سورة التكوير

مكية وهي تسع وعشرون آية ومائة ، وأربع كلمات وخمسمائة وثلاثون حرفا.

عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي العين فليقرأ : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أخرجه الترمذي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤)

وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧)

١

٥

قوله عز وجل : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس : أظلمت ، وغورت ،

وقيل اضمحلت ،

وقيل لفت كما تلف العمامة ، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض ومعناه أن الشّمس يجمع بعضها إلى بعض ، ثم تلف فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها ، قال ابن عباس : يكور اللّه الشّمس ، والقمر ، والنّجوم يوم القيامة في البحر ، ثم يبعث عليها ريحا دبورا فتضربها فتصير نارا.

(خ) عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : (الشّمس والقمر يكوران يوم القيامة) قيل إن الشّمس ، والقمر ، جمادان فإلقاؤهما في النّار يكون سببا لازدياد الحر في جهنم.

وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تناثرت من السماء ، وسقطت على الأرض. قال الكلبي وعطاء : تمطر السّماء يومئذ نجوما ، فلا يبقى نجم إلا وقع وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي عن وجه الأرض ، فصارت هباء منثورا. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ يعني النوق الحوامل التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها ، واحدتها عشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة ، وهي أنفس مال عند العرب فإذا كان ذلك اليوم عطلت ، وتركت هملا بلا راع أهملها أهلها ، وقد كانوا لازمين لأذنابها ولم يكن مال أعجب إليهم منها لما جاءهم من أهوال يوم القيامة. وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني من دواب البر حُشِرَتْ أي جمعت يوم القيامة ليقتص لبعضها من بعض. وقال ابن عباس :

حشرها موتها قال : وحشر كل شيء موته غير الجن والإنس ، فإنهما يوقفان يوم القيامة. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال ابن عباس : أوقدت فصارت نارا تضطرم ،

وقيل فجر بعضها في بعض العذاب ، والملح حتى صارت البحار كلها بحرا واحدا

وقيل صارت مياهها من حميم أهل النّار ،

وقيل سجرت أي يبست ، وذهب ماؤها فلم تبق فيها قطرة.

قال أبي بن كعب : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينما النّاس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشّمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النّجوم فتحركت ، واضطربت ، وفزعت الإنس ، والجن ، واختلطت الدّواب ، والطّير ، والوحش ، وماج بعضهم في بعض. فذلك

قوله تعالى : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ

فحينئذ تقول الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فينطلقون إلى البحر ، فإذا هو نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ انصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم ، وعن ابن عباس قال : هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا ، وستة في الآخرة ، وهي ما ذكر بعد هذه. وهو

قوله تعالى : وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : يقرن بين الرّجل الصّالح مع الرجل الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السّوء مع الرجل السوء في النّار ،

وقيل ألحق كل امرئ بشيعته اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ،

وقيل يحشر الرجل مع صاحب عمله ،

وقيل زوّجت النّفوس بأعمالها ،

وقيل زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشّياطين ،

وقيل معنى زوّجت ردت الأرواح إلى الأجساد.

وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢)

وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣)

٨

١٣

وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ يعني الجارية التي دفنت ، وهي حية سميت بذلك لما يطرح عليها من التراب ، فيئدها ، أي يثقلها حين تموت ، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. تدفن البنات حية مخافة العار ، والحاجة ، وروي عن ابن عباس قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت ، وكان أوان ولادتها حفرت حفيرة ، فتمخضت على رأس الحفيرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفيرة ، وإذا ولدت غلاما حبسته ،

وقيل كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت ، وأراد بقاءها حية ألبسها جبة صوف ، أو شعر وتركها ترعى الإبل ، والغنم في البادية ، وإذا أراد قتلها تركها حتى تشب ، فإذا بلغت قال لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر بئرا في الصّحراء ، فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، فإذا نظرت دفعها من ورائها ، ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض ، عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (الوائدة ، والموءودة في النّار) أخرجه أبو داود ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد ، ولم يئد فافتخر به الفرزدق في شعره فقال :

ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم توأد

بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ معناه تسأل الموءودة ، فيقال لها ، بأي ذنب قتلت ، ومعنى سؤالها لها توبيخ قاتلها.

لأنها قتلت بغير ذنب. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني صحائف الأعمال تنشر للحساب وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي نزعت ، وطويت ،

وقيل قلعت كما يقلع السقف ،

وقيل كشفت ، وأزيلت عمن فيها. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت لأعداء اللّه تعالى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت لأولياء اللّه.

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨)

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)

١٤

٢٢

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ يعني عند ذلك تعمل كل نفس ما أحضرت من خير ، أو شر وهذا جواب لقوله إذا الشّمس كورت إلى هنا.

قوله عز وجل : فَلا أُقْسِمُ لا زائدة والمعنى أقسم ، وقد تقدم ذلك في قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ.

بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ يعني النّجوم تبدو بالليل ، فتظهر ، وتخنس بالنهار تحت نور الشّمس ، ونحو هذا المعنى روي عن علي بن أبي طالب ،

وقيل هي النّجوم الخمسة زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ،

تخنس في مجاريها ، أي ترجع وراءها في الفلك ، وتنكس ، أي تستر وقت اختفائها ،

وقيل إنها تخنس ، أي تتأخر عن مطالعها ، والكنس معناه أنها لا ترى بالنهار ،

وقيل هي الظباء ، وهي رواية عن ابن عباس ، وأصل الخنوس الرّجوع إلى وراء ، والكنوس هو أن تأوي إلى كناسها ، وهو الموضع الذي يأوي إليه الوحوش. وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أقبل بظلامه

وقيل أدبر ، والعسعسة رقة الظّلام ، وذلك يكون في طرف الليل. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي أقبل وبدا أوله

وقيل أسفر.

وفي تنفسه قولان

أحدهما : أن في إقبال الصبح روحا ، ونسيما فجعل ذلك نفسا على المجاز الثاني ، أنه شبه الليل بالمكروب المحزون ، فإذا تنفس وجد راحة ، فكأنه تخلص من الحزن ، فعبر عنه بالتنفس ، فهو استعارة لطيفة ، ولما ذكر المقسم به أتبعه بالمقسم عليه

فقال تعالى : إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني جبريل عليه الصلاة والسلام والمعنى أن جبريل نزل به عن اللّه عز وجل : ذِي قُوَّةٍ وكان من قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط الأربع من الماء الأسود ، وحملها على جناحه ، فرفعها إلى السماء ، ثم قلبها ، وأنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه الصلاة والسلام على بعض عقاب الأرض المقدسة ، فنفحه بجناحه نفحة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند ، وأنه صاح صيحة بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وأنه يهبط من السّماء إلى الأرض ، ثم يصعد في أسرع من رد الطّرف عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي في المنزلة والجاه مُطاعٍ ثَمَّ أي في السموات تطيعه الملائكة ، ومن طاعة الملائكة له أنهم فتحوا أبواب السّموات ليلة المعراج بقوله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفتح خزنة الجنة أبوابها بقوله أَمِينٍ يعني على وحي اللّه تعالى إلى أنبيائه وَما صاحِبُكُمْ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يخاطب كفار مكة بِمَجْنُونٍ وهذا أيضا من جواب القسم أقسم على أن القرآن نزل به جبريل وأن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بمجنون كما يقول أهل مكة ، وذلك أنهم قالوا إنه مجنون ، وأن ما يقوله ليس هو إلا من عند نفسه فنفى اللّه عنه الجنون ، وكون القرآن من عند نفسه.

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧)

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩)

٢٣

٢٩

وَلَقَدْ رَآهُ يعني رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته التي خلق فيها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يعني بالأفق الأعلى من ناحية المشرق حيث تطلع الشّمس ، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لجبريل عليه الصّلاة والسّلام (إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السّماء قال : لن تقوى على ذلك قال ، بلى قال ، فأين تشاء أن أتخيل لك قال بالأبطح ، قال لا يسعني ذلك ، قال : فبمنى قال لا يسعني ذلك قال فبعرفات ، قال : لا يسعني ذلك قال بحراء قال إن يسعني فواعده فخرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك الوقت. فإذا هو بجبريل قد أقبل من حيال عرفات بخشخشه ، وكلكله قد ملأ ما بين المشرق ، والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خر مغشيا عليه ، فتحول جبريل عن صورته ، وضمه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ، ورأسه تحت العرش ، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة اللّه جلّ جلاله وعلا علاؤه وشأنه حتى يصير كالصّعو ، يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته) وَما هُوَ يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السّماء ، وما اطلع عليه مما كان غائبا عن علمه من القصص والأنباء.

بِضَنِينٍ قرأ بالظاء ، ومعناه بمتهم والمظنة التهمة ، وقرئ بضنين بالضاد ، ومعناه ببخيل يقول إنه يأتيه علم الغيب ، ولا يبخل به عليكم ، ويخبركم به ، ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلوانا ، وهو أجرة الكاهن ، وقراءة الظاء أولى لأنهم لم يبخلوه ، وإنما اتهموه ، فنفى اللّه عنه تلك التهمة ، ولو أراد البخل لقال وما هو بالغيب. وَما هُوَ يعني

القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ يعني إن القرآن ليس بشعر ، ولا كهانة كما قالت قريش ،

وقيل كانوا يقولون إن شيطانا يلقيه على لسانه ، فنفى اللّه ذلك عنه ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي فأين تعدلون عن القرآن ، وفيه الشفاء ، والهدى ، والبيان ،

وقيل معناه أي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم. إِنْ هُوَ يعني ما في القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي يتبع الحق ، ويقيم عليه ، وينتفع به ثم بين أن مشيئة العبد موقوفة بمشيئته

فقال تعالى : وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أعلمهم اللّه أن المشيئة في التوفيق للاستقامة إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلا بمشيئة اللّه ، وتوفيقه ، وفيه إعلام أن أحدا لا يعمل خيرا إلا بتوفيق اللّه تعالى ولا شرا إلا بخذلانه ، ومشيئته واللّه تعالى أعلم.

﴿ ٠