقدم وهو سائغ في اللغة. والمعنى : حتى يضع اللّه فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل : المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل : إنه يحتمل أن في المخلوقات من تسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض : أظهر التأويل أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها قال المتكلمون : ولا بد من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على اللّه تعالى واللّه أعلم. قوله : قط قط أي : حسبي حسبي. قد اكتفيت. وفيها ثلاث لغات : إسكان الطاء ، وكسرها منونة ، وغير منونة. وقوله : ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا ، يعني : أنه يستحيل الظلم في حق اللّه تعالى فمن عذبه بذنب أو بغير ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى وقوله تعالى. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) ٣١٣٤وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت وأدنيت لِلْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الشرك غَيْرَ بَعِيدٍ يعني أنها جعلت عن يمين العرش بحيث يراها أهل الموقف قبل أن يدخلوها هذا ما تُوعَدُونَ أي يقال لهم الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الأنبياء لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة. قال سعيد بن المسيب : هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقيل : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقيل : هو التواب ، وقال ابن عباس : هو المسيح. وقيل : هو المصلي حَفِيظٍ قال ابن عباس الحافظ لأمر اللّه وعنه هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها وقيل : حفيظ لما استودعه اللّه من حقه. وقيل : هو المحافظ على نفسه المتعهد لها المراقب لها. وقيل : هو المحافظ على الطاعات والأوامر مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي خاف الرّحمن فأطاعه وإن لم يره وقيل : خافه في الخلوة بحيث لا يراه أحد إذا ألقى الستر أغلق الباب وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي مخلص مقبل على طاعة اللّه ادْخُلُوها أي يقال لأهل هذه الصفة : ادخلوا الجنة بِسَلامٍ أي بسلامة من العذاب والهموم. وقيل : بسلام من اللّه وملائكته عليهم وقيل : بسلامة من زوال النعم ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي في الجنة لأنه لا موت فيها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) ٣٥٣٩لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وذلك أنهم يسألون اللّه حتى تنتهي مسألتهم فيعطون ما سألوا ثم يزيد اللّه عبيده ما لم يسألوا مما لم يخطر بقلب بشر وهو قوله تعالى : وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وقيل : المزيد ، هو النظر إلى وجهه الكريم قيل : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة في دار كرامته فلهذا هو المزيد. قوله تعالى : وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي قبل كفار مكة مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً يعني سطوة والبطش الأخذ بصولة وعنف فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي ساروا وتقلبوا في البلاد وسلكوا كل طريق هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي فلم يجدوا لهم محيصا أي مهربا من أمر اللّه وقيل : لا يجدون لهم مفرا من الموت بل يموتون فيصيرون إلى عذاب اللّه وفيه تخويف لأهل مكة لأنهم على مثل سبيلهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أي إن فيما ذكر من إهلاك القرى تذكرة وموعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ. قال ابن عباس : أي عقل. وقيل : له قلب حاضر مع اللّه واع عن اللّه أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع القرآن واستمع ما يقال له لا يحدث نفسه بغيره وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر القلب ليس بغافل ولا ساه. قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي إعياء وتعب قال المفسرون نزلت في اليهود حيث قالوا : خلق اللّه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش فلذلك تركوا العمل فيه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ردا عليهم وتكذيبا لهم في قولهم استراح يوم السبت بقوله تعالى : وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : والظاهر أن المراد الرد على المشركين والاستدلال بخلق السموات والأرض وما بينهما فقوله وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي ما تعبنا بالخلق الأول حتى لا نقدر على الإعادة ثانيا كما قال اللّه تعالى : أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ الآية وأما ما قاله اليهود ونقلوه من التوراة فهو إما تحريف منهم أو لم يعلموا تأويله وذلك أن الأحد والاثنين أزمنة مستمرة بعضها بعد بعض فلو كان خلق السموات والأرض ابتدئ يوم الأحد لكان الزمان قبل الأجساد والزمان لا ينفك عن الأجساد فيكون قبل خلق الأجسام أجسام لأن اليوم عبارة عن زمان سير الشمس من الطلوع إلى الغروب وقبل السموات والأرض لم يكن شمس ولا قمر لكن اليوم قد يطلق ويراد به الوقت والحين وقد يعبر به عن مدة الزمان أي مدة كانت قوله عز وجل : فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أي : اصبر يا محمد على ما يقولون أي من كذبهم فإن اللّه لهم بالمرصاد وهذا قبل الأمر بقتالهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صلّ حامدا للّه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي صلاة الصبح وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني صلاة المغرب. قال ابن عباس : صلاة الظهر والعصر. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) ٤٠٤١وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة المغرب والعشاء. وقيل : يعني صلاة الليل أي وقت صلّى وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما : أدبار السجود الركعتان بعد المغرب ، وأدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر. وهي رواية عن ابن عباس. ويروى مرفوعا عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت (لم يكن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر) (م) عنها أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) يعني بذلك سنة الفجر ، عن ابن مسعود ، قال : (ما أحصى ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل صلاة الفجر يقل يا أيها الكافرون وقل هو اللّه أحد) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. وقيل : في قوله وأدبار السجود : التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات (خ) عن ابن عباس قال : أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يسبح في أدبار الصلوات كلها يعني قوله وأدبار السجود (م). عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سبح اللّه في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد اللّه ثلاثا وثلاثين وكبر اللّه ثلاثا وثلاثين فذلك تسعة وتسعون ثم قال : تمام المائة لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) (خ) عنه (أن فقراء المسلمين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا يا رسول اللّه ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال وما ذاك؟ قالوا صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون عشرا وتكبرون عشرا). قوله تعالى : وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ يعني استمع يا محمد حديث يوم ينادي المنادي. وقيل : معناه انتظر صيحة القيامة والنشور. قال المفسرون : المنادي هو إسرافيل يقف على صخرة بيت المقدس فينادي بالحشر فيقول : يا أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وهو قوله تعالى : مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قيل : إن صخرة بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا وقيل : هي في وسط الأرض. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥) ٤٢٤٢يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ أي الصيحة الأخيرة ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي من القبور إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي أي في الدنيا وَنُمِيتُ يعني عند انقضاء الأجل وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ أي في الآخرة وقيل : تقديره نميت في الدنيا ونحيي للبعث وإلينا المصير بعد البعث يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً أي يخرجون سراعا إلى المحشر وهو قوله تعالى : ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ يعني كفار مكة في تكذيبك وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما بعثت مذكرا وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ أي ما أوعدت به من عصاني من العذاب قال ابن عباس : (قالوا يا رسول اللّه لو خوفتنا فنزلت : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) أي عظ بالقرآن من يخاف وعيدي واللّه أعلم بمراده. |
﴿ ٠ ﴾