سورة الرّحمن علا ، وعز وجل(و هي مكية وذكر ابن الجوزي أنها مدنية في قول من قولين عن ابن عباس وهي ست وسبعون آية وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا). بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) ١٤قوله عز وجل : الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قيل لما نزلت اسجدوا للرحمن قال كفار مكة وما الرّحمن فأنكروه وقالوا لا نعرف الرّحمن فأنزل اللّه الرّحمن يعني الذي أنكرتموه هو الذي علم القرآن ، وقيل هذا جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فقال تعالى الرّحمن علم القرآن يعني علّم محمدا القرآن وقيل علّم القرآن يسره للذكر ليحفظ ويتلى وذلك أن اللّه عز وجل عد نعمه على عباده فقدم أعظمها نعمة وأعلاها رتبة وهو القرآن العزيز لأنه أعظم وحي اللّه إلى أنبيائه وأشرفه منزلة عند أوليائه وأصفيائه وأكثره ذكرا وأحسنه في أبواب الدين أثرا وهو سنام الكتب السماوية المنزلة على أفضل البرية خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم عليه الصلاة والسلام قاله ابن عباس عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني أسماء كل شيء وقيل علّمه اللغات كلها فكان آدم يتكلم بسبعمائة لغة أفضلها العربية وقيل الإنسان اسم جنس وأراد به جميع الناس ، فعلى هذا يكون معنى علمه البيان أي النطق الذي يتميز به عن سائر الحيوانات ، وقيل علمه الكتابة والفهم والإفهام حتى عرف ما يقول وما يقال له وقيل علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به وقيل أراد بالإنسان محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم علّمه البيان يعني بيان ما يكون وما كان لأنه صلّى اللّه عليه وسلم ينبئ عن خبر الأولين والآخرين وعن يوم الدين ، وقيل علمه بيان الأحكام من الحلال والحرام والحدود والأحكام. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) ٥١١الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال ابن عباس يجريان بحساب ومنازل لا يتعديانها وقيل يعني بهما حساب الأوقات والآجال ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب ما يريد ، وقيل الحساب هو الفلك تشبيها بحسبان الرحى وهو ما يدور الحجر بدورانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قيل النجم ما ليس له ساق من النبات كالبقول والشجر ما له ساق يبقى في الشتاء وسجودها سجود ظلها وقيل النجم هو الكوكب ، وسجوده طلوعه و القول الأول أظهر لأنه ذكره مع الشجر في مقابلة الشمس والقمر ولأنهما أرضيان في مقابلة سماءين وَالسَّماءَ رَفَعَها أي فوق الأرض وَوَضَعَ الْمِيزانَ قيل أراد بالميزان العدل لأنه آلة العدل والمعنى أنه أمر بالعدل يدل عليه قوله أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لا تجاوزوا العدل وقيل أراد به الآلة التي يوزن بها للتوصل إلى الإنصاف والانتصاف وأصل الوزن التقدير أن لا تطغوا في الميزان أي لئلا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق في الميزان وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وقيل أقيموا لسان الميزان بالعدل وقيل الإقامة باليد والقسط بالقلب وَلا تُخْسِرُوا أي لا تنقصوا الْمِيزانَ أي لا تطففوا في الكيل والوزن أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه وَالْأَرْضَ وَضَعَها أي خفضها مدحوة على الماء لِلْأَنامِ يعني للخلق الذين بثهم فيها وهو كل ما ظهر عليها من دابة وقيل للإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها فِيها يعني في الأرض فاكِهَةٌ يعني من أنواع الفاكهة وقيل ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ يعني الأوعية التي يكون فيها الثمر لأن ثمر النخل يكون في غلاف وهو الطلع ما لم ينشق وكل شيء ستر شيئا فهو كم وقيل أكمامها ليفها واقتصر على ذكر النخل من بين سائر الشجر لأنه أعظمها وأكثرها بركة. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) ١٢١٥وَالْحَبُّ يعني جميع الحبوب التي يقتاب بها كالحنطة والشعير ونحوهما وإنما أخّر ذكر الحب على سبيل الارتقاء إلى الأعلى لأن الحب أنفع من النخل وأعم وجودا في الأماكن ذُو الْعَصْفِ قال ابن عباس يعني التبن وعنه أنه ورق الزرع الأخضر إذ قطع رؤوسه ويبس وقيل هو ورق كل شيء يخرج منه الحب يبدو صلاحه ولا ورق وهو العصف ثم يكون سوقا ثم يحدث اللّه فيه أكماما ثم يحدث في الأكمام الحب وَالرَّيْحانُ يعني الرزق قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما كل ريحان في القرآن فهو رزق وقيل هو الريحان الذي يشم ، وقيل : العصف التبن والريحان ثمرته فذكر قوت الناس والأنعام ثم خاطب الجن والإنس فقال تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يعني أيها الثقلان يريد هذه الأشياء المذكورة وكرر هذه الآية في هذه الصورة في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة وتأكيدا في التذكير بها ، ثم عدد على الخلق آلاءه وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهمالنعم ويقررهم بها كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها ألم تكن فقيرا فأغنيتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك أفتنكر هذا؟ ألم تكن حاملا فعززتك أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب حسن تقريرا وذلك لأن اللّه تعالى ذكر في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان وتعليمه البيان وخلق الشمس والقمر والسماء والأرض إلى غير ذلك مما أنعم به على خلقه وخاطب الجن والإنس فقال فبأي آلاء ربكما تكذبان من الأشياء المذكورة لأنها كلها منعم بها عليكم. عن جابر رضي اللّه تعالى عنه قال (خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله فبأي آلاء ربكما تكذبان قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وفي رواية غيره (كانوا أحسن منكم ردا وفيه ولا بشي ء) قوله تعالى : خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ يعني من طين يابس له صلصلة وهو الصوت منه إذا نقر كَالْفَخَّارِ يعني الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. فإن قلت قد اختلفت العبارات في صفة خلق الإنسان الذي هو آدم فقال تعالى من تراب وقال من حمإ مسنون وقال من طين لازب وقال من ماء مهين وقال هنا من صلصال كالفخار قلت ليس في هذه العبارات اختلاف بل المعنى متفق وذلك أن اللّه تعالى خلقه أولا من تراب ثم جعله طينا لازبا لما اختلط بالماء ثم حمأ مسنونا وهو الطين الأسود المنتن فلما يبس صار صلصالا كالفخار وَخَلَقَ الْجَانَّ وهو أبو الجن. وقيل هو إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ يعني الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه ، وقيل هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) ١٦٢٥فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ يعني مشرق الصيف وهو غاية ارتفاع الشمس ومشرق الشتاء وهو غاية انحطاط الشمس. وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يعني مغرب الصيف ومغرب الشتاء ، وقيل يعني مشرق الشمس ومشرق القمر ومغرب الشمس ومغرب القمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني أرسل البحرين العذب والملح متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين لأن من شأنهما الاختلاط وهو قوله : يَلْتَقِيانِ لكن اللّه تعالى منعهما عما في طبعهما بالبرزخ وهو قوله : بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة اللّه لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على صاحبه وقيل لا يختلطان ولا يتغيران وقيل لا يطغيان على الناس بالغرق وقيل مرج البحرين بحر الروم وبحر الهند وأنتم الحاجز بينهما وقيل بحر فارس والروم بينهما برزخ يعني الجزائر وقيل بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا قيل إنما يخرج من البحر الملح دون العذب فهو كقوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وقيل أراد يخرج من أحدهما فحذف المضاف وقيل لما التقى البحران فصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرج منهما كما يقال يخرج من البحر ولا يخرج من جميع البحر ولكن من بعضه وقيل يخرج من السماء وماء البحر قيل إذا أمطرت السماء تفتح الأصداف أفواهها فحيثما وقعت قطرة صارت لؤلؤة على قدر القطرة ، وقوله تعالى : اللُّؤْلُؤُ قيل هو ما عظم من الدر وَالْمَرْجانُ صغاره وقيل بعكس ذلك وقيل المرجان هو الخرز الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الكبار الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات التي يرفع خشبها بعضه على بعض وقيل هي ما رفع قلعها من السفن أما ما لم يرفع قلعها فليست من المنشآت وقيل معنى المنشآت المحدثات المخلوقات المسخرات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل شبه السفن في البحر بالجبل في البر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قوله عز وجل : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) ٢٦٣١كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من حيوان وإنما ذكره بلفظة من تغليبا للعقلاء فانٍ أي هالك لأن وجود الإنسان في الدنيا عرض فهو غير باق وما ليس بباق فهو فان ففيه الحث على العبادة وصرف الزمن اليسير إلى الطاعة وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يعني ذاته والوجه يعبر به عن الجملة. وفي المخاطب وجهان أحدهما أنه كل واحد والمعنى ويبقى وجه ربك أيها الإنسان السامع. والوجه الثاني : أنه يحتمل أن الخطاب مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذُو الْجَلالِ أي ذو العظمة والكبرياء ومعناه الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وَالْإِكْرامِ أي المكرم لأنبيائه وأوليائه وجميع خلقه بلطفه وإحسانه إليهم مع جلاله وعظمته فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) أخرجه الترمذي وقال الحاكم حديث صحيح الإسناد ومعنى ألظوا الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها. قوله تعالى : يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني من ملك وإنس وجن فلا يستغني عن فضله أهل السموات والأرض قال ابن عباس فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة وقيل كل أحد يسأل الرحمة وما يحتاج إليه في دينه أو دنياه وفيه إشارة إلى كمال قدرة اللّه تعالى وأن كل مخلوق وإن جل وعظم فهو عاجز عن تحصيل ما يحتاج إليه مفتقر إلى اللّه تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قيل نزلت ردا على اليهود حيث قالوا إن اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا قال المفسرون من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعز قوما ويذل قوما ويشفي مريضا ويمرض صحيحا ويفك عانيا ويفرج عن مكروب ويجيب داعيا ويعطي سائلا ويغفر ذنبا إلا ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء سبحانه وتعالى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال (إن مما خلق اللّه عز وجل لوحا من درة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور ينظر اللّه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى : كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال ابن عيينة الدهر كله عند اللّه يومان أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة أيام الدنيا الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب ، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت ومعناه إن اللّه عز وجل كتب ما يكون في كل يوم وقدر ما هو كائن فإذا جاء ذلك الوقت تعلقت إرادته بالفعل فيوجده في ذلك الوقت وقال أبو سليمان الداراني في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد بر جديد وقيل شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا وعسكرا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعا إلى اللّه تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ قيل هو وعيد من اللّه تعالى للخلق بالمحاسبة وليس هو فراغ عن شغل لأن اللّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن فهو كقول القائل لمن يريد تهديده لأتفرغن لك وما به شغل وهذا قول ابن عباس وإنما حسن ذكر هذا الفراغ لسبق ذكر الشأن وقيل معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم فهو كقول للقائل الذي لا شغل له قد فرغت لك وقيل معناه أن اللّه وعد أهل التقوى وأوعد أهل الفجور فقال سنفرغ لكم مما وعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم فننجز لكم ما وعدناكم فنتم ذلك ونفرغ منه فهو على طريق المثل وأراد بالثقلين الإنس والجن سميا ثقلين لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتا ، وقيل كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي) فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما وقال جعفر بن محمد الصادق سمي الإنس والجن ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) ٣٢٣٥فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا أي تخرجوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جوانبهما وأطرافهما فَانْفُذُوا أي فاخرجوا والمعنى إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السموات والأرض فاهربوا واخرجوا منها فحيثما كنتم يدرككم الموت وقيل يقال لهم هذا يوم القيامة والمعنى إن استطعتم أن تخرجوا من أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فاخرجوا وقيل معناه إن استطعتم أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكي ومن سمائي وأرضي فافعلوا وقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأنهم أقدر على النفوذ والهرب من الإنس وأقوى على ذلك ثم قال تعالى : لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ يعني لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر وغلبة وأني لكم ذلك لأنكم حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني وقال ابن عباس معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي بينة من اللّه تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وفي الخبر (يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادي) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية فذلك قوله تعالى : يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قال أكثر المفسرين هو اللهب الذي لا دخان فيه وقيل هو اللهب الأخضر المنقطع من النار وَنُحاسٌ وقيل هو الدخان وهو رواية عن ابن عباس وقيل هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم وهو الرواية الثانية عن ابن عباس وقال ابن مسعود النحاس المهل وقيل يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة وقيل يجوز أن يرسلا معا من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر فَلا تَنْتَصِرانِ أي فلا تمتنعان من اللّه ولا يكون لكم ناصر منه. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) ٣٦٤١فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انفرجت فصارت أبوابا لنزول الملائكة وقيل المراد منه خراب السماء وذلك لما قال كل من عليها فان إشارة إلى أهل الأرض ذكر في هذه الآية بيان حال سكان السماء وقيل فيه تهويل وتعظيم للأمر لأن فيه إشارة إلى ما هو أعظم من إرسال الشواظ على الإنس والجن وهو تشقق السماء وذوبانها وهو قوله تعالى : فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ جمع دهن شبه تلون السماء عند انشقاقها بتلون الفرس الورد وهو الأبيض الذي يضرب إلى الحمرة وقيل إن السماء تتلون يومئذ ألوانا كألوان الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي أول الشتاء أحمر فإذا اشتد البرد صار أغبر فشبه السماء في تلونها عند انشقاقها بهذا الفرس في تلونه وقيل كالدهان أي كعصير الزيت لأنه يتلون في الساعة ألوانا وقيل تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصلها حر جهنم وقيل كالدهان أي كالأديم الأحمر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قيل لا يسألون عن ذنوبهم لتعلم من جهتهم لأن اللّه تعالى علمها منهم وكتبتها الحفظة عليهم وهذه رواية عن ابن بعاس وعنه لا تسأل الملائكة المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم دليله ما بعده وعن ابن عباس أيضا في الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ قال لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتم كذا وكذا وقيل إنها مواطن فيسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها وعن ابن عباس أيضا قال لا يسألون سؤال شفقة ورحمة إنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وقيل لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ، يعني بسواد وجوههم وزرقة عيونهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قيل تجعل الأقدام مضمومة إلى النواصي من خلف ظهره وقيل تجعل رؤوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة وقيل يسحب بعضهم بالنواصي وبعضهم بالأقدام ثم يلقون في النار. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) ٤٢٤٦فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هذِهِ جَهَنَّمُ أي يقال لهم هذه جهنم ثم يلقون فيها الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يعني المشركين يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يعني قد انتهى حره أي أنهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآني الذي قد صار كالمهل وقال كعب الأحبار آن واد من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا فيلقون في النار فذلك قوله تعالى : يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن قلت هذه الأمور المذكورة في هذه الآيات من قوله : كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ إلى هنا ليست نعما فكيف عقبها بقوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. قلت المذكور في هذه الآيات مواعظ وزواجر وتخويف وكل ذلك نعمة من اللّه تعالى لأنها تزجر العبد عن المعاصي فصارت نعما فحسن ختم كل آية منها بقوله تعالى : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم ذكر ما أعده لمن اتقاه وخافه من عباده المؤمنين فقال تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يعني مقامه بين يدي ربه للحساب فترك الشهوة والمعصية وقيل قيام ربه عليه يعني اطلاعه عليه وهو الذي يهم بالمعصية فيذكر اللّه واطلاعه عليه فيدعها من مخافة اللّه وقيل لمن راقب اللّه في السر والعلانية بعمله فما عرض له من محرم تركه من خشيته وما عمل من خير أخلصه للّه ولا يحب أن يطلع عليه أحد قيل إن المؤمنين خافوا ذلك المقام فعملوا للّه مع الإخلاص ودأبوا الليل والنهار جَنَّتانِ يعني جنة عدن وجنة نعيم وقيل جنة بخوفه ربه وجنة بتركه شهوته. عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة اللّه غالية ألا إن سلعة اللّه الجنة) أخرجه الترمذي قوله أدلج الإدلاج مخففا سير أول الليل ومثقلا سير آخر الليل والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أول الأمر فإن من سار أول الليل كان جديرا ببلوغ المنزل وروى البغوي بسنده عن أبي ذر (أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقص على المنبر وهو يقول ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت وإن زنى وإن سرق؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يا رسول اللّه؟ فقال وإن زنى وإن سرق ثم قال ولمن خاف مقام ربه جنتان فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يا رسول اللّه؟ فقال وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر). فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) ٤٧٥٤فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى : ذَواتا أَفْنانٍ أي أغصان واحدها فنن وهو الغصن المستقيم طولا وقيل ذواتا ظلال وهو ظل الأغصان على الحيطان ، وقال ابن عباس ذواتا ألوان يعني ألوان الفواكه وجمع عطاء بين القولين فقال في كل غصن فنون من الفاكهة وقيل ذواتا فضل وسعة على ما سواهما ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس بالكرامة والزيادة لأهل الجنة وقيل تجريان بالماء الزلال إحداهما التسليم والأخرى السلسبيل وقيل إحداهما من ماء غير آسن والأخرى من خمر لذة للشاربين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي صنفان ونوعان وقيل معناه إن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا قال ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها جمع بطانة والتي تلي الأرض من تحت الظهارة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ من الديباج قال ابن مسعود وأبو هريرة هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر وقيل لسعيد بن جبير البطائن من إستبرق فما الظهائر؟ قال هي مما قال اللّه تعالى : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، وعنه أيضا قال بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد وقال ابن عباس وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظواهر وقيل ظواهرها من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم وهذا يدل على نهاية شرف هذه الفرش لأنه ذكر أن بطائنها من الإستبرق ولا بد أن تكون الظهائر خيرا من البطائن فهو مما لا يعلمه البشر ، وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ يعني أن ثمرهما قريب يناله القائم والقاعد والنائم وهذا بخلاف ثمر الدنيا فإنها لا تنال إلا بكدّ وتعب قال ابن عباس تدنو الشجرة حتى يجنيها ولي اللّه إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وقيل لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) ٥٥٥٨فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ فإن قلت الضمير إلى ماذا يعود؟ قلت إلى الجنتين وإنما جمع بقوله فيهن لاشتمال الجنتين على مساكن وقصور ومجالس قاصِراتُ الطَّرْفِ أي غاضات الأعين قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم ولا يردن سواهم قيل تقول الزوجة لزوجها وعزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك فالحمد للّه الذي جعلك زوجي وجعلني زوجتك لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي لم يجامعهن ولم يفرعهن والمعنى لم يدمهن بالجماع وقيل معناه لم يمسهن ومنه قول الفرزدق : خرجن إلي لم يطمثن قبل وهن أصح من بيض النعام أي لم يمسسني والمعنى لم يطأهن ولم يغشهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ أي قبل أزواجهن من أهل الجنة ، وَلا جَانٌّ قيل إنما نفي الجن لأن لهم أزواجا في الجنة منهم وفي الآية دليل على أن الجني يغشى كما يغشى الإنسي وسئل ضمرة بن حبيب هل للجن ثواب؟ فقال نعم وقرأ هذه الآية ثم قال الإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال مجاهد في هذه الآية إذا جامع ولم يسم انطوى الجني على إحليله فجامع معه واختلف في هؤلاء اللواتي لم يطمثن فقيل هن الحور العين لأنهن خلقن في الجنة فلم يمسهن أحد قبل أزواجهن وقيل إنهن من نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا كما وصفهن. لم يمسهن منذ أنشئن خلقا آخر أحد وقيل هن الآدميات اللاتي متن أبكارا ومعنى الآية المبالغة في نفي الطمث عنهن لأن ذلك أقر لأعين أزواجهن إذا لم يغشهن أحد غيرهم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان وهو صغار اللؤلؤ وأشده بياضا وقيل شبه لونهن ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأن أحسن الألوان البياض المشوب بحمرة والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه لأنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه وقال عمرو بن ميمون إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها وذلك لأن اللّه تعالى يقول كأنهن الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه أخرجه الترمذي قال وقد روي عن ابن مسعود بمعناه ولم يرفعه وهو أصح (ق) عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر زاد في رواية ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب رجل واحد يسبحون اللّه بكرة وعشيا ، وللبخاري قلوبهم على قلب رجل واحد وزاد فيه ولا يسقمون قوله مجامرهم الألوة يعني بخورهم العود. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) ٥٩٦٦فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ أي ما جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة وقال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا اللّه وعمل بما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلا الجنة. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه قال قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ، وروى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال في هذه الآية يقول اللّه عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي ، وقيل في معنى الآية هل جزاء من أتى بالفعل الحسن إلا أن يؤتى في مقابلته بفعل حسن وفي الآية إشارة إلى رفع التكليف في الآخرة لأن اللّه وعد المؤمنين بالإحسان وهو الجنة فلو بقي التكليف في الآخرة وتركه العبد لاستحق العقاب على ترك العمل والعقاب ترك الإحسان إليه فلا تكليف فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ أي ومن دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان وقال ابن عباس من دونهما في الدرج وقيل في الفضل وقال أبو موسى الأشعري جنتان من ذهب للسابقين وجنتان من فضة للتابعين وقال ابن جريج هن أربع جنان : جنتان للمقربين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان ، (ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن وقال الكناني ومن دونهما جنتان يعني أمامهما وقبلهما يدل عليه قول الضحاك الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والجنتان الأخريان من ياقوت وزبرجد وهما أفضل من الأوليين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ثم وصف الجنتين فقال تعالى : مُدْهامَّتانِ أي سوداوان من ريهما وشدة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي فوارتان بالماء لا ينقطعان وقال ابن عباس والضحاك ينضخان بالخير والبركة على أهل الجنة وقال ابن مسعود ينضخان بالمسك والكافور على أولياء اللّه وقال أنس بن مالك ينضخان بالمسك والعنبر في دور أهل الجنة كطش المطر. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) ٦٧٧٦فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ يعني فيهما من أنواع الفواكه كلها وإنما عطف النخل والرمان بالواو وإن كانا من جملة الفواكه تنبيها على فضلهما وشرفهما على سائر الفواكه وعلى هذا القول عامة المفسرين وأهل اللغة قالوا إنما فضلهما بالذكر للتخصيص والتفضيل فهو كقوله من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال خصهما بالذكر وإن كان من جملة الملائكة لشرفهما وفضلهما وقيل بعضهم ليس النخل والرمان من الفواكه لأن ثمرة النخل فاكهة وطعام وثمرة الرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ولهذا قال أبو حنيفة إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطبا أو رمانا لم يحنث وخالفه صاحباه وهذا القول خلاف قول أهل اللغة ولا حجة له في الآية وروى البغوي بسنده عن ابن عباس موقوفا قال نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرمها ذهب أحمر وسعفها كسوة لأهل الجنة منها حللهم وثمرها مثل القلال أو الدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد ليس له عجم وروي أن الرمانة من رمان الجنة مثل البعير المقتب وقيل إن نخل أهل الجنة نضيد وثمرها كالقلال كلما نزعت منها واحدة عادت مكانها أخرى العنقود منها اثني عشر ذراعا ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي في الجنان الأربع خَيْراتٌ حِسانٌ روي عن أم سلمة قالت قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أخبرني عن قوله خيرات حسان قال خيرات الأخلاق حسان الوجوه ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ أي مخدرات مستورات لا يخرجن لكوامتهن وشرفهن روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال (لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأت ما بينهما ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) وقيل قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا فِي الْخِيامِ قيل هي البيوت. قال ابن الأعرابي الخيمة لا تكون إلا من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام ويقال خيم فلان خيمة إذا بناها من جريد النخل وخيم بها إذا قام بها وتظلل فيها وقيل كل خيامها من در ولؤلؤ وزبرجد مجوف تضاف إلى القصور في الجنة. (ق) عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء وفي رواية عرضها ستون ميلا للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ تقدم تفسيره ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ قيل الرفرف رياض الجنة خضر مخصبة ويروى هذا عن ابن عباس وقيل إن الرفرف البسط ، وعن ابن عباس الرفرف فضول المجالس والبسط منه وقيل هي مجالس خضر فوق الفرش وقيل هي المرافق وقيل الزرابي وقيل كل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ قيل هي الزرابي والطنافس الثخان وقيل هي الطنافس الرقاق وقيل كل ثوب موشى عند العرب فهو عبقري وقال الخليل كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم فهو عبقري عند العرب ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في عمر (فلم أر عبقريا يفري فريه) وأصل هذا فيما قيل إنه نسب إلى عبقر وهي أرض يسكنها الجن فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع عجيب وذلك أن العرب تعتقد في الجن كل صفة عجيبة وأنهم يأتون بكل أمر عجيب ولما كانت عبقر معروفة بسكنى الجن نسبوا إليها كل شيء عجيب بديع. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨) ٧٧٧٨فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قيل لما ختم نعم الدنيا بقوله (و يبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) وفيه إشارة إلى أن الباقي هو اللّه تعالى وأن الدنيا فانية ختم نعمة الآخرة بهذه الآية وهو إشارة إلى تمجيده وتحميده (م) عن ثوبان قال (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) وعن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سلم من الصلاة لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) أخرجه أبو داود والنسائي غير قولها لم يقعد إلا مقدار ما يقول واللّه أعلم بمراده. |
﴿ ٠ ﴾