سورة الأعلىمكية وهي تسع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وأحد وتسعون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) ١٤قوله عزّ وجلّ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي قل سبحان ربي الأعلى ، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس (أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، فقال سبحان ربي الأعلى) ، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي ، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون ، فعلى هذا يكون الاسم صلة ، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم ، ولذكره محترم. وقال ابن عباس : سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى. عن عقبة بن عامر ، قال : (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم اجعلوها في ركوعكم ، ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال : اجعلوها في سجودكم) أخرجه أبو داود الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين ، وقيل خلق الإنسان مستويا معتدل القامة. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها ، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى ، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه ، وقيل قدر السعادة لأقوام ، والشقاوة لأقوام ، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له ، وعليه ، وقيل قدر الخير والشر ، وهدى إليهما ، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه ، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها ، وهو قوله تعالى : وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) ٥١٤فَجَعَلَهُ يعني المرعى بعد الخضرة غُثاءً أي هشيما يابسا باليا كالغثاء الذي تراه فوق السيل. أَحْوى أي أسود بعد الخضرة ، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود. قوله عزّ وجلّ : سَنُقْرِئُكَ أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك. فَلا تَنْسى يعني ما يقرأ عليك ، وذلك أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا نزل جبريل بالوحي ، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأولها ، مخافة أن ينساها ، فأنزل اللّه تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس شيئا بعد ذلك إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني أن تنساه وهو ما نسخ اللّه تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور ، وقيل معناه إلا ما شاء اللّه أن تنساه ، ثم تذكره بعد ذلك ، كما صح من حديث عائشة رضي اللّه عنها. قال : (سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه اللّه لقد أذكرني كذا وكذا ، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا) وفي رواية (كنت أسقطتهن من سورة كذا) أخرجاه في الصحيحين ، وقيل هذا الاستثناء لم يقع ، ولم يشأ اللّه أن ينسيه شيئا. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ يعني من القول والفعل. وَما يَخْفى يعني منهما والمعنى ، أنه تعالى يعلم السر والعلانية. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي نهون عليك أن تعمل خيرا ونسهله عليك حتى تعمله ، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة ، وقيل هو متصل بالكلام الأول ، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه ، ولا تنساه. فَذَكِّرْ أي فعظ بالقرآن. إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي مدة نفع الموعظة ، والتذكير ، والمعنى عظ أنت ، وذكر أن نفعت الذكرى ، أو لم تنفع ، إنما عليك البلاغ. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيتعظ من يخشى اللّه تعالى. يَتَجَنَّبُهَا أي الذكرى ويتباعد عنها.َْشْقَى أي في علم اللّه تعالى ، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي النار العظيمة الفظيعة ، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة ، والنار الصغرى هي نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها أي في النار فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة طيبة تنفعه. قوله عزّ وجلّ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا اللّه قاله ابن عباس : وقيل قد أفلح من كان عمله زاكيا ، وقيل هو صدقة الفطر ، روي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه في قوله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال : أعطى صدقة الفطر. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩) ١٥١٩وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال : خرج إلى العيد فصلّى وكان ابن مسعود يقول : رحم اللّه امرأ تصدق ثم صلّى. ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع : كان ابن عمر إذا صلّى الغداة يعني يوم العيد قال : يا نافع أخرجت الصدقة ، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى ، وإن قلت لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلّى. فإن قلت فما وجه هذا التأويل ، وهذه السورة مكية ، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. قلت يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم ، كما قال : وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ وهذه السورة مكية ، وظهر أثر الحل يوم الفتح ، وكذا نزل بمكة سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، وكان ذلك يوم بدر. قال عمر بن الخطاب : كنت لا أدري أي جمع سيهزم ، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يثب في الدرع ، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر. ووجه آخر وهو أنه كان في علم اللّه تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه ، وقيل وذكر اسم ربه فصلّى يعني الصلوات الخمس ، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد ، وبالصلاة صلاة العيد. قوله عزّ وجلّ : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية ، والباقي خير من الفاني ، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج : كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا لا قال : لأن الدنيا حضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل ، وتركنا الآجل ، وقيل إن أريد بذلك الكفار ، فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة ، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة ، وهو خير وأبقى. إِنَّ هذا أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا ، وهو أربع آيات. لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن ، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى : صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى ، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة ، بل جميع الشرائع متفقة عليه. عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه قال (دخلت المسجد فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول اللّه ، قال : ركعتان تركعهما ، قلت يا رسول اللّه هل أنزل اللّه عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر اقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ، إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى قلت يا رسول اللّه ، فما كان صحف موسى ، قال : كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ، كيف يفرح؟! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟! عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب! عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل)! أخرج هذا الحديث رزين في كتابه ، وذكره ابن الأثير في كتابه جامع الأصول. ولم يعلم عليه شيئا عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال : (كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو اللّه أحد في ركعة ركعة). أخرجه الترمذي والنسائي. وعن عبد العزيز بن جريج قال (سألنا عائشة بأي شيء كان يوتر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالت كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى ، وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون ، وفي الثالثة بقل هو اللّه أحد المعوذتين) ، أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي. وقال : حديث حسن غريب ، واللّه أعلم. |
﴿ ٠ ﴾