سورة الحديد

مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥)

١

٥

قوله عز وجل : سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني كل ذي روح وغيره يسبح اللّه تعالى فتسبيح العقلاء تنزيهاللّه عز وجل عن كل سوء وعما لا يليق بجلاله وتسبيح غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه فقيل تسبيحه دلالته على صانعه فكأنه ناطق بتسبيحه

وقيل تسبيحه بالقول يدل عليه قوله (و لكن لا تفقهون تسبيحهم) أي قولهم والحق أن التسبيح هو القول الذي لا يصدر إلا من العاقل العارف باللّه تعالى وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان

أحدهما أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه

والثاني أن جميع الموجودات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء فإن حملنا التسبيح المذكور في الآية على القول كان المراد بقوله ما في السموات والأرض من في السموات وهم الملائكة ومسبحي الأرض وهم المؤمنون العارفون باللّه وإن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس وقمر ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبال وبحار وشجر ودواب وغيره ذلك كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال عظمة اللّه جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء.

فإن قلت قد جاء في بعض فواتح السور سبح بلفظ الماضي وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع فما معناه.

قلت فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء مسبحا للّه أبدا غير مختص بوقت دون وقت بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي وستكون مسبحة أبدا في المستقبل وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الكامل القدرة الذي لا ينازعه شيء ، الْحَكِيمُ أي الذي جميع أفعاله على وفق الحكمة والصواب لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه الغني عن جميع خلقه وكلهم محتاجون إليه ، يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يحيي الأموات للبعث ويميت الأحياء في الدنيا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

قوله عز وجل : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان هو ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل أحد بلا انتهاء يفني الأشياء ويبقى هو والظاهر الغالب العالي على كل شيء والباطن العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس

وقيل هو الأول بوجوده ليس قبله شي ء

والآخر ليس بعده شيء

وقيل هو الأول بوجوده في الأزل

وقيل الابتداء والآخر بوجوده في الأبد وبعد الانتهاء والظاهر بالدلائل الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن العقول أن تكيفه ،

وقيل هو الأول الذي سبق وجوده كل موجود والآخر الذي يبقى بعد كل مفقود وقال الإمام أبو بكر بن الباقلاني معناه أنه تعالى الباقي بصفاته من العلم والقدرة وغيرهما التي كان عليها في الأزل ، ويكون كذلك بعد موت الخلائق وذهاب علومهم وقدرهم وحواسهم وتفرق أجسامهم قال وتعلقت المعتزلة بهذا الاسم فاحتجوا لمذهبهم في فناء الأجسام وذهابها بالكلية قالوا معناه أنه الباقي بعد فناء خلقه ومذهب أهل الحق يعني أهل السنة بخلاف ذلك وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم كما يقال آخر من بقي من بني فلان فلان يراد حياته ولا يراد فناء أجسام موتاه وذهابها بالكلية هذا آخر كلام ابن الباقلاني ،

وقيل هو الأول السابق للأشياء والآخر الباقي بعد فناء الأحياء والظاهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة الزاهرة وشواهده الدالة على وحدانيته والباطن الذي احتجب عن أبصار الخلق فلا تستوي عليه الكيفية

وقيل هو الأول القديم والآخر الرّحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم ،

وقيل هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك طريق التوبة عما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذا عصيت يستر عليك ، وقال الجنيد هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه الظاهر كعلمه بالباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ

(م) عن سهيل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول (اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل

التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شرك كل شيء أنت آخذ بناصيته)

وفي رواية (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعن أبي هريرة أيضا قال (بينما النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتدرون ما هذا؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها اللّه تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال بينكم وبينها خمسمائة سنة ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال سماءان بعد ما بينهما خمسمائة سنة حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض ، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال

فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على اللّه ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب قال الترمذي قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث إنما أراد لهبط على علم اللّه وقدرته وسلطانه وعلم اللّه وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه.

العنان اسم للسحاب ومعنى روايا الأرض الحوامل والرقيع اسم للسماء

وقيل هو اسم لسماء الدنيا

قوله عز وجل : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها تقدم تفسيره وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ أي بالعلم والقدرة فليس ينفك أحد من تعليق علم اللّه تعالى وقدرته أينما كان من أرض أو سماء برا وبحرا

وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة.

وقوله تعالى : وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يدل على صحة

القول الأول ، لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)

٦

١٠

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تقدم تفسيره.

قوله تعالى : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لما ذكر أنواعا من الدلائل الدالة على التوحيد والعلم والقدرة شرع يخاطب كفار قريش ويأمرهم بالإيمان باللّه ورسوله ويأمرهم بترك الدنيا والإعراض عنها والنفقة في جميع وجوه البر وهو

قوله تعالى : وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني المال الذي كان بيد غيركم فأهلكهم وأعطاكم إياه فكنتم في ذلك المال خلفاء عمن مضى فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ يعني وأي عذر لكم في ترك الإيمان باللّه والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج ، وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ أي أخذ اللّه ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام بأن اللّه ربكم لا إله لكم سواه

وقيل أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج التي تدعو إلى متابعة الرسول ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي يوما ما فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وهو

قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن لِيُخْرِجَكُمْ يعني اللّه بالقرآن

وقيل الرسول بالدعوة مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

قوله تعالى : وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقول أي شيء لكم في ترك الإنفاق فيما يقربكم من اللّه تعالى وأنتم ميتون تاركون أموالكم لغيركم فالأولى أن

تنفقوها أنتم فيما يقربكم إلى اللّه تعالى وتستحقون به الثواب ثم بين فضل من سبق بالإنفاق في سبيل اللّه وبالجهاد

فقال تعالى : لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ يعني فتح مكة في قول أكثر المفسرين

وقيل هو صلح الحديبية ، والمعنى لا يستوي في الفضل من أنفق ماله وقاتل العدو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل فتح مكة مع من أنفق ماله وقاتل بعد الفتح أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا قال الكلبي إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله في سبيل اللّه وذهب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال عبد اللّه بن مسعود أول من أظهر إسلامه سبع منهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكر وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال (كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فقال أنفق ماله على قبل الفتح قال فإن اللّه عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا أبا بكر إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض) وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة قال عطاء درجات الجنة

تتفاضل فالذين أنفقوا قبل الفتح في أفضلها ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)

١١

١٣

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا محتسبا بالصدقة طيبة بها نفسه وسمي هذا الإنفاق قرضا من حيث إنه وعد به الجنة تشبيها بالقرض قال بعض العلماء القرض لا يكون حسنا حتى تجمع فيه أوصاف عشرة وهي أن يكون المال من الحلال وأن يكون من أجود المال وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها وأن تكتم الصدقة ما أمكنك وأن لا تتبعها بالمن والأذى وأن تقصد بها وجه اللّه ولا ترائي بها الناس وأن تستحقر ما تعطي وتتصدق به وإن كان كثيرا وأن يكون من أحب أموالك إليك وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة أوصاف إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضا حسنا ، فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعني يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا ، وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يعني وذلك الأجر كريم في نفسه.

قوله عز وجل : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يعني على الصراط يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي عن أيمانهم

وقيل أراد جميع الجوانب فعبر بالبعض عن الكل وذلك دليلهم إلى الجنة ، وقال قتادة ذكر لنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه) وقال عبد اللّه بن مسعود يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا من نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويوقد مرة

وقيل في معنى الآية يسعى نورهم بين أيديهم أي يعطون كتبهم بأيمانهم وتقول لهم الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ أي نستضيء من نوركم قيل تغشى الناس ظلمة شديدة يوم القيامة فيعطي اللّه المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم فبينما هم يمشون إذ بعث اللّه ريحا وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك

قوله تعالى يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين

وقيل بل يستضيئون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون بقوا في الظلمة وقالوا للمؤمنين انظرونا نقتبس من نوركم ، قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون

وقيل يقول لهم الملائكة ارجعوا وراءكم من حيث جئتم

وقيل ارجعوا إلى الدنيا فاعملوا فيها أعمالا يجعلها

اللّه لكم نورا

وقيل معناه لا نور لكم عندنا فارجعوا وراءكم فَالْتَمِسُوا أي اطلبوا لأنفسكم هناك نُوراً أي لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا فيرجعون في طلب النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم ليلقوهم فيميز بينهم وبين المؤمنين فذلك

قوله تعالى : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ وهو حائط بين الجنة والنار لَهُ أي لذلك السور بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي في باطن ذلك السور الرحمة وهي الجنة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ أي من قبل ذلك الظاهر العذاب وهو النار وروي عن عبد اللّه بن عمر قال إن السور الذي ذكر في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم وقال ابن شريح كان كعب يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال اللّه تعالى : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الآية.

يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥)

١٤

١٥

يُنادُونَهُمْ يعني ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم وبقوا في الظلمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي في الدنيا نصلي ونصوم قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة وَتَرَبَّصْتُمْ أي بالإيمان والتوبة

وقيل تربصتم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي الأباطيل وذلك ما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت

وقيل هو إلقاؤهم في النار وه

وقوله تعالى : وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني الشيطان قال قتادة ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم اللّه في النار فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ أي عوض وبدل بأن تفدوا أنفسكم من العذاب

وقيل معناه لا يقبل منكم إيمان ولا توبة وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين وإنما عطف الكفار على المنافقين وإن كان المنافق كافرا في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق مَأْواكُمُ النَّارُ أي مصيركم ، هِيَ مَوْلاكُمْ أي وليكم

وقيل هي أولى بكم لما أسلفتم من الذنوب والمعنى هي التي تلي عليكم لأنها ملكت أمركم وأسلمتم إليها فهي أولى بكم من كل شيء

وقيل معنى الآية لا مولى لكم ولا ناصر لأن من كانت النار مولاه فلا مولى له وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨)

١٦

١٨

قوله تعالى : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قيل نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي ذات يوم حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فأخبرهم أن القرآن أحسن من غيره فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء اللّه ثم عادوا فسألوه مثل ذلك فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية فكفوا عن سؤاله ما شاء اللّه ثم عادوا فسألوه فنزلت هذه الآية فعلى هذا القول يكون تأويل قوله : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني في العلانية باللسان ولم يؤمنوا بالقلب ،

وقيل نزلت في المؤمنين وذلك أنهم لما قدموا المدينة أصابوا من لين العيش ورفاهيته ففتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا ونزل في ذلك ألم يأن للذين آمنوا الآية قال ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية إلا أربع سنين أخرجه مسلم وقال ابن عباس إن اللّه تعالى استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال ألم يأن يعني أما حان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم أي ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر اللّه أي لمواعظ اللّه وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني اليهود والنصارى ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ القرآن والمعنى أن اللّه نهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر روي عن أبي موسى الأشعري أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا

القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم قاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد صلّى اللّه عليه وسلّم

قوله عز وجل : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ أي بالمطر بَعْدَ مَوْتِها أي يخرج منها النبات بعد يبسها فكذلك يقدر على إحياء الموتى وقال ابن عباس يلين القلوب بعد قسوتها فيجعلها مخبتة منيبة وكذلك يحيي القلوب الميتة بالعلم والحكمة وإلا فقد علم إحياء الأرض بالمطر مشاهدة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي بالنفقة والصدقة في سبيل اللّه يُضاعَفُ لَهُمْ أي ذلك القرض وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي ثواب حسن وهو الجنة.

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠)

١٩

٢٠

وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ أي الكثير والصدق قال مجاهد كل من آمن باللّه ورسوله فهو صديق وتلا هذه الآية فعلى هذا الآية عامة في كل من آمن باللّه ورسوله

وقيل إن الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه اللّه بهم لما عرف من صدق نيته ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قيل أراد بالشهداء المؤمنين المخلصين قال مجاهد كل مؤمن صديق شهيد وتلا هذه الآية

وقيل هم التسعة الذين تقدم ذكرهم

وقيل تم الكلام عند قوله هم الصديقون ثم ابتدأ والشهداء عند ربهم وهم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس

وقيل هم الذين استشهدوا في سبيل اللّه ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ أي بما عملوا من العمل الصالح وَنُورُهُمْ يعني على الصراط وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بحال الكافرين.

قوله عز وجل : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي مدة الحياة في هذه الدار الدنيا وإنما أراد من صرف حياته في غير طاعة اللّه فحياته مذمومة ومن صرف حياته في طاعة اللّه فحياته خير كلها ثم وصفها بقوله لَعِبٌ أي باطل لا حاصل له كلعب الصبيان وَلَهْوٌ أي فرح ساعة ثم ينقضي عن قريب وَزِينَةٌ أي منظر يتزينون به وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ يعني إنكم تشتغلون في حياتكم بما يفتخر به بعضكم على بعض وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد

وقيل بجمع ما لا يحل له فيتطاول بماله وخدمه وولده على أولياء اللّه تعالى وأهل طاعته ثم ضرب لهذه الحياة مثلا

فقال تعالى : كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع إنما سمي الزراع كفارا لسترهم الأرض بالبذر نَباتُهُ أي ما نبت بذلك الغيث ثُمَّ يَهِيجُ أي ييبس فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي بعد خضرته ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي يتحطم ويتكسر بعد يبسه ويفنى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن كانت حياته بهذه الصفة قال أهل المعاني زهد اللّه بهذه الآية في العمل للدنيا وهذه صفة حياة الكافرين وحياة من يشتغل باللعب واللهو ورغب في العمل للآخرة بقوله : وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي لأوليائه وأهل طاعته

وقيل عذاب شديد لأعدائه ومغفرة من اللّه ورضوان لأوليائه لأن الآخرة إما عذاب

وإما جنة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي لمن عمل لها ولم يعمل للآخرة فمن اشتغل في الدنيا بطلب الآخرة فهي له بلاغ إلى ما هو خير منه

وقيل متاع الغرور لمن لم يشتغل فيها بطلب الآخرة.

سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥)

٢١

٢٥

قوله عز وجل : سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ معناه لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة والمعنى سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة أي إلى ما يوجب المغفرة وهي التوبة من الذنوب

وقيل سابقوا إلى ما كلفتم به من الأعمال فتدخل فيه التوبة وغيرها ، وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ قيل إن السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعا وقال ابن عباس إن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة

وقيل إن اللّه تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات والأرضين ولا شك أن الطول يكون أزيد من العرض فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك

وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في نفوسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بعرض السموات والأرض على ما يعرفه الناس ، أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيه أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن باللّه ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئا آخر يدل عليه قوله في سياق الآية ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل اللّه تعالى لا بعمله ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

(ق) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني اللّه بفضل رحمته) وقد تقدم الكلام على معنى هذا الحديث والجمع بينه وبين قوله ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون في تفسير سورة النحل.

قوله تعالى : ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ يعني عدم المطر وقلة النبات ونقص الثمار ، وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني الأمراض وفقد الأولاد إِلَّا فِي كِتابٍ يعني في اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي من قبل أن نخلق الأرض والأنفس وقال ابن عباس من قبل أن نبرأ المصيبة إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي إثبات ذلك على كثرته هين على اللّه عز وجل : لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا وَلا تَفْرَحُوا أي لا تبطروا بِما آتاكُمْ أي أعطاكم قال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا قال صاحب الكشاف : إن قلت ما من أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح قلت المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر اللّه ورجاء ثواب الصابرين والفرح المطغي الملهي عن الشكر فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة اللّه والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما واللّه أعلم وقال جعفر بن محمد الصادق يا ابن آدم ما لك تأسف على مفقود لا يرده إليك الفوت وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متكبر بما أوتي من الدنيا فَخُورٍ أي بذلك الذي أوتي على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قيل هذه الآية متعلقة بما قبلها والمعنى واللّه لا يحب الذين يبخلون يريد إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم

يبخلون به ولا ينفقونه في سبيل اللّه ووجوه الخير ولا يكفيهم أنهم بخلوا به حتى يأمروا الناس بالبخل

وقيل إن الآية كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله وإنها في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وبخلوا ببيان نعته وَمَنْ يَتَوَلَّ قال ابن عباس عن الإيمان فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن عباده الْحَمِيدُ أي إلى أوليائه.

قوله عز وجل : لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالدلالات والآيات والحجج وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي المتضمن للأحكام وشرائع الدين وَالْمِيزانَ يعني العدل أي وأمرنا بالعدل

وقيل المراد بالميزان هو الآلة التي يوزن بها وهو يرجع إلى العدل أيضا وهو قوله لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي ليتعاملوا بينهم بالعدل ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قيل إن اللّه تعالى أنزل مع آدم عليه الصلاة والسلام لما أهبط إلى الأرض السندان والمطرقة والكلبتين وروي عن ابن عمر يرفعه (إن اللّه أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض الحديد والنار والماء والملح)

وقيل أنزلنا هنا بمعنى أنشأنا وأحدثنا الحديد وذلك أن اللّه تعالى أخرج لهم الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه وإلهامه ، فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهي آلة الضرب وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي ومنه ما ينتفعون به في مصالحهم كالسكين والفأس والإبرة ونحو ذلك ، إذ الحديد آلة لكل صنعة فلا غنى لأحد عنه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ أي وأرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق والعدل وليرى اللّه مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي الذين لم يروا اللّه ولا الآخرة وإنما يحمد ويثاب من أطاع بالغيب وقال ابن عباس ينصرونه ولا يبصرونه إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ في أمره عَزِيزٌ في ملكه.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)

٢٦

٢٧

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ معناه أنه تعالى شرف نوحا وإبراهيم بالرسالة وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب فلا يوجد نبي إلا من نسلهما فَمِنْهُمْ أي من الذرية مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا أي اتبعنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا والمعنى بعثنا رسولا بعد رسول إلى أن انتهت الرسالة إلى عيسى ابن مريم وهو

قوله تعالى : وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي على دينه ، رَأْفَةً وَرَحْمَةً يعني أنهم كانوا متوادين بعضهم لبعض ، وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ليس هذا عطفا على ما قبله والمعنى أنهم جاءوا بها من قبل أنفسهم وهي ترهبهم في الجبال والكهوف والغيران والديرة فروا من الفتنة وحملوا أنفسهم المشاق في العبادة الزائدة وترك النكاح واستعمال الخشن في المطعم والمشرب والملبس مع التقلل من ذلك ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ أي ما فرضناها نحن عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ أي لكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها يعني أنهم يرعوا تلك الرهبانية حق رعايتها بل ضيعوها وضموا إليها التثليث والاتحاد وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملوكهم وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فآمنوا به فذلك

قوله تعالى : فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم الذين ثبتوا على الدين الصحيح ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى صلّى اللّه عليه وسلّم وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا ابن مسعود (اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرهن : فرقة وازت

الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى فساحوا في البلاد وترهبوا وهم الذين قال اللّه عز وجل فيهم ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) قال صلّى اللّه عليه وسلّم (من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها

حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون). وعنه قال كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علىحمار فقال لي (يا ابن أم عبد هل تدري من أين أخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟

قلت اللّه ورسوله أعلم قال ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منم إلا القليل فقالوا إن ظهرنا لهؤلاء فتنونا ولم يبق أحد يدعو إليه تعالى فتعالوا لنتفرق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبي الذي وعدنا عيسى به- يعنون محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها إلى فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أي من الذين ثبتوا عليها أجرهم ثم قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي؟

قلت اللّه ورسوله أعلم قال الهجرة والصلاة والجهاد والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع) ، وروي عن أنس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل اللّه) وعن ابن عباس قال (كانت ملوك بعد عيسى عليه الصلاة والسلام بدلوا التوراة والإنجيل وكان فيهم جماعة مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين اللّه فقيل لملوكهم لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا فقالت طائفة منهم ابنوا لنا اسطوانا ثم ارفعونا فيه ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وطائفة قالت دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا.

وقالت طائفة منهم ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول ولا نرد عليكم ولا نمر عليكم وليس أحد من القبائل إلا وله حميم فيهم قال ففعلوا ذلك فمضى أولئك على منهاج عيسى وخلف قوم من بعدهم ممن غيروا الكتاب فجعل

الرجل يقول نكون في مكان فلان نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قول اللّه عز وجل : وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها يعني ابتدعها الصالحون فما رعوها حق رعايتها يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني الذين ابتدعوها ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين جاءوا من بعدهم فلما بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال اللّه تعالى :

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)

٢٨

٢٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أجرين بإيمانهم بعيسى وبالتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقهم له وقال وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ القرآن واتباعهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقال لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الذين يتشبهون بكم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الآية أخرجه النسائي موقوفا على ابن عباس وقال قوم انقطع الكلام عند قوله ورحمة ثم قال ورهبانية ابتدعوها وذلك أنهم تركوا الحق فأكلوا الخنزير وشربوا الخمر وتركوا الوضوء والغسل من الجنابة والختان ، (فما رعوها) يعني الملة والطاعة حق رعايتها كناية عن غير مذكور فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وهم أهل الرأفة والرحمة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ وهم الذين غيروا وبدلوا وابتدعوا الرهبانية ويكون معنى قوله : ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ على هذا التأويل : ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ولكن ابتغاء رضوان اللّه وابتغاء رضوان اللّه اتباع ما أمر به دون الترهب لأنه لم يأمر به.

قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الخطاب لأهل الكتابين من اليهود والنصارى يعني يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا اللّه في محمد وآمنوا به وهو

قوله تعالى : وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يعني بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم يُؤْتِكُمْ

كِفْلَيْنِ أي نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ يعني يؤتكم أجرين لإيمانكم بعيسى والإنجيل وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والقرآن

(ق) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق اللّه ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) ، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني على الصراط وقال ابن عباس : النور هو القرآن

وقيل هو الهدى والبيان أي يجعل لكم سبيلا واضحا في الدين تهتدون به وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ قيل لما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ ، قالوا للمسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وكتابنا ومن لم يؤمن فله أجر كأجركم فما فضلكم علينا فنزل لِئَلَّا يَعْلَمَ أي ليعلم ولا صلة أهل الكتاب يعني الذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم وحسدوا المؤمنين أَلَّا يَقْدِرُونَ يعني أنهم لا يقدرون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ والمعنى جعلنا الأجرين لمن آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليعلم الذين لم يؤمنوا به أنهم لا أجر لهم ولا نصيب من فضل اللّه

وقيل لما نزل في مسلمي أهل الكتاب أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ افتخروا على المسلمين بزيادة الأجر فشق ذلك على المسلمين فنزل لئلا يعلم أهل الكتاب يعني المؤمنين منهم أن لا يقدرون على شيء من فضل اللّه ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يعني الذي خصكم به فإنه فضلكم على جميع الخلائق

وقيل يحتمل أن يكون الأجر الواحد أكثر من الأجرين

وقيل

قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبي يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فأنزل هذه الآية فعلى هذا يكون فضل اللّه النبوة يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم وهو قوله وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أي في ملكه وتصرفه يؤتيه من يشاء لأنه قادر مختار ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

(خ) عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو قائم على المنبر يقول (إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قراطين قيراطين فقال أهل الكتابين أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا ونحن أكثر عملا قال اللّه تعالى هل ظلمتكم من أجركم شيئا قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء)

وفي رواية (إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى غروب الشمس ألا لكم الأجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال اللّه عز وجل وهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال فإنه فضلي أصيب به من شئت) أي أعطيه من شئت

(خ) عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال

لهم لا تفعلوا اعملوا بقية يومكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال اعملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال أكملوا بقية عملكم فإن ما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور) واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

﴿ ٠