سورة هل أتىوتسمى سورة الإنسان أيضا وهي مدنية كذا قال مجاهد ، وقتادة والجمهور ، وقيل مكية يحكى ذلك عن ابن عباس وعطاء بن يسار ومقاتل ، وقيل فيها مكي ومدني ، فالمكي منها قوله وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وباقيها مدني قاله الحسن وعكرمة وقيل إن المدني من أولها إلى قوله تعالى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ومن هذه الآية إلى آخرها مكي حكاه الماوردي وهي إحدى وثلاثون آية ومائتان وأربعون كلمة وألف وأربعة وخمسون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) ١٢قوله عز وجل : هَلْ أَتى أي قد أتى عَلَى الْإِنْسانِ يعني آدم عليه الصلاة والسلام حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ يعني مدة أربعين سنة وهو من طين ملقى (م) عن أنس رضي اللّه تعالى عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (لما صور اللّه آدم في الجنة تركه ما شاء اللّه أن يتركه فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف عرف أنه خلف لا يتمالك) قوله يطوف أي يدور حوله فلما رآه أجوف أي صاحب جوف وقيل هو الذي داخله خال قوله عرف أنه خلق لا يتمالك ، أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ، وقيل لا يملك دفع الوسواس عنه ، وقيل لا يملك نفسه عند الغضب. وروي في تفسير الآية أن آدم بقي أربعين سنة طينا ، وبقي أربعين سنة حمأ مسنونا وأربعين سنة صلصالا كالفخار فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أي لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ، ولا ما يراد به وذلك قبل أن ينفخ فيه الروح كان شيئا ولم يكن شيئا يذكر. روي عن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية : لم يكن شيئا مذكورا فقال عمر ليتها تمت يعني ليته بقي على ما كان عليه ويروى نحوه عن أبي بكر وابن مسعود ، وقيل المراد بالإنسان جنس الإنسان وهم بنو آدم بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالإنسان في الموضعين واحد فعلى هذا يكون معنى قوله حين من الدهر طائفة من الدهر غير مقدرة لم يكن شيئا مذكورا يعني أنهم كانوا نطفا في الأصلاب. ثم علقا ، ومضغا في الأرحام لم يذكروا بشيء إنا خلقنا الإنسان يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ أي مني الرجل ومني المرأة أَمْشاجٍ أي أخلاط قال ابن عباس وغيره : يعني ماء الرجل ، وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد فماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا صاحبه كان الشبه له وما كان من عصب ، وعظم فمن نطفة الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة ، وقيل الأمشاج اختلاف ألوان النطفة ، فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء. وكل لونين اختلطا فهو أمشاج. وقال ابن مسعود : هي العروق التي تكون في النطفة ، وقيل هي نطفة مشجت أي خلطت بدم وهو دم الحيض فإذا حبلت المرأة ارتفع دم الحيض ، وقيل الأمشاج أطوار الخلق نطفة ثم علقة ثم مضغة ، ثم عظما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر ، وقيل إن اللّه تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فعلى هذا يكون التقدير من نطفة ذات أمشاج. نَبْتَلِيهِ أي لنختبره بالأمر والنهي فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً قيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة ، وقيل معناه إنا خلقنا الإنسان من هذه الأمشاج للابتلاء والامتحان ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء ، وهو السمع والبصر وهما كنايتان عن الفهم والتمييز وقيل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان ، وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم الحواس وأشرفها. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) ٣٥إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي بينا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة ، وعرفناه طريق الخير والشر ، وقيل معناه أرشدناه إلى الهدى لأنه لا يطلق اسم السبيل إلا عليه والمراد من هداية السبيل نصب الدلائل ، وبعثه الرسل وإنزال الكتب. إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً يعني إما موحدا طائعا للّه ، وإما مشركا باللّه في علم اللّه وذلك أن اللّه تعالى بين سبيل التوحيد ليتبين شكر الإنسان من كفره ، وطاعته عن معصيته ، وقيل في معنى الآية إما مؤمنا سعيدا وإما كافرا شقيا. وقيل معناه الجزاء أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر ، وقيل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه سبحانه وتعالى عليه ، والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه ثم بين ما للفريقين فوعد الشاكر ، وأوعد الكافر فقال تعالى : إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا في جهنم لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ يعني يشدون بها وَأَغْلالًا أي في أيديهم تغل بها إلى أعناقهم وَسَعِيراً يعني وقودا لا توصف شدته وهذا من أعظم أنواع الترهيب والتخويف ثم ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال تعالى : إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربهم ، واحدهم بار وبر وأصله التوسع فمعنى البر المتوسع في الطاعة يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ يعني فيها شراب كانَ مِزاجُها كافُوراً قيل يمزج لهم شرابهم بالكافور ويختم بالمسك. فإن قلت إن الكافور غير لذيذ ، وشربه مضر فما وجه مزج شرابهم به. قلت قال أهل المعاني : أراد بالكافور بياضه ، وطيب ريحه وبرده. لأن الكافور لا يشرب وقال ابن عباس : هو اسم عين في الجنة والمعنى أن ذلك الشراب يمازجه شراب ماء هذه العين التي تسمى كافورا ، ولا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم ضرر فيما يأكلون ، ويشربون وقيل هو كافور لذيذ طيب الطعم ليس فيه مضرة ، وليس ككافور الدنيا ولكن اللّه سمى ما عنده بما عندكم بمزج شرابهم. بذلك الكافور والمسك والزنجبيل. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) ٦٩عَيْناً بدلا من الكافور وقيل أعني عينا يَشْرَبُ بِها أي يشرب منها عِبادُ اللَّهِ قال ابن عباس أولياء اللّه يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يقودونها إلى حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم. قوله تعالى : يُوفُونَ بِالنَّذْرِ لما وصف اللّه تعالى ثواب الأبرار في الآخرة وصف أعمالهم في الدنيا التي يستوجبون بها هذا الثواب والمعنى كانوا في الدنيا يوفون بالنذر والنذر الإيجاب. والمعنى يوفون بما فرض اللّه عليهم فيدخل فيه جميع الطاعات من الأيمان والصلاة ، والزكاة والصوم والحج ، والعمرة ، وغير ذلك من الواجبات ، وقيل النذر في عرف الشرع واللغة أن يوجب الرجل على نفسه شيئا ليس بواجب عليه ، وذلك بأن يقول : للّه عليّ كذا وكذا من صدقة أو صلاة أو صوم أو حج أو عمرة يعلق ذلك بأمر يلتمسه من اللّه. وذلك بأن يقول إن شفى اللّه مريضي أو قدم غائبي كان للّه عليّ كذا ، ولو نذر في معصية لا يجب الوفاء به (خ) عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها قالت : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول (من نذر أن يطيع اللّه فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصي اللّه فلا يف به) وفي رواية (فليطعه ولا يعصه) وعنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال (لا نذر في معصية اللّه وكفارته كفارة يمين) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي (ق) عن ابن عباس قال : (استفتى سعد بن عبادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها) أخرجه الجماعة. وفي الآية دليل على وجوب الوفاء بالنذر ، وهذا مبالغة في وصفهم بأداء الواجبات لأن من وفي بما أوجبه على نفسه كان لما أوجبه اللّه عليه أوفى. وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي منتشرا فاشيا ممتدا ، وقيل استطار خوفه في أهل السموات والأرض ، وفي أولياء اللّه وأعدائه ، وقيل فشا سره في السموات. فانشقت وتناثرت الكواكب وفزعت الملائكة وكورت الشمس ، والقمر ، وفي الأرض فتشققت الجبال وغارت المياه وكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء ، والمعنى أنهم يوفون بالنذر وهم خائفون من شر ذلك اليوم وهوله وشدته. قوله عز وجل : وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي حب الطعام وقلته وشهوتهم له والحاجة إليه فوصفهم اللّه تعالى : بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم بالطعام ، ويواسون به أهل الحاجة ، وذلك لأن أشرف أنواع الإحسان والبر إطعام الطعام. لأن به قوام الأبدان ، وقيل على حب اللّه عز وجل أي لحب اللّه مِسْكِيناً يعني فقيرا وهو الذي لا مال له ولا يقدر على الكسب وَيَتِيماً أي صغيرا وهو الذي لا أب له يكتسب له ، وينفق عليه وَأَسِيراً قيل هو المسجون من أهل القبلة يعني من المسلمين ، وقيل هو الأسير من أهل الشرك. أمر اللّه بالأسرى أن يحسن إليهم وإن أسراهم يومئذ أهل الشرك. فعلى هذا الوجه يجوز إطعام الأسرى ، وإن كانوا على غير ديننا ، وأنه يرجى ثوابه ، ولا يجوز أن يعطوا من الصدقة الواجبة كالزكاة والكفارة ، وقيل الأسير المملوك ، وقيل الأسير المرأة لقول النبي صلّى اللّه عليه وسلّم (اتقوا اللّه في النساء فإنهن عندكم عوان) يعني أسرى ، وقيل غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك. واختلفوا في سبب نزول الآية ، فقيل نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الدحداح صام يوما فلما كان وقت الإفطار جاءه مسكين ، ويتيم ، وأسير فأطعمهم ثلاثة أرغفة ، وبقي له ولأهله رغيف واحد. فنزلت هذه الآية فيه ، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير فقبض ذلك الشعير فطحن منه ثلثه ، وأصلحوا منه شيئا يأكلونه فلما فرغ أتى مسكين فسأل فأعطوه ذلك ثم عمل الثلث الثاني فلما فرغ أتى يتيم فسأل فأعطوه ذلك ، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأعطوه ذلك وطووا يومهم وليلتهم فنزلت هذه الآية. وقيل هذه عامة في كل من أطعم المسكين واليتيم والأسير للّه تعالى وآثر على نفسه إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ أي لأجل وجه اللّه تعالى : لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً قيل إنهم لم يتكلموا به ولكن علم اللّه ذلك من قلوبهم. فأثنى به عليهم ، وقيل قالوا ذلك منعا للمحتاجين من المكافأة ، وقيل قالوا ذلك ليقتدي بهم غيرهم في ذلك وذلك أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل اللّه تعالى لا يراد به غيره. فهذا هو الإخلاص ، وتارة يكون لطلب المكافأة أو لطلب الحمد من الناس أو لهما ، وهذان القسمان مردودان لا يقبلهما اللّه تعالى لأن فيهما شركا ، ورياء فنفوا ذلك عنهم بقولهم إنما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) ١٠١٦إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً يعني أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لطلب مكافأتكم عَبُوساً وصف ذلك اليوم بالعبوس مجازا كما يقال نهاره صائم ، والمراد أهله والمعنى تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته وقيل وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة. قَمْطَرِيراً يعني شديدا كريها يقبض الوجوه والجباه بالتعبيس ، وقيل العبوس الذي لا انبساط فيه ، والقمطرير الشديد ، وقيل هو أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ أي الذي يخافونه وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي حسنا في وجوههم وَسُرُوراً أي في قلوبهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا أي على طاعة اللّه واجتناب معصيته ، وقيل على الفقر والجوع مع الوفاء بالنذر والإيثار جَنَّةً وَحَرِيراً أي أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير مُتَّكِئِينَ فِيها أي في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرر في الحجال ولا تسمى أريكة إلا إذا اجتمعا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً يعني لا يؤذيهم حر الشمس ، ولا برد الزمهرير كما كان يؤذيهم في الدنيا والزمهرير أشد البرد وحكى الزمخشري قولا أن الزمهرير هو القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيئ وأنشد : وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر والمعنى أن الجنة ضياء لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي قريبة منهم ظلال أشجارها وَذُلِّلَتْ أي سخرت وقربت قُطُوفُها أي ثمارها تَذْلِيلًا أي يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ، ويتناولونها كيف شاؤوا وعلى أي حال أرادوا. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ قيل هي الكيزان التي لا عرى لها كالقدح ونحوه كانت قواريرا قوارير من فضة قال أهل التفسير أراد بياض الفضة في صفاء القوارير وهو الزجاج ، والمعنى أن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء في صفاء الزجاج ، والمعنى يرى ما في باطنها من ظاهرها ، قال الكلبي : إن اللّه تبارك وتعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم ، وإن أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون فيها ، وقيل إن القوارير التي في الدنيا من الرمل والقوارير التي في الجنة من الفضة ، ولكنها أصفى من الزجاج. قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا الكؤوس على قدر ريهم ، وكفايتهم لا تزيد ولا تنقص. والمعنى أن السقاة والخدم الذين يطوفون عليهم يقدرونها لهم ثم يسقونهم. وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) ١٧٢١وَيُسْقَوْنَ فِيها أي في الجنة كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا قيل إن الزنجبيل هو اسم للعين التي يشرب منها الأبرار يوجد منها طعم الزنجبيل يشرب بها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة ، وقيل هو النبت المعروف ، والعرب كانوا يجعلون الزنجبيل في شرابهم لأنه يحصل فيه ضرب من اللذع قال الأعشى : كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا الأري العسل والمشور المستخرج من بيوت النحل وقال المسيب بن علس : فكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته سلافة الخمر فلما كان الزنجبيل مستطابا عند العرب وصف اللّه تعالى شراب أهل الجنة بذلك ، وقيل إن شرب أهل الجنة على برد الكافور ، وطعم الزنجبيل وريح المسك قال ابن عباس : كل ما ذكر اللّه تعالى في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا ، وذلك لأن زنجبيل الجنة لا يشبه زنجبيل الدنيا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا أي سلسلة منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا وقيل حديدة الجرية سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليها في طرقهم ، ومنازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى سائر الجنان ، وقيل سميت بذلك لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق ومعنى تسمى أي توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيلا صفة لا اسم وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي في الخدمة وقيل مخلدون مسرورون ومقرطون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً يعني في بياض اللؤلؤ الرطب وحسنه ، وصفائه ، واللؤلؤ إذا انتثر على البساط كان أصفى منه منظوما ، وقيل إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة. قوله عز وجل : وَإِذا رَأَيْتَ قيل الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل لكل واحد ممن يدخل الجنة والمعنى إذا رأيت ببصرك ونظرت به ثَمَّ يعني إلى الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً أي لا يوصف عظمه وَمُلْكاً كَبِيراً قيل هو أن أدناهم منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه وهو استئذان الملائكة عليهم وقيل معناه ملكا لا زوال له ولا انتقال عالِيَهُمْ أي فوقهم ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٌ وهو ما غلظ منه وكلاهما داخل في اسم الحرير وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً يعني طاهرا من الأقذار والأردان لم تمسه الأيدي ، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا وقيل إنه لا يستحيل بولا ، ولكنه يستحيل رشحا في أبدانهم كرشح المسك ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ثم من بعده يؤتون بالشراب الطهور فيشربون منه فتطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهواتهم ، وقيل الشراب الطهور هو عين ماء على باب الجنة من شرب منه نزع اللّه ما كان في قلبه من غل وغش وحسد. إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) ٢٢٢٦إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم نعيمها. إن هذا كان لكم جزاء قد أعده اللّه لكم إلى هذا الوقت. فهو لكم بأعمالكم ، وقيل هو إخبار من اللّه تعالى لعباده المؤمنين أنه قد أعده لهم في الآخرة وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي شكرتكم عليه وآتيتكم أفضل منه ، وهو الثواب ، وقيل شكر اللّه لعباده هو رضاء منهم بالقليل من الطاعة وإعطاؤه إياهم الكثير من الخيرات. قوله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ أي يا محمد الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا قال ابن عباس : متفرقا آية بعد آية ولم ننزله جملة واحدة ، والمعنى أنزلنا عليك القرآن متفرقا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين ، والمقصود من ذلك تثبيت قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشرح صدره وإن الذي أنزله إليه وحي منه ليس بكهانة ، ولا سحر لتزول تلك الوحشة التي حصلت له من قول الكفار إنه سحر أو كهانة. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي لعبادته فهي من الحكمة المحضة ، وقيل معناه فاصبر لحكم ربك في تأخير الإذن في القتال ، وقيل هو عام في جميع التكاليف ، أي فاصبر لحكم ربك في كل ما حكم اللّه به سواء كان تكليفا خاصا كالعبادات والطاعات أو عاما متعلقا بالغير كالتبليغ ، وأداء الرسالة وتحمل المشاق وغير ذلك. وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل أراد به أبا جهل ، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاه أبو جهل عنها ، وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه ، وقيل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة ، وبالكفور الوليد بن المغيرة وذلك أنهما قالا للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء ، والمال فارجع عن هذا الأمر ، وقال عتبة أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر ، وقال الوليد أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. فإن قلت هل من فرق بين الآثم والكفور قلت نعم. الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت ، والكفور هو الجاحد فكل كفور آثم ، ولا ينعكس لأن من عبد غير اللّه فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان لأنه لما عبد غير اللّه فقد عصاه وجحد نعمه عليه. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قيل المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى وصل لربك بكرة يعني صلاة الصبح وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني صلاة المغرب والعشاء فعلى هذا تكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة الخمس وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا يعني صلاة التطوع بعد المكتوبة وهو التهجد بالليل ، وقيل المراد من الآية هو الذكر باللسان ، والمقصود أن يكون ذاكرا للّه تعالى في جميع الأوقات في الليل والنهار بقلبه وبلسانه. قوله عز وجل : إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار مكة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني الدار العاجلة ، وهي الدنيا. وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا يعني شديدا وهو يوم القيامة والمعنى أنهم يتركونه فلا يؤمنون به ، ولا يعملون له نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أي قوينا وأحكمنا أَسْرَهُمْ أي خلقهم وقيل أوصالهم شددنا بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب ، وقيل الأسر مجرى البول والغائط ، وذلك أنه إذا خرج الأذى انقبضا. وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي إذا شئنا أهلكناهم ، وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم. إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١) ٢٩٣١إِنَّ هذِهِ أي السورة تَذْكِرَةٌ أي تذكير وعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ أي لنفسه في الدنيا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي وسيلة بالطاعة ، والتقرب إليه وهذه مما يتمسك بها القدرية يقولون اتخاذ السبيل هو عبارة عن التقرب إلى اللّه تعالى ، وهو إلى اختيار العبد ، ومشيئته قال أهل السنة ويرد عليهم قوله عز وجل في سياق الآية. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي لستم تشاؤون إلا بمشيئة اللّه تعالى لأن الأمر إليه ، ومشيئة اللّه مستلزمة لفعل العبد فجميع ما يصدر عن العبد بمشيئة اللّه جلّ جلاله وتعالى شأنه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بأحوال خلقه وما يكون منهم حَكِيماً أي حيث خلقهم مع علمه بهم يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أي في دينه وقيل في جنته فإن فسرت الرحمة بالدين كان ذلك من اللّه تعالى وإن فسرت بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة اللّه جلّ جلاله وتعالى شأنه وفضله وإحسانه لا بسبب الاستحقاق وَالظَّالِمِينَ يعني المشركين أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما ، واللّه سبحانه وتعالى أعلم. |
﴿ ٠ ﴾