سورة النجم

(مكية وهي اثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمة وألف وأربعمائة وخمسة أحرف)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)

١

٤

قوله عز وجل : وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال ابن عباس يعني الثريا إذا سقطت وغابت والعرب تسمي الثريا نجما ومنه قولهم إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعا : (ما طلع النجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا رفع) أراد بالنجم الثريا ،

وقيل : هي نجوم السماء كلها وهويها غروبها فعلى هذا لفظه واحد ومعناه الجمع. وروي عن ابن عباس أنه الرجوم من النجوم وهي ما ترمى به الشياطين عند استراق السمع.

وقيل : هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة.

وقيل : أراد بالنجم القرآن سمي نجما لأنه نزل نجوما متفرقة في عشرين سنة وهو قول ابن عباس أيضا.

وقيل : النجم هو النبت الذي لا ساق له وهويه سقوطه إذا يبس على الأرض.

وقيل : النجم هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وهويه نزوله ليلة المعراج من السماء وجواب القسم

قوله تعالى : ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ما ضل عن طريق الهدى وَما غَوى أي ما جهل.

وقيل : الفرق بين الضلال والغي أن الضلال هو أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا والغواية أن لا يكون له طريق إلى مقصده مستقيم

وقيل : إن الضلال أكثر استعمالا من الغواية وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي بالهوى والمعنى لا يتكلم بالباطل وذلك أنهم قالوا : إن محمدا يقول القرآن من تلقاء نفسه إِنْ هُوَ أي ما هو يعني القرآن

وقيل : نطقه في الدين إِلَّا وَحْيٌ من اللّه يُوحى إليه.

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)

٥

١١

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى يعني جبريل علم محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ما أوحى اللّه إليه عز وجل وكونه شديد القوى أنه اقتلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أسرع من رجعة الطرف ذُو مِرَّةٍ أي ذو قوة وشدة. وقال ابن عباس : ذو منظر حسن

وقيل : ذو خلق طويل حسن.

فَاسْتَوى يعني جبريل عليه الصلاة والسلام وَهُوَ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عند مطلع الشمس

وقيل : فاستوى يعني جبريل وهو كناية عن جبريل أيضا أي قام في صورته التي خلقه اللّه فيها وهو بالأفق الأعلى وذلك أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم

في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله فسأله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها فأراه نفسه مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى والمراد بالأفق الأعلى جانب المشرق وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان بحراء ، فطلع له جبريل عليه الصلاة والسلام من ناحية المشرق ، فسد الأفق إلى المغرب فخرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مغشيا عليه فنزل جبريل عليه ، الصلاة والسلام في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو

قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى

وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة التي خلق عليها إلا نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم

قوله تعالى : ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى .

اختلف العلماء في معنى هذه الآية فروي عن مسروق بن الأجدع قال (قلت لعائشة فأين قوله ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى؟ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق) أخرجاه في الصحيحين.

وعن زر بن حبيش في

قوله تعالى : فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وفي قوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى وفي قوله لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال : فيها كلها أن ابن مسعود قال (رأى جبريل عليه الصلاة والسلام له ستمائة جناح) زاد في رواية أخرى (رأى جبريل في صورته) أخرجه مسلم والبخاري في

قوله تعالى : فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى فعلى هذا يكون معنى الآية ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فكان منه قاب قوسين أو أدنى أي : بل أدنى وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة.

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو. وقال آخرون : ثم دنا الرب عز وجل من محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فتدلى أي فقرب منه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وقد ورد في الصحيحين في حديث المعراج من رواية شريك بن عبد اللّه بن أبي نمر عن أنس ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى.

وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس والتدلي هو النزول إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. قال الحافظ عبد الحق في كتابه. الجمع بين الصحيحين ، بعد ذكر حديث أنس من رواية شريك ، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.

وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى به

وفي رواية شريك قدم وآخر وزاد ونقص فيحتمل أن هذا اللفظ من زيادة شريك في الحديث وقال الضحاك دنا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من ربه عز وجل فتدلى أي فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى والقاب القدر والقوس الذي يرمي به وهو رواية عن ابن عباس.

وقيل : معناه حيث الوتر من القوس فأخبر أنه كان بين جبريل ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم مقدار قوسين وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد بينهما خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريد أن بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقال عبد اللّه بن مسعود : قاب قوسين قدر ذراعين والقوس الذراع التي يقاس بها من قاس يقيس أو أدنى بل أقرب فَأَوْحى

أي فأوحى اللّه إِلى عَبْدِهِ

محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما أَوْحى

وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال أوحى جبريل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أوحى إليه ربه عز وجل وقال سعيد بن جبير : أوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ

وقيل : أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك

قوله عز وجل : ما كَذَبَ الْفُؤادُ قرئ بالتشديد أي ما كذب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ما رَأى أي بعينه تلك الليلة بل صدقه وحققه وقرئ بالتخفيف أي ما كذب فؤاد محمد الذي رآه بل صدقه والمعنى : ما كذب الفؤاد فيما رأى. واختلفوا في الذي رآه ، فقيل : رأى جبريل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعائشة

وقيل : هو اللّه عز وجل ثم اختلفوا في معنى الرؤية فقيل جعل بصره في فؤاده وهو قول ابن عباس

(م). عن ابن عباس ما

كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى قال : رآه بفؤاده مرتين وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه حقيقة وهو قول أنس بن مالك والحسن وعكرمة قالوا : رأى محمد ربه عز وجل.

وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : إن اللّه عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة ، واصطفى موسى بالكلام ، واصطفى محمدا بالرؤية. وقال كعب : إن اللّه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين أخرجه الترمذي بأطول من هذا. وكانت عائشة تقول : لم ير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ربه. وتحمل الآية على رؤية جبريل.

عن مسروق قال : قلت لعائشة : يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب. من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وما كان لبشر أن يكلمه إلا اللّه وحيا أو من وراء حجاب. ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت ومن حدثك أن محمدا كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. أخرجاه في الصحيحين

(م) عن أبي ذر قال : (سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هل رأيت ربك؟ قال : نور أني أراه).

قوله عز وجل :

أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦)

١٢

١٦

أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى يعني أفتجادلونه على ما يرى وذلك أنهم جادلوه حين أسري به وقالوا له صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به. والمعنى : أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما رآه وعلمه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى يعني رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلا من السماء نزلة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى

(م) عن أبي هريرة ولقد رآه نزلة أخرى قال : رأى جبريل. وعلى قول ابن عباس : يعني نزلة أخرى هو أنه كانت للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم في تلك الليلة عرجات لمسألة التخفيف من أعداد الصلوات فيكون لكل عرجة نزلة فرأى ربه عز وجل في بعضها.

وروي عن ابن عباس أنه رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رآه بعينه عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى

(م) عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال : (لما أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها وقال إذ يغشى السدرة ما يغشى قال فراش من ذهب).

وفي رواية الترمذي إليها ينتهي علم الخلائق لا علم لهم فوق ذلك وفي حديث المعراج المخرج في الصحيحين (ثم صعد بي إلى السماء السابعة ثم قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى) فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة قال : هذه سدرة المنتهى. وفي أفراد مسلم من حديث أنس قال : (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة وذكره إلى أن قال فيه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال قال فلما غشيها من نور اللّه ما غشي تغيرت فما أحد من خلق اللّه يستطيع أن ينعتها من حسنها) وقال هلال بن يساف سأل ابن عباس كعبا عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق وما خلفها غيب لا يعلمه إلا اللّه عز وجل وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : (سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر سدرة المنتهى فقال : يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو قال يستظل بظلها مائة ألف راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال) أخرجه الترمذي. وقال : مقاتل هي شجرة تحمل الحلي والحلل

والثمار من جميع الألوان ولو أن ورقة وضعت منها في الأرض لأضاءت لأهل الأرض وهي شجرة طوبى التي ذكرها اللّه في سورة الرعد عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال ابن عباس : جنة المأوى يأوي إليها جبريل والملائكة

وقيل :

يأوي إليها أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن مسعود : فراش من ذهب

وقيل : يغشاها ملائكة أمثال الغربان.

وقيل : أمثال الطيور حتى يقعن عليها.

وقيل : غشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة من حب اللّه تعالى أمثال الغربان حتى يقعن عليها

وقيل : هو نور رب العزة ويروى في الحديث قال : رأيت على كل ورقة منها ملكا قائما يسبح اللّه عز وجل :

ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩)

١٧

١٩

ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى يعني ما مال بصر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة المقدسة الشريفة يمينا وشمالا ولا جاوز ما رأى

وقيل : ما أمر به وهذا وصف أدبه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك المقام الشريف إذ لم يلتفت إلى شيء سوى ما أمر به.

وفي معنى الآية إن قلنا إن الذي يغشى السدرة فراش من ذهب أي لم يلتفت إليه ولم يشتغل به وفيه بيان أدبه صلّى اللّه عليه وسلّم إذ لم يقطع بصره عن المقصود وإن قلنا الذي يغشى السدرة هو نور رب العزة ففيه وجهان :

أحدهما : أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يلتفت عنه يمنة ولا يسرة ولا يشتغل بغير مطالعة ذلك النور.

الوجه الثاني : ما زاغ البصر بصعقة ولا غشية كما أخبر عن موسى بقوله (و خر موسى صعقا) وذلك أنه لما تجلى رب العزة وظهر نوره على الجبل قطع نظره وغشي عليه ونبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ثبت في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول وتزل فيه الأقدام وتميل فيه الأبصار فوصف اللّه عز وجل قوة نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك المقام العظيم بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى.

وقوله تعالى : لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الآيات العظام

وقيل : أراد ما رأى تلك الليلة في مسيره ورجوعه

وقيل : معناه لقد رأى من آيات ربه الآيات الكبرى

(م) عن عبد اللّه بن مسعود قال :

لقد رأى من آيات ربه الكبرى. قال : رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح

(خ) عنه قال لقد رأى من آيات ربه الكبرى قال رأى رفرفا أخضر سد أفق السماء.

(فصل من كلام الشيخ محيي الدين النووي في معنى

قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهل رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ربه عز وجل ليلة الإسراء) قال القاضي عياض اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة كما وقع في صحيح مسلم. وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين.

وروي عن ابن عباس أنه رآه بعينه ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن وكان يحلف على ذلك وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال : ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز ورؤية اللّه عز وجل في الدنيا جائزة وسؤال موسى إياها دليل على جوازها إذ لا يجهل نبي ما يجوز أن يمتنع على ربه. واختلفوا في أن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا ، فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه. وعزا بعضهم هذا القول إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس وكذلك اختلفوا في قوله : ثم دنا فتدلى فالأكثر على أن هذا

الدنو والتدلي منقسم بين جبريل والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم أو مختص ب

أحدهما من الآخر أو من سدرة المنتهى.

وذكر ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ربه أو من اللّه فعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولا ليس على وجهه بل كما قال جعفر بن محمد الدنو من اللّه لا حد له ومن العباد بالحدود فيكون معنى دنو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه. والدنو من اللّه تعالى لهإظهار ذلك وعظيم بره وفضله العظيم لديه ويكون

قوله تعالى : قاب قوسين أو أدنى ، هنا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم ومن اللّه تعالى إجابة الرغبة وإبانة المنزلة هذا آخر كلام القاضي عياض.

قال الشيخ محيي الدين :

وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية. قال : والحجج في المسألة وإن كانت كثيرة ولكن لا تتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس : (أ تعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم أجمعين) وعن عكرمة قال : سئل ابن عباس هل رأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ربه؟ قال :

نعم. وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : رأى محمد ربه عز وجل وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ربه عز وجل.

والأصل في المسألة حديث ابن عباس حبر هذه الأمة وعالمها والمرجوع إليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ربه عز وجل فأخبره أنه رآه ولا يقدح في هذا حديث عائشة لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : لم أر ربي وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول اللّه تعالى وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ولقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة وإذا قد صحت الروايات عن ابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بإثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها لأنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسمع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس ثم إن ابن عباس أثبت ما نفاه غيره والمثبت مقدم على النفي هذا كلام صاحب التحرير في إثبات الرؤية.

قال الشيخ محيي الدين فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى ربه عز وجل بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه ثم إن عائشة لم تنف الرؤية بحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولو كان معها حديث لذكرته وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات وسنوضح الجواب عنها ، فنقول : أما احتجاج عائشة رضي اللّه تعالى عنها بقوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فجوابه ظاهر ، فإن الإدراك هو الإحاطة واللّه تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة وهذا الجواب في نهاية الحسن مع اختصاره.

وأما احتجاجها بقوله تعالى : وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الآية ،

فالجواب عنه من أوجه :

أحدها أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام ،

الوجه الثاني : أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.

الوجه الثالث : ما قاله بعض العلماء إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة وهذا القول وإن كان محتملا لكن الجمهور.

على أن المراد بالوحي هنا إلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحيا

وأما

قوله تعالى : أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ

فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه من حديث لا يرونه وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا عن موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم وقول عائشة في أول الحديث (لقد قف شعري) فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال تقول العرب عند إنكار الشيء : قف شعري واقشعر جلدي واشمأزت نفسي وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث أبي ذر (نور أني أراه) فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون المفتوحة ومعناه : حجابه نور فكيف أراه قال الماوردي الضمير في أراه عائد على اللّه تعالى والمعنى أن النور يمنعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حال بين الرائي وبينه

وفي رواية رأيت نورا معناه : رأيت النور فحسب ولم أر غيره

وفي رواية ذاته نور أني أراه ومعناه هو خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال ومن المستحيل أن تكون ذات اللّه نورا إذ النور من جملة الأجسام واللّه يتعالى عن ذلك هذا مذهب جميع أئمة المسلمين واللّه أعلم.

قوله عز وجل : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها واشتقوا لها أسماء من أسماء اللّه عز وجل فقالوا من اللّه اللات ومن العزيز العزى.

وقيل : العزى تأنيث الأعز. والمعنى : أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون اللّه هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء وكان اللات بالطائف

وقيل : بنخلة كانت قريش تعبده وقرئ اللات بالتشديد

(خ). عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : كان اللات رجلا يلت السويق للحاج. قيل : فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه.

وقيل : كان في رأس جبل له غنيمة يسلأ منها السمن ويأخذ منها الأقط ويجمع رسلها ثم يتخذ حيسا فيطعم الحاج وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه وهو اللات.

وقيل : كان رجلا من ثقيف يقال له صرمة بن غنم وكان يسلأ السمن فيضعه على صخرة فتأتيه العرب فتلت به أسوقتهم فلما مات الرجل حولها ثقيف إلى منازلها فمرت الطائف على موضع اللات

وأما العزى فقيل هي شجرة بغطفان كانوا يعبدونها فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد فقطعها فجعل يضربها بالفأس ويقول :

يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت اللّه قد أهانك

فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال : إن خالدا رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : قد قطعتها. فقال : ما رأيت؟ فقال ما رأيت شيئا فقال ما قطعت فعاودها ومعه المعول فقطعها واجتثت أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال : تلك العزى ولن تعبد أبدا.

وقيل : هي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن سالم الغطفاني.

وقيل : إنه قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بينهما فرجع إلى بطن نخلة فقال لقومه : إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا فما تأمرنا؟ قال : أنا أصنع لكم كذلك فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذ من الصفا وقال الصفا ثم وضع الذي أخذ من المروة. وقال : هذه المروة ثم أخذ ثلاثة أحجار وأسندها إلى شجرة. وقال : هذا ربكم فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة الثلاث حتى افتتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة وأمر برفع الحجارة وأمر خالد بن الوليد بالعزى فقطعها

وقيل : هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف.

وقوله تعالى :

وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)

٢٠

٢٣

وَمَناةَ قيل : هي لخزاعة كانت بقديد وقالت عائشة رضي اللّه تعالى عنها في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد

وقيل : هي بيت بالمشلل كانت تعبده بنو كعب.

وقيل : مناة ، صنم لهذيل وخزاعة وكانت تعبدها أهل مكة

وقيل : اللات والعزى ومناة أصنام من الحجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها الثَّالِثَةَ الْأُخْرى الثالثة نعت لمناة إذ هي الثالثة في الذكر

وأما الأخرى فإن العرب لا تقول الثالثة الأخرى وإنما الأخرى هنا نعت للثلاثة قال الخليل : قالها لوفاق رؤوس الآي كقوله (مآرب أخرى) ولم يقل أخر.

وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة.

وقيل : هي صفة ذم كأنه تعالى قال ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة. فعلى هذا فالأصنام ترتب مراتب ، وذلك لأن اللات كان صنما على صورة آدمي والعزّى شجرة فهي نبات ومناة صخرة فهي جماد وهي في أخريات المراتب. ومعنى الآية : هل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية ، وإذا رأيتموها علمتم أنها لا تصلح للعبادة لأنها لا تضر ولا تنفع

وقيل : أفرأيتم أيها الزاعمون أن اللات والعزى ومناة بنات اللّه ألكم الذكر وله الأنثى.

وقيل : كان المشركون بمكة يقولون : الأصنام والملائكة بنات اللّه وكان الرجل منهم إذا بشر بالأنثى كره ذلك فقال اللّه عز وجل منكرا عليهم أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى قال ابن عباس : أي قسمة جائرة حيث جعلتم لربكم ما تكرهون لأنفسكم

وقيل : قسمة عوجاء غير معتدلة إِنْ هِيَ أي ما هذه الأصنام إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والمعنى : أنكم سميتموها آلهة وليست حقيقة ولا بمعبودة حقيقة

وقيل : معناه قلتم لبعضها عزى ولا عزة لها فلا يكون لها مسمى حقيقة.

ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بما تقولون إنها آلهة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي في قولهن إنها آلهة وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ يعني هو ما زين لهم الشيطان من عبادة الأصنام

وقيل : وضعوا عبادتهم بمقتضى شهواتهم والذي ينبغي أن تكون العبادة بمقتضى الشرع لا بمتابعة هوى النفس وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي البيان بالكتاب المنزل والنبي المرسل أن الأصنام ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلا للّه الواحد القهار.

قوله تعالى :

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨)

فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)

٢٤

٣٠

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى معناه أيظن الكافر أن له ما يتمنى ويشتهي من شفاعة الأصنام أي ليس الأمر كما يظن ويتمنى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي لا يملك أحد فيها شيئا أبدا إلا بإذنه

وقيل : معناه أن الإنسان إذا اختار معبودا على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله ذلك إن شاء في الدنيا والآخرة وإن شاء أمهله إلى الآخرة وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ أي ممن يعبدهم هؤلاء ويرجون شفاعتهم عند اللّه لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً يعني أن الملائكة ، مع علو منزلتهم ، لا تغني شفاعتهم ، شيئا فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها ثم أخبر أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه

فقال تعالى : إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ أي في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي من أهل التوحيد قال ابن عباس يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي اللّه عنه

وقيل : إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن شاء الشفاعة له إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني الكفار الذين أنكروا البعث لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي بتسمية الأنثى حيث قالوا إنهم بنات اللّه.

فإن قلت كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث.

قلت المراد منه بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمناسبته رؤوس الآي

وقيل : إن كل واحد من الملائكة يسمونه تسمية الأنثى وذلك لأنهم إذا قالوا الملائكة بنات اللّه فقد سموا كل واحد منهم بنتا وهي تسمية الأنثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يعني باللّه فيشركون به ويجعلون له ولدا

وقيل : ما يستيقنون أن الملائكة أناث إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني في تسمية الملائكة بالإناث وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً يعني لا يقوم الظن مقام العلم الذي هو الحق

وقيل معناه إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء بالعلم واليقين لا بالظن والتوهم

وقيل :

الحق هو اللّه تعالى والمعنى أن الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن.

وقيل : عن الإيمان وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يعني أنهم لا يؤمنون بالآخرة حتى يردوها ويعملوا لها وفيه إشارة إلى إنكارهم الحشر ثم صغر رأيهم

فقال تعالى : ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي ذلك نهاية علمهم وقلة عقولهم أن آثروا الدنيا على الآخرة

وقيل : معناه أنهم لم يبلغوا من العلم إلا ظنهم أن الملائكة بنات اللّه وأنهم يشفعون لهم فاعتمدوا على ذلك وأعرضوا عن القرآن والإيمان إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي هو عالم بالفريقين ويجازيهم بأعمالهم.

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَكَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)

٣١

٣٢

وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا. والمعنى :

إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي وحدوا ربهم بِالْحُسْنَى يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال وللّه ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل :

الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ قيل : الإثم ، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب

وقيل : هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ،

وقيل : هو فعل ما لا يحل

وقيل : الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر وَالْفَواحِشَ جمع فاحشة ، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال

وقيل : هي ما فحش من الكبائر إِلَّا اللَّمَمَ أي إلا ما قل وصغر من الذنوب

وقيل : هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية : إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس. وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك. وقال أبو صالح :

سئلت عن قول اللّه عز وجل إلا اللمم ف

قلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملك كريم. عن ابن عباس في

قوله عز وجل : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب

وقيل : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة

وقيل : هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن

المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم.

وقيل : اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس

(ق) عن ابن عباس قال (ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن اللّه عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه).

ولمسلم قال : (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه)

وقيل : اللمم على وجهين ،

أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر اللّه تعالى عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش.

والوجه الثاني : هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه

وقيل : هو ما لم على القلب أي خطر

وقيل : اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل : في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة)

قال العلماء : أكبر الكبائر الشرك باللّه وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها. فعلى هذا يقال في كل واحدة منها : هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها.

وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب.

وفي رواية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس : كل شيء نهى اللّه عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال اللّه كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر ، فقد اختلف في ضبطها ، فروي عن ابن عباس أنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا

وقيل : هي ما وعد اللّه عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا. وقال الغزالي : في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرئ عليها اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه القواعد :

إذا أردت معرفة الفرق بين الكبيرة والصغيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر فمن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم ممن أكل درهما

من مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته فإن تسببه إلى هذه المفسدة أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه. ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يؤخذ منه ثمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر.

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه الكبيرة : كل ذنب كبر وعظم عظما بحيث يصح معه أنه يطلق عليه اسم الكبيرة ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة ولها أمارات منها الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها ما وصف فاعلها بالفسق أو يضاف إليه اللعن كلعن اللّه من غير منار الأرض ونحو ذلك واللّه أعلم.

وقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس : لمن فعل ذلك ثم تاب وأناب.

وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس قالا : لا كبيرة في الإسلام أي لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار معناه أن الكبيرة أيضا تمحى بالاستغفار والتوبة والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار

وقيل في حد الإصرار هو أن يتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بذنبه وتم الكلام على قوله إن ربك واسع المغفرة ثم ابتدأ

فقال تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي قبل أن يخلقكم وهو قوله : إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني خلق أباكم آدم من التراب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ سمي جنينا لاستتاره في بطن أمه فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس : لا تمدحوها. وقال الحسن : علم اللّه من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال.

وقيل في معنى الآية : هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم حالكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك أو أنا أزكى منك أو أتقى منك فإن العلم عند اللّه وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن اللّه يعلم عاقبة من هو على التقوى وهو

قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى يعني بمن بر وأطاع وأخلص العمل

وقيل في معنى الآية فلا تزكوا أنفسكم يعني لا تنسبوها إلى زكاء العلم وزيادة الخير والطاعات

وقيل لا تنسبوها إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم اللّه الزكي منكم والتقي أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. قيل : نزلت من ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.

قوله عز وجل :

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦)

٣٣

٣٦

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على دينه فغيره بعض المشركين وقالوا : أتركت دين الأشياخ وضللت. قال : إني خشيت عذاب اللّه فضمن له الذي عاتبه إن أعطاه كذا من ماله ورجع إلى الشرك أن يتحمل عنه عذاب اللّه فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى للذي عيره بعض الذي ضمن له من المال ومنعه تمامه فأنزل اللّه أفرأيت الذي تولى يعني أدبر وأعرض عن الإيمان وَأَعْطى يعني لصاحبه الذي عيره قَلِيلًا وَأَكْدى أي بخل بالباقي.

وقيل : أعطى قليلا يعني من الخير بلسانه وأكدى يعني قطعه وأمسك ولم يعم بالعطية.

وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي وذلك أنه كان ربما يوافق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض الأمور.

وقيل : نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال واللّه ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله : وأعطى

قليلا وأكدى يعني لم يؤمن به ومعنى الآية أكدى يعني قطع وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر يمنع من الحفر أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي ما غاب عنه يعني أن صاحبه يتحمل عنه عذابه أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يعني يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني أسفار التوراة.

وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١)

٣٧

٤١

وَإِبْراهِيمَ يعني ويخبر بما في صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى يعني كمل وتمم مما أمر به

وقيل : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه إلى خلقه

وقيل وفي فرض عليه

وقيل قام بذبح ولده

وقيل استكمل الطاعة.

وقيل : وفي بما فرض عليه في سهام الإسلام وهو قوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ والتوفية الإتمام.

وقيل :

وفي شأن المناسك.

وروى البغوي بسنده عن أبي أمامة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إبراهيم الذي وفي عمله كل يوم بأربع ركعات أول النهار.

عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن اللّه تبارك وتعالى أنه قال (ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ثم بين ما في صحفهما

فقال تعالى : أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى. والمعنى : لا تؤخذ نفس بإثم غيرها. وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم. وقال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره كان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وامرأته وعبده حتى كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن اللّه تعالى : أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي عمل وهذا في صحف إبراهيم وموسى أيضا قال ابن عباس هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة بقوله تعالى : أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء

وقيل كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى فأما هذه الأمة فلها ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما روي عن ابن عباس (أن امرأة رفعت صبيا لها فقالت يا رسول اللّه ألهذا حج؟ قال نعم ولك أجرا) أخرجه مسلم وعنه (أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن أمي توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم).

وفي رواية أن سعد بن عبادة أخا بني سعد وذكر نحوه وأخرجه البخاري وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت :

(إن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال نعم.) أخرجاه في الصحيحين. وفي حديث ابن عباس دليل لمذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء أن حج الصبي منعقد صحيح يثاب عليه وإن كان لا يجزيه عن حجة الإسلام بل يقع تطوعا. وقال أبو حنيفة : لا يصح حجه وإنما يكون ذلك تمرينا للعبادة. وفي الحديثين الآخرين دليل على أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها. وهو إجماع العلماء.

وكذلك أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين للنصوص الواردة في ذلك ويصح الحج عن الميت حجة الإسلام وكذا لو أوصى بحج تطوع على الأصح عند الشافعي واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجع جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه والمشهور من مذهب الشافعي أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها. وقال جماعة من أصحابه : يصله ثوابها. وبه قال أحمد بن حنبل

وأما الصلوات وسائر التطوعات فلا يصله عند الشافعي والجمهور. وقال أحمد : يصله ثواب الجميع واللّه أعلم.

وقيل : أراد بالإنسان الكافر. والمعنى : ليس له من الخير إلا ما عمل هو فيثاب عليه في الدنيا بأن يوسع عليه في رزقه ويعافى في بدنه حتى لا يبقى له في الآخرة خير وروي أن عبد اللّه بن أبي ابن سلول كان أعطى

العباس قميصا ألبسه إياه فلما مات أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قميصه ليكفن فيه فلم يبق له في الآخرة حسنة يثاب عليها.

وقيل : ليس للإنسان إلا ما سعى هو من باب العدل فأما من باب الفضل فجائز أن يزيده اللّه ما يشاء من فضله وكرمه وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يراه في ميزانه يوم القيامة وفيه بشارة للمؤمن وذلك أن اللّه تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غما ثُمَّ يُجْزاهُ أي السعي الْجَزاءَ الْأَوْفى أي الأتم والأكمل. والمعنى : أن الإنسان يجزى جزاء سعيه الجزاء الأوفى.

قوله عز وجل :

وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)

٤٢

٤٧

وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إليه منتهى الخلق ومصيرهم إليه في الآخرة وهو مجازيهم بأعمالهم وفي المخاطب بهذا وجهان

أحدهما أنه عام تقديره وأن إلى ربك أيها السامع أو العاقل كائنا من كان المنتهى فهو تهديد بليغ للمسيء وحث شديد للمحسن ليقلع المسيء عن إساءته ويزداد المحسن في إحسانه

الوجه الثاني أن المخاطب بهذا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فعلى هذا ، ففيه تسلية للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم. والمعنى : لا تحزن فإن إلى ربك المنتهى.

وقيل. في معنى الآية : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال.

وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي بن كعب عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال لا فكرة في الرب.

وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا : (تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة). ومعناه : لا فكرة في الرب أي انتهى الأمر إليه لأنك إذا نظرت إلى سائر الموجودات الممكنة علمت أن لا بد لها من موجد وإذا علمت أن موجدها هو اللّه تعالى فقد انتهى الأمر إليه فهو إشارة إلى وجوده ووحدانيته سبحانه وتعالى : وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء اللّه وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء

وقيل أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار قيل أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر

وقيل : أفرح وأحزن ، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء عن جابر بن سمرة قال (جلست مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أكثر من مائة مرة وكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت وربما تبسم معهم إذا ضحكوا) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وفي رواية سماك بن حرب : فيضحكون ويتبسم معهم إذا ضحكوا يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وسئل ابن عمر : هل كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يضحكون؟ قال : نعم والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل

(ق).

عن أنس قال : (خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا فغطى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجوههم لهم خنين) وهو بالخاء المعجمة أي بكاء مع صوت يخرج من الأنف وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي أمات في الدنيا وأحيا للبعث.

وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء.

وقيل :

أمات الكافر بالنكرة وأحيا المؤمن بالمعرفة وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي من كل حيوان وهو أيضا من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة فيخلق بعضها ذكرا وبعضها أنثى وهذا شيء لا يصل إليه فهم العقلاء ولا يعلمونه وإنما هو بقدرة اللّه تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تصب في الرحم.

وقيل :

تقدر. وفي هذا تنبيه على كمال قدرته ، لأن النطفة شيء واحد خلق اللّه منها أعضاء مختلفة وطباعا متباينة وخلق منها الذكر والأنثى وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته ولهذا لم يؤكده بقوله وأنه هو خلق لأنه لم يدع أحد إيجاد نفسه ولا خلقها ولا خلق غيره كما لم يقدر أحد أن يدعي خلق السموات والأرض وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ

الْأُخْرى أي الخلق الثاني بعد الموت للبعث يوم القيامة.

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢)

وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)

٤٨

٥٦

وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي أغنى الناس بالأموال وأعطى القنية وهي أصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية.

وقيل : أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية. وأقنى : بالإبل والبقر والغنم.

وقيل : أقنى أي أخدم.

وقال ابن عباس : أغنى وأقنى ، أي أعطى فأرضى.

وقيل : أغنى يعني رفع حاجته ولم يتركه محتاجا إلى شيء لأن الغنى ضد الفقر ، وأقنى : أي زاد فوق الغنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي أنه رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى وأول من سن لهم ذلك الرجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال : لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى تقطعها طولا فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة فلما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على خلاف العرب في الدين سموه ابن أبي كبشة تشبيها له في خلافه إياهم كما خالفهم أبو كبشة وعبد الشعرى وهو كوكب يضيء خلف الجوازء ويسمى كلب الجبار أيضا وهما اثنتان : يمانية وشامية يقال لإحداهما العبور والأخرى الغميصاء. سميت بذلك لأنها أخفى من العبور والمجرة بينهما. وأراد بالشعرى هنا العبور وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وهم قوم هود أهلكوا بريح صرصر وكان لهم عقب فكانوا عادا أخرى

وقيل : الأخرى إرم.

وقيل :

الأولى يعني أول الخلق هلاكا بعد قوم نوح وَثَمُودَ وهم قوم صالح أهلكهم اللّه بالصيحة فَما أَبْقى يعني منهم أحدا وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ يعني أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود بالغرق إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى يعني لطول دعوة نوح إياهم وعتوهم على اللّه بالمعصية والتكذيب وَالْمُؤْتَفِكَةَ يعني قرى قوم لوط أَهْوى أي أسقط وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها فَغَشَّاها أي ألبسها اللّه ما غَشَّى يعني الحجارة المنضودة المسومة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي تشكّ أيها الإنسان.

وقيل : أراد الوليد بن المغيرة. قال ابن عباس : تتمارى أي تكذب هذا نَذِيرٌ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي رسول من الرسل المتقدمة أرسل إليكم كما أرسلت الرسل إلى قومهم

وقيل : أنذر محمد كما أنذرت الرسل من قبله.

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١)

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)

٥٧

٦٢

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة واقتربت الساعة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي مظهرة ومبينة متى تقوم.

وقيل : معناه ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا اللّه غير أنه لا يكشفها.

وقيل : الكاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية. والمعنى : لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره.

وقيل : معناه ليس لها رد يعني : إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد.

قوله تعالى : أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ تنكرون وَتَضْحَكُونَ أي استهزاء وَلا تَبْكُونَ أي مما فيه من الوعيد وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون غافلون قاله ابن عباس. وعنه ، أن السمود هو الغناء بلغة أهل اليمن وكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا. ولعبوا وأصل السمود في اللغة ، رفع الرأس ، مأخوذ ، من سمد البعير إذا رفع رأسه وجد في سيره والسامد اللاهي والمعنى.

وقيل : معناه أشرون بطرون. وقال مجاهد : غضاب

مبرطمون قيل له : وما البرطمة؟ قال : الإعراض فَاسْجُدُوا لِلَّهِ يعني أيها المؤمنون شكرا على الهداية.

وقيل :

هذا محمول على سجود التلاوة.

وقيل : على سجود الفرض في الصلاة وَاعْبُدُوا أي اعبدوا اللّه وإنما قال :

واعبدوا ، إما لكونه معلوما ،

وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا للّه تعالى

(ق) عن عبد اللّه بن مسعود : (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخا من قريش أخذ كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا قال عبد اللّه فلقد رأيته بعد قتل كافر) زاد البخاري في رواية له قال : (أول سورة نزلت فيها سجدة النجم وذكره) وقال في آخره وهو (أمية بن خلف)

(خ).

عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس

(ق) عن زيد بن ثابت قال : (قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النجم فلم يسجد فيها) ففي هذا الحديث دليل على أن سجود التلاوة غير واجب وهو قول الشافعي وأحمد وقال عمر بن الخطاب : إن اللّه لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع وهو قول سفيان وأصحاب الرأي واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

﴿ ٠