سورة القمر(مكية وهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وثلاثون وعشرون حرفا) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) ١٣قوله عز وجل : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي دنت القيامة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قيل : فيه تقديم وتأخير تقديره انشق القمر واقتربت الساعة وانشقاق القمر من آيات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الظاهرة ومعجزاته يدل عليه ما روي عن أنس : (أن أهل مكة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين). أخرجه البخاري ومسلم. وزاد الترمذي فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى قوله سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ولهما عن ابن مسعود. قال : (انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شقتين فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اشهدوا) وفي رواية أخرى قال : (بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين ، فلقة فوق الجبل ، وفلقة دونه. فقال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (اشهدوا) ولهما عن ابن عباس قال : (إن القمر انشق في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) (م) عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال : (انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلقتين فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : اشهدوا) وعن جبير بن مطعم قال : (انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصار فرقتين فقالت قريش سحر محمد أعيننا ، فقال بعضهم لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم) أخرجه الترمذي وزاد غيره فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه فيكذبونهم. قال مقاتل : انشق القمر ثم التأم بعد ذلك. وروى مسروق عن عبد اللّه بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت قريش : سحركم ابن أبي كبشة فسألوا السفارة فقالوا : نعم. قد رأيناه فأنزل اللّه تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر. فهذه الأحاديث الصحيحة قد وردت بهذه المعجزة العظيمة ، مع شهادة القرآن المجيد بذلك فإنه أدل دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشك فيه مؤمن وقد أخبر عنه الصادق فيجب الإيمان به واعتقاد وقوعه. وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم ، قال الزجاج : وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفي الملة وذلك لما أعمى اللّه قلبه ولا إنكار للعقل فيها لأن القمر مخلوق للّه تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكوره في آخر أمره. فأما قول بعض الملاحدة لو وقع هذا النقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في رؤيتهم له ومعرفته ولم يختص بها أهل مكة فأجاب العلماء عن هذا بأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر. ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء في الليل من العجائب والأنوار والطوالع والشهب العظام ونحو ذلك يقع ولا يتحدث به إلا آحاد الناس ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرناه من غفلة الناس. وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها ، فلم يتأهب غيرهم لها. قال العلماء : وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهرا لقوم غائبا عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد واللّه أعلم وقيل في معنى الآية ينشق القمر يوم القيامة وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه ولأن اللّه ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى قرينة تنقله أو دليل يدل عليه وفي قوله تعالى : وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا دليل على وجود هذه الآية العظيمة وقد كان ذلك في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمعنى : وإن يروا آية أي تدل على صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، والمراد بالآية هنا انشقاق القمر يعرضوا أي عن التصديق بها وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ أي دائم مضطرد. وكل شيء دام حاله قيل فيه : مستمر. وذلك لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات فقالوا هذا سحر مستمر : وقيل مستمر أي قوي محكم شديد بعلوه يعلو كل سحر. قيل : مستمر أي ذاهب سوف يبطل ويذهب ولا يبقى وإنما قالوا ذلك تمنية لأنفسهم وتعليلا وَكَذَّبُوا يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وما عاينوا من قدرة اللّه وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ أي ما زين لهم الشيطان من الباطل وقيل : هو قولهم إنه سحر القمر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي لكل أمر حقيقة فما كان منه في الدنيا فسيظهر وما كان منه في الآخرة فسيعرف. وقيل : كل أمر مستقر. فالخير مستقر بأهله في الجنة ، والشر مستقر بأهله في النار ، وقيل : يستقر قول المصدقين والمكذبين حين يعرفون حقيقته بالثواب أو العقاب. وقيل : معناه لكل حديث منتهى. وقيل : ما قدر فهو كائن وواقع لا محالة. وقيل : هو جواب قولهم سحر مستمر يعني ليس أمره بذاهب كما زعمتم بل كل أمر من أموره مستقر وإن أمر محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سيظهر إلى غاية يتبين فيها أنه حق. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاًأَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) ٤٧وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ أي من أخبار الأمم الماضية المكذبة في القرآن ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي منتهى وموعظة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ يعني القرآن حكمة تامة قد بلغت الغاية فَما تُغْنِ النُّذُرُ يعني أي غنى تغني النذر إذا خالفوهم وكذبوهم فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم نسختها آية القتال يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ أي اذكر يا محمد يوم يدع الداعي وهو إسرافيل ينفخ في الصور قائما على صخرة بيت المقدس إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي منكر فظيع لم يروا مثله ، فينكرونه استعظاما له خُشَّعاً وقرئ خاشعا أَبْصارُهُمْ أي ذليلة خاضعة عند رؤية العذاب يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مثل في كثرتهم وتموج بعضهم في بعض حيارى فزعين. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) ٨١٤مُهْطِعِينَ مسرعين مادي أعناقهم مقبلين إِلَى الدَّاعِ يعني إلى صوت الداعي وهو إسرافيل وقيل ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ أي صعب شديد وفيه إشارة إلى أن ذلك اليوم يوم شديد على الكافرين لا على المؤمنين. قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ أي زجروه على دعوته ومقالته بالشم والوعيد بقولهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ فَدَعا يعني نوحا رَبَّهُ وقال أَنِّي مَغْلُوبٌ أي مقهور فَانْتَصِرْ أي فانتقم لي منهم فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قيل هو على ظاهره وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبوابا. وقيل : هو على الاستعارة ، فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب انصبابا شديدا لم ينقطع أربعين يوما وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أي وجعلنا الأرض كلها عيونا تسيل بالماء فَالْتَقَى الْماءُ يعني ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي قضى عليهم في أم الكتاب. وقيل قدر اللّه أن يكون الماءان سواء فكانا على ما قدر وَحَمَلْناهُ يعني نوحا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ يعني سفينة ذات ألواح. وأراد بالألواح ، خشب السفينة العريضة. وَدُسُرٍ هي المسامير التي تشد بها الألواح وقيل الدسر صدر السفينة. وقيل : هي عوارض السفينة وأضلاعها. وقيل : الألواح : جانبا السفينة ، والدسر : أصلها وطرفاها. تَجْرِي يعني السفينة بِأَعْيُنِنا يعني بمرأى منا. وقيل : بحفظنا. وقيل : بأمرنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يعني فعلنا ذلك به وبهم من إنجاء نوح وإغراق قومه ثوابا لنوح لأنه كان كفر به وجحد أمره. وقيل لمن بمعنى لما أي جزاء لما كان كفر من أيادي اللّه ونعمه عند الذين أغرقهم. وقيل : جزاء لما صنع بنوح وأصحابه. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) ١٥٢٤وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً يعني الفعلة التي فعلنا بهم آية يعتبر بها. وقيل : أراد السفينة. قال قتادة : أبقاها اللّه تعالى بأرض الجزيرة عبرة حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متذكر معتبر متعظ خائف مثل عقوبتهم (ق) عن ابن مسعود قال (قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مذكر فردها عليّ) وفي رواية أخرى (سمعته يقرؤها فهل من مدكر دالا) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ يعني إنذاري وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ يعني سهلنا القرآن لِلذِّكْرِ يعني ليتذكر ويعتبر به قال سعيد بن جبير يسرناه للحفظ والقراءة وليس شيء من كتب اللّه تعالى يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يعني متعظ بمواعظه وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره اللّه وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم. قوله تعالى : كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاري لهم بالعذاب إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي شديدة الهبوب فِي يَوْمِ نَحْسٍ أي يوم شؤم مُسْتَمِرٍّ أي دائم الشؤم استمر على جميعهم بنحو سنة فلم يبق منهم أحد إلا هلك فيه. وقيل : كان ذلك اليوم يوم الأربعاء في آخر الشهر تَنْزِعُ النَّاسَ أي الريح تقلعهم ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم. قيل : كانت تنزعهم من حفرهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ قال ابن عباس : أصول نخل مُنْقَعِرٍ أي منقطع من مكانه ساقط على الأرض. قيل : كانت الريح تبين رؤوسهم من أجسامهم فتبقي أجسامهم بلا رؤوس كعجز النخلة الملقاة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ أي بالإنذار الذي جاء به صالح فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً يعني آدميا واحدا منا نَتَّبِعُهُ أي ونحن جماعة كثيرون إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أي خطأ وذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس : عذاب. وقيل : شدة عذاب وقيل إنا لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته. وقيل : لفي جنون. وقيل : لفي بعد عن الحق. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) ٢٥٣١أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ يعني أأنزل الوحي عليه مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي بطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بادعائه النبوة سَيَعْلَمُونَ غَداً أي حين ينزل بهم العذاب. وقيل : يعني يوم القيامة وإنما ذكر الغد للتقريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أي صالح أم من كذبه إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ أي باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا ، وذلك أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة حمراء ناقة عشراء فقال اللّه تعالى إنا مرسلو الناقة فِتْنَةً أي محنة واختبارا لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ أي فانتظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ أي على أذاهم وَنَبِّئْهُمْ أي أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي بين الناقة وبينهم لها يوم ولهم يوم وإنما قال تعالى بينهم تغليبا للعقلاء كُلُّ شِرْبٍ أي نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ أي يحضره من كانت نوبته فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها وإذا كان يومهم حضروا شربهم. وقيل : يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة فإذا جاءت حضروا اللبن فَنادَوْا صاحِبَهُمْ يعني قدار بن سالف فَتَعاطى أي فتناول الناقة بسيفه فَعَقَرَ يعني الناقة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثم بين عذابهم فقال تعالى : إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً يعني صيحة جبريل فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : هو الرجل يحظر لغنمه حظيرة من الشجر والشوك دون السباع فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم. وقيل : هو الشجر البالي الذي يهشم حين تذروه الرياح. والمعنى : أنهم صاروا كيبيس الشجر إذا بلي وتحطم وقيل كالعظام النخرة المحترقة وقيل هو التراب يتناثر من الحائط. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) ٣٢٤٢وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. قوله تعالى : كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً يعني الحصباء وهي الحجارة التي دون ملء الكف وقد يكون الحاصب الرامي ، فعلى هذا ، يكون المعنى إنا أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم أي يرميهم بالحجارة ثم استثنى. فقال تعالى : إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني لوطا وابنتيه نَجَّيْناهُمْ يعني من العذاب بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي جعلناه نعمة منا عليهم حيث نجيناهم كَذلِكَ نَجْزِي أي كما أنعمنا على آل لوط كذلك نجزي مَنْ شَكَرَ يعني أن من وحد اللّه لم يعذبه مع المشركين وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ أي لوط بَطْشَتَنا يعني أخذنا إياهم بالعقوبة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ أي شكوا بالإنذار ولم يصدقوا وكذبوا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ وذلك أنهم لما قصدوا دار لوط عالجوا الباب ليدخلوا عليهم فقالت الرسل للوط خل بينهم وبين الدخول فإنا رسل ربك لن يصلوا إليك فدخلوا الدار فصفقهم جبريل بجناحه فتركهم عميا بإذن اللّه يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون. ومعنى : فطمسنا أعينهم ، يعني صيرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق. وقيل : طمس اللّه أبصارهم فلم يروا الرسل فقالوا لقد رأيناهم حين دخلوا فأين ذهبوا؟ فلم يروهم فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ يعني ما أنذركم به لوط من العذاب وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أي جاءهم وقت الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يعني دائم استقر فيهم حتى أفضى بهم إلى عذاب الآخرة فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قوله عز وجل : وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام. وقيل : النذر ، الآيات التي أنذرهم بها موسى كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني الآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ يعني بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ يعني غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه عما أراد ثم خوف كفار مكة فقال تعالى : أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) ٤٣٤٨أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعني أقوى وأشد من الذين أحللت بهم نقمتي مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون وهذا استفهام إنكار ، أي ، ليسوا بأقوى منهم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ يعني من العذاب فِي الزُّبُرِ أي في الكتب أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية أَمْ يَقُولُونَ يعني كفار مكة نَحْنُ جَمِيعٌ يعني أمرنا مُنْتَصِرٌ يعني من أعدائنا والمعنى : نحن يد واحدة على من خالفنا منصرون ممن عادانا. ولم يقل منصرون لموافقة رؤوس الآي. وقيل : معناه نحن كل واحد منا منتصر كما يقال : كلهم عالم ، يعني : كل واحد منهم عالم. قال اللّه تعالى : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني كفار مكة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الآي. وقيل في الإفراد ، إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ، فلا يتخلف أحد عن الهزيمة ولا يثبت أحد للزحف فهم في ذلك كرجل واحد (خ). عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في قبة يوم بدر (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبدا فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول اللّه فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ فصدق اللّه وعده وهزمهم يوم بدر. وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما نزلت سيهزم الجمع ويولون الدبر : كنت لا أدري أي جمع يهزم ، فلما كان يوم بدر ، رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يثب في درعه ويقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر فعلمت تأويلها بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ يعني جميعا والساعة أدهى وأمر ، أي أعظم داهية وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر. قوله عز وجل : إِنَّ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ قيل في بعد عن الحق وسعر أي نار تسعر عليهم. وقيل : في ضلال في الدنيا ونار مسعرة في الآخرة. وقيل : في ضلال ، أي عن طريق الجنة وسعر أي عذاب الآخرة ثم بين عذابهم فقال تعالى : يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي ذوقوا أيها المكذبون لمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم مس سقر. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) ٤٩٥٨إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدور ومكتوب في اللوح المحفوظ. وقيل : معناه قدر اللّه لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له. وقال ابن عباس : كل شيء بقدر حتى وضعك يدك على خدك. (فصل في سبب نزول الآية وما ورد في القدر وما قيل فيه) (م) (عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : كتب اللّه مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة) قال وعرشه على الماء (م). عن أبي هريرة قال : (جاء مشركو قريش إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية إِنَّالْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (م) عن طاوس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقولون : كل شيء بقدر اللّه تعالى قال : وسمعت عبد اللّه بن عمر يقول : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز). عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، وبالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر) أخرجه الترمذي. وله عن جابر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه) وقال : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد اللّه بن ميمون وهو منكر الحديث. وفي حديث جبريل المتفق عليه : وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال : صدقت ففيه ذم القدرية. عن حذيفة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم من شيعة الدجال وحق على اللّه أن يلحقهم بالدجال). أخرجه أبو داود وله عن أبي هريرة مثله (و زاد فلا تجالسوهم ولا تفاتحوهم في الكلام). وعن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب. وروى ابن الجوزي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إذا جمع اللّه الخلائق يوم القيامة أمر مناديا فينادي نداء يسمعه الأولون والآخرون أي خصماء اللّه فتقوم القدرية فيأمر بهم إلى النار يقول اللّه ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر). قال ابن الجوزي : وإنما قيل : خصماء اللّه ، لأنهم يخاصمون في أنه لا يجوز أن يقدر المعصية على العبد ثم يعذبه عليها. وروي عن الحسن قال : واللّه لو أن قدريا صام حتى يصير كالحبل ، وصلّى حتى يصير كالوتر ، ثم أخذ ظلما حتى يذبح بين الركن والمقام لكبه اللّه على وجهه في سقر ثم قيل له ذق مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر. قال الشيخ محيي الدين النووي رحمه اللّه اعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه أن اللّه تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم سبحانه وتعالى أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسن ما قدرها اللّه تعالى وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه بها وإنها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه وتعالى بعد وقوعها وكذبوا على اللّه سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا. وسميت هذه الفرقة قدرية ، لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين : وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه. وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر ولكن تقول الخير من اللّه والشر من غيره تعالى اللّه عن قولهم علوا كبيرا. وحكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث ، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين ، أن بعض القدرية قالوا : لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر. قال ابن قتيبة وإمام الحرمين : هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح ، فإن أهل الحق يفرضون أمورهم إلى اللّه تعالى. ويضيفون القدر والأفعال إلى اللّه تعالى وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. قال إمام الحرمين : وقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (القدرية مجوس هذه الأمة) شبههم بهم لتقسيمهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس فصرفت الخير إلى يزدان والشر إلى أهرمن. ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية. وحديث : القدرية مجوس هذه الأمة ، رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم أبو عبد اللّه في المستدرك على الصحيحين. وقال : صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر وقال الخطابي : إنما جعلهم صلّى اللّه عليه وسلّم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس لقولهم بالأصلين : النور والظلمة يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى اللّه والشر إلى غيره واللّه سبحانه وتعالى خالق كل شيء الخير والشر جميعا لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلا واكتسابا. قال الخطابي : وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار اللّه تعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم اللّه تعالى بما يكون من اكساب العباد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها. قال : والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر. ويقال : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى : فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلقهن. وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل العقد والحل من السلف والخلف على إثبات قدر اللّه سبحانه وتعالى وقد قرر ذلك أئمة المتكلمين أحسن تقرير بدلائله القطعية السمعية والعقلية واللّه أعلم. وأما معاني الأحاديث المتقدمة ، فقوله : جاء مشركو قريش إلى قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدره اللّه وقضاه وسبق به علمه وإرادته فكل ذلك مقدر في الأزل معلوم للّه تعالى مراد له ، وكذلك قوله : كتب اللّه مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء المراد منه تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره لا أصل القدر فإن ذلك أزلي لا أول له وقوله وعرشه على الماء أي قبل أن يخلق السموات والأرض ، وقوله : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس. أو قال : الكيس والعجز. العجز : عدم القدرة. وقيل : هو ترك ما يجب فعله بالتسويف به وتأخيره عن وقته. وقيل : يحتمل العجز عن الطاعات ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة والكيس ضد العجز وهو النشاط والحذق بالأمور. ومعنى الحديث : أن العاجز قدر عجزه والكيس قدر كيسه. قوله تعالى : وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي وما أمرنا إلا مرة واحدة وقيل معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة كُنْ فَيَكُونُ لا مراجعة فيه فعلى هذا إذا أراد اللّه سبحانه وتعالى شيئا قال له كن فيكون فهنا بان فرق بين الإرادة والقول فالإرادة قدر والقول قضاء وقوله واحدة فيه بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول بل هو إشارة إلى نفاذ الأمر كَلَمْحِ الْبَصَرِ قال ابن عباس : يريد أن قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. وعن ابن عباس أيضا : معناه وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السالفة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي متعظ بأن ذلك حق فيخاف ويعتبر. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥) ٥٢٥٥وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ يعني الأشياع من خير وشر فِي الزُّبُرِ أي في كتب الحفظة وقيل في اللوح المحفوظ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ أي من الخلق وأعمالهم وآجالهم مُسْتَطَرٌ أي مكتوب. قوله عز وجل : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ أي بساتين وَنَهَرٍ أي أنهار وإنما وحّده لموافقة رؤوس الآي وأراد أنها الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقيل : معناه في ضياء وسعة ومنه النهار والمعنى لا ليل عندهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وقيل في مجلس حسن وقيل في مقعد لا كذب فيه لأن اللّه صادق فمن وصل إليه امتنع عليه الكذب فهو في مقعد صدق عِنْدَ مَلِيكٍ قيل معناه قرب المنزلة والتشريف لا معنى المكان مُقْتَدِرٍ أي قادر لا يعجزه شيء وقيل مقربين عند مليك أمره في الملك والاقتدار أعظم شيء ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها. قال جعفر الصادق : وصف اللّه تعالى المكان بالصدق ، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه. تم الجزء السادس من تفسير الخازن ويليه الجزء السابع وأوله سورة الرّحمن |
﴿ ٠ ﴾