٣١٣٢وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهذه إشارة إلى كمال قدرته وغناه وهو معترض بين الآية الأولى وبين قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا. والمعنى : إذا كان أعلم بهم جازى كل أحد بما يستحقه فيجزي الذين أساؤوا أي أشركوا بما عملوا من الشرك وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي وحدوا ربهم بِالْحُسْنَى يعني الجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء إذا كان كثير الملك كامل القدرة فلذلك قال وللّه ما في السموات وما في الأرض ثم وصف المحسنين فقال عز وجل : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ قيل : الإثم ، الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب وقيل : هو اسم للأفعال المبطئة عن الثواب ، وقيل : هو فعل ما لا يحل وقيل : الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر وجمعه آثام والكبيرة متعارفة في كل ذنب تعظم عقوبته وجمعه كبائر وَالْفَواحِشَ جمع فاحشة ، وهي ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال وقيل : هي ما فحش من الكبائر إِلَّا اللَّمَمَ أي إلا ما قل وصغر من الذنوب وقيل : هي مقاربة المعصية من قولك ألممت بكذا إذا قاربته من غير مواقعة واختلفوا في معنى الآية فقيل هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحش ومعنى الآية : إلا إن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب أو يقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عن ابن عباس. وقال عبد اللّه بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك. وقال أبو صالح : سئلت عن قول اللّه عز وجل إلا اللمم ف قلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أعانك عليها ملك كريم. عن ابن عباس في قوله عز وجل : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب وقيل : أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له إعادة ولا إقامة وقيل : هو استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقيل هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به في الإسلام وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : إنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن سلم. وقيل : اللمم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك مما هو دون الزنى وهو قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي والرواية الأخرى عن ابن عباس (ق) عن ابن عباس قال (ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن اللّه عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه). ولمسلم قال : (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وقيل : اللمم على وجهين ، أحدهما أنه كل ذنب لم يذكر اللّه تعالى عليه حدا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس وصوم رمضان ما لم يبلغ الكبائر والفواحش. والوجه الثاني : هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقيل : هو ما لم على القلب أي خطر وقيل : اللمم النظرة من غير عمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم فهو ذنب واللّه سبحانه وتعالى أعلم. (فصل : في بيان الكبيرة وحدها وتمييزها عن الصغيرة) قال العلماء : أكبر الكبائر الشرك باللّه وهو ظاهر لا خفاء به لقوله تعالى : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ويليه القتل بغير حق فأما ما سواهما من الزنا واللواط وشرب الخمر وشهادة الزور وأكل مال اليتيم بغير حق والسحر وقذف المحصنات وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر التي ورد بها النص فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها. فعلى هذا يقال في كل واحدة منها : هي من أكبر الكبائر بالنسبة إلى ما دونها. وقد جاء عن ابن عباس أنه سئل عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى سبعمائة أقرب وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها عن الصغيرة فجاء عن ابن عباس : كل شيء نهى اللّه عنه فهو كبيرة. وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني وحكاه القاضي عياض عن المحققين واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال اللّه كبيرة وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة واستعمال سلف الأئمة. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر ، فقد اختلف في ضبطها ، فروي عن ابن عباس أنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وعن الحسن نحو هذا وقيل : هي ما وعد اللّه عليه بنار في الآخرة وأحد في الدنيا. وقال الغزالي : في البسيط الضابط الشامل في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم عليها المرء من غير استشعار خوف أو استحداث ندم كالمتهاون في ارتكابها والمستجرئ عليها اعتيادا فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة وما تحمل عليه فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى ولا ينفك عن ندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس بكبيرة. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتابه القواعد : إذا أردت معرفة الفرق بين الكبيرة والصغيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو زادت عليه فهي من الكبائر فمن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم ممن أكل درهما من مال اليتيم مع كونه من الكبائر. وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع علمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته فإن تسببه إلى هذه المفسدة أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه. ولو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يؤخذ منه ثمرة بسبب كذبه لم يكن ذلك من الكبائر. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه الكبيرة : كل ذنب كبر وعظم عظما بحيث يصح معه أنه يطلق عليه اسم الكبيرة ويوصف بكونه عظيما على الإطلاق فهذا حد الكبيرة ولها أمارات منها الحد ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة ومنها ما وصف فاعلها بالفسق أو يضاف إليه اللعن كلعن اللّه من غير منار الأرض ونحو ذلك واللّه أعلم. وقوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ قال ابن عباس : لمن فعل ذلك ثم تاب وأناب. وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس قالا : لا كبيرة في الإسلام أي لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار معناه أن الكبيرة أيضا تمحى بالاستغفار والتوبة والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار وقيل في حد الإصرار هو أن يتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بذنبه وتم الكلام على قوله إن ربك واسع المغفرة ثم ابتدأ فقال تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي قبل أن يخلقكم وهو قوله : إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني خلق أباكم آدم من التراب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ سمي جنينا لاستتاره في بطن أمه فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس : لا تمدحوها. وقال الحسن : علم اللّه من كل نفس ما هي صانعة وإلى ما هي صائرة فلا تزكوا أنفسكم فلا تبرئوها من الآثام ولا تمدحوها بحسن الأعمال. وقيل في معنى الآية : هو أعلم بكم أيها المؤمنون علم حالكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ولا تقولوا لمن لم تعرفوا حقيقته أنا خير منك أو أنا أزكى منك أو أتقى منك فإن العلم عند اللّه وفيه إشارة إلى وجوب خوف العاقبة فإن اللّه يعلم عاقبة من هو على التقوى وهو قوله تعالى : هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى يعني بمن بر وأطاع وأخلص العمل وقيل في معنى الآية فلا تزكوا أنفسكم يعني لا تنسبوها إلى زكاء العلم وزيادة الخير والطاعات وقيل لا تنسبوها إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم اللّه الزكي منكم والتقي أولا وآخرا قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم. قيل : نزلت من ناس كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فأنزل اللّه فيهم هذه الآية. قوله عز وجل : أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) |
﴿ ٣١ ﴾