٢

٤

ما أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هذا جواب القسم أقسم اللّه بنون والقلم وما يسطرون وما أنت بنعمة ربك بمجنون وهو رد لقولهم يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ والمعنى إنك لا تكون مجنونا قد أنعم اللّه عليك بالنبوة والحكمة فنفى عنه الجنون

وقيل معناه ما أنت بمجنون والنعمة للّه وهو كما يقال ما أنت بمجنون والحمد للّه

وقيل إن نعمة اللّه كانت ظاهرة عليه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والأخلاق الحميدة والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينفي حصول الجنون فنبه اللّه تعالى بهذه الآية على كونهم كاذبين في قولهم إنك لمجنون وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير منقوص ولا مقطوع ومنه قول لبيد :

عبس كواسب ما يمن طعامها أي ما يقطع يصف بذلك كلابا ضارية ،

وقيل في معنى الآية إنه غير مكدر عليك بسبب المنة والقول هو الأول ومعناه إن لك على احتمالك الطعن وصبرك على هذا القول القبيح وافترائهم عليك أجرا عظيما دائما لا ينقطع ،

وقيل إن لك على إظهار النبوة وتبليغ الرسالة ودعاء الخلق إلى اللّه تعالى والصبر على ذلك وبيان الشرائع لهم أجرا عظيما فلا تمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الأمر العظيم الذي قد حملته ثم وصفه بما يخالف حال المجنون

فقال تعالى : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ وهذا كالتفسير لقوله ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه ولما كانت أخلاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كاملة حميدة وأفعاله المرضية الجميلة وافرة وصفها اللّه تعالى بأنها عظيمة وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والتشديد في المعاملات ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل والبذل وحسن الأدب والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب والتساهل في جميع الأمور والتسامح بما يلزم من الحقوق وترك التقاطع والتهاجر واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى مع طلاقة الوجه وإدامة البشر فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال ولقد كان جميع ذلك في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولهذا وصفه اللّه تعالى بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام وقال الحسن هو آداب القرآن سئلت عائشة رضي اللّه عنها عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت كان خلقه القرآن وقال قتادة

هو ما كان يأتمر من أوامر اللّه وينتهي عنه من مناهي اللّه تعالى والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك اللّه به في القرآن

وقيل سمى اللّه خلقه عظيما لأنه امتثل تأديب اللّه إياه بقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ واللّه سبحانه وتعالى أعلم.

(فصل : في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) من ذلك ما روى جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن اللّه بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال)

(م) عن

النواس بن سمعان قال (سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن البر والإثم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) أخرجه أبو داود وعنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (إن من أكمل الناس إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن.

عن أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإن اللّه تعالى يبغض الفاحش البذي ء) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وله عن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (إن من أحبكم إلى اللّه وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا) ،

(ق) عن البراء رضي اللّه عنه قال (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير)

(ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال (إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن فاحشا ولا متفحشا) وكان يقول (خياركم أحاسنكم أخلاقا)

(ق) عن أنس رضي اللّه عنه قال (خدمت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عشر سنين واللّه ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا) زاد الترمذي (و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أحسن الناس خلقا وما مسست خزا قط ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولا شممت مسكا قط ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) ،

(خ) عنه قال (إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتنطلق به حيث شاءت) زاد في رواية (و يجيب إذا دعي) وعنه قال (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ولم ير مقدما ركبتيه بين يدي جليس له) أخرجه الترمذي ،

(ق) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت (ما خير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة اللّه فينتقم) ، زاد مسلم عنها (و ما ضرب

رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل اللّه تعالى)

(ق) عن أنس قال (كنت أمشي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لي من مال اللّه الذي عندك فالتفت إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضحك وأمر له بعطاء) ،

(ق) عنه رضي اللّه عنه قال (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيما كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به) النغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار

(م) عن الأسود قال (سألت عائشة ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يفعل في بيته؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) المهنة الخدمة عن عبد اللّه بن الحارث بن جزء قال (ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم) أخرجه الترمذي

قوله تعالى :

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)

﴿ ٢