سورة المزمل

مكية قيل غير آيتين منها وهما قوله وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ

وقيل غير آية وهي إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ الآية وهي عشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً(٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً

١

٣)

قوله عز وجل : يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هذا خطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصله المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف.

قال المفسرون كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يتزمل في ثيابه أول ما جاءه جبريل فرقا منه فكان يقول زملوني زملوني حتى أنس به.

وقيل خرج يوما من البيت وقد لبس ثيابه فناداه جبريل يا أيها المزمل ،

وقيل معناه متزمل النبوة أي حاملها والمعنى زملت هذا الأمر فقم به واحمله فإنه أمر عظيم وإنما لم يخاطب بالنبي والرسول لأنه كان في أول الأمر ومبدئه ، ثم خوطب بالنبي والرسول بعد ذلك ،

وقيل كان صلّى اللّه عليه وسلّم قد نام وهو متزمل في ثوبه فنودي يا أيها المزمل قُمِ اللَّيْلَ أي للصلاة والعبادة واهجر هذه الحالة واشتغل بالصلاة والعبودية وكان قيام الليل فريضة في ابتداء الإسلام إِلَّا قَلِيلًا أي صل الليل إلا قليلا تنام فيه وهو الثلث ثم بين قدر القيام

فقال تعالى : نِصْفَهُ أي قم نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي إلى الثلث.

أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)

٤

أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي على النصف إلى الثلثين خيره بين هذه المنازل فكان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه يقومون على هذه المقادير وكان الرجل منهم لا يدري متى ثلث الليل أو متى نصفه أو متى ثلثاه ، فكان يقوم الليل كله حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم اللّه وخفف عنهم ونسخها عنهم بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قيل ليس في القرآن سورة نسخ آخرها أولها إلا هذه السورة وكان بين نزول أولها ونزول آخرها سنة.

وقيل ستة عشر شهرا. وكان قيام الليل فرضا ثم نسخ بعد ذلك في حق الأمة بالصلوات الخمس وثبتت فريضته على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ

(م) عن سعد بن هشام قال (انطلقت إلى عائشة فقلت يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى قالت فإن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان القرآن

قلت فقيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يا أم المؤمنين؟ قالت ألست تقرأ المزمل قلت بلى قالت فإن اللّه افترض القيام في أول هذه السورة فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد الفريضة).

وقوله تعالى : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن عباس بينه بيانا وعنه أيضا (اقرأه على هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا) ،

وقيل الترتيل هو التوقف والترسل والتمهل والإفهام وتبيين القراءة حرفا حرفا أثره في أثر بعض بالمد والإشباع والتحقيق. وترتيلا تأكيد في الأمر به وأنه لا بد للقارئ منه ،

وقيل إن اللّه تعالى لما أمر بقيام الليل أتبعه بترتيل القرآن حتى يتمكن المصلي من حضور القلب والتأمل والفكر في حقائق الآيات ومعانيها فعند الوصول إلى ذكر اللّه تعالى يستشعر بقلبه عظمة المذكور وجلاله وعند ذكر الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف وعند ذكر القصص والأمثال يحصل الاعتبار فيستنير القلب عند ذلك بنور المعرفة ، والإسراع في القراءة لا يحصل فيها ذلك فظهر بذلك أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة.

(فصل)

(خ) عن قتادة قال (سئل أنس كيف كانت قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال كانت مدا ثم قرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم يمد بسم اللّه ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم) عن أم سلمة رضي اللّه عنها وقد سألها يعلى بن مالك عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وصلاته فقالت (ما لكم وصلاته ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا) ، أخرجه النسائي وللترمذي قالت (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقطع قراءته يقول الحمد للّه رب العالمين ثم يقف الرّحمن الرّحيم ، ثم يقف وكان يقول مالك يوم الدين ثم يقف)

وفي رواية أبي داود قالت (قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه رب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدين يقطع قراءته آية آية)

(ق) عن عبد اللّه بن مغفل قال (رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجع في قراءته) ،

(ق) عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال (جاء رجل إلى ابن مسعود قال إني لأقرأ المفصل في ركعة قال عبد اللّه هذّا كهذّ الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع ، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود إني لأعرف النظائر التي كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقرن بينهن سورتين في كل ركعة)

وفي رواية (فذكر عشرين سورة من المفصل) الهذ سرعة القطع والمراد به هنا سرعة القراءة والعجلة فيها ، وقوله لا يجاوز تراقيهم التراقي جمع ترقوة وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق وعند مخرج الصوت ، والنظائر جمع نظير وهو الشبه والمثل.

عن عائشة رضي اللّه عنها قالت (قام النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بآية من القرآن) ، أخرجه الترمذي وللنسائي عن أبي ذر نحوه وزاد (و الآية إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) عن سهل بن سعد قال (خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن نقرأ فقال : الحمد للّه كتاب اللّه واحد وفيكم الأحمر وفيكم الأبيض وفيكم الأسود اقرءوا القرآن قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقال السهل يتعجل لقراءته ولا يتأجله) أخرجه أبو داود وزاد غيره في رواية (لا يجاوز تراقيهم) عن جابر رضي اللّه عنه قال خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال :

اقرءوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقومونه كما يقوم القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) أخرجه أبو داود عن ابن مسعود قال (لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة)

قوله تعالى :

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦)

٥

٦

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن عباس شديدا.

وقيل ثقيلا يعني كلاما عظيما جليلا ذا خطر وعظمة لأنه كلام رب العالمين وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل والمعنى فصير نفسك مستعدة لقبول هذا القول العظيم الثقيل الشاق ،

وقيل سماه ثقيلا لما فيه من الأوامر والنواهي فإن فيه مشقة وكلفة على الأنفس

وقيل ثقيلا لما فيه من الوعد والوعيد والحلال والحرام والحدود والفرائض والأحكام.

وقيل ثقيلا على المنافقين لأنه يبين عيوبهم ويظهر نفاقهم ،

وقيل هو خفيف على اللسان بالتلاوة ثقيل في الميزان بالثواب يوم القيامة.

وقيل ثقيلا أي ليس

بالخفيف ولا السفساف لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى.

وقيل معناه أنه قول مبين في صحته وبيانه ونفعه كما تقول هذا كلام رصين وهذا قول له وزن إذا استجدته وعلمت أنه صادق الحكمة والبيان.

وقيل سماه ثقيلا لما فيه من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ.

وقيل ثقيلا في الوحي وذلك أنه صلّى اللّه عليه وسلّم (كان إذا نزل عليه القرآن والوحي يجد له مشقة) ،

(ق) عن عائشة رضي اللّه عنها (أن الحارث بن هشام سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهذا أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل إلي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا)

(م) عن عبادة بن الصامت قال (كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد له وجهه)

وفي رواية (كان إذا نزل عليه الوحي عرفنا ذلك في فيه وغمض عينيه وتربد وجهه) قوله مثل صلصلة الجرس الصلصلة الصوت الشديد الصلب اليابس من الأشياء الصلبة كالجرس ونحوه. قوله فيفصم أي ينفصل عني ويفارقني وقد وعيت ما قال أي حفظت. وقولها ليتفصد عرقا أي يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. قوله تربد وجهه الربدة في الألوان غبرة مع سواد ،

وقوله تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة ، لأنها تنشأ عن التي قبلها وقال ابن أبي مليكة سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وهي عبارة عن الأمور التي تحدث وتنشأ في الليل وقالت عائشة الناشئة القيام بعد النوم.

وقيل هي قيام آخر الليل

وقيل أوله ،

وقيل أي ساعة قام الإنسان من الليل فقد نشأ.

روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول هذه ناشئة الليل ،

وقيل كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة الليل ،

وقيل ناشئة الليل قيامه

وقيل ناشئة الليل وطاؤه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرئ بكسر الواو مع المد يعني من المواطأة والموافقة وذلك لأن مواطأة القلب اللسان والسمع والبصر تكون بالليل أكثر مما تكون بالنهار. وقرئ وطأ بفتح الواو وسكون الطاء أي أشد على المصلي وأثقل. من صلاة النهار لأن الليل جعل للنوم والراحة فكان قيامه على النفس أشد وأثقل وقال ابن عباس كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطأ يقول هي أجدر أن يحصوا ما فرض اللّه عليهم من القيام وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ.

وقيل أثبت للخير وأحفظ للقراءة من النهار

وقيل هي أوطأ للقيام وأسهل على المصلي من ساعات النهار لأنه خلق لتصرف العباد والليل والخلوة برب العباد ولأن الليل أفرغ للقلب من النهار ولا يعرض له في الليل حوائج وموانع مثل النهار وأمنع من الشيطان وأبعد من الرياء وهو

قوله تعالى : وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أصوب قراءة وأصح قولا من النهار لهدأة الناس وسكون الأصوات

وقيل معناه أبين قولا بالقرآن.

والحاصل أن عبادة الليل أشد نشاطا وأتم إخلاصا وأبعد عن الرياء وأكثر بركة وأبلغ في الثواب وأدخل في القبول.

إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠)

٧

١٠

إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تصرفا وتقلبا وإقبالا وإدبارا في حوائجك واشتغالك.

وقيل فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك أفضل من الليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي بالتوحيد والتعظيم والتقديس والتسبيح وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس أخلص إليه إخلاصا

وقيل تفرغ لعبادته وانقطع إليه انقطاعا والمعنى بتل إليه نفسك واقطعها عن كل شيء سواه.

وقيل التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند اللّه.

وقيل معناه وتوكل عليه توكلا واجتهد في العبادة

وقيل يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلا من عبادة اللّه وطاعته.

فإن قلت كيف قال تبتيلا مكان تبتلا ولم يجيء على مصدره؟

قلت جاء تبتيلا على بتل نفسك إليه تبتيلا فوقع المصدر موضع مقارنة في المعنى ويكون التقدير وبتل نفسك إليه تبتيلا فهو كقوله واللّه أنبتكم من الأرض نباتا ،

وقيل لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل.

وقيل الأصل في تبتل أن يقال تبتلت تبتيلا وتبتلت تبتيلا فتبتيلا محمول على معنى بتل إليه تبتيلا

وقيل إنما عدل عن هذه العبارة لدقيقة لطيفة وهي أن المقصود إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى اللّه تعالى لأن المشتغل بغير اللّه لا يكون منقطعا إليه إلا أنه لا بد من التبتيل حتى يحصل التبتل فذكر أولا التبتل لأنه المقصود وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يعني أن التبتل والانقطاع لا يليق إلا للّه تعالى الذي هو رب المشرق والمغرب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي فوض أمرك إليه وتوكل عليه.

وقيل معناه اتخذ يا محمد ربك كفيلا بما وعدك من النصر على الأعداء وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من التكذيب لك والأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي واعتزلهم اعتزالا حسنا لا جزع فيه وهذه الآية منسوخة بآية القتال.

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)

١١

١٩

وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني ومن كذبك لا تهتم به فإني أكفيكه أُولِي النَّعْمَةِ أي أصحاب النعم والترفه نزلت في صناديد قريش المستهزئين

وقيل نزلت في المطعمين ببدر وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا يعني إلى يوم بدر فلم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر.

وقيل أراد بالقليل أيام الدنيا ثم وصف عذابهم

فقال تعالى : إِنَّ لَدَيْنا أي عندنا في الآخرة أَنْكالًا يعني قيودا عظاما ثقالا لا تنفك أبدا

وقيل أغلالا من حديد وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي غير سائغ في الحلق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع وَعَذاباً أَلِيماً أي وجيعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتزلزل وتتحرك وهو يوم القيامة وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا يعني رملا سائلا وهو الذي إذا أخذت منه شيئا يتبعك ما بعده إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يعني يا أهل مكة رَسُولًا يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بالتبليغ وإيمان من آمن منكم وكفر من كفر كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، قيل إنما خص فرعون وموسى بالذكر من بين سائر الأمم والرسل لأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم آذاه أهل مكة واستخفوا به لأنه ولد فيهم كما أن فرعون ازدرى بموسى وآذاه لأنه رباه فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أي فرعون أَخْذاً وَبِيلًا أي شديدا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة ، خوّف بذلك كفار مكة ثم خوّفهم يوم القيامة

فقال تعالى : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف لكم بالتّقوى يوم القيامة إن كفرتم أي في الدنيا ، المعنى لا سبيل لكم إلى التّقوى إذا وافيتم القيامة.

وقيل معنى الآية فكيف تتقون العذاب يوم القيامة ، وبأي شيء تتحصنون من عذاب ذلك اليوم ، وكيف تنجون منه إن كفرتم في الدّنيا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً يعني شيوخا شمطا من هول ذلك اليوم وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه الصّلاة والسّلام قم ، فابعث بعث النار من ذريتك.

(ق) عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (يقول اللّه عز وجل يوم القيامة : يا آدم فيقول لبيك وسعديك) زاد في رواية (و الخير في يديك فينادى بصوت إن اللّه يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النّار قال يا رب ، وما بعث النار؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد

وترى النّاس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب اللّه شديد ، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قالوا : يا رسول اللّه أينا ذلك الرجل فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعا وتسعين ومنكم واحد ثم قال : أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثّور الأبيض ، أو كالشّعرة البيضاء في جنب الثّور الأسود ،

وفي رواية كالرّقمة في ذراع الحمار ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة فكبرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبرنا) أما ما يتعلق بمعنى الحديث فقوله أن تخرج من ذريتك بعث النار فمعناه ميز أهل الجنة من أهل النار ،

وأما الرقمة بفتح الراء وإسكان القاف فهي الأثرة في باطن عضد الحمار.

وقوله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة وثلث أهل الجنة ، وشطر أهل الجنة فيه البشارة العظيمة لهذه الأمة وجعلهم ربع أهل الجنة أولا ثم الثلث ثم الشّطر لفائدة حسنة ، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم ، وأبلغ في إكرامهم فإن إعطاء الإنسان مرة بعد مرة دليل على الاعتناء به ، ودوام ملاحظته وفيه تكرير البشارة مرة بعد أخرى ، وفيه أيضا حملهم على تجديد شكر اللّه وحمده على إنعامه عليهم ، وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة ، وسرورهم بها ،

وأما ما. يتعلق بمعنى الآية الكريمة ، والحديث في

قوله تعالى : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم (و يشيب الوليد) ففيه وجهان : الأول عند زلزلة السّاعة قبل خروجهم من الدّنيا ، فعلى هذا هو على ظاهره الثاني أنه في القيامة ، فعلى هذا يكون ذكر الشّيب مجازا ، لأن القيامة ليس فيها شيب ، وإنما هو مثل في شدة الأمر ، وهوله يقال في اليوم الشّديد يوم تشيب فيه نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم والأحزان إذا تعاقب على الإنسان أسرع فيه الشيب. قال المتنبي :

والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم

فلما كان الشّيب من لوازم كثرة الهموم والأحزان جعلوه كناية عن الشّدة والهول ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيبا حقيقة لأن الطفل لا تمييز له ،

وقيل يحتمل أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون سن الشّيخوخة والشّيب. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ وصف اليوم بالشّدة أيضا وأن السّماء مع عظمها تنفطر به ، وتتشقق فما ظنك بغيرها من الخلائق ،

وقيل تتشقق لنزول الملائكة ،

وقيل به أي بذلك المكان ،

وقيل الهاء ترجع إلى الرّب سبحانه وتعالى أي بأمره وهيبته. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي كائنا لا محالة فيه ، ولا خلف إِنَّ هذِهِ أي آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي مواعظ يتذكر بها فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالإيمان والطاعة.

قوله تعالى :

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠)

٢٠

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي أقل من ثلثي الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي تقوم نصفه وثلثه وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ يعني المؤمنين ، وكانوا يقومون معه الليل وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يعني أن العالم بمقادير الليل والنهار وأجزائهما وساعاتهما هو اللّه تعالى. لا يفوته علم ما يفعلون ، فيعلم القدر الذي يقومون من اللّيل والذي ينامون منه. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يعني أن لن تطيقوا معرفته على الحقيقة. قيل قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فنزل : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوه ، قيل كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر اللّه به من القيام

فقال تعالى : علم أن لن تحصوه أي لن تطيقوا معرفة ذلك فَتابَ عَلَيْكُمْ أي فعاد عليكم بالعفو

والتخفيف ، والمعنى عفا عنكم ما لم تحيطوا بعلمه ورفع المشقة عنكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فيه قولان :

أحدهما : أن المراد بهذه القراءة. القراءة في الصلاة ، وذلك لأن القراءة أحد أجزاء الصّلاة ، فأطلق اسم الجزء على الكل ، والمعنى فصلوا ما تيسر عليكم. وقال الحسن : يعني في صلاة المغرب والعشاء ، قال قيس بن أبي حازم : صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد ، وأول آية من البقرة ، ثم قام في الثانية ، فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ، ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال : إن اللّه تعالى يقول فاقرؤوا ما تيسر منه ،

وقيل نسخ ذلك التّهجد ، واكتفي بما تيسر ثم نسخ ذلك أيضا بالصّلوات الخمس وذلك في حق الأمة وثبت قيام اللّيل في حقه صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله تعالى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ.

القول الثاني : أن المراد بقوله فاقرؤوا ما تيسر من القرآن دراسته ، وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان ، فقيل يقرأ مائة آية ونحوها ،

وقيل إن قراءة السورة القصيرة كافية. روى البغوي بإسناده عن أنس رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (من قرأ خمسين آية في يوم أو ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية ، لم يحاججه القرآن يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر).

وذكره الشّيخ محيي الدّين في كتابه الأذكار ولم يضعفه وقال : في رواية (من قرأ أربعين آية بدل خمسين

وفي رواية عشرين)

وفي رواية عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين)

(ق) عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال : قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة قلت بلى يا رسول اللّه ، ولم أرد بذلك إلا الخير قال فصم صوم داود وكان أعبد النّاس واقرأ القرآن في كل شهر مرة قال قلت يا نبي اللّه إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في كل عشر قال :

قلت يا نبي اللّه إني أطيق أفضل من ذلك قال فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك) ثم ذكر اللّه حكمة النّسخ والتّخفيف.

فقال تعالى : عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى يعني أن المريض يضعف عن التّهجد باللّيل فخفف اللّه عز وجل عنه لأجل ضعفه وعجزه عنه وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يعني المسافرين للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي يطلبون من رزق اللّه وهو الربح في التجارة وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة والمجاهدين ، وذلك لأن المجاهد والمسافر مشتغل في النهار بالأعمال الشّاقة ، فلو لم ينم بالليل لتوالت عليه أسباب المشقة ، فخفف اللّه عنهم لذلك. روي عن ابن مسعود : قال (أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان عند اللّه بمنزلة الشّهداء ثم قرأ عبد اللّه : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل اللّه وآخرون يقاتلون في سبيل اللّه) فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن وإنما أعاده للتأكيد وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ أي الواجبة. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال ابن عباس : يريد سوى الزكاة من صلة الرحم وقرى الضيف ،

وقيل يريد سائر الصّدقات ، وذلك بأن يخرجها على أحسن وجه من كسب طيب ، ومن أكثر الأموال نفعا للفقراء ومراعاة النيّة والإخلاص وابتغاء مرضاة اللّه تعالى بما يخرج والصرف إلى المستحق.

وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي ثوابه وأجره هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه وروى البغوي بسنده عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه قالوا يا رسول اللّه ما منا أحد إلا ما له أحب إليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم إلا ذلك يا رسول اللّه قال ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا كيف يا رسول اللّه؟ قال : إنما قال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر) وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي لذنوبكم وتقصيركم في قيام الليل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لجميع الذنوب ، واللّه تعالى أعلم.

﴿ ٠