سورة عبسمكية وهي إحدى وأربعون آية ومائة وثلاثون وخمسمائة وثلاثة وثلاثون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) ١٣قوله عز وجل : عَبَسَ وَتَوَلَّى أي كلح وقطب وجهه وتولى أي أعرض بوجهه. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى يعني ابن أم مكتوم ، واسمه عمرو ، وقيل عبد اللّه بن شريح بن مالك بن ربيعة ، وقيل عمرو قيس بن زائدة بن الأصم بن زهرة بن رواحة القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي ، واسم أمه عاتكة بنت عبد اللّه المخزومية ، وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد أسلم قديما بمكة ، وذلك أنه أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ، وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأخاه أمية بن خلف ويدعوهم إلى اللّه يرجو إسلامهم فقال ابن أم مكتوم : يا رسول اللّه أقرئني وعلمني مما علمك اللّه وجعل يناديه ويكرر النّداء ، وهو لا يدري أنه مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه يقول هؤلاء الصّناديد إنما اتبعه الصّبيان ، والعبيد ، والسّفلة فعبس وجهه وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم ، فأنزل اللّه هذه الآيات معاتبة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك يكرمه إذا رآه ، ويقول مرحبا بمن عاتبني اللّه فيه ويقول له هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين وكان من المهاجرين الأولين ، وقيل قتل شهيدا بالقادسية قال أنس : رأيته يوم القادسية ، وعليه درع ومعه راية سوداء ، عن عائشة رضي اللّه عنها قالت (أنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجعل يقول يا رسول اللّه أرشدني ، وعند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عظماء قريش من المشركين فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين ويقول أترى بما أقول بأسا فيقول لا ففي هذا أنزلت) أخرجه التّرمذي ، وقال حديث غريب وَما يُدْرِيكَ أي أي شيء يجعلك داريا لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر من الذّنوب بالعمل الصّالح وما يتعلمه منك. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) ٤١٥أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي الموعظة أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس : عن اللّه وعن الإيمان بما له من المال فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتعرض له ، وتقبل عليه وتصغى إلى كلامه وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا يؤمن ، ولا يهتدي وإنما عليك البلاغ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يعني يمشي يعني ابن أم مكتوم وَهُوَ يَخْشى أي اللّه عز وجل فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تتشاغل وتعرض عنه كَلَّا أي لا تفعل بعدها مثلها إِنَّها يعني الموعظة وقيل آيات القرآن تَذْكِرَةٌ أي موعظة للخلق فَمَنْ شاءَ أي من عباد اللّه ذَكَرَهُ أي اتعظ به يعني القرآن ثم وصف جلالة القرآن ، ومحله عنده فقال عز وجل فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني القرآن في اللّوح المحفوظ مَرْفُوعَةٍ أي رفيعة القدر عند اللّه ، وقيل مرفوعة في السّماء السابعة مُطَهَّرَةٍ يعني الصحف لا يمسها إلا المطهرون ، وهم الملائكة بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس : يعني كتبة ، وهم الملائكة الكرام الكاتبون ، واحدهم سافر ومنه قيل للكتاب سفر ، وقيل هم الرّسل من الملائكة إلى الأنبياء واحدهم سفير ، ثم أثنى عليهم. بقوله : كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ١٦٢٥كِرامٍ أي هم كرام على اللّه بَرَرَةٍ أي مطيعين له جمع بار. قوله عز وجل : قُتِلَ الْإِنْسانُ أي لعن الكافر وطرد ما أَكْفَرَهُ أي أشد كفره باللّه مع كثرة إحسانه إليه ، وأياديه عنده وهذا على سبيل التّعجب ، أي أعجبوا من كفره وقيل معناه أي شيء حمله على الكفر ، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبي لهب ، وقيل في أمية بن خلف ، وقيل في الذين قتلوا يوم بدر ، وقيل الآية عامة في كل كافر ، ثم بين من أمره ما كان ينبغي أن يعلم أن اللّه تعالى : خالقه منه فقال تعالى : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ لفظه استفهام ومعناه التّقرير ، ثم فسر ذلك فقال تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ يعني خلقه أطوارا نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ، إلى آخر خلقه ، وقيل قدره يعني خلق رأسه ، وعينيه ويديه ، ورجليه على قدر ما أراده ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي سهل له طريق خروجه من بطن أمه ، وقيل سهل له العلم بطريق الحق والباطل ، وقيل يسر على كل أحد ما خلق له وقدر عليه. ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعل له قبرا يوارى فيه ، وقيل جعله مقبورا ، ولم يجعله ملقى للسّباع ، والوحوش والطّيور ، أو أقبره معناه ستره اللّه بحيث يقبر وجعله ذا قبر يدفن فيه ، وهذه تكرمة لبني آدم على سائر الحيوانات. ثم قال تعالى : ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي أحياه بعد موته للبعث ، والحساب وإنما قال تعالى ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ لأن وقت البعث غير معلوم لأحد فهو إلى مشيئة اللّه تعالى متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم كَلَّا ردع وزجر للإنسان عن تكبره وتجبره وترفعه ، وعن كفره وإصراره على إنكار التوحيد ، وإنكار البعث والحساب لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره به ربه ، ولم يؤد ما فرض عليه ، ولما ذكر خلق ابن آدم ذكر رزقه ليعتبر فإنه موضع الاعتبار فقال تعالى : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى قدرة ربه فيه أي كيف قدره ربه ، ويسره ودبره له وجعله سببا لحياته ، وقيل مدخل طعامه ومخرجه. ثم بين ذلك فقال تعالى : أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني المطر. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) ٢٦٣٧ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي بالنبات فَأَنْبَتْنا فِيها أي بذلك الماء حَبًّا يعني الحبوب التي يتغدى بها الإنسان وَعِنَباً يعني أنه غذاء من وجه ، وفاكهة من وجه ، فلهذا أتبعه الحب وَقَضْباً يعني القت وهو الرطب سمي بذلك لأنه يقتضب ، أي يقطع في كل الأيام ، وقيل القضب هو العلف كله الذي تعلف به الدواب. وَزَيْتُوناً وهو ما يعصر منه الزيت وَنَخْلًا وَحَدائِقَ جمع حديقة غُلْباً يعني غلاظ الأشجار ، وقيل الغلب الشجر الملتف بعضه على بعض. وقال ابن عباس : طوالا وَفاكِهَةً يعني جميع ألوان الفاكهة وَأَبًّا يعني الكلأ والمرعى الذي لم يزرعه الناس مما يأكله الدواب والأنعام ، وقيل فاكهة ما يأكله الناس ، والأب ما يأكله الدّواب. وقال ابن عباس : ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس. والأنعام روى إبراهيم التيمي أن أبا بكر سئل عن قوله : وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال أي سماء تظلني ، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا أعلم (خ) عن أنس أن عمر قرأ وَفاكِهَةً وَأَبًّا قال فما الأب ، ثم قال ما كلفنا أو قال ما أمرنا بهذا لفظ البخاري ، وزاد غيره ثم قال اتبعوا ما بين لكم هذا الكتاب وما لا فدعوه. مَتاعاً لَكُمْ يعني الفواكه والحب ، والعشب منفعة لكم وَلِأَنْعامِكُمْ ثم ذكر أهوال القيامة فقال تعالى : فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني صيحة القيامة سميت صاخة لأنها تصخ أسماع الخلق ، أي تبالغ في أسماعهم حتى تكاد تصمها يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ أي إنه لا يلتفت إلى واحد من هؤلاء لشغله بنفسه ، والمراد من الفرار التّباعد ، والسبب في ذلك الاحتراز عن المطالبة بالحقوق فالأخ يقول ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان قصرت في برنا ، والصاحبة تقول لم توفني حقي والبنون يقولون ما علمتنا وما أرشدتنا ، وقيل أول من يفر هابيل من أخيه قابيل ، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من أمه وإبراهيم عليه الصّلاة والسّلام من أبيه ولوط من صاحبته ونوح من ابنه ، وقيل يفر المؤمن من موالاة هؤلاء ، ونصرتهم والمعنى أن هؤلاء الذين كانوا يقربونهم في الدنيا ، ويتقوون بهم ويتعززون بهم يفرون منهم في الدّار الآخرة ، وفائدة الترتيب كأنه قيل يوم يفر المرء من أخيه بل من أبويه لأنهما أقرب من الإخوة بل من الصّاحبة ، والولد لأن تعلقه بهما أشد من تعلقه بالأبوين لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يشغله شأن نفسه عن شأن غيره عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (تحشرون حفاة عراة غرلا ، فقالت امرأة أيبصر أحدنا ، أو يرى بعضنا عورة بعض قال : يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) أخرجه التّرمذي وقال : حديث حسن صحيح ولما ذكر اللّه تعالى حال القيامة ، وأهوالها بين حال المكلفين ، وأنهم على قسمين منهم السعداء والأشقياء. فوصف السّعداء بقوله تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢) ٣٨٤٢وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مشرقة مضيئة من أسفر الصبح إذا أضاء ، وقيل مسفرة من قيام اللّيل ، وقيل من أثر الوضوء ، وقيل من الغبار في سبيل اللّه ضاحِكَةٌ أي عند الفراغ من الحساب مُسْتَبْشِرَةٌ أي بالسرور فرحة بما تنال من كرامة اللّه ، ورضوانه. ثم وصف الأشقياء فقال تعالى : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي سواد وكآبة للهم الذي نزل بهم تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي تعلوها ، وتغشاها ظلمة ، وكسوف وقال ابن عباس : تغشاها ذلة والفرق بين الغبرة والقترة أن الغبرة ما كان أسفل في الأرض ، والقترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء أُولئِكَ أي الذين صنع بهم هذا هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ جميع كافر وفاجر واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. |
﴿ ٠ ﴾