سورة الصف

وفيها قولان :

أحدهما أنها مدنية وهو قول ابن عباس والجمهور.

والثاني أنها مكية وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)

١

٢

قوله عز وجل : سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ قيل سبب نزولها ما روي عن عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه قال (قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملنا فأنزل اللّه تعالى سبح للّه ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد اللّه بن سلام فقرأها علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى اللّه لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل اللّه عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا وأنزل اللّه هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل اللّه تعالى لم تقولون ما لا تفعلون

وقيل لما أخبر اللّه تعالى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم اللّه بهذه الآية

وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية

وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون.

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)

٣

٦

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أي عظم بغضا عند اللّه أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئا ولم يفوا به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا أي يصفون أنفسهم عند القتال صفا ولا يزولون عن أماكنهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه

الحديث (تراصوا في الصف) ومعنى الآية إن اللّه يحب من يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص.

قوله تعالى : وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي قيل : إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا اللّه جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ يعني تؤذونني وأنتم عالمون علما قطعيا أني رسول اللّه إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي فَلَمَّا زاغُوا أي عدلوا ومالوا عن الحق أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي أمالها عن الحق إلى غيره وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ

أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب اللّه وأنبيائه جميعا ممن قد تقدم وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال اسْمُهُ أَحْمَدُ عن أبي موسى قال (أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصحابه أن يأتوا النجاشي) وذكر الحديث ، وفيه قال سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه) أخرجه أبو داود وعن عبد اللّه بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلّى اللّه عليه وسلّم يا روح اللّه هل بعدنا من أمة؟ قال نعم (١) يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من اللّه باليسير من الرزق ويرضى اللّه منهم باليسير من العمل

(ق) عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو اللّه بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي يوم القيامة وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي وقد سماه اللّه تعالى رؤوفا رحيما) وأحمد يحتمل معنيين

أحدهما أنه مبالغة من الفاعل ومعناه أن الأنبياء كلهم حمادون للّه عز وجل وهو أكثر حمدا للّه من غيره

والثاني أنه مبالغة من المفعول ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها من غيره ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قيل هو عيسى صلّى اللّه عليه وسلّم

وقيل هو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم قالُوا

هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١)

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)

٧

١٤

(١) قوله قال نعم إلخ كذلك في نسخة وفي أخرى قال نعم أمة أحمد حكماء ا ه من هامش.

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي ومن أقبح ظلما ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على اللّه وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن اللّه ثم كفروا به وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ معنى الآية أي الناس أشد ظلما ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على اللّه بقوله هذا سحر مبين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ،

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه عز وجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا اللّه عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة

فقال تعالى : تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ هذا جواب قوله تؤمنون باللّه ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا باللّه وجاهدوا في سبيل اللّه أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم وَ

يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم ، وَأُخْرى تُحِبُّونَها أي ولكم تجارة أخرى

وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الخصلة نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة

وقيل فتح مدائن فارس والروم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين

فقال تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أي مع اللّه والمعنى انصروا دين اللّه كما نصر الحواريون دين اللّه لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى اللّه قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وكانوا اثني عشر رجلا أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم (حواري) الزبير فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان اللّه فارتفع وفرقة قالوا كان ابن اللّه فرفعه وفرقة قالوا كان عبد اللّه ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك

قوله تعالى : فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أي غالبين

وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أن عيسى روح اللّه وكلمته واللّه أعلم بمراده وأسرار كتابه.

﴿ ٠