سورة البلد(مكية وهي عشرون آية ، واثنتان وثمانون كلمة ، وثلاثمائة وعشرون حرفا) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) ١٤قوله عزّ وجلّ : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة ، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي مقيم به ، نازل فيه ، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مقيم بها وقيل حل أي حلال ، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل ، والأسر ، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها ، أحل اللّه عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل ، وأمر بقتل ابن خطل ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وأحل دماء قوم ، وحرم دماء قوم آخرين ، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ثم قال بعد ذلك إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، ولم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة ، والمعنى أن اللّه تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها ، وشرفها ، وحرمتها ، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم ، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها ، وأن يفتحها على يده ، فهذا وعد من اللّه تعالى في الماضي ، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة ، وخروجه منها ، فكان كما وعده ، وقيل في معنى قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيدا ، ويستحلون قتلك فيه ، وإخراجك منه. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ يعني آدم وذريته أقسم اللّه تعالى بمكة لشرفها ، وحرمتها ، وبآدم ، وبالأنبياء والصالحين من ذريته ، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به ، وجواب القسم قوله تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال ابن عباس : في نصب ، وقيل يكابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة ، وعنه أيضا قال : في شدة من حمله ، وولادته ، ورضاعه ، وفطامه ، وفصاله ، ومعاشه ، وحياته ، وموته وأصل الكبد الشدة ، وقيل لم يخلق اللّه خلقا يكابد ، ما يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق ، وعن ابن عباس أيضا قال : الكبد الاستواء ، والاستقامة ، فعلى هذا يكون المعنى ، خلقنا الإنسان منتصبا معتدل القامة ، وكل شيء من الحيوان يمشي منكبا ، وقيل منتصبا ، رأسه في بطن أمه فإذا أذن اللّه في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل ، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه ، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) ٥١١أَيَحْسَبُ أبو الأشد من قوته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني أيظن لشدته في نفسه ، أنه لا يقدر عليه اللّه ، وقيل هو الوليد بن المغيرة المخزومي. يَقُولُ يعني هذا الكافر أَهْلَكْتُ أي أنفقت مالًا لُبَداً أي كثيرا من التلبيد الذي يكون بعضه فوق بعض. يعني في عداوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني أيظن أن للّه لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وقيل كان كاذبا في قوله ، إنه أنفق ولم ينفق جميع ما قال والمعنى أيظن أن اللّه لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته. ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر فقال تعالى : أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ يعني أن نعم اللّه على عبده متظاهرة ، يقروه بها كي يشكره ، وجاءه في الحديث (إن اللّه عزّ وجلّ يقول : ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه ، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه ، وإن نازعك فرجك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه). وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال أكثر المفسرين طريق الخير والشر والحق ، والباطل ، والهدى ، والضلالة ، وقال ابن عباس : الثديين فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين يكون ذلك خيرا له من إنفاقه في عداوة من أرسله اللّه إليه ، وهو محمد صلّى اللّه عليه وسلّم ، وقيل معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدّخول في الأمر الشّديد ، وذكر العقبة مثل ضربه اللّه تعالى : لمجاهدة النّفس ، والهوى ، والشّيطان في أعمال الخير ، والبر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول اللّه عزّ وجلّ : لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرّقبة ، والإطعام ، وقيل إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بالعقبة ، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين. كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها ، وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم ، وقيل هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة اللّه ومجاهدة النفس ، وقيل هي الصّراط يضرب على متن جهنم كحد السّيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلا وصعودا وهبوطا ، وأن بجنبيه كلاليب وخطاطيف ، كأنها شوك السّعدان فناج مسلم ، وناج مخدوش ، ومكردس في الناس منكوس ، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمر كالريح العاصف ، ومنهم من يمر كالفارس ، ومنهم من يمر كالرّجل يعدو ، ومنهم من يمر كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفا ومنهم الزّالون ومنهم من يكردس في النار ، وقيل معنى الآية : فهلا سلك طريق النجاة ثم بين ما هي. فقال تعالى : وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) ١٢١٧وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ يعني عتق الرقبة وهو إيجاب الحرية لها ، وإبطال الرق ، والعبودية عنها ، وذلك بأن يعتق الرجل الرّقبة التي في ملكه ، أو يعطي مكاتبا ما يصرفه في فكاك رقبته ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار (ق) عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (من أعتق رقبة مسلمة أعتق اللّه بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه) وروى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال : (جاء أعرابي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال يا رسول اللّه علمني عملا يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النّسمة ، وفك الرّقبة قال أوليسا واحدا قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظّالم ، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظّمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير) وقيل في معنى الآية وفك رقبة من رق الذّنوب بالتّوبة وبما يتكلفه من العبادات ، والطاعات التي يصير بها إلى رضوان اللّه ، والجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي في يوم ذي مجاعة والسغب الجوع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة يريد يتيما بينك وبينه قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ يعني قد لصق بالتراب من فقره وضره وقال ابن عباس : هو المطروح في التّراب لا يقيه شيء والمتربة الفقر ، ثم بين أن هذه القرب لا تنفع إلا مع الإيمان بقوله ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا والمعنى أنه كان مؤمنا تنفعه هذه القرب ، وكان مقتحما العقبة ، وإن لم يكن مؤمنا لا تنفعه هذه القرب ولا يقتحم العقبة وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني وصى بعضهم بعضا على الصبر على أداء الفرائض ، وجميع أوامر اللّه ونواهيه. وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي برحمة الناس وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر اللّه والشفقة على خلق اللّه. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠) ١٨٢٠أُولئِكَ يعني أهل هذه الخصال أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ يعني مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم. واللّه سبحانه وتعالى أعلم بمراده. |
﴿ ٠ ﴾