سورة الجنوهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤) ١٤قوله عز وجل : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت وجود الجن فأنكر وجودهم معظم الفلاسفة ، واعترف بوجودهم جمع منهم وسموهم بالأرواح السفلية ، وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنهم أضعف. وأما جمهور أرباب الملل وهم أتباع الرسل والشرائع فقد اعترفوا بوجود الجن لكن اختلفوا في ماهيتهم ، فقيل الجن حيوان هوائي يتشكل بأشكال مختلفة ، وقيل إنها جواهر وليست بأجسام ولا أعراض ثم هذه الجواهر أنواع مختلفة بالماهية فبعضها خيرة كريمة محبة للخيرات وبعضها دنيئة خسيسة شريرة محبة للشرور والآفات ولا يعلم عدة أنواعهم إلا اللّه تعالى ، وقيل إنهم أجسام مختلفة الماهية لكن تجمعهم صفة واحدة وهي كونهم حاصلون في الحيز موصوفون بالطول والعرض والعمق ، وينقسمون إلى لطيف وكثيف وعلوي وسفلي ولا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الأجسام في الماهية وأن يكون لها علم مخصوص وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة أو شاقة يعجز البشر عن مثلها. وقد يتشكلون بأشكال مختلفة وذلك بإقدار اللّه تعالى إياهم على ذلك ، وقيل إن الأجسام متساوية في تمام الماهية وليست البنية شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه ، وشذ تأويل المعتزلة من هذه الأمة فأنكروا وجود الجن وقالوا البنية شرط للحياة وإنه لا بد من صلابة البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة ، وهذا قول منكر وصاحب هذا القول ينكر خرق العادات ورد ما ثبت وجوده بنص الكتاب والسنة. ( فصل) اختلف الرواة هل رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الجن فأثبتها ابن مسعود فيما رواه عنه مسلم في صحيحه وقد تقدم حديثه في تفسير سورة الأحقاف عند قوله تعالى : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وأنكرها ابن عباس فيما رواه عنه البخاري ومسلم. قال ابن عباس (ما قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الجن ولا رآهم ، انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقيل حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب؟ قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فَقالُوا يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل اللّه تعالى على نبيه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ زاد في رواية (و إنما أوحي إليه قول الجن) أخرجاه في الصحيحين ، قال القرطبي في شرح مسلم في حديث ابن عباس هذا معناه أنه لم يقصدهم بالقراءة بل لما تفرقوا يطلبون الخبر الذي حال بينهم وبين استراق السمع ، صادف هؤلاء النفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي بأصحابه وعلى هذا فهو صلّى اللّه عليه وسلّم لم يعلم باستماعهم ولم يكلمهم وإنما أعلمه اللّه عز وجل بما أوحي إليه من قوله قل أوحى إليّ أنه استمع نفر من الجن وأما حديث ابن مسعود فقضية أخرى وجن آخرون. والحاصل من الكتاب والسنة العلم القطعي بأن الجن والشياطين موجودون متعبدون بالأحكام الشرعية على النحو الذي يليق بخلقتهم وبحالهم ، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رسول إلى الإنس والجن فمن دخل في دينه فهو من المؤمنين ومعهم في الدنيا والآخرة والجنة ، ومن كفر به فهو من الشياطين المبعدين المعذبين فيها والنار مستقره. وهذا الحديث يقتضي أن الرجم بالنجوم ولم يكن قبل المبعث. وذهب قوم إلى أنه كان قبل مبعثه وآخرون إلى أنه كان لكن زاد بهذا المبعث وبهذا القول يرتفع التعارض بين الحديثين هذا آخر كلام القرطبي واللّه أعلم. عكاظ سويقة معروفة بقرب مكة كان العرب يقصدونها في كل سنة مرة في الجاهلية وأول الإسلام وتهامة كل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت تهامة لتغير هوائها. ومكة من تهامة معدودة ونخلة واد من أودية مكة قريب منها. وأما التفسير ف قوله سبحانه وتعالى : قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يظهر لأصحابه واقعة الجن وكما أنه مبعوث إلى الإنس فهو أيضا مبعوث إلى الجن لتعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا به وقوله استمع نفر من الجن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة قيل كانوا تسعة من جن نصيبين. وقيل سبعة سمعوا قراءة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فَقالُوا أي لما رجعوا إلى قومهم ، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً قال ابن عباس رضي اللّه عنهما بليغا أي ذا عجب يعجب منه لبلاغته وفصاحته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي يدعو إلى الصواب يعني التوحيد والإيمان فَآمَنَّا بِهِ أي بالقرآن وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الشرك. وفيه دليل على أن أولئك النفر كانوا مشركين قيل كانوا يهودا وقيل كانوا نصارى وقيل كانوا مجوسا ومشركين وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي جلال ربنا وعظمته ، ومنه قول أنس (كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا) أي عظم قدره وقيل الجد الغنى. ومنه الحديث (و لا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الغنى غناه. وقال ابن عباس : عظمت قدرة ربنا وقيل أمر ربنا وقيل فعله وقيل آلاؤه ونعماؤه على خلقه وقيل علا ملك ربنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً أي أنه تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا لأن الصاحبة تتخذ للحاجة والولد للاستئناس به واللّه تعالى منزه عن كل نقص وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني جاهلنا قيل هو إبليس عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي كذبا وعدوانا وهو وصفه تعالى بالشريك والولد أي الشطط وهو مجاوزة الحد في كل شيء. وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) ٥٩وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كنا نظن أن الإنس والجن صادقون في قولهم إن للّه صاحبة وولدا وأنهم لا يكذبون على اللّه في ذلك فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد كذبوا على اللّه. قوله تعالى : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمته فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بمكة وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً وذكره ابن الجوزي في تفسيره بغير سند ومعنى الآية زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا ، قال ابن عباس إثما. وقيل طغيانا وقيل غيا وقيل شرا وقيل عظمة وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا وعظمة ويقولون يعني عظماء الجن سدنا الجن والإنس. والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا يعني الجن كَما ظَنَنْتُمْ أي يا معشر الكفار من الإنس أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يعني يقول الجن وأنا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغ السماء الدنيا واستماع كلام أهلها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً يعني من الملائكة شَدِيداً وَشُهُباً أي من النجوم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ يعني كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن قد ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أرصد له ليرمى به. وقيل شهابا من الكواكب ورصدا من الملائكة ، عن ابن عباس قال (كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زاد فيكون باطلا. فلما بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض فبعث جنوده فوجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قائما يصلي بين جبلين أراه قال بمكة فأخبروه فقال هذا الحدث في الأرض) ، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وقال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة وكانوا يسترقون في بعض الأحوال فلما بعث منعوا من ذلك أصلا فعلى هذا القول يكون حمل الجن على الضرب في الأرض. وطلب السبب إنما كان لكثرة الرجم ومنعهم عن الاستراق بالكلية. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) ١٠١٦وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي برمي الشهب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ومعنى الآية لا ندري هل المقصود من المنع من الاستراق هو شر أريد بأهل الأرض أم أريد بهم صلاح وخير وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي دون الصالحين مرتبة. قيل المراد بهم غير الكاملين في الصلاح وهم المقتصدون فيدخل فيهم الكافر وغيره كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة والقدة القطعة من الشيء ، قال مجاهد يعنون مسلمين وكافرين. وقيل أهواء مختلفة وشيعا متفرقة لكل فرقة هوى كأهواء الناس وذلك أن الجن فيهم القدرية والمرجئة والرافضة والخوارج وغير ذلك من أهل الأهواء ، فعلى هذا التفسير يكون معنى طرائق قددا أي سنصير طرائق قددا وهو بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب مختلفة متفرقة ، وقيل معناه كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وَأَنَّا ظَنَنَّا الظن هنا بمعنى العلم واليقين أي علمنا وأيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي لن نفوته إن أراد بنا أمرا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي إن طلبنا فلن نعجزه أينما كنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ أي لما سمعنا القرآن آمنا به وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي نقصانا من عمله وثوابه وَلا رَهَقاً يعني ظلما وقيل مكروها يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وهم الذين آمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وَمِنَّا الْقاسِطُونَ أي الجائرون العادلون عن الحق ، قال ابن عباس وهم الذين جعلوا للّه أندادا فَمَنْ أَسْلَم َ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي قصدوا طريق اللّه وتوخوه أَمَّا الْقاسِطُونَ يعني الذين كفرواكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً يعني وقودا للنار يوم القيامة. فإن قلت قد يتمسك بظاهر هذه الآية من لا يرى لمؤمني الجن ثوابا وذلك لأن اللّه تعالى ذكر عقاب الكافرين منهم ولم يذكر ثواب المؤمنين منهم. قلت ليس فيه تمسك له وكفى بقوله فأولئك تحروا رشدا فذكر سبب الثواب واللّه أعدل وأكرم من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد. فإن قلت كيف يعذب الجن بالنار وقد خلقوا منها. قلت وإن خلقوا من النار فقد تغيروا عن تلك الهيئة وصاروا خلقا آخر واللّه تعالى قادر أن يعذب النار بالنار قوله عز وجل : وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اختلفوا فيمن يرجع الضمير إليه فقيل هو راجع إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم والمعنى لو استقام الجن على الطريقة المثلى الحسنى لأنعمنا عليهم وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وقيل معناه لو ثبت الجن الذين سمعوا القرآن. على الطريقة التي كانوا عليها قبل استماع القرآن ولم يسلموا لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي لوسعنا الرزق عليهم. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) ١٧١٩لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وقيل الضمير راجع إلى الإنس وتم الخبر عن الجن ثم رجع إلى خطاب الإنس فقال تعالى : وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا يعني كفار مكة على الطريقة يعني على طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين (لأسقيناهم ماء غدقا) يعني كثيرا وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين. والمعنى لو آمنوا لوسعنا عليهم في الدنيا ولأعطيناهم ماء كثيرا وعيشا رغدا. وإنما ذكر الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله أصله من المطر وقوله (لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا فيه. وقيل في معنى الآية لو استقاموا أي ثبتوا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجا لهم حتى يفتنوا به فنعذبهم و القول الأول أصح لأن الطريقة معرفة بالألف واللام وهي طريقة الهدى والقول بأن الآية في الإنس أولى لأن الإنس هم الذين ينتفعون بالمطر وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ أي عن عبادة ربه وقيل عن مواعظه يَسْلُكْهُ أي يدخله عَذاباً صَعَداً ، قال ابن عباس شاقا وقيل عذابا لا راحة فيه وقيل لا يزداد إلا شدة. قوله تعالى : وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني المواضع التي بنيت للصلاة والعبادة ، وذكر اللّه تعالى فيدخل فيه مساجد المسلمين والكنائس والبيع التي لليهود والنصارى فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا باللّه فيها فأمر اللّه عز وجل المؤمنين أن يخلصوا الدعوة للّه إذا دخلوا المساجد كلها. وقيل أراد بالمساجد بقاع الأرض كلها لأن الأرض كلها جعلت مسجدا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فعلى هذا يكون المعنى فلا تسجدوا على الأرض لغير اللّه تعالى ، قال سعيد بن جبير (قالت الجن للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم كيف لنا أن نشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك فنزلت وأن المساجد للّه) وروي عنه أيضا أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة الجبهة واليدان والركبتان والقدمان والمعنى أن هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة للّه فلا تسجدوا عليها لغيره ، (م) عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه) الآراب الأعضاء ، (ق) عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال (أمرنا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكف شعرا ولا ثوبا : الجبهة واليدين والركبتين والقدمين) وفي رواية أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفف الثياب ولا الشعر) كف شعره عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة وقد نهي عن ذلك. قوله عز وجل : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يَدْعُوهُ يعني يعبد اللّه ويقرأ القرآن وذلك حين كان يصلي الفجر ببطن نخلة كادُوا يعني الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني يركب بعضهم بعضا من الازدحام عليه حرصا على استماع القرآن ، قاله ابن عباس. وعنه أيضا أنه من قول النفر من الجن الذين رجعوا إلى قومهم فأخبروهم عن طاعة أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له واقتدائهم به في الصلاة. وقيل في معنى الآية لما قدم عبد اللّه بالدعوة تلبدت الإنس والجن وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به ويطفئوا نور اللّه فأبى اللّه إلا أن يتم نوره ويظهر هذا الأمر وينصره على من ناوأه وعاداه. وأصل البلد الجماعة بعضهم فوق بعض. قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) ٢٠٢٧قُلْ يعني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقرئ على الأمر إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك فقال لهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (إنما أدعو ربي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا وإنما الضار والنافع والمرشد والمغوي هو اللّه تعالى. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي لم يمنعني منه أحد إن عصيته وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ ألجأ إليه وقيل حرزا أحترز به وقيل مدخلا في الأرض مثل السرب أدخل فيه إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي ففيه الجوار والأمن والنجاة. وقيل معناه ذلك الذي يجبرني من عذاب اللّه يعني التبليغ وقيل إلا بلاغا من اللّه فذلك الذي أملكه بعون اللّه وتوفيقه. وقيل معناه لا أملك لكم ضرا ولا رشدا لكن أبلغ بلاغا عن اللّه عز وجل فإنما أنا مرسل لا أملك إلا ما ملكت ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني ولم يؤمن فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ يعني العذاب يوم القيامة فَسَيَعْلَمُونَ أي عند نزول العذاب مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أهم أم المؤمنون قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ يعني العذاب وقيل يوم القيامة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي أجلا وغاية تطول مدتها والمعنى أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا اللّه عز وجل عالِمُ الْغَيْبِ أي هو عالم ما غاب عن العباد فَلا يُظْهِرُ أي فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي الغيب الذي يعلمه وانفرد به أَحَداً أي من الناس ثم استثنى فقال تعالى : إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني إلا من يصطفيه لرسالته ونبوته فيظهره على ما يشاء من الغيب حتى يستدل على نبوته بما يخبر به من المغيبات فيكون ذلك معجزة له وآية دالة على نبوته. قال الزمخشري وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف إليهم الكرامات وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خص اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيه أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. قال الواحدي وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت ونحو ذلك فقد كفر بما في القرآن. فأما الزمخشري فأنكر كرامات الأولياء جريا على قاعدة مذهبه في الاعتزال ووافق الواحدي وغيره من المفسرين في إبطال الكهانة والتنجيم قال الإمام فخر الدين ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات قال : وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء من ذلك والذي تدل عليه أن قوله فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر اللّه تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة ، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ثم إنه يجوز أن يطلع اللّه على شيء من المغيبات غير الرسل كالكهنة وغيرهم وذكر ما يدل على صحة قوله. والذي ينبغي أن مذهب أهل السنة إثبات كرامات الأولياء خلافا للمعتزلة وأنه يجوز أن يلهم اللّه بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع اللّه إياه على ذلك. ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر بن الخطاب) أخرجه البخاري قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون. ولمسلم عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه كان يقول (قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) ، ففي هذا إثبات كرامات الأولياء ولا يقال لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي عن غيرها ولا نسد الطريق إلى معرفة الرسول من غيره فنقول الفرق بين معجزة النبي وكرامة الولي أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرون بالتحدي ، ولا يجوز للولي أن يدعي خرق العادة مع التحدي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة وقد يظهر على يد الولي أمر خارق للعادة من غير دعواه. وهذا أيضا يدل على ثبوت نبوة النبي لأن الكرامة إنما تظهر على يد من هو معتقد للرسول متابع له فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر الخارق على يد متابعه. وأما الكاهن فليس بمتبع للرسول وقد انسد باب الكهانة بمبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فمن ادعى منهم اطلاعا على غيب فقد كفر بما جاء به القرآن وكذلك حكم المنجم واللّه تعالى أعلم ، وقوله تعالى : فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بين يدي الرسول ومن خلفه وذكر البعض دال على جميع الجهات رَصَداً أي حفظه من الملائكة يحفظونه من الشيطان أن يسترق السمع من الملائكة ويحفظونه من الجن أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة فيخبروا به قبل الرسول. وقيل إن اللّه تعالى كان إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث اللّه من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان عنه فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره وإن جاء ملك قالوا له هذا رسول ربك. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨) ٢٨لِيَعْلَمَ أي ليعلم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أَنْ أي أن جبريل قد بلغ إليه رسالات ربه وقيل معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم وأن اللّه قد حفظهم ودفع عنهم. وقيل معناه ليعلم اللّه أن الرسل قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فيعلم اللّه ذاك ظاهرا موجودا فيوجب فيه الثواب وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي علم اللّه ما عند الرسل فلا يخفى عليه شيء من أمورهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً قال ابن عباس : أحصى ما خلق وعرف ما خلق لم يفته شيء حتى مثاقيل الذر والخردل ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. |
﴿ ٠ ﴾