سورة البقرة
التفسير :
١
قوله تعالى :
{الم} : اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور،
فذهب كثير منهم إلى أنّها من
المتشابهات التي استأثر اللّه بعلمها،
فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى
اللّه تأويلها.
قال أبو بكر الصديق
(رضي اللّه عنه) : في كل كتاب سر،
وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالبج : إنّ
لكل كتاب صفوة،
وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون،
فقال سعيد بن جبير : هي أسماء
اللّه مقطّعة،
لو أحسن الناس تأليفها لعلموا
اسم اللّه الأعظم،
ألا ترى أنّك تقول :
{الر} وتقول :
{حم} وتقول :
{} فيكون الرحمن،
وكذلك سائرها على هذا الوجه،
إلاّ أنّا لا نقدر على وصلها
والجمع بينها.
وقال قتادة : هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس : هي أقسام أقسم
اللّه بها،
وروي أنّه ثناء أثنى اللّه به
على نفسه.
وقال أبو العالية : ليس منها
حرف إلاّ وهو مفتاح لإسم من أسماء اللّه عز وجل،
وليس منها حرف إلاّ وهو في
الآية وبلائه،
وليس منها حرف إلاّ في مدّة قوم
وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى : معنى
هذه الحروف أنّ اللّه ذكرها،
فقال : اسمعوها مقطعة،
حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم
قد عرفتموها قبل ذلك،
وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة،
وكان اللّه أسمعهم مقطعة مفردة،
ليعرفوها إذا وردت عليهم،
ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق : إنّها تكتب
للكفار،
وذلك أنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها،
وكان المشركون يقولون : لا
تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون.
فربما صفّقوا وربما صفّروا
وربما لفظوا ليغلّطوا النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) فلمّا رأى رسول اللّه ذلك
أسرَّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها،
وكانوا يضايقونه ويؤذونه،
فأنزل اللّه تعالى هذه الحروف
المقطعة،
فلمّا سمعوها بقوا متحيرين
متفكّرين،
فاشتغلوا بذلك عن إيذائه
وتغليطه،
فكان ذلك سبباً لاستماعهم
وطريقاً إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش : إنّما أقسم اللّه
بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها،
ولأنّها مباني كتبه المنزلة
بالألسن المختلفة،
ومباني أسمائه الحسنى وصفاته
العليا،
وأصول كلام الأُمم بما يتعارفون
ويذكرون اللّه ويوحّدونه،
وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ
القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه.
وقال النقيب : هي النبهة
والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع،
كقولك : ولا إنّ زيداً ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها
أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف
الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن
كلّه
كقوله تعالى :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا يَرْكَعُونَ}
أي صلّوا لا يصلّون،
وقوله :
{وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِب} فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها،
وقال :
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أراد جميع أبدانكم.
وقال :
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}
أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد،
وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته :
لما رأيت امرها في خطي
وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط
فلم يزل ضربي بها ومعطي
فعبّر بلفظة
(خطي) عن جملة
حروف أبجد.
ويقول القائل :
(أ ب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها،
بل يريد جميعها وقرأت الحمد
للّه،
وهو يريد جميع السورة،
ونحوها كثير،
وكذلك عبّر اللّه بهذه الحروف
عن جملة حروف التهجّي،
والإشارة فيه أنّ اللّه تعالى
نبّه العرب وتحدّاهم،
فقال : إنّي قد نزّلت هذا
الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم،
وعليها مباني كلامكم،
فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء
نفسه،
فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله
أو بسورة مثله،
فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد
ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل
المعاني،
فإن قيل : فهل يكون حرفاً واحداً
عوداً للمعنى؟
وهل تجدون في كلام العرب أنْ يقال : الم زيد
قائم؟
وحم عمرو ذاهب؟
قلنا : نعم،
هذا عادة العرب يشيرون بلفظ
واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز :
قلت لها قفي فقالت قاف
لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان :
نادوهم ألا الجموا ألا تا
قالوا جميعاً كلّهم ألا فا
أي لا تركبون فقالوا : ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية :
قد وعدتني أم عمرو أن تا
تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح
وأنشد الزجّاج :
بالخير خيرات وإن شرّاً فا
ولا أريد الشرّ إلاّ أن تا
أراد بقوله
(فا) : وإن شراً
فشر له،
وبقوله : تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش : هذه الحروف ساكنة
لأنّ حروف الهجاء لا تعرب،
بل توقف على كلّ حرف على نيّة
السكت،
ولابدّ أن تفصل بالعدد في
قولهم واحد
اثنان ثلاثة أربعة.
قال أبو النجم :
أقبلت من عند زياد كالخرف
تخط رجلاي بخط مختلف
تكتبان في الطريق لام الألف
فإذا أدخلت حرفاً من حروف العطف
حركتها.
وأنشد أبو عبيدة :
إذا اجتمعوا على ألف وواو
وياء هاج بينهم جدال
وهذه الحروف تُذكّر على اللفظ
وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار : خلق اللّه
العلم من نور أخضر،
ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفاً
من أصل الكلام،
وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق
به،
فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك
كلّه
(.....) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى،
وتمايلت هيبة له،
فسجدت فصارت همزة،
فلمّا رأى اللّه تعالى تواضعها
مدّها وطوّلها وفضّلها،
فصارت ألفاً،
فتلفظه بها،
ثم جعل القلم ينطق حرفاً حرفاً
إلى ثمانية وعشرين حرفاً،
فجعلها مدار الكلام والكتب
والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة،
وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول
أسمائه،
ومقدّماً على الحروف كلّها،
فأمّا
قوله عزّ وجلّ :
{الم} فقد اختلف
العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السايب عن سعيد بن
جبير،
عن ابن عباس في قول اللّه تعالى
:
{الم}
قال : أنا اللّه
أعلم.
أبو روق عن الضحاك في
قوله
{الم} : أنا
اللّه أعلم.
مجاهد وقتادة :
{الم} اسم من
أسماء القرآن.
الربيع بن أنس :
(ألف) مفتاح اسم
اللّه،
و
(لام) مفتاح اسمه لطيف،
و
(ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة
قال :
{الم} قسم.
محمد بن كعب :
(الألف) آلاء
اللّه،
و
(اللام) لطفه،
و
(الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس :
(الألف) اللّه،
و
(اللام) جبرئيل،
أقسم اللّه بهم إنّ هذا الكتاب
لا ريب فيه،
ويحتمل أن يكون معناه على هذا
التأويل : أنزل اللّه هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد
(صلى اللّه عليه وسلم)
وقال أهل الإشارة :
(ألف) : أنا،
(لام) : لي،
(ميم) : منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر
الصادق،
وقد سئل عن
قوله :
{الم} فقال : في الألف
ست صفات من صفات اللّه : الابتداء؛ لأنّ اللّه تعالى ابتدأ جميع الخلق،
و
(الألف). إبتداء الحروف،
والاستواء : فهو عادل غير جائر،
و
(الألف) مستو في ذاته،
والانفراد : واللّه فرد والألف
فرد،
وإتصال الخلق باللّه،
واللّه لا يتصل بالخلق،
فهم يحتاجون إليه وله غنىً
عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف،
فالحروف متصلة : وهو منقطع عن
غيره،
واللّه باينَ بجميع صفاته من
خلقه،
ومعناه من الإلفة،
فكما أنّ اللّه سبب إلفة الخلق،
فكذلك الألف عليه تألفت الحروف
وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء : عجز عقول الخلق
في ابتداء خطابه،
وهو محل الفهم،
ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى
معرفة حقائق خطابه إلاّ بعلمهم،
فالعجز عن معرفة اللّه حقيقة
خطابه.
وأما محل
{الم} من الإعراب
فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل :
{الم} ابتداء،
٢
و
{ ذلك } ابتداء آخر و
{الْكِتَابُ} خبره،
وجملة الكلام خبر الابتداء
الأول.
{ ذلك } : قرأت العامة
{
ذلك } بفتح الذال،
وكذلك هذه وهاتان،
وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه،
(ذ) للاسم،
واللام عماد،
والكاف خطاب،
وهو إشارة إلى الغائب.
و
{الْكِتَابُ} : بمعنى المكتوب
كالحساب والعماد.
قال الشاعر :
بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً
أتتك من الحجج تتلى كتابها
أو مكتوبها،
فوضع المصدر موضع الاسم،
كما يقال للمخلوق خلق،
وللمصور تصوير،
وقال : دراهم من ضرب
الأمير،
أي هي مضروبة،
وأصله من الكتب،
وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض،
مأخوذ من
قولهم : كتب
الخرز،
إذا خرزته قسمين،
ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة :
وفراء غرفية أثاي خوارزها
مشلشل ضيعته فبينها الكتب
ويقال : كتبت البغل،
إذا حرمت من سفرتها الخلقة،
ومنه قيل للجند كتيبة،
وجمعها كتائب.
قال الشاعر :
وكتيبة جاءوا ترفل
في الحديد لها ذخرٌ
واختلفوا في هذا
{الْكِتَابُ}
قال ابن عباس والحسن وقتادة
ومجاهد والضحاك ومقاتل : هو القرآن،
وعلى هذا القول يكون
(ذلك) بمعنى
(هذا)
كقول اللّه تعالى :
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ}
أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي :
إن تك خيلي قد أُصيب صميمها
فعمداَ على عين تيممت مالكا
أقول له الرمح يأطر متنه
تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا
يريد
(هذا).
وروى أبو الضحى عن ابن عباس
قال : معناه ذلك
الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب :
{ ذلك الْكِتَابُ} الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب :
{ ذلك الْكِتَابُ} الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير : هو اللوح
المحفوظ.
عكرمة : هو التوراة والإنجيل
والكتب المتقدمّة.
وقال الفراء : إنّ اللّه تعالى
وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ،
فلمّا أنزل القرآن
قال : هو الكتاب
الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان : تأويله أنّ
اللّه تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة
البقرة بعدها فقال :
{ ذلك الْكِتَابُ}
يعني ما تقدم
البقرة من القرآن.
وقيل : ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
{رَيْبَ فِيهِ} : لا شكّ فيه،
إنّه من عند اللّه.
قال :
{هُدَى} :
أي هو هدىً،
وتم الكلام عند
قوله فيه،
وقيل :
(هو) نصب على الحال،
أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني : ظاهره نفي
وباطنه نهي،
أي لا ترتابوا فيه،
كقوله تعالى :
{فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} :
أي لا ترفثوا ولا
تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى،
والبيان وما يهتدي به ويستبين
به الإنسان.
فصل في التقوى
{هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ} : اعلم أنّ التقوى أصله وقى من
وقيت،
فجعلت الواو تاء،
كالتكلان فأصله وكلان من وكلت،
والتخمة أصلها وخمة من وخم
معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى
وحقيقة المتقي،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(جماع التقوى في قول اللّه تعالى :
{إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاحْسَانِ} الآية).
قال ابن عباس : المتقي الذي
يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر : التقوى أن لا
يرى
(نفسه) خيراً من
أحد.
وقال الحسن : المتقي الذي يقول
لكل من رآه هذا خيرٌ مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب
الأحبار : حدِّثني عن التقوى،
فقال : هل أخذت طريقاً ذا
شوك؟
قال : نعم،
وقال : فما عملت فيه؟
قال : حذرت وتشمّرت،
فقال كعب : ذلك التقوى،
ونظمه ابن المعتز فقال :
خلّ الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة
إنّ الجبال من الحصا
وقال عمر بن عبد العزيز : ليس
التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك،
ولكن التقوى ترك ما حرّم اللّه
وأداء ما افترض اللّه،
فما رزق بعد ذلك فهو خير على
خير.
وقيل لطلق بن حبيب : أجمل لنا التقوى؟
فقال : التقوى عمل يطلبه
اللّه على نور من اللّه رجاء ثواب اللّه،
والتقوى ترك معصية اللّه على
نور من اللّه مخافة عقاب اللّه.
وقال بكر بن عبد اللّه : لا
يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع،
ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز :
المتقي لمحرم لا تحرم،
يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب : المتقي الذي
يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس.
وروي عن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّه
قال : إنّما سمي
المتقون؟
لتركهم ما لا بأس به حذراً
للوقوع فيما به بأس.
وقال سفيان الثوري والفضيل : هو
الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد : ليس
المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه،
إنّما المتقي الذي يحب للناس
أكثر مما يحب لنفسه،
أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن
المفلّس؟
سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ
عليه،
وهو عابس لم يبشَّ له،
فقلت له في ذلك فقال : بلغني أنّ
المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة،
فتسعون لأجلهما،
وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له
التسعون.
محمد بن علي الترمذي : هو الذي
لا خصم له.
السري بن المفلّس : هو الذي
يبغض نفسه.
الشبلي : هو الذي يبغي ما دون
اللّه.
قال جعفر الصادق : أصدق كلمة
قالت العرب قول لبيد :
ألا كلّ شيء ما خلا اللّه باطل
الثوري : هو الذي اتّقى الدنيا
وأقلها.
محمد بن يوسف المقري : مجانبة
كل ما يبعدك عن اللّه.
القاسم بن القاسم : المحافظة
على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد : هو التورّع عن
جميع الشبهات.
وقال أيضاً : المتقي من إذا قال
قال للّه،
وإذا سكت سكت للّه،
وإذا ذكر ذكر للّه تعالى.
الفضيل : يكون العبد من المتقين
حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل : المتقي من تبرّأ من
حوله وقوّته.
وقال : التقوى أنْ لا
يراك اللّه حيث نهاك،
ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل : هو الاقتداء بالنبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
وقيل : هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات،
وبنفسك من الشهوات،
وبحلقك من اللذات،
وبجوارحك من السيئات،
فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك
الأرض والسموات.
أبو القاسم
(حكيم) : هو حسن
الخلق.
وقال بعضهم : يستدل على تقوى الرجل بثلاث : بحسن التوكّل فيما لم ينل،
وحسن الرضا فيما قد نال،
وحسن الصبر على ما فات.
وقيل : المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك : حدثنا وهب بن كيسان
أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد اللّه بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات
يعرفون بها : الصبر عند البلاء،
والرضا بالقضاء،
والشكر عند النعمة،
والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران : لا يكون
الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب : بين يدي التقوى
عقبات،
من لا يجاوزها لا ينالها،
اختيار الشدة على النعمة،
واختيار القول على الفضول،
واختيار الذلّ على العزّ،
واختيار الجهد على الراحة،
واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء : لا يبلغ
الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق،
فيطاف به في السوق لم يستحي من
شيء عليها.
وقيل : التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ،
كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء :
يريد المرء أنْ يعطى مناه
ويأبى اللّه إلاّ ما أرادا
يقول المرء فائدتي وذخري
وتقوى اللّه أفضل ما استفادا
فصل في الإيمان
٣
{الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} اعلم أنّ حقيقة
الإيمان هي التصديق بالقلب،
لأن الخطاب الذي توجّه عليها
بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب،
ولم يكن العرب يعرفون الإيمان
غير التصديق،
والنقل في اللغة لم يثبت فيه،
إذ لو صح النقل عن اللغة لروي
عن ذلك،
كما روي في الصلاة التي أصلها
الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا
أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم،
كقوله تعالى في قصة يعقوب ج وبنيه
{وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} :
أي بمصدق لنا ولو كنّا
صادقين،
ويدل عليه من هذه
الآية أنّه لما
ذكر الإيمان علّقه بالغيب،
ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما
أخبر به من الغيب،
ثم أفرده بالذكر عن سائر
الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال
:
{وَيُقِيمُونَ
الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} والدليل عليه أيضاً أنّ اللّه تعالى حيث ما ذكر الإيمان
(نسبه) إلى القلب
فقال :
{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ
وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} ،
وقال :
{وَقَلْبُهُ مُطْمَ نُّ بِالإيمان} ،
وقال :
{أُولَاكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} ،
ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان
فهو كمحل الشمس من الضوء : كل شمس ضوء،
وليس كل ضوء شمساً،
وكل مسك طيب،
وليس كل طيب مسكاً،
كذلك كل إيمان إسلام وليس كل
إسلام إيماناً،
إذا لم يكن تصديقاً؛ لأن
الإسلام هو الانقياد والخضوع،
يدل عليه
قوله تعالى :
{قَالَتِ اعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا
وَلَاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} من خوف السيف،
وقول النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الإيمان سراً) وأشار إلى صدره
(والإسلام
علانية)،
وقوله
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(يا معشر من أسلم بلسانه،
ولم يدخل الإيمان في
قلبه).
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في
الإسلام والإيمان،
فأجاب في الإيمان بالتصديق،
وفي الإسلام بشرائع الإيمان،
وهو ما روى أبو بريده،
وهو يحيى بن معمر
قال : أول من قال
في القدر بالبصرة سعيد الجهني،
فانطلقت أنا وحميد بن عبد
الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين،
فقلنا : لو لقينا أحداً من
أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) فسألناه عما يقول هو : ما في القدر؟
فوافقنا عبد اللّه ابن عمر بن
الخطاب داخلا المسجد،
فاكتنفته أنا وصاحبي،
أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله
فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي،
فقلت : أبا عبد الرحمن،
إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون
القرآن ويفتقرون
(إلى) العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر،
وأنّ الأمر أنفٌ،
فقال : إذا لقيت أولئك
فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني،
والذي يحلف به عبداللّه ابن عمر
لو أن لأحدهم مثل أُحد ذَهَباً فأنفقه ما قبل اللّه منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم
قال : أخبرنا أبي عمر بن
الخطاب
قال : بينما نحن
عند رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) ذات يوم،
إذ طلع علينا رجل شديد بيّاض
الثياب،
شديد سواد الشعر،
لا يرى عليه أثر السفر،
ولا يعرفه منا أحد،
حتى جلس إلى النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) وأسند ركبته إلى ركبته،
ووضع كفيه على فخذيه وقال : يا محمد
أخبرني عن الإسلام؟
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الإسلام أن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه،
وأنّ محمداً رسول
اللّه،
وتقيم الصلاة وتؤتي
الزكاة،
وتصوم شهر رمضان،
وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلا)،
قال : صدقت،
قال : فعجبنا له يسأله ويصدّقه
قال : فأخبرني عن
الإيمان؟
قال :
(أن
تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،
وتؤمن بالقدر خيره
وشره).
قال : فأخبرني عن الإحسان؟
قال :
(أن
تعبد اللّه كأنّك تراه،
فإن لم تكن تراه
فإنّه يراك)،
قال : فأخبرني عن الساعة؟
قال :
(ما
المسؤول عنها بأعلم من السائل)،
قال : فأخبرني عن إماراتها؟
قال :
(أن تلد
الأَمة ربتها،
وأن ترى الحفاة
العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان)،
قال : ثم انطلق،
فلبث علينا ثم
قال : يا عمر من
السائل؟
قلت : اللّه ورسوله أعلم،
قال :
(فإنّه
جبرائيل ج أتاكم ليعلمكم دينكم).
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال
الأبدان إيماناً بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة؛ لأنها من شرائعه وتوابعه
وعلاماته وإماراته كما نقول : رأيت الفرح في وجه فلان،
ورأيت علم زيد في تصنيفه؛
وإنّما الفرج والعلم في القلب،
وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الإيمان بضع وسبعون باباً،
أدناها إماطة الأذى
عن الطريق،
وأعلاها شهادة أن لا
إله إلاّ اللّه).
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(الإيمان بضع وسبعون شعبة،
والحياء شعبة من
الإيمان).
الحسن بن علي
قال : حدثني علي
بن أبي طالب كرم اللّه وجهه
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(الإيمان معرفة بالقلب،
وإقرارٌ باللسان،
وعمل بالأركان).
وعن علي بن الحسين زين العابدين
قال : حدثنا أبي
سيد شباب أهل الجنة
قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء
قال : حدثنا محمّد سيد
الأنبياء
قال :
(الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول
واتباع الرسول).
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّباً
عن العيون محصّلاً في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب،
كما قيل للصائم : صوم،
وللزائر : زَور،
وللعادل : عدل.
الربيع بن أبي العالية
{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
قال : يؤمنون
باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه،
ويؤمنون بالحياة بعد الموت
وبالبعث،
فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي
رباح :
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
قال : باللّه،
من آمن باللّه فقد آمن بالغيب.
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في
قوله
{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
قال : الغيب :
القرآن. وقال الكلبي : بما نزل من القرآن وبما لم يجىء بعد.
الضحاك : الغيب لا إله إلاّ
اللّه وما جاء به محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وقال زرّ بن حبيش وابن جريج
وابن واقد :
يعني بالوحي،
نظيره
قوله تعالى :
{أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى}
وقوله :
{عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}
وقوله :
{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
الحسن :
يعني بالآخرة.
عبد اللّه بن هاني : هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن
عمر بن الخطاب
(رضي اللّه عنه) انه
قال : كنت مع
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) جالساً فقال :
(أتدرون
أي أهل الأيمان أفضل؟ )
قالوا : يا رسول
اللّه الملائكة،
قال :
(هم
كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم اللّه تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل
غيرهم).
قلنا : يا رسول اللّه الأنبياء؟
قال :
(هم
كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم)،
قلنا : يا رسول اللّه فمن هم؟
قال :
(أقوام
يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني،
يجدون الورق
المعلَّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً).
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن
عبداللّه بن مسعود : عند اللّه يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال عبداللّه بن مسعود : نحن عند اللّه نحتسب إيمانكم بمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم) ولم تروه،
ثم قال عبداللّه : إنّ أمر محمد
كان بيّناً لمن رآه والذي لا اله الاّ هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب،
ثمّ قرأ :
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصلاةَ}
أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها
وسجودها وحقوقها وحدودها،
وكل من واظب على شيء وقام به
فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس،
وأقام القوم
(سوقهم) ولم
يعطلوها
قال الشاعر :
فلا تعجل بأمرك واستدمه
فما صلّى عصاك
(كمستديم)
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس،
فذكرها بلفظ الواحد،
كقوله :
{فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أراد الكتب،
وأصل الصلاة في اللغة :
الدّعاء،
ثمّ ضمّت إليها
(عبادة) سُميت
مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي :
اشتقاقها من الصِلا وهو النار،
فأصله من الرفق وحُسن المعاناة
للشيء؛ وذلك إنّ الخشبة المعْوّجة إذا أرادوا تقويمها
(سحنوها بالنار) قوموها
(بين خشبتين) فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهراً وباطناً ولا
يعجّل فيها ولا يخفّ
(ولا يعرف)
قال
الشاعر :
فلا تعجّل بأمرك واستدمه
فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
{وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم،
والرزق عند أهل السنّة : ما صحّ
الإنتفاع به،
فإن كان طعاماً فليتغدّى به،
وان كان لباساً فلينقى والتوقي،
وإن كان مسكناً فللانتفاع به
سكنى،
وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ
الانتفاع به على الوجهين : حلالا وحراماً،
فلذلك قُلنا إنّ اللّه رزق
الحلال والحرام،
(وأصل الرزق) في اللغة : هو الحظ والبخت.
{يُنفِقُونَ} يتصدقون،
وأصل الإنفاق : الإخراج عن اليد
أو عن الملك. يُقال : نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه،
ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها،
ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه
إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه،
والنفق : سُرب في الأرض له مخلص
إلى مكان آخر يخرج إليه.
٤
{وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ} :
أي يصدّقون
{بِمَآ
أُنزِلَ إِلَيْكَ} : يا محمد
يعني القرآن
{وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} :
يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والأنجيل
وغيرها.
{وبالآخرة}
أي بالدار الآخرة،
وسميّت آخرة لأنّها تكون بعد
الدُّنيا ولأنّها أُخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
{هُمْ يُوقِنُونَ} يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة،
ودخل
(هم) تأكيداً،
يُسمّيه الكوفيون عماداً
والبصريون فصلا.
٥
{أُولَائِكَ} أهل هذه الصفة،
وأولاء : أسم مبني على الكسر،
ولا واحد لهُ من لفظه،
والكاف خطاب،
ومحل أولئك رفع بالابتداء وخبره
في
قوله :
{عَلَى هُدًى} رشد وبيان وصواب.
{مِّن
رَّبِّهِمْ وَأُولَاكَ} ابتدائان و{هُمْ} عماد
{الْمُفْلِحُونَ} خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار،
وقيل : هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة : البقاء.
قال لبيد :
نحلُّ بلادا كلها حل قبلنا
ونرجو فلاحاً بعد عاد وحمير
وقال آخر :
لو كان حي مدرك الفلاح
أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح
وقال مجاهد : أربع آيات من أول
هذه السورة نزلت في المؤمنين،
وآيتان بعدهما نزلت في
الكافرين،
وثلاث عشرة آيةً بعدها نزلت في
المنافقين.
٦
{إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا} :
يعني مشركي العرب،
وقال الضحّاك : نزلت في أبي جهل
وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي :
يعني اليهود،
وقيل : المنافقون.
والكفر : هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية
والسّتر،
ومنه قيل للحراث : كافر؛ لأنّه
(يستر البذر)،
قال اللّه تعالى :
{أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} :
يعني الزرّاع،
وقيل للبحر : كافر،
ولليل : كافر. قال لبيد :
حتى إذا ألقت يداً في كافر
وأجن عورات الثغور ظلامها
في ليلة كفر النجوم غمامها
ومنه : المتكفّر بالسلاح،
وهو الشاكي الذي غطّى السلاح
جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافراً لأنه
ساترللحق ولتوحيد اللّه ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} :
أي واحد عليهم ومتساوي لديهم،
وهو اسم مشتق من التساوي.
{ءَأَنذَرْتَهُمْ} : أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني : الإنذار
والإعلام مع تحذير،
يُقال : أنذرتهم فنذروا،
أي أعلمتهم فعلموا،
وفي المثل : وقد أُعذر من أنذر،
وفي
قوله :
{ءَأَنذَرْتَهُمْ} وأخواتها أربع قراءات : تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة؛
لأنها ألف الإستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض
مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز،
وادخال ألف بين الهمزتين وهي
قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر :
تطاولت فاستشرقت قرابته
فقلن له : أأنت زيد لا بل قمر
والأخبار اكتفاء بجواب
الإستفهام،
وهي قراءة الزهري.
{أَمْ} : حرف عطف على الإستفهام.
{لَّمْ} : حرف جزم لا يلي إلاّ الفصل؛ لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
{تُنذِرْهُمْ} : تحذرهم
{يُؤْمِنُونَ} وهذه
الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم اللّه،
وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار،
ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال :
٧
{خَتَمَ اللّه} :
أي طبع
{عَلَى
قُلُوبِهِمْ} والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء
(والاستيثاق) من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى
الآية : طبع اللّه على
قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبراً ولا تفهمه. يدل عليه
قوله :
{أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} .
وقال بعضهم : معنى الطبع والختم : حكم اللّه عليهم بالكفر والشقاوة كما
يُقال للرجل : ختمت عليك أن لا تفلح أبداً.
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ} : فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به،
وإنما وحّده لأنه مصدر،
والمصادر لا تُثنّى ولا تجمع،
وقيل : أراد سمع كل واحد منهم كما يُقال : آتني برأس كبشين،
أراد برأس كل واحد منهما،
قال الشاعر :
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا
فإن زمانكم زمن خميص
وقال سيبويه : توحيد السمع يدل
على الجمع لأنه لا توحيد جمعين
كقوله
تعالى :
{يُخْرِجُهُم
مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
يعني الأنوار.
قال الراعي :
بها جيف الحسري فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
وقرأ ابن عبلة : وعلى أسماعهم،
وتم الكلام عند
قوله
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ} .
ثم
قال :
{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} :
أي غطاء وحجاب،
فلا يرون الحق،
ومنه غاشية السرج،
وقرأ المفضل بن محمد الضبي :
{غِشَاوَةٌ} بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم :
أي وختم على أبصارهم
غشاوة. يدل عليه
قوله تعالى :
{وَجَعَلَ
عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} .
وقرأ الحسن :
{غِشَاوَةٌ} بضم الغين،
وقرأ الخدري :
{غِشَاوَةٌ} بفتح الغين،
وقرأ أصحاب عبداللّه : غشوة
بفتح الغين من غير ألف.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} : القتل والأسر في الدنيا،
والعذاب الأليم في العقبى،
والعذاب كلّ ما
يعنّي الإنسان
ويشقّ عليه،
ومنه : عذّبه السواط ما فيها من
وجود الألم،
وقال الخليل : العذاب ما يمنع
الانسان من مراده،
ومنه : الماء العذب لأنه يمنع
من العطش،
ثم نزلت في المنافقين :
عبداللّه بن أُبي بن سلول الخزرجي،
ومعتب بن بشر،
وجدّ بن قيس وأصحابهم حين
قالوا : تعالوا إلى
خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا،
فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة
الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود.
٨
{وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَقُولُ ءَامَنَّا} : صدّقنا باللّه
{وَالْيَوْمِ الآخِرِ} :
أي يوم القيامة.
قال اللّه تعالى :
{وَمَا
هُم بِمُؤْمِنِينَ} والناس : هم جماعة من الحيوان
المتميّز بالصورة الإنسانية،
وهو جمع إنسان،
وإنسان في الأصل إنسيان بالياء،
فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته
إلى السين فصار إنساناً؛ الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت : أنيسيان،
واختلف العلماء في تسميته بهذا
الاسم : فقال ابن عباس : سمي إنساناً لأنه عُهِدَ إليه فنسي.
قال اللّه تعالى
{وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي} ،
وقال الشاعر :
وسُمّيتَ إنساناً لأنك ناسي
وقال بعض أهل المعاني : سُمّي
إنساناً لظهوره وقدس البصير أياه من قولك : آنست كذا :
أي أبصرت. فقال اللّه تعالى
{مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ}
وقيل : لأنه استانس به،
وقيل : لما خلق اللّه آدم آنسه بزوجته فسمّي إنساناً.
٩
{يُخَادِعُونَ اللّه} :
أي يخالفون اللّه ويُكذّبونه،
وأصل الخدع في اللغة : الإخفاء،
ومنه قيل
(للبيت الذي يُحيا فيه المتاع) مُخدع،
والمخادع يظهر خلاف ما يُضمر،
وقال بعضهم : أصل الخداع في لغة : الفساد،
قال الشاعر :
أبيض اللون لذيذٌ طعمه
طيّب الرّيق إذا الريق خدع
أي فسد.
فيكون معناه : ليفسدون بما
أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم،
وقيل معناه : يخادعون اللّه بزعمهم وفي ظنّهم،
يعني إنهم اجترؤوا على اللّه حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون،
وهذا
كقوله تعالى :
{وَانظُرْ إِلَى الهكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا}
يعني بظنّك وعلى زعمك.
وقيل : معناه يفعلون في دين اللّه ما هو خداع فيما بينهم.
وقيل : معناه
يخادعون رسوله،
كقوله :
{فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ}
أي أسخطونا،
وقوله :
{إِنَّ
الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه}
أي أولياء اللّه؛ لأن
اللّه سبحانه لا يؤذى ولا يخادع،
فبيّن اللّه تعالى أنّ من آذى
نبياً من أنبيائه وولياً من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل
عليه الخبر المروي : إن اللّه تعالى يقول : من آذى ولياً من أوليائي فقد بارزني
بالمحاربة.
وقيل : إنّ ذكر اللّه سبحانه في
قوله :
{يُخَادِعُونَ اللّه} تحسين وتزيين لسامع الكلام،
والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا
كقوله تعالى :
{واعلموا إنّما غنمتم من شيء فإِن للّه خمسه
للرسول} . ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء
في الفعل المشترك بين اثنين،
كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة،
وقد يكون أيضاً من واحد كقولك :
طارقت النعل،
وعاقبت اللصّ،
وعافاك اللّه،
قال اللّه عزّ وجلّ :
{وَقَاسَمَهُمَآ
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وقال :
{قَاتَلَهُمُ اللّه} والمخادعة ها هنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين اللّه تعالى
لا يكون منه الخداع.
{وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا}
أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم :
آمنا،
وهم غير مؤمنين،
وقال بعضهم : من خداعهم المؤمنين : هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين
ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم
فينقلونها إلى أعدائهم.
قال اللّه
تعالى :
{وَمَا يَخْدَعُونَ
إِلا أَنفُسَهُمْ} لأن وبال خداعهم راجع إليهم
كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم؛ وذلك أنّ اللّه تعالى لمطلع نبيّه محمداً
(صلى اللّه عليه وسلم) على أسرارهم ونفاقهم،
فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون
العقاب الشديد في العقبى.
قال أهل الإشارة : إنما يخادع
من لا يعرف البواطن،
فأما من عرف البواطن فإنّ مَنْ
خادعه فإنما يخدع نفسه.
واختلف القرّاء في
قوله :
{وَمَا يَخْدَعُونَ} فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء :
{يُخَادِعُونَ} بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد،
وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف
الأول،
وقوله :
{يُخَادِعُونَ
اللّه} لم يختلفوا فيه إلاّ ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ :
(يخدعون اللّه) وقرأ الباقون
{وَمَا
يَخْدَعُونَ} على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} وما يعلمون إنها كذلك.
١٠
{فِى قُلُوبِهِم
مَّرَضٌ} شكّ ونفاق،
ومنه يُقال : فلان يمرض
في الوعد إذا لم يُصححّه،
وأصل المرض : الضّعف والفتور.
فسمّي الشك في الدّين والنفاق
(مرض
به) يضعف البدن وينقص قواه؛ ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب،
كما أن المرض في البدن يؤدي إلى
الهلاك والموت.
{فَزَادَهُمُ اللّه
مَرَضًا} شكّاً ونفاقاً وهلاكاً.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم،
وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن
معدي كرب :
أمن ريحانة الداعي السميع
يؤرّقني وأصحابي هجوع
أي المسمع :
يعني خيالها.
{بِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ} :
(ما) مصدرية،
أي بتكذيبهم على اللّه ورسوله في السرّ.
وقرأ أهل الكوفة : بفتح الياء
وتخفيف الذال،
أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين.
١١
{وَإِذَآ} : حرف توقيت بمعنى حينئذ،
وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر
وفيها معنى الجزاء،
{قِيلَ} : فعل ماض مجهول،
وكان في الأصل قول مثل قيل،
فآستثقلت الكسرة على الواو
فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياءاً لكسرة ما قبلها،
هذه اللغة العالية وعليها
العامة وهي اختيار أبي عبيد.
وقرأ الكسائي ويعقوب : قُيل،
وغُيض،
وحُيل،
وسُيق،
وجُيء،
وشُيء وشُيت بإشمام الضمّة فيها
لتكون دالة على الواو المنقلبة،
وفاصلة بين الصّدر والمصدر.
{لَهُمْ} :
يعني المنافقين،
وقيل : اليهود. قال لهم المؤمنون :
{لا تُفْسِدُوا فِى الأرض} بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن،
وقال الضحّاك : تبديل الملّة
وتغيير السّنة وتحريف كتاب اللّه.
{قَالُوا إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
١٢
{إِلا} : كلمة تنبيه
{أَنَّهُمْ} : هم عماد وتأكيد
{الْمُفْسِدُونَ
وَلَاكِن لا يَشْعُرُونَ} : ما أُعدّ لهم من
العذاب.
١٣
{وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ}
يعني :
(قال) المؤمنون لليهود :
{ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ} وهم عبداللّه ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ
كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ} الجهّال.
قال اللّه :
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَاكِن لا
يَعْلَمُونَ} بأنهم كذلك،
وقيل : لا يؤدون العلم حقّه،
وقال المؤرّخ : السفيه :
البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم.
قُطْرُب : السفيه : العجول
الظلوم يعمل خلاف الحق.
واختلف القرّاء في
قوله :
{السُّفَهَآءُ أَلا} فحقّق بعضهم الهمزتين،
وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم.
وأما أبو عمرو وأهل الحجاز
فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية؛ طلباً للخفّة،
واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز
الثانية،
واحتج بأن ما يستأنف
أي بالهمزة مما يسكت
عليه.
١٤
{وَإِذَا لَقُوا
الَّذِينَ ءَامَنُوا} .
قال جويبر عن الضحّاك عن ابن
عباس
قال : كان عبد
اللّه بن أُبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة،
وكان إذا لقى سعداً
قال : نعم الدينُ
دين محمد،
وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه.
قالوا : هل نكفر؟
قال : سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل اللّه هذه
الآية.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس : نزلت هذه
الآية في عبداللّه بن أُبيّ محتجاً به،
وذلك أنهم خرجوا ذات يوم
فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقال : عبداللّه بن أُبيّ
لأصحابه : أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السُّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً
بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في الغار،
والباذل نفسه وماله له. ثمَّ
أخذ بيد عمر فقال : مرحباً
بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين اللّه الباذل نفسه وماله لرسول اللّه،
ثمَّ أخذ بيد علي فقال : مرحباً
بابن عم رسول اللّه وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال علي : كف للّه واتق اللّه ولا تنافق،
فإنّ المنافقين شر خليقة اللّه،
فقال له عبداللّه : مهلا أبا
الحسن إليّ تقول هذا،
واللّه إنّ إيماننا كإيمانكم
وتصدّيقنا كتصديقكم ثمَّ افترقوا،
فقال عبداللّه لأصحابه : كيف
رأيتموني فعلتُ،
فإذا رأيتموهم فافعلوا كما
فعلت. فأثنوا عليه خيراً،
وقالوا : لانزال معك ما
عشت،
فرجع المسلمون إلى النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) وأخبروه بذلك،
فأنزل اللّه
{وَإِذَا لَقُوا}
أي رأوا،
يعني المنافقين عبد اللّه بن أُبي وأصحابه،
كان
(لَقوا) في الأصل
(لُقيوا) فإستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة
فحذفت لإجتماعهما.
وقرأ محمد بن السميقع : وإذا
لاقوا وهما بمعنى واحد.
{الَّذِينَ
ءَامَنُوا} :
يعني أبا بكر وأصحابه
{قَالُوا
ءَامَنَّا} كأيمانكم.
{وَإِذَا
خَلَوْا} رجعوا،
ويجوز أن تكون من الخلوة،
تقول : خلوتُ به وخلوتُ إليه،
وخلوتُ معهُ،
كلها بمعنى واحد.
وقال النضر بن شميل :
{إِلَى} ها هنا
بمعنى
(مع)
كقوله تعالى :
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إِلَى نِسَآئِكُمْ} :
أي مع نسائكم،
وقوله :
{لا
تأكلوا أموالهم إلى أموالكم}
وقوله : (من
أنصاري إلى اللّه النابغة :
ولا تتركنّي بالوعيد كأنني
إلى الناس مِطليٌّ به القار
أجربُ
أي مع الناس.
وقال آخر :
ولوح ذراعين في بركة
إلى جؤجؤرهل المنكب
أي مع جؤجؤ.
{إِلَى
شَيَاطِينِهِمْ} : أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم
وكهنتهم.
قال ابن عباس : هم خمسة نفر من
اليهود،
ولا يكون كاهن إلاّ ومعه شيطان
تابع له : كعب ابن الأشرف بالمدينة،
وأبو بردة في بني أسلم،
وعبداللّه في جهينة،
وعوف بن عامر في بني أسد،
وعبداللّه بن السَّوداء بالشام.
والشيطان : المتمرد العاصي من
الجن والإنس،
ومن كل شيء،
ومنه قيل : للحيّة النضناض :
الشيطان،
قال اللّه تعالى :
{طلعها
كأنه رؤوس الشياطين} أي الحيات،
وتقول العرب : إتّق تلك الدابة
فإنّها شيطان.
وفي الحديث : (إذا مرَّ الرجل
بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان).
وروي عن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) إنّه نظر الى رجل يتبع حماماً طائراً فقال :
(شيطان يتبع شيطاناً).
أراد الراعي الخبيث الداعي.
ويُحكى عن بعضهم إنه قال في
تضاعيف كلامه : وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له : وأي الشياطين ركبك؟
قال : الغضب.
وقال أبو النجم :
إنّي وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
{قَالُوا إِنَّا
مَعَكُمْ}
أي على دينكم وأنصاركم.
{إنّما نحن مستهزؤن} بمحمد وأصحابه.
١٥
{اللّه يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ}
أي يجازيهم جزاء استهزائهم،
فسُمّي الجزاء باسم الابتداء إذ
كان مثلهُ في الصورة كقوله
{جزاء
سيئة سيئة مثلها} فسُمّي جزاء السيئة سيئة.
وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلنّ أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال آخر :
نجازيهمُ كيل الصواع بما أتوا
ومن يركب ابن العمّ بالظلم
يُظلم
فسمّى الجزاء ظلماً.
وقيل : معناه : اللّه يوبّخهم ويعرضهم ويُخطّيء فعلهم؛ لأنّ
الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل،
كما يُقال : إنّ فلاناً
يُستهزأ به منذ اليوم،
أي يُعاب.
قال
اللّه
{وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ}
أي تُعاب،
وقال أخباراً عن نوحج :
{إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ
كَمَا تَسْخَرُونَ} .
وقال الحسن : معناه : اللّه
يُظهر المؤمنين على نفاقهم.
وقال ابن عباس : هو أن اللّه
يُطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار،
فيقولون لهم : أتحبّون أن
تدخلوا الجنة،
فيقولون : نعم؛ فيفتح لهم باب
من الجنة،
ويُقال لهم : ادخلوا فيسبحون
ويتقلبون في النار،
فإذا انتهوا إلى الباب سُدّ
عليهم،
وردّوا إلى النار ويضحك
المؤمنون منهم،
فذلك
قوله :
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ
الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ} إلى
قوله :
{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ
يَضْحَكُونَ} .
الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يؤمر بناس من الناس إلى الجنة،
حتى إذا دنوا منها
ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدَّ اللّه فيها لأهلها من الكرامة،
نودوا : أن اصرفوهم
عنها. قال : ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون : يا ربّنا لو
أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول اللّه جل جلاله : هذه
الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون
الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أُذيقكم من عذابي مع ما
حرمتكم من ثوابي).
وقيل : هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية.
وهو
قوله فيما بعد :
{وَيَمُدُّهُمْ} يتركهم،
ويمهلهم ويُطيل لهم،
وأصله : الزيادة،
ويُقال : مدّ النهر،
ومدّة : زمن آخر.
وقرأ ابن محيصن وشبل :
{وَيَمُدُّهُمْ} بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد؛ لأنّ المد أكثر ما يأتي في
الشر والإمداد في الخير.
قال
اللّه عزّ وجلّ في المد :
{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} ،
وقال في الإمداد :
{وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} وقال :
{أَيَحْسَبُونَ
أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} ،
وقال :
{وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} .
{فِي طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالتهم وجهالتهم،
وأصل الطغيان : مجاوزة القدر،
يُقال : ميزان فيه طغيان،
أي مجاوزة للقدر في الإستواء.
قال اللّه تعالى :
{إنّا لما طغى الماء}
أي جاوز حدّه الذي
قدّر له،
وقال لفرعون :
{إِنَّهُ طَغَى}
أي أسرف في الدعوى
حينما
قال :
{أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى} .
{يَعْمَهُونَ} يمضون،
يترددون في الضلالة متحيرين.
يُقال : عمه يعمه عمهاً
وعموهاً،
وعمها فهو عمه،
وعامه : إذا كان جائراً عن
الحق. قال رؤبة :
ومَهْمَه أَطْرَافُهُ في
مَهْمَه
أعمى الهُدى بالجاهلين العُمَّه
١٦
{أُولَاكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} :
قال ابن عباس : أخذوا الضلالة
وتركوا الهُدى،
ومعناه : إنهم استبدلوا الكفر
على الإيمان،
وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى
والتجارة توسّعاً؛ لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الإستبدال والإختيار؛ وذلك أنّ
كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه،
وقال الشاعر :
أخذتُ بالجُمَّة رأساً إزْعَرَا
وبالثنايا الواضِحات
الدُّرْدُرَا
وبالطويل العُمْر عمراً جَيدَرا
كما اشترى المسلم إذ تنصّرا
أي اختار النصرانية على الإسلام.
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي
إسحاق :
{اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} بكسر الواو؛ لأنّ الجزم يُحرّك الى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف
الحركات.
{فَمَا رَبِحَت
تِّجَارَتُهُمْ} :
أي فما ربحوا في
تجارتهم.
تقول العرب : ربح بيعك،
وخسرت صفقتك،
ونام ليلك.
أي ربحت وخسرت في
بيعك،
ونمت في ليلك.
قال اللّه عزّ وجلّ :
{فَإِذَا
عَزَمَ الأمْرُ} ،
وقال :
{بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ} .
قال الشاعر :
وأعور من نيهان أمّا نهاره
فأعمى وأمّا ليله فبصير
وقال آخر :
حارثُ قد فرّجت عنّي همّي
فنام ليلي وتجلّى غمّي
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة :
(فما ربحت تجاراتهم) بالجمع.
{وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ} : من الضلالة،
وقال : مصيبين في
تجاراتهم.
قال سفيان الثوري : كلكم تاجر
فلينظر امرؤ ما تجارته؟
قال اللّه
{فَمَا
رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} وقال :
{هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
١٧
{مَثَلُهُمْ} شبههم.
{كَمَثَلِ
الَّذِى} بمعنى الذين،
دليله سياق
الآية نظير قوله تعالى : (والذي جاء بالصدق وصدّق به ثم قال
{أُولَاكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} .
وقال الشاعر :
وانّ الذي
حانت بفلج دماؤهم
هم القوم كلّ
القوم يا أُمّ خالد
{اسْتَوْقَدَ}
: أوقد ناراً كما يُقال : أجاب واستجاب.
قال الشاعر :
وداع دعانا من
يجيب الى الندّى
فلم يستجبه
عند ذاك مجيب
{فَلَمَّآ أَضَآءَتْ} النار
{مَا حَوْلَهُ} يقال : ضاء القمر يضوء ضوءاً،
وأضاء يضيء
إضاءةً وأضاء غيره :
{فَلَمَّآ أَضَآءَتْ} النار يكون لازماً ومتعدّياً.
وقرأ محمد بن
السميقع (ضاءت) بغير ألف. و
(حوله) نصب على الظرف.
{ذَهَبَ اللّه
بِنُورِهِمْ}
أي أذهب اللّه نورهم،
وإنما
قال :
(بنورهم) والمذكور في أوّل
الآية النار؛ لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت
الحرارة عليهم.
{وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} : قال ابن عباس
وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي : نزلت هذه
الآية في المنافقين.
يقول : مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة
فأستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فأتّقى ما يحذر ويخاف فأمن،
فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره
فبقي مظلماً خائفاً متحيّراً،
كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة
الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحو المسلمين ووارثوهم وقاسموهم
الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم،
فاذا ماتوا عادوا الى الخوف
والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.
وقال مجاهد : إضاءة النار :
إقبالهم الى المسلمين والهدى،
وذهاب نورهم : إقبالهم الى
المشركين والضّلالة.
سعيد بن جبير ومحمد بن كعب
وعطاء،
ويمان بن رئاب : نزلت في اليهود
وانتظارهم خروج النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) وإيمانهم به واستفتاحهم به على
مشركي العرب،
فلمّا خرج كفروا به،
وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو
قينقاع قدموا من الشام الى يثرب حتى إنقطعت النبوة من بني اسرائيل وافضت الى
العرب،
فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم) بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له :
عبداللّه بن هيبان قبل أن يوحي الى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كلّ سنة فيعظهم على طاعة اللّه تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم) رسول إذا خرج : فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه،
ثمّ مات قبل خروج النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقبلوا منه،
ثم لمّا خرج رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كفروا به فضرب اللّه لهم هذا المثل.
وقال الضحاك : لمّا أضاءت النار
أرسل اللّه عليه ريحاً قاصفاً فأطفأها،
فكذلك اليهود كلمّا أوقدوا ناراً
لحرب محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) أطفأها اللّه.
١٨
ثم وصفهم جميعاً فقال :
{صُمُّ} :
أي هم صمٌّ عن الهدى
فلا يسمعون.
{بِكُمُ} : عنه فلا يقولون.
{عُمْىٌ} : عنه فلا يرونه.
وقيل :
{صُمُّ} يتصاممون عن سماع الحقّ،
{بِكُمُ} يتباكمون عن قول الحقّ،
{عُمْىٌ} يتعامون عن النظر الى الحق بغير إعتبار.
وقرأ عبد اللّه :
{صمّاً بكماً عمياً} على معنى وتركهم كذلك،
وقيل : على الذّم،
وقيل : على الحال.
{فَهُمْ يَرْجِعُونَ} عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان.
١٩
ثم
قال :
{أَوْ كَصَيِّبٍ} هذا مثل آخر ضربه اللّه لهم أيضاً معطوف على المثل الأوّل مجازه : مثلهم
كمثل الذي استوقد ناراً ومثلهم أيضاً كصيّب.
قال أهل المعاني :
(أو) بمعنى
الواو،
يريد وكصيّب،
كقوله تعالى :
{أَمْ
تُرِيدُونَ} وأنشد الفرّاء :
وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وأنشد أبو عبيدة :
يصيب قد راح يروي الغُدُرا
(فاستوعب) الأرض لمّا أن سرا
وأصله من صاب يصوب صوباً إذا
نزل.
قال الشاعر :
فلست لأنسي ولكن لملاك
تنزّل من جوّ السماء يصوب
وقال أمرء القيس :
كأن المدام وصوب الغمام
وريح الخزامي ونشر القطر
فسمّي المطر صيّباً لأنّه ينزل
من السماء.
واختلف النّحاة في وزنه من
الفعل،
فقال البصريون : هو على وزن
فيعل بكسر العين،
ولا يوجد هذا المثال إلاّ في
المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب،
وأصله صهيوب،
فجعلت الواو ياء فأُدغمت إحدى
اليائين في الأُخرى.
وقال الكوفيون : هو وأمثاله على
وزن فعيل بكسر العين وأصله : صَييِبْ فاستثقلت الكسرة على الياء فسُكّنت وأدغمت
إحداهما في الأخرى وحرّكت الى الكسر.
والسماء : كلّ ما علاك فأظلك
وأصله : سماو؛ لأنه من سما يسمو،
فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا
تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة،
وهو من أسماء الأجناس،
يكون واحداً أو جمعاً،
قال اللّه :
{ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} ثم
قال :
{فَسَوَّ اهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} .
وقيل : هو جمع واحدتها سماوة،
والسموات جمع الجمع.
قال الرّاجز :
سماوة الهلال حتى احقوقفا
طي الليالي زلفا فزلفا
{فِيهِ}
أي في الصيّب،
وقيل : في الليل كناية عن
(ضمير) مذكور،
وقيل : في السماء؛ لأنّ المراد بالسماء السّحاب،
وقيل : هو عائد الى السماء على لغة من يذكرها.
قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوماً
لحقنا بالسماء مع السّحاب
والسماء يذكّر ويؤنّث.
قال اللّه تعالى :
{السَّمَآءُ مُنفَطِرُ بِهِ} . وقال :
{إِذَا
السَّمَآءُ انفَطَرَتْ} .
{ظُلُمَاتٍ} : جمع ظلمة،
وضُمّت اللام على الإتباع بضمّ
الظاء.
وقرأ الأعمش :
(ظُلْمات) بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد.
كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة :
أبتْ ذكر مَنْ عوّدن أحشاء قلبه
خفوقاً ورفصات الهوى في المفاصل
ونزّل الفاء ساكنة على حالها في
التوحيد.
وقرأ أشهب العقيلي :
(ظلمات) بفتح
اللام،
وذلك إنّه لمّا أراد تحريك
اللام حرّكها الى أخفّ الحركات.
كقول الشاعر :
فلمّا رأونا بادياً ركباتنا
على موطن لا نخلط الجدّ بالهزل
{وَرَعْدٌ} : وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.
{وَبَرْقٌ} : وهو النار الذي تخرج منه.
قال مجاهد : الرعد ملك يسبّح
بحمده،
يقال لذلك الملك : رعد،
والصّريم أيضاً رعد.
والبرق : ملك يسوق السحاب.
وقال عكرمة : الرعد ملك موكّل
بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل.
شهر بن جوشب : الرعد ملك يزجي
السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فاذا انتبذت السحاب ضمّها فاذا اشتدَّ غضبه طار من
فيه النار فهي الصواعق.
ربيعة بن الأبيض عن عليج
قال : البرق
مخاريق الملائكة.
وقال أبو الدرداء : الرعد
للتسبيح،
والبرق للخوف والطمع،
والبرد عقوبة،
والصواعق للخطيئة،
والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين،
والبحر بمكيال،
والجبال بميزان.
وأصل البرق من البريق والضوء،
والصواعق : المهالك،
وهو جمع صاعقة،
والصاعقة والصاقعة والصّعقة :
المهلكة،
ومنه قيل : صعق الإنسان،
إذا غشيَ عليه،
وصعق،
إذا مات.
{حَذَرَ الْمَوْتِ}
أي مخافة الموت،
وهو نصب على المصدر،
وقيل لنزع حرف الصفة.
وقرأ قتادة : حذار الموت.
{وَاللّه مُحِيطُ
بِالْكَافِرِينَ}
أي عالم بهم،
يدل عليه
قوله :
{وَأَنَّ اللّه قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ
عِلْمَا} .
وقيل : معناه : واللّه مهلكهم وجامعهم،
دليله
قوله :
{إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} :
أي تهلكوا جميعاً.
وأمال أبو عمرو والكسائي
(الكافرين) في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء.
٢٠
{يَكَادُ الْبَرْقُ}
أي يقرب. يقال : كاد،
أي قرب ولم يفعل،
والعرب تقول : كاد يفعل بحذف أن
فاذا سببّوه بقي
قالوا : كاد أن يفعل،
والأوّل أوضح وأظهر.
قال الشاعر :
قد كاد من طول البلى أن تمسحا
{يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ} :
أي يخطفها ويشغلها،
ومنه الخطّاف.
وقرأ أُبيّ : يتخطف.
وقرأ ابن أبي إسحاق : نصب الخاء
والتشديد
(يخطّف) فأدغم.
وقرأ الحسن : كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.
وقرأ العامة : التخفيف لقوله :
{فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ}
وقوله :
{إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} .
{كُلَّمَآ} : حرف علة ضمّ إليه
(ما) الجزاء فصار أداة
للتكرار،
وهي منصوبة بالظرف،
ومعناهما : متى ما.
{أَضَآءَ لَهُم
مَّشَوْا فِيهِ} : وفي حرف عبد اللّه
(.....).
{وَإِذَآ أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قَامُوا} :
أي أقاموا ووقفوا
متحيّرين.
القول في معنى الآيتين ونظمهما
وحكمهما
قوله تعالى :
{أَوْ
كَصَيِّبٍ}
أي كأصحاب صيّب،
كقوله :
{وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} شبههم اللّه في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددّهم بقوم كانوا في مفازة في
ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته،
فذلك
قوله :
{إذا أظلم عليهم قاموا} .
ورعد من صفته أن يضع السامع يده
الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق،
ذلك
قوله تعالى :
{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} .
وبرق من صفته أنْ يقرب من أن
يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقدّه،
وذلك
قوله
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} .
وهذا مثل ضربه اللّه تعالى
للقرآن واجماع الناس والكافرين معه :
فالمطر : هو القرآن لأنه حياة
الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.
{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن
والمحن.
{وَرَعْدٌ} : وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر
والنواهي.
{وَبَرْقٌ} : وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد
وذكر الجنة.
فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق
يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون
آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك
الى الإيمان؛ لأنّ الإيمان بمحمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) عندهم كفر والكفر موت.
وقال قتادة : هذا مثل ضربه
اللّه للمنافق لجبنه،
لا يسمع صوتاً إلاّ ظنّ أنه قد
أُتي ولا يسمع صياحاً إلاّ ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية
أخرى :
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ
الْعَدُوُّ} .
وقوله :
{كُلَّمَآ
أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}
يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمِنوا وصارت لهم نوراً
فاذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة.
قتادة : والمنافق إذا كثر ماله
وحَسُن حاله وأصاب في الإسلام رخاءً وعافية ثبت عليه فقال : أنا معكم،
وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة،
قام متحيراً وخفق عندها فلم
يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ}
الآية.
الوالبي عن ابن عباس : هم
اليهود لما نصر رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) ببدر طمعوا وقالوا : هذا واللّه
النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية،
فلمّا نكب بأُحد ارتدّوا
وسكتوا.
{وَلَوْ} : حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.
ومعنى
الآية :
{وَلَوْ شَآءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ} :
أي أسماعهم وأبصارهم
الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّاً بكماً عمياً.
{إِنَّ اللّه عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} قادر،
وكان حمزة يكسر شاء،
وجاء وأمثالها لانكسار فاء
الفعل،
إذا أخبرت عن نفسك قلت : شئت
وجئت وزدّت وطبت وغيرها.
٢١
{يا أيّها الناس} : قال ابن عباس :
{يا
أيها الناس} خطاب أهل مكة،
و{يا أيها الذين آمنوا} خطاب أهل المدينة،
وهو هاهنا عام.
{اعْبُدُوا} وحّدوا وأطيعوا.
{رَبَّكُمُ
الَّذِى خَلَقَكُمْ} أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم
تكونوا شيئاً.
{وَالَّذِينَ}
أي وخلق الذين
{مِن قَبْلِكُمْ}
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : لكي تنجوا من السُحت والعذاب.
قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج
وهما من اللّه
(.....).
٢٢
{الَّذِى جَعَلَ
لَكُمُ الأرض فِرَاشًا} بساطاً ومقاماً
ومناماً.
{وَالسَّمَآءَ بِنَآءً} سقفاً مرفوعاً محفوظاً.
{وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَآءِ} : من السحاب. وهو المطر
{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} من الوان الثمرات وأنواع النبات.
{رِّزْقًا} طعاماً.
{لَكُمْ} وعلفاً لدوابكم.
{فَلا تَجْعَلُوا
للّه أَندَادًا}
أي أمثالا
(وأعدالاً) وقرأ ابن السميقع : ندّاً على الواحد،
كقول جرير :
أتيما تجعلون إليّ ندّاً
وما تيم لذي حسب نديد
{وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ} إنّه واحد وأنّه خالق هذه الأشياء.
قال ابن مسعود في
قوله :
{فَلا تَجْعَلُوا للّه أَندَادًا}
قال : أكفّاء من الرجال تطيعوهم في معصية اللّه.
وقال عكرمة : هو قول الرجل :
لولا كلبنا لدخل اللص دارنا.
٢٣
{وَإِن كُنتُمْ فِى
رَيْبٍ}
الآية نزلت في الكفّار،
وذلك أنهم قالوا لما سمعوا
القرآن : ما يشبه هذا كلام اللّه وإنّا لفي شكَ منه،
فأنزل اللّه تعالى
{وَإِن كُنتُمْ} يا معشر الكفّار،
(وإن) لفظة جزاء وشرط،
ومعناه : إذ؛ لأنّ اللّه تعالى
علم إنهم شاكّون كقوله :
{وَأَنتُمُ
الأعلون إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}
وقوله :
{يا أيها الذين آمنوا إتّقوا اللّه وذروا ما بقي من
الربا إن كنتم مؤمنين}.
قال الأعشى :
بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها
بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا
قال المؤرّخ : أصلها من السّورة
وهي الوثبة : تقول العرب سرت إليه وثبت إليه.
قال العجاج :
وربّ ذي سرادق محجورٌ
سرت إليه في أعالي السّور
قال الأعشى :
وسمعت حلفتها التي حلفت
إن كان سمعك غير ذي وقر
{فِى رَيْبٍ}
أي في شك وتهمة.
{مِّمَّا نَزَّلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا} محمد
يعني القرآن.
{فَأْتُوا} لم يأتوا بمثله،
لأنّ اللّه علم عجزهم عنه.
{بِسُورَةٍ} أصلها في قول بعضهم : من أسارت،
أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنّها قطعة من القرآن،
وقيل : هي الدرجة الرفيعة،
وأصلها من سور البناء،
أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة :
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة
ترى كل مُلْك دونها يتذبذب
{مِّن مِّثْلِهِ}
يعني مثل القرآن،
و
(من) صلة
كقوله تعالى :
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ}
{وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} .
كقول النابغة :
ولا أرى ملكاً في الناس يشبهه
ولا أخا
(لي) من الأقوام
من أحد
أي أحداً.
وقيل في
قوله :
(مثله) : راجعة الى محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) ومعناه :
{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}
أي من رجل أُمّي لا يُحسن الخط والكتابة.
{وَادْعُوا
شُهَدَآءَكُم}
يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون اللّه.
وقال مجاهد والقرظي : ناساً
يشهدون لكم.
وإنما ذكر الاستعانة بلفظ
الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد :
(يال .....).
قال الشاعر :
فلمّا التقت فرساننا ورجالهم
دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر
{إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} إنّ محمداً أسرّ
قوله من تلقاء نفسه،
فلما تحدّاهم وعجزوا
(قال اللّه تعالى) :
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا}
أي فإن لم تجيئوا
بمثل القرآن.
٢٤
{وَلَن تَفْعَلُوا} : ولن تقدروا على ذلك.
وقيل
{فَإِن
لَّمْ تَفْعَلُوا} فيما مضى
{وَلَن تَفْعَلُوا} فيما بقي.
{فَاتَّقُوا النَّارَ
الَّتِى وَقُودُهَا} حطبها وعلفها
{النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال الحسن ومجاهد :
(وقودها) بضم الواو حيث كان وهو رديء،
لأن الوقود بضم الراء المصدر
وهو الالتهاب،
والوقود بالفتح وهو ما يوقد به
النار كالظهور والبرود،
ومثليهما ومثل الوَضوء
والوُضوء.
وقرأ عبيد بن عمير : وقيدها
الناس والحجارة.
قيل : تلك الحجارة
(كجت الأرض النائية) مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا إشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم،
فذلك
قوله تعالى :
{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} .
اختلفوا في الحجارة،
فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين
: إنها حجارة الكبريت
(الأسود
وهي أشد الأشياء حراً)،
وقال حفص ابن المعلى : أراد بها
الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر،
دليله
قوله :
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} .
وقيل : هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة
سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاماً كحجارة
الرّحا،
فتزداد النار اتّقاداً
والتهاباً كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها.
وقيل : ذكر الحجارة ها هنا تعظيماً لأمر النار لأنها لا تأكل
الحجارة إلاّ إذا كانت فظيعة وهائلة.
{أُعِدَّتْ} : خلقت وهُيئت للكافرين،
وفي هذه
الآية دليل على
أنّ النار مخلوقة؛ لأنّ المعدَّ لا يكون إلاّ موجوداً.
٢٥
{وَبَشِّرِ}
أي وأخبر.
{الَّذِينَ
ءَامَنُوا} وأصل التبشير : إيصال الخبر السار على
(مسامع الناس) ويستبشر به،
وأصله من البشرة؛ لأنّ الإنسان
إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته،
ثمّ كثر حتى وضع موضع الخبر
فيما
(ساء وسرّ)
قال اللّه تعالى :
{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
{وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ}
أي الخصال والفعلات
{الصَّالِحَاتِ} نعت لأسم مؤنث محذوف.
وقال عثمان بن عفان رضي اللّه
عنه في
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : معناه أخلصوا الأعمال،
يدلّ عليه
قوله :
{فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا}
أي خالصاً لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصاً،
وقال : أقاموا الصلوات
المفروضات،
دليله
قوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ} .
{إِنَّا نُضِيعُ
أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} من المسلمين.
وقال ابن عباس : عملوا الصالحات
فيما بينهم وبين ربّهم،
وقال : العمل الصالح يكون
فيه أربعة أشياء : العلم،
والنية،
والصبر،
والاخلاص.
وقال سهل بن عبداللّه : لزموا
السنّة؛ لأنّ عمل المبتدع لا يكون صالحاً.
وقيل : أدّوا الأمانة،
يدل عليه
قوله :
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}
أي أميناً.
وقيل : تابوا،
ودليله
قوله تعالى :
{وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}
أي التائبين.
{أَنَّ لَهُمْ} : محل
(أن) نصب بنزع حرف الصّفة،
أي بأنّ لهم.
{جَنَّاتٍ} : في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث،
وهي جمع الجنّة وهي البستان،
سمّيت جنّة لاجتنانها بالأشجار.
{تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الأنهار} :
أي من تحت شجرها
ومساكنها.
وقيل : بأمرهم،
كقوله :
(وهذه الأنهار تجري من تحتي أي بأمري.
والأنهار : جمع نهر،
سمّي نهراً لسعته
وضيائه ومنه النهار.
وأنشد أبو عبيدة :
ملكتُ بها كفّي
فأنهرتُ فتقها
يرى قائم من دونها
ما وراءها
أي وسعتها،
يصف طعنة.
وأراد بالأنهار
المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري.
وقد جاء في الحديث :
(أنهار الجنّة تجري في غير إخدود).
{كُلَّمَآ} متى ما
{رُزِقُوا} أطعموا
{مِّنْهَآ} من الجنّة
{مِن
ثَمَرَةٍ} :
أي ثمره،
و
(من) صلة.
{رِّزْقًا} طعاماً.
{قَالُوا
هذا الَّذِى رُزِقْنَا} أُطعمنا
{مِن قَبْلِ} : طعامهما،
وقيل معناه : هذا الذي رزقنا من قبل،
أي وعدنا اللّه في الدنيا وهو قول عطاء،
و
(قبل) رفع على الغاية،
قال اللّه تعالى :
{للّه
الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} .
{وَأْتُوا} وجيئوا
{بِهِ} بالرزق.
قرأ هارون بن موسى :
(وأتوا) بفتح
الألف،
أراد أتاهم الخدم به.
{مُتَشَابِهًا} اختلفوا في معناه،
فقال ابن عباس ومجاهد والربيع
والسّدي : متشابهاً في الألوان،
مختلفاً في الطعوم.
الحسن وقتادة : متشابهاً في
الفضل ،
خياراً كلّه؛ لأنّ ثمار الدنيا
(تبقى) ويرذل
منها،
وإن ثمار الجنة لا يرذل منها
شيء.
محمد بن كعب وعلي بن زيد :
بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.
وقال بعضهم : متشابهاً في الإسم مختلفاً في الطعم.
قال ابن عباس : ليس في الجنة
شيء ممّا في الدنيا غير الأسماء.
{وَلَهُمْ فِيهَآ} في الجنّات.
{أَزْوَاجٌ} نساء وجوار،
يعني الحور العين.
قال ثعلب : الزوج في اللغة :
المرأة والرجل،
والجمع والفرد،
والنوع واللون،
وجميعها أزواج.
{مُّطَهَّرَةٌ} من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء
والمني والولد وكل قذر ودنس.
وقال إبراهيم النخعي : في الجنة
جماع ما شئت ولا ولد.
وقيل : مطهّرة عن مساويء الأخلاق.
وقال يمان : مطهّرة من الأثم
والأذى.
قال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا
يتغوّطون ولا يبولون ولا يتمخطون). قيل : فما بال
الطعام؟
قال :
(جشأ
ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس).
{وَهُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} دائمون مقيمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
الحسن عن ابن عمر
قال : سُئل رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن الجنة : كيف هي؟
قال :
(من
يدخل الجنة يحيى ولا يموت وينعم ولا يبؤس ولا تبلى ثيابه ولا شبابه).
قيل : يا رسول اللّه كيف
بناؤها؟
قال :
(لبنة
من فضّة ولبنةٌ من ذهب،
بلاطها مسك أذفر،
وحصباؤها اللؤلؤ
والياقوت،
وترابها الزعفران).
وقال يحيى بن أبي كثير : إنّ
الحور العين لتُنادينّ أزواجهنّ بأصوات حسان،
فيقلن : طالما انتظرناكم،
نحن الراضيات الناعمات
الخالدات،
أنتم حبّنا ونحن حبّكم ليس
دونكم مقصد ولا وراءكم معذر.
وقال الحسن في هذه
الآية : هنّ
عجائزكم الغمض الرّمض العمش طُهّرن من قذرات الدنيا.
٢٦
{إنّ اللّه لا يستحي
أن يضرب مثلا} هذه
الآية نزلت في اليهود،
وذلك أنّ اللّه تعالى ذكر في
كتابه العنكبوت والذباب فقال :
{إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا}
الآية. وقال :
{الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّه أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ}
الآية،
ضحكت اليهود وقالوا : ما هذا
الكلام وماذا أراد اللّه بذكر هذه الأشياء الخبيثة في كتابه وما يشبه هذا كلام
اللّه،
فأنزل اللّه تعالى :
{إنّ اللّه لا يستحي أن يضرب مثلا}
أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا أن تصف للحق شبهاً.
{مَّا بَعُوضَةً} .
(ما) صلة،
وبعوضة نصب يدلّ على المثل.
{فَمَا فَوْقَهَا} : ابن عباس
يعني الذباب والعنكبوت. وقال أبو عبيدة :
يعني فما دونها.
{فَأَمَّا الَّذِينَ
ءَامَنُوا} بمحمد والقرآن
{فَيَعْلَمُونَ}
يعني أنّ هذا المثل هو
{أَنَّهُ
الْحَقُّ} الصدق الصحيح.
{مِن
رَّبِّهِمْ} .
{وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا} بمحمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) والقرآن.
{فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللّه بِهذا مَثَلًا} :
أي بهذا المثل. فلمّا حذف الألف واللام نصب على الحال والقطع
والتمام،
كقوله :
{وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} .
فأجابهم اللّه تعالى فقال : أراد اللّه
بهذا المثل
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} من الكافرين ذلك أنهم ينكرونه ويكذّبونه
{وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} من المؤمنين يعرفونه ويصدّقون.
{وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلا الْفَاسِقِينَ} الكافرين،
وأصل الفسق : الخروج،
قال اللّه تعالى :
{فَفَسَقَ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}
أي خرج. تقول العرب :
فسقت الرّطبة عن القشر،
أي خرجت.
٢٧
ثمّ وصفهم فقال :
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ}
أي يتركون ويخالفون،
وأصل النقض : الكسر.
{عَهْدَ اللّه} أمره الذي عَهِد إليهم يوم الميثاق بقوله تعالى :
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وما عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم)
(وضمّنه) نعته وصفته.
{مِن بَعْدِ
مِيثَاقِهِ} توكيده وتشديده،
وهو مفعال من الوثيقة.
{وَيَقْطَعُونَ مَآ
أَمَرَ اللّه بِهِ أَن يُوصَلَ}
يعني الأرحام،
وقيل : هو الإيمان بجميع الرّسل والكتب،
وهو نوع من الصّلة؛ لأنهم
قالوا :
{نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} فقطعوا،
وقال المؤمنون :
{نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فوصلوا.
{وَيُفْسِدُونَ فِي
الأرض} بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم) والقرآن.
{أولئك هُمُ
الْخَاسِرُونَ} :
أي المغبونون بالعقوبة وفوت المثوبة،
ثمّ
قال : لمشركي مكة على
التعجّب :
٢٨
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللّه وَكُنتُمْ} واو الحال
{أَمْوَاتًا} نطفاً في أصلاب آبائكم
{فَأَحْيَاكُمْ} في الأرحام في الدنيا
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم.
{ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ} للبعث.
{ثُمَّ
إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تأتون في الآخرة
فيجزيكم بأعمالكم.
وقرأ يعقوب : ترجعون،
وبيانه بفتح الأول وكسر الجيم
جعل الفعل لهم.
٢٩
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ
لَكُم} لأجلكم.
{مَّا
فِى الأرض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ}
أي قصد وعمد الى خلق
السماء.
{فَسَوَّ اهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
أي خلق سبع سماوات
مستويات بلا فطور ولا شطور ولا عمد تحتها ولا علامة فوقها.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} : عالم.
٣٠
{وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ}
يعني : وقد قال،
وقيل معناه : واذكر إذ قال ربّك،
وكل ما ورد في القرآن من هذا
النحو فهذا سبيله.
و
(إذ) و
(إذا) حرفا
توقيت،
إلاّ أنّ
(إذ) للماضي و
(إذا) للمستقبل،
وقد يوضع أحدهما موضع الآخر.
قال المبرّد : إذا جاء
(إذ) مع
المستقبل كان معناه ماضياً نحو
قوله :
{وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ} وإذ يقول،
يريد وإذ مكر وإذ قال،
وإذا وإذ جاء مع الماضي كان
معناه مستقبلا كقوله :
{فَإِذَا
جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى}
{فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ}
{إِذَا
جَآءَ نَصْرُ اللّه}
أي يجيء،
وقال الشاعر :
ثمّ جزاه اللّه عنا إذ جزا
جنّات عدن والعلا إلى العلا
أي يجزيه.
{لِلْمَلَائِكَةِ} الذين كانوا في الأرض،
والملائكة : الرسل،
واحدها ملك،
وأصله : مالك،
وجمعه : ملائكة،
وهي من الملكة والمالكة والألوك
الرسالة ويقال : ألكني الى
فلان،
أي كن رسولي إليه فقلبت،
فقيل : ملاك.
قال الشاعر :
فلست لأنسيّ لكن لملاك
تنزّل من جوّ السماء يصوب
ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير
استعماله فقيل : ملك.
قال النضر بن شميل في الملك :
إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه،
وهو مما فات علمه.
{إِنِّي جَاعِلٌ فِى
الأرض خَلِيفَةً}
أي بدلا منكم ورافعكم
إليّ،
سُمّي
(خليفة) لأنه يخلف الذاهب
ويجيء بعده،
فالخليفة مَن يتولى إمضاء الأمر
عن الآمر،
وقرأ
(زيد بن علي) :
(خليفة) بالقاف.
قال المفسرون : وذلك أن اللّه
تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن،
فأسكن الملائكة السماء،
وأسكن الجنّ الأرض،
فعبدوا دهراً طويلا في الأرض ثم
ظهر فيهم الحسد والبغي،
فاقتتلوا وأفسدوا،
فبعث اللّه إليهم جنداً من
الملائكة يُقال لهم : الجن،
رأسهم عدو اللّه إبليس وهم
خُزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض،
وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم
بشعوب الجبال،
وجزائر البحر،
وسكنوا الأرض وخفف اللّه عنهم
العبادة،
وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك،
وأعطى اللّه إبليس مُلك الأرض
ومُلك سماء الدنيا وخزانة الجنان،
فكان يعبد اللّه تارةً في
الأرض،
وتارةً في السماء،
وتارة في الجنة.
فلما رأى ذلك دخله الكبر
والعُجُب،
وقال في نفسه : أعطاني اللّه
هذا الملك إلاّ لأني أكرم الملائكة عليه،
وأعظمهم منزلةً لديه؛ فلما ظهر
الكبر جاء العزل،
فقال اللّه له ولجنده :
{إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} فلما قال لهم ذلك كرهوا؛ لأنّهم كانوا أهون في الملائكة
عبادة،
ولأنّ العزل شديد.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي.
{وَيَسْفِكُ} يصبّ
{الدِّمَآءَ} بغير حق.
فإن قيل : كيف علموا ذلك وهو
غيب؟
والجواب عنه ما قال السّدي :
لما
قال اللّه لهم ذلك،
قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة؟
قال : تكون له ذرية،
يفسدون في الأرض
(ويتحاسدون) ويقتل بعضهم بعضاً. قالوا عند ذلك :
{أَتَجْعَلُ فِيهَا} ومعناه : فقالوا،
فحذف فاء التنسيق. كقول الشاعر
:
لما رأيت نبطا أنصارا
شمرّتُ عن ركبتي الأزارا
كنتُ لهم من النّصاري جارا
أي فكنتُ لهم.
وقال أكثر المفسرين : أرادوا
كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب،
وقال بعض أهل المعاني : فيه
إضمار واختصار معناه : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
أم تجعل فيها من لا يفسد ولا
يُسفك الدماء؟
لقوله تعالى :
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ}
يعني كمن هو غير قانت،
وهو اختيار الحسن بن الفضل.
{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ} .
قال الحسن : يقولون : سبحان
اللّه وبحمده،
وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها
يُرزقون. يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر إنه قال لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
أي الكلام أفضل؟
قال :
(ما
أصطفاه اللّه تعالى لملائكته : سبحان اللّه وبحمده).
وقيل : معناه : ونحن نصلي لك بأمرك،
والتسبيح يكون بمعنى التنزيه
ويكون بمعنى الصلاة،
ومنه قيل : للصلاة سُبحة،
وقيل : معناه : نصلي،
ونقرأ فيها فاتحة الكتاب.
{وَنُقَدِّسُ لَكَ} وننزهك واللام صلة،
وقيل : هي لام الأجل،
أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك
(وأبداننا) من معصيتك.
وقال بعض العلماء : في
الآية تقديم
وتأخير مجازها : ونحن نسبّح ونُقدّس لك بحمدك؛ لأنّه إذا حُملت
الآية على
التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل،
وإذا حُملت على هذا التأويل
ضاهى
قولهم التحدّث
بنعمة اللّه واضافة
(.....) إلى اللّه فكأنّهم
قالوا : وأن سبّحنا
وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كلهُ بحمدك لا بأنفسنا،
قال اللّه :
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا
تَعْلَمُونَ} من استخلافي في الأرص ووجه المصلحة فيه،
فلا تعترضوا عليّ في حكمي
وتدبيري،
وقيل : أراد أني أعلمُ أنّ في من استخلفه في الأرض : أنبياء
وأولياء وعلماء وصلحاء،
وقيل : أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم.
قال بعض الحكماء : إنّ اللّه
تعالى أخرج
(أدم) من الجنّة
قبل أنْ يدخله فيها. لقوله
{إِنِّي
جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} ثم كان خروجه من
الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء اللّه وقدره.
ابن نجيح عن مجاهد في
قوله :
{إِنِّي أَعْلَمُ مَا تَعْلَمُونَ}
قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها.
ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(احتج آدم وموسى. فقال له موسى : أنت آدم الذي
أخرجتك خطيئتك من الجنّة. فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك اللّه لرسالته وكلامه،
ثم تلومني على أمر
قُدّر قبل أن أُخلق. فحج آدم موسى).
فصل في معنى الخليفة
قيل : سأل أمير المؤمنين
الخطاب،
طلحة والزبير وكعباً وسلمان :
ما الخليفة من الملك؟
فقال طلحة والزبير : ما ندري.
فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم
شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب اللّه،
فقال كعب : ما كنتُ أحسب أن في
المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري،
ولكنّ اللّه عزّ وجلّ ملأ سلمان
حكماً وعلماً وعدلا.
وروى زاذان عن سلمان : إنّ عمر
قال له : أملك أنا أم خليفة؟
فقال سلمان : إنْ أنت جبيت من
أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك.
قال : فاستعبر
عمر رضي اللّه عنه.
وعن يونس : إنّ معاوية كان يقول
إذا جلس على المنبر : أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه،
ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم
بالعدل وأخذ الناس بأمر اللّه عزّ وجل.
٣١
{وَعَلَّمَ ءَادَمَ
اسْمَآءَ كُلَّهَا} وذلك إنّ اللّه تعالى لمّا قال
للملائكة :
{إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} قالوا فيما بينهم : ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أفضل
ولا أكرم عليه منّا،
وإن كان خيراً منّا فنحن أعلم
منه لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره،
فلما أُعجبوا بعلمهم وعبادتهم،
فضّل اللّه تعالى عليهم آدمج
بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة.
واختلف العلماء في هذه الأسماء،
فقال الربيع وابن أنس : أسماء
الملائكة،
وقال عبد الرحمن بن زيد : أسماء
الذّرّية.
وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة
والضّحّاك : علّمه اللّه اسم كلّ شيء حتى القصعة والقُصَيعة.
قال مقاتل : خلق اللّه كلّ شيء
الحيوان والجماد وغيرها ثمّ علّم آدم أسماءها كلها. فقال له : يا آدم هذا فرس،
وهذا بغل،
وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم
عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة. فكذلك
قال :
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ولم يقل : عرضها،
وردّه الى الشخوص والمسمّيات
لأنّ الأعراض لا تُعرض.
وقيل : علّم اللّه آدم ج صنعة كل شيء.
جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس
قال : علّم اللّه
آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان
وما يكون وكل نسمة اللّه عزّ وجلّ بارئها إلى يوم القيامة،
وعرض تلك الأسماء على الملائكة.
{فَقَالَ أَنبِئُونِى
بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض يُفسد فيها ويسفك الدماء. أراد اللّه
تعالى بذلك : كيف تدّعون علم ما لم يكن بعدُ،
وأنتم لا تعلمون ما ترون
وتعاينون.
وقال الحسن وقتادة :
{إان كنتم صادقين} إني لا أخلق خلقاً إلاّ كنتم أعلم وأفضل منه،
قالت الملائكة : إقراراً بالعجز
واعتذاراً.
٣٢
{قَالُوا
سُبْحَانَكَ} : تنزيهاً لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك،
وهو نصب على المصدر،
أي نسبح سبحاناً في قول الخليل.
وقال الكسائي : خارج عن الوصف،
وقيل : على النداء المضاف
أي : يا سبحانك.
{عِلْمَ لَنَآ إِلا
مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ} بخلقك
{الْحَكِيمُ} في أمرك.
وللحكيم معنيان :
أحدهما : المحكم للفعل،
كقوله :
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} ،
وحز وجيع.
قال الشاعر :
أمن ريحانة الداعي السّميع
يؤرّقني وأصحابي هموع
أي المؤلم والموجع،
والمسمع فعيل بمعنى : مُفعل
وعلى هذا التأويل هو صفة فعل.
والآخر : بمعنى
(الحاكم العالم) وحينئذ يكون صفة ذات،
وأصل الحكمة في كلام العرب :
المنع. يُقال : أحكمت
اليتيم عن الفساد وحكمته،
أي منعته.
قال جرير :
أبني حنيفة احْكِموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
ويقال للحديدة المعترضة في فم
الدابة : حكمة؛ لأنها تمنع الدآبة من الأعوجاج،
والحكمة تمنع من الباطل،
ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم
من الأمر بمنعه من الخلل،
وفي هذه
الآية دليل على
جواز تكليف ما لا يُطاق حيث أمر اللّه تعالى الملائكة بإنباء مالم يعلموا،
وهو عالم بعجزهم عنه.
فلما ظهر عجزهم،
٣٣
قال اللّه تعالى :
{يا آدم
أنبئهم بأسمائهم} فسمّى كل شيء باسمه،
وألحق كل شيء بجنسه.
{فَلَمَّآ
أَنبَأَهُم} أخبرهم.
{بِأَسْمَآئِهِمْ
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} يا ملائكتي.
{إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض} ما كن فيها وما يكون.
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من الخضوع والطاعة لآدم.
{وَمَا
كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تخفون في أنفسكم من العداوة
له.
وقيل : ما تبدون
من الإقرار بالعجز والاعتذار،
وما كنتم تكتمون من الكراهية في
استخلاف آدم.
قال ابن عباس : هو أنّ إبليس
مرّ على جسد آدم وهو ملقىً بين مكة والطائف لا روح فيه،
فقال : لأمر ما خلق هذا،
ثمَّ دخل من فيه وخرج من دبره،
وقال : إنّه لا يتماسك
إلاّ بالجوف،
ثمَّ قال للملائكة الذين معه :
أرأيتم أن فضّل هذا عليكم،
وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟
قالوا : نطيع أمر ربّنا. فقال ابليس في نفسه : واللّه لئن سُلطت عليه
لأهلكته،
ولئن سُلّط عليّ لأعصينّه. فقال اللّه تعالى :
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ}
يعني الملائكة من الطاعة
{وَمَا تَكْتُمُونَ}
يعني إبليس من
المعصية.
قال الحسن وقتادة :
{مَا تُبْدُونَ}
يعني
قولهم : أتجعل
فيها من يفسد فيها
{وَمَا تَكْتُمُونَ}
يعني
قولهم لن يخلق خلقاً أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منّا.
القول في حدّ الاسم وأقسامه
فقال أصحابنا : الاسم : كل لفظة
دلت على معنى ما وشيء ما،
وهو مشتق من السِّمة،
وهي العلامة التي يُعرف بها
الشيء،
وأقسامه ثمانية منها : اسم علم
مثل زيد،
وعمرو،
وفاطمة،
وعائشة،
ودار،
وفرس.
ومنها : اسم لازم كقولك : رجل،
وامرأة،
وشمس،
وقمر،
وحجر،
ومدر ونحوها؛ سُمّي لازماً
لأنّه لا ينقلب ولا يُفارق،
فلا يُقال للشمس قمر ولا للقمر
حجر.
ومنها : اسم مفارق مثل : صغير،
وكبير،
وطفل،
وكهل،
وقليل،
وكثير،
وقيل له مفارق لأنّه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى
المسمّى به.
ومنها : اسم مشتق : ككاتب،
وخياط،
وصائغ،
وصبّاغ؛ فالاسم مشتق من فعله.
ومنها : اسم مضاف مثل : غلام
جعفر،
وركوب عمرو،
ودار زيد.
ومنها : اسم مشبهة كقولك : فلان
أسد وحمار وشعلة نار.
ومنها : اسم منسوب يثبتُ بنفسه
ويُثبت غيره،
كقولك : أب،
وأمّ،
وأخ،
وأخت،
وابن،
وبنت،
وزوج،
وزوجة،
فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له
الولد،
وإذا قلت : أخ أثبته وأثبت له
الأخت.
ومنها : اسم الجنس : وهو إسم
واحد ويدل على أشياء كثيرة،
كقولك : حيوان،
وناس ونحوهما.
٣٤
{وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} سجدة تعظيم وتحية
لا سجود صلاة وعبادة،
نظيره
قوله في قصة يوسف :
{وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} وكان ذلك تحيّة الناس،
ويُعظم بعضهم بعضاً،
ولم يكن وضع الوجه على الأرض
(وإنما) كان
الإنحناء والتكبير والتقبيل. فلما جاء الإسلام بطّل ذلك بالسّلام.
وفي الحديث إنّ معاذ بن جبل رجع
من اليمن فسجد لرسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فتغيّر وجه رسول اللّه فقال : ما هذا؟
قال : رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسّيسيهم.
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنّما السجود
للّه تعالى).
وقال بعضهم : كان سجوداً على الحقيقة جُعل آدم قبلة لهم والسجود للّه،
كما جُعلت الكعبة قبلة لصلاة
المؤمنين والصلاة للّه تعالى.
قال ابن مسعود : أمرهم اللّه
تعالى أنْ يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم للّه ربّ العالمين.
وقال أُبيّ بن كعب : معناه :
أقروا لآدم إنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك،
والسجود على قول عبداللّه
وأُبيّ بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل،
كقول الشاعر :
ترى الأكم فيه سجّداً للحوافر
وآدم على وزن افعل.
فلذلك لم يصرقه.
السّدي عمّن حدّثه عن ابن عباس
قال : إنّما سمّي
آدم لأنّه خلق من أديم الأرض،
ومنهم من
قال : سُمّي بذلك
لأنه خلق من التراب،
والتراب بلسان العبرانية آدم،
وبعضهم من
قال : سُمّي بذلك
لأدمته لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر.
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
قال : ليس في
الجنة أحد يُكنّى إلاّ آدم فإنّه يُكنى أبا محمد.
وقرأ العامة :
{لِلْمَلَائِكَةِ} بخفض التاء،
وقرأ أبو جعفر بضم التاء تشبهاً
لتاء التأنيث بألف الوصل في
قوله :
{اسْجُدُوا} لأنّ ألف الوصل يذهب في الوصل ولأنّها زائدة غير أصلية،
وكذلك تاء التأنيث زائدة غير
أصلية،
ولا ثابت جواب ألف اسجدوا.
وقيل : كره ضمّة الجيم بعد كسرة التاء؛ لأنّ العرب تكره الضمة بعد
الكسرة لثقلها،
وهي قراءة ضعيفة جداً وأجمع
النحاة على تغليطه فيها.
{فَسَجَدُوا}
يعني الملائكة.
{إلا
إبليس} وكان اسمه عزازيل،
فلمّا عصى غيّرت صورته وغيّر
اسمه فقيل إبليس؛ لأنّه أُبلس من رحمة اللّه،
كما يقال : يا خبيث ويا فاسق،
وهو منصوب على الاستثناء،
ولا يصرف لاجتماع العجمة
والمعرفة.
{أَبَى}
أي امتنع ولم يسجد.
{وَاسْتَكْبَرَ}
أي تكبّر وتعظّم عن السجود
{وَكَانَ}
أي فصار
{مِنَ الْكَافِرِينَ}
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ} .
وقال أكثر المفسّرين : معناه
فكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة.
الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان عنه
يبكي فيقول : يا ويلتي أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنّة،
وأُمرت بالسجود
فأبيت فلي النّار).
زياد بن الحصين عن أبي العالية
قال : لمّا ركب
نوح السفينة إذا هو بابليس على كوثلها فقال له : ويحك قد شقّ أناس من أجلك،
قال : فما تأمرني؟
قال : تب،
قال : سل ربّك هل لي من توبة؟
قال : فقيل له أنّ توبته أن يسجد لقبر آدم،
قال : تركته حيّاً واسجد له ميّتاً.
٣٥
{وقلنا يا آدم أسكن
أنت وزوجك الجنة} وذلك أن آدم ج كان في الجنّة
وحِشاً ولم يكن له من يُجالسه ويؤانسه،
فنام نومة فخلق اللّه تعالى
زوجته من قصيراه من شقّه الأيسر من غير أن يحسّ آدم بذلك ولا وجد له ألماً ولو ألم
من ذلك لما عطف رجلٌ على امرأة،
فلمّا هبّ آدم من نومه إذا هو
بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق اللّه تعالى،
فقال لها : من أنت؟
قالت أنا زوجتك خلقني اللّه لك
لتسكن إليّ وأسكن إليك. فقالت الملائكة عند ذلك امتحاناً لعلم آدم : يا آدم ما
هذه؟
قال : امرأة،
قالوا : ما اسمها؟
قال : حوّاء،
قالوا : لمَ سمّيت حوّاء؟
قال : لأنها خلقت من حيّ،
قالوا : تحبّها يا آدم؟
قال : نعم،
فقالوا لحوّاء : أتحبّينه؟
قالت : لا، وفي قلبها أضعاف ما
في قلبه من حُبّه،
قالوا : فلو صدقت امرأة في حبّها لزوجها لصدقت حوّاء.
مسألة :
قالت القدرّية : إنّ الجنّة
التي أسكنها اللّه آدم وحوّاء لم تكن جنّة الخلد وإنما كان بستاناً من بساتين
الدنيا،
واحتجّوا بأن الجنة لا يكون
فيها إبتلاء وتكليف.
والجواب :
إنّا قد أجمعنا على أنّ أهل
الجنّة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلّفون بذلك.
وجواب آخر : إنّ اللّه تعالى
قادر على الجمع بين الأضداد،
فأرى آدم المحنة في الجنّة وأرى
إبراهيم النعمة في النار لئلاّ يأمن العبد ربّه ولا يقنط من رحمته وليعلم أنّ له
أن يفعل ما يشاء.
واحتجّوا أيضاً بأنَّ من دخل
الجنة يستحيل الخروج منها،
قال اللّه تعالى :
{وما هم
عنها بمخرجين} .
والجواب عنه : إنّ من دخلها
للثواب لا يخرج منها أبداً،
وآدم لم يدخلها للثواب،
ألا ترى أنّ رضوان خازن الجنة
يدخلها ثم يخرج منها،
وإبليس أيضاً كان داخل الجنّة
وأُخرج منها.
{وَكُ مِنْهَا
رَغَدًا} واسعاً كثيراً.
{حَيْثُ
شِئْتُمَا} : كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما.
{وَلا تَقْرَبَا
هَذِهِ الشَّجَرَةَ} قال بعض العلماء : وقع النهي
على جنس من الشجر.
وقال آخرون : بل وقع على شجرة مخصوصة واختلفوا فيها،
فقال علي بن أبي طالب
(كرم اللّه وجهه) : هي شجرة الكافور.
وقال قتادة : شجرة العلم وفيها
من كلّ شيء.
ومحمد بن كعب ومقاتل : هي
السنبلة.
وقيل : هي الحَبْلَة وهي الأصلة من أصول الكرم.
أبو روق عن الضحّاك : أنها شجرة
التين.
{فَتَكُونَا} فتصيرا
{مِنَ
الظَّالِمِينَ} لأنفسكما بالمعصية،
وأصل الظلم : وضع الشيء في غير
موضعه.
٣٦
{فَأَزَلَّهُمَا}
يعني
(استمال) آدم وحوّاء فأخرجهما ونحّاهما.
وقرأ حمزة :
(فأزالهما الشيطان) وهو إبليس،
وهو فيعال من شطن
أي بعد.
وقيل : إنه من شاط والنون فيه غير أصلية
(ونودي) شيطان سمّي بذلك
لتمرّده وبعده عن الخير وعن رحمة اللّه تعالى.
{عَنْهَا} عن الجنة
وقيل عن الطاعة.
{وأخرجهما مما كانا
فيه} من النعيم،
وذلك إن إبليس أراد أن يدخل
الجنّة ويوسوس لآدم ولحواء فمنعته الخزنة،
فأتى الحيّة وكانت من أحسن
الدّواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزّان الجنّة وكان لأبليس صديقاً،
فسألها أن تدخله في فمها
فأدخلته في فمها ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة،
وكان آدم لما دخل الجنة ورأى ما
فيها من النعيم والكرامة
قال : لو أن خلداً،
فأغتنم الشيطان ذلك منه وأتاه
من قبل الخلد،
ولما دخل الجنة وقف بين يدي آدم
وحوّاء لا يعلمان إنه إبليس،
فناح عليهما نياحةً أحزنهما
وبكى وهو أوّل من ناح فقالا لِمَ تبكي
قال
: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم
والكرامة،
فوقع ذلك في أنفسهما وإغتمّا،
ومضى ثم أتاهما بعد ذلك وقال :
{يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} ،
فأبى أن يقبل منه فقاسمهما
باللّه إنه لهما لمن الناصحين،
فأغترّا وما كانا يظنّان أنّ
أحداً يحلف باللّه كاذباً،
فبادرت حوّاء الى أكل الشجرة ثم
ناولت آدم حتى أكلها.
وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن
عبداللّه بن قسط
قال : سمعت سعيد بن المسيّب يحلف باللّه ما يستثني : ما أكل آدم من
الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته اليها فأكل،
فلمّا أكلا تهافتت عنهما
ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة،
وذلك
قوله تعالى :
{وَقُلْنَا}
يعني لآدم
وحوّاء وابليس والحية
{اهْبِطُوا}
أي أنزلوا الى الأرض
{بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند
على جبل يقال له نودة،
وقيل : واشم،
وحوّاء بجدّة،
وإبليس بالأبلّة
وقيل بميسان،
والحيّة بأصفهان.
{وَلَكُمْ فِى الأرض
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ} بلغة ومستمتع.
{إِلَى حِينٍ} الى حين اقتضاء أجالكم ومنتهى أعماركم.
وعن إبراهيم بن الأشعث
قال : سمعت
إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلا.
٣٧
{فَتَلَقَّى} فلُقّن.
{ءَادَمَ} حفّظ حين لقّن،
وأُفهم حين ألْهِمَ.
وقرأ العامّة : آدمُ برفع
الميم،
كلمات بخفض التّاء.
وقرأ ابن كثير : بنصب الميم،
بمعنى جاءت الكلمات لآدم ج.
{مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ} كانت سبب قبول توبته،
واختلفوا في تلك الكلمات :
قال ابن عباس : هي أنّ آدم
قال : يا ربّ ألم
تخلقني بيدك؟
قال : بلى،
قال : ألم تنفخ فيّ من روحك؟
قال : بلى،
قال : ألم تسبق رحمتك بي غضبك؟
قال : بلى،
قال : ألم تسكنّي جنتك؟
قال : بلى،
قال : فلِمَ أخرجتني منها؟
قال : بشؤم معصيتك،
قال :
أي ربّ أرأيت لو تبت
(وأصلحت) أراجعي أنت الى الجنة؟
قال : بلى.
قال : فهو الكلمات.
قال عبيد بن عمير : هو أنّ آدم
قال : يا ربّ
أرأيت ما أتيت،
أشيء ابتدعته على نفسي أم شيء
قدّرته عليَّ قبل أن تخلقني؟
قال : بل شيٌ قدّرته عليك قبل أن أخلقك،
قال : يا ربّ كما قدّرته عليَّ فأغفر لي.
همام بن منبّه عن أبي هريرة عن
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(تحاجّ آدم وموسى،
فقال له موسى : أنت
آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنّة الى الأرض؟
فقال له آدم : أنت
موسى الذي أعطاك اللّه علم كلّ شيء واصطفاك على الناس برسالته؟
قال : نعم. قال :
أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ أن أفعله من قبل أن أخلق. قال : فحجّ آدم موسى).
وقال محمد بن كعب القرظي : هي
قوله : لا اله
الاّ أنت سبحانك وبحمدك قد عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب عليّ إنّك أنت التواب
الرحيم،
لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك
قد عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنّك أنت الغفور الرحيم،
لا اله الاّ أنت سبحانك وبحمدك
ربّ عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني انّك أنت أرحم الراحمين.
عكرمة عن سعيد بن جبير في
قوله :
{فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قالا :
قوله :
{رَبَّنَا
ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ} ،
وكذلك قاله الحسن ومجاهد.
وقال بعضهم : نظر آدم ج الى العرش فرأى على ساقه مكتوباً لا اله الاّ
اللّه محمد رسول اللّه أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق فقال : يا ربّ أسألك بحقّ
محمد أنْ تغفر لي فغفر له.
وقيل : هذا التأويل ما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن علي
رضي اللّه عنه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عرّج بيّ الى السماء رأيت على ساق العرش مكتوباً لا إله إلاّ اللّه محمد
رسول اللّه أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق.
وقيل : هي ثلاثة أشياء : الخوف،
الرجاء،
البكاء.
أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب
قال : بلغني أنّ
آدم لما أهبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياءاً من اللّه تعالى.
وقال ابن عباس : بكاء آدم
وحوّاء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة،
ولم يأكلا ولم يشربا أربعين
يوماً،
ولم يقرب آدم
(حواء) مائة سنة.
{فَتَابَ عَلَيْهِ} فتجاوز عنه
{إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ} يقبل توبة عباده
{الرَّحِيمُ} بخلقه.
٣٨
{قُلْنَا اهْبِطُوا
مِنْهَا}
يعني آدم وحواء،
وقيل : آدم وحوّاء وابليس والحيّة
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} يا ذرّية آدم
{مِّنِّى
هُدًى} كتاب ورسول.
{فَمَن
تَبِعَ} هداي.
{هُدَايَ
فلا خوف عَلَيْهِمْ} : فيما يستقبلهم
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} : على ما خلّفوا.
٣٩
{وَالَّذِينَ
كَفَرُوا} جحدوا.
{وَكَذَّبُوا
بَِايَاتِنَآ}
يعني القرآن.
{أُولَائِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
٤٠
{يا بني إسرائيل} أولاد يعقوب،
ومعنى إسرائيل : صفوة اللّه،
وإيل هو اللّه عزّ وجلّ،
وقيل : معناه : عبداللّه،
وقيل : سمّي بذلك لأنّ يعقوب وعيصا كانا توأمين واقتتلا في بطن
أُمهما،
فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص
وقال : واللّه لئن
خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن أمّي،
فلأقتلنّها،
فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ
يعقوب يعقب عيص فخرج عيص قبل يعقوب.
وسمّي عيص لما عصى فخرج قبل
يعقوب،
وكان عيص أحبّهما الى أبيه وكان
يعقوب أحبّهما الى أُمة،
وكان عيص
(ويعقوب أبناء) إسحاق وعميَ،
قال لعيص : يا بنّي أطعمني لحم
صيد واقترب مني أُدعُ لك بدعاء دعا لي به أبي،
وكان عيص رجلا أشعر وكان
(يعقوب) رجلاً
أمرد،
فخرج عيص بطلب الصيد،
فقالت أُمّه ليعقوب : يا بنّي
إذهب الى الغنم فاذبح منه شاةً ثمّ اشوه والبس جلدها وقدمها الى أبيك فقل له :
أنّك عيص،
ففعل ذلك يعقوب،
فلمّا جاء
قال : يا أبتاه
كل،
قال : من أنت،
قال : ابنك عيص
(قال :
خمسه فقال : المس مسّ عيص والريح ريحة يعقوب،
قالت أُمه : هو
ابنك،
فادع له،
قال : قدم طعامك
فقدّمه فأكل منه،
ثم قال : أُدن مني،
فدنا منه،
فدعا له أن يجعل في
ذريته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص فقال : قد جئتك بالصيد الذي أمرتني
به. فقال : يا بني قد سبقك أخوك يعقوب،
فغضب عيص وقال :
واللّه لأقتلنه،
قال : يا بني قد
بقيت لك دعوة،
فهلم أدع لك بها،
فدعا له فقال : تكون
ذريتك عدداً كثيراً كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم...).
{اذْكُرُوا} ....
روى الشعبي عن النعمان بن بشير
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير،
ومن لم يشكر الناس
لم يشكر اللّه،
والمحدث بنعمة اللّه
شاكر وتاركها كافر،
والجماعة رحمة
والفرقة عذاب).
{نِعْمَتِيَ} أراد نعمي أعطها وهي واحد
(بمعنى الجمع) وهو
قوله تعالى
{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه تُحْصُوهَآ} والعدد لا يقع على الواحد.
{الَّتِى أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُمْ}
أي على أجدادكم،
وذلك أن اللّه تعالى فلق لهم
البحر وأنجاهم من فرعون وأهلك عدوّهم فأورثهم ديارهم وأموالهم،
وظلل عليهم الغمام في التيه من
حر الشمس،
وجعل لهم عموداً من نور يضيء
لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر،
وأنزل عليهم المنّ والسّلوى،
وفجّر لهم اثني عشرة عيناً
(وأنزل) عليهم
التوراة فيها بيان كلّ شيء يحتاجون إليه في نعم من اللّه كثيرة لا تحصى.
{أوفوا بعهدي} الذي عهدت اليكم
{أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ} أدخلكم الجنّة وأنجز لكم ما وعدتكم.
فقرأ الزهري : أوفّ بالتّشديد
على التأكيد يقال : وفّى وأوفى
كلّها بمعنى
(واحد) وأصلها
الاتمام.
قال الكلبي : عهد الى بني
إسرائيل على لسان موسى : إنّي باعث من بني إسماعيل نبيّاً أميّاً فمن إتّبعه
(وآمن) به عفوت عن
ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين إثنين،
وهو
قوله :
{وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}
يعني أمر محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قتادة : هو العهد الذي أخذ
اللّه عليهم في
قوله : و{لَقَدْ
أَخَذْنَا مِيثَاقَ بنى إسرائيل}
وقوله تعالى :
{قَرْضًا حَسَنًا} فهذا
قوله :
{أوفوا بعهدي} ثم
قال :
{كَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم}
الآية. فهذا
قوله
{أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ} .
فقال :
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بنى إسرائيل
تَعْبُدُونَ إِلا اللّه}
الآية.
الحسن : هو
قوله :
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ}
الآية.
إسماعيل بن زياد : ولا تفرّوا
من الزحف أدخلكم الجنة،
دليله
قوله تعالى :
{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّه مِن قَبْلُ
يُوَلُّونَ الأدبار} .
وقيل : أوفوا بشرط العبوديّة،
أوفِ بشرط الربوبيّة.
وقال أهل الاشارة : أوفوا في
دار محنتي على بساط خدمتي،
(أوفِ عهدكم) في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي.
{وَإِيَّاىَ
فَارْهَبُونِ} فخافوني في نقض العهد
(وسقطت الياء بعد النون في) هذه الآيات وفي كلّ القرآن على الأصل،
وحذفها الباقون على الخط
إتّباعاً للمصحف.
٤١
{وَءَامِنُوا بِمَآ
أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا} موافقاً
{لِّمَا مَعَكُمْ}
يعني التوراة في
التوحيد والنبّوة والأخبار،
وبعض الشرائع نزلت في كعب
وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم.
{وَلا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِر بِهِ}
يعني أوّل من يكفر
بالقرآن وقد بايعتنا اليهود على ذلك فتبوءوا بآثامكم وآثامهم.
{وَلا تَشْتَرُوا
بَِآيَاتِى}
أي ببيان صفة محمد ونعته.
{ثَمَنًا قَلِيلا} شيئاً
يسيراً،
وذلك أنّ رؤساء اليهود كانت لهم
مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامّهم يأخذون منهم شيئاً معلوماً كلّ عام من زروعهم
(فخافوا أن تبينوا) صفة محمد
(صلى اللّه عليه
وسلم) وبايعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرّياسة،
فاختاروا الدنيا على الآخرة.
{وَإِيَّاىَ
فَاتَّقُونِ} فاخشوني في أمر محمد لا فيما يفوتكم من الرياسة والمأكل.
٤٢
{وَ تَلْبِسُوا
الْحَقَّ} ولا تخلطوا،
يقال :
(لبست عليهم الأمر ألبسه لبساً إذا خلطته عليهم)
أي خلطت وشبهت الحقّ الذي أنزل اليكم من صفة محمد
(صلى اللّه عليه وسلم)
{بِالْبَاطِلِ} ،
الذي تكتمونه،
وهو تجدونه في كتبكم من نعته
وصفته.
وقال مقاتل : إنّ اليهود أقرّوا
ببعض صفه محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) وكتموا بعضاً واختلفوا في ذلك،
فقال اللّه عز وجل :
{وَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ} الذي تقرّون به وتبيّنونه بالباطل،
يعني بما تكتمونه،
فالحق بيانهم والباطل كتمانهم.
وقيل : معناه ولا تلبسوا الحقّ
(.... من الباطل) صفة أو
حال.
{وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ}
يعني ولا تكتموا الحق
كقوله
تعالى :
{تَخُونُوا
اللّه وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} .
{وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ} إنّه نبيٌّ مرسل.
٤٣
{وَإِذْ أَخَذْنَا}
يعني وحافظوا على الصلوات الخمس بمواقيتها
(وأركانها) وركوعها وسجودها.
{وَإِذْ أَخَذْنَا}
يعني وأدّوا زكاة أموالكم المفروضة،
وأصل الزكاة : الطهارة والنّماء
والزيادة.
{وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ}
يعني وصلّوا مع المصلين محمّد وأصحابه،
يخاطب اليهود فعبّر بالركوع عن
الصلاة إذ كان ركناً من أركانها كما عبّر باليد عن العطاء كقوله :
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}
وقوله :
{فيما
كسبت أيديكم} وبالعنق عن البدن في
قوله :
{أَلْزَمْنَاهُ طَارَهُ فِى عُنُقِهِ} والأنف عن
(............).
٤٤
({أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} الطاعة والعمل الصالح،
{وَتَنسَوْنَ
أَنفُسَكُمْ} تتركون
{وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} توبيخ عظيم
{أفلا
تعقلون} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال
المردية لكم).
٤٥
{وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ} .......
{وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ}
(عليهما
ولكنه كنّى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله) :
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّه}
وقوله :
{إذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها} فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة
لأنها الأفضل والأهم...
{وَإِنَّهَا} واحد منهما،
أراد بأن كل خصلة منهما
{لَكَبِيرَةٌ}
وقيل : رد
الكناية إلى كل واحد منهما قال تعالى :
{وَجَعَلْنَا
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً} ولم يقل : آيتين،
أراد : جعلنا كل واحد منهما
آية.
حسن من علم يزينه حلم
ومن ناله قد فاز بالفرج
أي من نال كل واحد منهما.
وقال آخر :
لكل همّ من الهموم سَعة
والمسى والصبح لا فلاح معه
وقيل : ردّ الهاء الى الصلاة لأنّ الصبر داخل في الصلاة كقوله :
{وَاللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ولم يقل يرضوهما؛ لأنّ رضا الرسول داخل في رضا اللّه،
فردّ الكناية إلى اللّه. وقال
الشاعر وهو حسّان :
إنّ شرخ الشباب والشعر الأس
ود ما لم يُعاص كان جنونا
ولم يقل يُعاصَيا ردّه إلى
الشباب،
لأن الشعر الأسود داخل فيه.
وقال الحسين بن الفضل : ردّ الكناية إلى الاستعانة،
معناه : وأن الإستعانة بالصبر
والصلاة لكبيرة ثقيلة شديدة
{إِلا
عَلَى الْخَاشِعِينَ}
يعني المؤمنين،
وقال ابن عباس :
يعني المصلّين.
الوراق : العابدين المطيعين. مقاتل بن حيان : المتواضعين،
الحسن : الخائفين. قال الزجاج :
الخاشع الذي يُرى أثر الذل والخنوع عليه،
وكخشوع الدار بعد الاقواء،
هذا هو الأصل.
وقال النابغة :
رماد ككحل العين ما أن تبينه
ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
٤٦
{الَّذِينَ
يَظُنُّونَ} يعلمون ويستيقنون،
كقوله تعالى :
{إِنِّى
ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}
أي أيقنت به.
وقال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرّد
يعني أيقنوا.
والظن من الأضداد يكون شكّاً
ويقيناً كالرّجاء يكون أملاً وخوفاً.
{أَنَّهُم مُّلَاقُوا
رَبِّهِمْ} معاينوا ربّهم في الآخرة
{وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم.
٤٧
{يا بني إسرائيل
إذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضّلتكم على العالمين}
يعني عالمي زمانكم.
٤٨
{وَاتَّقُوا يَوْمًا}
أي واحذروا يوماً واخشوا يوم.
{لا تَجْزِى}
أي لا تقضي ولا تكفي ولا تغني.
ومنه الحديث عن أبي بردة بن
ديّان في الأضحية : لا تجزي عن أحد بعدك.
وقرأ أبو السماك العدوي : لا
تجزي مضمومة التّاء مهموزة الياء من أجزأ يجزي إذا كفي.
قال الشاعر :
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن
ليجْزي إلاّ كامل وابن كامل
وقال الزجاج : وفي
الآية إضمار
معناه :
{لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} من الشدائد والمكاره.
وأنشد الشاعر :
ويوم شهدناه سليماً وعامرا
أي شهدنا فيه.
وقيل : معناه : ولا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة.
{وَلا يُقْبَلُ
مِنْهَا شَفَاعَةٌ} إذا كانت كافرة.
قرأ أهل مكّة والبصرة : بالتّاء
لتأنيث الشفاعة. وقرأ الباقون : بالياء لتقديم الفعل.
وقرأ قتادة :
(ولا يقبل منها شفاعة) بياء مفتوحة،
ونصب الشفاعة
أي لا يقبل اللّه.
{وَ يُؤْخَذُ مِنْهَا
عَدْلٌ} فداءاً كانوا يأخذون في الدنيا،
وسمّي الفداء عدلاً لأنّه يعادل
المفدّى ويماثله
قال اللّه عزّ وجلّ :
{أَوْ
عَدْلُ ذلك صِيَامًا} .
{وَ هُمْ يُنصَرُونَ}
أي يمنعون من عذاب اللّه.
قال الزجاج : كانت اليهود تزعم
أنّ آباءها الأنبياء تشفع لهم عند اللّه عزّ وجلّ،
فأيأسهم اللّه من ذلك.
٤٩
{وَإِذْ
نَجَّيْنَاكُم}
يعني أسلافكم وآباءكم فأعتدّها منّة عليهم؛ لأنّهم نجوا بنجاتهم،
ومآثر الآباء مفاخر الأبناء.
وقوله :
{فَأَنجَيْنَاكُمْ} : أصله ألقيناكم على النّجاة وهو ما ارتفع واتّسع من الأرض
هذا،
هو الأصل،
ثم سمّي كلّ فائز ناجياً كأنّه
خرج من الضيق والشدة الى الرخاء والراحة.
وقرأ إبراهيم النخعي : وإذ
نجّيناكم على الواحد.
{مِّنْ ءَالِ
فِرْعَوْنَ} :
أي أشياعه وأتباعه وأسرته وعزّته وأهل دينه،
وأصله من الأول وهو الرجوع
كأنّه يؤول إليك،
وكان في الأصل همزتان فعّوضت من
إحداهما مدّ وتخفيف.
وفرعون : هو الوليد بن مصعب بن
الريّان،
وكان من العماليق.
{يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ}
يعني يكلّفونكم ويذيقونكم أشدّ العذاب وأسوأه،
وذلك أنّ فرعون جعل بني إسرائيل
خدماً وعبيداً وصنّفهم في أعمالهم. فصنف يبنون،
وصنف يحرثون ويزرعون،
وصنف يخدمون،
ومن لم يكن منهم في عمل من هذه
الأعمال فعليه الجزية.
{يُذَبِّحُونَ
أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} .
وقرأ ابن محيصن : بالتخفيف فتح
الياء والباء من الذبح،
والتشديد على التكثير،
وذلك أنّ فرعون رأى في منامه
كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط
وتركت بني إسرائيل،
فهاله ذلك،
ودعا بالسحرة والكهنة وسألهم عن
رؤياه فقالوا : إنّه يولد
في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك،
فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد
في بني إسرائيل،
وجمع القوابل من أهل مملكته
فقال لهنّ : لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلاّ قتل ولا جارية إلاّ
تركت،
ووكّل بهنّ من يفعلن ذلك،
وأسرع الموت في مشيخة بني
إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون فقالوا له : إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل
وأنت تذبح صغارهم
(ويموت كبارهم،
فيوشك أن يقع العمل
علينا،
فأمر فرعون أن
يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك،
وولد موسى في السنة
التي يذبحون فيها).
{وَفِى ذَالِكُم بَءٌ
مِّن رَّبِّكُمْ} في إنجائكم منهم نعمة عظيمة،
والبلاء تنصرف على وجهين :
النعماء والنقماء
(...........).
٥٠
{وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ} .......
{الْبَحْرِ} : وذلك إنّه لما دنا هلاك فرعون أمر اللّه عزّ وجلّ موسى أن
يسري ببني إسرائيل،
وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى
الصبح،
وأخرج اللّه عزّ وجلّ كل ولد
زنا في القبط من بني اسرائيل إليهم وأخرج
(من بني إسرائيل كل ولد زنا منهم) إلى القبط حتى رجع كل واحد منهم الى أبيه،
وألقى اللّه عزّ وجلّ على القبط
الموت فمات كل بكراً،
فاشتغلوا بدفنهم
(عن طلبهم حتى) طلعت الشمس وخرج موسىج في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدّون ابن
العشرين أصغرهم،
ولا ابن الستين أكبرهم،
سوى الذرية. فلما أرادوا السير
ضُرب عليهم التّيه فلم يدروا أين يذهبون،
فدعا موسىج مشيخة بني إسرائيل
وسألهم عن ذلك. فقالوا : إنّ يوسفج لما حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهداً أن لا
يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم؛ فلذلك أنسدّ علينا الطريق،
فسألهم عن موضع قبره فلم
يعلموا.
فقام موسى يُنادي : أنشد اللّه
كل من يعلم أين موضع قبر يوسف إلاّ أخبرني به،
ومن لم يعلم فصمّت أذناه عن
قولي. فكان يمرّ بين الرّجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعتهُ عجوز لهم فقالت :
أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلّما سألتك،
فأبى عليها وقال : حتى أسأل
ربّي،
فأمره اللّه عزّ وجلّ بايتاء
سؤلها،
فقالت : إني عجوز كبيرة لا
أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدُّنيا،
وأما في الآخرة فأسألك أن لا
تنزل بغرفة من الجنة إلاّ نزلتها معك،
قال : نعم،
قالت : إنّه في جوف الماء في
النيل،
فادعُ اللّه حتى يحبس عنه
الماء. فدعا اللّه فحبس عنه الماء،
ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن
يفرغ من أمر يوسف،
فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه
في صندوق من المرمر فحمله حتى دفنه بالشام،
ففتح لهم الطريق.
فساروا وموسى على ساقتهم وهارون
على مقدّمتهم،
وعلم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم
أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الدّيك. فواللّه ما صاح ديك في تلك
الليلة. فخرج فرعون في طلب بني اسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة
ألف،
وكان فيهم سبعون ألف من دهم
الخيل سوى سائر الشّيات،
وسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا
إلى البحر،
والماء في غاية الزيادة.
نظروا فإذا هم بفرعون وذلك حين
أشرقت الشمس،
فبقوا متحيرين وقالوا : يا موسى
كيف نصنع؟
وما الحيلة؟
فرعون خلفنا والبحر أمامنا. قال
موسى :
{كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} فأوحى إليه :
{أَنِ
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فضربه فلم يُطعه،
فأوحى اللّه إليه أن كنّه،
فضربه موسى بعصاه وقال : انفلق أبا
خالد بإذن اللّه،
{فَانفَلَقَ فَكَانَ
كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} وظهر فيها
اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق،
وأرسل اللّه عزّ وجلّ الريح
والشمس على مقر البحر حتى صار يبساً.
وقال سعيد بن جبير : أرسل
معاوية الى ابن عباس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلاّ مرة واحدة؟
فكتب إليه : إنه المكان الذي
انفلق منه البحر لبني إسرائيل.
فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط
في طريق وعن جانبه الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً،
فخافوا وقال كل سبط قد غرق كل
إخواننا. فأوحى اللّه إلى حال الماء أن تشبّكي،
فصار الماء شبكات يرى بعضهم
بعضا،
ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا
البحر سالمين. فذلك
قوله تعالى
{وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ}
أي فلقنا وميّزنا
الماء يميناً وشمالا.
{فَأَنجَيْنَاكُمْ} من آل فرعون والغرق.
{وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ
فِرْعَوْنَ} وذلك إنّ فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً،
قال لقومه : انظروا إلى البحر
انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم،
أدخلوا البحر،
فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في
خيل فرعون أنثى،
وإنما كانت كلها ذكور،
فجاء جبرائيلج على فرس أنثى
وديق فتقدّمهم فخاض البحر،
فلما شمّت الخيول ريحها اقتحمت
البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر،
وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم
يستحثهم ويقول لهم : إلحقوا بأصحابكم،
حتى إذا خرج جبرائيل من البحر
وهمَّ أولهم أن يخرج،
أمر اللّه تعالى البحر أن
يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين؛ وذلك بمرأى من بني إسرائيل،
وذلك
قوله :
{وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ} .
{وَأَنتُمْ
تَنظُرُونَ} إلى مصارعهم.
٥١
{وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذلك أنّ بني
إسرائيل لما أمِنوا من عدوهم،
ودخلوا مصر،
ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة
ينتهون إليها،
فوعد اللّه عزّ وجلّ موسى أن
ينزّل عليهم التوراة،
فقال موسى لقومه : إنّي ذاهب
إلى ميقات ربي،
وآتيكم بكتاب فيه تبيان ما
تأتون وما تذرون،
فواعدهم أربعين ليلة ثلاثين من
ذي القعدة وعشراً من ذي الحجة واستخلف عليهم أخاه هارون.
فلما أتى الوعد جاء جبرئيل على
فرس يُقال لها فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلاّ حييّ؛ ليذهب بموسى إلى ربه،
فلمّا رآه السامري وكان رجلاً
صائغاً من أهل باجرو واسمه ميخا وقال ابن عباس : إسمه موسى بن ظفر،
وكان رجلاً منافقاً قد أظهر
الإسلام،
وكان من قوم يعبدون البقر،
فدخل قلبه حبُّ البقر فلما رأى
جبرئيل على ذلك الفرس،
قال : إنّ لهذا شأناً،
وأخذ قبضةً من تربة حافر فرس
جبرئيل،
وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا
حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لغلة عرس لهم فأهلك اللّه عزّ
وجلّ قوم فرعون فبقيت تلك الحلي في يد بني إسرائيل. فلما وصل موسى. قال السامري :
إنّ الأمتعة والحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة،
ولا تحلّ لكم. فاحفروا حفرةً
وادفنوها فيها حتى يرجع موسى،
ويرى فيها رأيه،
ففعلوا ذلك.
فلما اجتمعت الحلي صاغها
السامري،
ثم ألقى القبضة التي أخذها من
تراب فرس جبرئيل فيه،
فخرج عجلا من ذهب مرصعاً
بالجواهر كأحسن ما يكون وخار خورة. قال السّدي : كان يخور ويمشي
(ويقول : ) هذا آلهكم واله موسى فَنسي،
أي تركه ها هنا وخرج بطلبه.
وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا
الوعد فعدّوا اليوم والليلة يومين،
فلما مضت عشرون يوماً ولم يرجع
موسىج ورأوا العجل وسمعوا قول السامري،
أفتتن بالعجل ثمانية ألف رجل
منهم،
وعكفوا عليه يعبدونه من دون
اللّه عزّ وجلّ.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى} : قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب :
(وعدنا) بغير ألف في جميع
القرآن،
وقرأ الباقون :
(واعدنا) بالألف،
وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ
بغير ألف
قال : لأنّ اللّه
عزّ وجلّ هو المتفرد بالوعد والقرآن ينطق به
كقوله تعالى :
{وَعَدَ اللّه}
وقوله :
{إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} ،
ومن قرأ بالالف
قال : قد يجيء
المفاعلة من واحد كقولهم : عاقبت اللص،
وعافاك اللّه،
وطارقت النعل.
قال الزجاج :
(واعدنا) جيد لأن بالطاعة والقبول بمنزلة المواعدة فكان من اللّه الوعد ومن موسى
القبول.
وموسى : هو موسى بن عمران بن
يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب.
{أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً} وقرأ زيد بن علي :
(أربعين) بكسر الباء وهي
لغة،
و
(ليلة) نصب على التمييز
والتفسير،
وإنّما قرن التاريخ بالليل دون
النهار؛ لأن شهور العرب وضعت على مسير القمر،
والهلال إنّما يهلّ بالليل،
وقيل لأنّ الظلمة أقدم من الضوء،
والليل خُلق قبل النهار.
قال اللّه عزّ وجلّ :
{وَءَايَةٌ لَّهُمُ
الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ}
الآية.
{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ} يقول أبو العالية : إنّما سمّي العجل لأنّهم تعجّلوه قبل رجوع
موسىج.
{مِن بَعْدِهِ} من بعد انطلاق موسى إلى الجبل للميعاد.
{وَأَنتُمْ
ظَالِمُونَ} مشّاؤون لأنفسكم بالمعصية،
وواضعون العبادة في غير موضعها.
٥٢
{ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنكُم}
أي تركناكم فلم نستأصلكم،
من قول له ج : أحفوا الشّوارب
واعفوا اللحي،
وقيل : محونا ذنوبكم،
من قول العرب : عفت الرّيح
المنازل فعفت.
{مِّن بَعْدِ ذلك }
أي من بعد عبادتكم العجل.
{لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا عفوي عنكم،
وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهيّة
الشكر،
فقال ابن عباس : هو الطاعة
بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السر والعلانية.
وقال الحسن : شكر النعمة ذكرها،
قال اللّه تعالى :
{وَأَمَّا
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
الفضل : شكر كل نعمة ألاّ يُعصى
اللّه بعد تلك النعمة.
أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق
: حقيقة الشكر : معرفة المُنعم،
وأن لا تعرف لنفسك في النعمة
حظّاً بل تراها من اللّه عزّ وجلّ.
قال
اللّه تعالى :
{وَمَا
بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه} يدل عليه
ما روى سيف بن ميمون عن الحسين : إنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(قال موسىج : يا ربّ كيف استطاع آدم أنْ يؤدي شكر
ما أجريت عليه من نعمك،
خلقته بيدك واسجدت
له ملائكتك واسكنته جنَّتك؟
فأوحى اللّه إليه :
إنّ آدم علم إنّ ذلك كله منّي ومن عندي فذلك شكر).
وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن
عطاء الخرساني عن وهب بن منبّه
قال : قال داودج : إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصِلُ إلى شكرك إلاّ
بنعمتك؟
فأوحى اللّه تعالى إليه : ألست
تعلم أنّ الذي بك من النعم منّي؟
قال : بلى يا ربّ،
قال : أرضى بذلك لك شكراً.
وقال وهب : وكذلك قال موسى : يا
ربّ أنعمت عليّ بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها،
وإنما شكري لكل نعمة منك عليّ،
فقال اللّه : يا موسى تعلّمت
العلم الذي لا يفوته علم،
حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به
من نعمة فهو منّي ومن عندي.
قال الجنيد : حقيقة الشكر :
العجز عن الشكر.
وروى ذلك عن داودج إنّه
قال : سبحان من
جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً،
كما جعل اعترافه بالعجز عن
معرفته معرفة.
وقال بعضهم : الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم.
أبو عثمان الخيري : صدق الشكر :
لا تمدح بلسانك غير المنعم.
أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي
بكر الرازي عن الشبلي : الشكر : التواضع تحت رؤية المنّة.
وقيل : الشكر خمسة أشياء : مجانبة السيئات،
والمحافظة على الحسنات،
ومخالفة الشهوات،
وبذل الطاعات،
ومراقبة ربّ السموات.
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سُئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القناد في الجامع بحضرة أبي بكر
بن عدوس وأنا حاضر : من أشكر الشاكرين؟
قال : الطاهر من الذنوب،
يعدُّ نفسه من المذنبين،
والمجتهد في النوافل بعداد
الفرائض،
يعدُّ نفسه من المقصّرين،
والراضي بالقليل من الدُّنيا،
يعدُ نفسهُ من المفلسين،
فهذا أشكر الشاكرين.
بكر بن عبد الرحمن عن ذي النّور
: الشكر لمن فوقك بالطاعة،
ولنظيرك بالمكافأة،
ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
٥٣
{وَإِذْ ءَاتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ}
قال مجاهد والفراء : هما شيء
واحد،
والعرب تكرر الشيء إذا اختلفت
ألفاظه على التوهم،
وأنشد الفراء :
وقدّمت الأديم لراهشيه
وألفى
قولها كذباً وميْنَا
وقال عنترة :
حيّيت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم
وقال الزجاج : وهذا هو القول؛
لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكر لموسى الفرقان في غير هذا الموضع فقال :
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ
الْفُرْقَانَ} .
وقال الكسائي : الفرقان : نعت
للكتاب،
يريد :
{وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
وَالْفُرْقَانَ} فرّق بين الحلال والحرام،
والكفر والإيمان،
والوعد والوعيد. فزيدت الواو
فيه كما يُزاد في النعوت من
قولهم : فلان حسن وطويل،
وأنشد :
إلى الملك العزم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ودليل هذا التأويل
قوله :
{ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا
عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِي لِّكُلِّ شَىْءٍ} .
وقال قطرب : أراد به الفرقان،
وفي
الآية إضمار،
ومعناه : وإذا آتينا موسى
الكتاب ومحمّد الفرقان.
{لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} لهذين الكتابين،
فترك أحد الإسمين،
كقول الشاعر :
تراهُ كأن اللّه يجدع أنفه
وعينيه إن مولاه بات له وفر
وقال ابن عباس : أراد بالفرقان
النصر على الأعداء،
نصر اللّه عزّ وجلّ موسى وأهلك
فرعون وقومه،
يدلّ عليه
قوله عزّ وجلّ :
{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ
الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} يوم بدر.
يمان بن رباب : الفرقان :
انفراق البحر وهو من عظيم الآيات،
يدلّ عليه
قوله تعالى :
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
فَأَنجَيْنَاكُمْ} .
٥٤
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ} الذين إتخذوا العجل.
{يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم}
أي ضررتم أنفسكم
{بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلهاً،
فقالوا : فأي شيء نصنع وما
الحيلة؟
قال :
{فَتُوبُوا} فأرجعوا.
{إِلَى
بَارِئِكُمْ}
أي خالقكم،
وكان أبو عمرو يختلس الهمزة الى
الجزم في
قوله :
{بَارِئِكُمْ} و
(يأمركم) وينصركم طلباً للخفة كقول امرؤ القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثماً من اللّه ولا واغل
وأنشد :
وإذا أعوججن قلت صاحب قوّم
بالدوّ أمثال السفين العوم
قال :
{فَاقْتُلُوا
أَنفُسَكُمْ} ليقتل البريء المجرم.
{ذالِكُمْ} القتل.
{خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} قال ابن جرير : فأبى اللّه عزّ وجلّ أن يقبل توبة بني
إسرائيل إلاّ بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل.
وقال قتادة :
(جعلّ عقوبة) عبدة العجل القتل؛ لأنّهم إرتدّوا،
والكفر يبيح الدّم.
وقرأ قتادة :
(فأقيلوا أنفسكم) من الأقالة
أي استقيلوا العثرة بالتوبة،
فلما أهمّ موسى بالقتل
قالوا : نصير لأمر
اللّه تعالى فجلسوا بالأفنية مختبئين وأصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرّجل يرى
ابنه وأباه وعمّه وقومه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر اللّه وقالوا : يا موسى
كيف نفعل؟
فأرسل اللّه ضبابة وسحابة سوداء
لا يبصر بعضهم بعضاً
وقيل لهم من حلّ حبوته أو مدّ طرفه الى قاتله أو إتّقى بيد أو رجل
فهو طعون مردود توبته،
فكانوا يقتلونهم الى المساء،
فلمّا كثر فيهم القتل دعا هارون
وموسى وبكياً وجزعاً وتضرّعاً وقالا : يا ربّ هلكت بنو اسرائيل البقيّة البقيّة،
فكشف اللّه عزّ وجلّ السحاب
وأمرهم أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفّوا عن القتل.
فتكشّفت عن ألوف من القتلى،
فاشتدّ ذلك على موسى،
فأوحى اللّه إليه : أما يرضيك
أن أدخل القاتل والمقتول الجنّة،
وكان من قُتل منهم شهيداً ومن
بقي منهم نكفّر عنه ذنوبه،
فذلك
قوله :
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ}
يعني ففعلتم
بأمره فتاب عليكم وتجاوز عنكم.
{إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
٥٥
{وإذ قلتم يا موسى لن
نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة}
الآية،
وذلك أنّ اللّه أمر موسى أن
يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل،
فاختار سبعين رجلا من خيارهم،
وقال لهم : صوموا وتطهّروا
وطهّروا ثيابكم،
ففعلوا ذلك،
فخرج بهم موسى الى طور سيناء
لميقات ربّه،
فلمّا وصل ذلك الموضع
قالوا : اطلب لنا
نسمع كلام ربّنا،
فقال : أفعل،
فلمّا دنا موسى من الجبل وقع
عليه عمود الغمام وتغشّى الجبل كلّه فدخل في الغمام وقال القوم : ادنوا،
وكان موسى إذا كلّمه ربّه وقع
على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه،
فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم
حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجّدا،
وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره
وينهاه،
وأسمعهم اللّه تعالى : إنّي أنا
اللّه لا اله إلاّ أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر فأعبدوني ولا تعبدوا غيري.
فلمّا فرغ موسى وانكشف الغمام
أقبل إليهم،
فقالوا له : لن نؤمن لك حتى نرى
اللّه جهرة.
{فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ} وهي نارٌ جاءت من السماء فأحرقتهم جميعاً.
وقال وهب : أرسل اللّه عزّ وجلّ
عليهم جنداً من السماء فلما سمعوا بحسّها ماتوا يوماً وليلة. والصاعقة : المهلكة،
فذلك
قوله :
{وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن} لن نصدّقك
{حَتَّى
نَرَى اللّه جَهْرَةً} .
قرأه العامّة بجزم الهاء،
وقرأ ابن عباس :
(جهرة) بفتح الهاء
وهما لغتان مثل زُهْره وزَهَره.
{جَهْرَةً}
أي معاينة بلا ساتر بيننا وبينه،
وأصل الجهر من الكشف.
قال الشاعر :
يجهر أجواف المياه السّدم
(وانتحابها على
الحان)
{فَأَخَذَتْكُمُ
الصَّاعِقَةُ} قرأ عمر وعثمان وعلي
(رضي اللّه عنهم) :
(الصعقة) بغير ألف،
وقرأ الباقون
(الصاعقة) بالألف وهما لغتان.
{وأنتم تنظرون ثم بعثناكم
من بعد موتكم} وذلك أنهم لما هلكوا جعل
(موسى) يبكي ويتضرّع
ويقول : يا ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ولو شئت
أهلكتهم من قبل،
ويا ربّي
{أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} فلم يزل يناشد ربّه حتى أحياهم اللّه تعالى جميعاً رجلا بعد
رجل ينظر بعضهم الى بعض كيف يحيون،
فذلك
قوله تعالى :
٥٦
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم} أحييناكم
{مِّن
بَعْدِ مَوْتِكُمْ} لتستوفوا بقيّة آجالكم
وأرزاقكم،
وأصل البعث : إثارة الشيء من
(مكمنه).
يقال : بعثت البعير،
وبعثت النائم فانبعث.
٥٧
{لعلكم تشكرون
وظلّلنا عليكم الغمام} في التيه تقيكم
حرّ الشمس،
وذلك أنّهم كانوا في التّيه ولم
يكن لهم كنّ يسترهم فشكوا ذلك الى موسى،
فأنزل اللّه عليهم غماماً
أبيضاً رقيقاً وليس بغمام المطر بل أرقّ وأطيب وأبرد والغمام : ما يغمّ الشيء
أي يستره وأظلّهم فقالوا : هذا الظّل
قد جعل لنا فأين الطعام،
فأنزل اللّه عليهم المنّ.
واختلفوا فيه،
فقال مجاهد : وهو شيء كالصمغ
كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد.
الضحّاك : هو الطرنجبين.
وقال وهب : الخبز الرّقاق.
السدي : عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه.
عكرمة : شيء أنزله اللّه عليهم
مثل الزّيت الغليظ،
ويقال : هو الزنجبيل.
وقال الزجاج : جملة المنّ ما
يمنّ اللّه مما لا تعب فيه ولا نصب.
وروي عن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الكماة من المنّ وماءوها شفاء للعين).
وكان ينزل عليهم هذا المنّ كل
ليلة تقع على أشجارهم مثل الملح،
لكلّ إنسان منهم صاع كل ليلة
قالوا يا موسى : مللنا هذا المنّ بحلاوته،
فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم،
فدعا عليه السلام،
فأنزل اللّه عليهم السلوى.
واختلفوا فيه،
فقال ابن عباس وأكثر المفسرين :
هو طائر يشبه السّماني.
أبو العالية ومقاتل : هو طير
أحمر،
بعث اللّه سحابة فمطرت ذلك
الطير في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضه على بعض.
عكرمة : طير يكون بالهند أكبر
من عصفور،
المؤرّخ : هو
(المعسل) بلغه كنانه.
وقال شاعرهم :
وقاسمها باللّه حقّاً لأنتم
الّذّ من السلوى إذا ما نشورها
وكان يرسل عليهم المنّ والسلوى،
فيأخذ كل واحد منه ما يكفيه
يوماً وليلة،
وإذا كان يوم الجمعة أخذ ما
يكفيه ليومين لأنّه لم يكن ينزل إليهم يوم السبت،
فذلك
قوله :
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى
كُلُوا}
أي وقلنا لهم كلوا.
{مِن طَيِّبَاتِ} حلالات.
{مَا
رَزَقْنَاكُمْ} ولا تدّخروا لغد فخبأوا لغد فقطع اللّه عزّ وجلّ ذلك عنهم
ودوّد وفسد ما ادّخروا،
فذلك
قوله عزّ وجلّ
{وَمَا ظَلَمُونَا} ضرّونا بالمعصية.
{وَلَاكِن كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يصرّون باستيجابهم
عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزّل عليهم بلا كلفة ولا مؤونة،
ولا مشقّة في الدنيا،
ولا تبعه ولا حساب في العقبى.
خلاس بن عمرو عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لولا بني إسرائيل لم يخنز الطعام ولم يخبث
اللّحم،
ولولا حوّاء لم تخن
أنثى زوجها).
٥٨
{وَإِذْ قُلْنَا
ادْخُلُوا هذه الْقَرْيَةَ} ابن عباس : هي
أريحا وهي قرية الجبّارين،
وكان فيها قوم من بقية عاد يقال
لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عناق،
وقيل : هي بلقا.
وقال ابن كيسان : هي الشام.
الضّحاك : هي الرّملة والاردن
وفلسطين وتدمر.
مجاهد : بيت المقدس. مقاتل :
إيليا.
{وكلوا منها حيث شئتم
رغدا} موسعاً عليكم.
{وَادْخُلُوا
الْبَابَ}
يعني باباً من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب.
{سُجَّدًا} منحنين متواضعين وأصل السجود الخضوع.
قال الشاعر :
بجمع يضل البلق في حجراته
ترى الأكْم فيه سجّداً للحوافر
وقال وهب : قيل لهم ادخلوا الباب،
فاذا دخلتموه فاسجدوا شكراً
للّه عزّ وجلّ،
وذلك أنّهم أذنبوا بإبائهم دخول
أريحا،
فلما فصلوا من التيه أحبّ اللّه
عزّ وجلّ أن يستنقذهم من الخطيئة.
{وَقُولُوا حِطَّةٌ} قال قتادة : حطّ عنّا خطايانا وهو أمرٌ بالاستغفار.
وقال ابن عباس :
يعني لا اله
الاّ اللّه؛ لأنّها تحطّ الذنوب،
وهي رفع على الحكاية في قول أبي
عبيدة.
وقال الزجاج : سألتنا حطّة.
{نَّغْفِرْ لَكُمْ
خَطَايَاكُمْ} وقرأ أهل المدينة بياء مضمومة وأهل الشام بتاء مضمومة.
{وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ} إحساناً وثواباً والسلام.
٥٩
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا} أنفسهم بالمعصية،
وقيل كفروا.
وقال مجاهد : كموطيء لهم الباب
ليخفضوا رؤوسهم،
فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم
يسجدوا،
فدخلوا مترجعين على أشباههم.
{قَوْلا}
يعني وقالوا قولا.
{غَيْرَ
الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} وذلك إنّهم أُمروا
أن يقولوا
(حطّة) فقالوا :
(حطا)
(.....) يعنون حنطه حمراء استخفافاً بأمر اللّه.
{فأنزل على الذين
ظلموا رجزاً} عذاباً
{مِّنَ
السَّمَآءِ} وذلك أنّ اللّه تعالى أرسل اللّه عليهم ظلمة وطاعوناً فهلك
منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً.
{بِمَا كَانُوا
يَفْسُقُونَ}
يعني يلعبون ويخرجون من أمر اللّه عزّ وجلّ.
٦٠
{وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ}
السين فيه : سين المسألة،
مثل استعلم واستخبر ونحوهما،
أي سأل السّقيا لقومه وذلك أنّهم عطشوا في التيه فقالوا : يا موسى من
أين لنا الشراب،
فاستسقى لهم موسى فأوحى اللّه
عزّ وجلّ إليه :
{فَقُلْنَا اضْرِب
بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} وكان من آس الجنّة
طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان متّقدتان في الظلمة نوراً واسمه غليق،
وكان آدمج حمله معه من الجنة
الى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتى وصل الى شعيب فأعطاه لموسى.
{الْحَجَرَ} واختلفوا فيه،
فقال وهب بن منبّه : كان موسى
(صلى اللّه عليه وسلم) يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر منها لكلّ سبط عين وكانوا اثني
عشر سبطاً،
ثمّ يسيل في كلّ عين جدول الى
السبط الذي أمر سقيهم،
ثمّ أنّهم
قالوا : إن فقد
موسى عصاه،
فأوحى اللّه تعالى الى موسى لا
تقرعنّ الحجارة ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون.
فقالوا : كيف بنا لو أفضينا
الى الرّمل والى الأرض التي ليست فيها حجارة،
فحمل موسى معه حجراً فحيث نزلوا
ألقاه.
وقال الآخرون : كان حجراً
مخصوصاً بعينه،
والدليل عليه
قوله تعالى :
{الْحَجَرَ} فأدخل الألف واللام للتعريف مثل قولك : رأيت الرجل،
ثم اختلفوا فيه ما هو.
فقال ابن عباس : كان حجراً
خفيفاً مربعاً مثل رأس الرجل أُمر أن يحمله وكان يضعه في مخلاته فإذا إحتاجوا الى
الماء وضعه وضربه بعصاه.
وفي بعض الكتب : إنّها كانت
رخاماً.
وقال أبو روق : كان الحجر من
الكدان وكان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع من كلّ حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذوه،
فإذا فرغوا وأراد موسى حمله
ضربه بعصاه فيذهب الماء وكان يستسقي كل يوم ستمائة ألف.
وقال سعيد بن جبير : هو الحجر
الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل حين رموه بالأدرة ففرّ الحجر بثوبه ومرّ به على
ملأ من بني إسرائيل حتى ظهر إنه ليس بأَدِر،
فلما وقف الحجر أتاه جبرئيل
فقال لموسى : إن اللّه يقول إرفع هذا الحجر فانّ فيه قدرة،
فلك فيه معجزة،
وقد ذكره اللّه تعالى في
قوله :
{يا أيها الذين آمنوا لا تكونو كالذين آذوا موسى
فبرّأه اللّه مما قالوا وكان عند اللّه وجيها} . فحمله موسى ووضعه في مخلاته فكان إذا احتاج الى الماء ضربه بالعصا،
وهو ما روي عن أبي هريرة إنه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى
سوأة بعض وكان موسى يغتسل وحده فقالوا : واللّه ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ
إنه آدر قال : فذهب مرّة يغتسل فوضع موسى ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه قال :
فجمع موسى في أثره يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظر بنو إسرائيل الى سوأة
موسى فقالوا واللّه ما بموسى من بأس قال فقام الحجر بعد ما نظر إليه وأخذ ثوبه
فطفق بالحجر ضرباً).
فقال أبو هريرة : وقد رأينا
بالحجر ندباً ستة أو سبعة أثر ضرب موسى.
وقال عبد العزيز بن يحيى
الكناني : كانت ضربة موسى اثني عشرة ضربة،
وظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي
المرأة،
ثم انفجر بالأنهار المطرّدة وهو
قوله :
{فَانفَجَرَتْ} .
وفي
الآية اضمار واختصار
تقديرها : ضرب فانفجرت
أي سالت،
وأصل الانفجار : الانشقاق
والانتشار،
ومنه فجر النهار.
{مِنْهُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ عَيْنًا} قرأ العامة بسكون الشيّن على
التخفيف،
وقرأ العباس بن الفضل الأنصاري
بفتح الشين على الأصل،
وقرأ أبو
(.....) بكسر الشين.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ
أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} موضع شربهم ويكون
بمعنى المصدر مثل المدخل،
المخرج.
{كُلُوا وَاشْرَبُوا}
أي قلنا لهم : كلوا من المنّ،
واشربوا من الماء؛ فهذا كلّه من
رزق اللّه الذي بلا مشقة ولا مؤنة ولا تبعة.
{ولا تعثوا فِى الأرض
مُفْسِدِينَ} : يُقال : عثى يعثي عثياً،
وعثا يعثو عثواً،
وعاث يعث عيثاً وعيوثاً
(بثلاث لغات) وهو شدة الفساد.
قال ابن الرّقاع :
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا
فيه المشيب لزرتُ أمّ القاسم
٦١
{وإذ قلتم يا موسى لن
نصبر على طعام واحد}
الآية،
وذلك أنهم ملّوا المنّ والسلوى
وسئموها. قال الحسن : كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر
السوء،
واشتاقت طباعهم إلى ما جرت
عاداتهم عليه،
فقالوا : لن نصبر على طعام
واحد وكفّوا عن المنّ والسلوى،
وإنما قالوا
(واحد) وهما
اثنان؛ لأن العرب تعبّر عن اثنين بلفظ الواحد،
وبلفظ الواحد عن الاثنين كقوله :
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ،
وإنما يخرجان من المالح منهما
دون العذب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
: كانوا يعجنون المنّ والسلوى فيصير طعاماً واحداً فيأكلونه.
{فَادْعُ} فسأل وادعِ.
{لَنَآ} لأجلنا.
{رَبَّكَ
يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} قراءة العامة بكسر القاف.
وقرأ يحيى بن وثاب،
وطلحة بن مصرف،
والأشيب العقيلي : وقثائها بضم
القاف،
وهي لغة تميم.
{وَفُومِهَا} : قال ابن عباس : الفوم : الخبز،
تقول العرب : فوّموا لنا،
أي اختبزوا لنا.
عطاء وأبو مالك : هو الحنطة وهي
لغة قديمة،
قال الشاعر :
قد كنت أحسبني كأغنى واحد
نزل المدينة عن زراعة فوم
(.....) : هو الحبوب
كلّها.
الكلبي والنضر بن شميل والكسائي
والمعرّج : هو الثوم،
وأنشد المعرّج لحسّان :
وأنتم أناس لئام الأصول
طعامكم الفوم والحوقل
يعني الثوم والبصل؛ فالعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول للصمغ
العرفط : مغاثير ومغافير،
وللقبر جدف وجدث،
ودليل هذا التأويل أنها في مصحف
عبداللّه : وثومها.
{وَعَدَسِهَا
وَبَصَلِهَا} عن الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب
(رضي اللّه عنهما)
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(عليكم بالعدس فإنّه مبارك مقدّس وإنه يُرقق القلب
ويُكثر الدمعة،
وإنه بارك فيه سبعون
نبياً آخرهم عيسىج).
فقال لهم موسى عند ذلك :
{أَتَسْتَبْدِلُونَ} وفي مصحف أُبيّ : أتبدلون.
{الَّذِى هُوَ
أَدْنَى} أخس وأردى.
حكى الفراء عن زهير العرقي :
إنه قرأ
(أدناء) بالهمزة،
والعامة على ترك الهمزة،
وقال بعض النحاة : هو أدون
فقدّمت النون وحوّلت الواو ياء كقولهم : أولى من الويل.
{بِالَّذِى هُوَ
خَيْرٌ} أشرف وأفضل،
ومعناه : أتتركون الذي هو خير وتريدون
الذي هو شر،
ويجوز أن يكون هذا الخير والشر
منصرفين إلى أجناس الطعام وأنواعه،
ويجوز أن يكونا منصرفين إلى
اختيار اللّه لهم،
واختيارهم لأنفسهم.
{اهْبِطُوا مِصْرًا}
يعني فإن أبيتم إلاّ ذلك فاهبطوا مصراً من الأمصار،
ولو أراد مصر بعينها لقال :
(مصر) ولم يصرفه
كقوله
{ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَآءَ اللّه} وهذا معنى قول قتادة.
الضحاك : هي مصر موسى وفرعون.
وقال الأعمش : هي مصر التي
عليها صالح بن علي ودليل هذا القول : قراءة الحسن وطلحة :
(مصر) بغير تنوين
جعلاها معرفة،
وكذلك هو في مصحف عبداللّه
وأُبيّ بغير ألف،
وإنّما صرف على هذا القول
لخفّته وقلّة حروفه مثل : دعد وهند وحمل ونحوها.
قال الشاعر :
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به
بين النهار وبين الليل قد فصلا
{فَإِنَّ لَكُم مَّا
سَأَلْتُمْ} من نبات الأرض.
{وَضُرِبَتْ} جُعلت.
{عَلَيْهِمْ} وألزموا.
{الذِّلَّةُ} الذل والهوان.
قالوا
: بالجزية،
يدل عليه
قوله :
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ} وقال
(.....) : هو الكستيبنج
وزنة اليهودية.
{وَالْمَسْكَنَةُ}
يعني ذي الفقر.
(فتراهم) كأنّهم فقراء وأن كانوا مياسير،
وقيل : المذلة وفقر القلب فلا يرى في أهل الملل أذل ولا أحرص على
المال من اليهود،
والمسكنة مفعلة من السكون،
ومنه سُميّ الفقير مسكيناً
لسكونه وقلّة حركاته. يُقال : ما في بني فلان أسكن من فلان،
أي أفقر.
{وَبَآءُو بِغَضَبٍ
مِّنَ اللّه}
أي رجعوا في قول الكسائي وغيره. أبو روق : استحقوا والباء صلة.
أبو عبيدة : احتملوا وأقرّوا
به،
ومنه الدعاء المأثور :
(أبوء بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا
يغفر الذنوب إلاّ أنت)،
وغضب اللّه عليهم : ذمّهُ لهم
وتوعّده إياهم في الدنيا،
وإنزال العقوبة عليهم في
العقبى،
وكذلك بغضه وسخطه.
{ ذلك بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْفُرُونَ بَِايَاتِ اللّه} بصفة محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) وإنه الرحيم في التوراة والإنجيل والفرقان.
{وَيَقْتُلُونَ} قراءة العامة بالتخفيف من القتل،
وقرأ السّلمي بالتشديد من
التقتيل.
{النَّبِيِّنَ} القراءة المشهورة بالتشديد من غيرهم،
وتفرّد نافع بهمز النبيين،
(ومدّه) فمن همز معناه : المخبر،
من قول العرب : أنبأ النبي
أنباءاً،
ونبّأ ينبيء تنبئة بمعنى واحد،
فقال اللّه عزّ وجلّ :
{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ
هذا} ومن حذف الهمز فله وجهان :
أحدهما : إنه أراد الهمز
فحذفه طلباً للخفّة لكثرة استعمالها،
والوجه الآخر : أن يكون بمعنى
الرّفيع مأخوذ من النبؤة وهي المكان المرتفع،
يقال : نبيء الشيء عن
المكان،
أي ارتفع.
قال الشاعر :
إنّ جنبي عن الفراش لناب
كتجافي الأسرّ فوق الظراب
وفيه وجه آخر : قال الكسائي :
النبي بغير همز : الطريق،
فسمّي الرسول نبياً،
وإنما دقائق الحصا لأنّه طريق
إلى الهدى،
ومنه قول الشاعر :
لاصبح رتما دقاق الحصى
مكان النبي من الكاثب
ومعنى
الآية : ويقتلون
النبيّين.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء،
وفي الخبر : إنّ اليهود قتلوا
سبعين نبياً من أوّل النهار
(في
ساعة واحدة،
فقام مائة رجل واثنا
عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا
جميعاً من) آخر النهار
(في ذلك
اليوم).
{ ذلك بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا
يَعْتَدُونَ} يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي.
٦٢
{إِنَّ الَّذِينَ
ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}
يعني اليهود،
واختلف العلماء في سبب تسميتهم
به.
فقال بعضهم : سمّوا بذلك لأنهم هادوا
أي تابوا من عبادة العجل،
كقوله أخباراً عنهم :
{إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} .
وأنشد أبو عبيدة :
إنّي امرؤ من مدحه هائد
أي تائب.
وقال بعضهم : لأنّهم هادوا
أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يُقال : هاد يهود هوداً :
إذا مال. قال امرؤ القيس :
قد علمت سلمى وجاراتها
أنّي من الناس لها هائد
أي إليها مائل.
وقال أبو عمرو بن العلاء :
لأنّهم يتهوّدون
أي يتحرّكون عند قراءة التوراة،
ويقولون : إنّ السموات والأرض
تحرّكت حين أتى اللّه موسى التوراة.
وقرأ أبو السمّاك العدوي واسمه
قعنب : هادَوا بفتح الدال من المهاداة،
أي مال بعضهم الى بعض في دينهم.
{وَالنَّصَارَى} واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم،
فقال الزهري : سمّوا نصارى لأنّ
الحواريّين
قالوا : نحن أنصار
اللّه.
مقاتل : لأنّهم تولوا قرية
يُقال لها : ناصرة،
فنُسبوا إليها.
وقال الخليل بن أحمد : النصارى
: جمع نصران،
كقولهم : ندمان وندامى.
وأنشد :
تراه إذا دار العشيّ محنّفاً
ويضحى لربّه وهو نصران شامس
فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي
اللحية : لحياني،
ورقابي لذي الرقبة.
فقال الزجاج : يجوز أن يكون جمع
نصري كما يُقال : بعير حبري،
وإبل حبارى،
وإنما سمّوا نصارى لاعتزائهم
إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمّه.
{وَالصَّابِئِينَ} قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصّابئين والصّابئون
الصّابين والصّابون في جميع القرآن،
وقرأ الباقون بالهمز وهو الأصل،
يُقال : صبا يصبوا صبوءاً،
إذا مال وخرج من دين إلى دين.
قال الفرّاء : يُقال لكل من
أحدث ديناً : قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد،
وأصله الميل،
وأنشد :
إذا أصبأت هوادي الخيل عنّا
حسبت بنحرها شرق البعير
واختلفوا في الصّابئين من هم :
قال عمر : هم طائفة من أهل
الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب،
وبه قال السدي.
وقال ابن عباس : لا تحل ذبائحهم
ولا مناكحة نسائهم.
وقال مجاهد : هم قبيلة نحو
الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
وقال السدي : هم طائفة من أهل
الكتاب،
وهو رأي
أبي حنيفة.
وقال قتادة ومقاتل : هم قوم
يقرّون باللّه عزّ وجلّ،
ويعبدون الملائكة،
ويقرأون الزبور ويصلّون إلى
الكعبة،
أخذوا من كل دين شيئاً.
الكلبي : هم قوم بين اليهود
والنصارى،
يحلقون أوساط رؤوسهم ويُحبّون
ذاكرهم.
عبد العزيز بن يحيى : درجوا
وانقرضوا فلا عين ولا أثر.
{مَنْ ءَامَنَ
بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ} اختلفوا في حكم
الآية ومعناها،
ولهم فيها طريقان :
أحدهما : إنّه أراد بقوله
{إِنَّ
الَّذِينَ ءَامَنُوا} على التحقيق وعقد التصديق،
ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين
من هم؟
فقال قوم : هم الذين آمنوا
بعيسى ثم لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يصبئوا،
وانتظروا خروج محمد
(صلى اللّه عليه وسلم)
وقال آخرون : هم طلاّب الدين،
منهم : حبيب النجّار،
وقيس بن ساعدة،
وزيد بن عمرو ابن نفيل،
وورقة بن نوفل،
والبراء السّندي،
وأبو ذر الغفاري،
وسلمان الفارسي،
ويحيى الراهب،
ووفد النجاشي. آمنوا بالنبي
(صلى اللّه عليه وسلم) قبل مبعثه،
فمنهم من أدركه وتابعه،
ومنهم من لم يدركه.
وقيل : هم مؤمنو الأمم الماضية.
وقيل : المؤمنون من هذ الأُمة.
{وَالَّذِينَ
هَادُوا}
يعني الذين كانوا على دين موسىج ولم يبدّلوا ولم يغيّروا.
{وَالنَّصَارَى} : الذين كانوا على دين عيسىج ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك.
قالوا : وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى
(عليهما السلام)،
حيث كانوا على الحق فبقي الاسم
عليهم كما بقي الإسلام على أمّة محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) والصابئين زمن استقامتهم من
آمن منهم
أي مات منهم وهو
مؤمن؛ لأنّ حقيقة الإيمان المؤاخاة.
قال : ويجوز أن تكّون الواو فيه مضمراً :
أي ومن آمن بعدك يا
محمد إلى يوم القيامة.
والطريق الآخر : إنّ المذكورين
في أول
الآية بالإيمان
إنّما هو على طريق المجاز والتسّمية دون الحكم والحقيقة،
ثمّ اختلفوا فيه :
فقال بعضهم : إنّ الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة ولم
يؤمنوا بك ولا بكتابك.
وقال آخرون :
يعني به المنافقين أراد : إنّ الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا
بقلوبهم،
ونظير هذه
الآية
قوله تعالى :
{يا أيها الذين آمنوا آمِنوا باللّه ورسوله} ،
والذين هادوا :
أي اعتقدوا اليهودية
وهي الدين المبدّل بعد موسىج،
والنصارى : هم الذين اعتقدوا
النصرانية والدّين المبدّل بعد عيسى،
والصابئين :
يعني أصناف
الكفّار من آمن باللّه من جملة الأصناف المذكورين في
الآية.
وفيه اختصار وإضمار تقديره : من
آمن منهم باللّه واليوم الآخر؛ لأنّ لفظ
(من) يصلح للواحد
والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث.
قال اللّه تعالى :
{وَمِنْهُم
مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}
{وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ}
{وَمِنْهُم
مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} . قال
{وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للّه وَرَسُولِهِ} ،
وقال الفرزدق في التشبيه :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
تكن مثل من ناديت يصطحبان
{وَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ} فيما قدّموا.
{وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ} على ما خلّفوا،
وقيل : لا خوف عليهم بالخلود في النار،
ولا يحزنون بقطيعه الملك
الجبّار،
ولا خوف عليهم من الكبائر وإنّي
أغفرها،
ولا هم يحزنون على الصغائر
فأنّي أكفّرها.
وقيل : لا خوف عليهم فيما تعاطوا من الإجرام،
ولا هم يحزنون على ما اقترفوا
من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام.
٦٣
{وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ} يا معشر اليهود.
{وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وهو الجبل بالسريانية في قول
بعضهم. وقالوا : ليس من لغة
في الدنيا إلاّ وهي في القرآن.
وقال أبو عبيدة والحُذّاق من
العلماء : لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب؛ لأن اللّه تعالى
قال :
{قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} وقال :
{بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} وإنّما هذا وأشباهه وفاق بين اللّغتين.
وقد وجدنا الطّور في كلام
العرب،
وقال جرير :
فإن ير سليمان الجنّ يستأنسوا
بها
وإن ير سليمان أحب الطّور ينزل
وقال المفسّرون : وذلك أنّ
اللّه تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها
ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال الّتي فيها،
وكانت شريعته ثقيلة فأمر اللّه
تعالى جبرئيلج يضع جبلاً على قدر عسكره وكان فرسخاً في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار
قامة الرّجل.
أبو صالح عن ابن عبّاس : أمر
اللّه تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظلّة.
عطاء عن ابن عبّاس : رفع اللّه
فوق رؤوسهم الطّور وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلفهم
وقيل لهم :
{خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم}
أي أعطيناكم.
{بِقُوَّةٍ} بجدّ ومواظبة. وفيه إضمار،
أي : وقلنا لهم : خذوا.
{وَاذْكُرُوا مَا
فِيهِ}
أي احفظوه واعلموه واعملوا به و
(في) حرف أولي فاذّكروا
بذال مشددة وكسر الالف المشددة و
(في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تنجوا من الهلاك في الدّنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما
أمرتم به وإلاّ رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النّار،
فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم
قبلوا لك وسجدوا خوفاً وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود،
فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون
إلاّ على أنصاف وجوههم فلمّا زال الجبل
قالوا
: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك.
٦٤
{ثُمَّ
تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم وعصيتم.
{مِّن بَعْدِ ذلك }
أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل.
{فَلَوْ فَضْلُ اللّه
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب
عنكم.
{لَكُنتُم مِّنَ
الْخَاسِرِينَ} لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.
٦٥
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ} وذلك أنهم كانوا من داودج بأرض يقال لها أيلة حرّم اللّه عليهم صيد
السمّك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلاّ اجتمع هناك
حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء لأمنها،
فإذا مضى السبت تفرّقن ولزمن
البحر فذلك
قوله تعالى :
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا وَيَوْمَ يَسْبِتُونَ تَأْتِيهِمْ} فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت
عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج
لبعد عمقها وقلّة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها،
وقيل : كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم
الأحد،
ففعلوا ذلك زماناً فكثرت أموالهم
ولم تنزل عليهم عقوبة،
فقست قلوبهم وأصرّوا على
الذّنب،
وقالوا : ما نرى السّبت
إلاّ قد أحلّ لنا،
فلمّا فعلوا ذلك صار أهل القرية
وكانوا سبعين ألفاً ثلاثة أصناف : صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه،
وصنف انتهك الحرمة،
وكان الّذين نهوا إثنا عشر
ألفاً فلمّا أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون : واللّه لا نُساكِنكم في قرية
واحدة،
فقسّموا القرية بجدار وغيروا
بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب اللّه عزّ وجلّ عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج
الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلمّا
أبطأوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعاً قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا،
ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام
ولم يتوالدوا فذلك قول عزّ وجلّ
{فَقُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} أمر تحويل.
{خَاسِئِينَ} مطرودين صاغرين بلغة كنانة،
قاله مجاهد وقتادة والربيع.
قال أبو روق :
يعني خرساً لا
يتكلّمون،
دليله
قوله عزّ وجلّ
{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} .
وقيل : مبعدون من كلّ خير.
٦٦
{فَجَعَلْنَاهَا}
أي القردة،
وقيل : القرية،
وقيل : العقوبة.
{نَكَا} عقوبة وعبرة وفضيحة شاهرة،
وأصله من النكل وهو القيد،
وجمعه أنكال،
ويقال للّجام نكل.
{لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} قال أبو العالية
والرّبيع : معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لما بعدهم.
قتادة : جعلنا تلك العقوبة
جزاءً لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد وما خلفها من العصيان بأخذ الحيتان
بعد النّهي.
وقيل : لما بين يديها من عقوبة الآخرة وما خلفها من نصيحتهم في
دنياهم فيذكّرون بها إلى يوم قيام السّاعة.
وقيل : في
الآية تقديم وتأخير؛ وتقديرها : فجعلناها وما خلفها ممّا أعدّ لهم
من العذاب في الآخرة نكالاً وجزاءاً لما بين يديها :
أي لما تقدّم من
ذنوبهم في اعتدائهم يوم السّبت.
{وَمَوْعِظَةً} عظة وعبرة.
{لِّلْمُتَّقِينَ} للمؤمنين من أُمّة محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) فلا يفعلون مثل فعلهم.
٦٧
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً}
الآية : وذلك إنّه وجد قتيل في بني إسرائيل إسمه عاميل ولم يدروا
قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله فقال عطاء والسّدي : كان في بني اسرائيل
رجل كثير المال وله ابن عم مسكين لاوارث له غيره فلمّا طال عليه موته قتله ليرثه.
وقال بعضهم : وكان تحت عاميل بنت عم له لم يكن لها مثلاً في بني إسرائيل
بالحسن والجمال فقتله ابن عمّه لينكحها.
وقال ابن الكلبي : قتله ابن
أخيه لينكح إبنته فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك.
وقيل : ألقاه بين قريتين.
عكرمة : كان لبني إسرائيل مسجد
له إثنا عشر باباً لكلّ سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط.
قيل : وجرّ إلى باب سبط آخر
فاختصم فيه السبطان.
وقال ابن سيرين : قتله القاتل
ثمّ إحتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه.
قال : فجاء
أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل وسألوا القصاص فسألهم موسى
عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف.
وقال الكلبي : وذلك قبل نزول
القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعوا اللّه ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه
فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى :
{إِنَّ اللّه
يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} .
{قَالُوا
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} يا موسى
أي أتستهزيء بنا حين
نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظّاهر،
ولم يدروا ما الحكمة فيه.
وقرأ ابن محيصن : أيّتخذنا
بالياء
قال : يعنون
اللّه ولا يستبعد هذا من جهلهم لأنّهم الّذين قالوا
{اجْعَل لَّنَآ الها كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ} .
وفي هذا ثلاثة لغات هزواً :
بالتخفيف والهمز ومثله كُفواً وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل.
وهزواً وكفواً مثقلان مهموزان
وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم.
وهزواً وكفواً مثيلان بغير همزة
وفي رواية حفص بن سليمان البزّاز عن عاصم وكلّها لغات صحيحة معناها الاستهزاء فقال
لهم موسىج :
{قَالَ أَعُوذُ بِاللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ}
أي من المستهزئين بالمؤمنين فلمّا علم القوم إنّ ذبح البقرة عزم
من اللّه عزّ وجلّ سألوه الوصف.
٦٨
{قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ} ولو أنّهم عمدوا
إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم
وإنّما كان تشديدهم تقديراً من اللّه عزّ وجلّ وحكمة،
وكان السبب في ذلك على ما ذكره
السّدي وغيره.
إنّ رجلاً في بني إسرائيل كان
بارّاً بأبيه وبلغ من برّه به إنّ رجلاً أتاه بلؤلؤة فأبتاعها بخمسين ألفاً وكان
فيها فضل فقال للبائع أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتّى يستيقظ
وأعطيك الثمن.
قال : فأيقظ أباك
واعطني المال.
قال : ما كنت
لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلأف فانتظرني حتّى ينتبه أبي.
فقال الرّجل : فأنا أعط عنك
عشرة آلاف إنْ أيقظت أباك وعجلت النقد.
قال
: وأنا أزيدك عشرين ألفاً إنْ انتظرت إنتباه أبي. ففعل ولم
يوقظ الرجل أباه فأعقبه برّه بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن
يذبحوا تلك البقرة بعينها.
قال ابن عبّاس ووهب وغيرهما :
كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل الى غيضة وقال : اللّهمّ
إنّي استودعك هذه العجلة لابني حتّى يكبر ومات الرّجل فسبيت العجلة في الغيضة
وصارت عواناً وكانت تهرب من كل مَن رامها. فلمّا كبر الابن كان بارّاً بوالدته
وكان اللّيلة يقسّم ثلاثة أثلاث : يصلّي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه
ثلثاً فاذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السّوق فيبيعه بما شاء اللّه ثّم
يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثاً،
وقالت له أمّه يوماً : إنّ أباك
ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضه كذا واستودعها اللّه عز وجل فانطلق اليها فأدعُ اله
ابراهيم واسماعيل وإسحاق بأن يردّها عليك،
وان من علامتها إنّك إذا نظرت
إليها يخيّل إليك إنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهّبة لحسنها
وصفرتها وصفاء لونها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى وقال : أعزم عليك بآله
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه فقبض على عنقها
وقادها فتكلمت البقرة بأذن اللّه وقالت : أيّها الفتى البارّ بوالدته إركبني فأنّ
ذلك أهون عليك. فقال الفتى،
إنّ أُمي لم تأمرني بذلك ولكن
قالت : خذها بعنقها فقالت البقرة : بأله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليَّ
أبداً فأنطلق فأنّك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك
بوالدتك. وسار الفتى فاستقبله عدوّ اللّه إبليس في صورة راع فقال : أيّها
الفتى إنّي رجل من رعاة البقر إشتقت إلى أهلي فأخذت ثوراً من ثيراني فحملت عليه
زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطّريق ذهبت لأقضي حاجتي صعداً وسط الجبل وما قدرت
عليه وإنّي أخشى على نفسي الهلاك،
فأن رأيت أن تحملني على بقرتك
وتنجني من الموت واعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال : إذهب
فتوكّل على اللّه فلو علم اللّه منك اليقين بلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس :
فأن شئت فبعنيها بحكمك،
وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك
عشرة مثلها فقال الفتى : إنّ امّي لم تأمرني بهذا فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من
بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الرّاعي فدعاها الفتى بأسم آله
إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت أيّها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر
الذي طار إنّه إبليس عدو اللّه إختلسني أمّا إنّه لو ركبني لما قدرت عليَّ أبداً
فلمّا دعوت آله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك لبرّك بوالدتك
وطاعتك لها.
فجاء بها الفتى إلى أمّه،
فقالت له : إنّك فقير لا مال لك
ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار والقيام باللّيل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها.
قال بكم أبيعها؟
قالت : بثلاثة دنانير ولا تبعها
بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت فانطلق بها الفتى إلى السّوق
فبعث اللّه ملكاً إنساناً خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف برّه بوالدته وكان اللّه به
خبيراً فقال له الملك : بكم تبيع هذه البقرة؟
قال : بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك : ستّة
دنانير ولا تستأمر أمّك. فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلاّ برضا
أمّي فردّها إلى امّه وأخبرها بالثّمن فقالت : ارجع فبعها ستّة على رضاي فإنطلق
الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال
: استأمرت والدتك؟
فقال الفتى : انّها أمرتني أن
لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها. قال الملك : فأنني أعطيك إثني عشر على أن لا
تستأمرها.
فأتى الفتى ورجع إلى أمّه
واخبرها بذلك قالت : إنّ ذلك الرجل الّذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك
في صورة آدمي ليجرّبك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟
ففعل ذلك فقال له الملك : إذهب
إلى أمّك وقل لها بكم هذه البقرة؟
فأنّ موسى بن عمران يشتريها
منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلاّ بملء مسكها دنانير فأمسكوا
البقرة،
وقدر اللّه على بني إسرائيل ذبح
تلك البقرة بعينها وأمرهم بها فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتّى وصف تلك البقرة
بعينها موافاة له على برّه بوالدته فضلاً منه.
فضلاً منه ورحمة وذلك
قوله عزّ وجلّ
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ}
أيّ سل وهكذا
هو في مصحف عبداللّه،
سلّ لنّا ربّك يبين لنا ماهي؟
وما سنّها؟
قال موسى : إنّه
يُعني إن اللّه
يقول :
{إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} لا كبيرة ولا صغيرة وارتفع البكر والفارض بأضمار هي إذ لا هي
فارض ولا هي بكر.
مجاهد وأبو عبيدة والأخفش :
الفارض الكبيرة المسنّة التي لا تلد يقال له : فرضت تفرض فروضاً.
قال الشاعر :
كميت بهيم اللون ليس بفارض
ولا بعوان ذات لون مخصف
وقال الرّاجز :
يا رُبَّ ذي ضغن عليّ فارض
له قروء كقروء الحائض
أيّ حقد قديم،
والبكر : الفتية الصغيرة التي
لم تلد قط.
وقال السّدي : البكر : التي لم
تلد إلاّ ولداً واحداً وحذف الحاء منها للأختصاص.@
{عَوَانٌ} نصف بين سنيّن،
وقال الأخفش : العوان التي نتجت
مراراً وجمعه عون،
ويُقال منه : عونت تعويناً.
{فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ} من ذبح البقرة ولا تكرّروا السؤال.
٦٩
{قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} محل
(ما) رفع
بالأبتداء و
{لَوْنُهَا} خبر،
وقرأ الضّحاك
{لَوْنُهَا} نصباً كانّه عمل فيه لسببين وجعل ما صلة.
{قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} .
قال ابن عبّاس : شديد الصفرة
وقال عدي بن زيد :
واني لأسقي الشرب صفراً فاقعاً
كأن ذكيّ المسك فيها يعبّق
قتادة وأبو العالية والربيع :
صاف.
سعيد بن جبير : صفراء اللون
والظلف.
الحسن : السوداء،
والعرب تسمي الأسود أصفر. قال
الأعشى :
تلك خيلي منه وتلك ركابي
هن صفر أولادها كالزبيب
قال القتيبي : غلط من قال
الصفراء هاهنا السوداء؛ لأنّ هذا غلط في نعوت البقر.
وإنّما هو في نعوت الإبل؛ وذلك
أنّ السّوداء من الإبل شربت سوادها صفرة،
والآخر إنّه لو اراد السّوداء
لما أكده بالفقوع لأنّ الفاقع المبالغ في الصّفرة. كما يُقال : أبيض يفق وأسود
حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر.
{تَسُرُّ
النَّاظِرِينَ} إليها وتعجبهم من حسنها وصفاء لونها؛ لأنّ العين تُسر وتولع
بالنظر إلى الشيء.
الحسن
قال : من لبس نعلاً
صفراء قلّ همّه لأنّ اللّه يقول : صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين
٧٠
{قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ} أسائمة أم عاملة.
{إِنَّ الْبَقَرَ} هذه قراءة العامة،
قرأ محمد ذو الشامة الأموي إن
الباقر وهو جمع البقر كالجامل لجماعة الجمل وقال الشاعر :
مالي رأيتك بعد عهدك موحشاً
خلقاً كحوض الباقر المتهدّم
قال قطرب : تجمع البقرة بقر،
وباقر،
وبقير،
وبقور،
وباقور. فأن قيل : لما قال
تشابه والبقر جمع فلم لم يقل تشابهت؟
قيل فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إنّه ذكر لتذكير بلفظ
البقر،
كقوله
{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} .
وقال المبرّد : سُئل سيبويه عن
هذه
الآية؟
(فقال : ) كل جمع حروفه أقل من حروف واحد فإنّ العرب تُذكّره،
واحتج بقول الأعشى :
ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل
ولم يقل مرتحلون،
وقال الزّجاج : معناه إنّ جنس
البقر تشابه علينا.
{تَشَابَهَ
عَلَيْنَا} وفي تشابه سبع قراءات :
تشابه : بفتح التاء والهاء
وتخفيف الشّين وهي قراءة العامة وهو فعل ماض ويذكر موحد.
وقرأ الحسن : تشابه : بتاء
مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشّين اراد تَشابهُ.
وقرأ الأعرج : تشابه : بفتح
التاء وتشديد الشّين وضم الهاء على معنى يتشابه.
وقرأ مجاهد : تشبّه،
كقراءة الأعرج إلاّ إنّه بغير
ألف لقولهم : تحمل
وتحامل.
وفي مصحف أُبي : تشابهت على وزن
تفاعلت
(فالتاء) لتأنيث البقر.
وقرأ ابن أبي إسحاق : تشابهت
بتشديد الشين قال أبو حاتم : هذا غلط لأن التاء لا تدغم في هذا الباب إلاّ في
المضارعة.
وقرأ الأعمش : متشابه علينا
جعله أسماً.
ومعنى
الآية : إلتبس واشتبه
أمره علينا فلا نهتدي إليه.
{وَإِنَّآ إِن شَآءَ
اللّه لَمُهْتَدُونَ} إلى وصفها.
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(وأيم اللّه لئن لم يستبينوا لما تبينت لهم آخر
الأبد).
٧١
{قَالَ إِنَّهُ
يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} مذلّلة
بالعمل يُقال : رجل ذليل
بيّن الذّل،
ودابة ذلولة بيّنة الذّل.
{تُثِيرُ الأرض}
أي مثلها للزراعة.
{وَلا تَسْقِى
الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ} بريئة من العيوب،
وقال الحسن : مسلّمة القوائم
ليس فيها أثر العمل.
{لا شِيَةَ فِيهَا} قال عطاء : لا عيب فيها.
قال قتادة : لا بياض فيها
أصلاً.
مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد.
محمّد بن كعب : لا لون فيها
يخالف معظم لونها.
فلما قال هذا
{قَالُوا الْ َانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}
أي بالوصف التام البين.
قيل : كانت البقرة التي أحيا
بها القتيل لوارثه الذي قتله،
وكان أوّل من فتح السؤال عنها
رجاء أن لا يجدوها فطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلاّ عند الفتى البار. فاشتروها
منه بملء مسكنها ذهباً.
وقال السدّي : اشتروها بوزنها
عشر مرات ذهباً.
{فَذَبَحُوهَا وَمَا
كَادُوا يَفْعَلُونَ} من غلاء ثمنها.
وقال محمّد بن كعب : وما كادوا
يجدونها بإجتماع أوصافها.
٧٢
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ
نَفْسًا}
يعني عاميل،
وهذه
الآية أوّل القصّة.
{فَادَّارَءْتُمْ} فاختلفتم
{فِيهَآ} قاله ابن عبّاس ومجاهد ومنه قول القائل في رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يُزكي فكان خير شريك لا يداري ولا يُماري.
قال الضّحاك : اختصمتم.
عبد العزيز بن يحيى : شككتم.
الربيع بن أنس : تدافعتم،
وأصل الدراء : الدفع
يعني ألقى ذلك
على هذا وهذا على ذاك؛ فدافع كل واحد عن نفسه
كقوله تعالى
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} ،
وقوله
{ويدرأ
عنها العذاب} ،
وأصل
قوله
(.........) والباء صلة.
أبو عبيدة : احتملوا وأقروا به،
ومنه الدُّعاء المأثور
(.........) وأصل : فادارأتم فتدارأتم فأُدغمت التاء في الدّال وادخلت
الألف ليسلم سكون الحرف الأولي بمثل
قوله
{اثَّاقَلْتُمْ} .
{وَاللّه مُخْرِجٌ
مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} تخفون.
٧٣
{فَقُلْنَا
اضْرِبُوهُ}
يعني القتيل.
{بِبَعْضِهَا}
أي ببعض البقرة : فاختلفوا في هذا البعض ما هو؟
فقال ابن عبّاس : اضربوه بالعظم
الذي يلي الفخذين وهو المقتل.
الضحّاك : بلسانها. قال الحسين
بن الفضل : وهذا أولى الأقاويل لأنّ المراد كان من احياء القتيل كلامه واللسان
آلته.
سعيد بن جبير : ضربت بذنبها.
قال يمان : وهو أولى التأويلات بالصواب لأنّ العصعص أساس البدن الذي ركب عليه
الخلق وأنّه أوّل ما يخلق وآخر ما يُبلى.
مجاهد : بذنبها.
عكرمة والكلبي : بفخذها الأيمن.
السّدي : بالبضعة التي بين
كتفيها،
وقيل : باذنها.
ففعلوا ذلك فقام القتيل حيّاً
بإذن اللّه وأوداجها تشخب دماً وقال : قتلني فلان. ثمّ سقط ومات مكانه،
وفي
الآية اختصار،
وتقديرها : فقلنا اضربوه ببعضها
فضرب فحيي
كقوله تعالى
{وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
يعني فافطر
فعدة،
وقوله
{فَمَن
كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}
أي فحلق ففدية.
{ كذلك يُحْىِ اللّه
الْمَوْتَى} كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يُحيي اللّه الموتى.
{وَيُرِيكُمْ
ءَايَاتِهِ} دلائل آياته.
{لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} وقال الواقدي : كل شيء في القرآن فهو بمعنى لكي غير التي في
الشعراء :
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ} فإنه بمعنى : كأنّكم تخلدون فلا تموتون.
٧٤
{ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ} قال الكلبي :
قالوا بعد ذلك لم نقتله،
وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى
قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك
قال اللّه :
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم} الكلبي وأبو روق : يبست واشتدت وقال سائق البربري :
ولا ارى أثراً للذكر في جسدي
والحبل في الجبل القاسي له أثر
أبو عبيدة : جفّت.
الواقدي : جفّت من الشّدة فلم
تلن.
المؤرّخ : غلظت،
وقيل : اسودّت.
قال الزجاج : تأويل القسوة ذهاب
اللّين،
(وقال سيبوية) والخشوع والخضوع.
{ ذلك }
أي بعد ظهور الدلالات.
{فَهِىَ} غلظها وشدتها.
{كَالْحِجَارَةِ أَوْ
أَشَدُّ قَسْوَةً}
أي بل أشد قسوة كقول
الشاعر :
(بدت) مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل،
وقيل : هو بمعنى الواو والألف صلة
أي وأشد قسوة.
كقوله تعالى
{أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلا}
أيّ وكفوراً.
وقرأ أبو حياة : أو أشد قساوة،
وقال الكسائي : القسوة والقساوة
واحد كالشقوة والشّقاوة ثمّ عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ
مِنْهُ الأنهار} وقرأ مالك بن دينار ينفجر
بالنون كقوله
{فَانفَجَرَتْ} ،
وفي مصحف أُبي : منها الأنهار
ردّ الكناية إلى الحجارة .
{وَإِنَّ مِنْهَا
لَمَا يَشَّقَّقُ}
أي يتشقق هكذا قرأها
الأعمش.
{فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله.
{مِنْ خَشْيَةِ
اللّه} عزّ وجلّ وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي
بخير.
{وَمَا اللّه
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وتهديد
أي بتارك عقوبة ما
تعملون بل يجازيكم به.
٧٥
{أَفَتَطْمَعُونَ}
أي فترجون
يعني محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وأصحابه.
{أَن يُؤْمِنُوا
لَكُمْ} لن يصدّقكم اليهود.
{وَقَدْ كَانَ
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} طائفة منهم.
{يَسْمَعُونَ كَلَامَ
اللّه}
يعني التوراة.
{ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ}
أي يُغيرونه
أي ما فيه من
الأحكام.
{مِن بَعْدِ مَا
عَقَلُوهُ} علموه وفهموه كما غيّروا آية الرّجم وصفه محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم)
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إنهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسّدي.
وقال ابن عبّاس ومقاتل : نزلت
هذه
الآية في السبعين
المختارين؛ وذلك إنّهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام اللّه وما يأمره
وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأمّا الصّادقون فأدّوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم :
سمعنا اللّه في آخر كلامه يقول : إنْ إستطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن
شئم فلا تفعلوا ولا بأس.
٧٦
{وَإِذَا لَقُوا} قرأ ابن السُّميقع لاقوا :
يعني منافقي اليهود.
{الَّذِينَ
ءَامَنُوا} بألسنتهم لابقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين.
{قَالُوا ءَامَنَّا} كأيمانكم وشهدنا أنّ محمداً صادق نجده في كتابنا بنعته
وصفته.
{وَإِذَا خَ} رجع بعضهم إلى بعض
أي كعب بن الأشراف
وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولامُوهم على ذلك و
{قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّه عَلَيْكُمْ} قال الكلبي : بما قضى اللّه عليكم في كتابكم أنّ محمّداً حق
وقوله صدق،
وقال القاضي الفتاح الكسائي :
بما بيّنه لكم في كتابكم
(من
العلم ببعث محمد والبشارة به).
الواقدي : بما أنزل اللّه في
الدنيا والآخرة عليكم نظير
{لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض}
أي أنزلناه.
أبو عبيدة والأخفش : بما منّ
اللّه عليكم وأعطاكم.
{لِيُحَآجُّوكُم} ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم
(يعني أصحاب محمد).
{بِهِ عِندَ
رَبِّكُمْ}
وقال
بعضهم : هو أنّ الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من
اليهود فيسأله عن أمر محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) فيقولون إنّه لحق
(فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثمّ
تتبعونه) وهو نبيّ. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك.
قال السّدي : كان ناس من اليهود
آمنوا ثمّ نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عُذبوا به فقال لهم رؤسائهم :
أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم
أي أنزل من العذاب ليعُيروكم به ويقولوا : نحن أكرم على اللّه
منكم.
(ابن جرير عن) القاسم بن أبي برة : هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين
سبّهم النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا إخوان
القردة والخنازير وعبدة الطّاغوت،
فقالوا : من أخبر محمّداً
بهذا؟
ما خرج هذا إلاّ منكم.
{أفلا تعقلون} أفليس لكم ذهن الإنسانيّة.
٧٧
قال اللّه
{أَوَ
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ما يخفون وما يبدون
يعني اليهود،
٧٨
وقرأ ابن محيصن
(ما) على الخطاب
{وَمِنْهُمْ} من اليهود.
{أُمِّيُّونَ} قال ابن عبّاس وقتادة :
يعني غير عارفين معاني
الكتاب. يعلمونه حفظاً وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه.
وقال الكلبي : لا يحسنون قراءة
الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّا أُمّة أُمّية لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا
وهكذا وهكذا).
وقال أهل المعاني : الأُمّي
منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأُمي : العامي الذي لا تمييز له،
أو هو جمع أُمي منسوب إلى الأُم
كأنّه باق على
(الحقيقة) حذفت منه هاء التأنيث لأنّها زائدة وياء النسبة زائدة،
ونقلت فرقاً بينها وبين ياء
الأضافة.
{يَعْلَمُونَ
الْكِتَابَ إِلا أَمَانِىَّ} قرأ العامّة
بتشديد الياء.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة
والأعرج
{أَمَانِىَّ} بتخفيف الياء في كلّ القرآن حذفوا إحدى اليائين استحفافاً وهي ياء الجمع
مثل مفاتح ومفاتيح.
وقال أبو حاتم : كل جمع من هذا
الجنس واحد مشدّد فلك فيه التّضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها
واختلفوا في معنى الأمانيّ،
وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون
إلاّ ما تحدّثّهم بهم علماؤهم.
أبو روق وأبو عبيدة : تلاوة
وقراءة على ظهر القلب ولا يقرؤنها في الكتب،
يدلّ عليه
قوله تعالى :
{إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى
أُمْنِيَّتِهِ} وقرآنه.
قال الشاعر :
تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
مجاهد وقتادة : كذباً وباطلاً.
الفرّاء : الأماني : الأحاديث
المفتعلة.
قال بعض العرب لابن
(دلب) : أهذا شيء
رويته أم تمنيته؟
وأراد بأماني الأنبياء التّي
كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثمّ أضافوها إلى اللّه عزّ وجلّ من تغيير نعت محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم)
الحسن وأبو العالية :
يعني يتمنوّن
على اللّه الباطل والكذب مثل
قولهم
{لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إلاِ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}
وقولهم :
{لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا} ،
وقولهم
{نَحْنُ
أَبْنَاؤُا اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} .
{وَإِنْ هُمْ} ما هم.
{إِلا
يَظُنُّونَ} ظنّاً ووهماً لا حقيقة ويقيناً قاله قتادة والرّبيع.
وقال مجاهد :
(... يكذبون).
٧٩
{فَوَيْلٌ} روى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين
خريفاً قبل أن يبلغ إلى قعره).
سعيد بن المسيب : وادٍ في جهنّم
لو سرت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّها.
ابن بريدة : جبل من قيح ودم.
ابن عبّاس : شدّة العذاب.
ابن كيسان : كلمة يقولها كلّ
مكروب.
الزجّاج : كلمة يستغلّها كل
واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك.
وقيل : هو دعاء الكفّار على أنفسهم بالويل والثّبور.
{لِّلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ اللّه
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} وذلك إنّ
أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في
التوّراة وكان صفته فيها حسن الوجه،
حسن الشعر،
أكحل العين،
ربعة فغيروها وكتبوا مكانها
طويل أزرق،
سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم
عن محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) قرأوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفاً لصفة محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) فيكذبونه
قال اللّه تعالى :
{فَوَيْلٌ
لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} من تغيير
نعت محمّد.
{وَوَيْلٌ لَّهُم
مِّمَّا يَكْسِبُونَ} من المأكول ولفظة الأيدي
للتأكيد كقولهم مشيت
برجلي ورأيت بعيني.
قال اللّه تعالى :
{ولا
طائر يطير بِجَنَاحَيْهِ} .
قال الشّاعر :
نظرت فلم تنظر بعينك منظراً
وقال أبو مالك : نزلت هذه
الآية في الكاتب
الّذي يكتب لرسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) وقد كان قرأ البقرة وآل عمران،
وكان النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) يملي : غفوراً رحيماً،
فيكتب : عليماً حكيماً،
فيقول له النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(اكتب كيف شئت) ويملي عليه : عليماً حكيماً،
فيكتب : سميعاً بصيراً،
فيقول النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(اكتب كيف شئت)
قال : فارتدّ ذلك
الرّجل عن الإسلام ولحق بالمشركين.
قال : أما يعلمكم محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) أن كنت لأكتب ما شئت أنا،
فمات ذلك الرّجل فقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ الأرض لا تقبله).
قال : فأخبرني أبو طلحة : إنّه أتى الأرض الّتي بات فيها فوجده
منبوذاً،
فقال أبو طلحة : ما شأن هذا؟
قالوا : دفنّاه مراراً فلم تقبله الأرض.
٨٠
{وَقَالُوا}
يعني اليهود.
{لَن تَمَسَّنَا
النَّارُ إلاِ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قدراً
مقدّراً ثمّ يزول عنّا العذاب وينقطع،
واختلفوا في هذه الأيّام ماهي.
وقال ابن عبّاس ومجاهد : قدم
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) المدينة واليهود يقولون : مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة وإنّما نعذّب بكل
ألف سنة يوماً واحداً ثمّ ينقطع العذاب بعد سبعة أيّام،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
قتادة وعطاء : يعنون أربعين
يوماً التي عبد أباؤهم فيها العجل وهي مدّة غيبة موسىج عنهم.
الحسن وأبو العالية : قالت
اليهود : إنّ ربّنا عتب علينا في أمرنا أقسم ليعذّبنا أربعين ليلة ثمّ يدخلنا
الجنّة فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم فقال اللّه تعالى تكذيباً
لهم : قل يا محمّد
{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ} ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل.
{عِندَ اللّه عَهْدًا} موثقاً ألاّ يعذّبكم إلاّ هذه المدّة.
{فَلَن يُخْلِفَ
اللّه عَهْدَهُ} وعده،
وقال ابن مسعود : بالتوّعد يدلّ
عليه
قوله تعالى
{إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا}
يعني
قال : لا إله إلاّ اللّه مخلصاً
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا تَعْلَمُونَ} قال
{بَلَى}
(بل
وبلى) حرفا استدراك ولهما معنيان لنفي الخبر الماضي واثبات الخبر
المستقبل،
قال الكسائي : الفرق بين
(بلى ونعم)،
إنّ بلى : أقرار بعد جحود،
ونعم : جواب استفهام بغير جحد،
فإذا
قال : ألست فعلت كذا،
فيقول : بلى،
وإذا
قال : ألم تفعل كذا؟
فيقول : بلى،
وإذا قال أفعلت كذا؟
فيقول : نعم.
قال اللّه تعالى
{ألم
يأتكم نذير قالوا بلى} وقال
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} وقال في غير الجحود
{فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا
نَعَمْ} وقالوا أئِنّا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وإنّما قال
هاهنا بلى للجحود الّذي قبله وهو
قوله
{لَن
تَمَسَّنَا النَّارُ إلاِ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً}
٨١-٨٢
{مَن كَسَبَ
سَيِّئَةً}
يعني الشرك.
{وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِي ئَتُهُ} قرأ أهل المدينة خطيّاته بالجمع،
وقرأ الباقون خطيته على
الواحدة،
وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم
والاحاطة الاحفاف بالشيء من جميع نواحيه واختلفوا في معناها هاهنا.
وقال ابن عبّاس والضحاك وعطاء
وأبو العالية والربيع وابن زيد : هي الشرك يموت الرجل عليه فجعلوا الخطيئة الشّرك.
قال بعضهم : هي الذّنوب الكثيرة الموجبة لأهلها النّار.
أبو زرين عن الربيع بن خيثم في
قوله تعالى :
{وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}
قال : هو الّذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب ومثله قال عكرمة وقال
مقاتل : أصرّ عليها.
مجاهد : هي الذّنوب تحيط بالقلب
كلّما عمل ذنباً إرتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين.
وعن سلام بن مسكين أنّه سأل رجل
الحسن عن هذه
الآية؟
فقال السّائل : يا سبحان اللّه
إلاّ أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة انظر في المصحف فكل آية نهى اللّه
عزّ وجلّ عنها وأخبرك إنّه من عمل بها أدخله النّار فهي الخطئية المحيطة.
الكلبي : أو بقته ذنوبه دليله
قوله تعالى
{إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} :
أي تهلكوا جميعاً.
وعن ابن عبّاس : أحيطت بما له
من حسنة فأحبطته.
{ فأولئك أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
(وهذا من العام المخصوص بصور منها إلاّ من تاب بعد
أن حمل على ظاهره)
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَائِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
٨٣
{وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بنى إسرائيل} في التّوراة. قال
ابن عبّاس : الميثاق : العهد الجديد.
{تَعْبُدُونَ} بالياء قرأه ابن كثير وحميد وحمزة والكسائي.
الباقون : بالتّاء وهو إختيار
أبي عبيد وأبو حاتم.
قال ابو عمرو : ألا تراه يقول
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} فذلك المخاطبة على التّاء.
قال الكسائي : إنّما ارتفع لا
يعبدون لأنّ معناه أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا إلاّ اللّه فلمّا ألقى أن
رفع الفعل ومثله
قوله
{تَسْفِكُونَ} ،
نظير
قوله عزّ وجلّ
{أَفَغَيْرَ اللّه تَأْمُرُونِّى أَعْبُدُ} : يريد أن أعبد فلمّا حذفت النّاصبة عاد الفعل إلى المضارعة.
وقال طرفة :
ألا أيّهذا الزاجري احضر الوغى
وأنْ أشهدَ اللّذاتِ هل أنت
مخلدي
يريد أن أحضر،
فلمّا نزع
(أنْ) رفعه.
وقرأ أُبي بن كعب : لا تعبدوا
جزماً على النهي
أي وقلنا لهم لا تعبدوا الاّ اللّه
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ووصّينا هم بالوالدين إحسانا برّاً بهما وعطفاً عليهما.
وانّما قال بالوالدين واحدهما
والدة؛ لأنّ المذكّر والمؤنّث إذا اقتربا غلب المذكّر لخفّته وقوتّه.
{وَذِى الْقُرْبَى}
أي وبذي القرابة،
والقربى مصدر على وزن فعلى
كالحسنى والشّعرى.
قال طرفة :
وقربت بالقربى وجدك له يني
فتحايك امر للنكيثة أشهد.
{وَالْيَتَامَى} جمع يتيم مثل ندامى ونديم وهو الطفل الذي لا أبَّ له.
{وَالْمَسَاكِينَ}
يعني الفقراء.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ
حُسْنًا} اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم
وأبو عمرو
{حَسَنًا} بضم الحَاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم دليله
قوله عزّ وجلّ :
{بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}
وقوله تعالى :
{ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا} .
وقرأ ابن مسعود وخلف حَسنا بفتح
الحاء والسّين وهو اختيار أبي عبيد
وقوله : إنّما إخترناها لأنها نعت بمعنى قولاً حسناً.
وقرأ ابن عمر : حُسُنا بضم
الحاء والسّين والتنوين مثل الرّعب والنّصب والسّحت والسُحق ونحوها.
وقرأ عاصم والجحدري : احساناً
بالألف.
وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف
: حسنى وقرنت بالقربى بالتأنيث مرسلة.
قال الثعلبي : سمعت القاسم بن
حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول : مجازه كلمة حسنى ومعناه قولوا للنّاس
صدقاً وحقّاً في شأن محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا
له صفته ولا تكتموا أمره ولا تغيروا نعته هذا قول ابن عبّاس وابن جبير وابن جريج
ومقاتل دليله
قوله
{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا}
أي صدقاً.
وقال محمّد بن الحنفية : هذه
الأية تشمل البرّ
والفاجر.
وقال سفيان الثّوري : ائمروهم
بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
{وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بنى إسرائيل}
أي أعرضتم عن العهد
والميثاق
{إِلا قَلِيلا مِّنكُمْ} نصب على الإستثناء.
{وَأَنتُم
مُّعْرِضُونَ} وذلك أن قوماً منهم آمنوا.
٨٤
{وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ تَسْفِكُونَ} لا تريقون
{دِمَآءَكُمْ} وقرأ طلحة بن مصرف تسفكون بضم الفاء وهما لغتان مثل يعرشون ويعكفون.
وقرأ أبو مجلز : تسفكون
بالتشديد على التكثير.
وقال ابن عبّاس وقتادة : معناه
لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق وإنّما قال
(دماءكم) لمعنيين : أحدهما
إن كلّ قوم إجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة.
والآخر : هو أنّ الرجل إذا قتل
غيره كأنّما قتل نفسه لأنّه يقاد ويقتصّ منه{وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ}
أي لا يخرج بعضكم بعضاً من داره
(ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم).
{ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد إنّه حقّ.
{وَأَنتُمْ
تَشْهَدُونَ} اليوم على ذلك يا معشر اليهود.
٨٥
{ثُمَّ أَنتُمْ
هؤلاء}
يعني يا هؤلاء فحذف النّداء للإستغناء بدلالة الكلام عليه كقوله :
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا} فهؤلاء للتنبيه ومبني على الكسرة مثل أنتم
{تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} قرآءة العامّة بالتخفيف من القتل.
وقرأ الحسن : تقتلون بالتثقيل
من التقتيل.
{وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم} قراءة العامّة وهم أهل الحجاز والشّام وأبو عمرو ويعقوب :
تظاهرون بتشديد الظاء،
واختاره أبو حاتم ومعناه
تتظاهرون فأدغم التّاء في الظاء مثل : أثاقلتم وادّاركوا.
وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة
والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء والكسائي : تظاهرون بتخفيف الظاء،
واختاره أبو عبيد ووجه هذه
القراءة : إنّهم حذفوا تّاء الفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله
{وَتَعَاوَنُوا}
وقوله
{مَا لَكُمْ تَنَاصَرُونَ} .
وقال الشّاعر :
تعاطسون جميعاً حول داركم
فكلّكم يا بني حمّان مزكوم.
وقرأ أُبي ومجاهد : تظهّرون
مشدداً بغير ألف
أي تتظهّرون
(........) جميعاً تعاونون،
والظهر : العون سمّي بذلك
لإسناد ظهره إلى ظهر صاحبه.
وقال الشّاعر :
تكثّر من الاخوان ما اسطعت
(.....) اذا إستنجدتهم
فظهيرُ
وما بكثير ألف خل وصاحب
وانّ عدوّاً واحداً لكثيرُ
{بِاثْمِ
وَالْعُدْوَانِ} بالمعصية والظلم.
{وإن يأتوكم أُسارى
تفدوهم} قرأ عبد الرحمن السّلمي ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وحميد
وشبل والجحدري وأبو عمرو وابن عامر :
(أُسارى
تفدوهم) بغير ألف،
وقرأ الحسن :
(أسرى) بغير ألف
(تفادوهم) بألالف،
وقرأ النخعي وطلحة والأعمش
ويحيى بن رئاب وحمزة وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق :
(أسرى تفدوهم) كلاهما بغير ألف
وهي إختيار أبي عبيدة.
وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وشيبة
ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب :
(أُسارى
تفادوهم) كلاهما بالألف،
واختاره أبو حاتم.
فالأسرى : جمع أسير مثل جريح
وجرحى،
ومريض ومرضى،
وصريع وصرعى،
والأسارى : جمع أسير أيضاً مثل
كُسالى وسُكارى،
ويجوز أن يكون جمع أسرى نحو
قولك : أمرأة سكرى ونساءٌ سُكارى،
ولم يفرق بينهما أحد من العلماء
الأثبات إلاّ أبو عمرو.
روى أبو هشام عن جبير الجعفي عن
أبي عمرو
قال : ما أُسر
فهو أُسارى ومالم يؤسر فهو أُسرى،
وروي عنه من وجه آخر
قال : ما صار في
أيديهم فهم أُسارى،
وما جاء مستأسراً فهو أسرى.
عن أبي بكر النقاش
قال : سمعت أحمد
بن يحيى ثعلب وقد قيل له هذا الكلام عن أبي عمرو فقال : هذا كلام
المجانين.
يعني لافرق
بينهما.
وحُكي عن أبي سعيد الضرير إنّه
قال : الأُسارى :
هم المقيدّون المشدَّدون والأسرى : هم المأسورون غير المقيدين. فأما
قولهم تفدوهم
بالمال وتنقذوهم بفدية أو بشىء آخر،
وتفادوهم : تبادلوهم اراد
مفاداة الأسير بالأسير،
وأسرى : في محل نصب على الحال.
فأما معنى
الآية قال السّدي
: إنّ اللّه عزّ وجلّ أخذ على بني إسرئيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضاً،
ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم
فأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فاعتقوه. فكانت
قريظة خُلفاء الأوس،
والنّضير خُلفاء الخزرج وكانوا
يقتتلون في حرب نمير. فيُقاتل بنو قريظة مع حلفائهم،
وبنو النّضير مع حلفائهم،
وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم
وأخرجوهم منها فإذا أُسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه وإن كان
الاسير من عدوهم فيُعيّرهم العرب بذلك وتقول : كيف يقاتلونهم ويفدونهم.. ويقولن :
إنّا قد أمرنا أنْ نفديهم وحُرّم علينا قتالهم.
قالوا : فَلِمَ تقاتلونهم؟
قالوا : نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيّرهم اللّه تعالى فقال :
{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم}
الآية،
وفي
الآية تقديم وتأخير
نظمها : وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالأثمّ والعدوان
{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وأن يأتوكم أُسارى تفدوهم.
وكان اللّه تعالى أخذ عليهم
أربعة عهود : ترك القتل،
وترك الأخراج،
وترك المظاهرة عليهم مع اعدائهم
وفداء أُسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أُمروا إلاّ الفداء. فقال اللّه عزّ وجلّ :
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فأيمانهم بالفداء
وكفرهم بالقتل والأخراج والمظاهرة. قال مجاهد : يقول : إن وجدته في يد غيرك فديته،
وأنت تقتله بيدك،
وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض،
تفادون أُسراء قبيلتكم وتتركون
أُسراء أهل ملّتكم فلا تفادونهم.
قال اللّه عزّ وجلّ
{فَمَا
جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ} يا معشر اليهود
{إِلا خِزْىٌ} عذاب هوان.
{وَمِنَ النَّاسِ
مَن} فكان خزي قريظة القتل والسّبي،
وخزي بني النضير الجلاء والنفي
عن منازلهم وجنانهم إلى أذرعات وريحا من الشّام.
{وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} وهو عذاب النّار وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي وأبو رجاء والحسن : تُردّون
بالتاء،
لقوله
{أَفَتُؤْمِنُونَ} .
{وَمَا اللّه
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء مدني وأبو
بكر ويعقوب الباقون : بالتاء.
٨٦
{أُولَائِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا} استبدلوا.
{أُولَائِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحياةَ الدُّنْيَا} يهوّن ويُرفّه.
{عنهم العذاب ولاهم
يُنصرون} يمنعون من عذاب اللّه.
٨٧
{وَلَقَدْ
ءَاتَيْنَا} أعطينا.
{مُوسَى الْكِتَابَ} التوراة جملة واحدة.
{وَقَفَّيْنَا} أردفنا واتبعنا.
{مِن بَعْدِهِ
بِالرُّسُلِ} رسولاً بعد رسول. يُقال : مضى أثرهُ وقفا
غيره؛ في التعدية وهو مأخوذ من قفا الأنسان
قال اللّه
{ولا تقف ماليس لك به علم} ،
وقال أُمية بن الصّلت :
قالت لأخت له قُصيه عن جنب
وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا} العلامات الواضحات
والدلالات اللايحات وهي التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ في سورة آل عمران والمائدة.
{وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه وأعناه من الآد والأيد،
مجاهد : أيدناه بالمد وهما
لغتان مثل كرّم وأكرم.
{بِرُوحِ الْقُدُسِ} خفف ابن كثير القدس في كل القرآن،
وثقله الآخرون،
وهما لغتان مثل الرّعب والسّحت
ونحوهما،
واختلفوا في روح القدس فقال
الربيع وعكرمة : هو الرّوح الذي نفخ فيه إضافة إلى نفسه؛ تكريماً وتخصيصاً نحو بيت
اللّه،
وناقة اللّه وعبد اللّه،
والقدس : هو اللّهعزّ وجلّ يدلّ
عليه
قوله تعالى
{وَرُوحٌ مِّنْهُ}
وقوله
{ونفخنا فيه من روحنا}
والآخرون : أرادوا بالقدس
الطهارة
يعني الرّوح
الطاهر سمّى روحه قدساً؛ لأنّه لم يتضمنه أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام
الطوامث إنّما كان أمراً من اللّه تعالى.
السّدي والضّحاك وقتادة وكعب :
الروح القدس : جبرئيل قال الحسن : القدس : هو اللّه وروحه جبرئيل.
السّدي : القدس : البركة وقد
عظّم اللّه بركة جبرئيل إذ أنزل اللّه عامة وحيه إلى أنبيائه على لسانه وتأييد
عيسىج بجبرئيل هو إنّه كان قرينه يسير معه حيثما شاء والآخر إنّه صعد به إلى
السّماء،
ودليل هذا التأويل
قوله تعالى
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ
بِالْحَقِّ} .
وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير
وعبيد بن عمير : هو اسم اللّه الأعظم وبه كان يُحيي الموتى ويُري النّاس تلك
العجائب.
وقال ابن زيد : هو الأنجيل جُعل
له روحاً كما جعل القرآن لمحمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) روحاً،
يدلّ عليه
قوله تعالى
{وَ كذلك أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ
أَمْرِنَا} فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسىج
قالوا : يا محمّد لا مثل
عيسى كما زعمت ولا كما يقصّ علينا من الأنبياء
(عليهم السلام)
قالوا : فأتنا بما
أتى به عيسى إن كنت صادقاً.
فأنزل اللّه عزّ وجلّ
{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ} يا معشر اليهود
{رَسُولُ
بِمَا لا تَهْوَى} لا تحب ولا توافق.
{أَنفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ} تكبّرتم وتعظمتم عن الأيمان
به.
{فَفَرِيقًا} طائفة سُميّت بذلك لأنّها فرقت من الحملة.
{كَذَّبْتُمْ} عيسى ومحمّداً.
{فَرِيقًا
تَقْتُلُونَ}
أيّ قتلتم زكريا ويحيى وسائر من قُتلوا من الأنبياء.
٨٨
{وَقَالُوا}
يعني اليهود
{قُلُوبُنَا
غُلْفُ} قرأ ابن محيصن بضم اللام،
وقرأ الباقون بجزمه. فمن خففه
فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصُفر وأحمر وحُمر وهو الذي عليه غطاء وغشاء بمنزلة
الأغلف غير المختون فالأغلف والأعلف واحد ومعناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما
تقول يا محمّد.
قاله مجاهد وقتادة نظيره
قوله عزّ وجلّ
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} ،
ومن ثقّل فهو جمع غلاف مثل حجاب
وحجب وكتاب وكتب،
ومعناه : قلوبنا أوعية لكلّ علم
فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. قالهُ عطاء وابن عبّاس.
وقال الكلبي : يريدون أوعية
لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلاّ وعته إلاّ حديثك لا تفقهه ولا تعيه ولو كان فيه
خيراً لفهمته ووعته.
قال اللّه عزّ وجلّ
{بَل
لَّعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ} وأصل اللعن الطرد
والأبعاد تقول العرب
(نماء) ولعين
أي بُعد. قال الشّماخ :
ذعرت به القطا ونفيت عنه
مقام الذنب كالرّجل اللعين
فمعنى
قوله : لعنهم اللّه
طردّهم وأبعدهم من كل خير،
وقال النضر بن شميل : الملعون
المخزي المهلك.
{فَقَلِي مَّا
يُؤْمِنُونَ} معناه لا يؤمن منهم إلاّ قليلاً؛ لأنّ من آمن من المشركين
أكثر ممن آمن من اليهود،
قاله قتادة،
وعلى هذا القول ما : صلة معناه
فقليلاً يؤمنون،
ونصب قليلاً على الحال.
وقال معمر : معناه لا يؤمنون
إلاّ بقليل بما في أيديهم ويكفرون بأكثره،
وعلى هذا القول يكون
{قَلِيلا} منصوباً بنزع حرف الصّفة وما صلة
أيّ فبقليل يؤمنون.
وقال الواقدي وغيره : معناه لا
يؤمنون قليلاً ولا كثيراً،
وهذا كقول الرّجل لأخر : ما قل
ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة.
وروى الفراء عن الكسائي : مررنا
بأرض قلَّ ما ينبت الكراث والبصل يريدون لا ينبت شيئاً.
٨٩
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ
كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّه}
يعني القرآن.
{مُصَدِّقٌ} موافق
{لِّمَا
مَعَهُمْ} وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة مصدقاً بالنّصب على الحال.
{وَكَانُوا}
يعني اليهود
{مِن
قَبْلِ}
أي من قبل بعث محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم)
{يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون،
قال اللّه تعالى
{إِن
تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ}
أيّ أن
تستنصروا فقد جاءكم النّصر.
وفي الحديث عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(أنه) كان يستفتح
القتال بصعاليك المهاجرين.
{عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا} مشركي العرب وذلك إنّهم كانوا يقولون إذا حزم أمر ودهمهم عدو
:
(اللّهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر
الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة)،
وكانوا يقولون زماناً لاعدائهم
من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قُلنا،
ونقتلكم معه قبل عاد وأرم.
{فَلَمَّا جَآءَهُم
مَّا عَرَفُوا}
يعني محمّداً
(صلى
اللّه عليه وسلم) من غير بني إسرائيل،
وعرفوا نعته وصفته.
{كَفَرُوا بِهِ} بغياً وحسداً.
٩٠
{فَلَعْنَةُ اللّه
عَلَى الْكَافِرِينَ}
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف
الافعال ومعنى
الآية : بئس الذي
اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق،
والكفر بالأيمان.
وقيل : معناه بئس ما باعوا به حظ أنفسهم.
{أَن يَكْفُرُوا
بِمَآ أَنزَلَ اللّه}
يعني القرآن.
{بَغْيًا} بالبغي وأصل البغي الفساد. يُقال : بغى الجرح إذا أمد
وضمد.
{أَن يُنَزِّلَ اللّه
مِن فَضْلِهِ} النبوة والكتاب.
{عَلَى مَن يَشَآءُ
مِنْ عِبَادِهِ} محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم)
{فباؤا بغضب على غضب}
أي مع غضب.
قال ابن عبّاس : الغضب الأوّل
بتضييعهم التوراة،
والغضب الثاني بكفرهم بهذا
النبيّ الذي اتخذه اللّه تعالى.
فيهم قتادة وأبو العالية :
الغضب الأوّل بكفرهم بعيسى ج والأنجيل
والثاني
: كفرهم بمحمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) والقرآن.
السّدي : الغضب الأوّل بعبادتهم
العجل،
والثاني بكفرهم بمحمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) وتبديل نعته.
{وَلِلْكَافِرِينَ} وللجاحدين
(لدين) محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) من النّاس كلهم.
{عَذَابٌ مُّهِينٌ} يُهانون فلا يُعزُون.
٩١
{وَإِذَا قِيلَ
لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلَ اللّه}
يعني القرآن.
{قَالُوا نُؤْمِنُ
بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا}
يعني التوراة.
{وَيَكْفُرُونَ بِمَا
وَرَآءَهُ}
أي بما سواه وبعده.
{وَهُوَ الْحَقُّ}
يعني القرآن.
{مُصَدِّقًا} نصب على الحال.
{لِّمَا
مَعَهُمْ} قل لهم يا محمّد :
{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه مِن قَبْلُ} ولمَ أصله ولما فحذفت الألف فرقاً بين الخبر والأستفهام كقولهم : فيم وبم
ولم وممّ وعلام وحقام،
وهذا جواب لقولهم : نؤمن
بما أنُزل علينا.
فقال اللّه عزّ وجلّ
{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه مِن قَبْلُ} .
{إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} بالتوراة وقد خنتم فيها من قتل الأنبياء
٩٢
{وَلَقَدْ جَآءَكُم
مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات
اللايحات والعلامات الواضحات.
{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ}
أي من بعد انطلاقه
إلى الجبل
{وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} .
٩٣
{وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ
وَاسْمَعُوا}
أي استجيبوا واطيعوا سميت الطاعة سمعاً على المجاز لأنّه سبب
الطّاعة والأجابة ومنه
قولهم : سَمِع اللّه لمن حمده
أي أجابه،
وقال الشاعر :
دعوت اللّه حتّى خفتُ ألاّ
يكون اللّه يسمع ما أقول
أي يجب.
{قَالُوا سَمِعْنَا} قولك.
{وَعَصَيْنَا} أمرك
(أو
سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب).
قال أهل المعاني : إنّهم لم
يقولوا هذا بألسنتهم،
ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه
بالعصيان نُسب ذلك عنهم إلى القول أتساعاً،
كقول الشاعر
ومنهل ذبّابة في عيطل
يقلن للرائد عشبت أنزل
{وَأُشْرِبُوا فِى
قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}
أي حبّ العجل،
كقوله تعالى
{وَسْ
َلِ الْقَرْيَةَ} ،
وقال النابغة :
فكيف يواصل من اصبحت
خلالة كأني مرحب
أي لخلاله أني مرحب،
ومعناه أدخل في قلوبهم حبّ
العجل،
وخالطها ذلك كاشراب اللون لشدة
الملازمة.
{بِكُفْرِهِمْ قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ} أن تعبدوا العجل من دون اللّه
(فاللّه
لا يأمر بعبادة العجل).
{إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} بزعمكم وذلك إنّهم
قالوا : نؤمن بما أُنزل
علينا،
فكذبهم اللّه تعالى.
٩٤
{قُلْ إِن كَانَتْ
لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ اللّه}
الآية
قال المفسّرون : سبب نزول هذه
الآية : إنّ
اليهود أدعوا دعاوى باطلة،
حكاها اللّه تعالى عنهم في
كتابه
كقوله تعالى
{وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاِ أَيَّامًا
مَّعْدُودَةً} .
وقوله :
{وَقَالُوا
لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} .
وقوله :
{نَحْنُ
أَبْنَاؤُا اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} فكذبهم اللّه
تعالى،
وألزمهم الحجة. فقال : قل يا
محمّد إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه.
{خَالِصَةً مِّن
دُونِ النَّاسِ} خاصّة؛ لقوله تعالى
{خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} ،
قوله
{خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ،
قوله
{خالصة
من دون المؤمنين}
أي خاصّة من دون
النّاس.
{فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ}
أي فأريدو وحَلّوه لأنّ من علم أنّ الجنّة مآبه حنَّ إليها ولا
سبيل إلى دخولها إلاّ بعد الموت فاستعجلوه بالتمني.
{إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} في قولكم محقين في دعواكم،
وقيل في
قوله
تعالى
{فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ}
أيّ أدعوا بالموت على الفرقة الكاذبة.
روى ابن عبّاس عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(لو تمنّوا الموت لغصّ كل إنسان منهم بريقه،
وما بقى على وجه
الأرض يهودي إلاّ مات).
٩٥
فقال اللّه تعالى
{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ} لعلمهم إنّهم في دعواهم كاذبون.
{وَاللّه عَلِيمُ
بِالظَّالِمِينَ}
يعني اليهود. هذا من
أعجاز القرآن لأنّهُ تحداهم ثمّ أخبر أنّهم لا يفعلون بعد أن قال لهم هذه المقالة
فكان على ما أخبر.
٩٦
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره : واللّه لتجدنهم
يا محمد
يعني اليهود
{أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حياةٍ} وفي مصحف أبُيّ على الحياة.
{وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا} قيل إنّه متصل بالكلام الأوّل.
معناه وأحرص من الذين اشركوا.
قال الفراء : وهذا كما يُقال هو أسخى النّاس ومن حاتم :
أي وأسخى من حاتم.
وقيل : هو ابتداء وتمام الكلام عند
قوله : على حياتهم
ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر
(ليودّ) اسماً تقديره : ومن الذين اشركوا من
{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} كقول ذو الرّمة.
فظلوا ومنهم دمعهُ سابق له
وآخر يذري دمعة العين بالهمل
أراد ومنهم من دمعه سابق،
وأراد بالذين أشركوا المجوس.
{يَوَدُّ} يريد ويتمنى.
{أَحَدُهُمْ لَوْ
يُعَمَّرُ} تقديره تعمير ألف.
{أَلْفَ سَنَةٍ} قال المفسّرون : هو تحيّة المجوس فيما بينهم عشر ألف سنة
وكلمة ألف نيروز ومهرجان.
قال اللّه تعالى :
{وَمَا
هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ} من النّار.
{أَن يُعَمَّرَ}
أي تعميره : زحزحته فزحزح :
أي بعدّته فتباعد
يكون لازماً ومتعدياً. قال ذو الرُّمة في المتعدي :
يا قابض الرّوح من نفسي إذا
احتضرت
وغافر الذّنب زحزحني عن النّار
وقال الراجز،
فى اللازم : خليلي ما بال الدجى
لا يزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتّوضح.
٩٧
{قُلْ مَن كَانَ
عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ}
الآية
قال ابن عبّاس : إن حبراً من
أحبار اليهود يُقال له عبداللّه بن صوريا كان قد حاج النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) وسأله عن أشياء. فلما اتجهت الحُجّة عليه
قال :
أيّ ملك يأتيك
من السّماء؟
قال :
(جبرئيل
ولم يُبعث الكتاب لأنبياء قط إلاّ وهو وليه).
قال : ذلك عدُونا
من الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنّا بك؛ لأنّ جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال
والشقوة وإنّه عادانا مراراً كثيرة،
وكان أشدُ ذلك علينا أنّ اللّه
تعالى أنزله على نبينا ج إنّ بيت المقدس سيُخرب على يد رجل يقال له : بخت نصّر،
وأخبرنا بالحين الذي يُخرب فيه،
فلما كان وقته بعثنا رجلاً من
أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصّر ليقتله فانطلق يطلبه حتّى لقيه ببابل غلاماً
مسكيناً ليست له قوة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيلج وقال لصاحبنا : إنّ
كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلّط عليه،
وإن لم يكن هذا فعلى
أي حق تقتله. فصدقه
صاحبنا ورجع ج : فكبر بخت نصّر وقوي وغزانا وخرّب بيت المقدّس؛ فلهذا نتخذه عدواً.
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
قال مقاتل : قالت اليهود ان
جبرئيل عدونا أمرنا أن تجعل النبوّة فينا فجلعها في غيرنا فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
قتادة وعكرمة والسّدي : فكان
لعمر بن الخطاب
(رضي اللّه عنه) أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود،
وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم
ويسمع منهم ويكلمهم. فقالوا : يا عمر ما في أصحاب محمّد إحب إلينا منك. إنّهم يمرّون هنا
فيأذونا وأنت لا تؤذينا وأنّا لنطمع فيك فقال عمر : واللّه ما أحبكم لحبكم،
ولا أسألكم لأنّي شاك في ديني،
وإنّما أدخل عليكم لأزداد بصيرة
في أمر محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) وأرى آثاره في كتابكم. فقالوا : من نصّب محمّد من الملائكة؟
قال : جبريل. فقالوا : ذلك عدوّنا يطلع محمّد على سرنا،
وهو صاحب عذاب وخسف وسنة وشدة،
وإنّ ميكائيل جاء بالخصب
والسّلم. فقال لهم عمر : أتعرفون جبرئيل وتنكرون محمّداً..
قالوا : نعم.
قال : فاخبروني عن منزلة جبرئيل وميكائيل من اللّه عزّ وجلّ؟
قالوا : جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره،
وميكائيل عدّو لجبرئيل فقال عمر
: وإنّي أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبرئيل فهو عدوّا لميكائيل ومن كان عدواً لميكائيل
فهو عدوّ لجبرئيل،
ومن كان عدواً لهما فإنّ اللّه
عدوّ له،
ثمّ رجع عمر إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي فقرأ عليه رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) هذه
الآية وقال :
(لقد وافقك ربّك يا عمر) فقال عمر : لقد رأيتني في دين اللّه بعد ذلك أصلب من الحجر.
قال اللّه تعالى تصديقاً لعمر
(رضي
اللّه عنه)
{قل من
كان عدوّاً لجبرئيل} وفي جبرئيل سبع لغات :
(جبرئيل) مهموز،
مشبع مفتوح الجيم والراء،
وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي
بكر وخلف واختيار أبي عبيد،
وقال : رأيت في مصحف
عثمان الذي يُقال له : الإمام بالياء في جبريل وميكايل
(والياء قبل) الياء تدلّ على
الهمزة،
وقال الشاعر :
شهدنا فما يُلقى لنا من كتيبة
مدى الدّهر إلاّ جبرئيل امامها
(وجبرائيل) ممدود،
مهموز،
مشبع،
على وزن جبراعيل،
وهي قراءة ابن عبّاس وعلقمة
وابن وثاب.
(وجبرائل) ممدود،
مهموز،
مختلس على وزن جبراعل وهي قراءة
طلحة بن مصرف.
(وجبرئل) مهموز،
مقصور مختلس على وزن جبرعل،
وهي قراءة يحيى بن آدم.
(وجبرالّ) مهموز،
مقصور،
مشدّد اللام من غير ياء،
وهي قراءة يحيى بن يعمر،
وعيسى ابن عمر،
والأعمش.
(وجبريل) بفتح الجيم وكسر الرّاء من غير همز،
وهي قراءة ابن كثير وأنشد لحسان
:
وجبريل أمين اللّه فينا
وروح القدس ليس به خفاءُ
(وجبريل) بكسر الجيم والراء من غير همزة وهي قراءة علي،
وأبي عبد الرّحمن،
وأبي رجاء،
وأبي العالية،
وسعيد بن المسيب،
والحسن،
ومعظم أهل البصرة والمدينة،
واختيار أبي حاتم،
وقدروي عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ذلك.
وعن شبل عن عبداللّه بن كثير
قال : رأيت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في المنام وهو يقرأ جبريل بكسر الجيم والراء من غير همز. فلا أقرأها إلاّ
هكذا.
قال الثعلبي : والصّحيح المشهور
عن كثير ما تقدّم واللّه أعلم.
أما التفسير فقال العلماء : جبر
هو العبد بالسريانية وأيل هو اللّه عزّ وجلّ يدلّ عليه ما روى إسماعيل عن رجاء عن
معاوية برفعه
قال : إنّما
جبرئيل وميكائيل كقولك عبداللّه وعبدالرّحمن،
وقيل جبرئيل مأخوذ من جبروت اللّه،
وميكائيل من ملكوت اللّه.
{فَإِنَّهُ}
يعني جبرئيل.
{نَزَّلَهُ}
يعني القرآن كتابه عن غير مذكور كقوله
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا
مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ}
يعني الأرض،
وقوله
{حَتَّى
تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}
يعني الشمس.
{عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد
{بِإِذْنِ
اللّه} بأمر اللّه.
{مُصَدِّقًا} موافقاً.
{لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ} لما قبله من الكتب.
٩٨
{وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ}
{من كان عدوّاً للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل} أخرجهما بالذّكر من جملة الملائكة ومواضعهم على جهة التفضيل
والتخصيص،
كقوله تعالى
{فِيهِمَا
فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وميكائيل أربع
لغات :
ممدود،
مهموز،
مشبع على وزن ميكاعيل،
وهي قراءة أهل مكّة والكوفة
والشّام.
ممدود،
مهموز مختلس مثل ميكاعل،
وهي قراءة أهل المدينة.
و
(ميكيل) مهموز مقصور على
وزن ميكعل،
وهي قراءة الأعمش وابن محيصن.
(وميكال) على وزن مفعال وهي قراءة أهل البصرة.
قال الشاعر :
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد
فيه مع النّصر جبريل وميكال
وقال جرير :
عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد
وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا
ومعنى
الآية من كان عدواً لأحد
هؤلاء فإن اللّه عدو له والواو فيه بمعنى أو.
كقوله تعالى
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللّه وَمَلَاكَتِهِ وَكُتُبِهِ}
الآية لأن الكافر بالواحد كافر بالكل. فقال ابن صوريا : يا محمّد
ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل اللّه عليك من آية بينة فنتبعك بها.
٩٩
فأنزل اللّه عزّ وجلّ :
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَات بَيِّنَاتٍ} واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام.
{وَمَا يَكْفُرُ
بِهَآ إِلا الْفَاسِقُونَ} الحادون عن أمر
اللّه.
١٠٠-١٠١
{أو كلّما} واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. كما يدخل على الفاء في
قوله
{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ}
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ} وعلى ثمّ
كقوله تعالى
{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} ونحوها.
وقرأ ابن السّماك العدوي :
ساكنة الواو على النسق و
(كلما) نصب على الظرف.{عَاهَدُوا
عَهْدًا}
يعني اليهود.
قال ابن عبّاس : لِمَا ذكر رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ما أخذ اللّه عليهم وما عهد إليهم فيه.
قال مالك بن الصّيف : إنّ اللّه
ما عهد إلينا في محمد عهد ولا ميثاق فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية يوضحه
قراءة أبي رجاء العطاردي : أوكلما عوهدوا عهداً لعنهم اللّه،
دليل هذا التأويل
قوله
{وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ}
الآية.
وقال بعضهم : هو أنّ اليهود تعاهدوا لئن خرج محمّد ليؤمنن به ولنكونن معه
على مشركي العرب،
وننفيهم من بلادهم،
فلما بعث نقضوا العهد وكفروا به
دليله ونظيره
قوله عزّ وجلّ
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّه} .
وقال عطاء : هي العهود التي
كانت بين رسول اللّه وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنّضير دليله
قوله
{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ} .
{نَّبَذَهُ}
أي رفضه وفي قول عبداللّه : نقضه.
{فَرِيقٌ مِّنْهُم} طوائف من اليهود.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ
يُؤْمِنُونَ} فأصل النبذ الرّمي والرفض له،
وأنشد الزجاج :
نظرت إلى عنوانه فنبذته
كنبذك نعلاً اخلقت من نعالكا
وهذا مثل من يستخف بالشيء ولا
يعمل به،
تقول العرب : أجعل هذا خلف
ظهرك،
ودبر اذنك،
وتحت قدمك :
أي أتركه واعرض عنه
قال اللّه تعالى :
{وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيًّا} ،
وأنشد الفراء :
تميم بن قيس لا تكونن حاجتي
بظهر ولا يعبأ عليَّ جوابها
قال الشعبي : هو بين أيديهم
يقرؤنه ولكن نبذوا العمل به :
وقال سفيان بن عيينة : أدرجوه
في الحرير والدّيباج وحلّوه بالذّهب والفضّة ولم يحلّوا حلاله ولم يحرّموا حرامه
فذلك النبذ.
١٠٢
{وَاتَّبَعُوا}
يعني اليهود.
{مَا تَتْلُوا
الشَّيَاطِينُ}
أي ما تلت الشياطين.
كقول الشّاعر :
فأذا مررت بقبره فاعقر به
كؤم الحجان وكلّ طرف سالح
وانضح جوانب قبره بدمائها
فلقد بكوه أخادم وذبائح
وحكي عن الحسين بن الفضل إنّه
سئل عن هذه
الآية فقال : هو مختصر
مضمر تقديره واتبعوا ما كانت تتلوا الشياطين
أي تقرأه.
قال ابن عبّاس : يتبع ويعمل به.
عطاء وأبو عبيدة : يحدّث ويتكلم
به.
يمان : ترويه.
وقرأ الحسن : الشياطون بالواو
في موضع الرفع في كل القرآن.
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سمعت أبا حامد الخارزنجي يقول : وسئل عن قراءة الحسن؟
قال : هو فن وحسن عند أكثر أهل الأدب.
غير أن الأصمعي زعّم إنّه سمع
أعرابياً يقول : بستان فلان حوله بساتون.
{عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ}
أي في ملكه وعهده كقول أبي النّجم :
فهي على الأفق كعين الأحول
أي في الأفق.
والملك تمام القدرة واستحكامها.
قال
(... الزجاج) : في قصّة
الآية هي أنّ
الشياطين كتبوا السّحر والنيرنجات على لسان آصف. هذا ما علّم آصف ابن برخيا سليمان
الملك ثمّ وضعوها تحت مصلاه حين نزع اللّه ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلمّا مات
استخرجوها من تحت مصلاّه.
وقالوا النّاس : إنّما ملككم
سليمان بهذا فتعلّموه فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا : معاذ اللّه أن
يكون هذا علم سليمان وإنّ كان هذا علمه لقد هلك سليمان
وأمّا السفلة فقالوا : هذا علم
سليمان فأقبلوا على تعلّمه ورفضوا كتب أنبياءهم وفشت الملامة لسليمان فلم تزل هذه
حالهم حتّى بعث اللّه تعالى محمّداً
(صلى
اللّه عليه وسلم) وأنزل عذر سليمان ج على لسانه
وأظهر براءته عمّا رُمي به فقالوا :
{وَاتَّبَعُوا
مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}
الآية. هذا قول
الكعبي.
وقال السّدي : كانت الشياطين
تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد السّمع فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في
الأرض من موت أو غيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا كذباً وزوراً في كلّ سبعين
كلمة سبعين كلمة ويخبرونهم بذلك فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني اسرائيل أن الجن
تعلم الغيب فبعث في النّاس فجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيّه وقال : لا أسمع
أحداً يقول إنّ الشياطين تعلم الغيب إلاّ ضربت عنقه فلمّا مات سليمان وذهب العلماء
الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثّل الشيطان على
صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال
: هل أدلّكم على كنز لا ينفذ أبداً.
قالوا : نعم.
قال : فأحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية وقالوا : أدُن. فقال : لا ولكن
هاهنا فان لم تجدوه فاقتلوني وذلك إنّهم لم يكن أحدٌ من الشياطين يدنو من الكرسي
إلاّ احترق فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلمّا أخرجوها. قال الشيطان : إنّ سليمان كان
يضبط الجنّ والأنس والطيّر بهذا ثمّ طار الشيطان وذهب وفشا في النّاس أنّ سليمان
كان ساحراً فاتّخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ولذلك فكثير ما يوجد السحر في اليهود
فلمّا جاء محمّد
(صلى اللّه عليه
وسلم) خاصمه اليهود بها فبرأ اللّه تعالى سليمان من ذلك وأنزل هذه
الآية.
وقال عكرمة : كان سليمانج لا
يصبح يوماً إلاّ نبتت في محرابه في بيت المقدس شجرة فيسألها : ما اسمك؟
فتقول الشجرة : إسمي كذا،
فيقول : لأيّ داء أنتِ؟
فتقول : لكذا وكذا،
فيأمر بها فتقطع وترفع في
الخزانة وتغرس منها في البساتين حتّى بعثت الخرنوبة الشّامية فقال لها : ما أنت؟
قالت أنا الخرنوبة.
قال : لأي شيء
نبتّ؟
قالت : لخراب مسجدك. قال سليمان
: ما كان اللّه ليخرّبه وأنا حي أنت الّذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها
فغرسها في حائط له فلم تنبت إلى أن توفّي فجعل النّاس يقولون في رضاهم : لو كان
لنا مثل سليمان،
وكتبت الشياطين كتاباً فجعلوه
في مصلّى سليمان. فقالوا للنّاس : من يدّلكم على ما كان يداوي به فانطلقوا
فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقيّ فأنزل اللّه في هذه
الآية ما تفعل
الشياطين واليهود على نبيّه محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم)
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ} .
{وَمَا كَفَرَ
سُلَيْمَانُ} بالسحر فانّ السحر كفر.
{وَلَاكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قرأ أهل الكوفة
والشام بتخفيف النون ورفع الشياطين وكذلك في الأيمان
{وَلَاكِنَّ اللّه قَتَلَهُمْ}
{وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} .
الباقون : بالتشديد ونصب ما
بعده،
ولكن كلمة لها معنيان نفي الخبر
الماضي واثبات الخبر المستقبل،
وهي مبنية من ثلاث كلمات أصلها
لا كان لا نفي والكاف خطاب وإنّ نصب ونسق فذهبت الهمزة استثقالاً وهي تثقّل وتخفف
فإذا ثقلت نصب بها مابعدها من الاسماء كما تنصب بإن الثقيلة فإذا خففها رفعت بها
ما ترفع بأنْ الخفيفة.
{يُعَلِّمُونَ
النَّاسَ السِّحْرَ}
قال بعضهم : السحر العلم
والخطابة دليله
قوله : بان السّاحر :
أي العالم.
وقال بعضهم : هو التمويه بالشيء حتّى يتوهم المتوّهم إنّه شيء ولا حقيقة
له كالسراب غير من رآه وأخلف من رجاه
قال
اللّه تعالى :
{يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} .
{وَمَآ أُنزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ} محل ما بعد اتباع التعليم عليه معناه لا يعلمون الذي أنُزل
على الملكين
أي
(......) ويجوز أن يكون نصباً بالاتباع تقديره : واتبعوا ما أنُزل على
الملكين،
وجعل بعضهم ما جحداً وحينئذ لا
محل له
يعني لم ينزل
السّحر على الملكين كما زعم اليهود،
وإنّما يعلِّمونهم
(......من ذات) أنفسهم والقول الأوّل أصح.
وقرأ ابن عبّاس والحسن والضحّاك
ويحيى بن أبي كثير : ملِكين بكسر اللام،
وقالوا : هما رجلان ساحران
كانا ببابل من الملائكة لا يعلمون النّاس السحر،
وفسرهما الحسن فقال : غلجان
ببابل وهي بابل عراق وسمّي بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود
أي تفرقها.
أو ان اللّه تعالى امتحن الناس
بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى بتعلم السحر منهما فيكفر به ومن سعد بتركه فيبقى
على الإيمان فيزداد المعلمان بالتعليم عذاباً ففيه ابتلاء المعلم والمتعلّم واللّه
تعالى يمتحن عباده بما يشاء كما يشاء فله الأمر والحكم.
وقال الخليل بن أحمد : إنّما
سمّيت بابل لأنّ اللّه تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحاً
فحفرتهم من كل أفق إلى بابل فبلبل اللّه ألسنتهم فلم يدري أحد ما يقول الآخر،
ثمّ فرقتهم تلك الرّيح في
البلاد وهو لا ينصرف؛ لأنّه اسم موضع معروف.
{هاروت وما روت} اسمان سريانيان في محل الخفض على تفسير الملكين بدلاً منهما
إلاّ أنّهما نصباً لعجمتهما ومعرفتهما وكانت قصتيهما على ما ذكره ابن عبّاس
والمفسرون : إنّ الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة
وذنوبهم الكثيرة وذلك في زمن إدريس فعيروهم بذلك،
ودعتْ عليهم
قالوا : هؤلاء
الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم فهم يعصونك. فقال اللّه عزّ وجلّ لهم : لو
أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لرتكبتم ما ارتكبوه. فقالوا : سبحانك ما
كان ينبغي لنّا أن نعصيك.
قال
اللّه تعالى : اختاروا ملكين من خياركم ثمّ اهبوطهما إلى الأرض. فاختاروا
هاروت وما روت وكانا من أصلح الملائكة وأخصهم.
قال الكلبي :
قال اللّه تعالى لهم : اختاروا ثلاثة : عزّا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت. غيَّر اسمهما
لما قارفا الذنب كما غير اسم إبليس وعزائيل فركب اللّه فيهم الشهوة التي ركبها في
بني آدم. فاهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين النّاس بالحقّ،
ونهاهم عن الشرك والقتل بغير
الحقّ والزنا وشرب الخمر وأما عزائيل فأنّه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربّه،
وسأله أن يرفعه إلى السّماء،
فأقاله ورفعه،
فسجد اربعين سنة،
ثمّ رفع رأسه ولم يزل بعد ذلك
مطأطئاً رأسه حياءاً من اللّه عزّ وجلّ.
وأما الآخران فإنهما ثبتا على
ذلك وكانا يغضبان من النّاس يومهما فإذا أمسياً ذكرا اسم اللّه الأعظم وصعدا إلى
السماء.
قال قتادة : فما مر عليهما شهر
حتّى افتتنا قالوا جميعاً وذلك انهم اختصم عليهما ذات يوم الزهرة،
وكانت من أجمل النّساء. قال علي
بن أبي طالب
(كرم اللّه وجهه) وكانت من أهل فارس،
وكانت ملكة في بلدها. فلمّا
رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها وانصرفت،
ثمّ عادت في اليوم الثاني.
ففعلا مثل ذلك. فأبت وقالت : لا إلاّ أن تعبدا ما أعُبد وتُصليا لهذا الصّنم
وتقتلا النّفس وتشربا الخمر فقالا : لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن اللّه قد نهانا
عنها. فانصرفت ثمّ عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل
إليها ما فيها. فراوداها عن نفسها. فعرضت عليهما ما قالت بالأمس. فقالا : الصلاة
لغير اللّه عظيم،
وقتل النّفس عظيم وأهون الثلاثة
شرب الخمر فانتعشا ووقعا بالمرأة وزنيا. فلما فرغا رآهما أنسان فقتلاه.
قال الربيع بن أنس : سجدا للصنم
فمسخ اللّه الزهرة كوكباً وقال عليّ بن أبي طالب
(كرم اللّه وجهه) والسّدي
والكلبي : إنّها قالت لهما : لن تدركاني حتّى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء.
فقالا : بسم اللّه الأكبر. قالت : فما أنتما تدركاني حتّى تعلمانيه.فقال أحدهما
لصاحبه : علّمها.
قال : فأنّي أخاف اللّه.
قال الآخر : فأين رحمة اللّه
فعلماهما ذلك. فتكلّمت به وصعدت إلى السّماء فمسخها اللّه كوكباً.
فعلى قول هؤلاء هي الزّهرة
بعينها وقيدوها. فقالوا : هي هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسيّة ناهيد،
وبالنبطية بيذخت يدلّ على صحة
هذا القول ما روى جابر عن الطفيل عن علي
(رضي اللّه عنه)
قال : كان النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إذا رأى سهيلاً
قال : لعن اللّه سُهيلاً إنّه كان عشاراً باليمن ولعن للّه
الزُّهرة فإنّها فتنت ملكين.
وقال مجاهد : كنت مع ابن عمر
ذات ليلة فقال لي : أرمق بالكوكبة
يعني الزّهُرة فاذا طلعت فأيقظني. فلما طلعت ايقظته فجعل ينظر
إليها ويسبّها سبّاً شديداً. فقلت : رحمك اللّه سببت نجماً سامعاً مُطيعاً ماله
ليسبّ؟
فقال : إنّ هذه كانت
بغياً. فلقى ملكان منها مالقيا.
وقال ابن عمر إذا رأى الزهُرة
قال : لا مرحباً
بها ولا أهلاً وروى أبو عثمان
(المرندي) عن ابن عبّاس : إنّ المرأة التي فتنت بها الملكان مُسخت فهي
هذه الكوكبة الحمراء
يعني الزهرة
قال : وكان يسميها بيذخت. وأنكر الآخرون هذا القول.
قالوا : ان الزهرة
من الكواكب السبعة السّيارة الّتي جعلها اللّه تعالى قواماً للعالم وأقسم بها فقال :
{فلا أقسم بالخنّس والجوار الكنّس} . قلنا كانت هذه الّتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى
زهرة من جمالها فلمّا بغت مسخها اللّه تعالى شهاباً فلمّا رأى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها،
وكذلك سهيل العشار ولّما رأى
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) النجمّ ذكره فلعنه ويدلّ عليه ما روى قيس ابن عبّاد عن ابن عبّاس في هذه
القصّة :
قال : كانت امرأة فضّلت على النّاس كما فضّلت الزّهرة على سائر
الكواكب،
ومثله قال كعب الأحبار واللّه
أعلم.
قالوا : فلمّا أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى
السّماء فلم تُطاوعهما أجنحتهما فعلما ما حلّ بهما فقصدا إدريس النبيّج فأخبراه
بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى اللّه عزّ وجلّ فقالا له : إنّا رأيناك يصعد لك
من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربّك؟
ففعل ذلك ادريس فخيرّهما اللّه
تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فأختارا عذاب الدّنيا إذ علما إنّه ينقطع فهما
ببابل يعذّبان.
واختلف العلماء في كيفية
عذابهما فقال عبداللّه بن مسعود : هما معلّقان بشعورهما إلى قيام السّاعة.
قتادة : كبّلا من أقدامهما إلى
أصول أفخاذهما.
مجاهد : إنّ جبّاً ملئت ناراً
فجعلا فيها حضيف معلّقان منكسان في السلاسل.
عمير بن سعد : منكوسان يضربان
بسياط الحديد.
ويروى إنّ رجلاً أراد تعلّم
السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلّقين بأرجلهما مزرقّة عيونهما مسودّة جلودهما
ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلاّ قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش فلما رأى ذلك
هاله مكانهما فقال : لا إله
الاّ اللّه وقد نهي عن ذكر اللّه فلمّا سمعا كلامه قالا له : من أنت؟
قال : رجل من النّاس. قالا : ومَنْ
أيّ أُمّة أنت؟
قال : من أُمّة محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) قالا : وقد بعث محمّد؟
قال : نعم قالا : الحمدُ للّه وأظهرا الاستبشار. فقال الرجل :
ومِمَّ إستبشاركما؟
قالا : لأنّه نبي السّاعة وقد
دنا إنقضاء عذابنا. قالوا ومن ثمّ استغفار الملائكة لبني آدم.
وعن الأوزاعي
قال : المعنى إنّ
جبرئيل أتى النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم) فقال له :
(يا
جبرئيل صف ليّ النّار؟
فقال : إنّ اللّه
أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ
أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها،
والّذي بعثك بالحقّ
لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً
من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه،
ولو أنّ ذراعاً من
السلسة التي ذكرها اللّه وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت ولو إنّ
رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه
فبكى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وبكى جبرئيل
لبكائه وقال : أتبكي يا
محمّد وقد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر
قال :
(أفلا أكون عبداً شكوراً)،
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح
الأمين أمين اللّه على وحيه؟
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن
اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من
السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ اللّه قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضّل
محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء .
{وَمَا يُعَلِّمَانِ}
يعني الملكين
{مِنْ
أَحَدٍ} من صلة لا يعلّمان السحر أحداً حتّى ينصحاه أولاً وينهياه
ويقولا
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} إبتلاء ومحنة.
{فَلا تَكْفُرْ} بتعلم السّحر وأصل الفتنة الاختبار.
تقول العرب : فتنت الذّهب إذا
أدخلته النّار لتعرف جودته من رداءته.
وفتنت الشمس الحجر إذا سوّدته.
وإنّما وحدّ الفتنة وهما إثنان؛
لأنّ الفتنة مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع كقولهم :
{وَعَلَى سَمْعِهِمْ} وفي مصحف أُبي : وما يعلّم الملكان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا
تكفر سبع مرّات.
قال السّدي وعطاء : فإن أبى
إلاّ التعلّم قالا له : إتتِ هذا الرّماد فَبُل عليه فيخرج منه نورٌ ساطع في
السّماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود حتّى يدخل مسامعه يشبه الدّخان وذلك غضب
اللّه عزّ وجلّ.
قال مجاهد : إنّ هاروت وماروت
لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة إختلافة واحدة.
وقال يزيد بن الأصم : سُئل
المختار : هل يرى اليوم أحدٌ هاروت وماروت؟
قال : أما منذ أئتفكت بابل إئتفاكها الآخر لم يرهما أحد.
قال قتادة : السحر سحران : سحرٌ
تعلّمهم الشياطين وسحر يعلّمه هاروت وماروت وهو
قوله تعالى
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وهو أن يؤخذ كلّ
واحد منهما عن صاحبه ويبّغض كل واحد إلى صاحبه.
وفي
(المرَء) أربع قراءات : قرأ
الحسن : المرَّ بفتح الميم وتشديد الرّاء جعله عوضاً عن الهمزة.
وقرأ الزهري : المرُءُ بضم
الميم والهمزة.
وحكى يعقوب عن جدّه : بكسر
الميم والهمزة.
وقرأ الباقون : بفتح الميم
والهمزة.
وأمّا كيفية تعليمهما السّحر
فقد ورد فيه خبر جامع وهو ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّها قالت : قدمت عليَّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بعد موته حَدَاثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السّحر قالت عائشة
لعروة : يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وكانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها بقولي واني لأخاف أنْ تكون قد هلكت،
قالت كان لي زوج فغاب عنّي
فدخلت على عجوز وشكوت إليها ذلك فقالت : إنْ فعلت ما أمرتك به فأجعله يأتيك فلمّا
كان الليل جائتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الأخر فلم يكن حتّى وقفنا على
بابل،
فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما
فقالا : ما جاء بك؟
فقلت أتعلم السحر.
فقالا : إنّما نحن فتنة فلا
تكفري وارجعي فأبيت فقلت : لا.
قالا : فأذهبي إلى ذلك التنّور
فبُولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا : فعلت،
قلت : نعم. فقالا هل رأيت
شيئاً؟
قلت : لم أرَ شيئاً.
فقالا : لم تفعلي ارجعي إلى
بلدك ولا تكفري فأبيت،
فقالا : اذهبي إلى التنّور
فبُولي فيه.
فذهبت فاقشعّر جلدي وخفت ثمّ
رجعت إليهما فقلت قد فعلت. قالا : فما رأيتي؟
قلت : لم أرَ شيئاً.
فقالا : كذبت لم تفعلي،
ارجعي إلى بلادك فلا تكفري
فإنّك على رأس أمرك. فأبيت. فقالا : اذهبي إلى ذلك التنّور فبُولي فيه فذهبت إليه
فبلت فيه،
فرأيت فارساً مقنعاً بالحديد
خرج منّي حتّى ذهب في السّماء وقد غاب عنّي حتّى لم أره فجئتهما فقلت قد فعلت قالا
: فما رأيت؟
قلت : رأيت فارساً مقنّعاً
بالحديد خرج منّي فذهب في السّماء حتّى ما أراه. قالا : صدقت ذلك ايمانك خرج منك
إذهبي إلى المرأة وقول لها : واللّه ما أعلم شيئاً وما قال لي شيئاً،
قالت بلى،
قالا : لن تريدي شيئاً إلاّ
كان. خذي هذا القمح فأبذري فبذرت فقلت : إطلعي فطلعت فقلت : إحقلي فحقلت ثمّ قلت
إفركي فأفركت ثمّ قلت اطحني فطحنت ثمّ قلت اخبزي فخبزت فلمّا رأيت إنّي لا أريد
شيئاً إلاّ كان سقط في يدي وندمت واللّه يا أُم المؤمنين ما فعلت شيئاً قط ولا
أفعله أبداً.
فأما كيفية جواز تعليم السّحر
على الملائكة ووجه
الآية وحملها على التأويل الصحيح :
فقال بعضهم : إنّهما كانا لا يتعمّدان تعليم السحر ولكنّهما يصفانه
ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه واعلم وعلّم بمعنى واحد وفي هذا حكمة : وهي إنّ
سائلاً لو سأل عن الزّنا لوجب أن يوقف عليه ويعلّم أنّه حرام،
وكذلك إعلام الملكين النّاس
وأمرهما باجتنابه بعد الاعلام والأخبار إنّه كفر حرام فيتعلّم الشقي منهما وفي
حلال صفتهما وترك موعظتهما ونصيحتهما ولا يكون على هذا التأويل تعلّم السحر كفراً
وإنّما يكون العمل به كفراً كما إنّ من عرف الزّنا لم يأثمّ إنّما يأثمّ العامل
به،
والقول الآخر والأصح : إنّ
اللّه تعالى إمتحن النّاس بالملكين في ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن
يقبل القابل تعلّم السّحر فيكفر بتعلّمه ويؤمن بترك التعلّم،
لأنّ السّحر كان قد كثر في كلّ
الأمة ويزداد المعلّمان عذاباً بتعليمه فيكون ذلك إبتلاء للمعلّم والمتعلّم وللّه
تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني اسرائيل بالنّهر في
قوله :
{إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} يدلّ عليه
قوله{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} وهذان حكاهما الزجّاج واعتمدهما.
قال اللّه تعالى :
{وَمَا هُم
بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ}
أي أحداً ومن صلة.
{إِلا بِإِذْنِ
اللّه}
(أو
إلاّ بقضاء اللّه أو إلاّ بإذن اللّه أي بمرأى ومسمع)
أي بعلمه وقضائه
ومشيئته وتكوينه
(والساحر يسحر ولا
يكون شيء).
{وَيَتَعَلَّمُونَ
مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ}
أي السحر وقرأ عبيد
بن عمير : ما يُضرهم من أضرّ يضرّ.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا}
يعني اليهود
{لَمَنِ
اشْتَرَاهُ} اختار السّحر.
{مَا لَهُ فى الآخرة}
أي في الجنّة
{مِنْ
خَلَاقٍ} من نصيب.
وقال الحسن : ماله في الآخرة من
خلاق من دين ولا وجه عند اللّه.
ابن عبّاس : من قوام،
وقيل من خلاص.
قال أميّة : يدعون بالويل فيها
لا خلاق لهم إلاّ السرابيل من قطر وإغلال،
أي لا خلاص لهم.
{وَلَبِئْسَ مَا
شَرَوْا بِهِ} باعوا به حظّ
{أَنفُسَهُمْ} حين اختاروا السّحر والكفر على الدين والحق.
{لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ}
١٠٣
{وَلَوْ أَنَّهُمْ
ءَامَنُوا} بمحمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) والقرآن.
{وَاتَّقُوا} اليهودية والسّحر.
{لَمَثُوبَةٌ}
(ويجوز
المثوبة بفتح الميم وفتح الواو كمشوُرة وكمشوَرة وهي مصدر من الثواب)
{مِّنْ
عِندِ اللّه} لكان ثواب اللّه عزّ وجلّ أياهم.
{خَيْرٌ لَّوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
١٠٤
{يا أيها الّذين
آمنوا لا تقولوا راعنا}
الآية : وذلك إنّ
المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول اللّه وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة،
وكانت هذه اللفظة سبّاً مبيحاً
بلغة اليهود،
وقيل : كان معناه عندهم : اسمع لا سمعت،
وقيل : هو إلحاد إلى الرعونة لما سمعتها اليهود اغتنموها،
وقالوا فيما نسب بعضهم إلى
محمّد سراً. فاعلنوا الآن بالشّتم،
وكانوا يأتونه ويقولون : راعنا
يا محمّد ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها،
وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود :
عليكم لعنة اللّه،
والذي نفسي بيده يامعشر اليهود
إن سمعنا من رجل منكم يقولها لرسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) لضربت عنقه. فقالوا : أولستم
تقولونها؟
فأنزل اللّه تعالى
{يا أيّها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلاً إلى شتم رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
وفي هذه اللفظة ثلاث قرآت :
قرأ الحسن راعناً بالتنوين أراد
قولاً راعناً :
أي حقاً من الرعونة فحذف الاسم وأبقى الصّفة. كقول الشاعر :
ولا مثل يوم في قدار ظله
كأني وأصحابي على قرن أعفرا
اراد قرن ظبي أعفر. حذف الاسم
وابقى النعت.
وقرأ أُبي بن كعب : راعونا
بالجمع.
وقرأت العامّة : راعنا بالواحد
من المراعاة. يُقال : أرعى إلى الشيء وارعاه وراعاه. إذا أصغى إليه واستمعه. مثل
قولهم : عافاه
اللّه واعفاه.
قال مجاهد : لا تقولوا راعنا :
يعني خلافاً.
يمان : هجراً.
الكسائي : شرّاً.
{وَقُولُوا
انظُرْنَا} قال أُبي بن كعب : انظرنا بقطع الألف
أي أخرنا،
وقرأت العامّة موصولة
أي انظر إلينا. فحذف
حرف التعدية كقول قيس بن الحطيم :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن
كما ينظر الأراك الظبّا
أي إلى الأراك،
وقيل : معناه انتظرنا وتأننا. كقول امرؤ القيس :
فانكما أن تنظراني ساعة
من الدهر تنفعني لدى ام جندب
وقال مجاهد : معناه فهَّمنا،
وقال يمان : بيّن لنَّا
{وَاسْمَعُوا} ما تؤمرون به،
والمراد به اطيعوا لأنّ الطّاعة
تحت السّمع.
{وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ أَلِيمٌ}
يعني اليهود.
١٠٥
{مَّا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
الآية : وذلك إنّ
المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمّد
قالوا : ما هذا
الّذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولو
(هدانا) لكان خيراً. فأنزل
اللّه تعالى تكذيباً لهم
(ما
يودّ) : يريد ويتمنى الّذين كفروا من أهل الكتاب
يعني اليهود.
{وَلا
الْمُشْرِكِينَ} مجرور في اللفظ بالنسق على من
مرفوع المعنى بفعله كقوله عزّ وجلّ
{وَمَا
مِن دَآبَّةٍ فِى الأرض ولا طائر يطير بِجَنَاحَيْهِ}
{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ}
أي خبر كما نقول : ما أتاني من أحد من فيه،
وفي جوابها صلة،
وهي كثيرة في القرآن.
{وَاللّه يَخْتَصُّ} والاختصاص أوكد من الخصوص لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك.
{بِرَحْمَتِهِ} بنبوّته.
{مَن
يَشَآءُ} يخص بها محمّداً
(صلى
اللّه عليه وسلم)
{وَاللّه ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
(أي ابتداء لعلى... خبر علة أو المراد من الرحمة
الإسلام والهداية)
١٠٦
{مَا نَنسَخْ مِنْ
ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا}
الآية وذلك إنّ
المشركين
قالوا : ألاّ ترون
إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر لم ينهاهم عنه،
ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم
قولاً ويرجع فيه غداً،
ما هذا القرآن إلاّ كلام محمّد
يقوله من تلقاء
نفسه،
وهو كلام يناقض بعضه بعضاً.
فأنزل اللّه
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ} ،
وأنزل أيضاً
{مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} ثمّ بيّن وجه الحكمة في النسّخ بهذه
الآية.
وأعلم إنّ النسخ في اللغة شيئان
:
الوجه الأول : بمعنى التغيير
والتحويل قال الفراء : يُقال : مسخه اللّه قرداً ونسخه قرداً،
ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من
كتاب إلى كتاب فينقل ما فيه إليه
قال
اللّه تعالى
{إِنَّا
كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} :
أي نأمر الملائكة
بنسخها.
قال ابن عبّاس في هذه
الآية : ألسْتم
قوماً عرباً هل يكون نسخه إلاّ من أصل كان قبل ذلك؟
وعلى هذا الوجه القرآن كلّه
منسوخ؛ لأنّه نسخ من اللوح المحفوظ فأنزل على النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
روى عبد الوهاب بن عطاء عن داود
عن عكرمة عن ابن عبّاس : أنزل اللّه تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى
السّماء الدُّنيا ثمَّ أنزله جبرائيل على محمّد آياً بعد
آي،
وكان فيه ما قال المشركون وردّ
عليهم.
والوجه الثاني : بمعنى رفع
الشيء وابطاله يُقال : نسخت الشمّس الظل :
أي ذهبت به وأبطلته
(...) عنّى بقوله ما ننسخ من آية وعلى هذا الوجه يكون بعض القرآن ناسخاً
ومنسوخاً وهي ما تعرفه الأمّة من ناسخ القرآن ومنسوخه وهذا أيضاً يتنوّع نوعين :
أحدهما : إن يثبت خط
الآية،
وينسخ علمها والعمل بها. كقول
ابن عبّاس في
قوله
{مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ}
قال : ثبت خطها وتبدل حكمها. ومنها رفع تلاوتها وبقاء حكمها مثل
آية الرجم.
الثاني : أنّ تُرفع
الآية أصلاً
أي تلاوتها وحكمها
معاً فتكون خارجة من خط الكتاب،
وبعضها من قلوب الرّجال أيضاً،
والشّاهد له ما روي أبو أمامة
سهل بن حنيف في مجلس سعيد ابن المسيب : إنّ رجلاً كانت معه سوّر. فقام يقرأها من
الليل فلم يقدر عليها،
وقام آخر يقرأها. فلم يقدر
عليها،
وقام آخر يقرأها فلم يقدر
عليها. فأصبحوا فأتوا رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
فقال بعضهم : يا رسول اللّه قمت
البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها،
وقال الآخر : يا رسول اللّه ما
جئت إلاّ لذلك،
وقال الآخر : وأنا يا رسول
اللّه.
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّها نُسخت البارحة).
ثمَّ إعلم أنّ النّسخ إنّما
يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار؛ إذا نُسخ صار المخُبر كذاباً،
وإنّ اليهود حاولوا نسخ الشرائع
وزعموا إنّه بداء فيُقال لهم : أليس قد أباح اللّه تزويج الاخت من الأخ ثمّ حظره
وكذلك بنت الأخ وبنت الأخت؟
أليس قد أمر إبراهيمج بذبح
إبنه،
ثمّ قال له لا تذبحه؟
أليس قد أمر موسى بني إسرائيل
أن يقتلوا من عبد العجل منهم وأمرهم برفع السّيف عنهم؟
أليست نبوة موسى غير متعبد بها،
ثمّ تُعبّد بذلك؟
أليس قد أمر حزقيل النبيّ
بالختان،
ثمّ نهاه عنه؟
فلِما لَم يلحقه بهذه الأشياء
بداء فكذلك في نسخ الشرائع لم يلحقه بداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة،
وحكم إلى حكم؛ لضرب من المصلحة
إظهار لحكمته وكمال مملكته وله ذلك وبه التوفيق.
فهذه من علم النّسخ وهو نوع
كثير من علوم القرآن،
لا يسع جهله لمن شرع إلى
التفسير.
وعن أبي عبدالرحمن السّلمي :
إنّ علياً ج مرّ بقاص يقصُّ في جامع الكوفة بباب كندة فقال : هل تعلم النّاسخ
من المنسوخ؟
قال : لا.
قال : هلكت وأهلكت.
وأمّا معنى
الآية لقوله
{مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ} قرأت العامّة بفتح النون والسين من النّسخ.
وقرأ ابن عامر : بضم النون وكسر
السّين.
قال أبو حاتم : هو غلط وقال : بعضهم له
وجهان،
أحدهما نجعله نسخه من قولك نسخت
الكتاب إذا كتبته وأنسخته غيري إذا جعلته نسخة له ومعناها ما مسختك.
والوجه الثاني : تجعله في جملة
المنسوخ كقولك : طردت الرّجل إذا نفيته وأطردته جعلته طريداً.
قال الشاعر :
طردتني حسد الهجاء حيفاء
واللاّت والأصنام ما قالوا تنل
أو ننسها : فيه تسع قراءات :
قرأ سعيد بن المسيب وأبو جعفر
وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب : ننسها بضّم النون وكسر
السّين. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم
أي : نُنسها نسياً قاله أكثر المفسرين.
قال الحسن : هو ما أنسى اللّه
رسوله
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال ابن عبّاس :
أي تتركها ولا
نبدّلها
قال اللّه :
{نَسُوا اللّه فَأَنسَ اهُمْ} وقال
اللّه تعالى :
{ كذلك
أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَ كذلك الْيَوْمَ تُنسَى} . كلّ هذا من التّرك كانّه جعل أنسى ونسي بمعنى واحد.
قال الكلبي وسمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سمعت أبا منصور الأزهري يقول : معناه أو نأمر بتركها يقال أنسيت
الشيء
أي أمرت بتركه.
قال الشّاعر :
جرت عليّ قصة أقصيتها
لست بنا سيها مَجمع ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها.
وقرأ أُبي بن كعب : أو ننسيك.
وقرأ عبداللّه : ننسيك من آية
أو ننسخها.
قرأ سالم مولى حذيفة : أو
ننسكّها.
وقرأ أبو رجاء : أو ننّسها
بالتشديد،
وقرأ الضحّاك : أو ننسها بضم
التاء وفتح السين على مجهول،
وقرأ سعد بن أبي وقّاص : أو
ننسها بتاء المفتوحة من النسيان،
وعن القاسم بن الربيع ابن فائق؛
قال : سمعت سعد
بن أبي وقاص يقول : بالنسخ من آية أو ننسها.
قال : فقلت له : إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ : ننسها.
قال : إنّ القرآن
لم ينزل على آل المسيّب.
قال اللّه تعالى لنبيه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}
{وَاذْكُر رَّبَّ كَلا إِذَا نَسِيتَ} .
وقرأ مجاهد :
(أو ننسها) بفتح النون مخففه
أي نتركها.
وقرأ عمر بن الخطّاب وابن عبّاس
وعبيد بن عمير وعطاء وابن كثير وابو عمرو والنخعي : أو ننساها بفتح النون الأول
وفتح السين مهموزة فلا نؤخرها فلا نبدّلها ولا ننسخها،
يقال : نسأ اللّه في أجله
وأنسأ اللّه أجله،
ومنه النسيئه في البيع.
وقال أبو عبيد : ننسبأها مجازه
نمضيها لذكر ما فيه،
قال طرفة :
أمون كألواح الاران نسأتها
على لا حب كأنّه ظهر برجد
أي لسقتها وأمضيتها،
وقال سعيد بن المسيب وعطاء :
أما ما ننسخ من آية فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة،
أو ننساها نؤخرها فلا يكون وهو
ما لم ينزّل.
{نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِّنْهَآ}
أيّ بما هو أجدى وأنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم لا أنّ آية
خير من آية؛ لأن كلام اللّه عزّ جلّ واحد ولكنّها في المنفعة المثوبة وكلّه خير.
١٠٧
{أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قادر قال الزجاج : لفظه استفهام ومعناه توفيق وتقرير.
{ألم تعلم أنّ اللّه
له ملك السماوات والأرض وما لكم} يا معشر الكفّار
عند نزول العذاب.
{مِّن دُونِ اللّه
مِن وَلِيٍّ} قريب وصديق.
{ولا نصير} ناصر يمنعكم من العذاب.
١٠٨
{أَمْ تُرِيدُونَ أَن
تَسْ َلُوا رَسُولَكُمْ}
الآية. قال ابن
عبّاس : نزلت في عبداللّه بن أُميّة المخزومي ورهط من قريش
قالوا : يا محمّد
أجعل لنا الصّفا ذهباً ووسّع لنّا أرض مكّة،
وفجر الأنهار خلالها تفجيرا
نؤمن بك.
فأنزل اللّه عزّ وجلّ
{أَمْ تُرِيدُونَ}
يعني أتريدون
والميم صلة لأنّ أم إذا كان بمعنى العطف لا تكون أبتداء ولا تأتي إلاّ مردودة على
استفهام قبلها،
وقيل معناه : بل يريدون كقول الشّاعر :
بدت مثل قرن الشّمس في رونق
الضحّى
وصورتها أم أنت في العين أملح
أي بل أنت.
{أَمْ تُرِيدُونَ
أَن} محمّداً.
{كَمَا سُئلَ مُوسَى
مِن قَبْلُ} سأله قومه فقالوا : أرنا اللّه جهرة،
وقال مجاهد : لمّا قالت قريش
هذا لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(نعم
وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا عُذّبتم) فأبوا ورجعوا،
والصّحيح أن شاء اللّه إنها
نزلت في اليهود حين
قالوا : يا محمّد أئتنا بكتاب من السّماء تحملهُ،
كما أتى موسى بالتوراة،
لأنّ هذه السّورة مدنية،
وتصديق هذا القول
قوله تعالى :
{يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ
عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك } في سُئل ثلاث قراءات :
بالهمز : وهي قراءة العامّة،
و
(سُئل) بتليين الهمزة وهي
قراءة أبي جعفر و
(سُئل) مثل
(قيل) وهي قراءة الحسن.
{وَمَن يَتَبَدَّلِ
الْكُفْرَ بِالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أخطأ وسط الطريق.
١٠٩
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ}
الآية نزلت في نفر من
اليهود منهم : فنحاص بن عازورا وزيد ابن قيس؛ وذلك إنّهم قالوا لحذيفة بن اليمان
وعمار بن ياسر بعد وقعة أُحد : ألم تريا ما أصابكم ولو كنتم على الحقّ ماهزمتم
فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً. فقالوا لهم : كيف نقض
العهد فيكم؟
قالوا : شديد.
قال : فإني قد عاهدتُ ألاّ أكفر بمحمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) ما عشتُ. فقالت اليهود : أمّا هذا فقد صبر،
وقال حُذيفة : وأمّا أنا فقد
رضيت باللّه ربّاً وبمحمّد نبيّاً وبالإسلام ديناً،
وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة
وبالمؤمنين أخواناً.
ثمَّ أتيا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فأخبراه بذلك فقال :
(أصبتما
الخير وأفلحتما). فأنزل اللّه تعالى
{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
أي تمنى وأراد كثير من اليهود.
{لَوْ يَرُدُّونَكُم} يا معشر المؤمنين.
{مِّن بَعْدِ
إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} في انتصابه وجهان
قيل : بالردّ
وقيل : بالحال.
{حَسَدًا} وفي نصبه أيضاً وجهان : قيل على المصدر
أي يحسدونكم حسداً،
وقيل : بنزع حرف الصلة تقديره للحسد. وأصل الحسد في اللغة الالظاظ
بالشيء حتّى يخدشه
وقيل : للمسحاة محسد وللغراد حسدل زيدت فيه اللاّم كما يقال للعبد
: عبدل.
{مِّنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِم}
أي من تلقاء أنفسهم لم يأمر اللّه عز وجل بذلك.
{مِّن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة إنّ
محمّداً صادق ودينه حقّ.
{فَاعْفُوا} فاتركوا.
{وَاصْفَحُوا} وتجاوزوا.
{حَتَّى يَأْتِىَ
اللّه بِأَمْرِهِ} بعذابه القتل والسبّي لبني
قريظة والجلاء والنفي لبني النظير قاله ابن عبّاس.
وقال قتادة : هو أمره بقتالهم
في
قوله تعالى :
{قَاتِلُوا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه} إلى
{وَهُمْ
صَاغِرُونَ} .
وقال ابن كيسان : بعلمه وحكمه
فيهم حكم بعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية،
وقيل : أراد به القيامة فيجازيهم بأعمالهم.
{إِنَّ اللّه عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} .
١١٠
{وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكوة وما تقدّموا} تسلفوا.
{نفُسِكُم مِّنْ
خَيْرٍ} طاعة وعمل صالح.
{تَجِدُوهُ} تجدوا ثوابه ونفعه.
{عِندَ اللّه}
وقيل : بالخبر
الحال كقوله عزّ وجلّ
{إِن تَرَكَ خَيْرًا} ومعناه وما تقدّموا لأنفسكم من زكاة وصدقة تجدوه عند اللّه
أي وتجدوا الثمرة
واللقمّة مثل أحُد
{إِنَّ اللّه بِمَا
تَعْمَلُونَ} ورد في الحديث : إذا مات العبد
قال اللّه : ما خلّف؟
وقال الملائكة : ما قدّم؟
وعن أنس بن مالك
قال : لمّا ماتت
فاطمة بنت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) دخل علي بن أبي طالب ج الدّار
فأنشأ يقول :
لكلّ اجتماع من خليلين فرقة
وكلّ الّذي دون الفراق قليل
وإنّ افتقادي واحداً بعد واحد
دليلٌ على أن لا يدوم خليل
ثمّ دخل المقابر فقال : السلام
عليكم يا أهل القبور أموالكم قسّمت ودوركم سكنّت وأزواجكم نكحت فهذا خبر ما عندنا
فما خبر ما عندكم؟
فهتف هاتف : وعليكم السلام ما
أكلنا رِبْحَنَا وما قدّمنا وجدنا وما خلّفنا خسرنا.
١١١
{وَقَالُوا لَن
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} قال الفرّاء : أراد يهودياً فحذف الياء الزائدة ورجعوا إلى
الفعل من اليهوديّة.
وقال الأخفش : اليهود جمع هايد
مثل عائِد وعود وحائل وحول وعايط وعوط وعايذ وعوذ،
وفي مصحف أُبي : إلاّ من كان
يهودياً أو نصرانياً ومعنى
الآية وقالت اليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان يهوديّاً ولا دين
إلاّ دين اليهوديّة وقالت النصارى : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان نصرانيّاً ولا دين
إلاّ النصرانية
قال اللّه تعالى :
{تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ} شهواتهم الّتي يشتهوها
ويتمنوها على اللّه عزّ وجلّ بغير الحقّ
وقيل أباطيلهم بلغة
قريش.
{قُلْ} يا محمّد.
{هَاتُوا} وأصله أتوا فقلبت الهمزة هاءً.
{بُرْهَانَكُمْ} حجتكم على ذلك وجمعه براهين مثل قربان قرابين وسلطان وسلاطين.
١١٢
{إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ} ثمّ قال ردّاً عليهم وتكذبياً لهم
{بَلَى} ليس كما قالوا بل
يدخل الجنّة
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} مقاتل : أخلص دينه وعمله للّه
وقيل : فوض أمره إلى
اللّه.
وقيل : خضع وتواضع للّه.
وأصل الإسلام والاستسلام :
الخضوع والأنقياد وإنّما خصَّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السّجود لم يبخل بسائر
جوارحه.
قال زيد بن عمرو بن نفيل :
اسلمتُ وجهي لمن اسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
واسلمت وجهي لمن اسلمت
له المزن يحمل عذباً زلالاً
{وَهُوَ مُحْسِنٌ} في عمله،
وقيل : مؤمن،
وقيل : مخلص.
{فَلَهُ أَجْرُهُ
عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
{وَقَالَتِ
الْيَهُودُ} نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران؛ وذلك إنّ وفد نجران
لمّا قدموا على رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا
حتّى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود : ما أنتم على شيء من الدّين وكفروا بعيسى
والأنجيل،
وقالت لهم النّصارى : ما أنتم
على شيء من الدّين وكفروا بموسى والتوراة.
١١٣
فأنزل اللّه تعالى
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى
شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ} .
{وَهُمْ يَتْلُونَ
الْكِتَابَ} وكلا الفريقين يقرأون الكتاب
أي لتبين في كتابكم
سر الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم مافيه على أنهم على الباطل.
وقيل : كان سفيان الثوري إذا قرأ هذه
الآية
قال : صدقوا جميعاً
واللّه كذلك.
{قَالَ الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ}
يعني أباءهم الذّين مضوا.
{مِّثْلَ
قَوْلِهِمْ} قال مقاتل
يعني مشركي
العرب كذلك قالوا في نبيّهم محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وأصحابه ليسوا على شيء من
الدّين.
وقال ابن جريح : قلت لعطاء :
(كذلك قال الذين لا يعلمون) من هم؟
قال : أُمم كانت قبل اليهود والنّصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط
وشعيب ونحوهم،
قالوا في نبيهم إنّه ليس على
شيء وأنّ الدّين ديننا.
{فَاللّه يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ} يقضي بين المحقّ والمبطل يوم القيامة.
{فِيمَا كَانُوا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من الدّين.
١١٤
{وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}
نزلت في ططيوس بن استيسانوس
الرّومي وأصحابه؛ وذلك إنّهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم
وحرقوا التّوراة وخرّبوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وكان
خراباً إلى أن بناه المسلمون في أيّام عمر بن الخطّاب.
قتادة والسّدي : هو بخت نصر
وأصحابه غزوا اليهود وخرّبوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النّصارى ططيوس وأصحابه
من أهل الرّوم.
قال السّدي : من أجل إنّهم
قتلوا يحيى بن زكريّا،
وقال قتادة : حملهم بعض اليهود
على معاونة بخت نصّر البابلي المجوسي فأنزل اللّه إخباراً عن ذلك :
{وَمَنْ أَظْلَمُ}
أيّ أَكْفَر
وأغثا
{مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّه}
يعني بيت المقدس ومحاريبه.
(أنّ يذكر) في محل نصب
المفعول الثاني لأنّ المنع يتعدّى إلى مفعولين تقديره ممّن منع مساجد اللّه. الّذكر،
وإن شئت جعلت نصباً بنزع حرف
الصّفة
أي : من أن يذكر.
{وَسَعَى فِى
خَرَابِهَآ}
أي في عمل خرابها.
{أُولَائِكَ مَا
كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلا خَآئِفِينَ} وفي مصحف أُبي الاّخيّفاء.
قال ابن عبّاس : لا يدخلها بعد
عمارتها رومي إلاّ خائفاً لو علم به قُتل.
قتادة ومقاتل : لا يدخل بيت
المقدس أحد من النصارى إلاّ متنكراً مشارفه لو قدر عليه عوقب ونهك ضرباً.
السّدي : أخيفوا بالجزية،
وقال أهل المعاني : هذا خبر فيه
معنى للأمر كقول : اجهضوهم بالجهاد كي لا يدخلها أحد منهم إلاّ خائفاً من القتل
والسّبي نظيره
قوله :
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه} إلى
{أَبَدَا} نهاهم عن لفظ الخبر فمعنى
الآية : ما ينبغي لهم
ولكم وهذا وجه
الآية.
{لَهُمْ فِى
الدُّنْيَا خِزْىٌ} عذاب وهوان.
قال قتادة : هو القتل للحربي
والجزّية للذّمي.
مقاتل والكلبي : فتح مدائنهم
الثلاثة : قسطنطينية وروميّة وعمورية.
السّدي : هو إنّه إذا قام
المهدي
(في آخر الزمان) فتحت قسطنطينية فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فذلك خزيهم في الدّنيا.
{وَلَهُمْ فى الآخرة
عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو النّار.
إسماعيل عن أبيه عن أبي هريرة
قال : لا تقوم
السّاعة حتّى تفتح مدينة هرقل ويؤذّن فيها المؤذنون ويقسّم فيها المال بالترضية
فينقلبون بأكثر أموال رآها النّاس قط فبينا هم كذلك إذا أتاهم إنّ الدجّال قد
خلفكم في أهليكم فيلقون ما في أيديهم ويجيئونه ويقاتلونه.
وقال عطاء وعبد الرّحمن بن عوف
: نزلت هذه
الآية في مشركي
عرب مكّة وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا محمّداً
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه من حجّه والصّلاة فيه عام الحديبية وإذا منعوا من تعميره بذكر
اللّه عزّ وجلّ فقد سعوا في خرابه يدلّ عليه
قوله تعالى :
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا
مَسَاجِدَ اللّه}
الآية
{أُولَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ
إِلا خَآئِفِينَ}
يعني أهل مكّة يقول :
أفتحها عليكم حتّى تدخلوها أو تكونوا أولى بها منهم ففتحها اللّه عليهم وأمر رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) منادياً فنادى : ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت
عريان فطفق المشركون يقولون : اللّهمّ إنّا قد منعنا أن نشرك بهذا لهم في الدّنيا
خزي الذّل والقتل والسّبي والنّفي ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
١١٥
{وَللّه الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ}
الآية : اختلفوا في سبب نزولها فقال ابن عبّاس : خرج نفر من أصحاب
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضّباب فحضرت الصّلاة
فتحروا القبلة وصلّوا فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب. فلما
ذهب الضّباب استبان لهم إنّهم لم يصيبوا. فلّما قدموا سألوا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن ذلك فنزلت هذه
الآية بذلك.
وقال عبداللّه بن عامر بن ربيعة
: كنّا مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا
منزلاً فجعل الرّجل يتّخذ أحجاراً فيعمل مسجداً يُصلّي فيه،
فلّما أصبحنا إذا نحن قد صلّينا
إلى غير القبلة فقلنا يا رسول اللّه : لقد صليّنا ليلتنا هذه إلى غير القبلة فأنزل
اللّه هذه
الآية.
قال عبد اللّه بن عمر : نزلت في
صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوعاً،
وكان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يُصلّي على راحلته جائياً من مكّة إلى المدينة.
وعن عبداللّه بن دينار عن
عبداللّه بن عمر
قال : كان رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) يُصلّي على راحلته في السّفر
حيثما توجّهت به.
قال عكرمة : نزلت في تحويل
القبلة لما حوّلت إلى الكعبة. فأنزل اللّه تعالى
{وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} .
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أيها المؤمنون في سفركم وحضركم.
{فَثَمَّ وَجْهُ
اللّه} قبلة اللّه التي وجهكم إليها فاستقبلوها
يعني الكعبة،
وقال أبو العالية : لما غيّرت
القبلة إلى الكعبة عيّرت اليهود المؤمنين في انحرافهم من بيت المقدس. فأنزل اللّه
تعالى هذه
الآية جواباً
إليهم.
عطاء وقتادة : نزلت في النجاشي
وذلك إنّه توفّي،
فأتى جبرئيل النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إنّ أخاكم
النجاشي قد مات فصلّوا عليه. فقال أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كيف نُصلّي على رجل مات وهو يُصلي إلى غير قبلتنا؟
وكان النجاشي يُصلّي إلى بيت المقدس
حتّى مات. فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وقال مجاهد والحسن والضحّاك :
لمّا نزلت :
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قالوا أين ندعوه؟
فنزلت
{وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ملكاً وخلقاً
{فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا} تحولّوا وجوهكم
{فَثَمَّ} هناك
{وَجْهُ
اللّه} .
وقال الكلبي والقتيبي : معناه
فثمّ اللّه عليم يرى والوجه صلة
كقوله
تعالى.
{يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ}
أيّ يريدونه بالدُّعاء،
وقوله
{كُلُّ
شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} .
أيّ إلاّ هو،
وقوله تعالى
{وَيَبْقَى
وَجْهُ رَبِّكَ}
أي ويبقى ربّك،
وقوله
{إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّه}
أيّ للّه.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة
ومقاتل بن حيان : فثمّ قبلة اللّه أضافها إلى نفسه تخصيصاً وتفصيلاً،
كما يُقال : بيت اللّه،
وناقة اللّه،
والوجه والجهة والوجهة :
القبلة.
{إِنَّ اللّه
وَاسِعٌ} قال الكلبي : واسع المغفرة لا يتعاظم مغفرته ذنب دليله
قوله تعالى
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
أبو عبيدة : الواسع الغني يُقال : يُعطي فلان
من سعة
أي من غنى
قال اللّه
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} قال الفراء : الواسع الجواد الذي يسع عطاءهُ كل شيء. دليله
قوله تعالى
{وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ}
وقيل : الواسع العالم الذي يسع علمه كلّ شيء.
قال اللّه
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض}
أي علمه.
{عَلِيمٌ} بنياتهم حيثما صلّوا ودعَوَا،
وقال بعض السّلف : دخَلت ديراً
فجاء وقت الصّلاة فقلت لبعض من في الدّير : دُلني على بقعة طاهرة أُصلي فيها. فقال
لي : طهّر قلبك عمّن سواه،
وقف حيث شئت.
قال : فخجلت منه.
١١٦
{وَقَالُوا اتَّخَذَ
اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ} نزلت في يهود أهل
المدينة حيث
قالوا : عُزيرا بن
اللّه،
وفي نصارى نجران حيث
قالوا : المسيح بن
اللّه وفي مشركي العرب
قالوا : الملائكة بنات اللّه.
(سبّحانه) نزّه وعظم نفسه.
{بل له ما في
السّماوات والأرض} عبيداً وملكاً.
{كُلٌّ لَّهُ
قَانِتُونَ} مجاهد وعطاء والسّدي : مطيعون دليله
قوله تعالى
{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} .
عكرمة ومقاتل ويمان : مقرون
بالعبوديّة.
ابن كيسان : قائمون بالشهادة،
وأصل القنوت : القيام،
وسُئل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
أيّ الصّلاة
أفضل؟
قال :
(طول
القنوت)،
وقيل : مصلّون دليله
قوله
{أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ} وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مثل المجاهد في سبيل اللّه مثل القانت الصائم).
أيّ المُصلّي.
وقيل : داعون. دليله
قوله
تعالى
{قوموا
للّه قانتين} واختلف العلماء في حكم هذه
الآية
فقال بعضهم : هو خاص،
ثمَّ سلكوا في تخصيصه طريقين :
أحدهما هو راجع إلى عُزير والمسيح والملائكة،
وهو قول مقاتل ويمان.
القول الثاني
قالوا : هو راجع
إلى أهل طاعته دون النّاس أجمعين وهذا قول ابن عبّاس والفراء،
وقال بعضهم : هو عام في جميع الخلق ثمَّ سلكوا في الكفّار الجاحدين
طريقتين
أحدهما : إنّ ظلالهم تسجد للّه وتطيعه،
وهذا قول مجاهد دليله
قوله عزّ وجلّ
{يتفيئوا ظلاله عن اليمين}
الآية.
قال اللّه تعالى
{وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَاصَالِ} .
والثاني : هذا يوم القيامة قاله السدي وتصديقه
قوله تعالى :
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ} .
١١٧
{بديع السّماوات
والأرض}
أي مبتدعها ومنشُها من غير مثال سبق
{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا}
أي بيده وأراد خلقه
وأصل القضاء إتمام الشيء وإحكامه.
قال أبو ذؤيب :
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أوصنع السوابغ تبّع
{فَإِنَّمَا يَقُولُ
لَهُ كُن فَيَكُونُ} .
١١٨
{وَقَالَ الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ}
يعني اليهود قاله ابن عبّاس.
مجاهد : هم النّصارى. قتادة :
هم مشركو العرب.
{لَوْ} هلاّ
{يُكَلِّمُنَا
اللّه} عياناًبأنك رسوله.
{أَوْ تَأْتِينَآ
ءَايَةٌ} دلالة وعلامة على صدقك.
قال اللّه تعالى :
{ كذلك
قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم}
أي كفّار الأمم
الخالية
{مِّثْلَ
قَوْلِهِمْ
تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أشبه بعضها بعضاً
في الكفر والفرقة والقسوة.
{قَدْ بَيَّنَّا
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
١١٩
{إِنَّآ
أَرْسَلْنَاكَ} يا محمّد
{بِالْحَقِّ} بالصدق من
قولهم فلان محقّ في دعواه إذا كان صادقاً دليله
قوله تعالى{وَيَسْتَنبِئُونَكَ} أحقٌّ هو؟
أي صدق. مقاتل : معناه لن نرسلك عبثاً بغير شيء بل أرسلناك
بالحق،
دليله
قوله تعالى :
{وما خلقنا السّماوات والأرض وما بينهما إلاّ
بالحق} وهو ضد الباطل.
ابن عبّاس : بالقرآن دليله
قوله تعالى :
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ} .
ابن كيسان : بالاسلام دليله
قوله عزّ وجلّ :
{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}
{بَشِيرًا} مبشراً لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم.
{وَنَذِيرًا} منذراً مخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم.
{ولا تسئل أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ} عطاء وإبن عبّاس : وذلك إنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) قال ذات يوم :
(ليت
شعري ما فعل أبواي) فنزلت هذه
الآية.
وقال مقاتل : هو إنّ النّبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(لو أنزل اللّه بأسه باليهود لأمنوا). فأنزل اللّه تعالى :
{ولا تسئل أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} وفيه قراءتان : بالجزم على النهي وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب
ووجهها القول الأول في سبب نزول
الآية.
وقرأ الباقون : بالرفع على
النفي
يعني : ولست
بمسؤول عنهم دليلها قراءة ابن مسعود : ولن تسأل وقراءة أُبي : وما نسألك عن أصحاب
الجحيم ولا تؤخذ بذنبهم والجحيم وهو الجحم والجحمة : معظم النّار.
١٢٠
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ
الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وذلك إنّهم كانوا يسألون النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) الهدنة ويطمّعونه ويرون إنّه إن هادنهم إتّبعوه ووافقوه فأنزل اللّه
تعالى هذه
الآية وقال ابن
عبّاس : هذا في القبلة وذلك إنّ يهود أهل المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن
يصلّي النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى قبلتهم فلمّا صرف اللّه القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وأيسوا منه
أن يوافقهم على دينهم فأنزل اللّه :
{وَلَن
تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ} دينهم وقبلتهم،
وزعم الزجّاج : إنّ الملّة
مأخوذة من التأثير في الشيء كما تؤثر الملّة في الموضع الّذي يختبز فيه.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} البيان بأنّ دين اللّه هو الإسلام وقبلة إبراهيم ج هي الكعبة.
{مالك من اللّه من
ولي ولا نصير}
١٢١
{الَّذِينَ
ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} قال ابن عباس :
نزلت في أهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب
(رضي اللّه عنه) وكانوا
أربعين رجلاً وإثنا وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشّام منهم بحيرا.
وقال الضحّاك : من آمن من اليهود
عبد اللّه بن سلام وأصحابه وسعيّة بن عمرو ويمام بن يهودا وأسيد وأسد إبنا كعب
وابن يامين وعبد اللّه بن صوريا.
قتادة وعكرمة : هم أصحاب محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم)
وقيل : هم المؤمنون عامّة.
{يَتْلُونَهُ حَقَّ
تِلاوَتِهِ} الكلبي : يصفونه في كتبهم حقّ صفته لمن سألهم من النّاس وعلى
هذا القول الهاء راجعة إلى محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم)
وقال آخرون : هي عائدة إلى الكتاب ثمّ اختلفوا في معنى
قوله
{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} سعيد عن قتادة
قال
: بلغنا عن ابن مسعود في
قوله
{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}
قال : يحلّون حلاله ويحرمون حرامه،
ويقرأونه كما أُنزل،
ولا يحرفونه عن مواضعه،
وقال الحسن : يعملون بمحكمه،
ويؤمنون بمتشابهه،
ويكلون علم ما أشكل عليهم منه
إلى عالمه.
مجاهد : يتبعونه حقّ اتباعه.
١٢٢-١٢٣
{أَفَمَن كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَاكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُؤْمِنُونَ} إلى
قوله
{وإذ
ابتلى إبراهم ربّه} .
١٢٤
قرأ أبو الشعثا جابر بن زيد :
{إِبْرَاهِمَ} ربه إبراهيم رفعاً وربه نصباً على معنى سأل ودعا فقيل له ومن اين لك هذا؟
فقال : اقرأنيه ابن عباس.
وهذا غير قوي لأجل الباء في
قوله
{بِكَلِمَاتٍ} وقرأ الباقون بالنصّب،
وجعلوا معنى الأبتلاء الأختيار
والامتحان في الأمر،
وهو الصحيح،
وفي
{إِبْرَاهِمَ} أربع لغات : قرأ
ابن الزبّير : ابرهام بألف واحد بين الهاء والميم،
وقرأ أبو بكر إبراهم وكان زيد
بن عمر يقول في صلاته : إني عذت بما عاذ به إبراهيم،
إذ
قال :
إني لك اللّهم عان راغم
وقرأ عبد اللّه بن عامر اليحصبي
: ابراهام بألفين،
وقرأ الباقون : إبراهيم
(... قال يحيى بن سعيد) الأنصاري : أقرأ ابراهام وابراهيم. فأن اللّه عزّ وجلّ أنزلهما كما أنزل
يعقوب واسرائيل،
وعيسى والمسيح ومحمّداً وأحمد.
الربيع ابن عامر : مصحفة مكتوب
في مصاحف أهل الشام إبراهام بالألف وفي غيرها بالياء.
وإبراهيم إسم أعجمي ولذلك لا
يجري وهو إبراهيم بن نازح بن ناحور بن ساروخ بن ارخوا بن فالغ بن منابر بن الشالخ
بن ارفخشد بن سام بن نوح. فاختلفوا في مسكنه،
فقال بعضهم : كان
(بكشكر،)
وقال قوم : حرّان؛ ولكن أباه نقله إلى بابل أرض نمرود بن كنعان واختلفوا
في الكلمات التي ابتلى إبراهيمج :
عن ابن عبّاس : هي ثلاثون
سهماً،
وهي شرائع الأسلام،
ولم يبتل أحد بهذا الدّين كلّه
فأقامه كلّه إلاّ إبراهيم
(عليه
الصلاة والسلام).
{فَأَتَمَّهُنَّ} فكتب له البراءة. فقال :
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى} وهي عشرة في براءة
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}
الآية وعشرة في
الأحزاب
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}
الآية،
وعشرة في المؤمنين و{سَأَلَ سَآلُ}
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ،
وقوله
{إِلا
الْمُصَلِّينَ} .
وروى طاووس عن ابن عبّاس
قال : إبتلاه
بعشرة أشياء هي من الفطرة والطّهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتّي في الرأس
قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسّواك وفرق الرأس،
والّتي في الجسد : تقليم
الأظافر ونتف الأبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء.
مجاهد : هي الأيات الّتي في
قوله :
{قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} إلى آخر القصّة.
الربيع وقتادة : مناسك الحج.
الحسن : ابتلاه بسبعة أشياء
إبتلاه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن في ذلك وعلم أنّ ربّه دائم لا يزول وإبتلاه
بالنّار فصبر على ذلك،
وإبتلاه بذبح ابنه فصبر على ذلك
وبالختان فصبر على ذلك وبالهجرة فصبر عليه.
سعيد بن جبير : هي قول إبراهيم
وإسماعيل حين يرفعان البيت
{رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّآ} فرفعاه بسبحان اللّه والحمد
للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر.
يمان : هي محاجّة قومه
قال اللّه :
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} إلى
قوله تعالى
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ
عَلَى قَوْمِهِ} .
أبو روق : هي
قولهج
{الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} الآيات
وقال بعضهم : هي إنّ اللّه ابتلاه في ماله وولده ونفسه فسلم ماله إلى
الضيفان،
وولده إلى القربان،
ونفسه إلى النيران،
وقلبه إلى الرّحمن فاتخذه
خليلاً،
وقيل : هي سهام الأسلام وهي عشرة : شهادة أن لا اله إلاّ اللّه
وهي الملّة والصلاة وهي القنطرة..
قال :
(والزكاة) وهي الطهارة والصّوم وهو الجنّة والحج وهو الشريعة،
والغزو وهو النّصرة،
والطاعة وهي العصمة،
والجماعة وهي الألفة،
والأمر بالمعروف وهو الوفاء
والنهي عن المنكر وهو الحُجّة. فأتمهنّ. قال قتادة : أدّاهن.
الربيع : وفى بهنّ.
الضّحاك :
(... أيمانهن)،
يمان : عمل بهن.
قال اللّه
{إِنِّى جَاعِلُكَ} يا إبراهيم
{لِلنَّاسِ إِمَامًا} ليقتدي بك وأصله من الأُم وهو القصد.
{قَالَ} إبراهيم
{وَمِن
ذُرِّيَّتِى} ومن أولادي أيضاً. فاجعل أئمّة يُقتدى بهم وأصل الذريّة
الأولاد الصغار مشتق من الذر لكثرته،
وقيل : من الذرر وهو الخلق فخفف الهمز وأدخل التشديد عوضاً عن
الهمز كالبرّيّة.
قيل : من الذرو وفيها ثلاث لغات
:
ذريّة بكسر الذال،
وهي قراءة زيد بن ثابت،
وذريّة بفتحها وهي قراءة أبي
جعفر،
وذريّة بضمها وهي قراءة
العامّة.
{قَالَ} اللّه
أي لا يصيب.
{عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} وفيه ثلاث قراءات : عهدي الظالمون،
وهي قراءة ابن مسعود وطلحة ابن
مصرف،
وعهدي الظالمين مرتجلة الياء،
وهي قراءة أبي رجاء والأعمش
وحمزة،
وعهدي الظالمين بفتح الياء وهي
قراءة العامّة،
واختلفوا في هذا العهد فقال
عطاء بن أبي رباح : رحمتي.
الضحّاك : طاعتي دليله
قوله :
{وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم}.
السّدي :
(التوفي) دليله
قوله
{الَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} .
مجاهد : ليس الظالم أن يطاع في
ظلمه.
أبو حذيفة : أمانتي دليله
قوله
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدتُّمْ} .
أبو عبيد : أماني دليله
قوله :
{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ} ،
وقيل : إيماني دليله عزّ وجلّ
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} .
١٢٥
{وَإِذْ جَعَلْنَا
الْبَيْتَ}
يعني الكعبة.
{مَثَابَةً} مرجعاً والمثاب والمثابة واحد كالمقام والمقامة قال ابن
عبّاس :
يعني معاذاً
وملجأً.
مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك :
(يَثِبون) إليه من كلّ جانب ويحجّون ولا يملّون منه فما من أحد قصده إلاّ وهو يتمنى
العود إليه.
قتادة وعكرمة : مجمعاً،
وقرأ طلحة بن مصرف : مثابات على
الجمع.
{لِّلنَّاسِ
وَأَمْنًا} مأمناً يأمَنون فيه.
قال ابن عبّاس : فمن أحدث حدثاً
خارج الحرم ثمّ التجأ إلى الحرم أمن من أن يهاج فيه ولكن لا يؤوى ولا يخالط ولا
يبايع ويوكلّ به فاذا خرج منه أقيم عليه الحد ومن أحدث في الحرم أقيم عليه الحدّ
فيه.
{وَاتَّخِذُوا مِن
مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} قرأ شيبة وابن عامر
ونافع والأعرج والحسن وابن أبي إسحاق وسلام : واتّخذوا بفتح الخاء على الخبر وقرأ
الباقون : بالكسر على الأمر.
قال ابن كيسان : ذكروا أن رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) مرّ بالمقام ومعه عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه فقال : يا رسول
اللّه أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟
قال :
(بلى)
قال : أفلا نتخذه مصلّى؟
قال :
(لم
أؤمر بذلك).
فلم تغب الشمس من يومهم حتّى
نزلت :
{وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} .
وعن أنس بن مالك
قال : قال عمر بن
الخطّاب رضي اللّه عنه : وافقني ربي في ثلاث. قلت : لو أتخذت من مقام إبراهيم
مصلّى فأنزل اللّه
{وَاتَّخِذُوا مِن
مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} وقلت يا رسول
اللّه : يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أُمهات المؤمنين فأنزل اللّه آية الحجاب
قال : وبلغني شيء
كان بين أُمهات المؤمنين وبين النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) فاستنفرتهنّ فجعلت أقول لهنّ :
لتكفنّ عن رسول اللّه أو استبدلته أزواجاً خيراً منكنّ حتّى أتيت على آخر أُمهات
المؤمنين.
وقالت أمّ سلمّة : يا عمر أما
في رسول اللّه ما يغبط نساءه حتّى يعظهِن مثلك وأمسكت فأنزل اللّه تعالى :
{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ
أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ}
الآية.
واختلفوا في معنى
قوله
{مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ} قال إبراهيم النخعي : الحرم كلّه مقام إبراهيم.
يمان : المسجد كلّه مقام
إبراهيم.
قتادة ومقاتل والسّدي : هو
الصّلاة عند مقام إبراهيم أُمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله.
وأمّا قصّتهُ وبدءُ أمره.
فروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس
قال : لما أتى
إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكّة ولبث على ذلك مدة،
ونزلها الجوهميّون وتزوج
إسماعيل امرأة منهم،
وماتت هاجر. فاستأذن إبراهيم
سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر
فذهب إلى بيت إسماعيل. فقال لأمرأته : أين صاحبك؟
قال : ليس هاهنا. ذهب للصيّد،
وكان إسماعيل يخرج من الحرم
فيصيد ثمّ يرجع. فقال لها إبراهيم : هل عندك ضيافة؟
هل عندكِ طعام أو شراب؟
قالت : ليس عندي ولا عندي أحد.
قال إبراهيم : إذا جاء زوجكِ
فأقرئيه السّلام،
وقولي له : فليغير عتبة بابه،
وذهب إبراهيم،
فجاء إسماعيل ووجد ريح أبيه.
فقال لامرأته : هل جاءكِ أحدٌ؟
قالت : جاءني شيخ صفته كذا،
كالمستخفة بصفته.
قال : فما قال
لكِ؟
قالت : قال لي أقرئي زوجك مني
السّلام،
وقولي له : فليُغير عتبة بابه.
فطلّقها،
وتزوج أُخرى. فلبث إبراهيم ما
شاء اللّه أن يلبث،
ثمّ استأذن سارة أن يزور
إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل،
وجاء إبراهيم حتّى أتى إلى بيت
إسماعيل.
فقال إبراهيم لامرأته : أين
صاحبك؟
قالت : ذهب يتصيّد وهو يجيء
الآن إنشاء اللّه فأنزل يرحمك اللّه.
قال لها : هل عندك ضيافة؟
قالت : نعم فجاءت باللّبن
واللّحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت أرض اللّه
برّاً وشعيراً وتمراً وقالت له : إنزل حتّى أغسل رأسك فلم ينزل فجاء بالمقام
فوضعته تحت شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه وغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام
إلى شقّه الأيسر فبقى أثر قدمه عليه فغسلت شقّ رأسه الأيسر فقال لها : إذا جاء
زوجك فأقريه السّلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك. فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح
أبيه فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟
قالت : نعم،
شيخ أحسن النّاس شبهاً وأطيبهم
ريحاً فقال لي كذا وقلت له كذا وغلست رأسه وهذا موضع قدميه على المقام فقال لها :
ذلك إبراهيمج.
وقال أنس بن مالك : رأيت في
المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير إنّه أذهبه مسح النّاس بأيديهم.
نافع بن شيبة يقول : سمعت
عبداللّه بن عمر يقول : أشهد ثلاث مرّات أنّي سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(الركن والمقام
ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس اللّه نورهما ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين
المشرق والمغرب).
{عهدنا إلى إبراهيم
وإسماعيل}
أي أمرناهما وأوصينا إليهما.
{أَن طَهِّرَا
بَيْتِىَ} الكعبة
أي إبنياه على الطّهارة والتوحيد.
وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمر
وعطاء ومقاتل : طهّرا بيتي من الأوثان والرّيب وقول الزور،
وسمع عمر رضي اللّه عنه صوت رجل
في المسجد فقال : ما هذا
أتدري أين أنت؟
الأوزاعي عن عهدة بن أبي لبابة
عن زر بن حبيش
قال : سمعت حذيفة
بن اليمان يقول : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه أوحى إليّ يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين إنذر
قومك ألاّ يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقيّة وفروج
طاهرة ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائماً بين
يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الّذي يسمع به وأكون بصره
الّذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيّين والصدّيقين و
الشّهداء والصالحين).
وقال يمان بن رئاب : معناه
بخّراه وخلقاه.
مكحول عن معاذ بن جبل عن رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(جنّبوا مساجدكم غلمانكم يعني صبيانكم ومجانينكم
وسلّ سيوفكم ورفع أصواتكم وحدودكم وخصومكم وبيعكم وشراءكم وحمرّوها يوم جمعتكم
واجعلوا على أبوابها بظاهركم).
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق
وجعفر وأهل المدينة :
(بيتي) بفتح الياء وقرأ الاخرون : باسكانه واضافته تعالى إلى نفسه
سبحانه تخصيصاً وتفضيلاً.
{لِلطَّآئِفِينَ} حوله وهم النزاح إليه من آفاق الأرض.
{وَالْعَاكِفِينَ}
أي المقيمين فيه وهم
سكّان الحرم.
{وَالرُّكَّعِ} جمع الرّاكع.
{السُّجُودِ} جمع الساجد مثل قاعد وقعود.
قال عطاء : إذا كان طائفاً فهو
من الطائفين وإذا كان جالساً فهو من العاكفين وإذا كان مصلّياً فهو من الركّع
السجود.
الاوزاعي عن عطاء بن أبي رباح
عن ابن عبّاس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ في كلّ يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على
هذا البيت فستون للطائفين وأربعون للمصلّين وعشرون للناظرين).
١٢٦
{وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا}
يعني مكّة أو
الحرم.
{بَلَدًا ءَامِنًا}
أي مأموناً فيه يأمن أهله.
{وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ} قال الأخفش : من آمن بدل من أهله على البيان،
كما يُقال : أخذت المال ثلثيه
ورأيت القوم ناساً منهم،
وهذا ابدال البعض من الكلّ كقوله :
{وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سبيلا} .
{قَالَ} اللّه.
{وَمَن
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} فسأرزقه اّلى
منتهى أجله لأنه تعالى وعد الرزق للخلق كافة كافرهم ومؤمنهم وقيد بالقلة لأن متاع
الدنيا قليل. قرأ معاوية وابن عامر : فامتعه بضم الألف وجزم الميم خفيفة،
وقرأ أُبي : فنمتعه قليلاً ثمّ
نضطره بالنون.
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} موصولة الألف مفتوحة الراء على عهد الدُّعاء من إبراهيمج،
وقرأ الباقون : فأُمتعه بضم
الألف مشددّة ثمَّ اضطره على الخبر
أيّ الجنة في الآخرة
{إِلَى
عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
أيّ المرجع
تصير إليه.
١٢٧
{وإذ يرفع إبراهيم
القواعد من البيت وإسماعيل} روى الرواة من
أسانيد مختلفة في بناء الكعبة جمعت حديثهم ونسقته ليكون أحسن في المنطق وأقرب إلى
الفهم.
قالوا : خلق اللّه عزّ وجلّ موضع البيت قبل الأرض بألفي عام،
فكانت زبدة بيضاء على الماء
فدحيت الأرض من تحتها. فلما أهبط اللّه عزّ وجلّ آدم إلى الأرض كان رأسه يمسّ
السّماء حتّى صلع وأورث أولاده الصّلع ونفرت من طوله دواب الأرض فصارت وحشاً من
يومئذ،
وكان يسمع كلام أهل السّماء
ودُعاءهم وتسبيحهم،
يأنس إليهم فهابته الملائكة
واشتكت نفسه. فنقصه اللّه عزّ وجلّ إلى ستين ذراعاً بذراعه. فلمّا فقد آدم ما كان
يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش،
وشكا ذلك إلى اللّه عزّ وجلّ.
فأنزل اللّه ياقوتة من يواقيت الجنّة الكلام مقطوع له بابان من زمرّد أخضر باب
شرقي وباب غربي فأنزل اللّه فيه قناديل من الجنّة. فوضعه على موضع البيت إلى الآن
ثمّ
قال : يا آدم
إنّي أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يُطاف حول عرشي،
وتصلّي عنده كما يُصلّى عند
عرشي.
فأنزل عليه الحجر. فمسح به
دموعه وكان أبيض فلما لمسته الحُيَّض في الجاهلية أسود.
وقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّما الحجر ياقوتة من يواقيت الجنّة ولولا ما
مسه المشركون بأنجاسهم ما مسّهُ ذو عاهة إلاّ شفاه اللّه تعالى).
فتوجه آدم من أرض الهند إلى
مكّة ماشياً وقيّض اللّه له ملكاً يدلّه على البيت.
قيل لمجاهد : يا أبا الحجّاج
ألاّ كان يركب؟
قال : فأي شيء كان يحمله فواللّه إن خطوه مسيرة ثلاثة أيّام وكلّ
موضع وضع عليه قدمه عمران وما تعدّاه مفاوز وقفار فأتى مكّة وحجّ البيت وأقام
المناسك فلمّا فرغ تلقّته الملائكة فقالوا
: برّحجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عبّاس : حجّ آدم أربعين
حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيّام
الطّوفان فرفعه اللّه إلى السّماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون
ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة،
وبعث اللّه جبرائيل حتّى خبّأ
الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة عن الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن
إبراهيمج ثمّ إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيمج بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء
بيت له يعبد ويذكر فيه فلم يدر إبراهيم أين خبّيء فسأل اللّه تعالى أن يبيّن له
موضعه فبعث اللّه إليه السكينه ليدلّه على موضع البيت وهي ريح جموح لها رأسان شبه
الحيّة فتبعها إبراهيم إلى أن أتيا مكّة فطوّق اللّه السكينة على موضع البيت كتطويق
الحيّة الحجفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السّكينة فبناه وهذا قول علي والحسن
بن أبي الحسن،
وقال ابن عبّاس : بعث اللّه
سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلمات إلى أن وافت مكّة ووقفت
على موضع البيت،
ونودي : أنْ يا إبراهيم إبني
على ظلّها لا يزد ولا تنقص فبنى بخيالها.
وقال بعضهم : أرسل اللّه جبرائيل ليدلّه على موضع فذلك
قوله
{وَإِذْ بَوَّأْنَا بْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت،
جعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل
يناوله الحجارة.
قال الثّعلبي : سمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمّد بن محمّد بن أحمد القطان البلخي وكان عالماً
بالقرآن يقول : كان إبراهيم يفهم بالسريانية وإسماعيل بالعربيّة وكلّ واحد منهما
يعرف ما يقول صديقه وما يمكن التفوّه به وكان إبراهيم يقول لإسماعيل : هبلي كنيا
يعني : ناولني
الحجر،
ويقول إسماعيل : هاك الحجر خذه.
قالوا : فبقي موضع الحجر فذهب إسماعيل إليه فجاء جبرئيل بحجر من
السّماء فأتى إسماعيل وقد ركّب إبراهيم الحجر في موضعه فقال له : من آتاك بهذا؟
فقال : آتاني به من لم
يتكّل على بناءك فأقاما البيت فذلك
قوله :
{وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} .
قال ابن عبّاس :
يعني أُصول
البيت الّتي كانت قبل ذلك.
الكلبي وأبو عبيدة : أساسه
واحدته قاعدة فبنياه من خمسة أجبل طور سيناء
(... وطور سينا والجودي) وبنيا قواعده من حرّاء،
فلّما انتهى إبراهيم إلى موضع
الحجر الأسود قال لإسماعيل : جئني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال له :
جئني بحجر أحسن من هذا،
فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو
قبيس يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه.
وقيل : إنّ اللّه تعالى مدّ لإبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك
يعينونهما على بناء البيت فلمّا فرغا من بنائه قالا :
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ}
أي تقبل منّا بناءنا
البيت.
{إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بنيّاتنا.
١٢٨
{رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} موحّدين مطيعين
مخلصين
{لَكَ} .
وقرأ عون بن أبي جميلة : مسلمين
بكسر الميم على الجمع.
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} أولادنا
{أمّة
مسلمة وأرنا} علمنا نظيره
قوله
{لِتَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَ اكَ اللّه}
أي : علّمك اللّه
وفيه أربع قراءات :
عبد اللّه بن مسعود : وأرهم
مناسكهم ردّه إلى الأمّة.
وقرأ عمر بن عبدالعزيز وقتادة
وابن كثير ورويس بسكون الرّاء كل القرآن.
وقرأ أبو عمرو : باختلاس كسره
للواو.
وقرأ الباقون : بكسر الرّاء
والأصل فيها أرانا بالهمز فحذفت استخفافاً.
فمن قرأ بالجزم
قال : ذهبت
الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الرّاء ساكنة على حالها واستدل بقول السدي : أَرْنَا
أداوة عبداللّه نملأها من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئوا.
ومن كسر فأنّه نقل حركة الهمزة
المحذوفة إلى الرّاء.
وأمّا أبو عمرو فطلب الخفّة.
وأخبر القاسم بن سلام عن شجاع
بن أبي نصر قال،
وكان أميناً صدوقاً : إنّه رأى
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) في المنام فذكّره أشياء من حرف أبي عمرو فلم يردّ عليه إلاّ حرفين أحدهما
هذا والأخر : ما ننسخ من آية أو ننسأها مهموزة.
{مَنَاسِكَنَا} شرائع ديننا وإعلام حجّتنا.
وقال مجاهد : مذابحنا والنسك :
الذّبيحة،
وأصل النسك : العبادة يقال
للعابد ناسك
قال الشّاعر :
وقد كنت مستوراً كثير تنسّك
فهتكت أستاري ولم يبق لي نسكاً
فأجاب اللّه دعاءهما وبعث
جبرئيل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال لإبراهيم : عرفت يا
إبراهيم؟
قال : نعم فسمّي الوقت عرفه والموضع عرفات.
{وَتُبْ عَلَيْنَآ} تجاوز عنّا وارجع علينا بالرأفة والرحمة.
{إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ} المتجاوز الرجّاع بالرحمة على عبادك.
{الرَّحِيمُ} .
١٢٩
{رَبَّنَا وَابْعَثْ
فِيهِمْ}
أي في الأمّة المسلمة من ذريّة إبراهيم وإسماعيل.
وقيل : في أهل مكّة
{رَسُولا}
أي مرسلاً وهو فعُول من الرسالة.
وقال ابن الأنباري : يشبه أن
يكون أصله من
قولهم ناقة
مرسال ورسله إذا كانت سهلة السّير ماضية أمام النواق.
ويقال للجماعة المهملة المرسلة
: رسْل وجمعه أرسال.
ويقال : جاء القوم ارسالاً
أيّ : بعضهم في
أثر بعض،
ومنه قيل للّبن رُسلاً لأنّه
يرسل من الضّرع.
{يَتْلُوا} يقرأ
{عَلَيْهِمْ
ءَايَاتِكَ} كتابك جمع
الأية وهي العلامة.
وقيل :
الآية جماعة الحروف.
وقال الشيباني : هي
قولهم : خرج
القوم بمافيهم
أي بجماعتهم.
{وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
فقال بعضهم :
الآية هاهنا
الكتاب فنسّق عليه خلاف اللفظين كقول الحطيئة :
ألا حبّذا هند وأرض بها هند
وهند تفصيل اتى من دونها النّأي
والبعد
مجاهد :
يعني الحكمة فهم
القرآن.
مقاتل : هي مواعظ القرآن وما
فيه من الأحكام وبيان الحلال والحرام.
ابن قتيبة : هي العلم والعمل
ولا يسمّى الرّجل حكيماً حتّى يجمعهما.
وعن أبي بكر محمّد بن الحسن
البريدي : كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة
وحكم،
ومنه قول النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ من الشّعر لحكمة).
وعن أبي جعفر محمّد بن يعقوب :
الحكمة كلّ صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً أو حالاً صحيحاً.
يحيى بن معاذ : الحكمة جند من
جنود اللّه يرسلها إلى قلوب العارفين حتّى يروّح عنها وهج الدّنيا،
وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها،
وقيل : الحكمة والحكم كلّما وجب عليك فعله.
قال الشّاعر :
قد قلت قولاً لم يعنّف قائله
الصمت حكم وقليل فاعله
أي واجب العمل بالصمت.
وقيل : هي الشرك والذّنوب،
وقيل : أخذ زكاة أموالهم.
وقال ابن كيسان : يشهد لهم يوم
القيامة بالعدالة إذا شهدوا الأنبياء بالبلاغ،
دليله
قوله تعالى :
{كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس
ويكون الرسول عليكم شهيدا} .
{إِنَّكَ أَنتَ
الْعَزِيزُ} ابن عبّاس : العزيز الّذي لا يوجد مثله،
بيانه
قوله :
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} .
الكلبي : العزيز المنتقم ممّن
يشاء بيانه
قوله
{وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} .
الكسائي : العزيز الغالب بيانه
قوله
{وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} :
أي غلبني.
وقيل في المثل : من عزيز.
ابن كيسان : العزيز الّذي لا
يعجزه شيء بيانه
قوله :
{وما كان
اللّه ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض}.
المفضَّل بن سلمة : العزيز
المنيع الّذي لا تناله الأيدي فلا يردّ له أمر ولا يغلب فيما أراد بيانه
قوله
{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} .
وقيل : بمعنى المعزّ فعيل بمعنى مفعل بيانه
قوله
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} .
وقيل : هو القوي بيانه
قوله
{فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ}
أي قوّينا. فأصل العزّة في اللّغة الشدّة يقال تعزز لحم النّاقة
إذا إشتدّ ويقال : عزّ عليّ
أي شقّ عليّ وأشتد،
وأنشد أبو عمرو :
أجد إذا ضمرت تعزّز لحمها
وإذا نشد بتسعها لا تيئس
فاستجاب اللّه دعاء إبراهيم
وبعث فيهم محمّداً سيّد الأنبياء ولذلك قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّي عبداللّه في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن
وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى (عليهما
السلام) قومه،
ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج
منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن).
سعيد بن سويد عن العرياض بن
سارية
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في
قوله تعالى :
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ إِلا مَن
سَفِهَ نَفْسَهُ}
الآية.
وذلك إن عبد اللّه بن سلام دعا
إبني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما إنّ اللّه عزّ وجلّ قال
في التوراة : إنّي باعث من ولد إسماعيل نبياً إسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد
ومن لم يؤمن به فهو ملعون،
فأسلم سلمة وأبى مهاجراً أن يسلم
فأنزل اللّه تعالى.
الكسائي : العزيز الغالب بيانه
قوله
{وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ} :
أي غلبني.
وقيل في المثل : من عزيز.
ابن كيسان : العزيز الّذي لا
يعجزه شيء بيانه
قوله :
{وما كان
اللّه ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض}.
المفضَّل بن سلمة : العزيز
المنيع الّذي لا تناله الأيدي فلا يردّ له أمر ولا يغلب فيما أراد بيانه
قوله
{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} .
وقيل : بمعنى المعزّ فعيل بمعنى مفعل بيانه
قوله
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} .
وقيل : هو القوي بيانه
قوله
{فَعَزَّزْنَا
بِثَالِثٍ}
أي قوّينا. فأصل العزّة في اللّغة الشدّة يقال تعزز لحم النّاقة
إذا إشتدّ ويقال : عزّ عليّ
أي شقّ عليّ وأشتد،
وأنشد أبو عمرو :
أجد إذا ضمرت تعزّز لحمها
وإذا نشد بتسعها لا تيئس
فاستجاب اللّه دعاء إبراهيم
وبعث فيهم محمّداً سيّد الأنبياء ولذلك قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّي عبداللّه في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن
وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى (عليهما
السلام) قومه،
ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج
منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن).
سعيد بن سويد عن العرياض بن
سارية
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في
قوله تعالى :
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ إِلا مَن
سَفِهَ نَفْسَهُ}
الآية.
وذلك إن عبد اللّه بن سلام دعا
إبني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما إنّ اللّه عزّ وجلّ قال
في التوراة : إنّي باعث من ولد إسماعيل نبياً إسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد
ومن لم يؤمن به فهو ملعون،
فأسلم سلمة وأبى مهاجراً أن
يسلم فأنزل اللّه تعالى.
١٣٠
{وَمَن يَرْغَبُ عَن
مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ إِلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ}
أي يترك دينه وشريعته.
يقال : رغب في الشيء إذا
أردته ورغبت عنه إذا تركته.
وأصل الرّغبة : رفع الهمّة عن
الشيء وإليه يقال : رغب فلان
في فلان وإليه إذا همّت نفسه إليه،
والأصل فيه الكرة فمعنى
قوله تعالى
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ}
أي يرفع همّته عنها
{إِلا
مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} .
قال ابن عبّاس : حيّر نفسه.
حيّان عن الكلبي : ظلّ من
(جهة) نفسه.
أبو روق : عجَّز رأيه عن نفسه.
يمان : حمق رأيه،
ونفسه منصوب في هذه الأقاويل
بنزع حرف الصّفة.
وقال الفرّاء : نصب على
التفسير،
والأصل : سفهت نفسه فلمّا أضاف
الفعل إلى صاحبها خرجت النفس مفسَّرة ليعلم موضع السفه كما يقال : ضقت به
ذرعاً معناه : ضاق ذرعي به،
ويقال : ألم زيدُ رأسه
ووجع بطنه.
وقال أبو عبيدة : سفه نفسه :
أي أوبق نفسه
وأهلكها.
هشام وابن كيسان : جهل نفسه.
وحكى المفضّل بن سلمة عن بعضهم
سفه. حقّر نفسه.
والنفس على هذه الأقوال نصب
لوقوع الفعل عليه وهذا كما جاء في الخبر :
(من عرف نفسه فقد عرف ربّه).
وأصل السفه والسفاهة : الخفّة
والجهل وضعف الرأي يقال سفه يسفه وسفه يسفه.
{وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ} اخترناه
{فِى الدُّنْيَا} وأصل الطاء فيه تاء حوّلت طاء لقرب مخرجيها ولتطوع اللسان به.
{وَإِنَّهُ فى الآخرة
لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الفائزين. قال
الزجّاج وقال ابن عبّاس :
يعني مع آبائه الأنبياء في الجنّة بيانه
قوله : خطابه عن يوسف
{تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى
بِالصَّالِحِينَ} .
وقال الحسين بن الفضل : في
الآية تقديم
وتأخير تقديرها لقد إصطفيناه في الدنياّ والأخرة بأنّه لمن الصالحين نظيرها في
سورة النحل.
١٣١
{إِذْ قَالَ لَهُ
رَبُّهُ أَسْلِمْ}
أي استقم على الإسلام
أو اثبت عليه لأنّه كان مُسلماً
كقوله
تعالى
{فَاعْلَمْ
أَنَّهُ اله إِلا اللّه}
أي أثبت على علمك.
وقال ابن عبّاس : إنّما قال له
ذلك حين ألُقي في النّار،
وعن ابن كيسان : أخلص دينك للّه
بالتوحيد.
عطاء : أسلم نفسك إلى اللّه،
وفوّض أمورك للّه،
وقيل : إخضع وإخشع.
{قَالَ أَسْلَمْتُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
١٣٢
{وَوَصَّى} في مصحف عبد اللّه : فوّصى،
وقال أهل المدينة والشام :
وأوصى بالألف،
وكذلك هو في مصاحفهم.
قال أبو عبيد : وكذلك رأيت في
مصحف عثمان،
وقرأ الباقون
(ووصّى) مشدداً،
وهما لغتان،
يُقال : أوصيته قد وصيته
به إذا أمرته به مثل : أنزل ونزّل.
قال
اللّه
{فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} ،
وتصديق الأيصاء
قوله
{يُوصِيكُمُ اللّه} ،
وقوله
{يُوصِينَ} ،
ودليل التوصية
قوله
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} ،
وقوله
{فلا
يستطيعون تَوْصِيَةً} .
الكلبي ومقاتل :
يعني كلمة
الأحاد لا إله إلاّ اللّه،
وقال أبو عبيدة : إن شئت رددت
الكناية إلى الملّة لأنّه ذكر ملّة إبراهيم وأن شئت رددتها إلى الوصية.
وقال المفضل : بالطاعة كناية عن
غير مذكور،
كقوله
{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ،
وقال طرفة :
على مثلها الحواء إذا قال صاحبي
ألا ليتني أفديك عنها وافتدي
أي من الفلاة.
{بِهَآ إِبْرَاهِمُ
بَنِيهِ} التمنية : إسماعيل وأمّه هاجر القبطية،
وإسحاق وأمّه سارة،
ومدين و
(... سراين) ونقشان،
وآتون،
ويشبق،
وشوخ،
وأمّهم جميعاً قطورا بنت يقطن
الكنعانية تزوّجها إبراهيم بعد وفاة سارة.
وقوله تعالى
{وَيَعْقُوبَ} وسُمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدّم عيص في الخروج من
بطن أمّه وخرج يعقوب على أثره فأخذ يعقبه. قاله ابن عبّاس وقد مضت القصّة.
وقيل : سُمّي يعقوب لكثرة عقبه،
وعن صفوان بن سليم عن أنس بن
مالك
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(بُعثت على أثر ثمانية الآف نبيّ أربعة آلاف من
بني إسرائيل).
ومعنى
الآية : ووصى بها أيضاً،
ويعقوب : بنيه الأثني عشر وهم
روفيل أكبر ولده وشمعون ولاوي وهودا وفريالون وسجر ودان ومفتالي وجاد واشرب ويوسف
وابن يافين.
{يا بني} معناه أن يا بنيّ،
وكذلك في قراءة أُبي وابن
مسعود،
وقال الفراء : إنّما قال ذلك
لأنّ الوصية قول وكان تقديره وقال : يا بنيّ كقوله
{وَعَدَ
اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ
عَظِيمٌ}
أي وقال لهم لأنّ العبرة بالقول وقال
{يُوصِيكُمُ اللّه فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ} معناه ويقول للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال الشاعر :
إنّي سأبدي لك فيما أُبدي
من شجنان شجن نجد وشجن لي ببلاد
الهند
أي وأقول لأنّ الابداء في المعنى كالقول باللسان.
وحكى ابن مجاهد عن بعضهم ويعقوب
أيضاً نسقاً على بنيه لأنه في جملة الموصّين.
{إِنَّ اللّه
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} اختار لكم
الإسلام.
{فَلا تَمُوتُنَّ
إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} مؤمنون
وقيل : مخلصون
وقيل : مفوضون
وعن الفضيل ابن عياض في
قوله :
{فَلا
تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}
أي محسنون بربّكم
الظن.
١٣٣
{أَمْ كُنتُمْ
شُهَدَآءَ} حضوراً.
{إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}
الآية نزلت في اليهود
حين قالوا للنبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم) ألست تعلم إنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟
وعلى هذا القول
(......) بن الخطاب لليهود.
وقال الكلبي : لمّا دخل يعقوب
مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيّران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك.
{إِذْ قَالَ
لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى} قال عطاء :
إنّ اللّه لم يقبض نبيّاً حتّى يخيّره بين الموت والحياة فلمّا خيّر يعقوب
قال : أنظرني
حتّى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل اللّه ذلك به،
فجمع ولده وولد ولده وقال لهم :
قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟
أي من بعد موتي.
{قَالُوا نَعْبُدُ
الهكَ وَاله ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِمَ}
الآية،
وقرأ أُبي : إلهك وإله إبراهيم
وإسماعيل.
وقرأ يحيى بن يعمر الجحدري :
وإله أبيك على الواحد،
قالوا : لأنّ إسماعيل عم يعقوب لا أبوه.
وقرأ العامّة : آبائك على الجمع
وقالوا : عم الرّجل
صنو أبيه.
قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(هذا بقية آبائي)،
وقال أيضاً :
(ردّوا عليّ أبي فإني أخشى أن يفعل به قريش ما
فعلت ثقيف بعروة بن مسعود).
يعني العبّاس.
والعرب تسمّي العمّ أباً وتسمّي
الخالة أمّاً
قال اللّه تعالى
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}
يعني يعقوب وليّا وهي خالة يوسف.
{الها وَاحِدًا}
أي نعرفه ونعبده إلهاً واحداً.
{وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ}
١٣٤
{تِلْكَ أُمَّةٌ} جماعة
{قَدْ
خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الدين والعمل.
{وَلَكُم مَّا
كَسَبْتُمْ} منها.
{وَلا تُسْئلُونَ
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وإنّما تسألون عمّا
تعملون أنتم.
١٣٥
{وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} قال ابن عبّاس :
نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن المصيف ووهب بن يهودا وأبي
ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران : السيّد والعاقب وأصحابهما وذلك إنّهم خاصموا
المسلمين في الدين كلّ فرقة تزعم إنّها أحقّ بدين اللّه من غيرها فقالت اليهود
ديننا خير الأديان ونبيّناً موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وكفرت
بعيسى والأنجيل ومحمّد والقرآن.
وقالت النصارى : نبينّا عيسى
أفضل الأنبياء وكتابنا الأنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمّد
والقرآن،
وقال كل واحد من الفريقين
للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية. فقال اللّه تعالى : قل يا محمّد
{بَلْ
مِلَّةَ}
أي بل نتبع ملّة
{إِبْرَاهِمَ} وقرأ الأعرج :
(بل
ملّ)ة رفعاً على الخبر.
{حَنِيفًا} نصب على القطع. أراد بل ملّة إبراهيم الحنيف فلمّا اُسقطت
الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة. فانقطع منه فنصب قاله نُحاة الكوفة،
وقال أهل البصرة : نصب على
الحال قال ابن عبّاس : الحنيف : المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام،
وأصلها من الحنف وهو ميل وعوج
في القدم ومنه سُمّي أحنف بن قيس.
مقاتل : مُخلصاً.
كثير بن زياد
قال : سألت الحسن
عن الحنيفية فقال : هي حج هذا
البيت.
الضحاك : إذا كان مع الحنيف
المسلم فهو الحاج،
وإذا لم يكن فهو المسلم.
قتادة : من الحنيفية الختان،
وترك نكاح الأخت.
{وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} علم المسلمين مجرى التوحيد
وطريق الأيمان.
١٣٦
فقال
{قُولُوا ءَامَنَّا بِاللّه وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا}
يعني القرآن
{وَمَآ أُنزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِمَ} وهو عشر صحف.
{وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاسْبَاطَ}
يعني أولاد
يعقوب واحدهم سبط. سمّوا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة من النّاس وسبط الرّجل
حافده،
ومنه قيل للحسن والحسين
(عليهما السلام) سبطا رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) والأسباط من بني إسرائيل
كالقبائل من العرب،
والشعوب من العجم.
وعن أبي سعيد الضرير : إنّ أصل
السّبط في اللغة شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فُسمّي الأسباط بها لكثرتهم. فكما إنّ
الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب،
وكان في الأسباط أنبياء،
وكذلك قال
{وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ}
وقيل : هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلّهم أنبياء.
{وَمَآ أُوتِىَ
مُوسَى}
يعني التوراة.
{وَعِيسَى} الانجيل.
{وَمَآ
أُوتِيَ} أُعطي.
{النَّبِيُّونَ مِن
رَّبِّهِمْ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
{وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ} فلمّا نزلت هذه
الآية قرأها رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) على اليهود والنصارى وقال :
(إنّ اللّه أمرني بهذا) فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا به وكفرت النصارى وقالوا : لأنّ عيسى
ليس بمنزلة سائر الأنبياء ولكنّه ابن اللّه
١٣٧
فأنزل اللّه تعالى
{فَإِنْ ءَامَنُوا}
يعني اليهود
النصارى.
{بِمِثْلِ مَآ
ءَامَنتُم بِهِ}
أي بجميع ما آمنتم
كإيمانكم،
وقيل مثل صلة
أي بما آمنتم به،
وهكذا كان يقرأها ابن عبّاس
ويقول : إقرؤا
(فإن آمنوا بما آمنتم به) فليس للّه مثل ونظيره
قوله : و{لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} :
أي كهو.
قال الشاعر :
يا عاذلي دعني من عذلكا
مثلي لا يقبل من مثلكا
أي أنا لا أقبل منك.
{فَقَدِ اهْتَدَوا
وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ} قال ابن عبّاس وعطاء والأخفش : في خلاف يقال : شاقّ يشاقّ مشاقّة
إذا خالف كانّ كل واحد أخذ في شقّ غير شقّ صاحبه دليله
قوله
{يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى}
أي خلافي وأُنشد :
فكان إليها والّذي إصطاد بكرها
شقاقاً وبعضهن أو لطم وأهجرا
وقال ابن سلمة والسّدي : في
عداوة كان كلّ واحد منهما أخذ في شقّ صاحبه
أي في جهده وما يشق
عليه من
قوله
{إِلا بِشِقِّ انفُسِ} دليله
قوله :
{ ذلك
بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللّه وَرَسُولَهُ}
أي عادوا اللّه
ورسوله.
قال بشر بن أبي حازم :
وإلاّ فاعلموا انّا وأنتم
بغاة ما حيينا في شقاق
أي في عداوة.
مقاتل وابو عبيدة : في ضلال
واختلاف بيانه
قوله
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}
أي اختلاف بينهما.
قال الشاعر :
إلى كم نقتل العلماء قسراً
ونفجر بالشّقاق وبالنفاق
أي بالضلال والاختلاف.
الكسائي : هي خلع الطّاعة بيانه
قوله
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} .
الحسن : في بعاد وفراق إلى يوم
القيامة.
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللّه} يا محمّد
يعني اليهود والنصارى.
{وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالهم.
{الْعَلِيمُ} بأحوالهم وكفاهم اللّه تعالى أمرهم بالقتل والسبّي في بني
قريظة والجلاء والنفي في بني النضير والجزية والذلّة في نصارى نجران.
١٣٨
{صِبْغَةَ اللّه} قال أبو العالية : دين اللّه.
مجاهد : الإسلام.
ابن عبّاس : هي إنّ النّصارى
كانوا إذا ولد لأحدهم ولد،
وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في
ماء لهم يُقال له : المعبودي وصبغوه به؛ ليطهّروه بذلك مكان الختان،
وإذا فعلوا ذلك به
قالوا : الآن صار
نصرانياً حقاً. فأخبر اللّه تعالى : إنّ دينه الإسلام لا ما يفعل النصارى.
ابن كيسان : صبغة اللّه : وجهة
اللّه
يعني القبلة.
قال : ويُقال : حُجة اللّه
التي احتج بها على عباده.
أبو عبيدة والزجاج : خلقة اللّه
من صبغت الثوب إذا غيّرت لونه وخلّقته. فيكون المعنى : إنّ اللّه أبتدأ الخلقة على
الإسلام،
دليلهُ قول مقاتل في هذه
الآية
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ
اللّه} .
أي دين اللّه.
ويوضحه ما روى همام بن منبه عن
أبي هريرة عن النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(ما من
مولود إلاّ وهو على هذه الفطرة. فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه،
كما تولد البهيمة
(بهيمة جمعاء) فهل تجدون فيها من جدعاً حتّى تكون الأم تجدعونها).
قالوا : يا رسول
اللّه أفرأيت من يموت وهو صغير؟
قال :
(اللّه
أعلم بما كانوا عاملين).
أبو عبيدة : سنّة اللّه،
وقيل : هو الختان لأنّه يصبغ صاحبه بالدم،
وفي الخبر : الختان سنّة للرجال
مكرمة للنساء،
وهي نصب على الاغراء تقديره :
اتبعوا وألزموا صبغة اللّه.
وقال الأخفش : هي بدل من
قوله
{مِّلَّةِ إِبْرَاهِمَ} .
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللّه صِبْغَةً} ديناً.
{وَنَحْنُ لَهُ
عَابِدُونَ} مطيعون.
١٣٩
{قُلْ} يا محمّد لليهود والنصارى :
{أَتُحَآجُّونَنَا} أتجادلوننا
وتخاصمونا،
وقرأ الأعمش.
والحسن وابن محيصن : بنون واحدة
مشدّدة.
وقرأ الباقون : بنونين خفيفتين
إتباعاً للخط.
{فِى اللّه} في دين اللّه وذلك بأن
قالوا : يا محمّد إنّ
الأنبياء كانوا منّا وعلى ديننا.
{وَهُوَ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} مقاتل والكلبي : لنّا ديننا ولكم دينكم.
{وَنَحْنُ لَهُ
مُخْلِصُونَ} موحدون،
وهذه
الآية منسوخة بآية
السّيف.
فصل في معنى الإخلاص
سُئل الحسن عن الاخلاص ما هو؟
فقال : سألت حُذيفة عن
الإخلاص ما هو؟
فقال : سألت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن الإخلاص ما هو؟
قال :
(سألت
ربّ العزة عن الإخلاص ما هو؟)
قال :
(سرٌ من
أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي).
وعن أبي أدريس الخولائي
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ لكلّ حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص
حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل اللّه).
وقال سعيد بن جبير : الاخلاص أن
يخلص العبد دينه وعمله للّه ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحداً.
محمّد بن عبد ربّه
قال : سمعت
الفضيل يقول : ترك العمل من أجل النّاس رياءً والعمل من أجل النّاس شرك والإخلاص
أن يعافيك اللّه منهما.
وقال يحيى بن معاذ : الإخلاص
تميّز العمل من العيوب كتميّز اللبن من بين الفرث والدم. أبو الحسن البوشجي : هو
ما لا يكتبه الملكان ولا يفسده الشيطان ولا يطّلع عليه الإنسان.
رؤيم : هو ارتفاع رؤيتك من
الظّل.
وقيل : ما يرى
به الحق ويقصد به الصدق.وقيل : ما لا يشوبه الآفات ولا تتبعه رخص التأويلات.
وقيل : ما استتر من الخلائق واستصفى من العلائق.
حذيفة
(الاخلاص) : هو أن تستوي
أفعال العبد في الظاهر والباطن.
أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم
حسناته كما يكتم سيئاته.
سهل بن عبد اللّه : ألاّ
يُرائي.
عن أحمد بن أبي الجماري
قال : سمعت أبا
سليمان يقول : للمُرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده،
وينشط إذا كان في النّاس،
ويزيد في العمل إذا أُثني عليه.
١٤٠
{أَمْ تَقُولُونَ} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص : بالتاء واختاره أبو
عبيد،
وقرأ الباقون بالياء،
واختاره أبو حاتم. فمن قرأ
بالتاء فاللمخاطبة التي قبلها
{قُلْ
أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللّه} والتي بعدها
{قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّه} ومن قرأ بالياء فهو أخبار عن اليهود والنّصارى.
{إِنَّ إِبْرَاهِمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}
قال
اللّه :
{قُلْ} يا محمّد.
{ءَأَنتُمْ
أَعْلَمُ} بدينهم.
{أَمِ اللّه} وقد أخبرني اللّه إنّه لم يكن يهوديّاً ولا نصرانيّاً ولكن
كان حنيفاً مسلماً.
{وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّن كَتَمَ} أخفى.
{شهادة من عند اللّه} وهو علمهم إنّ إبراهيم وبنيّه كانوا مسلمين،
وأن محمّداً
(صلى اللّه عليه وسلم) حق ورسول.
١٤١
{وَمَا اللّه
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ}
الآية.
١٤٢
{سَيَقُولُ
السُّفَهَآءُ} الجهال.
{مِنَ النَّاسِ مَا
وَلَّاهُمْ} صرفهم وحوّلهم.
{عَن قِبْلَتِهِمُ
الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا} من بيت المقدس.
نزلت في اليهود ومشركي العرب بمكّة ومنافقي المدينة طعنوا في تحويل القبلة وقال
مشركوا مكّة : قد تردّد على محمّد أمره واشتاق إلى مولده ومولد آباءه قد توجّه نحو
قبلتكم وهو راجع إلى دينكم عاجلاً.
قال اللّه
{قُل
للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} ملكاً والخلق
عبيدهُ يحولهم كيف شاء.
{يَهْدِى مَن يَشَآءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
{وَ كذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عدلاً خياراً. تقول العرب : إنزل وسط الوادي :
أي تخيّر موضعاً فيه،
ويُقال لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) هو وسط قريش نسباً
أي خيرهم :
قال
اللّه تعالى و{قَالَ
أَوْسَطُهُمْ} ،
أي أخيرهم وأعدلهم،
وأصله هو أنّ خير الأشياء
أوسطها. قال زهير :
هم وسط ترضى الأنام لحكمهم
إذا نزلت احدى الليالي بمعظم
وقال الكلبي :
يعني متوسطة أهل
دين وسط بين الغلو والتقصير لأنّهما مذمومان في الدّين. قال ثعلب : يُقال : جلس وسط
القوم ووسط الدّار،
وكذلك فيما يُحتمل البينونة
(واحتمل وسطاً له) بالفتح وكذلك فيما لا يحتمل البينونة.
نزلت هذه
الآية في مرحب
وربيع وأصحابهما من رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل : ما ترك محمّد قبلتنا إلاّ
حسدا،
وإنّ قبلتنا قبلة الأنبياء،
ولقد علم محمّد إنّا عدل بين
النّاس. فقال معاذ : إنّا على حق وعدل.
١٤٣
فأنزل اللّه
{وَ كذلك }
أي وهكذا،
وقيل الكاف فيه للتشبيه تقديره : وكما اخترنا إبراهيم وذريته
واصطفيناهم كذلك جعلناكم أُمّة وسطاً. مردودة على
قوله
{وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}
الآية.
{لِّتَكُونُوا
شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} يوم القيامة أنّ
الرُّسل قد أبلغتهم.
{وَيَكُونَ
الرَّسُولُ} محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم)
{عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدلاً مزكيّاً لكم؛ وذلك إنّ اللّه تعالى جمع الأولين والآخرين في صعيد
واحد يُسمعهم الدّاعي،
وينقذهم البصر ثمّ يقول كفّار
الأُمم. ألم يأتكم نذير فتشكرون،
ويقولون : ما جاءنا من نذير.
فيُسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون
: قد كذّبوا،
قد بلغناهم وأُعذرنا إليهم :
فيسألهم البينّة،
وهو أعلم بأقامة الحجة. فيُوتى
بأمّة محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) فيشهدون لهم. إنّهم قد بلغوا فتقول الأُمم الماضية : من أين علموا بذلك
وبيننا وبينهم مدة مريدة؟
فيقولون : علمنا ذلك باخبار
اللّه أيانا في كتابه الناطق على لسان رسوله الصادق. فيؤتى محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) فيسأل عن حال أُمّته. فيزكّيهم ويشهد لصدقهم.
{وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ}
يعني التحويل عن
القبلة الّتي كنت عليها وهي بيت المقدس.
وقيل : معناه القبلة الّتي أنت عليها
أي الكعبة كقوله
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}
أي أنتم.
{إِلا لِنَعْلَمَ} لنرى ونميّز
{مَن
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في القبله.
{مِمَّن يَنقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ} فيرتد ويرجع إلى قبلته الأولى
هذا قول المفسرين وقال أهل المعاني : معناه إلاّ لعلمنا مَن يتبع الرسول ممّن
ينقلب على عقبيه كأنّه سبق ذلك في علمه إنّ تحويل القبلة سبب هداية قوم وضلالة
أخرين،
وقد تضع العرب لفظ الاستقبال
موضع المضي كقوله :
{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه مِن قَبْلُ}
أي قتلتم.
وأنزل بعض أهل اللّغة : للعلم
منزلتين : علماً بالشيء قبل وجوده وعلماً به بعد وجوده والحكم للعلم الموجود لأنّه
يوجب الثواب والعقاب فمعنى
قوله
{لِنَعْلَمَ}
أي لنعلم العلم الّذي يستحقّ به العامل الثّواب والعقاب وهذا
على معنى التقدير كرجل قال لصاحبه : النّار تحرق الحطب،
وقال الأخر : لا، فردّ عليه.
هات النّار والحطب،
ليعلم إنّها تحرقه
أي ليتقرر علم ذلك
عندك.
وقوله : لنعلم تقديره ليتقرّر علمنا عندكم،
وقيل معناه : ليعلم محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) فأضاف علمه ج إلى نفسه سبحانه تخصيصاً وتفصيلاً كقوله :
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه}
وقوله
{فَلَمَّآ
ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا} ونحوهما
{وَإِن كَانَتْ} وقد كانت توليه القبلة وتحويلها فأنّث الفعل لتأنيث الإسم كقولهم : ذهبت
بعض أصابعه
وقيل : هذه
الكناية راجعة إلى القبلة بعينها أراد وان كانت الكعبة.
{لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة شديدة.
{إِلا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه}
أي هداهم اللّه وقال
سيبويه :
(وانّ) تأكيد منه
باليمين ولذلك دخلت اللاّم في جوابها.
{وَمَا كَانَ اللّه
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وذلك إنّ يحيى بن
أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس أكانت
هدىً أم ضلاله؟
فإن كانت هدىً فقد تحولتم عنها
وان كانت ضلالة لقد دنتم اللّه بها فإن من مات منكم عليها لقد مات على الضلالة.
قال المسلمون : إنّما الهدى ما أمر اللّه تعالى به والضلالة ما نهى اللّه عنه.
قالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟
وكان مات قبل أن تحوّل القبلة؟
أسعد بن زرارة من بني النجّار
والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ومات رجال آخرون. فانطلقت عشائرهم
إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : يا رسول
اللّه قد صرفك اللّه إلى قبلة إبراهيم فكيف إخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى
بيت المقدس فأنزل اللّه تعالى :
{وَمَا
كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
أي صلاتكم إلى بيت
المقدس.
{إن اللّه بالنّاس
لرؤوف رحيم} وفي رؤوف ثلاث قراءات : مهموز مثقّل وهي قراءة نافع وابن
عامر وحفص واختيار أبو حاتم
قال : لأنّ أكثر أسماء اللّه على فعول وفعيل.
قال الشاعر :
نطيع رسولنا ونطيع ربّاً
هو الرّحمن كان بنا رؤوفا
وروف غير مهموز مثقّل قراءة أبي
جعفر.
ورؤف مهموز مخفف وهي قراءة
الباقين واختيار أبي عبيد.
قال جرير :
ترى للمسلمين عليك حقّاً
كفعل الوالد الرؤف الرّحيم
فالرأفة أشدّ الرحمة.
١٤٤
{قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} إنّ أوّل
ما نسخ من أمور الشرّع أمر القبلة وذلك إنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه كانوا يصلّون بمكّة إلى الكعبة فلمّا هاجر النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى المدينة وقدمها لليلتين خليا من شهر ربيع الأوّل أمره تعالى أن يصلّي
نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع
مايجدون من نعته في التوراة هذا قول عامّة المفسّرين.
وقال عبد الرحمن بن زيد :
قال اللّه لنبيه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
{فَأَيْنَمَا
تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(هؤلاء يهود يستقبلون بيتاً من بيوت اللّه،
فلو (أنّا) استقبلناه) فاستقبله النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) قالوا جميعاً : فصلّى النبيّ وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً
وكانت الأنصار قد صلّت إلى بيت المقدّس سنتين قبل قدوم النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) .
وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
واختلفوا في السبب الّذي كان
(صلى اللّه عليه وسلم) يكره من أجله قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة.
فقال ابن عبّاس : لأنّها كانت
قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
مجاهد : من أجل أنّ اليهود
قالوا : يخالفنا
محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا.
مقاتل بن حيّان : لمّا أمر رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أن يصلّي نحو بيت المقدس قالت اليهود : زعّم محمّد أنّه نبي وما يراه أحد
إلاّ في ديننا،
أليس يصلّي إلى قبلتنا ويستنّ
بسنّتنا فإن كانت هذه نبوّة فنحن أقدم وأوفر نصيباً فبلغ ذلك رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فشقّ عليه وزاده شوقاً إلى الكعبة.
ابن زيد : لمّا استقبل النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) بيت المقدس بلغه أنّ اليهود تقول : واللّه ما ندري محمّد وأصحابه أين
قبلتهم حتّى هديناهم.
قالوا جميعاً فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لجبرئيل :
(وددت أنّ اللّه
صرفني من قبلة اليهود إلى غيرها فإنّي أبغضهم وأبغض توافقهم). فقال جبرئيل : إنما أنا عبد مثلك ليس إليَّ من الأمر شيئاً
فاسأل ربّك؟
فعرج جبرئيل وجعل رسول اللّه
يديم النظر إلى السّماء رجاءَ أنْ ينزل عليه جبرئيل بما يجيء من أمر القبلة.
{قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} تحوّل
وتصرف وجهك يا محمّد في السّماء.
{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنحوّلنّك ولنصرفنّك.
{قِبْلَةً
تَرْضَاهَا} تحبّها وترضاها.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
أي نحوه وقصده.
قال الشاعر :
واطعن بالقوم شطر الملوك
حتّى إذا خفق المخدج
أي : نحوهم وهو نصب على الظرف.
والمسجد الحرام : المحرّم
كالكتاب بمعنى المكتوب والحساب بمعنى المحسوب.
{وَحَيْثُ مَا
كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} في برَ أو بحر أو
سهل أو جبل شرق أو غرب
{فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فحوّل القبلة في
رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين.
مجاهد وغيره : نزلت هذه
الآية ورسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في مسجد بني سلمة،
وقد صلّى بأصحابه ركعتين من
صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب،
وحوّل الرّجال مكان النساء
والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
قال ابن عبّاس : البيت كلّه
قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم
قبلة أهل الأرض كلّها فلمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود : يا محمّد ما
أمرت بهذا يعنون القبلة وما هو إلاّ شيء تبتدعه من تلقاء نفسك.
قتادة : فصلّى إلى بيت المقدس
وتارة يصلّي إلى الكعبة ولو ثبتّ على قبلتنا لكنّا نرجوا أن تكون صاحبنا الّذي
ننتظره ورأيناكم تطوفون بالكعبة وهي حجارة مبنية فأنزل اللّه :
١٤٥
{وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ}
يعني أمر الكعبة
الحقّ.
{مِن رَّبِّهِمْ} وإنّها قبلة إبراهيم ثمّ هددهم فقال :
{وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
(قرأ
ابو جعفر وابن... والكسائي بالتاء وقال بريد : إنكم يا معشر... تطلبون وصالي
وما... عن ثوابكم وجوابكم. وقرأ الباقون... يعني ما اللّه بغافل عما يعمل اليهود
فأجازيهم في الدنيا والاخرة)
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}
يعني يهود المدينة،
ونصارى نجران. قالوا للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) آتنا بآية كما أتى بها الأنبياء قبلك،
فأنزل اللّه تعالى
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .
{بِكُلِّ ءَايَةٍ
مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}
يعني الكعبة،
وقال الأخفش،
والزّجاج : أجيئت لئن بما
لأنّها بمعنى لو،
وقيل : إنّها أجيبت بما لما فيه من معنى اليمين كأنّه
قال : واللّه لئن
أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكل آية إلى
{وَمَآ
أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ؛ لأن اليهود
تستقبل بيت المقدس،
والنّصارى تستقبل المشرق.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَآءَهُم} مرادهم في أمر القبلة.
{مِّن بَعْدِ مَا
جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} إنّها حقّ وإنّها
قبلة إبراهيم.
{إِنَّكَ إِذًا
لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} الجاحدين الضارين
أنفسهم.
١٤٦
{الَّذِينَ
ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}
يعني مؤمني أهل
الكتاب عبداللّه بن سلام وأصحابه.
{يَعْرِفُونَهُ}
يعني محمّداً
{كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} من بين النصارى.
الكلبي عن الربيع عن ابن عبّاس
قال : لمّا قدم
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) المدينة قال عمر لعبد اللّه ابن سلام : لقد أُنزل اللّه على نبيّه
{الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} فكيف يا عبداللّه هذه المعرفة؟
فقال عبد اللّه بن سلام : يا
عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب،
وأنا أشدّ معرفةً بمحمّد منّي
لابني،
فقال عمر : وكيف ذاك؟
فقال : أشهد إنّه رسول
حقّ من اللّه،
وقد نعته اللّه في كتابنا وما
أدري ما تصنع النساء،
فقال له عمر : وفقك اللّه يا بن
سلام فقد صدقت وأصبت.
{وَإِنَّ
فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ}
يعني صفة محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) وأمر الكعبة.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
١٤٧
ثمّ قال
{الْحَقِّ}
أي هذا الحقّ خبر
ابتداء مضمر.
وقيل : رفع باضمار فعل
أي جاءك الحقّ كما قال
{وَجَآءَكَ فِى هذه الْحَقُّ} وقرأ علي ابن أبي طالب كرّم اللّه وجهه
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} نصباً على الأغراء.
{فَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ} الشاكيّن مفتعل من المرية
والخطاب في هذه
الآية : وفي ما قبلها للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) والمراد به غيره وكلّ ما ورد عليك من هذا النحو فهو سبيله.
١٤٨
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ}
أي ولكلّ أهل ملّة قبلة.
{هُوَ مُوَلِّيهَا} مستقبلها ومقبل إليها يُقال : ولّيته،
وولّيت إليه إذا أقبلت إليه
وولّيت عنه إذا أدبرت عنه.
وأصل التولية : الإنصراف،
وقرأ ابن عبّاس وابن عامر وأبو
رجاء وسليمان بن عبدالملك : هو مولاها :
أي مصروف إليها.
وفي حرف أُبي : ولكّ قبلة هو
مولّيها،
وفي حرف عبداللّه : ولكلّ جعلنا
قبلة هو موليها.
{فَاسْتَبِقُوا
الْخَيْرَاتِ} وبادروا فعل الخيرات،
ومجازه فاستبقوا إلى الخيرات :
أي يسبق بعضكم بعضاً؛
فحذف حرف الخبر. كقول الشاعر :
وهو الداعي
(......) عليكم بالحرب
ومن يمل سواكم فإني منه غير
مائلِ
اراد من يمل إلى سواكم.
{أَيْنَ مَا
تَكُونُوا} يريد أهل الكتاب.
{يَأْتِ بِكُمُ اللّه
جَمِيعًا} يوم القيامة؛ فيجزيكم بأعمالكم.
{إِنَّ اللّه عَلَى
كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}
١٤٩-١٥٠
{وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ} حيث حرف بدل على الموضع،
وفيه ثلاث لغات : بالياء وحرف
الثاء وهي لغة قريش،
وقراءة العامّة،
واختلفوا في وضع رفعها فقيل :
هو مبني على الضم مثل : منذ وقط،
وقيل : رفع على الغاية كقوله
{للّه الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} .
وحيث : بالياء ونصب الثاء وهي
قراءة عبيد بن عمير.
قال الكسائي : إنّما نُصب بسبب
الياء لأنّها ساكنة وإذا اجتمع ساكنان في حرف حركوا الثاني إلى الفتح؛ لأنّه أخف
الحركات مثل : ليت وكيف.
وحوثُ : بالواو والضم وهي لغة
ابن عمر.
يروى إنّهُ سئل أين يضع المصلّى
يده في الصلاة،
فقال : ارم بهما حوثُ
وقعتا.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} إلى
{وَحَيْثُ
مَا كُنتُمْ} أيّها المؤمنون.
{فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} هي لام كي دخلت على أن فكتبت بالكسرة ما قبلها،
وترك بعضهم همزها تخفيفاً،
والحجة فعلة من الحج وهو الفصل،
ومنه المحجة وهي الطريق الواضح
المسلوك؛ لأنّه مقصود،
ويُقال : للمخاصمة محاجة
لقصد كلّ واحد من الخصمين إلى إقامة بينته،
وإبطال ما في يد صاحبه.
واختلفوا في تأويل هذه
الآية ووجه
قوله
{إِلا} فقال بعض
أهل التأويل : ومعنى
الآية حوّلت القبلة إلى الكعبة لئلاّ يكون للنّاس عليكم حجّة إذا
صلّيتم إليها فيحتجّون عليكم ويقولون : لم تركتم التوجه إلى الكعبة وتوجهتم إلى
غيرها لولا إنّه ليست لكم قبلة؟
{إِلا الَّذِينَ
ظَلَمُوا} وهم قريش واليهود وأمّا قريش فتقول إنّما رجع إلى الكعبة
لأنّه عليم أنّها قبلة آبائه وهي الحقّ وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنّه الحقّ،
وأمّا اليهود فإنّهم يقولون لم
ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنّه حق إلاّ إنّه إنّما يفعل برأيه فيزعم إنّه أَمر
به،
وهذا القول اختيار المفضّل بن
سلمة الضبي وهو قول صحيح مرضي.
وقال قوم : معنى
الآية
{لِئَلا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ}
يعني لأهل
الكتاب عليكم حجّة وكانت حجّتهم على رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه في صلاتهم نحو بيت المقدّس إنّهم كانوا يقولون : ما درى محمّد
وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم نحن،
وقولهم : يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا فهذه الحُجّة التي
كانوا يحتجوّن بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتموية بها على الجّهال من
المشركين ثمّ قال
{إِلا الَّذِينَ
ظَلَمُوا} وهم مشركوا مكّة وحجّتهم إنّهم
قالوا : لمّا صرفت القبلة
إلى الكعبة أنّ محمّداً قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلاً
منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا،
وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة
والربيع والسّدي واختيار محمد بن جرير.
وعلى هذين القولين إلاّ استثناء
صحيح على وجه نحو قولك : ما سافر أحد من النّاس إلاّ أخوك فهو إثبات للأخ من
السفر،
وما هو منفي عن كلّ أحد من
النّاس،
وكذلك
قوله تعالى
{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا
الَّذِينَ ظَلَمُوا} من قريش نفي عن أن يكون لأحد
حجة قبل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) وأصحابه بسبب تحولهم إلى الكعبة
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا.
ومعنى الحجة في هذين القولين :
الخصومة والجدل،
والدعوى بالباطل كقوله
{حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} :
أي لا خصومة،
وقوله
{أَتُحَآجُّونَنَا
فِى اللّه} وليحاجوكم وتحاجون وحاججتم كلّها بمعنى المجادلة والمخاصمة
لا بمعنى الدليل والبرهان،
وموضع الّذين خفض كأنه
قال : إلاّ للذين
ظلموا. فلما سقطت اللام حلّت
(الّذين) محلها قاله الكسائي.
قال الفراء : موضعه نصب
بالاستثناء،
وإنّما
(......) منهم ردّ إلى لفظ الناس؛ لأنّه عام،
وإن كان كلّ واحد منهم غير
الآخر واللّه أعلم،
وقال بعضهم : هو استثناء منقطع من الكلام الأول ومعناه إلاّ يكون للنّاس
كلّهم عليكم حجة اللّهمّ إلاّ الّذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم في الباطل ويجادلونكم
بالظلم،
وهذا كما يقول للرجل : النّاس
كلّهم لك سامرون إلاّ الظالم لك :
يعني لا
(......) ذلك بتركه حمدك
لعداوته لك،
وكقولك للرجل : مالك عندي حق
إلاّ أن تظلم،
ومالك حجة إلاّ الباطل،
والباطل لا يكون حجّة،
وهذا استثناء من غير الحسن.
كقول القائل : ليس في الدّار أحد إلاّ الوحش. كقول النابغة :
وما بالرّبع من أحد إلاّ وأرى
لأياماً
أمنّها وننوي كالحوض بالمظلومة
الجلد
وهذا قول الفراء والمؤرخ.
وقال أبو روق :
{لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ}
يعني اليهود عليكم حجة؛ وذلك إنّهم كانوا قد عرفوا إنّ الكعبة
قبلة إبراهيم وقد كانوا وجدوا في التوراة أنّ محمّداً سيحوّل إليها. فحوّلهُ اللّه
إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون. بأن هذا النبيّ الّذي نجده في كتابنا سيحوّل
إليها ولم تحوّل أنت فلمّا حوّل النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) ذهبت حجّتهم ثمّ
قال :
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} منهم
يعني إلاّ أن
يظلموكم فيكتموا ما عرفوا.
وقال الأخفش : معناه لكفى الّذي
ظلموا مالهم به من علم إلاّ إتّباع الظن
يعني : لكن يتبعون
الظّن،
قوله :
{وما
لأحد عنده من نعمة تجزى إلاّ ابتغاء وجه ربّه}
يعني لكن تبتغى
وجه ربّك فيكون منفرداً من الكلام الأوّل.
وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة
إنّه
قال : ليس موضع
إلاّ هاهنا موضع الاستثناء لأنّه لا يكون للظالم حجّة إنّما هو في موضع واو العطف
كأنّه
قال : ولا الّذين
ظلموا
يعني والّذين
ظلموا لا يكون لهم أيضاً حجّة.
وأنشد المفضل :
ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلاّ دار مروانا
وأنشد أيضاً :
وكلّ أخ مفارقة أخوه
لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
يعني والفرقدان أيضاً متفرقان
وأنشد الأخفش :
وارى لها داراً بأغدرة السي
دان لم يدرس لها رسم
إلاّ رماداً هامداً دفعت
عنه الرياح خوالد سحم
أي : وأرى داراً ورماداً،
يؤيّد هذا القول ما روى أبو بكر
بن مجاهد عن بعضهم إنّه قرأ بعضهم :
(إلى
الّذين ظلموا) مخفّفا
يعني مع الّذين ظلموا.
ومعنى
الآية : لئلاً يكون
للنّاس،
يعني اليهود عليكم حجّة في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة
إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنّكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين
ظلموا وهم مشركوا مكّة لأنّهم
قالوا : إنّ الكعبة قبلة جدّنا إبراهيم فما بال محمّد تحوّل عنها فلا
يصلّي إليها ويصلّي إلى قبلة اليهود.
وقال قطرب : معناها إلاّ على
الّذين ظلموا فيكون ردّه على الكاف والميم
أي إلاّ على الّذين
ظلموا فإنّ عليهم الحجّة فحذف حرف الجر وهذا إختيار أبي منصور الأزهري.
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم
الحبيبي يحكيها عنه وحكى محمّد بن جرير عن بعضهم إنّه
قال :
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا} هاهنا ناس من العرب كانوا يهوداً ونصارى وكانوا يحتجّون على النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة وكانت حجّة من إحتجّ أيضاً داحضة
باطلة لأنّك تقول لمن تريد أن تكسر حُجّته عليه : أنّ لك عليّ حجّة ولكن منكسرة
إنك لتحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة،
فمعنى
الآية :
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} من أهل الكتاب فإنّ لهم عليكم حجّة واهية.
{ولا تخشوهم} في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة
والمجاوبة فانّي وليّكم أظهركم عليهم بالحجّة والنصرة.
{وَاخْشَوْنِى} في تركها ومخالفتها.
{وَتِمَّ نِعْمَتِى
عَلَيْكُمْ} عليكم عطف على
قوله
{لِئَلا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ولكن أتمّ
نعمتي بهدايتي ايّاكم إلى قبلة إبراهيم فتتمّ لكم الملّة الحنيفيّة وقال علي
(كرّم اللّه وجهه) : تمام النعمة : الموت على الإسلام،
وروي عنه أيضاً إنّه
قال : النّعم ستة
: الإسلام والقرآن ومحمّد والستر والعافية والغنى ممّا في أيدي النّاس.
{وَلَعَلَّكُمْ} في لعلّ ست لغات : علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا.
ولها ستة أوجه هي من اللّه عزّ
وجلّ واجب،
ومن النّاس على معاني قد تكون
بمعنى الاستفهام كقول القائل : لعلّك فعلت ذلك مستفهماً.
وتكون بمعنى الظّن كقول القائل
: قدم فلان فردّ عليه الرّاد : لعلّ ذلك.
بمعنى أظنّ وأرى ذلك.
وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما
أخلقه كقوله : قد وجبت
الصّلاة فيرد الرّاد : لعلّ ذلك
أي ما أخلقه.
وأنشد الفرّاء :
لعلّ المنايا مرّة ستعود
وآخر عهد الزائرين جديد
وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي
كقولك : لعلّ اللّه أن يرزقني مالاً،
ولعلّني أحجّ.
وأنشد الفرّاء :
لعلّي في هدى أفي وجودي
وتقطيعي التنوقة واختيالي
سيوشك أن يتيح إلى كريم
ينالك بالذّرى قبل السؤال
ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد
ولا يكون كقوله :
{يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي أبلغ الأسباب} .
أي عسى أبلغ.
وقال أبو داود :
فأبلوني بليتكم لعلّي
أُصالحكم واستدرج نويا
أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله :
{انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَفْقَهُونَ} بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة
وقوله :
{وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}
أي لكي تهتدوا من الضّلالة.
قال الربيع : خاصم يهودي أبا
العالية فقال : إنّ موسى
كان يصلّي إلى صخرة بيت المقدس،
فقال أبو العالية : كان يصلّي
عند الصخرة إلى البيت الحرام فقال لي : بيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل
فقال أبو العالية : قد صلّيت فيه وقبلته إلى البيت الحرام.
قال : فأخبر أبو العالية إنّه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته
الكعبة.
١٥١
{كَمَآ أَرْسَلْنَا} هنا الكاف للتشبيه ويحتاج إلى شيء يرجع إليه واختلفوا فيه
فقال بعضهم : هو راجع إلى ما قبلها والكاف من ما قبلها تقديره : فلا تخشوهم واخشوني
ولأتمّ نعمتي كما أرسلت فيكم رسولاً فيكون إرسال الرّسول شرطاً للخشية مزدّياً
باتمام النّعمة.
وقيل : معناه ولعلّكم تهتدون كما أرسلنا.
وقال محمّد بن جرير : إنّ
إبراهيم دعا بدعوتين فقال
{رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} فهذه الدعوة الأولى.
والثانية
قوله
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ} فبعث اللّه الرسول وهو محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) ووعد في هذه
الآية أن يجيب الدّعوة الثانية أن يجعل من ذرّيته أمّة مسلمة لك
فمعنى
الآية : ولأتِم
نعمتي عليكم : ببيان شرائع ملّتكم الحنيفية وأهديكم لدين خليلي إبراهيم.
{كَمَآ أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولا مِّنكُمْ}
يعني فكما أجبت
دعوته بانبعاث الرّسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وهذا على
قول من يجعله متصلاً بما قبلها وجواباً للآية الأولى وهو إختيار الفرّاء.
وقال بعضهم : إنّها متعلّقة بما بعدها وهو
قوله
{فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} تقديرها : كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم فاذكروني اذكركم
فيكون جزأً له جوابان مقدّم ومؤخّر كما تقول : إذا جاءك فلان فآته ترضه. فقوله : فآته
وترضه جوابان لقوله إذا جاءك
وكقولك : إنّ تأتني أحسن إليك أكرمك وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل والأخفش
وابن كيسان واختيار الزجّاج،
وهذه
الآية خطاب للعرب وأهل
مكّة
يعني : كما
أرسلنا فيكم يا معشر العرب رسولاً منكم محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم)
{يَتْلُوا عَلَيْكُمْ
ءَايَاتِنَا}
يعني القرآن.
{وَيُزَكِّيكُمْ}
أي يعلّمون من الأحكام وشرائع الإسلام.
١٥٢
{فَاذْكُرُونِى
أَذْكُرْكُمْ}
قال ابن عبّاس : أذكروني بطاعتي
أذكركم بمعونتي بيانه
قوله :
{وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا}
الآية.
سعيد بن جبير : بطاعتي أذكركم
بمغفرتي بيانه
{وَأَطِيعُوا اللّه وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ} .
فضيل بن عيّاض : فاذكروني
بطاعتي أذكركم بثوابي بيانه
{إنّ
الّذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً أولئك لهم جنّات
عدن} وروي عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته
القرآن).
وقيل : اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالجنّات والدرجات بيانه
:
{وبشّر الّذين آمنوا... إلى جنات}.
وقال ابو بكر الصدّيق رضي اللّه
عنه : كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثواباً.
ابن كيسان : اذكروني بالشكر
أذكركم بالزّيادة : بيانه
قوله
{لَ ن
شَكَرْتُمْ زِيدَنَّكُمْ} .
وقيل : اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها.
قال الأصفي : رأيت أعرابياً
واقفاً يوم عرفة بالموقف وهو يقول : ضجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسئلونك
الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا.
وقيل : أذكروني بالطّاعات أذكركم بالمعافاة ودليله
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً} .
وقيل : أُذكروني في الخلاء والملاء أذكركم في الجلاء والملأ بيانه
ما روي في بعض الكتب إنّ اللّه
قال : أنا عند من عبدني،
فليظن بي ما شاء،
وأنا معه إذا ذكرني،
فمن ذكرني في نفسه ذكرته في
نفسي،
ومن ذكرني في الملأ ذكرته في
ملأ خير منه،
ومن تقربّ إليّ شبراً تقرّبت له
ذراعاً،
ومن تقرّب إليّ ذراعاً،
تقرّبت إليه باعاً ومن أتاني
مشياً أتيته هرولة،
ومن أتاني بقراب الأرض فضّة
أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يُشرك بي شيئاً.
وقيل : أُذكروني في النّعمة والرّخاء أذكركم في الشّدة والبلاء
بيانه
قوله
{فلولا إنّه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم
يبعثون} .
قال سلمان الفارسي : إنّ العبد
إذا كان له دُعاء في السّر؛ فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة : عبدك نزل به
البلاء فيشفعون له فينجيه اللّه،
فإذا لم يكن له دُعاء
قالوا : الآن فلا
تشفعون له. بيانه لفظة فرعون
{الآن
وقد عصيت من قبل} .
وقيل : أُذكروني بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الأختبار. بيانه
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ} .
وقيل : أُذكروني بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة.
وقيل : أُذكروني بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء،
وقيل : أُذكروني بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة،
وقيل : أُذكروني بالدُّعاء أذكركم بالعطاء،
أُذكروني بالسؤال أذكركم
بالنوّال،
أُذكروني بلا غفلة أذكركم بلا
مهلة،
أُذكروني بالندّم أذكركم
بالكرم،
أُذكروني بالمعذرة أذكركم
بالمغفرة،
أُذكروني بالإرادة أذكركم
بالأفادة،
أُذكروني بالتنصّل أذكركم
بالتفضل أُذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص،
أُذكروني بالقلوب أذكركم بكشف
الكروب،
أُذكروني بلا نسيان أذكركم
بالأمان،
أُذكروني بالأفتقار أذكركم
بالاقتدار،
أُذكروني بالأعدام والاستغفار
أذكركم بالرّحمة والإغتفار،
أُذكروني بالأيمان أذكركم
بالجنان،
أُذكروني بالأسلام أذكركم
بالأكرام،
أُذكروني بالقلب أذكركم برفع
التعجب،
أُذكروني ذكراً فانياً أذكركم
ذكراً باقياً،
أُذكروني بالإبتهال أذكركم
بالأفضال،
أُذكروني بالظل أذكركم بعفو
الزلل،
أُذكروني بالأعتراف أذكركم بمحو
الاقتراف،
أُذكروني بصفاء السّر أذكركم
بخالص البّر،
أُذكروني بالصّدق أذكركم
بالرّفق،
أُذكروني بالصفَو أذكركم
بالعفو،
أُذكروني بالتعظيم أذكركم
بالتكريم،
أُذكروني بالتكبير أذكركم
بالتطهير،
أُذكروني بالتمجيد أذكركم
بالمزيد،
أُذكروني بالمناجاة أذكركم
بالنجاة،
أُذكروني بترك الجفاء اذكركم
بحفظ الوفاء،
أُذكروني بترك الخطأ أذكركم
بحفظ الوفاء،
أُذكروني بالجهد بالخلقة أذكركم
بأتمام النعمة،
أُذكروني من حيث أنتم أذكركم من
حيث أنا ولذكر اللّه أكبر.
الربيع في هذه
الآية : إنّ
اللّه ذاكر من ذكره،
وزائداً من شكره،
ومعذّبُ من كفره.
وقال السّدي : فيها ليس من عبد
يذكر اللّه إلاّ ذكره اللّه. لا يذكره مؤمن إلاّ ذكره بالرّحمة،
ولا يذكره كافر إلاّ يذكره
بعذاب.
وقال سفيان بن عيينة : بلغنا
إنّ اللّه عزّ وجلّ
قال : أعطيت عبادي مالوا أعطيته جبرئيل وميكائيل كنت قد اجزلت لهما
قلت : أُذكروني أذكركم،
وقلت لموسى : قل للظلمة لا
يذكروني فإني أذكر من ذكرني،
فإنّ ذكري إياهم أن إلعنهم.
وقال أبو عثمان النهدي : إنّي
لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ،
قيل : كيف ذلك؟
قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ
قال :
{اذكروني أذكركم} وإذا ذكرت اللّه تعالى ذكرني.
{وَاشْكُرُوا لِي} نعمتي.
{وَلا تَكْفُرُونِ} .
١٥٣
{يا أيّها الّذين
آمنوا استعينوا بالصّبر والصّلاة إنّ اللّه مع الصّابرين} بالعون والنصرة.
١٥٤
{وَلا تَقُولُوا
لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللّه أَمْوَاتُ}
نزلت في قتلى بدر مع المسلمين،
وكانوا أربعة عشر رجلاً منهم
ثمانية من الأنصار وستّة من المهاجرين؛ وذلك إنّ النّاس كانوا يقولون : الرّجل
يقتل في سبيل اللّه : مات فلان،
وذهب منه نعيم الدُّنيا
ولذّتها،
فأنزل اللّه تعالى
{وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللّه
أَمْوَاتُ}
أي هم أموات بل إنهم أحياء.
{بَلْ أَحْيَآءٌ
وَلَاكِن لا تَشْعُرُونَ}
إنّهم كذلك قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ ارواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح في ثمار
الجنَّة،
وتشرب من أنهارها،
وتأوي بالليل إلى
قناديل من نور معلقة تحت العرش).
وقال الحسن : إن الشهداء أحياء
عند اللّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح والفرح،
كما تعرض النّار على أرواح آل
فرعون غداة وعشياً فيصل إليهم الوجع.
وقال أبو سنان السّلمي : أرواح
الشهداء في قباب بيض من باب الجنّة في كلّ قبّة زوجتان،
رزقهم في كلّ يوم طلعت فيه
الشمس نور وحوت،
فأما النور : ففيه طعم كلّ ثمرة
في الجنة وامّا الحوت : ففيه طعم كلّ شراب في الجنّة.
قال قتادة في هذه
الآية : كنّا
نحّدث إنّ أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنّة وإنّ مساكنهم
السدرة المنتهى،
وإنّ للمجاهد في سبيل اللّه عزّ
وجلّ ثلاث خصال : من قتل في سبيل اللّه منهم صار حيّاً مرزوقاً،
ومن غلب أتاه اللّه أجراً
عظيماً،
ومن مات رزقه اللّه رزقاً
حسناً.
عن النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمهِ يكفّر
عنه كل خطيئة ويرى مقعده من الجنّة ويزوّج من الحور العين ويؤمن من الفزع الأكبر
ومن عذاب القبر ويحلّى بحلية الإيمان).
١٥٥
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} ولنختبرنّكم يا أمّة محمّد.
{بِشَيْءٍ مِّنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ}
الآية،
قال ابن عبّاس : الخوف
يعني خوف العدو،
والجوع
يعني المجاعة
والقحط.
{وَنَقْصٍ مِّنَ
الأمْوَالِ}
يعني الخسران والنّقصان في المال،
وهلاك المواشي
{وَالأنفُسِ}
يعني الموت
والقتل،
وقيل : المرض
وقيل : الشيب.
{وَالثَّمَرَاتِ}
يعني
(الحوائج)،
وأن لا تخرج الثمرة كما كانت
تخرج،
وقال
الشافعي :
{ولنبلونكم بشىء من الخوف}
يعني خوف اللّه
عزّ وجلّ
{وَالْجُوعِ} صيام شهر رمضان،
{وَنَقْصٍ مِّنَ
امْوَالِ} أداء الزّكاة والصدّقات،
{وَانفُسِ} الأمراض،
{وَالثَّمَرَاتِ} موت الأولاد؛ لأن ولد الرجل ثمرة قلبه يدلّ عليه ما روى عبد
اللّه بن المبارك عن حماد بن سلمه عن أبي سنان
قال : دفنت إبني سناناً،
وأبو طلحه الخولاني على شفير
القبر جالس،
فلمّا أردت الخروج أخذ بيدي
فانشطني وقال : ألا
أُبشّرك يا أبا سنان؟
قلت : بلى.
قال : حدّثنا
الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري : إنّ رسول
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(إذا مات ولد العبد قال اللّه عزّ وجلّ للملائكة
أقبضتم ولد عبدي؟
فيقولون : نعم فيقول
: أقبضتم ثمرة فؤاده؟
فيقولون : نعم،
فيقول : ماذا قال
عبدي؟
فيقولون : حمدك
واسترجع،
فيقول اللّه عزّ
وجلّ : إبنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمّوه بيت الحمد).
١٥٦
{وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ} على البلايا والرّزايا ثمّ نعتهم فقال :
{الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا
إِنَّا للّه} عبيداً تجمع وملكاً.
{وَإِنَّآ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ} في الاْخرة أمال نصير النّون في
قوله
{إِنَّا للّه} ،
فأمال قتيبة النون واللام
جميعاً فخمها الباقون،
وقال أبو بكر الورّاق : إنّا
للّه : اقرار منّا له بالملك وإنّا إليه راجعون : في الآخرة إقرار على أنفسنا
بالهلاك.
قال عكرمة : طفى سراج النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
{إِنَّا للّه وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فقيل : يا رسول اللّه أمصيبة هي؟
قال : نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة).
قال سعيد بن جبير : ما أُعطي
أحد في المصيبة ما أُعطي هذه الأمة
يعني الاسترجاع ولو أعطي لأحد لأعطي يعقوب ج ألاّ تسمع إلى
قوله في فقد
يوسف
{يا أسفي على يوسف} .
وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته وأحسن
عقباه،
وجعل له خلفاً صالحاً
يرضاه).
وعن فاطمة بنت الحسين عن أمّها
قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعاً وان تقادم عهدها كتب اللّه
له من الأجر مثل يوم أُصيب).
١٥٧
{أُولَائِكَ}
أي أهل هذه الصفة.
{عَلَيْهِمْ صلاتٌ} قال ابن عبّاس : مغفرة
{مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ونعمة.
ابن كيسان : الصلوات هاهنا
الثناء والرّحمة والتزكية وإنّما ذكر الصلاة والرحمة ومعناهما واحد لاختلاف
اللفظين كقول الحطيئة :
ألا حبّذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وجمع الصلوات لأنّه عنى بها
إنها رحمة بعد رحمة.
{وَأُولَائِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ} إلى الاسترجاع،
وقيل : إلى الجنّة والثواب.
وقيل : إلى الحقّ والصّواب وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه
الآية
قال : نعم
العدلان ونعم العلاوة.
{وَإِنَّآ إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ} في الاْخرة أمال نصير النّون في
قوله
{إِنَّا للّه} ،
فأمال قتيبة النون واللام
جميعاً فخمها الباقون،
وقال أبو بكر الورّاق : إنّا
للّه : اقرار منّا له بالملك وإنّا إليه راجعون : في الآخرة إقرار على أنفسنا
بالهلاك.
قال عكرمة : طفى سراج النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
{إِنَّا للّه وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فقيل : يا رسول اللّه أمصيبة هي؟
قال : نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة).
قال سعيد بن جبير : ما أُعطي
أحد في المصيبة ما أُعطي هذه الأمة
يعني الاسترجاع ولو أعطي لأحد لأعطي يعقوب ج ألاّ تسمع إلى
قوله في فقد
يوسف
{يا أسفي على يوسف} .
وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته وأحسن
عقباه،
وجعل له خلفاً
صالحاً يرضاه).
وعن فاطمة بنت الحسين عن أمّها
قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعاً وان تقادم عهدها كتب اللّه
له من الأجر مثل يوم أُصيب).
{أُولَائِكَ}
أي أهل هذه الصفة.
{عَلَيْهِمْ صلاتٌ} قال ابن عبّاس : مغفرة
{مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} ونعمة.
ابن كيسان : الصلوات هاهنا
الثناء والرّحمة والتزكية وإنّما ذكر الصلاة والرحمة ومعناهما واحد لاختلاف
اللفظين كقول الحطيئة :
ألا حبّذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وجمع الصلوات لأنّه عنى بها
إنها رحمة بعد رحمة.
{وَأُولَائِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ} إلى الاسترجاع،
وقيل : إلى الجنّة والثواب.
وقيل : إلى الحقّ والصّواب وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه
الآية
قال : نعم العدلان
ونعم العلاوة.
١٥٨
{إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه} الصفا جمع
الصّفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء،
قال امرؤ القيس :
لها كفل كصفا المسيل
أبرز عنها جحاف مضر
يقال : صفاة وصفا مثل
حصاة وحصا وقطاة وقطا ونواة ونوى،
وقيل : إن الصّفا واحد وتثنيته صفوان مثل عصا وعصوان وجمعه أصفا
مثل رجا وأرجاء،
وصَفا وصَفيِ مثل عصا وعصي،
قال الراجز :
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير على الصّفي
والمروة من الحجارة ما لان
وصغر. قال أبو ذؤيب الهذلي :
حتّى كأنّي للحوادث مروة
بصفا المشرق كل يوم تقرع
أي صخرة رخوة صغيرة،
وجمع المروة مروان وجمعها
للكبير مرو مثل ثمرة وثمرات وثمر وحمرة وحمرات وحمرا. قال الأعشى ميمون بن قيس يصف
ناقته :
وترى الأرض خفاً زائلاً
فإذاما صادف المرو رضخ
وإنّما عنى اللّه تعالى بهما
الجبلين المعروفين بمكّة دون سائر الصّفا والمروة فلذلك أدخل فيهما الألف واللام،
وشعائر اللّه : اعلام دينه
واحدها شعيرة وكلُّ كان معلّما لقربان يتقرّب به إلى اللّه عزّ وجلّ من دعاء وصلاة
من ذبيحة واداء فرض وغير ذلك فهو شعيرة.
قال الكميت بن زيد :
نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم
شعائر قربان بهم يتقرب
وأصلها من الأشعار وهي الاعلام
على الشيء.
وفي الحديث إنّ قائلاً
قال : حين شجّ
عمر في الحجّ : أشعر أمير المؤمنين دماً،
وأراد بالشعائر هاهنا مناسك
الحج التي جعلها اللّه عزّ وجلّ إعلاماً لطاعته،
وقال مجاهد :
يعني من الخبر
الّذي أخبركم عنه وأصل الكلمة على هذا القول من شعرت
أي : علمت كأنّه
أعلام للّه عباده أمر الصفا والمروة.
وتقدير
الآية : إنّ
الصّفا والمروة من شعائر اللّه،
فترك ذكر الطّواف وإكتفى
بذكرهما
(وذلك) معلوماً
عند المخاطبين.
{فَمَنْ حَجَّ
الْبَيْتَ} أصل الحجّ في اللغة : القصد.
قال الشاعر :
كراهب يحجّ بيت المقدس
ذي موحد ومنقل
(وبرنس)
وقال محمّد بن جرير : من أكثر
الاختلاف إلى شيء فهو حاج.
وقال المحمل السعدي :
واشهد من عوف حلولاً كثيرة
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا
أي يكثرون التردد إليه لودده ورئاسته.
وقيل للحاج : حاج لأنّه يأتي البيت من عرفة ثمّ يعود إليه للطواف
يوم النّحر ثمَّ ينصرف عنه إلى منى ثمَّ يعود إليه لطوف الصدر. فبتكرار العود إليه
مرة بعد أخرى قيل له حاج :
{أَوِ اعْتَمَرَ} من العمرة وهي الزيارة.
قال العجاج :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر
معزى بعيداً من بعيد وضبر
أي من قصده وزاره،
وقال المفضل بن سلمة :
{أَوِ اعْتَمَرَ}
أي حلّ بمكّة بعد
الطواف والسّعي ففعل ما يفعل الحلال.
والعمرة : لإقامة الموضع
والعمارة : اصلاحه ومرمّته.
وعن عبد اللّه بن عامر بن رفيعة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(تابعوا بين الحجّ والعمرة فإن متابعة ما بينهما
يزيدان في العمر والرّزق وينفيان الذنوب كما ينّفي الكير خبث الحديد).
{فلا جناح عَلَيْهِ} الجناح الإثمّ وأصله من جنح إذا مال عن القصد.
يقال : جنح اللّيل إذا
مال بظلمته.
وجنحت السفينه : إذا مالت إلى
الأرض.
قال اللّه تعالى :
{وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} ومنه جناح الطائر.
{أَن يَطَّوَّفَ}
أي يدور وأصله يتطوف فادغمت التاء في الطّاء.
وقرأ أبو حيوة الشّامي : يطوف
مخفّفة الطاء واختلفوا في وجه
الآية وتأويلها وسبب تنزيلها.
قال أنس بن مالك : كنّا نكره
الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية،
فتركناه في الإسلام. فأنزل
اللّه هذه
الآية.
وقال عمر بن حبيش : سألت ابن
عمر عن هذه
الآية فقال : إنطلق إلى
ابن عبّاس فإنّه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
فأتيته فسألته فقال ابن عبّاس :
كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف،
وعلى المروة صنم على صورة إمرأة
تدعى نائلة،
وإنّما ذكروا الصفا لتذكير
الأساف وذكروا المروة لتأنيث نائلة.
وزعم أهل الكتاب إنّهما زنيا في
الحرم فمسخهما اللّه عزّ وجلّ حجرين فوضعهما على الصّفا والمروة ليعتبر بهما فلما
طالت المدّة عبدا دون اللّه،
فكان أهل الجاهلية إذا طافوا
بينهما مسحوا الوثنين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما
لأجل الصنمين فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وروى السّدي عن أبي مالك عن ابن
عبّاس
قال : كان في
الجاهلية شياطين تعزف بالليل بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة فلمّا ظهر
الإسلام قال المسلمون لرسول اللّه لا تطوفنّ بين الصفا والمروة فإنّه شرك كنّا
نصنعه في الجاهلية فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
قتادة : كان ناس من تهامة في
الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة فلمّا جاء الإسلام تحوّبوا السعي بينهما كما
كانوا يتحوّبونه في الجاهلية فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
قتادة : كان
(حي من تهامة لايسعون بينهما) فأخبرهم إنّها كانت سنّة إبراهيم وإسماعيل ث.
وروى الزهري عن عروة بن الزبير
قال : قلت لعائشة
ما الصفا والمروة؟
قالت : قول اللّه :
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ
اللّه}
الآية،
واللّه ما على أحد جناح ألاّ
يطوف بين الصفا والمروة فقالت : عائشة ليس ما قلت يا ابن اختي إن هذه لو كانت على
ما أولّها ما كان عليه جناح أن لا يطوف بهما،
ولكنّها إنّما نزلت في الأنصار
وذلك وأنهم كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة الطاغية وهي صنم من مكّة والمدينة
بالمشلل،
وكان من أهل لها تخرّج أن يطوف
بين الصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألهم رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن ذلك. فقالوا : يا رسول اللّه إنّا كنا لا نطوف بين الصّفا والمروة لأنّما
صنمان. فهل علينا حرج أن نطوف بهما؟
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية. ثمّ قالت
عائشة
(رضي اللّه عنها) قد سنّ رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) الطواف بينهما. فليس لأحد
تركه.
قال الزّهري : قد ذكرت ذلك لأبي
بكر بن عبد الرّحمن بن الحرث بن هشام.
فقال : هذا العلم.
وقال مقاتل بن حيّان : إنّ
النّاس كانوا قد تركوا الطّواف بين الصفا والمروة،
غير الحمس وهم قريش وكنانة
وخزاعة وعامر بن صعصعة سموا حمساً لتشددّهم في دينهم والحماسة الشجّاعة والصّلابة،
فسألت الحمس رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن السعي بين الصفا والمروة أمن شعائر اللّه أم لا؟،
فإنّه لا يطوف بهما غيرنا فنزلت
هذه
الآية.
واختلف العلماء في هذه
الآية فقال
الشافعي ومالك : الطواف بين الصفا والمروة فرض واحد ومن تركه لزمه القضاء
والاعادة فلا تجزية فدية ولا شيء إلاّ العود إلى مكّة والطّواف بينهما كما لا يجزي
تارك طواف الافاضة إلاّ قضاؤه بعينه.
وقالا : هما طوافان واجبان أمر
بهما أحدهما بالبيت والأخر بين الصفا والمروة وحكمها واحد.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد : إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن وان لم يعد
فعليه دم ورأوا أنّ حكم الطواف منهما حكم رمي بعض الجمرات والوقوف بالمعشر وطواف
الصدر وما أشبه ذلك ممّا يجزي تاركه بتركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه.
وقال أنس بن مالك وعبداللّه بن
الزّبير ومجاهد وعطاء : الطواف بهما تطوّع إن فعله فاعل يكن محسناً،
وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه
شيء،
واحتج من لم يوجب السّعي
والطواف بينهما بقراءة ابن عبّاس وأنس وشهر بن حوشب وابن سيرين : فلا جُناح عليه
أن لا يطّوف بهما بإثبات لا،
وكذلك هو في مصحف عبداللّه
والجواب عنه أن
(لا) : زيادة صلة كقوله
{مَا
مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} ،
وكقوله
{أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ،
و
{لا أُقْسِمُ} ،
وقال الشاعر :
فلا ألوم البيض آلاّ تسخرا
لمّا رأين الشمط القفندرا
فأركان رسم المصحف كذلك لم يكن
فيه
(تمجّح) حجة مع
احتمال الكلام ما وصفناه فكيف وهو خلاف رسوم الشّيخ الإمام ومصاحف الإسلام.
ثمّ الدليل على إنّ السّعي
بينهما واجب وعلى تاركه أعادة الحج ناسياً تركه أو عامداً بظاهر الأخبار. إنّ رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فعل ذلك وأمر به.
روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن
جابر
قال : لما دنا
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) من الصّفا في حجّته
قال :
(إنّ
الصفا والمروة من شعائر اللّه إبدءوا بما بدء اللّه به فبدأ بالصّفا فرقى عليه
حتّى رأى البيت ثمّ مشى حتّى إذا تصوّبت قدماه في الوادي سعى).
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة قالت : لعمري ما حجّ من لم يسع بين الصفا والمروة،
مفروض في كتاب اللّه والسنّة،
قال اللّه تعالى :
{إِنَّ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه} .
وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يا أيّها النّاس كتب عليكم السّعي فاسعوا).
قال كليب : رأى ابن عبّاس قوماً
يطوفون بين الصفا والمروة فقال : هذا ما أورثتكم أمّكم أمّ إسماعيل إنطلقت حين عطش إبنها وجاع
فوجدت الصفا أقرب جبل إلى الأرض فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً
فلم تر أحداً فهبطت من الوادي،
ورفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي
الأنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي ثمّ أتت المروة وقامت عليها تنظر هل ترى أحداً
فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات.
وقال محمّد : حجّ موسى
(صلى اللّه عليه وسلم) على جبل أحمر وعليه عبائتان قطرانيتان فطاف بالبيت ثمّ صعد الصّفا ودعا
ثمّ هبط إلى السعي وهو ملبّي فقال : لبيك اللّهم لبيك،
فقال اللّه عزّ وجلّ لبيّك
عبدي وأنا معك،
فخرّ موسى ساجداً.
{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} قرأ حمزة والكسائي تطوّع بالتّاء وتشديد الطّاء وجزم العين
وكذلك التاء في بمعنى يتطوع واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتباراً بقراءة عبداللّه
ومن تطوع بالتّاء.
وقرأ الباقون : تطوّع بالتاء
وضعف العين على المضي.
قال مجاهد : فمن تطوّع بالطواف
بالصّفا والمروة،
وقال : تطوّع رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وكان من النبيينّ.
وقال مقاتل والكلبي : ومن تطوّع
خير زاد في الطواف ففيه الواجب.
وقال ابن زيد : ومن تطوّع خيراً
فاعتمر،
والحج فريضة والعمرة تطوّع.
وقيل : فمن تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه.
وقال الحسن وغيره : ومن تطوّع
خيراً
يعني به للدّين
كلّه.
أيّ فعل غير
المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة أو نوع من أنواع الطّاعات كلّها.
{فَإِنَّ اللّه
شَاكِرٌ} مجاز بعمله.
{عَلِيمٌ} بنيّة من يشكر اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير وأصل الشكر
من قول العرب : دابّة شكور إذا كان يظهر عليها من السمن فوق ما يعلف.
١٥٩
{إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}
يعني الرجم
والحدود والأحكام والحلال والحرام.
{وَالْهُدَى}
يعني وأمر محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) ونعته.
{مِن بَعْدِ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} لبني إسرائيل.
{فِي الْكِتَابِ} في التّوراة نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم كتموا صفة محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) وآية الرجم.
{أُولَاكَ
يَلْعَنُهُمُ اللّه} أصل اللّعن في اللغة الطّرد
ولعن اللّه إبليس بطرده إيّاه حين قال له :
{فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} .
قال الشّماخ : وذكر ما ورده :
ذعرت به القطا وبقيت فيه
مقام الذّئب كالرّجل اللّعين
وقال النّابغة :
فبتّ كانّني خرج لعين
نفاه النّاس أو أدنف طعين
فمعنى قولنا : لعنه اللّه :
أي طرده وأبعده وأصل
اللّعنة ما ذكرنا ثمّ كثر ذلك حتّى صار قولاً.
{وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ}
أي يسألون اللّه أن يلعنهم ويقولون : اللّهمّ إلعنهم واختلف
المفسّرون في هؤلاء اللاّعنين.
قال قتادة : هم الملائكة.
عطاء : الجنّ والأنس.
الحسن : عباد اللّه أجمعون.
ابن عبّاس : كلّ شيء إلاّ الجنّ
والأنس.
الضحّاك : إن الكافر إذا وضع في
حفرته قيل له من ربّك؟
ومن نبيّك؟
وما دينك؟
فيقول : لا أدري. فيقول له : لا
دريت،
ثمّ يضربه ضربة بمطرق فيصيح
صيحة يسمعها كلّ شيء إلاّ الثّقلان الأنس والجنّ فلا يسمع صوته شيء إلاّ لعنه فذلك
قوله
{ويعلنهم اللاّعنون}.
البراء بن عازب : إنّ الكافر
إذا وضع في قبره أتته دابّة كأنّ عينيها قدران من نحاس معها عمود من حديد فتضربه
ضربة بين كتفيه فيصيح فلا يسمع أحد صوته إلاّ لعنه ولا يبقى شيء إلاّ سمع صوته غير
الثقلين.
ابن مسعود : هو الرّجل يلعن
صاحبه فترتفع اللّعنة في السماء ثمّ تنحدر فلا تجد صاحبها الّذي قيلت له أهلاً
لذلك فترجع إلى الّذي يحكم بها فلا تجده لها أهلاً فتنطلق فتقع على اليهود فهو
قوله عزّ وجلّ
{وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . فمن تاب منهم ارتفعت اللّعنة عنه وكانت فيمن لقي من
اليهود.
مجاهد : اللاّعنون البهائم تلعن
عصاة بني آدم إذا أسنت السنّة وامسك المطر قالت : هذا بشؤم ذنوب بني آدم.
عكرمة : دوّاب الأرض وهوامّها
حتّى الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم وإنّما قال لهذه الأشياء
اللاّعنون ولم يقل اللاعنات؛ لأن من شأن العرب إذا وصفت شيئاً من الجمادات والبهائم
وغيرها سوى النّاس بما هو صفة للنّاس من فعل أو قول لن يخرجوه على مذهب بني آدم
وجمعهم كقولهم
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى
سَاجِدِينَ} ولم يقل ساجدات،
وقوله للأصنام
{بل فعله
كبيرهم فأسئلوهم إن كانوا ينطقون} ،
وقوله
{يا أيها
النّمل ادخلوا مساكنكم} ،
وقوله
{وَقَالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا}
الآية ثمَّ
استثنى فقال :
١٦٠
{إِلا الَّذِينَ
تَابُوا} من الكفر.
{وَأَصْلَحُوا} الأعمال فيما بينهم وبين ربّهم.
{وَبَيَّنُوا} صفة محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وآية الرجم.
{فَأُولَاكَ أَتُوبُ
عَلَيْهِمْ} أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم.
{وَأَنَا
التَّوَّابُ} الرجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عني.
١٦١
{الرَّحِيمُ} بهم بعد إقبالهم عليّ.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} واو حال.
{أُولَاكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللّه وَالملائكة}
أي ولعنة الملائكة.
{وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ} قتادة والربيع :
يعني النّاس أجمعين : المؤمنين.
أبو العالية : هذا يوم القيامة
يوقّف الكافر فيلعنه اللّه عزّ وجلّ ثمّ تلعنه الملائكة ثمّ يلعنه النّاس أجمعين.
السّدي : لا يتلاعن اثنان
مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما لعن اللّه الظالم إلاّ وجبت تلك اللعنة على الكافر
لإنّه ظالم فكل أحد من الخلق يلعنه.
١٦٢
{خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين في اللعنة والنّار.
{يُخَفَّفُ} لا يرفّه عنهم العذاب.
{وَ هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون ويؤجلون.
وقال أبو العالية : لا ينظرون :
فيعذرون كقوله :
{هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون}.
١٦٣
{وَالهكُمْ اله
وَاحِدٌ اله إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس : نزلت في كفّار قريش
قالوا : يا محمّد
صف وأنسب لنا ربّك فأنزل اللّه تعالى سورة الاخلاص وهذه
الآية.
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس
قال : كان
للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً يعبدون من دون اللّه إفكاً وشرّاً فبيّن
اللّه تعالى لهم إنّه واحد فأنزل :
{وَالهكُمْ
اله وَاحِدٌ اله إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
سعيد عن أبي الضحى :
قال : لمّا نزلت
هذه
الآية عجب المشركون
وقالوا : إنّ
محمّداً يقول الهكم إله واحد فليأتنا بآية إن كان من الصّادقين
١٦٤
فأنزل اللّه تعالى :
{إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل
والنّهار}
أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء والاختلاف : الإفتعال من خلف
يخلف خلوفاً
يعني إنّ كل
واحد منهما إذا ذهب أحدهما جاء آخر خلافه
أي : بعده،
نظير
قوله :
{وهو الّذي جعل النّهار خلفةً} .
عطاء وابن كيسان : أراد في
اختلاف الليل والنّهار في اللّون والطّول والقصر والنّور والظلمة والزيادة
والنقصان يكون أحدهما على الآخر،
والليل جمع ليلة مثل تمرة وتمر
ونحلة ونحل،
واللّيالي جمع الجمع والنّهار
واحد وجمعه نُهر.
قال الشّاعر :
لولا الثّريدان هلكنا بالضّمر
ثريد ليل وثريد بالنّهر
وقدّم الليل على النّهار بالذكر
لإنّه الأصل والأقدام
قال
اللّه تعالى :
{وَءَايَةٌ
لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} . خلق اللّه تعالى الأرض مظلمة ثمّ خلق الشمس والقمر وهذا كتقديمه
الصّوامع والبيع والصلوات على المساجد.
{وَالْفُلْكِ الَّتِى
تَجْرِى فِى الْبَحْرِ}
يعني السفن
واحدة وجمعه سواء
قال اللّه تعالى :
{وإن
يونس لمن المرسلين إذ أبِقَ إلى الفلك المشحون} .
وقال في الجمع :
{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} يذكّر ويؤنّث
قال اللّه تعالى :
{الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} وقال في التأنيث
{الفلك
الّتي تجري في البحر} فالتذكير على الفظ الواحد
والتأنيث على معنى الجمع.
{بِمَا يَنفَعُ
النَّاسَ}
يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وانواع المطلب.
{وَمَآ أَنزَلَ اللّه
مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ}
يعني المطر.
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ
الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد يبوستها
وجدوبتها.
{وَبَثَّ} نشر وفرّق.
{فِيهَا مِن كُلِّ
دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}
أي يقلّبها قبولاً
ودبوراً وشمالاً وجنوباً.
وقيل : تصريفيها مرّة بالرحمة ومرّة بالعذاب.
وقرأ حمزة والأعمش والكسائي
وخلف : الرّيح بغير ألف على الواحد وقرأ الباقون : الرّياح بالجمع.
قال ابن عبّاس : الرّياح للرحمة
والريح للعذاب،
وعن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إذا هاجت الريح يقول :
(اللّهمّ
اّجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً).
والرّيح يذكر ويؤنث.
{وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ}
أي الغيم المذلّل
{بَيْنَ
السَّمَآءِ والأرض} سمّي سحاباً لأنّه يسحب
أي يسير في سرعته
كأنّه يسحب :
أي يجرّ.
{لآيَاتٍ} دلالات وعلامات.
{لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} فيعلمون إنّ لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً.
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها).
أي لم يتفكّر فيها ولم يعتبر بها.
١٦٥
{وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّه أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ}
يعني الأصنام
المعبودة من دون اللّه قال أكثر المفسّرين.
وقال السّدي : ساداتهم وقاداتم
الّذين كانوا يطيعونهم في معصية اللّه فيحبّونهم
{كَحُبِّ اللّه}
أي كحبّ المؤمنين
اللّه،
وهذا كما يقال : بعت غلامي
كبيع غلامك
يعني : كبيعك
غلامك.
وأنشد الفرّاء :
ولستُ مسلّماً ما دمت حيّاً
على زيد كتسليم الأمير
أي كتسليمي على الأمير هذا قول أكثر العلماء،
وقال ابن كيسان والزجّاج :
تقدير
الآية : يحبّونهم
كحبّهم اللّه
يعني أنّهم
يسووّن بين هذه الأصنام وبين اللّه في المحبّة ثمّ
قال :
{وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه} قال ابن عبّاس :
أثبت وأدوم وذلك إن المشركين كانوا يعبدون صنماً فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا
ذلك الوثن وأقبلوا على عبادة الأحسن.
عكرمة : أشدّ حبّاً في الآخرة.
قتادة : إنّ الكافر يعرض عن
معبوده في وقت البلاء ولا يقبل على اللّه عزّ وجلّ لقوله :
{فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
قوله تعالى :
{وَإِذَا
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلا إياه} .
والمؤمن لا يعرض عن اللّه في
الضّراء والسرّاء والرّخاء والبلاء ولا يختار عليه سواه.
الحسن : إنّ الكافرين عبدوا
اللّه بالواسطة وذلك
قولهم للأصنام :
{هؤلاء
شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّه} .
وقوله : و{مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} .
والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة
ولذلك قال عزّ من قائل :
{وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه} .
سعيد بن جبير : إنّ اللّه يأمر
يوم القيامة من أحرف نفسه في الدّنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم
فيأتون لعلمهم إنّ عذاب جهنم على الدّوام ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكافرين :
إنّ كنتم أحبّائي لا تحبّون النّار فينادي مناد من تحت العرش
{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه} .
وقيل : لأنّ حبّ المشركين لأوثانهم مشترك لأنّهم يحبّون الأنداد
الكثيرة وحبّ المؤمنين لربّهم غير مشترك لأنّهم يحبّون ربّاً واحداً،
وقيل : لأنّ حبّهم هوائي وحبّ المؤمنين عقلي.
وقيل إنّ حبّهم للأصنام بالتقليد وحبّ المؤمنين للّه تعالى
بالدّليل والتمييز.
وقيل : لأنّ الكافرين يرون معبودهم ومصنوعهم والمؤمنون يرون اللّه
تعالى صانعهم،
وقيل : لأنّ المشركين أحبّوا الأصنام وعاينوها والمؤمنون يحبّون
اللّه ولم يعاينوه بل آمنوا بالغيب في الغيب للغيب.
وقيل : إنّما قال
{وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للّه} لأنّ اللّه أحبّهم
أوّلاً ثمّ أحبّوه ومن شهد له المعبود بالمحبّة كان محبّته أتم وأصح.
قال اللّه تعالى :
{يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ} .
وقرأ أبو رجاء العطاردي :
يحبونهم بفتح الياء وهي لغة يقال : حببت الرجل فهو محبوب قال الفرّاء أنشدني أبو تراب :
أحبّ لحبّها السّوادن حتّى
حببت لحبّها سواد الكلاب
{وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا} قرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء
والحسن وأبو جعفر وشيبه ونافع وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون وسلام ويعقوب وأيّوب
وابن عبّاس ولوترى بالتّاء :
أي تبصر يا محمّد وقرأ الباقون بالياء.
فمن قرأ بالتّاء فهو خطاب
للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) والجواب محذوف تقديرها ولو ترى :
أي تبصر يا محمّد
الّذين ظلموا : أشركوا.
{إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذَابَ} لرأيت أمراً عظيماً ولعلمت ما يصيرون إليه أو لتعجّبت منه،
ومن قرأ بالياء فمعناه : ولوترى
الّذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا
{أَنَّ الْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا} أو لآمنوا أو لعلموا مضرّة الكفر ونظير هذه
الآية من المحذوف الجواب
قوله تعالى :
{وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ}
الآية :
يعني لكان هذا القرآن وهو كما يقول : لو رأيت فلاناً والسّياط
تأخذه. فتستغني عن الجواب؛ لأنّ المعنى مفهوم
{إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} .
وقرأ أبو البرخثم وابن عامر :
يُرون بضم الياء على التعدي،
وقرأ الآخرون بفتحها على
اللزوم.
{أَنَّ الْقُوَّةَ
للّه جَمِيعًا} قرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وشيبة وسلام ويعقوب :
(إنّ القوّة وإن اللّه) بكسر الألف فيهما على الأستئناف والكلام تام عند
قوله
{يَرَوْنَ الْعَذَابَ} مع أضمار الجواب،
كما ذكرنا.
وقرأ الباقون : بفتحها على معنى
بانّ القوّة وبانّ اللّه،
وقيل : معناه ليروا أنّ القوّة للّه
أي لأيقنوا وعاينوا.
قال عطاء : ولو يرى الذيّن
ظلموا يوم القيامة إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام
لتلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبّة؛ لعلموا أنّ القوّة والقدرة والملكوت والجبروت
للّه جميعاً.
{وَأَنَّ اللّه
شَدِيدُ الْعَذَابِ} .
١٦٦
{إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} قرأ مجاهد : بتقديم الفاعل على المفعول.
وقرأ الباقون : بالضدّ،
والمتبوعون هم الجبابرة والقادة
في الشرك والشّر،
والتابعون هم الأتباع والضّعفاء
والسفلة قالهُ أكثر أهل التفسير.
السّدي : هم الشيّاطين يتبرأون
من الأنس.
{وَتَقَطَّعَتْ
بِهِمُ}
أي عنهم،
والباء بمعنى عن.
{اسْبَابُ} قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة :
يعني المودّة والوصلة
التي صارت بينهم في الدُّنيا،
أو صارت مخالفتهم عداوة.
ربيع :
يعني بالأسباب
المنازل التي كانت لهم من أهل الدُّنيا،
ابن جُريح والكلبي :
يعني الأنساب
والأرحام
كقوله تعالى
{فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يومئذ} .
السّدي :
يعني الأعمال
التي كانوا يعملونها في الدُّنيا. بيانه
قوله
{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا}
وقوله و
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه
أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} .
فأهل التقوى أعُطوا الأسباب
أعمال وثيقة فيأخذون بها وينجون،
الآخرون يعطون أسباب أعمالهم
الخبيثة فتنقطع بهم أعمالهم فيذهبون إلى النّار.
أبو روق : العهود التي كانت
بينهم في الدنيا،
وأصل السّبب كلّ شيء يتوصل به
إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودّة،
ومنه قيل للجهاد : سبب وللطريق
سبب وللسلّم سبب. قال زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ظلتهُ
لو رام أن يرقى السّماء بسلّم
١٦٧
{وَقَالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا}
يعني الأتباع.
و{لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رجعة إلى الدُّنيا.
{فَنَتَبَرَّأَ
مِنْهُمْ}
أي من المتبوعين.
{كما تبرأوا منّا} اليوم أجاب للتمني بالفعل.
قال اللّه عزّ وجلّ
{ كذلك }
أي كما اراهم العذاب كذلك.
{يُرِيهِمُ اللّه}
وقيل : ليتبرأوا بعضهم من بعضهم يريهم اللّه
{أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندامات.
{عَلَيْهِمْ} قيل : اراد أعمالهم الصّالحة التي ضيعّوها.
قال السّدي : ترفع لهم الجنّة
فينظرون إليها وإلى بيوتهم فسألوا قيل : أراد أعمالهم لو أطاعوا اللّه فيقال لهم :
تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه. ثمّ تقسم بين المؤمنين فيرثوهم فذلك حين يندمون.
ربيع : أراد به أعمالهم السّيئة
لمَ عملوها وهلاّ عملوا بغيرها ممّا يرضي اللّه تعالى.
ابن كيسان : إنّهم اشركوا
باللّه الأوثان رجاء أن يُقر بّهم إلى اللّه فلمّا عذّبوا على ما كانوا يرجون
ثوابه تحسّروا وندموا والحسرات جمع حسرة وكذلك كلّ إسم كان واحدة على فعله مفتوح
الأوّل ساكن الثاني فإنّ جمعه على فعلات مثل ثمرة وثمرات وشهوة وشهوات فأمّا إذا
كان نعتاً فانّك تسكّن ثانية مثل ضخمه وضخمات وعيلة وعيلات وكذلك ما كان من
الأسماء مكسور الأوّل مثل نعمة وسدرة.
{وَمَا هُم
بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} .
١٦٨
{يا أيّها النّاس كلوا
ممّا في الأرض حلالاً طيّبا} نزلت في ثقيف
وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فبما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام
والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فقال
:
{كُلُوا
مِمَّا فِى الأرض} دخل للتبعيض لانّه ليس كلّ ما
في الأرض يمكن أكلّه أو يحلّ أكلّه
{حَلَا
طَيِّبًا} طاهراً وهما منصوبان على الحال.
وقيل : على المفعول تقديره : كلوا حلالاً طيّباً كما في الأرض.
{وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قرأ شيبه ونافع
وعاصم والأعمش وحمزة خطوات : بسكون الطّاء في جميع القرآن وهي أكثر الروايات عن
أبي عمرو.
وقرأ أبو جعفر وأبو مجلن وأبو
عمرو في بعض الروايات والزهري وابن عامر والكسائي : بضم الخاء والطّاء.
وقرأ علي وعمرو بن ميمون وسلام
: بضم الخاء والطّاء وهمزة بعد الطّاء.
وقرأ أبو السّماك العدوي وعبيد
بن عمير : خطوات بفتح الخاء والطاء فمن خفّف فإنّه أبقاه على الأصل،
وطلب الخفّة لانّها جمع خطوة
ساكنة الطاء،
ومن ضم الطاء فيه أتبعها ضمة
الخاء،
وكل ما كان من الأسماء وزن فعله
فجمع على التاء فإنّ الأغلب والأكثر في جمعه التثقيل وتحريك من الفعل بالحركة التي
في فاء الفعل في الواحد مثل ظلمة وظلمات،
وقربة وقربات،
وحجرة وحجرات،
وقد يخفف أيضاً.
ومن ضمّ الخاء والطاء مع الهمز.
فقال الأخفش : أراد ذهب بها
مذهب الخطيئة فجعل ذلك على مثال خطه من الخطأ.
وقال ابو حاتم : أرادوا إشباع
الضمّة في الواو فانقلبت همزة وهذا شائع في كلّ واو مضمومة ومن نصب الخاء والطّاء
فانّه أراد جمع خطوة مثل تمرة وتمرات واختلفوا في معنى
قوله
{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس : خطوات الشيطان : عمله.
مجاهد وقتادة والضّحاك :
خطاياه.
السّدي والكلبي : طاعته.
عطاء عن ابن عبّاس : زلاته
وشهواته.
أبو مجلن : هي البذور في
المعاصي.
المورّج : آثاره.
أبو عبيد : هي المحقّرات من
الذنوب.
القتيبي والزجاج : طرقه.
والخطوة ما بين القدمين،
والخطوة بالفتح الفعلة الواحدة
من قول القائل : خطوت خطوة واحدة.
{إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بيّن العداوة،
وقيل : مظهر العداوة،
قد أبان عداوته لكم بإبائه
السّجود لأبيكم آدم ج وغروره إياه حين أخرجه من الجنّة،
وأبان : يكون لازماً ومتعدياً،
١٦٩
ثمّ بيّن عداوته فقال
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ} :
يعني الأثمّ،
وأصل السّوء كل ما يسوء صاحبه،
وهو مصدر : ساءه يسوءه سوءاً
ومساءة إذا حزنه وسوءه شيء
أي حزنته فحزن.
قال
اللّه تعالى
{فَلَمَّا
رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
قال الشاعر :
إنّ يك هذا الدّهر قد ساءني
فطالما قد سرّني الدّهر
الأمر عندي فيهما واحد
لذلك صبرُ ولذا شكرُ
{وَالْفَحْشَآءِ}
يعني المعاصي،
وما قبح من القول والفعل وهو
مصدر كالبأساء والضّراء واللاواء،
ويجوز أن يكون نعتاً لا فعل لهُ
كالعذراء والحسناء،
وقال متمم بن نويرة.
لا يضمر للحشا تحت ثيابه
خُلق شمائله عفيف المبرر
واختلف المفسرون في معنى
الفحشاء المذكور في هذه
الآية.
روى باذان عن ابن عبّاس
قال : الفحشاء
كلّ ما فيه حدّ في الدُّنيا من المعاصي فيكون من القول والفعل،
والسّوء من الذنوب ما لا حدّ
فيه.
طاووس : عنه فهو ما لا يُعرف في
شريعة ولا سنّة.
عطاء عنه : البخل. السّدي :
الزّنا.
وزعم مقاتل إنّ جميع ما في
القرآن من ذكر الفحشاء فإنّه الزّنا إلاّ
قوله
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم
بِالْفَحْشَآءِ} فإنّه منع الزّكاة.
{وَأَن تَقُولُوا
عَلَى اللّه مَا تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث
والأنعام.
١٧٠
{وَإِذَا قِيلَ
لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللّه} اختلفوا في
وجه هذه
الآية،
قال بعضهم : إنّها قصّة مستأنفة وأنّها نزلت في اليهود على هذا القول
تكون الهاء والميم في
قوله :
{لَهُمْ} كناية عن غير مذكور.
وروى محمّد بن إسحاق بن يسار عن
محمّد بن أبي محمّد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عبّاس
قال : دعا رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) اليهود إلى الإسلام ورغبّهم فيه وحذّرهم عذاب اللّه ونقمته فقال له نافع
بن خارجة ومالك بن عوف
{قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} فهم كانوا خيراً واعلم منّا فأنزل اللّه هذه
الآية،
وقال قوم : بل هذه
الآية صلة بما قبلها وهي نازلة في مشركي العرب وكفّار قريش
واختلفوا فيه فقال الضّحاك عن ابن عبّاس : فإذا قيل لهم إتبّعوا ما أنزل اللّه
يعني كفّار قريش
من بني عبد الدّار،
قالوا : بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام.
فقال اللّه
{أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً} من التوحيد ومعرفه الرحمن
{وَلا يَهْتَدُونَ} للحجّة
البالغة وعلى هذا القول تكون الهاء والميم عائدة على من في
قوله
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّه
أَندَادًا} وقال الآخرون : إذا قيل لهم إتبّعوا ما أنزل اللّه في تحليل
ما حرّموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والسائبة والوصيلة والبحيرة والحام وسائر
الشرائع والأحكام
{قَالُوا بَلْ
نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا} وجدنا عليه آباؤنا
من التحريم والتحليل والدّين والمنهاج وعلى هذا القول تكون الهاء والميم راجعة إلى
النّاس في
قوله تعالى :
{يا أُيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّبا}.
ويكون الرجوع عن الخطاب إلى
الخبر،
كقوله
{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} وهذا أولى
الأقاويل لأنّ هذه القصّة عقب
قوله
{يا
أيُها النّاس} فهو أولى أن يكون خبراً عنهم من أن يكون خبراً عن المتخذين
الأنداد بما فيهما من الآيات لطول الكلام.
وادغم علي بن حمزة الكسائي لام
هل وبل في ثمانية أحرف التاء كقوله
{بَلْ
تُؤْثِرُونَ} و
{هَلْ
تَعْلَمُ} والثاء كقوله
{هَلْ
ثُوِّبَ} ،
والسين في
قوله
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} ،
والزاي كقوله
{بَلْ زُيِّنَ} ،
والضاد كقوله
{بَلْ ضَلُّوا} ،
والظاء كقوله
{بَلْ ظَنَنتُمْ} والطاء كقوله
{بَلْ
طَبَعَ اللّه} ،
والنون نحو
قوله
{بَلْ نَحْنُ} ،
{بَلْ نَتَّبِعُ مَآ
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ} وإنّما خصّ به لام
هل وبل دون سائر اللامات : لأنّها ساكنة بتاً،
وسائر اللاّمات ساكنة بعلل متى
ما زالت تلك العلل زال سكونها.
فقال اللّه
{أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ} واو العطف،
ويُقال أيضاً واو التعجب دخلت
عليها ألف الإستفهام للتوبيخ والتقرير؛ فلذلك نصبت،
والمعنى يتبعون آباءهم وإن
كانوا جهّالاً،
وترك جوابه لأنّه معروف.
قوله تعالى
{يَعْقِلُونَ
شَيْئًا} لفظ عام ومعناه الخصوص لأنّهم كانوا يعقلون أمر الدُّنيا
(ومعناه) لا يعقلون شيئاً من أمر الدّين ولا يهتدون.
١٧١
ثمّ ضرب لهم مثلاً فقال عزّ من
قائل
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} .
وسلكت العلماء في هذه
الآية طريقين،
وأوّلوها على وجهين : فقال قوم
: أراد بما لا يسمع إلاّ دعاء مثل البهائم التي لا تعقل،
مثل الإبل والغنم والبقر
والحمير ونحوها،
وعلى هذا القول : ابن عباس
وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع والسدي وأكثر المفسرين. ثمّ اختلف أهل المعاني
في وجه هذا القول وتقدير
الآية.
فقال بعضهم : معنى
الآية : ومثلك يا محمّد ومثل الّذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى
اللّه عزّ وجلّ قاله الأخفش والزجّاج.
وقال الباقون : مثل واعظ الّذين
كفروا وداعيهم.
{كَمَثَلِ الَّذِى
يَنْعِقُ} فترك ذلك وأضاف المثل إلى الّذين كفروا لدلالة الكلام عليه
ويسمّى هذا النوع من الخطاب المضمر ومثله في القرآن كثير كقوله
{وسئل القرية}
قال الشاعر :
حسبت بغام راحلتي عناقاً
وما هي وثبت غيركُ بالعناق
يعني حسبت بغام راحلتي بغام عناق،
وقال الرّاجز :
ولستُ مسلماً ما دمت حياً
على زيد كتسليم الأمير
أي كتسليمي على الأمير. فشبه اللّه عزّ وجلّ واعظ الكفار
بالرّاعي الذي ينعق بالغنم
أي يصيح ويصوت بها. يُقال : ينعق نعيقاً
ونُعاقاً ونعقاً إذا صاح وزجر،
قال الأخطل :
فانعق بضأنك يا جرير فإنّما
منّتك نفسك في الخلاء ضلالا
فكما أنّ هذه البهائم تسمع
الصّوت ولا تفهمه ولا تنتفع به ولا تعقل ما يُقال لها،
وكذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إن
أمرته بخير أو زجرته عن سوء،
غير أنّهُ يسمع صوتك.
قال الحسن : يقول مثلهم فيما
قبلوا من آباءهم وفيما أتيتهم به حيث لا يسمعونه ولا يعقلونه،
كمثل راعي الغنم الذي نعق بها
فإذا سمعت الصّوت رفعت رؤوسها فاستمعت إلى الصّوت والدُّعاء ولا تعقل منه شيئاً.
ثمَّ تعود بعد إلى مراتعها لم
تفقه ما يُراد لها به،
وقال بعضهم : معنى
الآية
{وَمَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا} في قلّة عقلهم وفهمهم عن اللّه
عزّ وجلّ وعن رسوله وسوء قبولهم عنهما كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من
الأمر والنهّي غير الصّوت فكذلك الكافر في قلة فهمه وسوء تفكّره وتدبّره فيما أُمر
به ونُهي عنه فيكون المعنى للمنعوق به الكلام خارج على النّاعق وهو فاش في كلام
العرب،
يفعلون ذلك ويقبلون الكلام
لاتضاح المعنى عندهم. فيقولون. فلان يخافك كخوف الأسد :
أي كخوفه الأسد.
ويقولون : أعرض الحوض على
النّاقة،
وإنّما هو أعرض النّاقة على
الحوض.
قال اللّه عزّ وجلّ
{إنّ مفاتحه لتنوأُ
بالعصبة أولي القوّة} وإنّما العصبة تنوء بالمفاتيح،
وقال الشاعر :
وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي
على وعِل في ذي المطارة عاقل
والمعنى : حتّى ما يزيد مخافتي
وجل على مخافتي،
وقال الآخر :
كانت فريضة ما تقول كما
إنّ الزنّى فريضة الرّجم
والمعنى : كما إنّ الرّجم فريضة
الزّنا،
وأنشد الفراء :
إن سّراجاً لكريم مفخره
تُجلى به العين إذا ما تجمره
والمعنى : يحلى بالعين،
ونظائره كثيرة.
وعلى هذا القول أبو عبيدة
والفراء وجماعة من العلماء،
وقال بعضهم : معنى
الآية : ومثل الكفّار في قلة فهمهم وعقلهم،
كمثل الرُّعاة يكلمون البهم،
والبهم لا تعقل عنهم،
وعلى هذا التفسير لا تحوّل
الآية إلى
الضمير،
وقال بعضهم : معناها ومثل الّذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه
دعاؤهم كمثل النّاعق بغنمه؛ فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير إنّه في عناء من دُعاء
ونداء،
فكذلك الكافر ليس له من دعائه
الآلهة وعبادته الأوثان إلاّ العناء والبلاء،
ولا ينتفع منها بشيء،
يدلّ عليه
قوله تعالى في صفة الأصنام
{إِن
تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} . فهذا وجه صحيح.
وأمّا الوجه الآخر،
فقال قوم : معنى
الآية ومثل
الكفّار في دعائهم الأوثان وعبادتهم الأصنام كمثل الرّجل الذي يصيح في جوف الجبال
فيجيب فيها صوت يقال له : الصدى يجيبه ولا ينفعه. فيكون تأويل
الآية على هذا
القول،
ومثل الكفّار في عبادتهم
الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع منه إلاّ دعاء ونداء.
ثمّ قال
{صُمُّ}
أي هم صمُّ،
والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل
بما يسمعه كأنّه أصم.
قال
الشاعر :
أصم عما يساء سميعُ
{بِكُمُ} عن الخير فلا يقولونه.
{عُمْىٌ} عن الهدي فلا
يبصرونه.
١٧٢
{فَهُمْ يَعْقِلُونَ}
{يا
أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيبات} من حلالات.
{مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الحرث والأنعام وسائر المأكولات والنعم.
وروى أبو هريرة عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إنّه
قال :
(إنّ اللّه طيب لا يقبل إلاّ الطيب،
وإنّ اللّه أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال :
{يا
أيّها الرّسل كلوا من الطيبات} وقال
{يا أيّها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعر أغبر يمدّ يديه
إلى السماء بيا ربّ يا رب ومطعمهُ حرام ومشربه حرام وملبسهُ حرام وغُذي في حرام
فأنّى يستجاب له).
{وَاشْكُرُوا للّه} على نعمته.
{إِن كُنتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يقول اللّه جلّ جلاله إنّي والجنّ والأنس في نبأ
عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري).
١٧٣
ثمّ بيّن ما حُرّم عليكم فقال :
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} قرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنّما حرم خفيفة الرّاء مضمومة.
{الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} رفعاً على إنّ
الفعل لها،
وروى عن أبي جعفر : إنّه قرأ
حُرّم بضم الحاء وكسر الرّاء وتشديدها ورفع ما بعده وله وجهان :
أحدهما : إنّ الفاعل غير مسمّى.
والثاني : إنّ الّذي حرّم عليكم الميّت على خبر إنّ.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة :
حرَّم بنصب الحاء والرّاء مشدّداً ورفع ما بعده جعل ما بمعنى الّذي منفصله عن
قوله : إنّ
وحينئذ تكون ما نصباً بإسم إنّ وما بعدها رفعاً على خبرها كما تقول : إنّ ما أخذت
مالك وإنّ ما ركبت دابّتك
أي : إنّ الّذي
قال
اللّه{إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} .
وقرأ الباقون : حرّم عليكم
الميتة نصباً على إيقاع الفعل وجعلوا إنّما كلمة واحدة تأكيداً وتحقيقاً.
وقرأ أبو جعفر : الميتة
(وأخواتها) بالتشديد في كلّ القرآن،
وأمّا الآخرون فخففّوا بعضاً
وشدّدوا بعضاً فمن شدّد قال أصله : ميوت فعل من الموت فأدغمت الياء في الواو وجعلت
الواو ياءاً مشدّدة للكسرة كما فعلوا في سيّد وحيّد وصيّب ومن لم يشدّد فعلى طلب
الخفّة وهما لغتان مثل : هيّن وهيْن،
وليّن ولين.
قال الشاعر :
ليس من مات واستراح بميّت
إنّما الميت ميّت الأحياء
فجمع بين اللّغتين.
وحكى أبو معاذ عن النحوييّن وقال : إنّ الميْت
بالتخفيف الّذي فارقه الرّوح،
والميّت بالتشديد الّذي لم يمت
بعد وهو يموت
قال اللّه عزّ وجلّ :
{إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} : لم يختلفوا في
تشديده واللّه أعلم. والميتة : كلّ ما لم تدرك ذكاته وهو ممّا يذبح،
والدّم : أراد به الدّم الجاري
يدلّ عليه
قوله عزّ وجلّ :
{أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} مقيّد.
وهذه
الآية مخصوصة بالسنّة
وهو قول النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم)
(حلّلت
أنا ميّتان ودمان فأمّا الميّتان فالحوت والجراد،
وأمّا الدّمان
فالكبد والطّحال).
وقوله
{وَلَحْمَ
الْخِنزِيرِ} أراد به جميع أجزائه وكلّ بدنه فعبّر بذلك عن اللّحم لأنّه
معظمه وقوامه.
{وَمَآ أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللّه}
أي ماذُبح عن الأصنام
والطّواغيت. كما قاله ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحاك،
وأصل الإهلال رفع الصّوت ومنه
إهلال الحج وهو رفع الصّوت بالتلّبية. قال ابن أحمر :
نصف فلاة يهلّ بالفرقد ركبانها
كما يهلّ الراكب المعتمر
وقال آخر :
أو درّة صدفية غواصها
يهيج متى يرها تهلّ وتسجد
ومنه
(أهل) الصّبي واستهلاله،
وهو صياحه عند خروجه من بطن
أُمّه،
وفي الحديث :
(كيف آذي من لانطق ولا استهلّ ولاشرب ولا أكل) فمثل ذلك يُطل،
ومثل أهلال المطر واستهلاله
وانهلاله وهو صوت وقوعه على الأرض.
قال عمر بن قميئة :
ظلم البطاح له انهلال حريصة
فصفا النّطاف له بُعيد المقلع
وانّما
قال : وما أهلّ
به لانهم كانوا إذا ذبحوا لآلهتهم التّي ربّوها جهروا به أصواتهم فجرى ذلك من
أمرهم حتّى قيل : لكل ذابح سمّى أولم يسمّ جهر بالصّوت أو لم يجهر مُهلّ.
الربيع بن أنس وغيره : وما أهلّ
به لغير اللّه ماذكر عليه غير اسم اللّه. وقال الزهري : الاهلال لغير اللّه أن
تقول باسم المسيح وهذه
الآية مخصوصة بأهل الكتاب وهو
قوله
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَّكُمْ} .
وروى صيوة عن عقبة بن مسلم
التجيبي وقيس بن رافع الاشجعي إنهما قالا : إنّما أحلّ لنا ماذبح لعيد الكنائس وما
أهدي لها من خبز أو لحم فإنّما هو طعام أهل الكتاب،
وقال صيوة : قلت أرأيت قول
اللّه تعالى :
{وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه} فقال : انّما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وابو عمرو : فمن أضطرّ بكسر النون فيه
وفي أخواته مثل : أن اقتلوا أو اخرجوا ونحوها لأنّ الجزم يحرّك إلى الكسر وقرأ
الآخرون بضمّ النّون لمّا سكنّوا آخر الفعل الذي يليه لأجل الوصل نقلوا ضمّته إلى
النّون،
وقرأ ابن محيصن : فمن إضطر
بادغام الضّاد في الطّاء حتّى تكون طاء خالصة،
قرأ أبو جعفر بكسر الطاء رد إلى
الطّاء كسرت الرّاء المدغمة لأنّ أصله اضطرر على وزن افتعل من الضّرورة.
قرأ الباقون : بضمّ الطاء على
الاصل ومعناه أُحرج وأُجهد وأُلجيء إلى ذلك.
وقال مجاهد : اكره عليه كالرجل
يأخذه العدّو فيكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية اللّه.
{غَيْرَ} نصب على الحال،
وقيل على الاستثناء فإذا رأيت غيره لا يصلح في موضعها إلاّ فهي
حال وإذا صلح في موضعها إلاّ،
فهي : استثناء فقس على هذا ما
ورد عليك من هذا الباب.
{بَاغٍ وَلا عَادٍ} أصل البغي في اللّغة قصد الفساد يقال : بغى الجرح يبغي
بغياً إذا ترامى إلى الفساد ومنه قيل : للزّنا بغاء.
قال اللّه تعالى :
{وَلا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ} والزّانية بغي.
قال اللّه :
{وَمَا
كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} .
وأصل العدوان الظلم ومجاوزة
الحد يقال : عدا عليه
عدواً وعدوّاً وعدواناً وعِداء إذا ظلم،
واختلف المفسرون في معنى
قوله :
{غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ}
فقال بعضهم : غير باغ :
أي غير قاطع للطّريق،
ولا عاد : مفّرق للائمة شاقّ
للأمّة خارج عليهم بسيفه فمن خرج يقطع الرحم أو يخيف ابن السبيل أو يفسد في الأرض
أو ابق من سيّده أو فرّ من غريمه أو خرج عاصياً بأي وجه كان فاضطرّ إلى ميتة لم
يحلّ له اكلها أو اضطرّ إلى الخمر عند العطش لم يحلّ له شربه ولا رخصة له ولا
كرامة فأمّا إذا خرج مطيعاً ومباحاً له ذلك فانه يرخّص فيه له وهذا قول : مجاهد
وسعيد بن جبير والضحّاك والكلبي ويمان وهو مذهب
الشّافعي،
قال : إذا ابحنا له ذلك فقد أعناه على فساده وظلمه إلى أن يتوب
ولايستبيح ذلك
وقال آخرون : هذا البغي والعدوان راجعان إلى الاكل واليه ذهب
أبو حنيفة وأباح تناول
الميتة للمضطر وإن كان عاصياً.
ثمّ اختلف أهل التأويل في تفصيل
هذه التفسير :
فقال الحسن وقتادة والرّبيع
وابن زيد : غير باغ : يأكله من غير اضطرار،
ولا عاد : متعدي يتعدى الحلال
إلى الحرام فيأكلها وهو غني عنها.
مقاتل بن حيّان : غير باغ :
أي مستحل لها،
ولاعاد : متزود منها.
السّدي : غير باغ في أكله شهوة
فيأكلها مُلذذاً،
ولا عاد يأكل حتى يشبع منه؛
ولكن يأكل منها قوتاً مقدار ما يمسك رمقاً.
شهر بن حوشب : غير باغ :
أي مجاوز للقدر الّذي
يحلّ له،
ولا عاد ولا يُقصر فيما يحلٌّ
له فيدعهُ ولا يأكله.
قال مسروق : بلغني إنّه من اضطر
إلى الميتة فلم يأكلها حتّى مات دخل النّار،
وقد اختلف الفقهاء في مقدار
مايحلٌّ للمضطر أكلهُ من الميتة.
فقال بعضهم : مقدار مايُمسك به رمقه،
وهو أحد قولي
الشّافعي واختيار المزني.
والقول الآخر : يأكل منها حتّى
يشبع،
وقال مقاتل بن حيّان : لا يزداد
على ثلاث لقم.
وقال سهل بن عبد اللّه : غير
باغ مفارق لجماعة،
ولا عاد مبتدع مخالف لسنّة،
ولم يرُخص للمبتدع تناول
المحرمات عند الضرورات.
{فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} فلا حرج عليه في أكلها.
{أَنَّ اللّه
غَفُورٌ} لما أكل من الحرام في حال الأضطرار.
{رَّحِيمٌ} به حيث رخُص له في ذلك.
١٧٤
{إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّه مِنَ الْكِتَابِ}
الآية.
قال جويبر عن الضّحاك عن ابن
عبّاس : سئلت الملوك اليهود قبل مبعث محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) عن الذي يجدونه في التوراة فقالت اليهود : إنّا لنجد في التوراة إنّ
اللّه عزّ وجلّ يبعث نبيّاً من بعد المسيح يُقال له : محمّد،
يحُرّم الزّنى والخمر والملاهي
وسفك الدّماء،
فلما بعث اللّه محمّداً
(صلى اللّه عليه وسلم) ونزل المدينة قالت الملوك لليهود : أهذا الذي تجدون في كتابكم؟
فقالت اليهود طمعاً في أموال
الملوك : ليس هذا بذلك النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) ،
فأعطاهم الملوك الأموال،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية اكذاباً
لليهود.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عبّاس : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم؛ كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول،
وكانوا يرجون أن يكون النبيّ
المبعث منهم،
فلما بعث اللّه محمّداً
(صلى اللّه عليه وسلم) من غيرهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم،
فعمدوا إلى صفة محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) فغيرّوها ثمّ أخرجوها إليهم،
وقالوا : هذا نعت النبيّ
الذي يخرج في آخر الزّمان ولا يشبه نعت هذا النبيّ الّذي بمكّة.
فلما نظرت السفلة إلى النعت
المُغيّر وجدوه مخالفاً لصفة محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) فلا يتبعونه.
فأنزل اللّه تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللّه
مِنَ الْكِتَابِ}
يعني صفة محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) ونبوّته.
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ} بالمكتوم.
{ثَمَنًا قَلِيلا} عرضاً يسيراً
يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم.
{أُولَاكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ذكر البطن هاهنا
للتوكيد؛ لأن الإنسان قد يقول أكل فلان مالي إذا أفسده وبذّره،
ويُقال : كلمة من فيه؛
لأنّه قد يكلمه مراسلة ومكاتبة،
وناوله من يده ونحوها.
قال الشاعر :
نظرت فلم تنظر بعينك منظرا
{إِلا النَّارَ}
يعني إلاّ مايوردهم النّار،
وهو الرّشوة والحرام وثمن
الدّين والإسلام.
لمّا كانت عاقبتهُ النّار،
سماه في الحال ناراً.
كقوله تعالى
{إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى
بُطُونِهِمْ نَارًا}
يعني إنّ عاقبته تؤول
إلى النّار،
وقوله
(صلى
اللّه عليه وسلم) في الذي يشرب في آنية الذهب
والفضة
(إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم)،
أخبر عن المال بالحال.
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كلاماً ينفعهم
ويسرّهم هذا قول أهل التفسير،
وقال أهل المعاني : أراد به
إنّه يغضب عليهم كما يقول فلان لايكلم فلاناً :
أي هو عليه غضبان.
{وَلا يُزَكِّيهِمْ} لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم.
١٧٥
{وَلَهُمْ عَذَابٌ
ألِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ}
أي استبدلوا
الضلاّلة.
{بِالْهُدَى
وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} . : اختلفوا في
(ما).
فقال قوم : هي
(ما) التعجب،
واختلفوا في معناها.
فقال الحسن وقتادة والرّبيع :
واللّه مالهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النّار
قال : وهذه لغة
يمانية.
وقال الفراء : اخبرني الكسائي،
أخبرني قاضي اليمن : إنّ خصمين
اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف،
فقال خصمهُ : ما أصبرك على
اللّه..
أي ما أجرأك عليه.
وقال الموراج : فما أصبرهم على
عمل يؤديهم إلى النّار؛ لأنّ هؤلاء كانوا علماء.
فانّ من عاند النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) صار من أهل النّار.
الكسائي وقطرب : معناه ما
أصبرهم على عمل أهل النّار
أي ماأدومهم عليه... كما تقول : ما أشبه سخاك بحاتم :
أي بسخاء حاتم.
مجاهد : ما أعلمهم بأعمال أهل
النّار،
وقيل : ما أبقاهم في النّار كما يُقال : ما أصبر فلاناً
على الضرب والحبس...
عطاء والسّدي وابن زيد وأبو بكر
بن عبّاس : هي
(ما) الإستفهام
ومعناه : ما الذي صبرهم وأيّ شيء صبرّهم على النّار حين تركوا الحق واتبعوا
الباطل.
فقيل هذا على وجه الإستهانة.
١٧٦
{ ذلك بِأَنَّ اللّه
نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} قال بعضهم معناه
{ ذلك } العذاب
{بِأَنَّ اللّه نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} واختلفوا فيه،
وحينئذ تكون
(ذلك) في محل
الرّفع،
وقال بعضهم محلهُ نصب. معناه :
فعلنا ذلك بهم بأنّ اللّه عزّ وجلّ،
أو لأنّ اللّه نزّل الكتاب
بالحقّ،
واختلفوا فيه،
وكفروا به فنزع حرف الصّفة.
وقال الأخفش : خبر ذلك مضمر
معناه : ذلك معلوم لهم بأنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ.
وقال بعضهم : معناه
(ذلك) :
أي فعلهم الذين يفعلون من الكفر والأختلاف والأجتراء على اللّه
تعالى من أجل إنّ اللّه نزّل الكتاب بالحقّ،
وتنزيله الكتاب بالحقّ هو
اخباره عنهم
{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أأنذَرْتَهُمْ أمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِم}.
{وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِى الْكِتَابِ} فآمنوا ببعض
وكفروا ببعض.
{لَفِى شِقَاق
بَعِيدٍ} لفي خلاف،
وضلال طويل.
١٧٧
{لَّيْسَ الْبِرَّ
أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}
قرأ حمزة وحفص : ليس البرَّ
بنصب الرّاء،
وقرأ الباقون : بالرّفع فمن رفع
البرّ جعله إسم ليس،
وجعل خبره في
قوله
{أَن تُوَلُّوا} تقديره : ليس البرَّ توّليتكم،
وجوهكم،
ومن نصب جعل أن وصلتها في موضع
الرّفع على إسم ليس تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه. كقوله
{ماكان حجتهم إلاّ أن قالوا} ،
وقوله
{فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ} .
هارون عن عبد اللّه وأُبي بن
كعب : إنّهما قرئا ليس البرَّ بأن تولوا وجوهكم،
واختلف المفسرون في هذه
الآية :
فقال قوم : عنى اللّه بهذه
الآية اليهود
والنصّارى؛ وذلك إنّ اليهود كانت تُصلّي قبل المغرب إلى بيت المقدس،
والنّصارى قبل المشرق،
وزعم كل فريق منهم إنّ البرّ في
ذلك،
فأخبر اللّه إنّ البرّ غير
دينهم وعملهم،
ولكنه مابينّه في هذه
الآية،
وعلى هذا القول : قتادة
والرّبيع ومقاتل بن حيّان وعوف الأعرابي.
وقال الآخرون : المراد بهذه
الآية المؤمنون؛
وذلك إنّ رجلاً سأل النبّي
(صلى
اللّه عليه وسلم) عن البرّ،
فأنزل اللّه هذه
الآية فدعا رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ذلك الرّجل فتلاها عليه.
وقد كان الرّجل قبل الفرائض إذا
شهد أن لا اله إلاّ اللّه وإنّ محمّداً عبدهُ ورسوله وصلّى الصلاة إلى
أيّ ناحية ثمَّ
مات على ذلك وجبت له الجنّة،
فلما هاجر رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ونزلت الفرائض وحدّد الحدود،
وصرفت القبلة إلى الكعبة. أنزل
اللّه هذه
الآية فقال : ليس البرّ
كلّه أن تصلّوا وتعملوا غير ذلك.
{وَلَاكِنَّ الْبِرَّ
مَنْ ءَامَنَ بِاللّه} جعل من وهي اسم
خبراً للبرّ وهو فعل ولايُقال : البرّ زيد،
واختلفوا في وجه
الآية :
فقال بعضهم : لما وقع من في موضع المصدر جعله مضمراً للبرّ. كأنّه
قال : ولكن البّر
الأيمان باللّه،
والعرب تجعل الأسم خبراً للفعل
كقولهم : إنّما
البر الصادق الذي يصلُ من رحمه ويُخفي صدقته : يريدون صلة الرّحم،
وأخفاء الصّدقة،
وعلى هذا القول الفراء والمفضل
بن سلمة وأنشد الفراء :
لعمرك ما الفتيان أن تنبت
اللحّى
ولكنّما الفتيان كل فتى ندي
فجعل نبات اللحية خبراً للفتى.
وقيل : معناه ولكنّ البّر برّ من آمن باللّه واستغنى عن النّاس،
كقولهم : الجود حاتم،
والشجاعة عنترة،
والشعر زهير :
أي جود حاتم وشجاعة
عنترة وشعر زهير،
وتقول : العرب : بنو فلان يطأهم
الطريق،
أي أهل الطريق.
قال
اللّه تعالى{وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} ،
وقال تعالى :
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ
وَاحِدَةٍ} قال النابغة الجعدي :
وكيف نواصل من أصبحت جلالته
كأبي مرحب
أي كجلالة أبي مرحب،
وعلى هذا القول قطرب والفراء
والزّجاج أيضاً.
وقال أبو عبيدة : معناه ولكنّ
البار من آمن باللّه كقوله
{وَالْعَاقِبَةُ
لِلتَّقْوَى}
أي المتقي.
وقيل : معنى ذو البرّ من آمن باللّه حكاه الزّجاج. كقوله
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّه} :
أي ذو درجات.
قال المبرّد : لو كنت ممن قرأ
القرآن لقرئت : لكنَّ البرَّ من آمن باللّه بفتح الباء تقول العرب : رجل بر وبار
والجمع بررة وابرار،
والبرّ : العطف والأحسان،
والبرَّ أيضاً : الصدق،
والبرَّ هنا الإيمان والتقوى،
وهو المراد في هذه
الآية بذلك عليه
قوله
{مَنْ ءَامَنَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ} .
{وَ الملائكة} كلهم.
{وَالْكِتَابِ}
(يعني
الكتب).
{وَالنَّبِيِّنَ} أجمع.
{وَءَاتَى الْمَالَ
عَلَى حُبِّهِ} واختلفوا في هذه الحكاية :
فقال أكثر المفسرين : في حبّه
راجعة إلى المال
يعني أعطى المال في حال صحّته ومحبّته إياه ونفسه به يدلّ عليه
قول ابن مسعود في هذه
الآية
قال : هو أن توصيه وأنت صحيح،
تأمل العيش وتخش الفقر ولا
تمهل،
حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت
لفلان كذا،
ورفع هذا الحديث بعضهم.
وقيل : هي عائدة على اللّه عزّ وجلّ
أي حبّ اللّه سبحانه.
قال الحسين بن أبي الفضل : على
حبّ الأيتاء،
وقيل : الهاء راجعة إلى المعطي
أي حبّ المعطي.
{ذَوِى الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى} أهل القرابة. عن أمّ رابح بنت صليح عن سليمان بن عامر عن
النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(صدقتك على مسكين صدَقة واحدة وعلى ذي الرّحم
إثنتين لأنّها صدقة وصلة).
الزهري عن حميد بن عبد الرّحمن
عن أمّه أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
قال : سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(أفضل الصّدقة على
ذي الرّحم الكاشح).
سليمان بن يسار عن ميمونة زوج النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) قالت : أعتقت جارية لي فدخلت على النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) فأخبرته بعتقها فقال :
(آجرك
اللّه أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
{وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ} سمّي المجاز واختلفوا فيه فقال
أبو جعفر البارقي ومجاهد :
يعني المسافر المنقطع عن أهله يمّر عليك.
قتادة : هو الضّيف ينزل بالرجل
:
قال : وذكرنا أنّ
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يقول :
(من كان يؤمن باللّه
واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
وكان يقول :
(حقّ الضيافة ثلاث ليال فكل شيء أضافه فهو صدقة).
وإنّما قيل للمسافر والضيف
الّذي يحلّ ويرتحل ابن السبيل لملازمته الطريق كما قيل للرّجل الّذي
(أتت عليه الدهور) ابن الأيّام واللّيالي،
ولطير الماء : ابن الماء
لملازمته إيّاه،
قال ذو الرّمة :
وردت اعتسافاً والثريّا كأنّها
على قمّة الرأس ابن ماء محلّق
{وَالسَّآئِلِينَ} المستطعمين الطّالبين.
عبد اللّه بن الحسين عن أمّه
فاطمة بنت الحسين قالت : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(للسائل حقّ وإن جاء على فرس).
مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(هدية اللّه إلى المؤمن السّائل على بابه).
{وَفِي الرِّقَابِ}
يعني المكاتبين قاله أكثر المفسّرين،
وقيل : فداء الاسارى،
وقيل : عتق النّسمة وفكّ الرّقبة.
{لَّيْسَ الْبِرَّ} المفروضة.
{لَّيْسَ الْبِرَّ} الواجبة.
{وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} فيما بينهم وبين
النّاس إذا وعدوا انجزوا وإذا حلفوا اوفوا،
وإذا قالوا صدقوا وإذا أئتمنوا
أدَّوا.
قال الرّبيع بن أنس : فمن أعطى
عهد اللّه ثمّ نقضه فاللّه سبحانه مطعم منه ومن أعطى دمه النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ غدر فالنبّي
(صلى
اللّه عليه وسلم) خصمه يوم القيامة.
وفي وجه ارتفاع الموفّين قولان
: قال الفرّاء والأخفش : هو عطف على محل
(من) في
قوله :
{وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّه} و
(من) في موضع جمع ومحلّه رفع كأنّه
قال : ولكن البّر
المؤمنون والموفون.
وقيل : رفع على الابتداء والخبر تقديره هُم الموفون،
ثمّ
قال :
{وَالصَّابِرِينَ} وفي نصبها أربعة أقاويل. قال أبو عبيد : نصب على تطاول
الكلام ومن شأن العرب أن في تعيّر الاعراب إذا طال الكلام
(والنسق).
وقال الكسائي : نصبه نسقاً على
قوله
{ذَوِى الْقُرْبَى} الصابرين.
وقال بعضهم : معناه وأعني الصابرين.
وقال الخليل بن أحمد والفرّاء :
نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح
والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه.
فأمّا المدح فقوله تعالى :
{لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ} وأنشد الكسائي :
وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم
إلاّ نميراً اطاعت أمر غاويها
والطاعنين ولما يطعنوا أحدا
والقائلين لمن دار يخليها
وأنشد أبو عبيده لحزنق بن عفان
:
(لا يبعدن) قومي الَّذين هم
سم العداة وانه الجزل
النازلين بكل معترك
والطيبين معاقد الأزل
وأما الذّم،
فقوله تعالى
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أخذوا.
وقال عروة بن الورد
تسقوني الخمر ثمّ تكفوني
عداة اللّه من كذب وزور
{فِى الْبَأْسَآءِ}
يعني الشدة والفقر
{وَالضَّرَّآءِ} المرض والزمانة وهما إسمان بنيا على فعلاً ولا أفعل لهما
لانهما إسمان وليسا بنعت.
{وَحِينَ الْبَأْسِ} وقت القتال : وقال علي
(رضي اللّه عنه) : كنّا إذا
أحمرّ البأس اتقينا برسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فكان أقربنا إلى العدّو إذا
اشتدّ الحرب.
{أُولَاكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا} في دمائهم.
{وَأُولَاكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ} روى القاسم : إن إبا ذر سُئل عن الإيمان؟
فقرأ هذه
الآية فقال
السائل : انّما سألنا عن الإيمان وتخبرنا عن البّر،
فقال : جاء رجل إلى رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فسأله عن الإيمان فقرأ هذه
الآية.
وقال أبو ميسرة : وقرأ هذه
الآية ومن عمل
بهذه
الآية فقد استكمل
البرّ.
١٧٨
{يَا أيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى}
الآية : قال الشعبي والكلبي وقتادة ومقاتل بن حيّان وأبو الجوزاء
وسعيد بن جبير : نزلت هذه
الآية في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام
بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتّى جاء الإسلام.
قال سعيد بن جبير : إنهما كانا
حيّين الأوس والخزرج.
وقال ابن كيسان : قريظة
والنّضير،
قال : وكان لأحد الحيّين حول على الآخر في الكرم والشّرف،
وكانوا ينكحون نسائهم بغير
مهور. فاقسموا ليقتلن بالعبد منّا الحرّ منهم،
وبالمرأة منّا الرّجل منهم،
وبالرّجل منّا الرّجلين منهم،
وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات
أولئك وهم كذا يعاملونهم في الجاهلية. فرفعوا أمرهم إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية،
وأمرهم بالمساواة فرضوا
وسلّموا.
السّدي وجماعة : نزلت هذه
الآية في
الدّيات؛ وذلك إنّ أهل حزبين من العرب أقتتلوا؛ أحدهما مسلم والآخر معاهد. فأمر
اللّه تعالى نبيّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النّساء من كل واحد من الفريقين
قصاصاً بديات النّساء من الفريق الآخر،
وديات الرّجال بالرّجال،
والعبيد بالعبيد،
فأنزل
{يا آيها الّذين آمنوا كُتَب} فرض وكتب عليكم في القتلى،
والقصاص : المساواة والمماثلة
في النفوس والجروح والدّيات،
وأصله من قصّ الأثر إذا اتبّعه
فكان المفعول به يتبع ما عمل به فيعمل مثلهُ،
ثمّ بيّن فقال :
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَانثَى
بِانثَى} .
ذكر حكم الآيات
إذا تكافأ الدّمان من الأحرار
المسلمين أو العبيد من المسلمين،
أو الأحرار من المعاهدين أو
العبيد منهم قُتل من كل صنف منهم : الذكر إذا قُتل منهم بالذكر،
والأُنثى إذا قُتلت بالأُنثى،
والذكر والأجماع واقع إنّ
الرّجل يُقتل بالمرأة لأنّهما يتساويا في الحرّمة والميراث وحد الزّنى والقذف وغير
ذلك؛ فلذلك يجب أن يستويا في القصاص ولا يُقتل الحرّ بالعبد وعليه قيمته وإن بلغت
(ثلث)؛ لما
بينهما من المفاضلة،
ولا يُقتل مؤمن بكافر. بدليل
ماروى الشّعبي عن أبي حجيفة
قال : سألت عليّاً كرم اللّه وجهه هل عندكم من النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) سوى القرآن؟
فقال : لا والذي فلق
الحبة وبرأ النسّمة إلاّ أن يعطي اللّه عزّ وجلّ عبداً فهماً في كتابه ومافي
الصحيفة. قلتُ : ومافي الصّحيفة؟
قال : العقل وفكاك الأسير،
وأن لايُقتل مسلم بكافر،
ولا يُقتل
(سيد) بعبده،
ولا والد بولده.
يدلّ عليه ماروى إن رجلاً اسمهُ
قتادة رمى ابنه بسيف فأصاب رجله فنزف فمات. فقال عمر
(رضي اللّه عنه) : لولا أني
سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) يقول : لايُقاد والد بولده،
وإلاّ قدتهُ به.
{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ
مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ}
أيّ ترك وله وصفح عنه
من الواجب عليه وهو القصاص،
وروي عن علي
(رضي اللّه عنه) إنّه قتل ثلاثة بواحد في قتل العمد هذا قول أكثر المفسرين
قالوا : العفو أن
يقبل الدّية في قتل العمد،
وقال السّدي : هو أن يبقى له
بقية من دية أخيه أو من أرش جراحته.
{فَاتِّبَاعُ}
أي فعليه اتباع.
{بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أمر الطالب أن
يطلب بالمعروف ويتبع حق الواجب له عليه من غير أن يطالبه بالزّيادة أو يكلفة مالم
يوجبه اللّه له أو يُشدد عليه كما قال النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من زاد بعيراً في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر
الجاهلية).
حكم
الآية
أعلم إنّ أنواع القتل ثلاثة
العمد،
وشبه العمد،
والخطأ : فالعمد : أن يُقصد
ضربه،
بما أنّ الأغلب إنّه يموت منه
مثل الحديدة والخشبة العظيمة والحجر الكبير ونحوها أو حرقهُ أو غرقه أو الشّدة من
حبل أو سطح أو في بئر ومايشبه ذلك مما يتعمدّ قلبه ففي هذا القصاص أو الدّية.
فدية المسلم ألف دينار ومن
الورق أثنا عشر الف درهم ومن الإبل مائة منها أربعون خلفه في بطونها أولادها
وثلاثون حقّه،
وثلاثون جذعة،
الأصل في الرّجل الإبل أو ديات
النّساء على النصف من ذلك.
وأما شبه العمد : فهو أن يقصد
ضربه. بما الأغلب إنّه لايموت منه مثل : حصى صغير أو عود صغير أو لطمه أو وكزه أو
بكسره أو صفعة أو ضربة بالسّيف عمداً أو مااشبه وذلك فمات منه،
فهاهنا يجب الدّية مُغلّظة على
العاقلة،
كما وصفنا في دية العمد.
وأمّا الخطأ : فهو أن يقصد
شيئاً فيخطىء ويصوّب غيره. كالرّجل يرمي الهدف أو الصّيد فيُخطىء السهم فيقع
بأنسان فيقتله فهو الخطأ المحض وفيه الدّية المخفّفة على العاقلة في ثلاث سنين
أخماساً : عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون إبنا لبنون،
وعشرون خناق،
وعشرون جذعاً،
ولايتعين الورق والذّهب،
كما تنقص الإبل الذي ذكرت من
العفو والديّة.
{تَخْفِيفٌ مِّن
رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وذلك إنّ اللّه
تعالى كتب على أهل التوارة في النّفس والجرح أن يقيدوا ولايأخذوا الدّية ولايعفوا
وعلى أهل الأنجيل أن يعفوا ولايقيدوا ولايأخذوا الدّية. فخير اللّه تعالى هذه
الأُمة بين القصاص والدّية والعفو.
كما روى سعيد بن أبي سعيد
المقبري عن أبي شريح : إنّ رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(ثمّ أنتم ياخُزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هُذيل،
وأنا واللّه عاقله
فمن قتل قتيلاً بعده فأهله بين خيرتين : إن أحبّوا قتلوا وإن أحبّوا أخذوا العقل).
{فَمَنِ اعْتَدَى} ظلم وتجاوز الحد.
{بَعْدَ ذلك } فقيل بعد أخذ الدّية،
وقال الحسن : كان الرّجل في
الجاهليّة إذا قتل قتيلاً فرَّ إلى قومه فيجيء قومه فيُصالحون بالدّية فذلك
الاعتداء.
{فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ} يُقتل في الدٌّنيا ولايُعفى عنه.
قال النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا أُعافي رجلاً قتل بعد أخذه الدّية منه)،
وفي الآخرة عذاب النّار،
وفي هذه
الآية دليل على
إنّ القاتل لا يصير كافراً ولا يبقى خالداً في النّار؛ لأنّ اللّه تعالى خاطبهم فقال :
{يا أيُها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص} ولا خلاف إنّ القصاص واقع في العمد فلم يسقط عنه أسم الأيمان
بارتكاب هذه الكبيرة،
وقال في آخر
الآية
{فمن عُفى له من أخيه شيء} فسمى القاتل أخا المقتول،
وقال
{ ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وهما
(يخصّان) المؤمنين دون الكافرين.
يروى أنّ مسروقاً سُئل هل
للقاتل توبة؟
فقال : لا أغلق باباً
فتحه اللّه.
١٧٩
{وَلَكُمْ فِى
الْقِصَاصِ حياةٌ} بقاء لأنّه إذا علم أنّه إن
قتل أمسك وارتدع عن القتل. ففيه حياة للّذي يُهمّ بقتله،
وحياة للّهام ولهذا قيل في
المثل : القتل قلّل القتل.
وقال قتادة : كم رجل قدهمّ
بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ولكنّ اللّه تعالى حجر عباده بعضهم عن بعض هذا
قول أكثر المفسّرين.
وقال السّدي : كانوا يقتلون
بالواحد الاثنين والعشرة والمائة فلمّا قصروا بالواحد على الواحد كان في ذلك حياة
وقيل : أراد في
الآخرة لأنّ من أقيد منه في الدّنيا حيى في الآخرة،
وإذا لم يقتص منه في الدنيا
اقتصّ منه في الآخرة ويعني الحياة سلامته من قصاص الآخرة،
وقرأ أبو الجوزاء : ولكم في
القصاص حياة أراد القرآن فيه حياة القلوب.
قال
{يَا أُوْلِي الألْبَاب} ياذوي العقول.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} القتل مخافة القود.
١٨٠
{كَتَبَ} فُرض ووجب.
{عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ} جاء.
{أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ}
يعني اسباب الموت وآثاره ومقدماته من العلل والأمراض ولم يُرد
المعاينة.
{إِن تَرَكَ خَيْرًا} مالاً،
نظيره
قوله
{وماتنفقوا من خير}
{الْوَصِيَّةُ} في رفعها وجهان :
أحدهما
: اسم مالم يسم فاعله وهو
قوله
(كتب)،
والثاني : خبر حرف الصفة،
وهو اللام في
قوله
{لِلْوَالِدَيْنِ وَ الأقربين بِالْمَعْرُوفِ}
يعني لايزيد على الثلث ولايُوصي للغني ويدع الفقير. كما قال ابن
مسعود : الوصيّة للأخل فالأخل
أي الأحوج فالأحوج.
{حَقًّا} واجباً،
وهو نصب على المصدر
أي حق ذلك حقاً
وقيل : على
المفعول
أي جعل الوصيّة حقاً،
وقيل : على القطع من الوصيّة.
{عَلَى
الْمُتَّقِينَ} المؤمنين،
واختلف العلماء في معنى هذه
الآية :
فقال قوم : كانت الوصيّة
للوالدين والأقربين،
فرضاً واجباً على من مات،
وله مال حتى نزلت آية المواريث
في سورة النّساء فنسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون،
وبقى فرض الوصيّة للأقرباء
الذين لايرثون والوالدين الذين لايرثان بكفر أو رق على من كان له مال. فخطب رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لما نزلت هذه
الآية فقال :
(الآن
اللّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيّة لوارث فبيّن إنّ الميراث والوصيّة
لايجتمعان).
وقرأ الباقون : بالفتح،
واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن
سَبِيلِ اللّه}
وقوله
{وَصَدُّوكُمْ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
وقوله
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه}
{وَمَن
يُضْلِلِ اللّه}
يعني إياه
{فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} موفق
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا} بالقتل والأسر
{وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَقُّ} أشد
{وَمَا لَهُم مِّنَ اللّه مِن وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب.
١٨١
{من بَعْدَمَا
سَمِعَهُ} من الميت فإنّما ذكر الكناية عن الوصيّة وهي مؤنثة لأنّها في
معنى الأيصاء لقوله
{فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} ردّه إلى الوعظ ونحوها كثيرة.
وقال المفضل : لأنّ الوصيّة قول
فذهب إلى المعنى وترك اللفظ.
كقول امرىء القيس.
برهرهة رودة رخصة
كخرعوبة اليانة المنقطر
المنقطر : المنتفخ بالورق وهو
أَنعم ما يكون فذهب إلى القضيب فترك لفظ الخرعوبة.
{فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ
عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} وصي الميت.
{إِنَّ اللّه
سَمِيعٌ} لوصاياكم.
{عَلِيمٌ} بنيّاتكم.
١٨٢
{فَمَنْ خَافَ}
أي خشي،
وقيل : علم وهو الأجود كقوله
{إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه
فَإِنْ خِفْتُمْ} .
وقال ابو محجر الثقفي :
فلا تدعني بالفلاة فانّني أخاف
إذا مامتّ أن لا أذوقها
أراد : أعلم.
{مِن مُّوصٍ} قرأ مجاهد وعطاء وحميد وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو
جعفر وشيبة ونافع : بالتخفيف واختاره أبو حاتم.
لقول النّاس : أوصيكم بتقوى
أللّه.
قال أبو حاتم : قرأتها بمكّة
بالتشديد أوّل ليلة أقمت فعابوها عليّ.
وقرأ الباقون : موصَ بالتشديد
واختاره ابو عبيد كقوله :
{مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} .
{جَنَفًا} جوراً وعدولاً من الحقّ من الحقّ والجنف : الميل في الكلام
والأخذ كلّها يقال : جنف وأجنف
وتجانف إذا مال. قال لبيد :
إنّي أمرؤ منعت أرومة عامر
ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم
وقال آخر :
هم أقول وقد جنفوا علينا
وانّا من لقاءهم أزور
وقال عليج : حيفاً بالحاء
والياء
أي ظلماً.
قال الفراء : الفرق بين الجنف
والحيف : أن الجنف عدول عن الشيء والحيف : حمل الشّيء حتّى ينتقصه وعلى الرّجل
حتّى ينتقص حقّه.
يقال : فلان يتحوف ماله
أي ينتقصه منّي
حافاته.
وقال المفسّرون : الجنف :
الخطأ،
والأثمّ : العمد،
واختلفوا في معنى
الآية وحكمها
فقال قوم : تأويلها من حضر مريضاً وهو يوصّي فخاف أن
(يحيف) في وصيته فيفعل
ماليس له أو تعمد جوراً فيها فيأمر بماليس له،
فلا حرج على من حضره أن يصلح
بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيّته،
وينهاه عن الجنف فينظر للموصي
وللورثة،
وهذا قول مجاهد : هذا ممّن يحضر
الرّجل وهو يموت. فإذا أسرف أمره بالعدل وإذا قصرّ
قال : أفعل كذا أعطِ
فلاناً كذلك.
وقال آخرون : هو إنّه إذا أخطأ الميت وصيّته أو خاف فيها متعمداً فلا حرج
على وليه أو وصيه أو والي أمر المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصي
لهم،
ويردّ الوصيّة إلى العدل والحق،
وهذا معنى قول ابن عبّاس وقتادة
وإبراهيم والرّبيع.
وروى ابن جريج عن عطاء
قال : هو أن يعطي
عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض مما سيرثونه بعد موته. فلا إثمّ على من أصلح بين
الورثة.
طاوس :
(الحيف) وهو أن
يوصي لبني ابنه يريد ابنه أو ولد أبنته يريد ابنته،
ويوصي لزوج ابنته ويريد بذلك
ابنته،
فلا حرج على من أصلح بين
الورثة.
السّدي وابن زيد : هو في
الوصيّة للأباء والأقربين بالأثرة يميل إلى بعضهم ويحيف لبعضهم على بعض في
الوصيّة. فإنّ أعظم الأجر أن لاينفذها،
ولكن يصلح مابينهم على مايرى
إنّه الحق فينقص بعضاً ويزيد بعضاً.
قال ابن زيد : فعجز الموصي أن
يوصي للوالدين والأقربين كما أمره اللّه،
وعجز الوصي أن يصلح فيوزع اللّه
ذلك منه بفرض الفرائض لذلك قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه تعالى لم يوص بملك مقرب ولا نبي مرسل
حتّى تولّى قسم مواريثكم).
وقال
{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} ولم يجر للورثة ولا للمختلفين في الوصيّة ذكر لأنّ سياق
الآية وما تقدّم
من ذكر الوصيّة يدلّ عليه.
قال الكلبي : كان الأولياء
والأوصياء يمضون وصيّة الميت بعد نزول
الآية
{فمن
بدّله بعد ماسمعه}
الآية وإن استغرق المال
كلّه ويبقى الورثة بغير شيء،
ثمَّ نسختها هذه
الآية
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا}
الآية.
وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه : قال كنت مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) في حجة الوداع فمرضت مرضاً
أشرفت على الموت. فعادني رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقلت : يارسول اللّه إنّ لي
مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ بنت لي أُفأُوصي بثلثي مالي؟
قال : لا.
قلتُ : فبشطر مالي؟
قال : لا.
قلت : بثلث مالي؟
قال : نعم الثلث والثلث كثير إنك ياسعد أن تترك ولدك أغنياء خير من
أن تتركهم عالة يتكففون النّاس.
وقال مسلم بن صبيح : أوصى جار
لمسروق فدعا مسروقاً ليشهده فوجده قد بذر وأكثر.
فقال : لا أشهد إنّ اللّه
عزّ وجلّ قسم بينكم فأحسن القسمة فمن يرغب برأيه عن أمر اللّه فقد ضلّ،
أوصِ لقرابتك الذين لا يرثون
ودع المال على قسم اللّه.
وعن أبي أُمامة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من حاف في وصيّته أُلقي في اللوى واللوى واد في
جهنّم ).
شهر بن حوشب عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إن الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة،
فإذا أوصى حاف في
وصيّته فيختم له بشر عمله فيدخل النّار،
وإنّ الرّجل ليعمل
بعمل أهل الشّر سبعين سنة. فإذا أوصى لم يحف في وصيته فيختم له بخير عمله. فيدخل
الجنّة). ثمّ قال أبو هريرة : أقرأوا إن شئتم
{تلك حدود اللّه ومن يتعدّ حدود اللّه فأولئك هم
الظالمون} .
١٨٣
{يا أيها الَّذِينَ
آمَنُوا} قال الحسن : إذا سمعت اللّه تعالى يقول :
{يا أيهاالَّذِينَ آمَنُوا} فادع لها سمعك فانّها لأمر يؤمر به أو لنهي تُنهى عنه.
وقال جعفر الصّادق
(رضي اللّه عنه) : لذة
(يا) في النداء أزال تعب العبادة والعناء.
{كَتَبَ} فرض واجب.
{عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ} وهو مصدر قولك : صمتُ صياماً،
كما تقول : قمت قياماً،
وأصل الصوم والصيّام في اللغة :
الأمساك،
يُقال : صامت الرّيح إذا
سكنت وأمسكت عن الهبوب،
وصامت الخيل إذا وقعت وأمسكت عن
السّير. قال النابغة :
خيلٌ صيام وخيلٌ غير صائمة
تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
فقال : صام النّهار إذا
اعتدل،
وقام قائم الظهيرة؛ لأنّ الشمس
إذا طلعت في كبد السّماء وقفت فأمسكت عن السير سريعة. قال امرؤ القيس :
فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بحسرة
ذمول إذا صام النّهار وهجراً
وقال الرّاجز :
حتّى إذا صام النّهار واعتدل
وسال للشمس لعاب فنزل
ويُقال للرجل إذا صمت وأمسك عن
الكلام : صام.
قال اللّه تعالى :
{إِنِّى
نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا} :
أي صمتاً.
فالصوم : هو الأمساك عن المعتاد
من الطّعام والشّراب والجماع.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء
والأمم وأولهم آدم ج،
وهو ماروى عبد الملك بن هارون
بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي
(رضي
اللّه عنه)
قال : أتيت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) ذات يوم عند انتصاف النّهار
وهو في الحجر،
فسلّمت عليه فرّد عليّ النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) ثمَّ
قال :
(يا علي هذا جبرئيل يُقرئك السلام. فقلت : عليك
وعليه السّلام يارسول اللّه لِمَ؟
قال : أُدّن منّي،
فدنوت منه فقال :
ياعلي يقول لك جبرئيل : صم كل شهر ثلاثة أيام يُكتب لك بأول يوم عشرة الآف (سنة) وباليوم الثاني ثلاثين ألف
(سنة) وباليوم الثالث
مائة ألف
(سنة).
فقلت : يارسول اللّه هذا ثواب
لي خاصة أم للنّاس عامة؟
قال : يا علي يُعطيك اللّه هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك.
قلت : يارسول اللّه وماهي؟
قال : أيام البيض : ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر).
قال عنترة : قلت لعلي
(رضي اللّه عنه) : لأي شيء سُميت هذه الأيام البيض؟
قال : لما أهبط آدم ج من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسوّد
جسده ثمَّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال : يا آدم أتحب أن
يبيض جسدك ؟
قال : نعم،
قال : فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم ج أول
يوم فابيض ثلث جسده،
ثمَّ صام اليوم الثاني فابيض
ثلثا جسده،
ثمَّ صام اليوم الثالث فابيض
جسده كلّه فسُميت أيام البيض.
قال المفسّرون : فرض اللّه على
رسوله محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) وعلى المؤمنين صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة فكانوا
يصومونها إلى أن نزل صيام شهر رمضان قبل قتال بدر بشهر وأيام.
وقال الحسن وجماعة من العلماء :
اراد بالّذين من قبلنا : النّصارى شبّه صيامنا بصيامهم لا تفاقهم بالوقت والقدر؛
وذلك انّ اللّه فرض على النّصارى صيام شهر رمضان. فاشتد ذلك عليهم؛ لأنّه ربّما
كان في الحر الشديد والبرد الشديد. فكان يضرّ بهم في أسفارهم ومعائشهم،
واجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم
على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف فجعلوه في الرّبيع
وزادوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا فصار أربعين ثمَّ إنّ ملكاً لهم إشتكى فمه
فجعل اللّه عليه إن هو بورأ من وجعه أن يزيد في صومه إسبوعاً فبرأ فزاد فيه إسبوع
ثمّ مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال
: أتموا خمسين يوماً فأتمّوه خمسين يوماً،
وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا : زيدوا في
صيامكم فزادوا عشراً قبل وعشراً بعد.
روى أبو أُمية الطّنافسي عن
الشعبي
قال : لو صمت
السّنة كلّها وفطرت اليوم الّذي يشكّ فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان،
وذلك أنّ النّصارى فرض عليهم
شهر رمضان كما فرض علينا فحولوه إلى الفصل وذلك إنّهم ربما كانوا صاموه في القيظ فعدّوا
ثلاثين يوماً ثمّ جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثّقة في أنفسهم فصاموا قبل
الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ثمّ لم يزل الآخر يستن بسنّة القرن الّذي قبله حتّى
صاروا إلى خمسين يوماً فذلك
قوله عزّ وجلّ :
{كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} .
{لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع.
١٨٤
{أَيَّامًا
مَّعْدُودَاتٍ}
يعني شهر رمضان ثلاثين يوماً أوتسعة وعشرون يوماً لما روى سعيد بن
العاص إنّه سمع ابن عمر يحدّث عن النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّه
قال :
(إنّا أُمّة أُميّة لاتحسب ولا تكتب الشهر هكذا
وهكذا وهكذا) وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا تمام
ثلاثين.
ونصب أيّاماً على الظرف
أي : في أيّام،
وقيل : على التفسير.
وقيل : على خبر مالم يسمّ فاعله،
وقيل : باضمار فعل
أي صوموا أيّاماً معدودات.
{فَمَن كَانَ مِنكُم
مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ}
أي فافطر فعدّة كقوله :
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى
مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} :
أي فحلّق أو قصّر
ففدية واقصر
وقوله :
{فَعِدَّةٌ}
أي فعليه عدّة ولذلك
رفع.
وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة :
فعدة نصباً
أي فليصم عدّةً.
{مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} غير أيّام مرضه أو سفره والعدّة العدد وأُخر في موضع خفض
ولكنّها لاتنصرف فلذلك نصبت لأنّها معدولة عن جهتها كأنّ حقّها أواخر وأُخريات
فلمّا عُدلت إلى فعل لم تجرّ مثل عمر وزفر.
{وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} قرأ ابن عبّاس وعائشة وعطاء بن رباح وسعيد بن جبير وعكرمة
ومجاهد : يُطيقونه بضمّ الياء وبفتح الطّاء وتخفيفه وفتح الواو وتشديده
أي يلفونه ويحملونه.
وروى عن مجاهد وعكرمة : أيضاً
يطّوّقونه بفتح الياء وتشديد الطّاء أراد يتطوقونه
أي يتكلفونه.
وروى ابن الأنباري عن ابن عبّاس
يطيقونه بفتح الياء الأوّل وتشديد الطّاء والياء الثانية وفتحهما بمعنى يطيقونه. يقال : طاق وأطاق
واطيق بمعنى واحد.
{فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} قرأ أهل المدينة والشّام : فدية طعام مضافاً مساكين جمعاً
أضافوا الطّعام إلى الفدية وإن كان واحداً لاختلاف اللفظين كقوله
{وَحَبَّ الْحَصِيدِ}
وقولهم : المسجد
الجامع وبيع الأوّل ونحوها وهي قراءة أبي عمرو ومجاهد،
وروى يحيى ابن سعيد عن عبد
اللّه عن نافع عن ابن عمر إنّه قرأها : طعام مساكين على الجمع،
وروى مروان بن معاوية الفزاري
عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قرأها كذلك : مساكين.
وقرأ الباقون : فدية منصوبةً،
طعام رفعاً،
مسكين خفض على الواحد وهي قراءة
ابن عبّاس.
(روي ابن أبي نجيح) عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنّه قرأها طعام مسكين،
على الواحد،
فمن وحدّ فمعناه : لكل يوم
اطعام مسكين واحد،
ومن جمع رده إلى الجميع،
وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
{فَمَن تَطَوَّعَ
خَيْرًا} قرأ عيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي : يتطّوع
بالتاء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوّع،
وقرأ الآخرون : تطوع بالتاء
وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي.
واختلف العلماء في تأويل هذه
الآية وحكمها :
فقالو قوم : كان ذلك أول مافُرض
الصّوم؛ وذلك أنّ اللّه تعالى لمّا أنزل فرض صيام شهر رمضان على رسوله
(صلى اللّه عليه وسلم) وأمر اصحابه بذلك شق عليهم،
وكانوا قوماً لم يتعودّوا
الصّيام فخيّرهم اللّه بين الصّيام والأطعام. فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى
بالطّعام،
ثمَّ نسخ اللّه تعالى ذلك بقوله
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ونزلت العزيمة في ايجاب الصّوم وعلى هذا القول معاذ بن جبل
وأنس بن مالك،
وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة
وعمرو بن مرّة والشعبي والزهري وإبراهيم وعبيدة والضحاك،
وأحدى الروايات عن ابن عبّاس.
وقال آخرون : بل هو خاص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والّذين يطيقان
الصّوم ولمن يشقّ عليهما رخص لهما : إن شاء أن يفطر مع القدرة ويُطعما لكل يوم
مسكيناً،
ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى
{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وثبت الرخصة للذين لايطيقون،
وهذا قول قتادة والرّبيع بن
أنس،
ورواية سعيد بن جبير عن ابن
عبّاس.
وقال الحسن : هذا في المريض كان
إذا وقع عليه اسم المرض وإن كان يستطيع الصّيام الخيار إن شاء صام،
وإن شاء أفطر وأطعم حتّى نُسخ
ذلك. فعلى هذه الأقاويل
الآية منسوخة وهو
(قول) أكثر الفقهاء المفسرين.
وقال قوم : لم تُنسخ هذه
الآية ولاشيء منها،
وإنّما تأويل ذلك أو على الّذين
يطيقونه في حال شبابهم وفي حال صحتهم وقوتهم،
ثمَّ عجزوا عن الصّوم فدية طعام
مساكين؛ لأنّ للقوم كان رُخص لهم في الأفطار وهم على الصّوم
(قادرون إذا اقتدروا،
وآخرون أضمروا) في
الآية وقالوا : هذه عبارة عن أول حالهم وجعلوا
الآية محكمة،
وهذا قول سعيد بن المسيب
والسّدي،
وأحدى الروايتين عن ابن عبّاس،
فحمله ماذكرنا من هذه الأقاويل
على قراءة من قرأ يطيقونه : من الأطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل
القرآن ومصاحف البلدان،
وأمّا الذين قرأوا يطوقونه :
فتأولوا بهم الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يُرجى برؤه فهم يكلفون
الصّوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم افطروا مسكيناً.
قالوا :
الآية محكمة غير منسوخة،
والفدية : الجزاء والبدل من
قولك : فديت هذا بهذا
أيّ حرمته وأعطيته بدلاً منه،
يُقال : فديتُ فدية كما يُقال : مشيتُ
مشية. فمن تطوّع خيراً : فزاد على مسكين واحد وأطعم مسكينين فصاعداً. قاله مجاهد
وعطاء وطاوس والسّدي.
وقال بعضهم : فمن زاد على القدر الواجب من الأطعام يُزاد الطّعام رواه ابن
جُريح وخطيف عن مجاهد،
وقال ابن شهاب : يريد فمن صام
مع الفدية وجمع بين الصيّام والطعّام فهو خير له.
{فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ
وَأَن تَصُومُوا}
(إن) صلة تعني والصوم
{خَيْرٌ لَّكُمْ} من الأفطار والفدية
{إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
فصل في حكم
الآية
إعلم إنّه لا رخصة لأحد من
المؤمنين البالغين في أفطار شهر رمضان إلاّ لأربعة :
أحدهم : عليه القضاء والكفارة.
والثاني : عليه القضاء دون الكفارة.
والثالث : عليه الكفّارة دون القضاء.
والرابع : لاقضاء عليه ولا كفارة.
وأمّا الذي عليه القضاء
والكفّارة فمن فرّط في قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر،
والحامل والمرضع إذا خافتا على
أولادهما افطرتا وعليهما القضاء والكفّارة،
وإن خافتا على أنفسهما فهما
كالمريض حكمهما كحكمه هذا قول ابن عمر ومجاهد ومذهب
الشّافعي.
وقال بعضهم : في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما وولدهما أن عليهما
الكفّارة ولا قضاء وهو قول ابن عبّاس.
وقال قوم : عليهما القضاء ولا كفارة وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء
والضحّاك ومذهب أهل العراق ومالك والأوزاعي.
وأمّا الّذي عليه القضاء دون
الكفّارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء عليهم القضاء دون الكفّارة.
قال أنس : أتيت إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وهو يتغذّى فقال :
(أجلس)
فقلت : إنّي صائم. فقال :
(أجلس أحدّثك : إنّ اللّه وضع على المسافر الصوم
وشطر الصّلاة).
وأمّا الّذي عليه الكفّارة دون
القضاء فالشّيخ الهرم والشّيخة الكبيرة ومن به مرض دائم لايرجى برؤه وصاحب العطاش
الّذي يخاف منه الموت،
عليهم الكفّارة ولا قضاء هذا
قول عامّة الفقهاء.
وروى عن ربيعة بن أبي عبد
الرّحمن وخالد بن الدريك إنّهما قالا في الشّيخ والشّيخة : إن استطاعا صاما وإلاّ
فلا كفّارة عليهما وليس عليهما شيء إذا أفطرا.
وقال مالك : لا أرى ذلك واجباً
عليهما وأحبّ أن يفعلا فأمّا الّذي لاقضاء عليه ولا كفّارة فالمجنون.
واختلف العلماء في حدّ الأطعام
في كفّارة الصّيام
فقال بعضهم : القدر الواجب نصف صاع عن كلّ يوم يفطره وهذا قول أهل العراق.
وقال قوم منهم : نصف صاع من قمح
أو صاع من تمراً أو زبيب أو سائر الحبوب.
وقال بعض الفقهاء : ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي افطره.
وقال محمّد بن الحنفية
(رضي اللّه عنه) : يطعم مكان كلّ يوم مدّ الطعامة ومدّ الأدامة.
وقال ابن عبّاس : يعطي مسكيناً
واحداً عشاءه حين يفطر وسحوره حين سحره.
وقال بعضهم : يطعم كلّ يوم مسكيناً واحداً مدّاً وهو قول ابن هريرة وعطاء
ومحمّد بن عمرو بن حزم واللّيث بن سعيد ومالك بن أنس والشّافعي وعامّة فقهاء
الحجاز وباللّه التّوفيق،
ثمّ بيّن أيّام الصّيام فقال :
١٨٥
{شَهْرُ رَمَضَانَ} قرأه العامّة رفع على معنى أتاكم شهر رمضان.
وقال الفرّاء : ذلكم شهر رمضان.
الاخفش : هو شهر رمضان.
الكسائي : كتب عليكم شهر رمضان،
وقيل : ابتداء وما بعده خبره.
وقرأ الحسن ومجاهد وشهر بن حوشب
: شهر رمضان نصباً على هو
يعني صوموا شهر رمضان قاله المورّج.
وقال الأخفش : نصب على الظرف
أي كتب عليكم الصّيام
في شهر رمضان.
أبو عبيدة : نصب على الأغراء،
وقرأ أبو عمرو : مدغماً شهر
رمضان على مذهب في ادغام كل حرفين يلتقيان من جَنس واحد ومخرج واحد او قريبي
المخرج طلباً للخفّة وسمّي الشهر شهراً لشهرته.
وقال الفرّاء : هو مأخوذ من
الشّهرة وهي البياض ومنه يقال : شهرت السّيف إذا اسلته وشهر الهلال إذا طلع،
واختلفوا في معنى
قوله : رمضان
فقال بعضهم : رمضان اسم من أسماء اللّه فيقال شهر رمضان كما يقال : شهر اللّه وروى
جعفر الصادق عن آبائه
(رضي
اللّه عنهم) عن النبّي
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(شهر رمضان شهر اللّه).
ويدلّ عليه أيضاً ما روى هشيم
عن آبان عن أنس
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(لا تقولوا رمضان،
انسبوه كما نسبه
اللّه تعالى في القرآن فقال : شهر رمضان).
وعن الأصمعي
قال : قال أبو
عمرو : إنّما سمّي رمضان لأنّه رمضت فيه الفعال من الخير.
وقال غيره : لأنّ الحجارة كانت
ترمض فيه من الحرارة والرّمضاء الحجارة المحماة.
وقيل : سمّي بذلك لأنّه يرمض الذّنوب
أي يحرق.
وقيل : لأنّ القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والحكمة والفكرة في
أمر الآخرة كما يأخذ الرّمل والحجارة من حرّ الشّمس.
وقال الخليل : مأخوذة من الرمض
وهو مطر يأتي في الخريف فسمّي هذا الشّهر رمضان لأنّه يغسل الأبدان من الأنام
غسلاً وتطهّر قلوبهم تطهيراً.
{شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِى أُنزِلَ} روى هشيم عن داود عن عكرمة عن
ابن عبّاس والسّدي عن محمّد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عبّاس ابن عطيّة الأسود
سأله : فقال : إنّه وقع
الشّك في
قوله تعالى :
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْءَانُ}
وقوله
{إِنَّآ
أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
وقوله :
{إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وقد نزل في سائر الشهور.
قال اللّه
{وَقُرْءَانًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ}
الآية
{وقالوا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} .
فقال : أُنزل القرآن جملة
واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان. فوضع في بيت العزة في سماء
الدٌّنيا،
ثمَّ نزل به جبرئيل ج على محمّد
(صلى اللّه عليه وسلم) نجوماً نجوماً عشرين سنة،
فذلك
قوله
{فلا أقسم بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} .
داود بن أبي هند
قال : قلت للشعبي
:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْءَانُ} أما كان ينزل عليه في سائر السّنة؟
قال : بلى ولكن جبرئيل كان يعارض محمّداً
(صلى اللّه عليه وسلم) في رمضان ما نزّل اللّه،
فيحكم مايشاء ويُثبت مايشاء
ويُنسيه مايشاء.
شهاب بن طارق عن أبي ذرّ
الغفاري عن النبّي
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال : أنُزلت صُحف إبراهيم في ثلاثة ليال مضين من رمضان،
وأنزلت توراة موسى في ست ليال
مضين من رمضان،
وأُنزل أنجيل عيسى في ثلاثة عشر
مضت من رمضان،
وأُنزل زبور داود في ثمان عشرة
ليلة قضت من رمضان،
وأُنزل الفرقان على محمّد في الرّابع
والعشرين لست مضين بعدها،
ثمَّ وصف القرآن فقال :
{هُدًى لِّلنَّاسِ} من الضّلالة وهو في محل النصب على القطع لأنّ القرآن معرفه
والهدى نكرة.
{وَبَيِّنَاتٍ} من الحلال والحرام والحدود والاحكام.
{مِّنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ} الفصل بين الحقّ والباطل.
سعيد بن المسيّب عن سلمان
قال : خطبنا رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في آخر يوم من شعبان فقال :
(يا
أيّها النّاس قد أظلكّم شهرُ عظيم،
وشهر مبارك،
وشهر فيه ليلة خير
من ألف شهر،
جعل اللّه صيامه
فريضة،
وقيام ليله تطوّعاً،
من تقرّب فيه بخصلة
من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه،
ومن أدّى فيه فريضة
كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه،
وهو شهر الصّبر
والصّبر ثوابه الجنّة،
وشهر المواساة،
وشهر يزاد فيه رزق
المؤمن،
شهرٌ أولّه رحمة
وأوسطه مغفرة وآخره عتقٌ من النّار،
من فطّر فيه صائماً
كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار،
وكان له مثل أجره من
غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا : يارسول اللّه ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم.
فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم)
(يعطي اللّه هذا الثّواب،
من فطّر صائماً على
مذقة لبن أو تمر أو شربة ماء،
ومن أشبع فيه صائماً
سقاه اللّه تعالى من حوضي شربة لا يظمأ حتّى يدخل الجنّة،
وكان كمن اعتق رقبة،
ومن خففّ عن مملوكه
فيه غفر اللّه له وأعتقه من النّار،
فاستكثروا فيه من
أربع خصال : خصلتان ترضون بها ربّكم،
وخصلتان لا غنى
عنهما : فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بها ربّكم فشهادة أن لا إله إلاّ اللّه
وتستغفرونه،
وأمّا التي لاغنى
بكم عنها فتسألون اللّه عزّ وجلّ وتعوذون به من النّار).
وعن أبي سعيد الخدري
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ أبواب السّماء وأبواب الجنّة لتفتح لأوّل
ليلة من شهر رمضان،
فلا تغلق إلى آخر
ليلة منها،
وليس لعبد يصلّي في
ليلة منها إلاّ كتب اللّه عزّ وجلّ بكل سجدة الفا وسبعمائة حسنة،
وبنى له بيتاً في
الجنّة من ياقوتة حمراء لها سبعون ألف باب لكلّ باب منها مصراعان من ذهب موشّح من
ياقوتة حمراء،
فإذا صام أوّل يوم
من شهر رمضان غفر اللّه له كلّ ذنب إلى آخر يوم من رمضان وكان كفّارة إلى مثلها،
وكان له بكلّ يوم
يصومه قصر في الجنّة له ألف باب من ذهب،
واستغفر له سبعون
الف ملك من غدوة إلى أن توارت بالحجاب،
وكان له بكلّ سجدة
يسجدها من ليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها).
محمّد بن يونس الحارثي عن قتادة
عن أنس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان نادى الجليل جلّت
عظمته رضوان خازن الجنان فيقول : لبيّك وسعديك فيقول : جدّد جنّتي وزينها من أمّة
أحمد ثمّ لاتغلقها عليهم حتّى ينقضي شهرهم،
ثمّ ينادي مالكاً
خازن النّار : أن يامالك،
فيقول : لبيّك ربي
وسعديك فيقول : إغلق أبواب الجحيم عن الصّائمين من امّة أحمد ثمّ لاتفتحها عليهم
حتّى ينقضي شهرهم ثمّ ينادي جبرئيل فيقول : لبيّك ربي وسعديك فيقول : انزل إلى
الأرض وغلّ مردة الشياطين لايفسدوا عليهم صيامهم وأفطارهم،
وللّه في كل يوم من
شهر رمضان عند طلوع الشّمس وعند وقت الأفطار عتقاء يعتقهم من النّار عبيداً
وأماءاً،
وله في كل سماء مناد
فيهم،
ملك عرفهُ تحت عرش
ربّ العالمين وفرائضه في تخوم الأرض السّابعة السفلى،
جناح له بالمشرق
مكلل بالمرجان والدّرر والجوهر،
وجناح له بالمغرب
مكلل بالمرجان والدرّر والجوهر ينادي : هل تائب يُتاب عليه؟
هل من داع يستجاب
له؟
هل من مظلوم ينصره
اللّه؟
هل من مستغفر يغفر
له؟
هل من سائل يُعطى
سؤله؟
قال : وينادي الرّب
تعالى ذكره الشهر كلّه : عبادي وإمائي أبشروا واصبروا (وداوموا) أوشَك أن يرفع عنكم في المؤونات،
ويفضوا إلى رحمتي وكرامتي. فإذا
كان ليلة القدر،
نزل جبرئيل في كبكبة من
الملائكة يصلون
(ويسلمون) على كل عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه عزّ وجلّ).
إبراهيم بن هدية عن أنس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لو أذن اللّه للسّموات والأرض أن يتكلّما بشّرا
بمن صام رمضان : الجنّة).
عبد الملك بن عمر عن عبد اللّه
بن أبي أوفى
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(نوم الصّائم عبادة وصمته تسبيح ودعاؤه مستجاب
وعمله مضاعف).
{فَمَن شَهِدَ
مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قرأه العامة بجزم
اللام،
وقرأ الحسن والأعرج : بكسر
اللام وهي لام الأمر،
وحقها الكسر إذا أُفردت،
وإذا وصلت بشيء ففيه وجهان :
الجزم والكسر،
وإنّما توصل بثلاثة أحرف الفاء
كقوله
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذا الْبَيْتِ} والواو كقوله
{وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا} وثمّ كقوله
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} .
واختلف العلماء في معنى هذه
الآية وحكمها :
فقال بعضهم : معناها فمن شهده عاقلاً بالغاً مقيماً صحيحاً مكلّفاً فليصمه
قاله
أبو حنيفة وأصحابه،
وقال قوم : معناها : إذا دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فليصم
الشهر كلّه. حتّى لو غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح قاله النخعي والسّدي.
وقال قتادة : إنّ عليّاً
(رضي اللّه عنه) كان يقول : إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثمّ سافر فعليه الصّوم.
وقال محمّد بن سيرين : سألت
عبيدة السّلمان عن الرّجل يدركه رمضان ثمّ يسافر فقال : إذا شهدت أوّله
فصم آخره إلاّ تراه يقول :
{فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
قالوا : والمستحب
له ألاّ يسافر إذا أدركه رمضان مقيماً إن أدركه حتّى يقضي الشهر،
وروي في ذلك عن ابراهيم بن طلحة
إنه جاء إلى عائشة رضي اللّه عنها يسلم عليها قالت : وأين تريد؟
قال : أردت العمرة،
قالت : جلست حتّى إذا دخل عليك
شهر رمضان خرجت فيه؟
قال : قد خرج ثقلي،
قالت : اجلس حتّى إذا أفطرت
فاخرج،
فلو أدركني رمضان وأنا ببعض
الطريق لأقمت له. وقال الآخرون معنى
الآية
{فَمَن
شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ماشهد منه
وكان حاضراً وإن سافر فله الافطار إن يشأ،
قاله ابن عبّاس وعامّة أهل
التأويل،
وهو أصحّ الأقاويل يدلّ عليه
ماروى الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عبّاس
قال : خرج رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عام الفتح صائماً في رمضان حتّى إذا بلغ القنطرة دعا بماء فشرب.
وعن الشعبي : إنّه سافر في
رمضان فأفطر عند باب الجسر.
ثمّ ذكر فقال :
{وَمَن كَانَ مَرِيضًا} اختلف العلماء في الزمن الّذي أباح اللّه تعالى معه الافطار،
فقال قوم : هو كل مرض يسمّى
مريضاً.
وقال
(طريف بن تمام) العطاردي :
دخلت على محمّد بن سيرين يوماً في شهر رمضان وهو يأكل فلمّا فرغ قال لا توجّعت
أصبعي هذه.
وقال آخرون : فكل مرض كان الإغلب من أمر صاحبه بالصّوم الزّيادة في علّته
زيادة غير محتملة،
وهو اختيار
الشّافعي.
وقال الحسن وإبراهيم : إذا لم
يستطع المريض أن يصلّي قائماً أفطر،
والاصل إنّه إذا لم يمكنه
الصّيام وأجهده أفطر فإذا لم يجهده الصّوم فهو بمعنى الصحيح الّذي يطيق الصوم.
{أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} اختلف العلماء في
صيام المسافر فقال قوم : الافطار في السّفر عزيمة واجبة وليس برخصة فمن صام في
السفر فعليه القضاء إذا أقام،
وهو قول عمرو أبي هريرة وابن
عبّاس وعلي بن الحسين وعروة بن الزبير والضحّاك،
واعتّلوا بما روت أمّ الدّرداء
عن كعب بن عاصم
قال : سمعت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) يقول :
(ليس من البّر الصيام في السفر).
الزهري عن حميد بن عبد الرحمن
بن عوف عن أبيه
قال : الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر.
وقال آخرون : الافطار في السّفر رخصة من اللّه عزّ وجلّ والفرض الصّوم فمن
صام ففرضه أُدي ومن أفطر فبرخصة اللّه أخذ ولاقضاء على من صام إذا أقام،
وهذا هو الصّحيح وعليه عامّة
الفقهاء. ويدلّ عليه : ماروى عاصم بن الأحول عن أبي نضرة عن جابر
قال : كنّا مع
النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) في سفر فمنّا الصّائم ومنّا المفطر فلم يكن بعضنا يعيب على بعض.
وروى يحيى بن سعيد عن هشام عن
أبيه عن عائشة : إنّ حمزة بن عمرو
قال : يارسول اللّه إنّي كنت أتعوّد الصيام أفأصوم في السّفر
قال :
(إن شئت فصم وإن شئت فافطر).
وعن عروة بن أبي قراح عن حمزة
بن عمرو إنّه
قال : يارسول
اللّه أجد بي قوّة على الصّيام في السّفر فهل عليّ جناح
قال :
(هي رخصة من اللّه عزّ وجلّ فمن آخذها فحسن ومن
أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه).
وامّا
قوله
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ليس من البرّ الصّيام في السّفر). فإنّ تمام الخبر يدلّ على تأويله وهو ماروى محمّد بن عبد
الرحمن عن جابر بن عبد اللّه : إنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) مرّ برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال :
(مابال صاحبكم هذا؟)
قالوا : يارسول اللّه صام،
قال :
(إنّه
ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر،
وعليكم برخصة اللّه
تعالى التي رخص لكم فاقبلوها)،
وكذلك تأويل
قوله ج :
(الصائم من السّفر كالمفطر في الحضر).
يدلّ عليه حديث مجاهد عن ابن
عمر : إنّه مرّ برجل ينضح الماء على وجهه وهو صائم،
فقال : أفطر ويحك فإنّي
أراك لو متّ على هذا دخلت النّار.
والجامع لهذه الأخبار والمؤيد
لما قلنا ماروى أيوب عن عروة وسالم إنّهما كانا عند عمر بن عبد العزيز،
إذ هو أمير على المدينة.
فتذاكروا الصّوم في السّفر. فقال سالم : كان ابن عمر لا يصوم في السفر،
وقال عروة : كانت عائشة تصوم في
السّفر. فقال : سالم :
إنما أحدّث عن ابن عمر،
وقال عروة : إنّما أحدّث عن
عائشة،
فارتفعت اصواتهما،
فقال عمر بن عبد العزيز :
اللّهمّ اغفر إذا كان يسراً فصوموا وإذا كان عُسرا فافطروا.
ثمَّ اختلفوا في المستحب منهم،
فقال قوم : الصّوم أفضل،
وهو قول معاذ بن جبل وأنس
وإبراهيم ومجاهد.
ويروى إنّ أنس بن مالك أمر
غلاماً له بالصّوم في السّفر،
فقيل له في هذه
الآية،
فقال : نزلت ونحن يومئذ
نرحل جياعاً وننزل على غير شبع،
فمن أفطر فبرخصة،
ومن صام فالصّوم أفضل.
وقال آخرون : المستحب الأفطار لما روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر
قال : خرج رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى مكّة عام الفتح في رمضان فصام حتى إذا بلغ كراع الغميم فصام النّاس،
فبلغه إنّ الناس قد شقّ عليهم
الصّيام فدعا بقدح ماء وشرب بعد العصر والنّاس ينظرون فأفطر بعض النّاس وصام بعضهم
فبلغه إنّ النّاس صاموا فقال :
(أولئك
العصاة).
عاصم الأحول عن
(بريد) العجلي عن
أنس بن مالك
قال : كنّا مع
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فمنّا الصائم ومنا المفطر فنزلنا في يوم حار واتخذنا ظلالاً فسقط الصوّام
وقام المفطرون فسقوا الرّكاب فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(ذهب المفطرون اليوم بالأجر).
وروى شعبة عن معلّى عن يوسف بن
الحكم
قال : سألت ابن
عمر عن الصّوم في السّفر فقال : أرأيت لو تصدّقت على رجل بصدقة فردّها عليك ألم يغضبك؟
قال : نعم،
قال : فإنّها صدقة من اللّه عزّ وجلّ تصدّق بها عليكم،
وحدّ الاسفار التي يجوز فيها
الافطار ستّة عشر فرسخاً فصاعداً.
{يُرِيدُ اللّه
بِكُمُ الْيُسْرَ} حين أرخص في الأسفار للمريض
والمسافر.
{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : العسر واليسر مثقّلين في
جميع القرآن.
وقرأ الباقون : بتخفيفهما وهما
لغتان جيدّتان ولا حجّة للقدرية في هذه
الآية لأنّها مبنية على أوّل الكلام في إيجاب الصّيام فهي خاص في
الاحكام لأهل الإسلام.
{وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ} قرأ أبو بكر ورويش : بتشديد الميم.
وقرأ الباقون بالتخفيف وهو
الاختيار لقوله تعالى :
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} والواو في
قوله
{وَلِتُكْمِلُوا} واو النسق واللاّم لام كي تقديره : ويريد لتكملوا العدّة.
وقال الزجّاج : معناه فعل اللّه
ذلك ليسهّل عليكم ولتكمّلوا العدّة.
وقال عطاء : ولتكملوا عدّة أيام
الشهر.
وقال سائر المفسّرين : ولتكملوا
عدّة ماأفطرتم في مرضكم وسفركم إذا برأتم وأقمتم وقضيتموها.
{وَلِتُكَبِّرُوا
اللّه} ولتعظموا اللّه.
{عَلَى مَا
هَدَاكُمْ} لدينه ووفقكم ورزقكم شهر رمضان مخففّاً عليكم وخصّكم به دون
سائر أهل الملل.
وقال أكثر العلماء : أراد به
التكبير ليلة الفطر.
قال
الشافعي روى عن ابن
المسيّب وعروة بن سلمة : إنّهم كانوا يكبّرون ليلة الفطر ويجهرون بالتكبير
قال : وشبّه
(.......) لنحرها.
قال ابن عبّاس وزيد بن أسلم :
في هذه
الآية حقّ على
المسلمين إذا راى هلال شوّال أن يكبّروا إلى أن يخرج الإمام في الطرّيق والمسجد
فإذا حضر الإمام كفّ فلا يكبرّ إلاّ بتكبيره والاختيار في لفظ التكبير ثلاثاً
نسقاً.
{وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} على نعمه.
١٨٦
{وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}
الآية : اختلف
المفسرّون في سبب نزول هذه
الآية فقال ابن عبّاس : نزلت في عمر بن الخطّاب وأصحابه حين أصابوا
من أهاليهم في ليالي شهر رمضان وستأتي قصّتهم فيما بعد إن شاء اللّه.
وروى الكلبي عن أبي صالح عنه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كيف يسمع ربّنا دعاؤنا وأنت تزعم إنّ بيننا وبين
السّماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك)؟
فنزلت هذه
الآية.
وقال الحسن : سأل أصحاب النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) رسول اللّه أين ربّنا؟
فأنزل اللّه هذه
الآية.
وقال قتادة وعطاء : لمّا نزلت
فقال ربكم :
{ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
فقالوا : يارسول اللّه كيف
ندعوا ربّنا؟
ومتّى ندعوه؟
فأنزل اللّه هذه
الآية.
قال الضحّاك : سأل بعض الصحابة
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد؟
فسأل ربّه فأنزل اللّه : وإذا
سألك يا محمّد عبادي عنّي فإنّي قريب.
وقال أهل المعاني : فيه إضمار
كأنّه فعل هم وما علمهم أفي قريب منهم بالعلم.
وقال أهل الأشارة : رفع الواسطة
إظهاراً للقدرة.
{أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِي إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا} فليجيبوا
{لِي} بالطاعة يقال أجاب واستجاب بمعنى واحد.
وقال كعب بن سعد الغنوي :
وداع دعا يا مَنْ يجيب إلى
النّدى
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أبو رجاء الخراساني :
يعني فليدعوني
للاجابة وفي اللغة الطّاعة وإعطاء مايسأل،
يقال : أجابت السماء
بالمطر،
واجابت الأرض بالنبات،
كأنّ الأرض سألت السّماء المطر
فأعطت،
وسالت السّماء الأرض فأعطت.
وقال زهير
وغيث من الأسمي حقّ قلاعه
أجابت رواسيه النّجا
(هواطله)
يريد أجابت تجمع رواسيه النجا
حين سألها المطر وأعطته ذلك.
والاجابة من اللّه تعالى
الاعطاء ومن العبد الطّاعة.
{وَلْيُؤْمِنُوا بِى
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} لكي يهتدوا فان
قيل ماوجه
قوله :
{أجيب دعوة الدّاعي}
وقوله
{ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقد يدعي كثيراً فلا يستجيب،
قلنّا : اختلف العلماء في وجه
الآيتين وتأويلهما.
فقال بعضهم : معنى الدّعاء هاهنا الطّاعة ومعنى الاجابة الثواب كأنّه
قال : أجيب دعوة
الدّاعي بالثواب إذا أطاعني.
وقال بعضهم : معنى الآيتين خاص،
وإن كان لفظهما عاماً،
تقديرها أجيب دعوة الدّاعي إن
شئت وأجيب دعوة الدّاعي إذا وافق القّضاء،
وأُجيب دعوة الدّاعي إذا لم
يسأل مُحالاً،
وأُجيب دعوة الدّاعي إذا كانت
الأجابة له خيراً،
يدلّ عليه ماروى أبو المتوكّل
عن أبي سعيد
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مامن مسلم دعا اللّه عزّ وجلّ بدعوة ليس فيها
قطيعة رحم ولا إثمّ إلاّ أعطاه اللّه بها أحدى خصال ثلاث : إمّا أن تعجّل دعوته،
وامّا أن يدّخر له
في الآخرة،
وامّا أن يدفع عنه
من السوء مثلها)
قالوا : يارسول اللّه إذا
يكثر
قال :
(اللّه أكثر).
وقال بعضهم : هو عام وليس في
الآية أكثر من إجابة الدّعوة،
فأمّا إعطاء المنيةوقضاء الحاجة
فليس مذكور في
الآية،
وقد يجيب السّيّد عبده والوالد
ولده ثمّ لا يعطيه سؤله فالاجابة كائنة لا محالة عند حصول الدّعوة لمن
قوله : اجيب
واستجيب خبر والخبر لا يعترض عليه،
لانّه إذا نسخ صار المخبر
كذّاباً وتعالى اللّه عن ذلك،
ودليل هذا التأويل : ماروى نافع
عن ابن عمر عن النبّي
(صلى اللّه
عليه وسلم)
قال :
(من فتح
له باب في الدّعاء فتحت له أبواب الاجابة،
وأوحى اللّه تعالى
إلى داود (صلى اللّه عليه وسلم) قل للظّلمة لا
تدعوني فإنّي أوجبت على نفسي أن أُجيب من دعاني وإنّي إذا أجبت الظالمين لعنتهم).
وقيل : إنّ اللّه يجيب دعاء المؤمن في الوقت إلاّ إنّه يؤخرّ
أعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته،
يدلّ عليه ماروى محمّد بن
المنكدر عن جابر بن عبد اللّه
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إنّ العبد ليدعو اللّه وهو يُحبه فيقول ياجبرئيل : اقضي
لعبدي هذا حاجته وآخرّها فإنّي أُحبّ أن لا أزال أسمع صوته،
وإن العبد ليدعو
اللّه وهو يبغضه فيقول لجبريل إقض لعبدي حاجته باخلاصه وعجّلها فإني أكره أن أسمع
صوته. وبلغنا (عن يحيى ذبيح اللّه) أنه
قال : سألت ربّ
العزّة في المنام فقلت : يارب كم ادعوك فلا تستجيبُ لي؟
فقال : يا يحيى أنّي أحبّ
أن أسمع صوتك).
قال بعضهم : إنّ للدعاء آداباً وشرائط هي أسباب الاجابة ونيل الأمنية فمن
راعاها واستكملها كان من أهل الاجابة ومن أغفلها وأخلّ بها
(فهو من أهل...) في الدّعاء.
وحكي إنّ إبراهيم بن أدهم قيل
له : ما بالنا ندعوا اللّه فلا يستجيب لنا؟
قال : لأنّكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا
سنّته،
وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما
فيه،
وأكلتم نعمة اللّه فلم تؤدّوا
شكرها،
وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها
وعرفتم النّار فلم تهربوا منها،
وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه
ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له،
ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم
وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.
١٨٧
وقوله
{أُحِلَّ
لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ}
الآية : قال
المفسرون : كان الرجل في ابتداء الأمر إذا أفطر حلّ له الطّعام والشراب والجماع
إلى أن يأتي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء الأخيرة أو رقد قبل
الصلاة ولم يفطر حرّم عليه الطّعام والشراب ومنع ذلك إلى مثلها في القابل.
ثمّ إنّ عمر بن الخطّاب
(رضي اللّه عنه) واقع أهله بعدما صلّى العشاء الأخيرة فلمّا إغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه
فأتى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يارسول
اللّه : إنّي أعتذر إلى اللّه واليك من نفسي هذه الخطيئة إنّي رجعت إلى أهلي بعد
أن صلّيت العشاء الاخيرة فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي
من رخصة،
فقال النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) ما كنت جديراً بهذا يا عمر،
فقام رجال فاعترفوا بالّذي
كانوا صنعوا بعد العشاء الأخيرة،
فنزل في عمر وأصحابه
{أُحِلَّ لَكُمْ}
أي أطلق وأبيح لكم
{لَيْلَةَ الصِّيَامِ} في ليلة الصيام
{الرَّفَثُ} .
قرأ ابن مسعود والأعمش :
الرّفوث :
{إِلَى نِسَآئِكُمْ} والرّفث والرفوث كناية عن الجماع قال ابن عبّاس : إنّ اللّه تعالى حي
كريم يكني فما ذكر اللّه في القرآن من المباشرة والملامسة والافضاء والدّخول
والرفث فانّما
يعني به الجماع.
قال الشّاعر :
فظلنا هنالك في نعمّ
وكل اللذاذة غير الرّفث
قال القتيبي : الرّفث هو
الافصاح بما يجب أن يكنّى به من ذكر النكاح وأصله الفحش وقول القبيح. قال العجاج :
ورب اسراب حجيج كظم
عن اللغا ورفث التكلم.
وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة
لكل ما يريده الرجال من النساء.
قال الشاعر :
ويزين من أنس الحديث راويا
وهنّ من رفث الرجال نفارُ
{هُنَّ لِبَاسٌ
لَكُمْ وَأنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن} هنّ سكن لكم وأنتم
سكن لهنّ قاله أكثر المفسّرين نظيره
قوله :
{وجعل
الليل لباساً}
اي سكناً دليله
قوله
{وَجَعَلَ
مِنْهَا زَوْجَهَا} ليسكن اليها.
وقال أصحاب المعاني : اللّباس
الشعار الّذي يلي الجهار من الثياب فسمّي كل واحد من الزوجين لباساً لتجردهما عند
النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتّى يصير
كلّ واحد منهما لصاحبه كالثوب الّذي يليه.
قال نابغة بني جعدة :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها
تثنّت وكانت لباساً
فكنّى عن اجتماعهما متجرّدين في
فراش واحد باللّباس يدلّ على صّحة هذا التأويل قول الربيع بن أنس في هذه
الآية : هنّ لحاف
لكم وأنتم لحاف لهنّ.
وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وواراه لباس فجائز أن يكون كلّ واحد
منهما ستراً لصاحبه عمّالا يحلّ كما جاء في الخبر : من تزوّج فقد أحرز دينه،
وستراً أيضاً فيما يكون بينهما
من الجماع عن أبصار الناس،
يدلّ عليه : قول أبي زيد في
قوله تعالى :
{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُن}
قال : للمواقعة.
وقال أبو عبيدة وغيره : يقال
للمرأة هي لباسك وفراشك وازارك،
وقال رجل لعمر بن الخطّاب :
الا أبلغ أبا حفص رسولاً
فذىً لك من اخي ثقة ازاري
قال أبو عبيدة :
أي نسائي.
{عَلِمَ اللّه أنكم
كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أنفُسَكُمْ} تخونونها
وتظلمونها بعد العشاء الآخرة في ليالي الصّوم.
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فتجاوز عنكم.
{وَعَفَا عَنكُمْ} محا ذنوبكم.
{فَالْ َانَ} وجه حكم زمانين ماض وآت.
{بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهنّ حلالاً سميت المجامعة مباشرة لتلاصق كلّ واحد منهما
ببشرة صاحبه.
{وَابْتَغُوا مَا
كَتَبَ اللّه لَكُمْ}
أي افعلوه وقرأه
العامّة الصحيحة وابتغوا
أيّ اطلبوا يقال : يبغي الشيء يبغيه بغيه وبغا وابتغاه يبتغيه ابتغاء طلبه.
{مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ} قضى اللّه لكم،
وقيل : كتب في اللوح المحفوظ.
وقال أكثر المفسرين :
يعني الولد.
قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم
تلد هذه فهذه.
قال ابن زيد : وابتغوا ما أحل
اللّه لكم من الجّماع.
قتادة : وابتغوا الرّخصة التي
كتبت لكم.
وقال معاذ بن جبل :
{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ}
يعني ليلة القدر وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس وأشبه
الأقاويل بظاهر
الآية قول من تأوله على الولد لأنّه عقيب
قوله
{أُحِلَّ لَكُمْ} وهو أمر اباحة وندب كقوله
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(تناكحوا تكثروا فانّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى
بالسقط).
وقال أهل الظاهر : هو أمر إيجاب
وحتم،
يدلّ عليه ماروى زياد بن ميمون
عن أنس بن مالك : إنّ إمرأة كانت يُقال لها : الحولاء عطارة من أهل المدينة،
وحلّت على عائشة فقالت : يا أُم
المؤمنين زوجي فلان أتزّين له كل ليلة وأتطيب كأنّي عروس زُفت إليه فإذا آوى إلى
فراشه دخلت عليه في لحافه ألتمس بذلك رضا اللّه عزّ وجلّ حوّل وجهه عني أراه قد
أبغضني،
قالت : أجلسي حتّى يدخل النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) قالت : فبينا إنّا كذلك إذ دخل النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : ما هذه
الرّيح التي أجدها أتتكم الحولاء أبتعتم منها شيئا؟
فقالت عائشة : لا واللّه يارسول
اللّه. فقصّت الحولاء قصتها. فقال لها : أذهبي واسمعي له وأطيعي،
فقالت : أفعل يارسول اللّه،
فمالي من الأجر؟
قال :
(مامن
امرأة رفعت في بيت زوجها شيئاً ووضعته مكاناً تريد الإصلاح إلاّ كتب اللّه لها
حسنة ومحا عنها سيئة،
ورفع لها درجة،
وما من امرأة حملت
من زوجها حين تحمل إلاّ لها من الأجر مثل القائم الصّائم نهاره الغازي في سبيل
اللّه،
وما من إمرأة يأتيها
الطلق إلاّ لها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة فإذا افطمت ولدها ناداها
مناد من السّماء أيتها المرأة قد كفيت العمل فيما مضى فاستأنفي فيما بقى).
قالت عائشة : قد أعطى اللّه
النّساء خيراً كثيراً فما بالكم يامعشر الرّجال،
فضحك النبّي
(صلى اللّه عليه وسلم) ثمَّ
قال :
(مامن رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلاّ كساه نور
وله حسنة،
وإن عانقها فعشر
حسنات وإن قبلها فعشرون،
وإن أتاها كان خيراً
من الدٌّنيا ومافيها،
فإذا قام يغتسل لم
يمرّ الماء على شيء من جسده إلاّ يُمحى عنه سيئة،
ويُعطي له (......) يُعطى بغسله خيرٌ
من الدٌّنيا ومافيها،
وإنّ اللّه عزّ وجلّ يُباهي
الملائكة يقول : انظروا إلى عبدي قام في ليلة مرة باردة يغتسل من الجنابة يتيقن
بأني ربّه أُشهدكم بأني غفرت له).
{كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى
{الْخَيْطِ
اسْوَدِ} .
نزلت في رجل من الأنصار،
واختلف في إسمه. فقال معاذ بن
جبل : أبو صرمة البراء قيس بن صرمة.
عكرمة والسّدي : ابو قيس بن
صرمه.
مقاتل بن حيّان : صرمة بن أياس
الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس
بن أبي صرمة بن ملك بن عدي النّجار؛ وذلك إنّه ظل نهاره يعمل في أرض له،
وهو صائم،
فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال : قدّمي
الطّعام،
وأرادت المرأة أن تطعمه عشاءاً
سُخناً،
وأخذت تعمل له سخينة،
وكان في الصّوم الأول من صلّى
العشاء الآخرة أو نام،
حرُم عليه الطعام والشّراب
والجماع،
فلما فرغت من طعامه إذا هي به
قد نام،
وكان متداعياً وكلّ فايقظته
فكره أن يعصي اللّه ورسوله وأبى أن يأكل،
وأصبح صائماً مجهوداً،
فلم ينتصف النهار حتّى غشي
عليه،
فلمّا أفاق،
أتى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فلما رآه رسول اللّه
قال :
(يا أبا
قيس مالك أمسيت طليقاً؟)
قال : ظللت أمس في النخيل ونهاري كلّه أجر بالحرير حتّى أمسيت،
فأتيت فأرادت إمرأتي أن تطعمني
شيئاً سخناً فأبطأت عليَّ،
فنمت فايقظوني وقد حرّم عليَّ
الطعام والشراب،
فطويت وأمسيت وقد أجهدني
الصّوم،
فاغتمّ لذلك رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه تعالى
{وَكُلُوا}
يعني في ليالي الصّوم واشربوا فيها
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ ابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ
اسْوَدِ}
أي بياض النّهار وضوءه من سواد الليل وظلمته،
كذا قال المفسرون.
قال الشاعر :
الخيط الأبيض وقت الصّبح منصدع
والخيط الأسود لون الليل مكموع
وإنّما سمّي بذلك تشبيهاً
بالخيط؛ لأبتداء الضوء والظلمة لامتدادهما.
وقال ابو داود :
فلمّا اضاءت لنا غدوة
ولاح من الصبح خيط أنارا
وقد ورد النّص عن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) في تفسير هذه
الآية.
وروى مخالد عن عامر عن عدي بن
حاتم
قال : علمني رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) الصّلاة والصّيام
قال : صل كذا،
وصم كذا،
فإذا غابت الشمس : فكل واشرب
حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود،
وصم ثلاثين يوماً إلى أن ترى
الهلال قبل ذلك،
قال : فأخذت خيطتين من شعر أبيض وأسود،
وكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي.
فذكرت ذلك للنبي
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
فضحك رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) حتّى بدت نواجذه وقال :
(يا ابن
حاتم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل).
وروى أبو حازم عن سهل بن سعد
قال : نزلت هذه
الآية
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ ابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ اسْوَدِ} ولم يقول : من الفجر.
كان رجال إذا أرادوا الصوم يضع
أحدهم في رجليه الخيط الأبيط والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتّى يتبين لهم
فأنزل اللّه تعالى
{مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا إنّما
يعني بذلك الليل والنهار.
والفجر إنشقاق عمود الصبح
وابتداء ضوءه،
وهو مصدر من قولك فجرّ الماء
يفجر فجراً إذا إنبعث وجرى شبهّه شق الضوء بظلمة الفجر،
الماء الحوض إذا شقه وخرج منه
وهما فجران،
أحدهما : يسطع في السماء مستطيلاً كذّذ السرحان ولا ينتشر فذلك لا يحل
الصلاة ولا يحرم الطعام على الصائم وهو الفجر الكاذب.
والثاني : هو المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق ضوء الفجر الصادق الذي
يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم وهو المعني بهذه
الآية.
عن سمرة بن جندب
قال : قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا يمنعكم من السحور آذان بلال ولا الصبح
المستطيل ولكن الصبح المستطير في الأفق). ثمّ ذكر
وقت الافطار فقال
{ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} .
قال عبد اللّه بن أبي أوفى :
كنا مع النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) في مسيرة وهو صائم فلمّا غربت الشمس قال لرجل : انزل فاجرح لي،
فقال الرجل : يا رسول اللّه
أمسيت؟
فقال : انزل فاجرح لي،
فقال الرجل : لو أمسيت،
فقال : انزل فاجرح لي،
قال : يا رسول اللّه ان علينا نهاراً فقال له الثالثة فنزل فجرح
له. ثمّ قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر
الصائم).
وفي بعض الألفاظ : أكل أو لم
تأكل.
{وَلا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ،
كان مجاهد يقرأ في المسجد،
وأصل العكوف والاعتكاف الثبات
والاقامة.
فقال : عكفت بالمكان إذا
عكفت،
قال اللّه عزّ وجلّ
{فَأَتَوْا
عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}
أيّ يقيمون.
قال الفرزدق يصف القدور :
يرى حولهن معتفين كأنهم
على صنم في الجالية عكف
وقال الطرماح :
فبات بنات الليل حولي عكّفا
عكوف البواكي بينهن صريع
وقال آخر : تصدّى لها والدجى قد
عكف خيال هداه إليه الشغف،
والاعتكاف هو حبس النفس في
المسجد على عبادة اللّه تعالى.
واختلف العلماء في معنى
المباشرة التي نهي المعتكف عنها.
فقال قوم : هي المجامعة خاصة
معناه لا تجامعوهن ما دمتم معتكفين في المساجد،
فإن الجماع يفسد الاعتكاف وبه
قال ابن عبّاس وعطاء والضحاك والربيع.
وقال قتادة ومقاتل والكلبي :
نزلت هذه
الآية في نفر من
أصحاب النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) كانوا يعتكفون في المسجد وإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها
فجامعها ثمّ يغتسل ويرجع إلى المسجد فنهوا أن يجامعوا ليلاً ونهاراً حتّى يفرغوا
من اعتكافهم.
وقال أبو زيد : المباشرة الجماع
وغير الجماع؛ من اللمس والقُبلة وانواع التلذذ،
والجماع مفسد للأعتكاف
بالإجماع،
والمباشرة غير الجماع،
فهو على ضربين : ضرب يقصد به
التلذذ بالمرأة فهو مكروه ولا يفسد الاعتكاف عند أكثر الفقهاء
وقال مالك بن أنس : يفسده.
قال ابن جريج : قلت لعطاء
المباشرة هو الجماع؟
قال : الجماع نفسه،
قلت له : فالقُبلة في المسجد
والمسّة؟
قال : أما الذي حُرّم فالجماع وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.
والضرب الثاني : ضرب يقصد به
التلذذ بالمرأة فهو مباح كما جاء في الخبر عن عائشة رضي اللّه عنها،
إن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يخرج إليها رأسه من المسجد فترجّله وهو معتكف.
فرقد السجني عن سعيد بن جبير عن
ابن عبّاس : إن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) قال في المعتكف :
(هو معتكف الذنوب وتجري له من الحسنات كعامل
الحسنات كلها).
عن علي بن الحسين عن أبيه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من اعتكف عشراً في رمضان كان بحجتين وعمرتين).
{تِلْكَ} الأحكام التي ذكرنا في الصيام والاعتكاف
{حُدُودَ اللّه} .
قال السّدي : شروط اللّه.
شهر بن حوشب : فرائض اللّه.
الضحاك : معصية اللّه.
المفضل بن سلمة : الحد الموقف
الذي يقف الإنسان عليه ويصف له حتّى يميّز من سائر الموصوفات والحد فصل بين
الشيئين،
والحد منتهى الشيء.
وقال الخليل : الحد الجامع المانع.
قال الزجاج : بحدود ما منع
اللّه تعالى من مخالفتها.
قلت : وأصل الحد في اللغة :
المنع ومنه قيل للبواب حداد.
قال الأعشى :
فقمنا ولما يصح ديكنا
إلى جونة عند حدادها
يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها.
قال النابغة : إلاّ سليمان إذ
قال المليك له قُم في البرية فاحددّها عن الفند،
ومنه حدود الأرض،
والدار هي ما منع غيره أن يدخل
فيها،
وسمي الحديد حديداً لانه يمتنع
من الأحداء،
ويقال إحدّمت المرأة على زوجها
وحدّت إذا منعت نفسها من الزينة،
فحدّد اللّه هي ما منع فيها أو
منع من مخالفتها والتعدّي إلى غيرها.
{فَلا تَقْرَبُوهَا} فلا تأتوها،
يقال : قربت الشيء أقربه
وقربت منه بضم الراء إذا دنوت منه.
{ كذلك } هكذا
{يُبَيِّنُ
اللّه ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكي يتقوها فنجّوا من السخطة والعذاب.
{تِلْكَ} الأحكام التي ذكرنا في الصيام والاعتكاف
{حُدُودَ اللّه} .
قال السّدي : شروط اللّه.
شهر بن حوشب : فرائض اللّه.
الضحاك : معصية اللّه.
المفضل بن سلمة : الحد الموقف
الذي يقف الإنسان عليه ويصف له حتّى يميّز من سائر الموصوفات والحد فصل بين الشيئين،
والحد منتهى الشيء.
وقال الخليل : الحد الجامع
المانع.
قال الزجاج : بحدود ما منع
اللّه تعالى من مخالفتها.
قلت : وأصل الحد في اللغة :
المنع ومنه قيل للبواب حداد.
قال الأعشى :
فقمنا ولما يصح ديكنا
إلى جونة عند حدادها
يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها.
قال النابغة : إلاّ سليمان إذ
قال المليك له قُم في البرية فاحددّها عن الفند،
ومنه حدود الأرض،
والدار هي ما منع غيره أن يدخل
فيها،
وسمي الحديد حديداً لانه يمتنع
من الأحداء،
ويقال إحدّمت المرأة على زوجها
وحدّت إذا منعت نفسها من الزينة،
فحدّد اللّه هي ما منع فيها أو
منع من مخالفتها والتعدّي إلى غيرها.
{فَلا تَقْرَبُوهَا} فلا تأتوها،
يقال : قربت الشيء أقربه
وقربت منه بضم الراء إذا دنوت منه.
{ كذلك } هكذا
{يُبَيِّنُ
اللّه ءَايَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكي يتقوها فنجّوا من السخطة والعذاب.
١٨٨
{وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}
الآية.
قال ابن حيان وابن السايب :
نزلت هذه في أمرؤ القيس بن عابس الكندي وفي عبدان بن أشرح الحضرمي،
وذلك إنهما إختصما إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) في أرض فأراد أمرؤ القيس أن يحلف فأنزل اللّه
{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه} فقرأها النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) فأبى أن يحلف وحكم عبدان في
أرضه ولا يخاصمه.
فقرأها النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) وكان أمرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب فأنزل اللّه عزّ وجلّ
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ}
الآية
أيّ لا يأكل بعضكم مال بعض،
(بالباطل)
أي من غير الوجه الذي أباحه اللّه تعالى له،
وأصل الباطل الشيء الذاهب
الزائل يقال : بطل يبطل
بطولاً وبطلاناً إذا ذهب.
{وَتُدْلُوا بِهَآ
إِلَى الْحُكَّامِ}
أي تلقون أمور تلك
الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام،
وأصل الادلاء إرسال الدلو
وإلقاءه في البئر،
يقال أدلى دلوه إذا أرسلها.
قال اللّه تعالى
{فَأَدْلَى
دَلْوَهُ} ودلاها إذا أخرجها ثمّ جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء،
ومنه قيل للمحتج بدعواه : أدلى
بحجته إذا كانت سبباً له يتعلق به في خصومته كتعلق المسقي بدلو قد أرسلها هو سبب
وصوله إلى الماء،
ويقال : أدلى فلان إلى
فلان إذا تناول منه وأنشد يعقوب :
فقد جعلت إذا حاجة عرضت
بباب دارك أدلوها أيا قوم
ومنه يقال أيضاً : دلا ركابه
يدلوها إذا ساقها سوقاً رفقاً قال الراجز :
يا ذا الذي يدلوا المطيّ دلوا
ويمنع العين الرقادا المرا
واختلف النحاة في محل
قوله
{وَتُدْلُوا} .
فقال بعضهم : جزم بتكرير حرف النهي المعني ولا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هي
في حرف أُبي بإثبات لا.
وقيل : وهو نصب على الصرف.
كقول الشاعر :
لا تنه عن خُلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقيل : نصب باضمارين الخفيّفة.
قال الأخفش : نصب على الجواب
بالواو.
{لِتَأْكُلُوا
فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ} بالباطل.
وقال المفضل : أصل الإثمّ
التقصير في الأمر.
قال الأعشى :
جمالية تعتلي بالرّداف
إذا كذب الاثمان الهجيرا
أي المقصرات يصف
(ناقته) ثمّ جعل التقصير في أمر اللّه عزّ وجلّ والذنب إثماً.
{وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ} إنكم مبطلون.
قال ابن عبّاس : هذا في الرجل
يكون عليه مال وليس له فيه بينة فيجحد ويخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف ان الحق
عليه ويعلم إنه آثمّ أكل حرام.
قال مجاهد : في هذه
الآية لا يخاصم
وليست ظالم.
الحسن : هو أن يكون على الرجل
لصاحبه حق فإذا طالبه به دعاه إلى الحكام فيحلف له ويذهب بحقه.
الكلبي : هو أن يقيم شهادة
الزور.
قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى
الحاكم وأنت تعلم إنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حرامه ومن قضى له بالباطل فإن خصومته
لم ينقض حتّى يجمع اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة بينه وبين خصيمه فيقضي بينهما
بالحق.
وقال شريح : إني لأقضي لك،
وإني لأظنك ظالماً،
ولكن لا يسعني إلاّ أن أقضي بما
يحضرني من البيّنة،
وإن قضائي لا يحل لك حراماً.
محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن
أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من
بعض فأقضي له فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار).
١٨٩
{يَسَْلُونَكَ عَنِ
اهِلَّةِ} نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الانصاريين قالا : يا
رسول اللّه ما بال الهلال يبدوا دقيقاً مثل الخيط ثمّ يزيد حتّى يمتلىء ويستوي ثمّ
لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة فأنزل اللّه تعالى
{يَسَْلُونَكَ} يا محمّد
{عَنِ اهِلَّةِ} وهي جمع هلال مثل رداء وأردية واشتقاق الهلال من
قولهم استهل
الصبي إذا صرخ حين يولد.
وأهَل القوم بالحج والعمرة إذا
رفعوا أصواتهم بالتلبية.
قال الشاعر :
يهل بالفرقد ركبانها
كما يهل الراكب المعتمر
فسمّي هلالاً لأنه حين يري يهل
الناس بذكر اللّه ويذكره.
{قُلْ هِىَ
مَوَاقِيتُ} وهو الزمان المحدود للشيء
{لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} أخبر اللّه عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه واختلاف أحواله،
إعلم إنه فعل ذلك : ليعلم الناس
أوقاتهم في حُجتهم وعمرتهم وحلّ ديونهم وَوعِدو حلفائهم وأجور أُجرائهم ومحيض
الحائض ومدة الحامل ووقت الصوم والافطار وغير ذلك،
فلذلك خالف بينه وبين الشمس
التي هي دائمة على حالة واحدة.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} قال المفسّرون : كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل
منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل
المدن نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج،
أو يتخذ سلماً فيصعد منه وإن
كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب ولا يخرج منه حتّى
يحل من إحرامه،
ويرون ذلك براً إلاّ أن يكون من
الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن
معاوية،
سمّوا حمساً لتشددهم في دينهم
والحماسة والشدة والصلابة
قالوا : فدخل رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار
فدخل من الأنصار رجل يقال له زعامة بن أيوب،
وقال الكلبي : قطبة بن عامر بن
حذيفة أحد بني سلمة فدخل على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه،
فقال له رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لِمَ دخلت من الباب وأنت محرّم؟
قال : رأيتك دخلت فدخلت على أثرك،
فقال رسول اللّه : إليَّ أحمس،
قال الرجل : إن كنت أحمس : فإنّ
أحمس ديننا واحد،
رضيت بهديك وهمتك ودينك،
فأنزل اللّه هذه
الآية.
الزهري : كان ناس من الأنصار
إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك وكان الرجل يخرج
مهلاً بالعمرة فتبدوا له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة
من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ثمّ يقوم في حجرته
فيأمر بحاجته فيخرج إليه من بيته،
حتّى بلغنا أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة ودخل رجل على أثره من الأنصار من
بني سلمة،
فقال له النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) لِمَ فعلت ذلك؟
قال : لأني رأيتك دخلت،
فقال : لأني أحمس.
(قال الزهري : ) وكانت الحمس لا يبالون بذلك.
فقال الأنصاري : وأنا أحمس.
يقول : وأنا على دينك فأنزل اللّه تعالى
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن
ظُهُورِهَا} .
قرأ حمزة الكسائي وعاصم في
رواية أبي بكر ونافع برواية
(تأتوا
البيوت) بكسر الباء في جميع القرآن لمكان الياء.
وقرأ الباقون : بالضم على
الأصل.
{وَلَاكِنَّ الْبِرَّ
مَنِ اتَّقَى}
أيّ نرَّ من إتقى كقوله
{وَلَاكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللّه} وقد مرَّ ذكره
{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} في حال الإحرام
{وَاتَّقُوا
اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
١٩٠
{وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللّه} دين اللّه وطاعته
{الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ} .
قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : هذه أوّل آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقاتل من يقاتله ويكف عمن كفَّ عنه حتّى نزلت :
(اقتلوا المشركين) فنسخت هذه
الآية
{وَلا تَعْتَدُوا}
أي لا تقتلوا النساء
والصبيان والشيخ الكبير ولا من أُلقي إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم ذلك فقد
اعتديتم وهو قول ابن عبّاس ومجاهد.
وقال يحيى بن عامر : كتبت إلى
عمر بن عبد العزيز أسأله عن
قوله
{وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللّه
يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . فكتب إليَّ : إن
ذلك في النساء والذرية والرهبان ومن لم ينصب الحرب منهم.
وقال الحسن : لا يعتدوا
أي لا تأتوا مانهيتم
عنه.
وقال بعضهم : الاعتداء ترك قتالهم.
علقمة بن مرثد عن سليمان بن
يزيد عن أبيه
قال : كان رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إذا بعث أمراً على سرية أو جيش أوصى في خاصة نفسه بتقوى اللّه وممن معه
من المسلمين خيراً وقال :
(إغزوا
باسم اللّه،
وفي سبيل اللّه،
قاتلوا من كفر
باللّه،
إغزوا ولا تغلّوا
ولا تعدروا ولا تقتلوا وليداً).
وعن عطاء بن أبي رباح
قال : لما استعمل
أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على الشام خرج معه يشيعهُ أبو بكر ماشياً وهو راكب فقال
له يزيد : يا خليفة رسول اللّه إما أن تركب وإما أن أنزل،
فقال أبو بكر : ما أنت بنازل
ولا أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل اللّه،
إني أوصيّك وصية إن أَنت حفظتها
ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع زعموا للّه فزعهم وما حبسوا له أنفسهم،
وستمر على قوم قد فحصوا عن
أوساط رؤسهم وتركوا من شعورهم أمثال العصائب،
فاضرب ما فحصوا منه بالسيف.
ثمّ
قال :
(لا تقتلوا إمرأة ولا صبياً ولا شيخاً فانياً ولا
تعقروا شجراً مثمراً ولا تغرقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تذبحوا بقرة ولا شاة إلاّ
لمأكل ولا تخربوا عامراً).
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
قال : نزلت هذه
الآية في صلح
الحديبية وذلك أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) لما خرج هو وأصحابه في العام
الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبية فصدهم
المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثمّ صالحه المشركون على أن يرجع
عامه ذلك على أن يخلي له بكل عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء،
فصالحهم رسول اللّه ثمّ رجع من
فوره ذلك إلى المدينة فلما كان العام المقبل تجهز رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا يفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد
الحرام ويقاتلوهم،
وكره رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل اللّه
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه} محرمين
{الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ}
يعني قريشاً
{وَلا تَعْتَدُوا} ولا تظلموا فتبدؤا في الحرم بالقتال محرمين.
١٩١
{إِنَّ اللّه يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} ثمّ قال
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وجدتموهم وأصل يثقف بحذف والبصر بالأمر،
يقال : رجل ثقف لقف إذا
كان حاذقاً في الحرب بصيراً بمواضعها جيد الحذر فيه،
فمعنى
الآية : واقتلوهم حيث
أبصرتم مقابلتهم وتمكنتم من قتلهم.
{وَأَخْرِجُوهُم
مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}
يعني مكّة
{وَالْفِتْنَةُ}
يعني الشرك
{أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}
يعني وشركهم
باللّه عزّ وجلّ أعظم من قتلكم إياهم في الحرم والحرم الإحرام،
قاله عامّة المفسّرين.
وقال الكسائي : الفتنة هاهنا
العذاب وكانوا يعذبون من أسلم.
{ولا تقتلوهم عند
المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}.
قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف
ويحيى بن رثاب والأعمش وحمزة والكسائي :
{يُقَاتِلُوكُمْ} بغير ألف
من القتل على معنى لا تقتلوا بعضهم.
تقول العرب : قتلنا بني فلان
وإنّما قتلوا بعضهم،
لفظه عام ومعناه خاص.
وقرأ الباقون : كلها بالألف من
القتال،
واختلفوا في حكم هذه الآيات.
فقال قوم : هي منسوخة ونهوا عن
الابتداء بالقتال،
ثمّ نسخ ذلك بقوله
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ} هذا قول قتادة والربيع.
مقاتل بن حيان :
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}
أي حيث أدركتم في الحل والحرم،
لما نزلت هذه
الآية نسخها
قوله
{وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} ثمّ نسختها آية السيف في
(براءة) فهي ناسخة
ومنسوخة.
وقال آخرون : هذه
الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم،
وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين.
١٩٢
{كذلك جزاء الكافرين
فإن انتهوا} عن القتال والكفر
{فَإِنَّ
اللّه غَفُورٌ} لما سلف
{رَّحِيمٌ} بعباده،
١٩٣
نظيرها في الأنفال
{وَقَاتِلُوهُمْ}
يعني المشركين
{حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ} شرك
يعني قاتلوهم
حتّى يسلموا فليس يقبل من المشرك الوثني جزية ولا يرضى منه إلاّ بالإسلام وليسوا
كأهل الكتاب بالذين يؤخذ منهم الجزية والحكمة فيه على ما قال المفضل بن سلمة إن مع
أهل الكتاب كتباً منزلة فيها الحقّ وإن كانوا قد حرفوها فأمهلهم اللّه تعالى بحرمة
تلك الكتب من القتل
(واهواء) صغارهم بالجزية،
ولينظروا في كتبهم ويتدبرونها
فيقفوا على الحق منها ويمنعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب ولم يكن لأهل الأوثان من
يرشدهم إلى الحقّ وكان إمهالهم زائداً في اشراكهم فإنّ اللّه تعالى لن يرضى منهم
إلاّ بالإسلام أو القتل عليه.
{وَيَكُونَ الدِّينُ} الإسلام
{للّه} وحده فلا يعبد دونه شيء،
قال المقداد بن الأسود : سمعت
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(لا يبقى على ظهر
الأرض بيت (معد) ولا وبر إلاّ أدخله اللّه عزّ
وجلّ كلمة الإسلام،
إما يعزّ عزيز أو يذل ذليل،
إما أن يعزهم فيجعلهم اللّه من
أهله فيعزوا به،
وإما أن يذلهم فيدينون لها).
{فَإِنِ انتَهَوْا} عن الكفر والقتال
{فَلا
عُدْوَانَ} فلا سبيل ولا حجة
{إِلا
عَلَى الظَّالِمِينَ} .
قال ابن عباس : يدلّ عليه
قوله عزّ وجلّ
{قَالَ ذلك بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا اجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَىَّ}
أي فلا سبيل عليَّ
وقال أهل المعاني : العدوان الظلم،
دليله
قوله تعالى
{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولم يرد اللّه تعالى بهذا أمراً بالظلم أو إباحة له وإنما
حمله على اللفظ الأوّل على ظهر
(المجادلة) فسمى الجزاء على الفعل فعلاً
كقوله تعالى
{وجزاء سئية سيئة مثلها}
وقوله
{فمن اعتدى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} .
وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قتادة وعكرمة : في هذه
الآية،
الظالم الذي يأبى أن يقول لا
إله إلاّ اللّه،
وإنّما سمي الكافر ظالماً،
لوضعه العبادة في غير موضعها.
١٩٤
{الشَّهْرُ
الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} نزلت في
عمرة بالقضاء وذلك أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) صالح أهل مكّة عام الحديبية
على أن ينصرف عامَه ذلك ويرجع العام القابل على أن يخلوا له مكّة ثلاثة أيام
فيدخلها هو وأصحابه ويعمرون ويطوفون بالبيت ويفعلون ما أحبوا،
على أن لا يدخلوها إلاّ بسلاح
الراكب في عمرة ولا يخرجوا بأحد معهم من أهل مكّة،
فانصرف رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ذلك العام ورجع العام القابل في ذي القعدة ودخلوا مكّة واعتمروا وطافوا
ونحروا وقاموا ثلاثة أيام فأنزل اللّه
{الشَّهْرُ
الْحَرَامُ} ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكّة واعتمرتم وقضيتم مناسككم
وطوافكم في سنة سبع
{بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ} ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم من مرادكم في سنة
ست.
والشهر مرفوع بالابتداء وخبره
في
قوله
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ}
{وَالْحُرُمَاتُ} جمع الحرمة كالظلمات جمع الظلمة والحجرات جمع الحجرة والحرمة ما يجب حفظه
وترك إنتهاكه وإنّما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة
الإحرام
{قِصَاصٌ} والقصاص المساواة والمماثلة : وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} قاتلوه{بِمِثْلِ
مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فسمي الجزاء باسم
الابتداء على مقابلة الشرط
١٩٥
{واتقوا اللّه
واعلموا أن اللّه مع المتقين وانفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة}
الآية،
إعلم إن التهلكة : مصدر بمعنى
الاهلاك وهو تفعله من الهلاك.
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على
تفعلة بضم العين إلاّ هذا.
وقال بعضهم : التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.
ومعنى
قوله
{لا تلقوا بأيديكم} لا تأخذوا في ذلك.
ويقال : لكل من بدأ بعمل :
قد القى يديه فيه.
قال لبيد يذكر الشمس :
حتّى إذا ألقت يداً في كافر
وأجّن عورات الثغور ظلامها
أي بدأت في المغيب.
قال المبرد :
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} أراد أنفسكم فعبَّر بالبعض عن الكلّ
كقوله تعالى
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}
{وبما
كسبت أيديكم} والباء في
قوله بأيدكم زائدة كقوله
{تَنبُتُ
بِالدُّهْنِ}
قال
الشاعر :
ولقد ملأت على نصيب جلده
مّساءة إن الصديق يعاتب
يريد ملأت جلده مساءة.
قالوا : والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلاّ في الشر.
واختلف العلماء في تأويل هذه
الآية.
فقال بعضهم : هذا في البخل وترك النفقة،
يقول : وانفقوا في سبيل اللّه
ولا تمسكوا الإنفاق في سبيل اللّه فان الامساك عند الانفاق في سبيل اللّه هو
الهلاك وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة والضحاك وابن كيسان.
قال ابن عبّاس : في هذه
الآية : إنفق في
سبيل اللّه وإن لم تكن لك إلاَّ سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئاً.
وقال السّدي : فبما أنفق في
سبيل اللّه ولو بمثقالاً.
{وَلا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لا تقل ليس عندي شيء.
مجاهد : لا نمنعكم نفقة في حق
خيفة العيلة.
الحسن : إنّهم كانوا يسافرون
ويغزون ولا ينفقون من أموالهم،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عبّاس : إن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) لما أمر الناس بالجهاز إلى
الحج،
وقيل : إلى العمرة عام الحديبية،
وكان إذا أراد سفر نادى مناديه
بذلك فيعلمهم فيعدّو أهبّة السفر،
فلمّا أمرهم بالتجهيز قام إليه
ناس من اعراب حاضري المدينة فقالوا : يا رسول اللّه بماذا نتجهز فواللّه لا من زاد ولا مال نتجهز
به ولا يطعمنا أحد،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن
حيان : لما أمر اللّه بالأنفاق قال رجال : أمرنا بالنفقة في سبيل اللّه فإن أنفقنا
أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة،
فقال اللّه
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
يعني انفقوا ولا تخشوا العيلة فإني رازقكم ومخلف عليكم.
الخليل بن عبد اللّه عن علي
وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أُمامة الباهلي وعبداللّه بن عمرو وجابر وعمران بن
حصين كلهم يحدثون عن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) إنّه
قال :
(من أرسل نفقة في سبيل اللّه وأقام في بيته فله
بكل درهم سبعمائة درهم،
ومن غزا بنفسه في
سبيل اللّه وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم) ثمّ تلا هذه
الآية
{وَاللّه
يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} .
وروى النضر بن عزيز عن عكرمة
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
قال : لا تتيمموا الخبيث منه : تُنفقون.
(قال) زيد بن أسلم : إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث بعثها رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بغير نفقة فإما أن يقطع بهم،
وإما كانوا عيالاً فأمرهم اللّه
بالانفاق على أنفسهم في سبيل اللّه،
وإذا لم يكن عندك ما ينفق فلا
تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة،
والتهلكة : أن يهلك من الجوع أو
من العطش ثمّ قال لمن بيده ويبخل
{وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
وقال محمّد بن كعب القرظي : كان
القوم يكونّون في سبيل اللّه فيتزود الرجل فيكون أفضل زاداً من الآخر فينفق النّاس
من زاده حتّى لا يبقى منه شيء يحب أن يواسي صاحبه،
فأنزل للّه تعالى هذه
الآية.
وقال بعضهم : هذه
الآية نزلت في ترك الجهاد.
زيد بن أبي حبيب عن أسلم بن
عمران
قال : غزونا
القسطنطينية،
وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب
رسول اللّه،
وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد
صاحب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) ،
وعلى الجماعة عبد الرحمن بن
خالد بن الوليد،
قال : فوقفنا صفين لم أر قط أعرض ولا أطول منها والروم ملصقون
ظهورهم بحائط المدينة
قال : فحمل رجل منّا على صف الروم حتّى خرقه ثمّ خرج إلينا مقبلاً
فصاح الناس وقالوا : سبحان
اللّه ألقى بيده إلى التهلكة.
وقال أبو أيوب الأنصاري : إنكم
لتأولون هذه
الآية على هذا
التأويل ان حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو بلى من نفسه،
نحن أعلم بهذه
الآية،
إنها نزلت فينا معشر الأنصار،
إنّا لما أعز اللّه دينه ونصر
رسوله قلنا بيننا
(معاشر الانصار) سرّاً من رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتّى فشى الإسلام ونصر اللّه عزّ وجلّ نبيه،
وقد وضعت الحرب أوزارها فلو
رجعنا إلى أهلنا وأولادنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها،
فأنزل اللّه تعالى فينا
{وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللّه وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .
والتهلكة : الاقامة في الأهل
والمال وترك الجهاد.
قال أبو عمران : فما زال أبو
أيوب يجاهد في سبيل اللّه حتّى دفن بالقسطنطينية.
وروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس
قال : التهلكة
عذاب اللّه عزّ وجلّ يقول : لا تتركوا الجهاد فتعذبوا دليله
قوله
{إِلا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}
عن
(يزيد) بن أبي أنيسة عن
أنس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمّن قال لا إله إلاّ
اللّه لا تكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل،
والجهاد ماض منذ
بعثني اللّه عزّ وجلّ إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال (لا يبطله) جور ولا عدل،
والإيمان بالاقدار).
أبو صالح عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة
من النفاق).
وقال أبو هريرة وأبو سفيان : هو
الرجل يستقبل بين الصفين فيحمل على القوم وحده.
وقال محمّد بن سيرين وعبيد
السلماني : الإلقاء في التهلكة هو القنوط من رحمة اللّه.
قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب
الذنب فيقول قد هلكت ليست توبة فييأس من رحمة اللّه وينهمك في المعاصي فنهاهم
اللّه عن ذلك.
قال يمان بن رئاب والمفضل بن
سلمة الرجل ألقى بيديه إذا إستسلم للّهلاك ويئس من النجاة.
عن شعبة عن أبي إسحاق عن
(أبيه) في هذا
الآية
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قيل له : أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟
قال : لا ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول لا توبة لي.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
قال : جاء حبيب
بن الحرث إلى رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه إني
رجل معراض الذنوب.
قال :
(فتب
إلى اللّه يا حبيب،
قال : يا رسول اللّه
إني أتوب ثمّ أعود. قال : (فكلمّا اذنبت فتب)
قال : إذا يا
رسول اللّه تكثر ذنوبي.
قال :
(عفو
اللّه أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحرث).
فقال فضيل بن عياض : في هذه
الآية
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} بأساءة الظن باللّه واحسنوا الظن باللّه
{إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الظن به.
وعن محمّد بن إبراهيم الكاتب
قال : دخلنا على
أبي نؤاس الحسن بن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه ومعنا صالح بن علي الهاشمي
فقال له صالح : تب إلى اللّه يا أبا عليّ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم
من أيام الدنيا وبينك وبين اللّه هناة،
فقال : أسندوني،
أياي تخوف باللّه،
فقد حدثني حماد بن سلمة عن يزيد
الرقاشي عن أنس عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(إنّما جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من (أمتي) أتراني لا أكون منهم).
وحدثنا حماد عن ثابت عن أنس ان
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(يخرج رجلان من النّار فيعرضان على اللّه عزّ وجلّ
ثمّ يؤمر بهما إلى النّار فيلتفت أحدهما فيقول : أي ربّ ما كان هذا رجائي،
قال اللّه وما كان
رجاءك؟
قال : كان رجائي إذا
أخرجتني منها لا تعيدني إليها،
فيرحمه اللّه عزّ
وجلّ فيدخله الجنّة).
١٩٦
{وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} .
قرأ ابن أبي إسحاق :
(الحج) بكسر الحاء
في جميع القرآن وهي لغة تميم وقيس بن غيلان.
وذكر عن طلحة بن مصرف : بالكسر
هاهنا،
وفي سورة آل عمران،
وبالفتح في سائر القرآن.
وقرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة
والكسائي وعاصم،
برواية حفص : بالكسر في آل
عمران وبالفتح في سائر القرآن.
وقرأ الباقون : بالفتح كل
القرآن وهي لغة أهل الحجاز. قال الكسائي : هما لغتان ليس بينهما في المعنى شيء مثل
رَطل ورِطل
(......) بنصب وكسر.
وقال أبو معاذ :
(الحج) بالفتح
مصدر والحج بالكسر الإسم مثل قسم وقِسم وشرب وشِرب وسَقي وسقِي وفي مصحف عبداللّه
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} بالبيت.
وقرأ علقمة وإبراهيم : واتيموا
الحج والعمرة.
واختلف المفسرون في اتمامهما.
فقال بعضم : معنى ذلك واتموا
الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وسنتهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبرهيم ومجاهد.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن
عبّاس في هذه
الآية
قال : من أحرم
بحج أو عمرة ليس له أن يحل حتّى يتمها،
وتمام الحج يوم النحر إذا رمى
جمرة العقبة فطاف بالبيت وقد حل من إحرامه كلّه بتمام العمرة،
إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة
فقد حلّ،
وفرائض الحج أربعة : الإحرام،
والوقوف بعرفة،
وطواف الافاضة،
والطواف والسعي بين الصفا
والمروة،
وأعمال العمرة كلها أربعة : فرض
الاحرام،
والطواف،
والسعي،
والحلق أو التقصير،
وأقله ثلاث شعرات.
روى سعيد بن جبير وطاوس : تمام
الحج والعمرة أن يحرم بهما مفردين......
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن
عبداللّه بن سلمة فقال جاء رجل إلى علي فقال : أرأيت قول اللّه
عزّ وجلّ
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه}
قال : إن تحرم من دويرة أهلك.
قال قتادة
(إتمام العمرة) أن يعتمر في غير أشهر الحج،
وما كان في أشهر الحج ثمّ أقام
حتّى يحج فهي متعة،
وعليه فيها الهدي إن وجد،
أو الصيام،
وتمام الحج أن يأتي بمناسكه
كلها حتّى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة.
ابن جريح عن عطاء عن ابن عبّاس
قال : قال رسول
اللّه :
(عمرة في رمضان تعدل حجّة).
وقال الضحاك : أيامها أن يكون
النفقة حلالاً
(وينتهي) عما نهى اللّه عنه.
وقال سفيان : تمامها أن يخرج من
(بلده) لهما لا
يريد غيرهما ولا يخرج لتجارة ولا لحاجة حتّى إذا كنت قريباً من مكّة قلت : لو حججت
أو إعتمرت،
وذلك يجزي ولكن التمام أن يخرج
له ولا يخرج لغيره.
وروى جعفر بن سليمان
(البيعي) عن ثابت عن أنس
قال : قال رسول اللّه :
(يأتي
على الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة،
وسائلهم للتجارة
وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة).
وفي هذا المعنى كان يقول عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه : الوفَّاد كثير والحجاج قليل.
حكم
الآية
اختلف الفقهاء في العمرة،
فقال قوم : هي سنّة حسنة وليست
بفريضة واجبة وهو مذهب أحمد ومالك بن أنس وأبي ثور وقول
الشافعي في القديم وهو
اختيار جرير بن محمّد الطبري،
وإحتجوا بقراءة الشعبي
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} للّه رفعاً.
وبما روى محمّد بن المنكدر عن
جابر عن النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم) إنّه سأل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟
وأن تعتمروا خيرٌ لكم؟
وفي مهاجر الحج فريضة والعمرة
تطوع قالوا أيضاً لما ذكر اللّه فرض الحج لم يذكر معه العمرة،
وقال عزّ من قائل
{وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} .
وقال الآخرون : ان العمرة فريضة
وهي الحج والأصغر،
وهو قول علي وابن عبّاس وزيد
ابن ثابت وعلي بن الحسين وعطاء وقتادة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقول
الشافعي في الجديد والأصح من مذهبه واختيار أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه،
وإحتجوا في ذلك بقراءة العامة
والعمرة،
نصباً على معنى وأتموا فرض الحج
والعمرة.
وبما روي عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إنّه
قال :
(دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة).
وروى عكرمة عن ابن عبّاس إنّه
قال : واللّه إن
العمرة لفريضة الحج،
في كتاب اللّه
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} وقال ابن عمر : ليس من خلق اللّه أحد إلاّ وعليه حجة وعمرة
واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً،
كما
قال اللّه تعالى. فمن زاد
بعد ذلك فهو خير وتطوع.
وقال مسروق : أمرنا في كتاب
اللّه بأربعة : إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة فنزّلت العمرة من الحجّ
منزلة الزكاة من الصلاة،
ثمّ تلا هذه
الآية
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للّه} .
وقال عبدالملك بن سليمان : سأل
رجل سعيد بن جبير عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) ان العمرة فريضة هي أم تطوع؟
فقال : فريضة،
قال : فإن الشعبي يقول هي تطوع،
قال : كذّب الشعبي،
ثمّ قرأ
(واتموا الحج والعمرة للّه)،
فمن
قال : إن العمرة ليست
بفرض يأول
الآية على معنى :
أتموها إذا دخلتم فيها ولم يرد إبتدأ الدخول فيه فرضاً عليه،
وذلك كالمتطوع بالحج لا خلاف
فيه إذا أحرم أنَّ عليه المضي فيه وإتمامه،
فإن لم يكن فرضاً عليه إبتدأ
الدخول فيه وكذلك العمرة.
ومثله روي ابن وهب عن زيد
قال : ليست
العمرة واجبة على أحد من الناس.
قال : فقلت له : قول اللّه
{فأتموا الحج والعمرة للّه}
قال : ليس من
الخلق أحد ينبغي له إذا شرع في أمر إلاّ أن يتمه وإذا خرج فيها لم ينبغي له أن يحل
يوماً ثمّ يرجع كما لو صام يوماً لم ينبغي له أن يفطر في نصف النهار،
ودليل هذا التأويل
قوله
{فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى
مُدَّتِهِمْ} لم يرد به الابتداء وإنّما أراد به اتمام ما مضى من العهد
والعقد،
ومن أوجب العمرة تأول الاتمام
على معنى الابتداء والالزام
أي أقيموها وافعلوها يدلّ عليه
قوله عزّ وجلّ
{وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن}
أي فعلهن وقام بهن،
وقوله
{ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ}
أيّ ثمّ
ابتدئوا الصيام وأتموه لأنه ذكره عقيب الأكل والشرب والصبح،
وهذا هو الأصح والأوضح لأنه جمع
بين الاثنين،
وحمل
الآية على عمومها فمعناه
إبتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها،
فيكون جامع بين وجهي الاتمام،
ولأن من أوجهها أكثر،
والأخبار في إيجاب الحجّ
والعمرة مقترنتين أظهر وأشهر.
عن أبي رزين العقيلي إنّه
قال : يا رسول
اللّه إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الطعن،
قال :
(حجَّ
عن أبيك واعتمر).
وقال أبو المشفق : لقيت النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) بعرفة فدنوت منه حتّى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته فقلت : يا رسول
اللّه انبئني بعمل ينجيني من عذاب اللّه ويدخلني الجنّة؟
قال :
(اعبد
اللّه ولا تشرك به شيئاً وأقم الصلاة المكتوبة وأدّ الزكاة المفروضة وحجّ وإعتمر
وصمّ رمضان وانظرما تحب من النّاس ان يأتوه إليك فافعله بهم وما تكره من الناس إن
يأتوه إليك فذرهم منه).
عاصم عن شفيق عن عبداللّه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهم لينفيان الفقر
والفاقة والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجّ المبرور ثواب
دون الجنّة).
في افراد الحج
عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه
عن عائشة إن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) أفرد الحج.
ابراهيم عن الاسود عن عائشة
قالت : خرجنا مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) لا نرى إلاّ الحج.
حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة
قالت خرجنا مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) موافين هلال ذي الحجة فقال
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة
فليهل بعمرة،
والأفراد ان يحرم
بالحج من الميقات ويفرغ منه ثمّ يحرم بالعمرة من مكّة) وهو إختيار
الشافعي وأصحابه.
في القِران
عبد العزيز بن صهيب وحميد
الطويل ويحيى بن إسحاق كلهم عن أنس بن مالك
قال : سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(لبيك عمرةً وحجاً
لبيك عمرةً وحجاً). حميد بن هلال
قال : سمعت
مطرفاً يقول : قال لي عمران بن الحصين : جمع رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بين حجة وعمرة ثمّ توفي قبل أن ينهي عنهما وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه.
وعن أبي وائل
قال : قال قيس بن
معبد : كنت أعرابياً نصرانياً فأسلمت فكنت حريصاً على الجهاد فوجدت الحج والعمرة
مكتوبين عليَّ فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له،
هريم بن عبد اللّه فسألته فقال : إجمعها ثمّ
إذبح ما استيسر من الهدي،
فأهللت بهما،
ثمّ أتيت العذيب يلقيني سليمان
بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما،
فقال أحدهما للآخر : ما هذا
بأفقه من بعيرة،
فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا
أمير المؤمنين إني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين
عليَّ فأتيت هريم بن عبد اللّه،
فقال : إجمعهما ثمّ إذبح
ما إستيسر من الهدي،
وأهللت بهما،
فلما أتيت العذيب لقيني سليمان
بن ربيعة وزيد فقال أحدهما للآخر : ما هذا بأفقه من بعيرة فقال عمر : هديت سنّة
نبيك
(صلى اللّه عليه وسلم) .
علي بن الحسن عن عثمان بن الحكم
ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الحج والعمرة.
فقال علي : لبيك بحج وعمرة
معاً،
وقال عثمان : أتفعلها وأنا أنهى
عنها؟
فقال علي : لم أكن لأدع سنّة
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لأحد من الناس.
والقرآن لم يحرم الحج والعمرة
معاً من الميقات،
وهو إختيار
أبي حنيفة وأصحابه.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} واختلف العلماء في
معنى الاحصار الذي جعل اللّه على من ابتلى به في حجته وعمرته ما استيسر من الهدي.
وقال قوم : هو كل مانع أو حابس مَنَع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه
اللّه تعالى عليه في احرامه ووصوله إلى البيت الحرام
أي شيء كان من مرض أو
جرح أو كسر أو خوف أو عدو أو لدغ أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلته أو غيرها من
الاعذار،
فإنه يقيم مكانه على إحرامه
ويبعث بهديه أو من الهدي فإذا نحر الهدي حل من إحرامه،
هذا قول إبراهيم النخعي والحسن
ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل والكلبي ومذهب أهل العراق،
وإحتجوا في أن الاحصار في كلام
العرب هو صنع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة،
فأما منع العدو بالحبس والقهر
من سلطان قاهر فإن ذلك حصر لا إحصار،
كذا
قال : الكسائي وأبو
عبيدة والفراء
قالوا : ما كان من
مرض وذهاب نفقه قيل فيه حصر فهو محصر،
وما كان من خشية عدو أو سجن قيل
فيه حصر فهو محصور،
يدلّ عليه
قوله تعالى
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}
أي محبساً،
قالوا : وإنما جعلنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض،
إذ كان في حكمه
(فلا دلالة) ظاهرة.
وقال الآخرون : بالأُخرى أن
يمنع عدو أو قاهر من بني آدم من الوصول إلى البيت،
وأمّا المرض وسائر الاعذار فغير
داخل في هذه
الآية.
هذا قول ابن عمر وابن عبّاس
وعبد اللّه بن الزبير وسعد بن المسيب وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب ومذهب
الشافعي وأهل المدينة فاحتجوا بأن نزول هذه
الآية في قصة الحديبية
وذلك إحصار عدو،
يدلّ عليه
قوله في سياق
الآية
{فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ولا يكون إلامِن الخوف وفي الحديث :
(لا حصر إلاّ من حبس عدو).
وقال ثعلب : تقول العرب حصرت
الرجل عن حاجته فهو محصور،
وأحصره العدو إذا منعه من السير
فهو محصر،
وذكر يونس عن أبي عمرو
قال : إذا منعته
من كل وجه فقد أحصرته.
قال
الشافعي : فإذا أحصر بعدوّ
كافر أو مسلم أو سلطان يحبسه في سجن نحر هدياً لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم
وحلّ من إحرامه ولا شيء إلاّ أن يكون واجباً فيقضي فإذا لم يجد هدياً يشتريه أو
كان فقيراً ففيه قولان
أحدهما
: لا حلّ إلاّ لهدي.
والآخر : حلّ إذا لم يقدر عليه
وأتى به إذا قدر عليه.
وقال بعض الفقهاء : إذا لم يعتبر اجزاؤه وعليه طعام أو صيام وكلما وجب على
المحرم في ماله من بدنه وجزاء وهدي وصدقة فلا يجزي إلاّ في الحرم لمساكين أهلها
إلاّ في موضعين
أحدهما : دم المحصر في العدو فإنه ينحر حيث حبس ويحل.
والآخر : من ساق هدياً لغرض
فعطب في طريقه فذبحه وخلى بينه وبين المساكين لم يجز له ولا لرؤسائه أن يأكلوا منه
شيئاً وإن كانوا مساكين.
وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن
يكون قارناً أو متمتعاً جاز له أن يأكل ويطعم غيره،
فهذا معنى الاحصار وحكمه،
فأما المرض وما أشبهه فان له أن
يتداوى فيما لابد منه ويفدى ثمّ يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي،
وقوله تعالى
{فَمَا
اسْتَيْسَرَ}
أي عليه ما تيسر،
محلّه رفع،
وإن شئت جعلت بها في محل النصب
أي قاهر،
واما استيسر من الهدي مثل جدية
السرج وجمعها جدي قاله أبو عمرو.
قال : لا أعلم في الكلام ثالثهما.
وقرأ الأعرج :
(الهدي) بكسر الدال
وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول.
وروى عصمة عن عاصم : بتشديد
الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو
قوله
{هَدْيَا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
{وَ
الْهَدْىَ وَ الْقَلَادَ} وهما جميعاً ما
يهدي إلى بيوت اللّه سمي بذلك لانه تقرب إلى اللّه بمنزلة الهدية يهديها الانسان
إلى غيره متقرباً بما بعث إليه.
واختلفوا في تأويل
قوله
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ} . فقال علي وابن عبّاس : شاة.
وقال ابن عمر : فما استيسر من
الهدي : الابل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة
من الهدي،
وأقوى الأقوال بالصواب قول من
قال إنه شاة،
لأنه أقرب إلى التيسر،
ولأن اللّه سمي الشاة هدياً في
قوله{هَدْيَا
بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وفي الظبي شاة.
{وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْىُ مَحِلَّهُ} ،
واختلفوا في المحل الذي يحل
المحصر بلوغ هديه إليه
فقال
بعضهم : هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو
الحرم ومعنى محلّه : حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله
(صلى اللّه عليه وسلم) في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة
قال :
(قربوه فقد بلغ محله)
يعني فقد بلغ
محل طيبه وحلاله بالهدية الينا بعد إن كانت صدقة على بريرة : وهذا على قول من جعل
الاحصار إحصار العدو.
يدلّ عليه فعل النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه بالحديبية حتّى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست
من الحرم.
روى الزهري عن عروة بن الزبير
عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية
قال
: لما كتب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه :
(قوموا فانحروا واحلقوا)
قال : فواللّه ما
قام منهم أحد حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة
فذكر ذلك لها،
فقالت أم سلمة : يا رسول اللّه
أخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم
يتكلم حتّى فعل ذلك،
فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل
بعضهم يحلق بعضاً حتّى كاد بعضهم
(يقتل) بعضاً غماً.
وقال بعضهم : محل هدي المحصر لا يحل له غيره فإن كان حاجاً فمحله يوم
النحر وإن كان معتمراً يوم مبلغ هديه الحرم.
روى إبراهيم الجعفي عن عبد
الرحمن بن زيد
قال : خرجنا
مهلين بعمرة وفينا الأسود بن يزيد حتّى نزلنا ذات السقوف فلُدِغ صاحب لنا فشق ذلك
عليه ولم يدر كيف يصنع،
فخرج بعضنا إلى الطريق يتشوّف
فإذا بركب فيهم عبد اللّه بن مسعود فسألوه عن ذلك فقال : ليبعث بهدي إلى
مكّة،
واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا
ذبح الهدي فليحل وعليه قضاء عمرته.
{فَمَن كَانَ مِنكُم
مَّرِيضًا} معنى
الآية ولا تحلقوا رؤسكم حال الاحرام إلاّ أن يضطر الرجل حلقه إما
لمرض يحتاج إلى مداواته.
{أَوْ بِهِ أَذًى
مِّن رَّأْسِهِ} من هوام وصداع فحلق أو فدي
{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} نزلت هذه
الآية في كعب بن حجر
قال
: مرَّ بي رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي
(وانا اقبح) فدبر اليَّ.
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أيؤذيك هوام رأسك؟
قلت : نعم يارسول اللّه.
قال :
(فاحلق
رأسك) فأنزل اللّه{فَمَن
كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} ثلاثة أيام.
{أَوْ صَدَقَةٍ} على ست مساكين لكل مسكين نصف صاع
{أَوْ نُسُكٍ} أو ذبيحة واحدها
نسكة.
وقرأ الحسن : أو نسك تخفيفاً
وهي لغة تميم.
قال العلماء : أعلاها بدنه
وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهو مخير بين هذه الثلاثة إن شاء فعل.
وقال أنس وعكرمة :
{فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} عشرة أيام
{أَوْ صَدَقَةٍ} على عشرة مساكين لكل مسكين مدٌ من بر أو مدٌ من تمر أو نسك
وهي الشاة والقول الأول هو الصحيح وهو المشهور وهذه
(الفريضة) أن يأتي بها
أجمعوا على أنه يصوم حيث شاء من البلاد.
واما النسك والطعام،
فقال بعضهم : يجب أن تكون مكّة.
وقال بعضهم :
أي موضع شاء وهو الصواب لأنه أُبهم في
الآية ولم يخصّ مكاناً
دون مكان.
{فَإِذَآ أَمِنتُمْ} من خوفكم وبرأتم من مرضكم.
{فَمَن تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} اختلفوا في هذه
المتعة.
فقال بعضهم : معناه فمن أحصر حتّى
(عام) الحجّ ثمّ قدّم
مكّة فخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك،
فيكمل العمرة إلى السنة
المستقبلة ثمّ يحج ويهدي فيكون جميعاً بذلك الاحلال من
(الذي) حلّ إلى إحرامه
الثاني من القابل.وهذا قول عبداللّه بن الزبير.
وقال بعضهم : معناه
{فَإِذَآ
أَمِنتُمْ} وقد حللتم من إحرامكم بعد الاحصار ولم يقولوا عمرة يخرجون
بها من إحرامكم لحجتكم ولئن حللتم حين أخبرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة
القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج حللتم فاستمتعتم باحلالكم إلى حجكم فعليكم ما
استيسر من الهدي،
وهذا قول علقمة وإبراهيم وسعيد
بن جبير.
وكذلك روى عبداللّه بن سلمة عن
علي رضي اللّه عنه
{فَإِذَآ أَمِنتُمْ
فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ}
الآية فإن أخرّ
العمرة حتّى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي.
وقال السّدي : معناه فمن فسخ
حجة بعمرة فجعله عمرة واستمتع بعمرته إلى حجة فعليه ما استيسر من الهدي.
وقال ابن عبّاس وعطاء وجماعة :
هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فإذا قضى عمرته أقام حلالاً
بمكّة حتّى حان وقت الحج فيحج من عامّة ذلك فيكون مستمتعاً بالاحلال إلى إحرامه
بالحج فمعنى التمتع الاحلال بالعمرة فيقيم حلالاً فيفعل ما يفعل الحلال ثمّ يحج
بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات ومعنى التمتع التلذذ وأصله من
التزود،
والمتاع الزاد ثمّ جعل كلّ تلذذ
تمتعاً.
قال الفقهاء : فالتمتع الذي يجب
عليه الهدي هو أن يجتمع فيه أربع شرائط وهي : أن يحرم في أشهر الحجّ،
ويحل من العمرة في أشهر الحج،
وان يحرم بالحج من عامه ذلك من
مكّة ولا يرجع إلى الميقات،
وزاد بعض أصحابنا : أن يكون من
غير الحرم،
فمن يحرم بشيء من هذه الشرائط
سقط عنه الدم ولا يكون متمتعاً.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهلكم.
قال المفسرون : يصوم يوماً قبل
التروية ويوم عرفة ولا تجاوز بآخرهنّ يوم عرفة.
وقال طاوس ومجاهد : إذا صامهنَّ
في أشهر الحج أجزينّ.
{تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ} ذكر الكمال على التأكيد.
كقول الأعشى :
ثلاث بالغداة فذاك حسبي
وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ربي
وشرب المرء فوق الري داء
وقال الفرزدق :
ثلاث واثتان وهن خمس
وسادسة تميل إلى سهامي
وقال بعضهم : كاملة بالهدي،
وقيل بالثواب،
وقيل كاملة بشروطها وحدودها،
وقيل : لفظه خبر وحكمه أمر،
أي : فأكلوها ولا تنقوصها.
{ ذلك } التمتع
{لِمَن
لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
أي كمن لم يكن من أهل
الحرم.
عكرمة : هو ما دون المواقيت إلى
مكّة.
وقال ابن جريح : حاضري المسجد
الحرام أهل عرفة والرجيع يضحيان ويهديان.
{وَاتَّقُوا اللّه
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} قال الفراء : تقديرها وقسط الحج أشهر معلومات،
فهذا كما يقال : البرد
شهران والحرّ شهران،
أيّ
(وفيهما) شهران،
وسمعت الكسائي يقول : إنما
الصيد شهران
(والطيلسان) شهران وقت الصيد ووقت ليس
(الطيلسان).
وقال الزجاج : معناه أشهر الحجّ
أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة.
قال ابن عبّاس : جعلهن اللّه
للحجّ،
وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح
لأحد أن يحرم بالحج إلاّ في أشهر الحج وأما العمرة فإنه يحرم بها في كلّ شهر. فآخر
هذه الاشهر يوم عرفة وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج وعشر من ذي
الحُجّة وفي بعضها تسع من ذي الحُجّة فمن قال تسع فإنّما عبّر به عن الأيام لأن
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(الحجّ عرفة) فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقدتم حجّه. ومن قال عشرة عبّر
به عن الليالي فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحجّ والشهور
إنّما يؤرخ بالليالي.
وحكى الفراء : إن العرب تقول
صمنا عشراً يذهبون بها إلى الليالي والصوم لا يكون إلاّ بالنهار فلا تضاد في هذه
الأخبار وإنّما قال أشهر وهي شهران وبعض الثالث،
لأنها وقت والعرب تسمي الوقت
بقليله وكثيره فيقولون : أتيتك يوم الخميس،
وإنّما أتاه في ساعة منه،
ويقولون : اليوم يومان منذ لم
أره،
وإنّما هو يوم وبعض اخر ويقولون
: زرتك العام.
وقال بعض أصحابنا : الاثنان فما
فوقهما جماعة لأن الجمع ضم شيء إلى شيء،
قلنا : جاز ان يسمي الاثنان
بانفرادهما جماعة وجاز ان يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة،
وقد سمى اللّه الاثنين جمعاً في
قوله
{صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يقل قلباكما.
وقال عروة بن الزبير وغيره :
أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الحجة
(كاملاً) لأنه يبقى على
الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والحلق والنحر والبيتوتة بمنى،
فكأنها في حكم الحجّ.
حكم
الآية
فمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحج
لم يجزه ذلك عن حجه ويكون ذلك عمرة،
كمن دخل في صلاة قبل وقتها
فتكون نافلة،
وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد
ومذهب الاوزاعي والشافعي.
وقال مالك والثوري وأبو حنيفة ومحمّد : يكره له ذلك وإن فعل أجزأه،
ودليل
الشافعي وأصحابه
١٩٧
قوله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}
فخصّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها
فلو كان الاحرام بالحج في غير هذه الاشهر منعقداً جائزاً لما كان بهذا التخصيص
فائدة مثل الصلوات علقها بمواقيت لم يجز تقديمها عليها.
{فَمَن فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَّ}
أي فمن أوجب على نفسه
فيهن الحجّ والإحرام والتلبية
{فَلا
رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو
ويعقوب : الرفث الفسوق بالرفع والتنوين،
وجدال بالنصب.
كقول أمية :
فلا لغو ولا تأثيم فيها
(وما قاموا) به لهم مقيم
وقرأ أبو رجاء العطاردي،
فلا رفث ولا فسوق نصباً ولا
جدال يرفع بالتنوين.
كقول الأخفش :
هذا وجدكم
(الصّغار) بعينه
لا أم لي إن كان ذاك ولا أب
وقرأ أبو جعفر : كلها بالرفع
والتنوين. وقرأ الباقون : كلها بالنصب من غير تنوين.
والعرب تقول في البرّية هذان
الوجهان ومن رفع بعضاً ونصب بعضاً كان جامعاً للوجهين.
وقرأ الأعمش : فلا رفوث على
الجميع.
واختلف أهل التأويل في تفسير
الرفث.
فقال ابن مسعود وابن عبّاس وابن
عمر والحسن وعمرو بن دينار وقتادة وإبراهيم والربيع والزهري والسّدي وعطاء بن أبي
رباح وعكرمة والضحاك : الرفث الجُماع.
وقال طاووس وأبو العالية :
الرفث التعريض بالنساء بالجُماع ويذكره بين
(......).
عطاء : الرفث قول الرجل للمرأة
في حال الإحرام إذا حللت أصبتك.
قال أبو حصين بن قيس : أصعدت
ابن عبّاس في الحاج وكنت له خليلاً فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عبّاس بذنب
بعيره فجعل يلويه وهو يرتجز ويقول :
وهن يمشين بنا همياً
ان تصدق الطير ننك لميسنا
فقلت له : أترفث وأنت محرم؟
فقال : إنّما الرفث ما
قيل عند النساء.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عبّاس : الرفث غشيان النساء،
القُبَل،
والغمز،
وأن يعرض لها بالفحشاء من
الكلام هو كذلك.
وقال بعضهم : الرفث الفحش وقول القبيح.
وأما الفسوق : فقال ابن عبّاس
وطاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والزهري والقرظي : الفسوق معاصي اللّه
كلها.
الضحاك : هو التنابز بالألقاب،
دليله قول
{وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ اسْمُ
الْفُسُوقُ} .
ابن زيد : هو
(............) بالأصنام،
مُنع ذلك بالنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) حين حجّ فعلّم أُمته المناسك. دليله
قوله
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه
عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
وقوله
{مما أُهل لغير اللّه به} .
إبراهيم ومجاهد وعطاء : هو
السباب. يدلّ عليه قول النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر).
ابن عمر : هو مانهى اللّه عنه
المحرم في حال الإحرام من قبيل الصيد وتقليم الاظفار وحلق الشعر وما أشبهه.
وأما الجدال : فقال ابن مسعود
وابن عبّاس وعمرو بن محمّد وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء بن يسار ومعاذ بن
أبي رباح وقتادة : الجدال ان تماري صاحبك وتخاصمه حتّى تقضيه.
ابن عمر : هو السبابة
والمنازعة.
القرظي : كانت قريش إذا إجتمعت
بمنى قال هؤلاء : حجّنا أتم من حجكم،
فقال هؤلاء : حجّنا أتم من
حجكم.
القاسم بن محمّد : هو أن يقول
بعضهم الحج اليوم،
ويقول بعضهم الحجّ غداً.
ابن زيد : كانوا يقفون مواقف
مختلفة يتجادلون،
كلّهم يدّعى إنه موقف إبراهيم ج،
فقطعه اللّه حين علم نبيه
(صلى اللّه عليه وسلم) بمناسكه.
قال مقاتل : قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) في حجة الوداع :
(من لم
يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة).
فقالوا للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) انا أهلنا بالحجّ،
فذلك جدالهم.
مجاهد : معناه : ولا شك في
الحجّ إنه في ذي الحجّة فأبطل النسيء واستقام الحج كما هو اليوم.
قال
(أهل المعاني) : لفظه نفي ومعناه
نهي
أيّ لا ترفثوا
ولا تفسقوا ولا تجادلوا،
لقوله تعالى
{رَيْبَ فِيهِ}
أيّ لا ترتابوا
فيه.
عن أبي هريرة عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه
كيوم ولدته أُمه).
وعن وهيب بن الورد
قال : كنت أطوف
أنا وسفيان الثوري فانقلب سفيان وبقيت في الطواف فدخلت الحجر فصليت عند الميزاب
فبينما أنا ساجد إذ سمعت كلاماً بين
(استار) البيت والحجارة وهو يقول و
(اشكوا) إلى اللّه ثمّ
إليك ما يفعل،
ولا الطوافون من حولي من تفكههم
في الحديث
(ولغطهم وشوقهم). قال وهيب : فأولت أن البيت يشكوا إلى جبرئيل.
{وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه} فيجازكم به.
{وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
قال المفسّرون : كان ناس من أهل
اليمن يحجون بغير زاد ويقولون : نحن متوكّلون،
ويقولون : نحن نحج بيت اللّه
أفلا يطعمنا
(...) بدء بما ظلموا الناس وغصبوهم اللّه،
فأمرهم اللّه أن يتزودوا ولا
يظلموا وأن لا يكونوا وبالاً على الناس فقال
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ويكفون به وجوههم.
قال المفسرون : الكعك والزيت
والسويق والتمر ونحوها.
وروى نافع عن ابن عمر
قال : كانوا إذا
أحرموا ومعهم أزودة رموها واستبقوا زاد الآخرة،
فأنزل اللّه
{وَتَزَوَّدُوا} نهاهم عن ذلك وأمر بالتحفظ للزاد،
والزود لمن لم يتزود فأمرهم
بالتقوى بكف الظلم قال
{فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
قال أهل الاشارة : ذكرهم اللّه
سفر الآخرة وحثهم على التزود بالدارين فإن التقوى زاد الآخرة.
قال الشاعر :
الموت بحر طامح موجه
تذهب فيه حيلة المسابح
قال آخر :
لا يصحب الانسان في قبره
إلا التقى والعمل الصالح
قال الاعشى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألاّ تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
قال مالك بن دينار : مات بعض
قراء البصرة فمزحنا في جنازة وانصرفنا،
فصعد سعدون المجنون وتلا في
المقبرة ونادى المتصوفين فأنشأ يقول :
لا يا عسكر الاحياء هذا عسكر
الموتى
أجابوا الدعوة الصغرى وهم
منتظرو الكبرى
يحنون على الزاد وما الزاد سوى
القرى
يقولون لكم جهزوا فهذا غاية
الدنيا
قال اللّه عزّ وجلّ
{واتقونِ
يا أُولي الألباب} ذوي العقول.
١٩٨
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ}
الآية قال
المفسرون : كان ناس من العرب لا يتّجرون في أيام الحج فإذا دخل العشر كفّوا عن
الشراء والبيع فلم يقم لهم سوق وكانوا يسمون من يخرج إلى الحجّ ومعه تجارة :
الداج،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية واباح
التجارة في الحج.
فقال ابن عبّاس : كانت عكاظ
ومجنة وذو الحجاز أسواقاً في الجاهلية كانوا يتجرون فيها في الموسم وكان أكثر
معايشهم منها فلما جاء الإسلام كأنهم تأثموا منها فسألوا النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه هذه
الآية.
وقال أبو أُمامة التيمي : قلت
لابن عمر : إنّا قوم نكري فيدعمون المؤمنين في الحج.
فقال : ألستم تحرمون كما
يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون الحجارة كما يرومون؟
قلت : بلى.
قال : انتم حاج،
جاء رجل إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتّى نزل جبرئيل بهذه
الآية
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْ
مِّن رَّبِّكُمْ}
يعني التجارة وكان ابن
عبّاس يقرأها
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْ
مِّن رَّبِّكُمْ} في مواسم الحج.
الأعرج عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إذا كان يوم عرفة غفر اللّه للحاج به الخاص فإذا
كان ليلة المزدلفة غفر اللّه للجار،
وإذا كان يوم منى
غفر اللّه للجمالين،
وإذا كان عند جمرة
العقبة (غفر اللّه للسؤال) ولا شهد ذلك
الموقف خلق ممن قال لا إله إلاّ اللّه إلاّ غفر له).
{فَإِذَآ أَفَضْتُم} رجعتم ودعيتم بكرة.
يقال : أفاض القوم في
الحديث إذاً اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.
قال الشاعر :
فلما أفضنا في الحديث وأسمحت
أتتنا عيون بالنميمة تضرب
وأصلها من قول العرب أفاض الرجل
ماءه إذا صبّه،
وأفاض البعير
(تجرعه) إذا رمى
ودفع بها من كرشه.
قال الراعي :
فأفضن بعد كظومهن بجرة
من ذي الابارق إذا رعين حقيلاً
ويقال : أفاض الرجل
بالقداح إذا ضرب بها لأنها موضع بقع متفرقة.
قال أبو ذهيب :
يصف الحمار والأنف وأتته ربابة
وكأنه
يسر يفيض على القداح ويصدع
ولا تكون الافاضة في اللغة إلاّ
عن تفرق وكثرة قال عمر بن الخطاب : الافاضة الانصداع.
{مِّنْ عَرَفَاتٍ} القراءة بالكسر والتنوين لانه جمع عرفة مثل مسلمات ومؤمنات،
فسميت بها بقعة واحدة مثل
قولهم : أرض
سباسب وثوب اخلاق يجمع بها حولها،
فلما سميت بها البقعة الواحدة
صرفت إذا كانت مصروفة قبل ان يسمى بها البقعة تركاً منهم لها على أصلها فإذا كانت
في الأصل بقعة واحدة ولم يكن جمعاً تركوا إجزاءها ونصبوا تاءها في حال الخفض مثل
عانات وأذرعات فرقا بين الاسم وبين الجمع،
واختلف العلماء في المعنى الذي
لألجله قيل للموقف عرفات وليوم الوقوف بها عرفة.
فقال الضحاك : إن آدم لما أُهبط
وقع في الهند وحواء بجدة فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة
وتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات.
أبو حمزة الثمالي عن السّدي
قال : إنّها سميت
عرفات لأن هاجر حملت إسماعيل ج فأخرجته من عند سارة وكان إبراهيم غائباً فلما قدم
لم ير إسماعيل فحدثته سارة بالذي صنعت هاجر فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر
بعرفات فعرفه فسميت عرفات.
وعن علي بن الأشدق عن عبداللّه
بن
(حراد)
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ان إبراهيم غدا من فلسطين فحلفت سارة إن لا ينزل
عن ظهر دابته حتّى يرجع إليها من الغيرة فأتى إسماعيل ثمّ رجع فحبسته سارة سنة ثمّ
استأذنها فأذنت له فخرج حتّى بلغ مكّة وجبالها فبات ليلة يسير ويسعى حتّى أذن
اللّه عزّ وجلّ له في ثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة،
فلما أصبح عرف
البلاد والطريق فجعل اللّه عزّ وجلّ عرفة حيث عرف فقال : اجعل بيتك أحبَّ بلادك
إليك حتّى يهوي اللّه قلوب المسلمين من كلّ فج عميق).
عبد الملك عن عطاء
قال : إنّما سميت
عرفات لأن جبرئيل ج كان يُري إبراهيم المناسك ويقول : عرفت ثمّ يُريه فيقول : عرفت
فسميت عرفات.
وروى سعيد بن المسيب عن علي رضي
اللّه عنه
قال : بعث اللّه
عزّ وجلّ جبرئيل إلى إبراهيم فحج به حتّى إذا
(جاء) عرفات
قال : قد عرفت،
وكان قد أتاها مرة قبل ذلك
فسميت عرفات.
وروى أبو الطفيل عن ابن عبّاس
قال : إنّما سمي
عرفة لأن جبرئيل ج أرى إبراهيم فيه بقاع مكّة ومشاهدها وكان يقول يا إبراهيم هذا
موضع كذا وهذا موضع كذا ويقول قد عرفت،
قد عرفت.
وروى اسباط عن السّدي
قال : لما أذن
إبراهيم بالناس فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره اللّه أن يخرج إلى عرفات
فنعتها له فلمّا خرج وبلغ الشجرة المستقبلة للشيطان فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كلّ
حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر فطار فوقع على الجمرة الثالثة
فرماه وكبّر فلما رأى إنه لا يطيقه ذهب،
فانطلق إبراهيم حتّى أتى ذا
المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه فجاز فكذلك سُمّي ذو المجاز فانطلق حتّى وقف بعرفات
،
فلما نظر إليها عرفها بالنعت فقال : عرفت،
فسمي عرفات بذلك وسمي ذلك اليوم
عرفة لأن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أن يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح يومه
أجمع
أيّ فكر أمن
اللّه هذا الحكم أمن الشيطان وسمي اليوم من فكرته تروية ثمّ رأى ليلة عرفة ذلك
ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من اللّه فسمي اليوم يوم عرفة.
وقال بعضهم : سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك
(الموقف) بالذنوب والأصل نسيان آدم ج لما أمر بالحجّ وقف بعرفات يوم عرفة
قال :
{رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
وقيل : هي مأخوذة من العرف،
قال اللّه تعالى
{وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ}
أي طيّبها،
قالوا : فمنى موضع بمنى وفيه الدم
أي يصب فلذلك سميَّ
منى ففيه يكون الفروث والانذار والدماء وليست بطيبة،
وعرفات ليس فيها وهي طيبة فلذلك
سميت عرفات ويوم الوقوف بها عرفة.
وقيل : لأن الناس يتعارفون بها.
وقال بعضهم : أصل هذين الأسمين من الصبر،
يقال : رجل عارف إذا كان
صابراً خاضعاً خاشعاً ويقال في المثل : النفس عروف وما حمّلتها تتحمل.
قال الشاعر :
فصبرت عارفة لذلك حرّة
ترسوا إذا نفس الجنان تطلع
أي نفساً صابرة.
وقال ذو الرمّة :
عروف لما خطت عليه المقادر
أي صبور على قضاء اللّه،
فسميا بهذا الاسم لخضوع الحاج
وتذللّهم وصرفهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمالهم الشدائد والميقات لإقامة هذه
العبادة.
{فَاذْكُرُوا اللّه} بالتلبية والدعاء
{عِندَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهو ما بين جبلي
المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسّر،
وليس مأزماً عرفة من المشعر،
وإنّما سمي مشعراً من الشعار
وهو العلامة،
لأنه معلم للحج،
والصلاة والمقام والمبيت به
والدعاء عنده من
(معالم) الحج،
والمبيت بالمشعر الحرام فرض
واجب ومن تركه كان عليه شاة،
والدليل عليه أن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) بات بها وقال
(انحروا) عنى بمناسككم.
وقال المفضل : سمي مشعراً لأنها
شعر المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكّة،
أيّ اعلموا ذلك،
وأصل الحرام المنع،
قال اللّه تعالى
(..........)
أي الممنوع من
المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من اتيانه.
وقال زهير :
وإن أتاه
(خليل) يوم مسألة
يقول
لا غائب مالي ولا حرام
أي ولا ممنوع،
والمشعر الحرام من أن يفعل فيه
ما حرم ولم يرض في اتيانه،
ويقال له المشعر الحرام
والمزدلفة وقدم
(............) بغيرهما والجميع،
سمي بذلك لأنه يجمع فيها بين
صلاتي العشاء،
والافاضة من عرفات بعد غروب
الشمس وكان أهل الجاهليّة يفيضون منهما قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها،
وكانوا يقولون : أشرق ثبير كيما
نغير فأمر اللّه مخالفتهم في الدفعتين جميعاً.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس أنه
نظر إلى الناس ليلاً جمع فقال : لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون تأولون قول اللّه
تعالى
{فَاذْكُرُوا اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} .
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ} لدينه ومناسك حجّه
{وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}
يعني وما كنتم من قبله إلاّ من الضالين كقوله
{وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}
يعني وان نظنك إلاّ من الكاذبين.
قال الشاعر :
ثكلتك أُمّك إن قتلت لمسلماً
حلت عليك عقوبة الرحمن
أي ما قتلت إلاّ مسلماً.
والهاء في
قوله
(من قبله) عائدة إلى الهدي،
وإن شئت على الرسول
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
كناية عن غير مذكور.
١٩٩
{ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
الآية.
قال عامّة المفسّرين : كانت
قريش وحلفاؤها ومن دان
(بدينها) وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات وكانوا يقفون
بالمزدلفة ويقولون نحن أهل اللّه وقطان حرمه فلا يخلو الحرم ولا نخرج منها،
فلسنا كسائر الناس وكانوا
يتعاظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات،
ويقول بعضهم لبعض ألا تعظموا
إلاّ الحرم فإنكم إن عظمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمتكم فوقفوا الجميع فإذا أفاض
الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة وأمرهم اللّه أن يقفوا بعرفات
ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنها سنّة إبراهيم الخليل وابنه
إسماعيل ث .
وقال بعضهم : المخاطبون بهذه
الآية المسلمون كلهم والمعنى بقوله
{مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} جمع
أي أفيضوا من جمع إلى منى،
وهذا القول اشبه بظاهر القرآن،
لأن الافاضة من عرفات قبل
الافاضة من جمع بلا شك فكيف يسوغ أن يقول :
(فإذا أفضم من عرفات فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام) وأما الناس في هذه
الآية فهم العرب كلهم
غير الحمس.
الكلبي بإسناده : هم أهل اليمن
(وربيعة).
الضحاك : الناس هاهنا إبراهيم
وحده،
يدلّ عليه
قوله
{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ}
يعني محمّداً
(صلى
اللّه عليه وسلم) وحده
وقوله
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ}
يعني نعيم بن مسعود الأشجعي
{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}
يعني أبا سفيان وإنّما يقال هذا للذي يقتدي به ويكون لسان قومه
وإمامهم كقوله
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فذكر الواحد بلفظ الجمع ومثله كثير
(وقيل : ) الناس هاهنا آدمج،
دليله قول سعيد بن جبير : ثمّ
افيضوا من حيث افاض الناس،
وقيل : هو آدم نسي ما عهد إليه واللّه أعلم.
الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن
عبّاس
قال : أفاض رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) من عرفه وعليه السكينة والوقار رديفه أُمامة وقال :
(أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف
الخيل والإبل،
قال : فما رأيتها
رافعة يديها عادية الخيل فالإبل حتّى أتى جمعاً).
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عبّاس
قال : أمر رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه على الحجّ وأمره أن يخرج بالناس جميعاً إلى
عرفات فيقف بها فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعاً فيبيت بها
حتّى إذا أصبح بها وصلى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ثمّ يفيض منها إلى مِنى
قال : فتوجه أبو
بكر نحو عرفات فمَّر بالحمس وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم قالت له الحمس : يا
أبا بكر أين تُجاوزنا إلى غيرنا هذا مفيض آبائك فلا تذهب حتّى تفيض أهل اليمن
وربيعة من عرفات فمضى أبو بكر لأمر اللّه وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل
اليمن وربيعة وهم الناس في هذه
الآية فوقف بها حتّى غربت الشمس،
ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر
الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها.
{وَاسْتَغْفِرُوا
اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
أبي رباح عن أبي طالح السمان عن
أبي هريرة عن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(الحجاج والعمار وفد اللّه عزّ وجلّ إن دعوه
أجابهم وإن استغفروه غفر لهم).
عن مجاهد أن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(اللّهمّ اغفر للحاجّ ولمن إستغفر له الحاجّ).
وعن علي بن عبد العزيز يقول :
كنت عديلاً لأبي عبيد بن سلام لسنة من السنين فلما صرت إلى الموقف تصدق إلى
(نفسي) حب النخل
فتطهرت ونسيت نفقتي عنده،
فلما صرت إلى
(المارقين) قال لي أبو عبيدة : لواشتريت لنا زبداً وتمراً،
فخرجت لأبتاعه فذكرت النفقة
فرجعت عودي على بدئي إلى أن وافيت الموضع فإذا
(نفقتي) بحالها فأخذتها
ورجعت وكنت قد صادفت الوادي مملوءة قردةً وخنازير وغير ذلك فجزعت عنه،
ثمّ إنّي رجعت فإذا هم على
حالهم حتّى دخلت على أبي عبيدة قبيل الصبح فسألني عن أمري فخبرته وذكرت القردة،
قال : تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا.
٢٠٠
{فَإِذَا قَضَيْتُم
مَّنَاسِكَكُمْ}
(فرغتم) من حجكم وذبحتم
مناسككم يقال منه نسك الرجل ينسك نسكاً ونسكاً ونسيكة ومنسكاً إذا ذبح نسكه،
والمنسك المذبح مثل المشرق
والمغرب،
ويقال من
(العهد) نسك ومنسك
ومونسكاً ونسكاً ونساكه إذا...نظر،
وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف
فيه وفي أخواته في كل القرآن مثل
قوله
{مَا
سَلَكَكُمْ} لأنهما مثلان.
قال الشاعر :
ولا
(نشار) لك عندي بعد واحدة
لا والذي أصبحت عندي له نعم
{فَاذْكُرُوا اللّه
كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} .
قال أكثر المفسرين في هذه
الآية : كانت
العرب إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت وذكروا مآثر أبائهم ومفاخرهم فكان الرجل
يقول إن أبي كان يُقرى الضيف ويضرب بالسيف ويُطعم الطعام وينحر الجزور ويفك العاني
ويجز النواصي ويفعل كذا وكذا فيتفاخرون بذلك فأمرهم اللّه بذكره فقال : فاذكروني
فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم واحسنت إليكم وإليهم.
قال السّدي : كانت العرب إذا
قضيت مناسكها وأقاموا بِمنى يقوم الرجل فيسأل اللّه ويقول اللّهمّ إن أبي كان عظيم
(الحجة) عظيم القبة
كثير المال فأعطني كلّ ما أعطيت أبي ليس يذكر اللّه إنّما يذكر ويسأل أن يعطى في
دنياه فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وقال ابن عبّاس وعطاء والربيع
والضحاك : معناه فاذكروا اللّه كذكر الصبيان الصغار الأباء وهو قول الصبي أول ما
يفصح ويفقه الكلام
(أبه أمه) ثمّ يلهج بأبيه وأمه.
عن أبي الجوزاء
قال : قلت لابن
عبّاس أخبرنا عن
قوله
{فَاذْكُرُوا
اللّه كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ} وقد يأتي على
الرجل اليوم لا يذكر أباه فيه. فقال ابن عبّاس : ليس كذلك ولكن من يُغضب اللّه إذا
عصى بأشد من غضبك لوالديك إذا أهنتهما.
القرظي : في
قوله
{اذكروا اللّه كذكركم آباءكم} قال كذكركم آباءكم إياكم.
{أَوْ أَشَدَّ
ذِكْرًا}
يعني أشد وبل أشد كقوله
{أَوْ
يَزِيدُونَ} مقاتل :
{أَوْ
أَشَدَّ ذِكْرًا}
أي أكثر ذكراً كقوله
{أَشَدُّ قَسْوَةً}
{أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وأما وجه إنتصاب
(أشد)،
فقال الأخفش : اذكروه أشد.
وقال الزجاج : في محل الخفض
لكنه لا ينصرف لانه صفة على مفعال أفعل وصفته ذكراً على التمييز.
{فَمِنَ النَّاسِ مَن
يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا}
أي أعطنا إبلاً
وغنماً وبقراً وعبيداً وإماءً فحذف المفعول.
قال أنس : كانوا يطوفون بالبيت
عراة فيدعون ويقولون اللّهمّ اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر وردّنا صالحين
إلى صالحين.
قتادة : هذا عبدٌ نوى الدنيا
لها أنفق ولها عمل ولها
(قضت) فهي همه وأمنيته وطلبته.
{وَمَا لَهُ فى
الآخرة مِنْ خَلَاقٍ} حظ ونصيب
٢٠١
{وَمِنْهُم مَّن
يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} وهم النبيّ والمؤمنون.
واختلفوا في معنى الحسنتين.
فقال علي رضي اللّه عنه : في
الدنيا حسنة إمرأة صالحة وفي الآخرة الحسنة الحور العين.
{وَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ} المرأة السوء.
قال الحسن : في الدنيا حسنة :
العلم والعبادة وفي الآخرة حسنة : الجنّة والرضوان.
السّدي و
(ابن حيان) : في الدنيا حسنة رزقاً حلالاً واسعاً وعملاً صالحاً وفي الآخرة حسنة
الثواب والمغفرة.
عطية : في الدنيا حسنة العلم
والعمل وفي الآخرة حسنة تيسير الحساب ودخول الجنّة.
وقيل : في الدنيا حسنة التوفيق والعصمة وفي الآخرة حسنة النجاة
والرحمة.
وقيل : في
الدنيا حسنة أولاداً أبراراً وفي الآخرة حسنة موافقة الأنبياء.
وقيل : في الدنيا حسنة المال والنعمة وفي الآخرة حسنة تمام النعمة
وهو الفوز والخلاص من النّار ودخول الجنّة.
وقيل : في الدنيا حسنة الدين واليقين وفي الآخرة حسنة اللقاء
والرضا.
وقيل : في الدنيا حسنة الثبات على الإيمان وفي الآخرة حسنة
السلامة والرضوان.
وقيل : في الدنيا حسنة الاخلاص وفي الآخرة حسنة الخلاص.
وقيل : في الدنيا حسنة حلاوة الطاعة وفي الآخرة حسنة لذة الروية.
قتادة : في الدنيا عافية وفي
الآخرة عافية.
دليل هذا التأويل ما روى حميد
عن أنس أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) عاد رجلاً قد صار مثل الفرخ
المنتوف فقال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) هل كنت تدعوا له بشيء أو تسأله
شيئاً؟
قال : كنت أقول اللّهمّ
(ما
كنت معاتبي) به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال :
(سبحان اللّه إذاً لا تستطيعه ولا تطيقه فهلاّ قلت
: اللّهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار).
فدعا اللّه بها فشفاه اللّه.
سهل بن عبداللّه : في الدنيا
حسنة السنّة وفي الآخرة حسنة الجنّة.
المسيب عن عوف في هذه
الآية
قال : من آتاه
اللّه الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً وولداً فقد أولى في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة.
حماد عن ثابت إنّهم قالوا لأنس
بن مالك : إدع اللّه لنا،
فقال : اللّهمّ ربّنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
قالوا : زدنا،
فأعادها،
قالوا : زدنا،
قال : ما تريدون قد سألت اللّه تعالى لكم خير الدنيا والآخرة.
قال أنس : وكان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يكثر أن يدعو بها اللّهمّ ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النّار.
سفيان الثوري في هذه
الآية : في
الدنيا حسنة الرزق الطيب والعلم،
وفي الآخرة حسنة الجنّة.
مجاهد عن ابن عبّاس
قال : عند الركن
اليماني ملك قائم منذ خلق اللّه السماوات والأرض يقول آمين،
فقولوا : ربّنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وقال ابن جريح : بلغني إنه كان
يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الوقف : اللّهمّ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
٢٠٢
{أُولَائِكَ لَهُمْ
نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا}
يعني من حجّ عن
ميت كان الأجر بينه وبين الميت.
عن الفضل بن عبّاس إنه كان ردف
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) أتاه رجل فقال : إن أمي عجوز كبيرة لا تستمسك على الرحل و ان ربطتها
(خشيت) أن أقتلها.
فقال له : أرأيت لو كان على أمك
دين كنت قاضيه؟
قال : نعم
قال :
(فحجّ
عنها).
أبو سلمة عن أنس أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) قال في رجل أوصى بحجّة :
(كتب له
أربع حجات : حجّة الذي كتبها،
وحجّة الذي نفدها،
وحجّة الذي أخذها،
وحجة الذي أمر بها).
وقال سعيد بن جبير : جاء رجل
إلى ابن عبّاس فقال : إني آجرت نفسي واشترطت عليهم الحجّ
(معهم) فهل يجزيني ذلك؟
قال : انت من الذين
قال
اللّه
{أُولَائِكَ
لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا} .
{وَاللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ}
يعني إذا حاسب فحسابه سريع لانه لا يحتاج إلى تمديد ولا وعي منه
ولا روية ولا فكرة.
وقال الحسن : أسرع من لمح
البصر.
وفي الحديث ان اللّه تعالى يحسب
في قدر حلب شاة
وقيل هو إنه إذا حاسب... واحداً واحداً حاسب جميع الخلق فمعنى
الحساب تعريف اللّه عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما نسوه من
ذلك،
يدلّ عليه
قوله
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَ اهُ اللّه وَنَسُوهُ وَاللّه عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ شَهِيدٌ} .
٢٠٣
{وَاذْكُرُوا اللّه}
يعني التكبير في الصلوات وعند الجمرات يكبّر مع كلّ حصاة وغيرها
من الأوقات.
{فِى أَيَّامٍ
مَّعْدُودَاتٍ} وهي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار والأيام المعلومات
عشر ذي الحُجّة،
نافع ابن عمر : الأيام
المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده.
أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم في
قوله
{وَاذْكُرُوا اللّه فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}
قال : المعدودات أيام العشر و المعلومات أيام النحر،
والصحيح أن المعدودات أيام
التشريق،
وعليه أكثر العلماء يدلّ عليه
قوله
{ومن تعجل في يومين}
أي منها وإنّما يكون
الصدر في أيّام التشريق.
قال الزجاج : ويستعمل المعدودات
في اللغة الشيء القليل فسميت بذلك لأنها ثلاثة أيام والأيام المعدودات : أيام
التشريق والذكر المأمور فيها التكبير.
قال نافع : كان عمرو وابنه عبد
اللّه يكبران بمنى تلك الأيام جميعاً وخلف الصلوات وفي المجلس وعلى الفراش و
القسطاط وفي الطريق ويكبر النّاس
(بتكبيرهم) ويناولان هذه
الآية قلت : واجمعوا على أن التكبير في هذه الأيام سنّة إلاّ إنّهم
اختلفوا في قدرها ووقتها... فكان عبد اللّه بن مسعود يكبّر من صلاة الغداة من يوم
عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإليه ذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن وهو
أجمع الأقاويل.
كان ابن عبّاس وزيد بن ثابت
يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى
(مدة) العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عطاء وهو الأظهر والأشهر
من مذهب
الشافعي إنه يبتدأ التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر
أيام التشريق هذا بالحاج آخر صلاة يصليها الحاج بمنى والناس لهم تبع.
وأما لفظ التكبير فكان سعيد بن
جبير يقول اللّه أكبر اللّه أكبر اللّه أكبر نسقاً وهو مذهب
الشافعي وأهل المدينة وكان ابن مسعود يكبر
(إثنتين) وهو مذهب
أبي حنيفة وأهل العراق.
وروى عن مالك إنه كان يقول
اللّه أكبر اللّه أكبر ثمّ يقطع فيقول اللّه اكبر لا إله الاّ اللّه.
وروى عن قتادة إنّه كان يقول
اللّه أكبر كبيراً اللّه أكبر على ما هدانا اللّه أكبر وللّه الحمد.
وروى عمر بن أبي سلمة عن أبيه
عن أبي هريرة أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(أيام منى أيام أكل وشرب وذكر اللّه).
عن جعفر بن محمّد : أن رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بعث منادياً فنادى في أيام التشريق : إنّها أيام أكل وشرب،
قال اللّه تعالى
{فَمَن
تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ}
يعني من أيام
التشريق فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق.
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تعجله
{وَمَن
تَأَخَّرَ} عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث
حتّى ينفر في اليوم الثالث
{فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ} في تأخره فإن لم ينفر في اليوم
الثاني وأقام حتّى تغرب الشمس فليقم إلى الغد من اليوم الثالث فيرمي الجمار ثمّ
ينفر مع الناس،
هذا قول ابن عمر وابن عبّاس
والحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعي والسّدي
قال بعضهم : معناه فمن تعجل في يومين فهو
(مغفور
له) لا إثمّ ولا ذنب عليه ومن تأخر فكذلك،
وهكذا قول علي وأبي ذر وابن
مسعود والشعبي ومطرف بن الشخير.
قال معاوية بن
(مرة) : خرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمه.
قال إسحاق بن يحيى بن طلحة :
سألت مجاهد عن ذلك
قال : فمن تعجل في يومين فلا إثمّ عليه إلى قابل ومن تأخر فلا إثمّ
عليه أيضاً إلى قابل.
وقال سعيد بن المسيب : توفي رجل
بمنى في آخر أيام التشريق فقيل لعمر : توفي ابن الخنساء أفلا نشهر دفنه،
فقال عمر : وما يمنعني أن أدفن
رجلاً لم يذنب منذ غفر له.
{لِمَنِ اتَّقَى} اختلفوا في معناه.
فقال ابن عبّاس في رواية العوفي
والكلبي : لمن اتقى قتل الصيد لا يحل له أن يقتل صيداً حتّى ينقضي أيام التشريق.
قتادة : لمن اتقى أن يصيب في
حجر شيئاً نهاه اللّه عزّ وجلّ عنه فيه.
أبو العالية : ذهب اثمه كلّه إن
اتقى فيما بقى من عمره،
وكان ابن مسعود يقول إنّما حطت
مغفرة الذنوب لمن اتقى اللّه في حجّه.
ابن جريح : وهو في مصحف
عبداللّه لمن اتقى اللّه،
جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس
لمن اتقى عبادة الأوثان.
وروى عن ابن عبّاس أيضاً : لمن
اتقى معاصي اللّه
قال : ووددت أني من هؤلاء الذين يصيبهم اسم التقوى.
{وَاتَّقُوا اللّه
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يجمعون في الآخرة فيجزيكم بإعمالكم.
٢٠٤
{وَمِنَ النَّاسِ مَن
يُعْجِبُكَ
قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا}
الآية.
الكلبي والسّدي ومقاتل وعطاء :
قالوا نزلت هذه
الآية في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني أبي زهرة وإسمه أبي،
وسمي بالأخنس لأنه خنس يوم بدر
بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) وقد تولوا
(الجحفة) وقال لهم : يا بني زهرة إن محمّداً ابن أخيكم،
فإن يكن صادقاً فلن تغلبوه
وكنتم أسعد الناس بصدقه،
وإن يك كاذباً فإنكم أحق من كف
عنه لقرابتكم وكفتكم إياه أوباش العرب.
قالوا : نِعْمَ الرأي رأيت فَسِر لما شئت فنتبعك. فقال : إذا نودي
الناس
(في الرحيل فإني) أخنس بكم فاتبعوني،
ففعل وفعلوا وسمي لذلك الأخنس،
وكان رجلاً حلو الكلام حلو
المنظر وكان يأتي رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(يواله ويظهر) الإسلام ويخبره
بإنه يحّبه ويحلف باللّه عزّ وجلّ على ذلك،
وكان منافقاً فكان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يدني مجلسه وَيُقبِل عليه ولا يعلم إنه يضمر خلاف ما يظهر ثمّ إنه كان
بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلاً وأهلك مواشيهم واحرق زرعهم وكان حسن العلانية
سيء السريرة.
قال السّدي : مرَّ بزرع
للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر.
مقاتل : خرج إلى
(الطائف) مقتضياً حلاله على غريم فأحرق له... أرضاً وعقر له... أتاناً فأنزل اللّه
فيه هذه الآيات.
ابن عبّاس والضحاك : نزلت هذه
الآيات إلى
قوله واللّه
رؤوف بالعباد في سرية
(الرجيع) وذلك أن كفّار قريش بعثوا إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وهو بالمدينة،
إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفراً
من علماء أصحابك يعلموننا دينك،
وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) حبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبداللّه
بن طارق ابن شهاب البادي وزيد ابن الدثنة وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الاقلح
الأنصاري فساروا يريدون مكّة فنزلوا
(بطن
الرجيع) بين مكّة والمدينة ومعهم تمر عجرة فأكلوا فمرت عجوزة وأبصرت
النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت : قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد ،
فركب سبعون رجلاً ومعهم الرماح
حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبداللّه بن طارق ونثر عاصم بن
ثابت كتابته وفيها سبعة أسهم فقتل منهم رجلاً من عظماء المشركين ثمّ
قال اللّهمّ إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل،
ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه،
فلّما قتلوه أرادوا جزّ رأسه
ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد وكانت قد نذرت حين أصاب إبنها يوم أحد لئن قدرت
على رأس عاصم لتشربن فيه قحفه الخمر،
فأرسل اللّه رجلاً من الدّبر
وهي الزنابير فحمت عاصماً ولم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فلما حالت بينهم وبينه
قال : دعوه حتّى
يمسي تذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطراً
(كالعزالي) فبعث اللّه الوادي
فاحتمل عاصماً فذهب به
(......) وحملته... خمسين
من المشركين إلى النّار
قال : وكان عاصم قد أعطى للّه عهداً أن لا يمس مشركاً ولا يمسه
مشرك أبداً
(تنجساً) منه وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يقول حين بلغه الخبر إن الدَّبر
منعته،
عجباً لحفظ اللّه العبد المؤمن
كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه اللّه بعد وفاته كما
امتنع من حياته،
فأسر المشركون خبيب بن عدي وزيد
بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكّة
فأما حبيب فابتاعه بنو الحرث بن
عامر بن نوفل بن عبد مناه ليقتلوه
(بأيديهم) وكان حبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر بأحد فبينما خبيب عند
بنات الحرث إذا استعار من إحداهن موسى يستحل بها للقتل فما راع المرأة ولها صبي
يدرج الاباء بحبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى في يده فصاحت المرأة فقال حبيب
: أتحنثين أن أقتله،
إن الغدر ليس من شأننا،
فقالت المرأة : ما رأيت أسيراً
قط خيراً من حبيب لقد رأيته وما بمكّة من تمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله إن
كان إلاّ رزقاً رزقه اللّه حبيباً،
ثمّ إنّهم خرجوا به من الحرم
ليقتلوه وأرادوا أن يصلبوه فقال : ذروني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت
(سنة لمن) قتل صبراً أن يُصلّي ركعتين،
ثمّ
قال : لولا أن يقولوا
جزع حبيب لزدت وأنشأ يقول :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على
أي شق كان في اللّه
مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك في أوصال شلو ممزع
أي مقطع.
ثمّ
قال : اللّهم أحصهم
عدداً
(وخذهم) بدداً
فصلبوه حياً،
فقال : اللّهم إنك تعلم
إنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه لأُمي،
قال : ثمّ جاء به رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح
فوضعه بين ثديي حبيب فقال له حبيب : إتق اللّه فما زاده إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه.
فذلك
قوله
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه}
الآية.
يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله
(بأبيه) أمية بن
خلف الجحمي ثمّ بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله فإجتمع رهط من قريش
فيهم أبو سفيان بن حرب،
فقال أبو سفيان لزيد حين قدم
ليُقتَل أنشدك اللّه يا زيد أتحب أن محمّداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في
أهلك؟
فقال : واللّه ما أحب أن
محمّداً الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال : أبو سفيان : ما
رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمّد محمّداً،
ثمّ قتله قسطاس،
فلما بلغ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) هذا الخبر قال لأصحابه : أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته فله الجنة؟
قال الزبير بن العوام : أنا يا
رسول اللّه وصاحبي المقداد بن الأسود فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتّى
أتيا التنعيم ليلاً فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام
(نشاوى) فأنزلاه
فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته تخضب دماً،
اللون لون الدم والريح ريح
المسك فحمله الزبير على فرسه وسارَ فانتبه الكفار وقد فقدوا حبيباً فأخبر بذلك
قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير حبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع
الأرض.
فقال الزبير : ما جرّأكم علينا
يا معشر قريش ثمّ رفع العمامة عن رأسه فقال
: أنا الزبير بن العوام وأُمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي
المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم
نازلتكم وإن شئتم إنصرفتم،
فإنصرفوا إلى مكّة،
وقدم على رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وجبرئيل عنده فقال : يا محمّد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فقال رجال من
المنافقين في أصحاب حيبب ياويَح لهؤلاء المقتولين الذين هلكوا لأنهم قعدوا في
بيوتهم ولاهم أدوّا رسالة صاحبهم،
فأنزل اللّه في الزبير والمقداد
بن الأسود وحبيب وأصحابه المؤمنين وفيمن طعن عليهم من المنافقين
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ} يامحمّد
{قَوْلُهُ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا}
أي تستحسنه ويعظم في
قلبك ومنه العجب لإنه تعظم في النفس.
فقال في الخبر الإستحسان
والمحبة : أعجبني كذا،
وفي الإنكار والكراهية : عجبت
من كذا،
وأصل العجب مالم يكن مثله قاله
المفضل.
{وَيُشْهِدُ اللّه
عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ}
يعني قول
المنافق واللّه إني بك لمؤمن ولك محب.
وقرأ ابن محيصن : ويشهد اللّه
بفتح الياء والهاء ورفع الهاء من
قوله
أي يظهر أمراً ويقول قولاً ويعلم اللّه خلاف ذلك منه وفي مصحف
أُبي ويستشهد اللّه وهي حجة لقراءة العامة.
{وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصَامِ}
أي شديد الخصومة.
يقال منه لددت يا هذا وأنت تلد
لدّاً ولداد،
وإذا أردت إنه غلب خصمه قلت
لِدّه يلدة لداً.
ويقال : رجل الدّ وإمرأة لدّاء
ورجال ونساء لدّ.
قال اللّه تعالى
{وتنذر
ربه قوماً لدّاً} .
وقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم).
قال الشاعر :
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً
وخصيماً ألدّ ذا مغلاق
وقال الراجز : تلدّ أقران
الرجال اللدّ.
وقال الزجاج : إشتقاقه من لديدي
العنق وهما صفحتاه وتأويله إنه في
أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب في ذلك.
والخصام : مصدر خاصمته خصاماً
ومخاصمة قاله أبو عبيدة وقال الزجاج : هو جمع خصم يقال : خصم وخصام وخصوم
مثل بحر وبحار وبحور،
وحقيقة الخصومة التعمق في البحث
عن الشيء والمضايقه فيه ولذلك قيل لزوايا الأوعية خصوم. قال السدي : ألدّ الخصام
أعوج الخصام.
مجاهد : الأخير المستقيم على
خصومة.
الحسن : هو كاذب القول. قتادة :
هو شديد القسوة في معصية اللّه جدل بالباطل عالم باللسان جاهل بالعمل متكلم
بالحكمة ويعمل بالخطيئة.
٢٠٥
{وَإِذَا تَوَلَّى} أدبر وأعرض عنك.
الحسن : تولى عن
قوله الذي
أعطاه.
ابن جريح : غضب. الضحاك : ملك
الأمر وصار والياً
{سَعَى فِى الأرض}
أي عمل فيها يقال : فلان يسعى لعياله
أي يعمل فيما يعود عليهم نفقه.
ومنه قول الأعشى :
وسعى لكندة سعي غير مواكل
قيس،
فضر عدوها وبنى لها
وقيل سار ومشى.
{لِيُفْسِدَ فِيهَا} .
قال ابن جريح : قطع الرحم وسفك
دماء المسلمين،
والنساء إسم لجميع المعاصي.
{وَيُهْلِكَ
الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} .
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق :
ويهلك برفع الكاف على الابتداء.
وقرأت العامّة : بالنصب،
ويصدّقها قراءة أُبي : وليهلك.
قال المفسّرون : الحرث ما
تحرثون من النبات،
والنسل نسل كل دابة والنّاس
منهم.
النضر بن عدي عن مجاهد في
قوله{وَإِذَا
تَوَلَّى سَعَى}
الآية
قال : إذا ولى
خاف فعمل بالعدوان والعالم فأمسك اللّه المطر وأهلك الحرث والنسل.
{وَاللّه يُحِبُّ
الْفَسَادَ} .
عن سعيد بن المسيب
قال : قطع الدرهم
من الفساد في الأرض.
قتادة عن عطاء : إن رجلاً يقال
له العلاء بن منبه أحرم في جبّة فأمره النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) أن ينزعها.
قال قتادة : فقلت لعطاء : إنّا
كنا نسمع أن شقّها فقال عطاء : إن اللّه لا يحب الفساد.
٢٠٦
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللّه} خف اللّه،
تكبّر
{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِاثْمِ}
أي حملته العزّة
وحمية الجاهليّة على الفعل بالإثمّ والعزة والقوّة والمنعة،
ويقال : معناه أخذته العزة
بالإثمّ الذي في قلبه كما قام الهاء مقام اللام كقول عنترة يشبهّه بالرب :
وكأن رباً أو كحيلاً معقداً
حش الوقود به جوانب قمقم
أي خلق الأمالة خشية جهنم
أي كفاه عذاب جهنم.
{وَلَبِئْسَ
الْمِهَادُ} الفراش.
قال عبد اللّه بن مسعود : إن من
أكبر الذنب عند اللّه أن يقال للعبد : اتق اللّه فيقول : عليك بنفسك.
٢٠٧
{وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِى} يبيع
{نَفْسَهُ
ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه}
أي يطلب رضا اللّه.
والكسائي : يميل مرضاة اللّه كل
القرآن.
{وَمِنَ النَّاسِ
مَن} .
قال ابن عبّاس والضحاك : نزلت
هذه
الآية في الزبير
والمقداد بن الأسود حين شريا أنفسهما لإنزال حبيب من خشبته التي صُلب عليها،
وقد مضت القصّة.
وقال أكثر المفسرين : نزلت في
صهيب بن سنان المخزومي مولى عبد اللّه
(بن
جدعان) التيمي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فضربوهم فقال لهم
صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت،
أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا
مالي وتذروني وديني،
ففعلوا ذلك،
وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة
فأقام بمكة ما شاء اللّه ثمّ خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما
في رجال.
قال له ابو بكر : ربح بيعك أبا
يحيى فقال صهيب : وبيعك فلا تخسر بأذاك.
فقال : أنزل اللّه تعالى
فيك كذا،
وقرأ عليه هذه
الآية.
قال سعيد بن المسيب وعطاء :
أقبل صهيب مهاجراً نحو النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) فأتبعه نفر من مشركي قريش فنزل
عن راحلته وهو ما في كنانته ثمّ
قال : يا معاشر قريش لقد علمتم إني من أرماكم رجلاً،
واللّه لا أصنع سهماً مما في
كنانتي إلاّ في قلب رجل،
وأيم اللّه لا يصلون إليّ حتّى
أرمي كل سهم في كنانتي،
ثمّ اضرب بسيفي ما بقي في يدي،
ثمّ إفعلوا ما شئتم،
وإن شئتم دللتكم على مالي
(وضيعتي) بمكة وخليتم سبيلي.
قالوا : نعم. ففعل ذلك،
فأنزل اللّه هذه
الآية.
وقال قتادة : ما هم بأهل الحرور
المراق من دين اللّه تعالى،
ولكن هم المهاجرون والأنصار.
وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت
هذه
الآية،
في أن مسلماً لقى كافراً فقال
له : قل لا إله إلاّ اللّه وإذا قلتها عصمت مالك ودمك إلا
(بحقها) فأبى أن يقولها،
قال المسلم : واللّه لأشرين
نفسي للّه فتقدم فقاتل حتّى قُتل.
وقال المغيرة : بعث عمر جيشاً
فحاصروا حصناً فتقدم رجل من بجيلة فقاتل وحده حتّى قتل،
فقال النّاس ألقى بيده إلى
التهلكة فبلغ ذلك عمر فقال : كذبوا اليس اللّه يقول
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ}
الآية.
وقال بعضهم : نزلت هذه
الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال ابن عبّاس : أرى هاهنا من
إذا أمر بتقوى اللّه أخذته العزة بالإثمّ.
قال :
(هذا) وأنا أشري
نفسي وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى اللّه،
فإذا لم يقبل أخذته العزّة
بالإثمّ ثمّ
قال : هذا وأنا
أشري نفسي لمقاتلته فأقتل الرجلان لذلك،
وكان علي
(رضي اللّه عنه) إذا قرأ هذه
الآية يقول : اقتتلا ورب الكعبة.
وقال الخليل : سمع عمر بن
الخطاب إنسأناً يقرأ هذه
الآية
{وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ}
الآية.
فقال عمر : إنا للّه وإنا إليه
راجعون قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.
حماد بن سلمة عن أبي غالب عن
أبي إمامة إن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(إن أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر).
عطاء بن أبي رباح عن جابر بن
عبد اللّه الأنصاري
قال : قال النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد االمطلب ورجل قام إلى
إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
وقال الثعلبي : ورأيت في الكتب
إن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لما أراد الهجرة خَلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودايع التي
كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه
(صلى اللّه عليه وسلم) وقال له :
(إتشح ببردي الحضرمي
الأخضر،
ونم على فراشي،
فإنّه لا يخلص إليك
منهم مكروه إنشاء اللّه،
ففعل ذلك عليٌ،
فأوحى اللّه تعالى
إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الأخر
فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟
فإختار كلاهما
الحياة فأوحى اللّه تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب ج آخيت بينه
وبين محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) فبات على فراشه
(يفديه) نفسه
ويؤثره بالحياة،
إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من
عدوه،
فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي
وميكائيل عند رجليه،
وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك
يا بن أبي طالب،
فنادى اللّه عزّ وجلّ الملائكة
وأنزل اللّه على رسوله
(صلى
اللّه عليه وسلم) وهو متوجه إلى المدينة في شأن
عليج
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ
مَرْضَاتِ اللّه} ).
قال ابن عبّاس : نزلت في علي بن
أبي طالب حين هرب النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) من المشركين إلى الغار مع أبي
بكرالصديق ونام عليَّ على فراش النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) .
٢٠٨
{يا أيها الذين آمنوا
ادخلوا في السلم كافة} نزلت في مؤمني أهل
الكتاب عبد اللّه بن سلام النضري وأصحابه وذلك إنهم عظموا السبت وكرهوا لحم الابل
وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول اللّه إن التوراة كتاب اللّه فدعنا فلنقم بها في
صلاتنا بالليل فأنزل اللّه تعالى
{يا أيها
الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}
أي في الإسلام قاله
قتادة والضحاك والسدي وابن زيد،
يدلّ عليه قول الكندي : دعوت
عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا.
أي دعوتهم إلى
الإسلام لما إرتدوا،
قال ذلك حين إرتدة كندة مع
الأشعت بن قيس بعد وفاة رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) وقال طاووس : في الدين.
مجاهد : في أحكام أهل الإسلام
وأعمالهم كافة
أي جميعها.
ربيع : في الطاعة.
سفيان الثوري : في أنواع البر
كلها،
وكلها متقاربة في المعنى وأصله
من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم وقال زهير :
وقد ملتما إن ندرك السلم واسعاً
بمال ومعروف من الأمر نسلم
قال حذيفة بن اليمان : في هذه
الآية الإسلام
ثمانية أسهم : الصلاة سهم،
والزكاة سهم،
والصوم سهم،
والحج سهم،
والعمرة سهم،
والجهاد سهم،
والأمر بالمعروف سهم،
والنهي عن المنكر سهم،
وقد خاب من لا سهم له.
واختلف القراء في السلم.
فقرأ الأعمش وابن عبّاس : بكسر
السين هاهنا وفي الأنفال وسورة محمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) .
وقرأها أهل الحجاز والكسائي :
كلها بالفتح وهو اختيار أبي عبيد. لما روى عبد الرحمن ابن
(ابزي) أن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يقرأها كلها بالفتح.
وقرأ حمزة وخلف في الانفال
بالفتح وسائرها بالكسر.
وقرأ الباقون : هاهنا بالكسر
والباقي بالفتح وهو اختيار أبي حاتم،
وهما لغتان.
عاصم الأحول عن أنس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مثل الإسلام كمثل الشجرة الثابتة الإيمان باللّه،
أصلها الصلوات الخمس
جذوعها،
وصيام شهر رمضان
لحاءها،
والحج والعمرة
جناها،
والوضوء وغسل
الجنابة شربها،
وبر الوالدين وصلة
الرحم غصونها،
والكف عمّا حرم
اللّه ورقها،
والأعمال الصالحة
ثمرها،
وذكر اللّه تعالى
عروقها).
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كما لا تحسن الشجرة ولا تصلح إلاّ بالورق الأخضر،
كذلك الإسلام لا
يصلح إلاّ بالكف عن محارم اللّه تعالى والأعمال الصالحة).
{كَآفَّةً} جميعاً وهي مأخوذة من كففت الشيء إذا منعته وضممت بعضه إلى
بعض،
ومنه قيل لحاشية القميص كفة،
لأنها تمنعه من أن ينتشر وكل
مستطيل فحرفه كفة بالضم وكل مستدير فحرفه كفة بالكسر،
نحو كفة الميزان،
ومنه قيل للراحة مع الأصابع كفة
لأنه يكفّ بها عن سائر البدن،
ورجل مكفوف
أي كفَّ بصره من
النظر فمعنى الكافة هو ان ينتهي إليه ويكفه من أن يجاوزه.
{وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}
أي أثاره ونزعاته
فيما بيّن لكم من تحريم السبت ولحم الجمل وغيره
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} .
الشعبي عن جابر بن عبد اللّه :
إن عمر أتى رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقال : إنّا نسمع أحاديث
من يهود
(قد أخذت بقلوبنا) أن نكتب بعضها؟
فقال :
(أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى لقد
جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي).
٢٠٩
{فَإِن زَلَلْتُم} . قال ابن حيان : أخطأتم. السدي : ضللتم. يمان : ملتم.
قال ابن عبّاس :
يعني الشرك.
قتادة : أنزل اللّه هذه
الآية وقد علم
إنه سيزل زالون عن النّاس،
فتقدّم في ذلك وأوعد فيه فيكون
للّه حجة على خلقه.
وقرأ أبو السماك
(العذري) : زللتم بكسر اللام وهما لغتان وأصل الحرف من الزلق.
{مِّن بَعْدِ مَا
جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}
يعني الإيمان
والقرآن والأمر والنهي
{فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللّه عَزِيزٌ} في نعمته
{حَكِيمٌ} في أمره
٢١٠
{هَلْ يَنظُرُونَ}
أي هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات
الشيطان؟
يقال نظرته وإنتظرته بمعنى
واحد.
قال الشاعر :
فبينا نحن ننظره أتانا
معلّق شكوة وزناد راع
أي ننتظره ونتوقعه فإذا كان النظر مقروناً بذكر الوجه فلا يكون
إلاّ بمعنى الرؤية.
{إِلا أَن
يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ} جمع ظلة وقرأ قتادة : في ظلال ولها وجهان
أحدهما : جمع ظلة فقال : ظلة وظلال
مثل جلة وجلال،
وظل ظلال كثر حلة وحلل،
والثاني : جمع ظل من الغمام وهو السحاب الأبيض الرقيق سمي بذلك لأنه
نعم
أي يستتر.
عكرمة عن إبن عبّاس في
قوله
{يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ}
قال : يأتي اللّه في ظللّه من الغمام قد قطعت طاقات،
ورفعه بعضهم
سلمة بن وهرام أن عكرمة أخبره
أن ابن عبّاس أخبره عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(إن من الغمام طاقات يأتي اللّه عزّ وجلّ فيها
محفوفة بالملائكة) وذلك
قوله
{إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ
الْغَمَامِ} .
قال الحسن : في سترة من الغمام،
فلا ينظر اليهم أهل الأرض،
الضحاك : في
(ضلع) من السحاب.
مجاهد : هو غير من السحاب ولم
يكن إلاّ لبني اسرائيل في تيههم.
مقاتل : كهيئة الظبابة أبيض،
وذلك
قوله
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} .
{وَ الملائكة} .
قرأ ابن جعفر بالخفض : عطفاً
على الغمام وتقديره مع الملائكة،
تقول العرب : أقبل الأمير في
العسكر
أي مع العسكر.
وقرأها الباقون : بالرفع على
معنى إلاّ أن يأتيهم اللّه والملائكة في ظلل من الغمام،
يدلّ عليه قراءة أبي حاتم وعبد
اللّه
{هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم اللّه والملائكة}.
{فِي ظُلَلٍ مِّنَ
الْغَمَامِ} .
أبو العالية والربيع : تأتيهم
الملائكة في ظلل من الغمام ويأتي اللّه تعالى فيما يشاء.
قرأ معاذ : في ظلل مع الغمام
وقضاء الأمر
(بالمد) أراد
المصدر ذكر البيان عن مغني الإتيان.
واختلف الناس في ذلك،
فقال بعضهم :
(في) بمعنى الباء،
وتعاقب حروف الصفات شائع مشهور
في كلام العرب،
تقدير
الآية : إلاّ أن يأتيهم
اللّه بظلل من الغمام وبالملائكة أو مع الملائكة،
وبهذا التأويل زال الإشكال وسهل
الأمر
(وأجرى) الباقون للآية
فهي ظاهرة.
ثم اختلفوا في تأويلها ففسّره
قوم على الإتيان الذي هو الإنتقال من مكان إلى مكان وأدخلوا فيه بلا كيف
(يدل عليه) ظواهر أخبار وردت لم يعرفوا تأويلها وهذا غير مرضيّ من القول لأنه إثبات
المكان للّه سبحانه،
وإذا كان متمكناً وجب أن يكون
محدوداً متناهياً ومحتاجاً وفقيراً،
وتعالى اللّه عن ذلك علوّاً
كبيراً.
وقال بعض المحقّقين الموفّقين
أظنّه علي بن أبي طالبج :
(من زعم
أن اللّه تعالى من شيء أو في شيء أو على شيء فقد ألحد،
لأنه لو كان من شيء
لكان محدثاً،
ولو كان في شيء لكان
محصوراً،
ولو كان على شيء
لكان محمولاً).
وسكت قومٌ عن الخوض في معنى
الإتيان فقالوا : نؤمن
بظاهره ونقف عن تفسيره؛ لأنّا قد نُهينا أن نقول في كتاب اللّه تعالى ما لا نعلم
ولم ينبّهنا اللّه تعالى ولا رسوله على حقيقة معناه.
قال يحيى : هذه من
(المكتوم) الذي لا يُفسّر،
وكان مالك والأوزاعي ومحمد
وإسحاق وجماعة من المشايخ يقولون فيه وفي أمثاله أمرّوها كما جاءت بلا كيف.
وزعم قوم أن في
الآية إضماراً أو
اختصاراً تقديرها : إلاّ أن يأتيهم أمر اللّه وهو الحساب والعذاب،
دلّ عليه
قوله :
{وَقُضِىَ الأمْرُ}
الآية وجب العذاب
وفُرغ من الحساب،
قالوا هذا كقوله :
{وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} ويقول العرب : قطع الوالي اللّص
يعني يده وإنما فعل ذلك
آخر أنه بأمره.
ويقال : خطبتان مأتينا بنو
أمية
أي حكمهم.
وعلى هذا يحمل
قوله :
{وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} لأن اللّه تعالى قال ذلك،
وهذا معنى قول الحسن البصري.
وقالت طائفة من أهل الحقائق :
إن اللّه يُحدث فعلاً يسميه إتياناً كما سمعت فهلاّ سمّاه نزولاً وأفعاله بلا آلة
ولا علّة.
قال الثعلبي : قلت : ويحتمل أن
يكون معنى الإتيان ههنا راجعاً إلى الجزاء؛ فسمّى الجزاء إتياناً كما سمّى التخويف
والتعذيب في قصّة نمرود إتياناً فقال عزّ من قائل :
{فأتى اللّه بُنيَانَهُم من القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَليهِمُ
السَّقفُ من فَوقِهِم فأتَاهُم العَذابَ من حَيثُ لا يَشعُرُون}.
وقال في قصّة بني النضير :
{فَأَتَ اهُمُ اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا}
{وَإِن
كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى} : وإنّما احتمل الإتيان هذه المعاني لأنّ أصل الإتيان عند
أهل اللسان هو القصد إلى المشي في للآية فهل ينظرون إلاّ أن يظهر اللّه خلاف
أفعاله مع خلق من خلقه فيقصد إلى مجازاتهم ويقضي في لعنهم ما هو قاض ومجازيهم على
فعل ويمضي فيهم ما أراد،
يدلّ عليه ما روى صالح مولى
التوأمة عن أبي هريرة
قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
(إذا كان يوم القيامة فإنّ اللّه عزّ وجلّ في ظلال
من الغمام والملائكة فيتكلم بكلام طلق ذلق فيقول : انصتوا فطالما أنصتّ لكم منذ
خلقتكم أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم وإنّما من عصابتكم بقي أهليكم،
فمن وجد خيراً
فليحمد اللّه،
ومن وجد غير ذلك لا
يلومنَّ إلاّ نفسه).
٢١١
{سَلْ بنى إسرائيل}
أي سل يا محمد يهود أهل المدينة
{كَمْ ءَاتَيْنَاهُم} أعطيناهم،
آباءهم وأسلافهم
{مِّنْ ءَايَة بَيِّنَةٍ} علامة واضحة مثل العصا في اليد البيضاء وفلق البحر وغيرها.
{وَمَن يُبَدِّلْ
نِعْمَةَ اللّه} يغيّر كتاب اللّه
{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ
الْعِقَابِ}
٢١٢
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحياةُ الدُّنْيَا}
الآية،
قال بعضهم : نزلت هذه
الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعّمون بما ينقل لهم
في الدنيا من المال ونسوا يوم المعاد
{وَيَسخَرُون} من المؤمنين الذين يعزفون عن الدنيا،
ويقبلون على الطاعة والعبادة،
ويقولون : لو كان محمد نبيّاً
لاتبعه أشرافنا وإنما تبعه الفقراء مثل أبي عمارة وصهيب وعمار وجابر بن عبد اللّه
وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخباّب وأمثالهم،
وهذا معنى رواية الكلبي عن ابن
عباس.
وقال مقاتل : نزلت في المنافقين
عبد اللّه بن أبي وأصحابه،
وكانوا يتنعمون في الدنيا
ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين،
ويقولون : انظروا إلى هؤلاء
الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
وقال عطاء : نزلت في رؤساء
اليهود ووفدهم من بني قريضة والنضير والقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم
اللّه أن يعطيهم أموال بني قريضة والنضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره. فقال : أين الذين
كفروا في الحياة الدنيا،
في قول مجاهد،
وحملَ
(زيّن) بفتح الزاي والياء
على معنى زينها اللّه وإنّما ذكّر الفعل بمعنيين أحدهما أن تأنيث الحياة ليس
بحقيقي لأنّ معنى الحياة والبقاء والعيش واحد،
والآخر أنه فصل بين اسم المؤنث
والفعل فأعمل المذكر،
كقول الشاعر :
إن امرأً غرّه منكن واحدة
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
{وَيَسْخرُنَ من
الَّذيِنَ آمَنُوا} لفقرهم.
عن علي بن الحسين عن أبيه عن
جدّه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من استذلّ مؤمناً أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلة
ذات يده شهّره اللّه يوم القيامة ثم فضحه،
ومن بهت مؤمناً أو
مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه،
أقامه اللّه على تل
من نار حتى يخرج مما قال فيه،
وإن المؤمن أعظم عند
اللّه وأكرم عليه من مَلَك مقرب،
وليس شيء أحبّ إلى
اللّه من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة،
وإن (الرجل) المؤمن ليُعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده).
وعن إبراهيم بن أدهم
قال : حدّثنا
عباد بن كثير بن قيس،
قال : جاء رجل عليه بزّة له فقعد الى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فجاء رجل عليه
(لممار) له فقعد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم،
قال : ألقى بثيابه فضمّها إليه،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(أكلُّ هذا تقززاً من أخيك المسلم،
أكنت تخشى أن يصيبه
من غناك أو يصيبك من فقره شيء،)
فقال للنبي : معذرة إلى اللّه
وإلى رسوله،
إن النفس لأمّارة وشيطان
يكيدني،
أشهد يا رسول اللّه أن نصف مالى
له،
فقال الرجل : ما أريد ذلك،
فقال له النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(وَلِمَ؟)
قال : لا يفسد قلبي كما أفسد قلبه).
وقال أبو بكر الصديق
(رضي اللّه عنه) : لا تحقرنّ أحداً من المسلمين فإنّ صغير المسلمين عند اللّه كبيراً.
وقال يحيى بن معاذ : بئس القوم قوم إن استغنى بينهم المؤمن حسدوه،
وإذا افتقر بينهم استذلّوه
{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} عن أبي ذر
قال : قال لي رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أرفع رجل تراه في
المسجد). فنظرت فإذا رجل جالس وعليه حلّة فقلت : هذا. فقال :
(يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أوضع رجل تراه في
المسجد) فنظرت فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق فقلت : هذا،
فقال
(صلى اللّه عليه وسلم)
(والذي نفسي بيده لهذا عند اللّه يوم القيامة أفضل
من قراب الأرض من هذا).
{وَاللّه يَرْزُقُ
مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال ابن عباس :
يعني كثيراً
بغير فوت ولا
(هنداز) لأن كل ما
دخل عليه الحساب فهو قليل.
وقال الضحاك :
يعني من غير
تبعة،
يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه ولا
يعاقبه في الآخرة.
وقيل إنّ هذا راجع إلى اللّه ثم هو يحتمل على هذا القول معنيين :
أحدهما أنه لا يُفترض عليه،
ولا يُحاسب فيما يرزق،
ولا يقال له : لما أعطيت هذا،
وحرمت هذا؟
ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت
ذاك؟
لأنه لا شريك له بما عنده،
ولا قسيم ينازعه.
والمعنى الآخر أنه لا يخاف نفاذ
خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها إذا كان الحساب من المعطي،
إنما يكون ليعمّ أقدر العطاء
لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به فهو لا يحتاج الى الحساب؛ لأنه عالم غني لا
يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون
٢١٣
{كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً}
الآية،
قال الحسن وعطاء : كان الناس من
وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح ث أُمة واحدة على ملّة واحدة وهي الكفر،
كانوا كفاراً كلّهم أمثال
البهائم فبعث اللّه نوحاً وإبراهيم وغيرهما من النبيين.
قتادة وعكرمة : كان الناس من
وقت آدم إلى مبعث نوح أُمة واحدة،
وكان بين آدم ونوح عشرة قرون
كلّهم على شريعة واحدة من الحق والهدى،
ثم اختلفوا في زمن نوح ج؛ فبعث
اللّه إليهم نوحاً وكان أول نبي بُعث ثم بَعث بعده النبيين.
وقال الكلبي والواقدي : أهل
سفينة نوح كانوا مؤمنين كلّهم ثم اختلفوا بعد وفاة نوح.
{فَبَعَثَ اللّه
النَّبِيِّنَ} وروي عن ابن عباس
قال
: كان الناس على عهد إبراهيم أُمة واحدة،
كفاراً كلّهم،
وولد إبراهيم في جاهلية فبعث
اللّه إليهم إبراهيم وغيره من النبيين.
روى الربيع عن أبي العالية عن
أبي
قال : كان الناس
حين عُرضوا على آدم وأُخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أُمةً واحدة مسلمين كلّهم،
ولم يكونوا أُمة واحدة قط غير
ذلك اليوم،
ثم اختلفوا بعد آدم فبعث اللّه
الرسل وأنزل الكتب،
وكذلك في قراءة أُبيّ وعبد
اللّه بن إسحاق : فاختلفوا فبعث اللّه النبيين.
وقال محمد بن يسار ومجاهد : كان
الناس أُمة واحدة
يعني آدم وحده،
سُمّي الواحد بهذا لأنه يحمل
النسل وأبو البشر،
ثم خلق اللّه حوّاء ونشر منهما
الناس فانتشروا وكثروا وكانوا مسلمين كلّهم إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا حينئذ
فبعث اللّه حينئذ.
قال الثعلبي : ورأيت فى بعض
التفاسير : كان الناس أُمة واحدة في
(الجنة) لا أمرٌ عليهم ولا نهي فبعث اللّه النبيين وجملتهم مائة
وأربعة وعشرون ألفاً،
والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة
عشر،
والمذكور في القرآن باسم العلم
ثمانية وعشرون نبياً.
{مُبَشِّرِينَ} بالثواب من آمن وأطاع
{وَمُنذِرِينَ} محذّرين
بالعذاب من كفر وعصى.
موسى بن عبيد عن محمد بن ثابت
عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(صلّوا على أنبياء اللّه ورسله فإن اللّه بعثهم
كما بعثني).
{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ}
أي الكتب فأنزل معهم الكتاب
{بِالْحَقِّ} بالعدل والصدق
{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} قراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف وهو في القرآن في أربعة
مواضع : ههنا وفي آل عمران وفي النور موضعان.
وقرأها كلّها أبو جعفر القارئ
وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الكاف لأنّ الكتاب الحكم على الحقيقة إنّما يُحكم
به،
ولقراءة العامة وجهان : أحدهما
على سعة الكلام كقوله
{هذا
كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} ،
والآخر أن معناه : ليحكم كلّ
نبيّ بكتابه،
وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم
الكتاب
{فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ}
أي في الكتاب
{إِلا
الَّذِينَ أُوتُوهُ} أعطوه وهم اليهود والنصارى
{مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}
يعني أحكام التوراة والإنجيل.
قال الفرّاء : لاختلافهم معنيان
: أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض كقوله :
{إن
الذين يكفرون باللّه وبرسله}
الآية
(...
) وتكفير ببعض،
والآخر تحريفهم وتبديلهم كتاب
اللّه تعالى كقوله :
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} .
وقيل : هذه
الآية راجعة الى محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) وكتابه
{اختلف فيه أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات} صفة محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) في كتبهم
{بَغْيًا} ظلماً وحسداً
{بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} كقوله :
{هَدَ
انَا لِ هذا}
وقوله :
{يعودون
لما قالوا من الحق بإذنه} بعلمه وإرادته
فيهم.
وقال ابن زيد في هذه
الآية : اختلفوا
في الصلاة؛ فمنهم من يصلّي الى المشرق،
ومنهم من يصلّي الى المغرب،
ومنهم من يصلّي إلى بيت المقدس؛
فهدانا اللّه للكعبة،
واختلفوا في الصيام،
فمنهم من يصوم بعض يوم،
ومنهم من يصوم بعض ليلة،
فهدانا اللّه لشهر رمضان،
واختلفوا في يوم الجمعة،
أخذت اليهود السبت وأخذت
النصارى الأحد،
فهدانا اللّه له،
واختلفوا في إبراهيم،
فقالت اليهود : كان يهودياً،
وقالت النصارى : كان نصرانياً،
فهدانا اللّه للحق من ذاك،
واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود
ابناً،
وجعلته النصارى ربًّا،
فهدانا اللّه منه للحق
{واللّه يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم أم حسبتم أن تدخلوا الجنة}
الآية،
قال قتادة والسدّي : نزلت هذه
الآية في غزوة
الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والمشقّة
(والحر والبرد) وضيق
العيش،
وأنواع الأذى كما
قال :
{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}
وقيل : أنها نزلت في حرب اُحد ونظيرها في آل عمران.
وقال : إنّ عبد اللّه بن
أُبي وأصحابه قالو لأصحاب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) : إلى متى تقتلون أنفسكم ولا
تملكون أموالكم،
ولو كان محمد نبيّاً لما سلّط
عليه الأسر والقتل،
فقالوا : لا جرم أنّ من
قُتل منّا دخل الجنّة،
فقالوا : إلى متى تمنون
أنفسكم الباطل
(وقد استمعتم) إلى هذه
الآية.
وقال عطاء : لما دخل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) المدينة اشتدّ الضرّ عليهم لأنّهم خرجوا بلا مال فتكون أرضهم وأموالهم في
أيدي المشركين؛ فآثروا رضا اللّه عزّ وجلّ ورضا رسوله
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
وأظهر اليهود والعداوة لرسول
اللّه صلى اللّه عليه وسلّم،
وأسرَّ قوم من الأغنياء النفاق
فأنزل اللّه تطييباً لقلوبهم
٢١٤
{أَمْ حَسِبْتُمْ} وهو ابتداء بأم من غير استفهام،
فالألف والميم صلة معناه :
أحسبتم،
قاله الفرّاء.
وقال الزّجاج : معناه : بل
حسبتم،
كقول الشاعر :
بدت مثل قرن الشمس في رونق
الضحى
وصورتها أم أنت في العين أملح
أي بل وأنت،
وكل شيء في القرآن من هذا النحو
فهذا سبيله وتأويله،
ومعنى
الآية أظننتم والرسول أن
تدخلوا الجنة.
{وَلَمَّا يَأْتِكُم}
يعني ولم يأتكم
وحاصله
كقوله تعالى :
{وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} وقال النابغة :
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا
لمّا تزل برحالنا وكأَنْ قَدِ
أي لم تزل
{مثل
الذين خلو من قبلكم} مَضَوا
(من قبلكم) من النبيين والمؤمنين
(وسُنّتهم).
ثم ذكر ما أصابهم فقال :
{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ}
يعني الفقر والضرّ والشدّة والبلاء
{وَالضَّرَّآءِ} المرض
والزمانة
{وَزُلْزِلُوا} حُرّكوا بأنواع البلايا والرزايا وخُوِّفوا
{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ
مَتَى نَصْرُ اللّه} ما تلك البلايا حتى استبطأوا
الرزق،
قال اللّه :
{ألا إن
نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ} واختلف القرّاء في
قوله تعالى :
{يَقُولَ الرَّسُولُ} فقرأ مجاهد بفتح وضمّة.
الأعرج : يقول رفعاً،
وقرأها الآخرون نصباً،
فمن نصب فعلى ظاهر الكلام لأن
حتى تنصب الفعل المستقبل،
ومَنْ رفع لأنّ معناه حتى قال
الرسول،
وإذا كان الفعل الذي يلي حتى في
معنى الماضي ولفظه لفظ المستقبل،
فلك فيه دون الرفع والنصب،
فالرفع لأنّ حتى لا بعمل
الماضي،
والنصب بإضمار أنّ الخفيفة عند
البصريين،
وبالصرف عند الكوفيين،
(مثل قولك : ) سرنا حتى ندخل مكة بالرفع
أي حتى دخلناها،
فاذا كان بمعنى المستقبل فالنصب
لا غير.
وقال وهب بن منبه : يوجد فيما
بين مكة والطائف سبعون
(نبيًّا) ميتين كان سبب موتهم الجوع والعمل،
وقال وهب أيضاً : قرأت في كتاب
رجل
(من الحواريين) إذا سُلك بك سبيل البلاء فقرَّ عيناً،
فإنه سُلك بك سبيل الأنبياء
والصالحين. وإذا سُلك بك سبيل الرخاء فابكِ على نفسك
(لأنّه حاد) بك عن سبيلهم.
(شعبة عن عاصم بن
بهدلة) عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
أيّ الناس أشدّ
بلاء فقال :
(الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس،
فيبتلى الرجل على
حسب دينه،
فإن كان صلب الدين
اشتدّ بلاؤه،
وإن كان في دينه
رقّة فهي على حسب ذلك،
ولا يبرح البلاء عن
العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة).
وعن عبد الرحمن بن ذهل
قال : كان وزير
عيسى عليه الصلاة والسلام ركب يوماً فأخذه السبع فأكله فقال عيسى : يا ربّ وزيري
في دينك،
وعوني على بني إسرائيل،
وخليفتي من سلّطت عليه كلبك
فأكله،
قال : نعم كانت له عندي منزلة رفيعة،
لم أجد عمله بلغها فأبتليته
بذلك لأبلغه تلك المنزلة.
٢١٥
{ يَسَْئلُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ}
الآية،
نزلت في عمرو بن الجموح،
وكان شيخاً كبيراً ذا مال،
فقال : يا رسول اللّه
بماذا أتصدق وعلى من أتصدق؟
فأنزل اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
{ يَسَْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} وفي
قوله
(ذا) وجهان من الأعراب : أحدهما أن يكون ماذا بمعنى
أيّ شيء وهو
(متعلق) بقوله ينفقون
وتقديره : يسألونك
أي شيء ينفقون،
والآخر أن يكون رفعاً ب
(ما) والمعنى :
ويسألونك ما الذي ينفقون؟
{قُلْ مَآ أَنفَقْتُم
مِّنْ خَيْرٍ}
أي مال
{فَلِلْوَالِدَيْنِ
وَالأقربين وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ} عالم به بتعاليم الدين،
هذا قبل أن فرض الزكاة فنسخت
الزكاة هذه
الآية.
٢١٦
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ} فُرض عليكم القتال،
واختلف العلماء في حكم هذه
الآية،
فقال بعضهم : عنى بذلك أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) خاصة دون غيرهم،
وقال ابن جريج قلت لعطاء :
قوله :
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَّكُمْ} أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ؟
وأجرى بعضهم
الآية على ظاهرها
فقال : الغزو فرض
واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة.
روى ابن أبي أنيسة عن أنس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ثلاث من أصل الإيمان : الكفّ عمّن قال : لا إله
إلاّ اللّه ما لم يره بذنب،
ولا يخرجه من
الاسلام بعمل،
والجهاد ماض منذ
بعثني اللّه إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك،
والإيمان بالأقدار).
أبو صالح عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على
شعبة من النفاق)
وقال بعضهم : هو فرض على
الكفاية إذا قام به البعض سقط من الباقين.
عن أحمد بن أنمار : وردّ السلام
وتسميت العاطس وهو القول الصحيح المشهور الذى عليه الجمهور.
وقال الزهري والأوزاعي : كتب
اللّه الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا،
فمن غزا فبها ونعمت،
ومن قعد فهو حرّ،
إن استُعين به أعان وإنِ استنفر
نفر وإنِ استغني عنه قعد،
فإنما يرجح عليه عطاء الواجب
المال وإلاّ فلا،
من شاء غزا ومن شاء لم يغزُ،
ويدلّ على صحة هذا القول قول
اللّه تعالى
{وفضّل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة وكلاّ
وعد اللّه الحسنى} ،
ولو كان القاعدون مضيعين فرضاً
لكان لهم السوأى لا الحسنى واللّه أعلم.
{وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} شاقّ عليكم،
واتفق القرّاء على ضم الكاف
ههنا إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي،
فإنه قرأها
{وَهُوَ كُرْهٌ} بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد،
مثل الغَسل والغُسل،
والضَّعف والضُّعف،
والرَّهب والرُّهب،
وقال أكثر أهل اللغة : الكُره
بالضم المشقة وبالفتح الاجهاد. بعضهم : الكره بالفتح المصدر،
وبالضم الاسم.
وقال أهل المعاني : هذا الكره
من حيث نفور الطبع عنه لما يدخل فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقّة
وعلى الروح من الخطر لأنهم أظهروا الكراهة أو كرهوا أمر اللّه عزّ وجلّ.
قال عكرمة : نسختها هذه
الآية
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
يعني أنهم كرهوه ثم أحبّوه
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}
قال اللّه عزّ وجلّ :
{وَعَسَى أَن
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن في الغزو أحد الحُسنيين إمّا الظفر والغنيمة،
وإمّا الشهادة والجنة
{وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا}
يعني القعود عن الغزو
{وَهُوَ
شَرٌّ لَّكُمْ} لما فيه من الذل والصغر وحرمان الغنيمة والأجر
{وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قال ابن عباس : كنت ردف النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
(يا بن عباس ارضَ عن اللّه بما قدّر وإنْ كان خلاف
هواك إنه مثبّت في كتاب اللّه).
قلت : يا رسول اللّه أين وقد
قرأت القرآن،
قال :
(مكانين)
{وَعَسَى
أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} ).
عاصم بن علي المسعودي
قال : قال الحسن
: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربَّ أمر تكرهه فيه نجاتك،
ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك،
وأنشد أبو سعيد الضرير :
ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمراً
ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه
فيه
وأنشد محمد بن عرفة لعبد اللّه
بن المعتز :
لا تكره المكروه عند نزوله
إن الحوادث لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقل بشكرها
للّه في درج الحوادث كامنه
عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه
قال : بعث المتوكل
إلى محمد بن الليث رسولاً وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول
(امتثل) فركب بلا
روح خوفاً فمرّ به رجل وهو يقول :
كم مرّة حفّت بك المكاره
خارَ لك اللّه وأنت كاره
فلمّا دخل على المتوكل ولاّه
مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان.
قال الثعلبي : أنشدني الحسن بن
محمد
قال : أنشدني أبو
سعيد أحمد بن محمد بن رميح
قال : أنشدني محمد بن الفرحان :
كم فرحة مطوية لك بين أثناء
النوائب
ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر
المصائب
قال : وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي
قال : أنشدنا أبو عبد
اللّه الوضاحي :
ربّما خُيّر الفتى وهو للخير
كاره
ثم يأتي السرور من حيث تأتي
المكاره
٢١٧
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}
الآية،
قال المفسّرون : بعث رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عبد اللّه بن جحش وهو ابن عمّة النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه
المدينة،
وبعث معه ثمانية رهط من
المهاجرين : سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي
وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد اللّه
وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد اللّه بن جحش كتاباً وقال : سر على اسم اللّه
ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين،
فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب
واقرأه على أصحابك،
ثم امضِ لما أمرتك،
ولا تُكرهنّ أحداً من أصحابك
على السير معك،
فسار عبد اللّه يومين ثم نزل
وفتح الكتاب فاذا فيه :
بسم اللّه الرحمن الرحيم،
أما بعد فسر على بركة اللّه بمن
تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر،
فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش
قال : سمعاً
وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال : إنه قد نهاني أن استكره أحداً منكم،
فمن كان يريد الشهادة فلينطلق،
ومن كره ذلك فليرجع،
فإني ماض لأمر رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) .
ثم مضى ومضى معه أصحابه لم
يتخلف عنه منهم أحد حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له : نجوان أضلّ سعد بن أبي
وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب
بعيرهما،
فأذن لهما فتخلفا في طلبه،
ومضى عبد اللّه ببقيتهم حتى
نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف،
فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير
لقريش تحمل زبيباً وأديماً وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن
كيسان وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة ونوفل ابن عبد اللّه المخزوميان،
فلمّا رأوا أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) خافوهم،
فقال عبد اللّه بن جحش : إنّ
القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقاً أمِنُوا،
وقالوا : قوم عُمّار،
فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم
وقالوا : قوم عُمّار
لا بأس عليكم فأمنّوهم.
وكان ذلك في آخر يوم من جمادى
الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب،
فتشاور القوم بينهم وقالوا : لئن
تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم
فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله،
فكان أول قتيل من المشركين
واستأسرا الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الاسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم،
واستاق المؤمنون العير
والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) بالمدينة،
فقالت قريش : قد استحلّ محمد
الشهر الحرام،
شهراً يأمن فيه الخائف وينذعر
فيه الناس لمعايشهم،
فسفك فيه الدماء،
وأخذ فيه الحرائر،
وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها
من المسلمين،
وقالوا : يا معشر الصباة
استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه،
وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا : واقد :
وقدت الحرب وعمروا : عمرت الحرب،
والحضرمي : حضرت الحرب.
وبلغ ذلك رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال لابن جحش وأصحابه : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام،
ودفعتُ العير والأسيرين فأبى أن
يأخذ من ذلك شيئاً،
فعظم ذلك على أصحاب السريّة
وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا
: يا رسول اللّه إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى
هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى،
وأكثر الناس في ذلك،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية فأخذ رسول
اللّه العير فعزل منها الخمس،
فكان أول خمس في الاسلام،
وقسّم الباقي بين أصحاب
السريّة،
فكان أول غنيمة في الاسلام،
وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال : بل نوقفهم
حتى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما،
فلمّا قدما فداهم.
وأما الحكم بن كيسان فأسلم
وأقام مع رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) بالمدينة فقُتل يوم بئر معونة شهيداً،
وأمّا عثمان بن عبد اللّه فرجع
إلى مكة ومات فيها كافراً،
وأمّا نوفل فضَرب بطن فرسه يوم
الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين،
فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما
جميعاً،
وقتله اللّه وحجب المشركون
جيفته بالثمن فقال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية) فهذا سبب نزول
قوله :
{
يَسَْئلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}
يعني توخياً،
سُمّي بذلك لتحريم القتال فيه
لعظم حرمته،
وكذلك كان يسمّى في الجاهلية،
تنزع الأسنّة وتفصل الالّ،
لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة
والنصال عند دخول رجب انطواءً على ترك القتال فيه،
وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع
فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه،
كما قيل : ليل نائم،
وسرٌّ كاتم.
يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة
قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إن رجب شهر اللّه ويدعى الأصمّ،
وكان أهل الجاهلية
إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها،
وكان الناس يأمنون
ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضاً حتى ينقضي).
{قِتَالٍ فِيهِ} خفضه على تكرير
(عن)،
تقديره : وهل قتال فيه وكذلك هي
في قراءة عبد اللّه ابن مسعود والربيع بن أنس
{قُلْ} يامحمد
{قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} عظيم ثم
(كلام) ثم قتال
{وَصَدٌّ
عَن سَبِيلِ اللّه} منع عن سبيل اللّه على
الابتداء وخبره أكبر،
وذلك حين منعوا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن البيت
{وَكُفْرُ بِهِ}
أي باللّه
{وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}
أي وبالمسجد
{وَإِخْرَاجُ
أَهْلِهِ}
أي أهل المسجد
{مِنْهُ
أَكْبَرُ} وأعظم وزراً وعقوبة
{عِندَ اللّه وَالْفِتْنَةُ}
أي الشرك أكبر من
القتل،
يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه
الآية كتب عبد اللّه بن
جحش الى مؤمني مكّة : إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيرّوهم أنتم
بالكفر وإخراج رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) من مكّة ومنعهم عن البيت.
ثم
قال :
{وَلا يَزَالُونَ}
يعني مشركي قريش
وهو فعل لا مفعول له مثل عسى
{يُقَاتِلُونَكُمْ} يا معشر المؤمنين
{حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ} يصدّوكم ويصرفوكم
{عَن
دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ} جزم بالنسق ولو كان جواباً لكان
(...)
{وَهُوَ
كَافِرٌ فَأُولَائِكَ حَبِطَتْ} بطلت
{أَعْمَالَهُمْ} حسناتهم
{فِي الدُّنْيَا
والآخرة} وأصل الحبط من الحباط
(وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط) وهو أن تنتفخ بطنه فيموت،
ثم سمّي الهلال حبطاً،
وقرأ الحسن حَبطت بفتح الباء في
جميع القرآن يحبط بكسر الباء
{أُولَائِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فقال أصحاب السريّة : يا رسول اللّه هل
(نؤثم) على رجبنا وهل نطمع
أن يكون سفرنا هذا غزواً؟
٢١٨
فأنزل اللّه تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم
{وَجَاهَدُوا} المشركين في نصرة
الدين
{فِي سَبِيلِ اللّه} في طاعة اللّه،
فجعلها جهاداً
{أُولَائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّه وَاللّه
غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
٢١٩
{يَسْئلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} نزلت في عمر بن
الخطاب
(رضي اللّه عنه) ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : يا رسول
اللّه أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل،
مسلبة للمال،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية
وجملة القول أن تحريم الخمر على
أقوال المفسرون والحُفّاظ مختلفة وبعضها متفقة. هي أن اللّه أنزل في الخمر أربع
آيات نزلت بمكة
{ومن ثمرات النخل
والأعناب تتخذون منه سكراً} وهو المسكر،
وكان المسلمون يشربونها وهي لهم
يومئذ حلال،
ونزلت في مسألة عمر ومعاذ
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
{قُلْ
فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا} فلمّا نزلت هذه
الآية قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) :
(إنّ ربكم تقدم في تحريم الخمر) فتركها قوم لقوله
{فِيهِمَآ
إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقالوا : لا حاجة لنا في
شيء فيه إثم كبير لقوله :
{وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ} وكانوا يتمتعون بمنافعها ويجتنبون آثامها إلى أن صنع عبد
الرحمن بن عوف طعاماً فدعا ناساً من أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأمامهم الخمر فشربوا وسكروا،
وحضرت صلاة المغرب فقدّموا
بعضهم ليصلّي بهم فقرأ
(قل يا
أيها الكافرون أعبد ما تعبدون) إلى آخر السورة
فحذف
{} فأنزل اللّه
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
حتى تعلموا ما تقولون} فحرّم المسكر في
أوقات الصلاة فقال عمر : إنّ اللّه يقارب في النهي عن شرب الخمرة،
فلا أراه إلاّ وسيحرّمها فلمّا
نزلت
(حرّم اللّه) تركها قوم وقالوا : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة.
وكان قوم يشربونها ويجلسون في
بيوتهم،
وكانوا يتركونها أوقات الصلاة،
ويشربونها في غير حين الصلاة
إلى أن شربها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول :
تحيّي بالسلامةِ أُم بكر
وهل لك بعد رهطك من سلام
ذريني اصطبخ بكراً فإني
ليت الموت يبعد عن خيام
وودّ بنو المغيرة لو فدوه
بألف من رجال أو سوام
كأنّي بالطويّ طويّ بدر
من الشيزي يكلل بالسنام
كأني بالطويّ طويّ بدر
من الفتيان والحلل الكرام
فبلغ ذلك رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
فخرج مسرعاً يجرّ رداءه حتى
انتهى إليه ورفع شيئاً كان بيده ليضربه،
فلمّا عاينه الرجل
قال : أعوذ
باللّه من غضب اللّه وغضب رسول اللّه،
واللّه لا أطعمها أبداً.
وكان من حمزة بن عبد المطلب ما
روى الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده
(عليهم السلام)
قال : كانت لي
شارف من نصيبي من المغنم ودفع إليَّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) نثاره من الخمس،
(واعدتُ رجلاً
صواغاً أن يرتحل معي فنأتي بأذخر أردت أن أبيعه) من الصواغين وأستعين بثمنه على الدخول بفاطمة وعرسها.
قال : فحملت شارفي عند حائط رجل من الأنصار ومضيت لأجمع الحبال
والغرائر والأقتاب وجئت وقد بقر بطن شارفي واجتبَّ أسنمتهما
قال : فلم أملك
عيني أن بكيت ثم قلت : من فعل هذا بشارفي؟
قالوا : عمّك حمزة فعله وهذا هو في البيت معه شرب،
عندهم قينة وحلفوا فقالت :
ألا يا حمزُ المشرف النواء
(وهنّ معقّلات
بالفناء)
زج السكين في اللبات منها
فضرجهن حمزة بالدماء
وأطعم من شراثحها كبابا
مهلوجة على رهج الصلاء
فأصلح من أطايبها طبيخاً
لشربك من قدير أو سواء
فأنت أبا عمارة المرجّى
لكشف الضرّ عنّا والبلاء
فقام الى شارفيك فقتلهما،
(قال علي : ) فجئت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) وهو في بيت أم سلمة معه مولاه
زيد
قال :
(ما جاء بك) فداك أبي وأمي يا عليّ،
قلت
(ما فعل عمّك) بشارفيَّ وخبّرته
الخبر،
فقام رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فلبس نعليه ورداءه ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد فسلّم وأستأذن ودخل
البيت وقال : يا حمزة ما
حملك على ما فعلت بشارفيّ ابن أخيك؟
فرفع رأسه وجعل ينظر إلى يديّ
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وإلى ساقيه،
فصوّب النظر إليه،
ثم
قال : ألستم وآباؤكم
عبيد لأبي،
فرجع رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) القهقرى وقال : إن غنمك وجمالك عليَّ
(فغرمهما) لي رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) .
فلما أصبح غدا حمزة على رسول
اللّه يعتذر فقال : مه يا عمّ
فقد سألت اللّه فعفا عنك.
قالوا : واتخذ عتبان بن مالك طعاماً فدعا رجالاً من المسلمين فيهم
سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير،
فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت
منهم،
ثم إنهم افتخروا عند عتبان
وانتسبوا وتناشدوا الأشعار،
فأنشد سعد قصيدة فيها هجو
الأنصار وفخر لقومه،
فقام رجل من الأنصار وأخذ لحيي
البعير فضرب به رأس سعد
(فشجّه
شجّةً)،
فانطلق سعد إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وشكا إليه الأنصاري فقال عمر
(رضي
اللّه عنه) : اللّهم بيّن لنا رأيك في الخمر بياناً وافياً،
فأنزل اللّه تحريم الخمر في
سورة المائدة
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى
{يَنتَهُونَ} وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر : انتهينا يا ربّ.
قال أنس : حرّمت ولم يكن يومئذ
للعرب عيش أعجب منها إليهم يوم حرّمت عليهم،
ولم يكن شيء أثقل عليهم من
تحريمها
قال : فأخرجنا
الحباب إلى الطريق فصببنا ما فيه،
فمنّا من كسر حبّه،
ومنّا من غسله بالماء والطين،
ولقد
(غدت) أزقة المدينة بعد
ذاك الحين كلّما مطرت استبان بها لون الخمر وفاحت ريحها.
فأمّا ماهية الخمر فاختلف
الفقهاء فيها
فقال بعضهم : هو خاص فيما اعتصر من العنبة والنخلة فغُلي بطبعه دون عمل النار فيه فإن
ما سوى ذلك ليس بخمر،
وهذا مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وأكثر أهل الرأي،
ثم اختلفوا في المطبوخ فقالوا : كل عصير
طبخ حتى يذهب ثلثاه فهو حلال إلاّ أنه يكره،
فإن طبخ حتى يذهب ثلثاه وبقي
ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلاّ أن المسكر منه حرام،
واحتجوا في ذلك بما روى أبو
كثير عن أبي هريرة
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) :
(الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة). واختلفوا في المطبوخ بالمشمش
(.......) روى نباتة عن سويد بن غفلة
قال : كتب عمر بن الخطاب
إلى بعض عماله أن رزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.
وعن ابن سيرين أن عبد اللّه بن
سويد الخطمي
قال : كتب إلينا
عمر بن الخطاب : أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين
ولكم واحد.
وعن أنس بن سيرين
قال : سمعت أنس
بن مالك يقول إن نوحاً ج نازعه الشيطان في عود الكرم فقال هذا : هذا لي،
وقال : هذا لي فاصطلحا
على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثاها.
ابن أُبيّ وأُبيّ عن داود
قال : سألت سعيد
بن المسيّب ما الرُّب الذي أحلّه عمر
(رضي
اللّه عنه)،
قال : الذي يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه.
وعن قيس بن أُبيّ حدّث عن موسى
الأموي أنه كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه.
وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن
المسيّب
قال : إذا طبخ
الطلاء على الثلث فلا بأس،
وبه قال المسوّر.
وقال الثعلبي : والذي عندي أن
هذه الأخبار وردت في ثلث غير مسكر. يدلّ عليه ما روى سويد بن نصير عن عبداللّه بن
عبد الملك بن الطفيل الجزري
قال : كتب إلينا عمر بن عبد العزيز : لا تشربوا من الطلاء حتى يذهب
ثلثاه ويبقى ثلثه،
كل مسكر حرام،
وقال قوم : إذا طبخ العصير أدنى طبخ فصار طلاء وهو قول إسماعيل بن علية
وجماعة من أهل العراق.
وروي عن عيسى بن إبراهيم أنه لا
يحرّم شيئاً من الأنبذة لا النيّ منها ولا المطبوخ إلاّ شراب واحد وهو عصير العنب
النيّ الشديد الذي لم يدخله
(ماء
وتغيّرات من) الخمر فقط.
واستدلّ بما روى ابن الأحوص عن
سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن سهل
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(اشربوا في الظروف ولا تسكروا) قال أبو عبد الرحمن السدّي الحديث منكر،
غلط فيه أبو الاحوص سلام بن
سليم،
لا نعلم أحداً كان يعوّل عليه
من أصحاب سماك،
وسماك أيضاً ليس بقوي،
وكان يقبل التلقين.
قال أحمد : قيل : كان أبو الأحوص
غلى في هذا الحديث. خالفه شريك في إسناده ولفظه،
رواه شريك عن سماك بن حرب عن
أبي بريدة عن أبيه أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) نهى عن الدّيّا والحنتم
والنقير والمزفت،
وأجمعوا أيضاً بما أسندوا إلى
سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة
قال
: اشربوا ولا تسكروا.
قال الإمام أبو عبد الرحمن هذا
غير ثابت،
وقرصافة لا ندري من هي،
والمشهور عن عائشة ما روى سويد
بن نصر عن عبد اللّه عن قدامة العامري أن جسرة بنت دجاجة العامرية حدّثتنا قالت :
سمعت عائشة سألها أياس عن النبيذ
قالوا : ننبذ الخمر غدوة ونشربه عشيّاً،
وننبذه عشيّاً ونشربه غدوة،
قالت : لا أُحلّ مسكراً وإن كان
خبزاً،
قالوا : قالته ثلاث مرات.
واعتلّوا بما روى هشيم عن ابن
شبرمة
قال : حدّثني
الثقة عن عبد اللّه بن شدّاد عن ابن عباس
قال : حرّمت الخمر منها،
قليلها وكثيرها،
والمسكر من كل شراب.
وهذا أولى بالصواب لما روى
سفيان عن أبي الجويرية الجرمي
قال : سألت ابن عباس عن الباذق
قال : ما أسكر فهو حرام،
وعن شعبة عن سلمة بن كميل
قال : سمعت أبا
الحكم يحدّث
قال : قال ابن
عباس : من سرّه أن يحرّم ما حرّم اللّه ورسوله فليحرِّم النبيذ.
واعتلّوا أيضاً بما أسندوه إلى
عبد الملك بن نافع
قال : رأيت ابن عمر رأيت رجلاً جاء الى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بقدح فيها نبيذ وهو عند الركن،
فدفع إليه القدح فرفعه إلى فيه
فوجده شديداً فردّه الى صاحبه،
فقال له رجل من القوم : يا رسول
اللّه أحرام هو؟
قال،
عليَّ بالرجل فأُتي به فأخذ منه
القدح،
ثم دعاهما فصبّه فيه ثم رفعه
إلى فيه فصبّه،
ثم دعاهما أيضاً فصبّه فيه ثم
قال : أما إذا
عملت فيكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء.
قال أبو عبد الرحمن : عبد الملك
بن رافع هو مشهور ولكن حدّثنيه وأخبرنا عن الزبير خلاف حكاية ما روى وهب بن هارون
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر
قال : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كل مسكر حرام،
وكل مسكر خمر).
وروى ابن سيرين عن ابن عمر
قال : المسكر
قليله وكثيره حرام،
وروى أبو عوانة عن زيد ابن عمر
قال : سألت ابن
عمر عن الأشربة فقال : اجتنب كلَّ شيء فيه شيء مسكر،
واحتجوا أيضاً بما أسندوه إلى
يحيى بن يمان عن سفيان عن منصور عن مخلد بن سعيد عن ابن مسعود
قال : عطش النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) حول الكعبة فاستسقى فأُتي بنبيذ من السقاية فشمّه وقطب وقال :
(عليّ بذنوب من زمزم) فصبّه عليه ثم شرب فقال رجل : أحرام هو يا رسول اللّه
قال : لا.
قال أبو عبد الرحمن : هذا خبر
ضعيف لأن يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب سفيان،
ويحيى بن يمان لا يحتج بحديثه،
لكثرة خطئهِ وسوء حفظه،
وعن زيد بن واقد عن خالد بن
الحسين
قال : سمعت أبا
هريرة يقول : علمت أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) كان يصوم في بعض الأيام التي
كان يصومها،
فتحيّنت فطره بنبيذ صنعته في
دباء،
فلمّا كان المساء جئته أحملها
إليه فقلت : يا رسول اللّه إني علمت أنك تصوم في هذا اليوم فتحيّنت فطرك بهذا
النبيذ فقال : ادنُ مني
يا أبا هريرة فرفعته إليه فإذا هو
(ينش) فقال :
(خذ هذه
واضرب بها الحائط،
فإنّ هذا شراب من لا
يؤمن باللّه واليوم الآخر).
واحتجّوا أيضاً بما أسندوه إلى
سفيان عن يحيى بن سعيد
قال : سمعت سعيد بن المسيّب يقول : تلقّت ثقيف عمر بشراب فدعا به،
فلمّا قرّبه إلى فيه كرهه فخلطه
بالماء فقال : هكذا
فافعلوا. واحتجّوا بما أسندوه إلى أبي رافع أن عمر بن الخطاب
قال : إذا خشيتم
من نبيذ لشدّته فاكسره.
واحتجوا بما قاله بعض أصحابنا
وهو عبد اللّه بن المبارك معنى أكسره بالماء من قبل أن يشتدّ،
ودليل هذا التأويل ما روى ابن
شهاب هو سفيان بن يزيد أن عمر خرج عليهم فقال : إني وجدت من فلان
ريح الشراب فزعم أنه شرب الطلا فإني سائل عما يشرب فإن كان مسكراً جلدته فجلد عمر
الحدّ تامّاً.
وروى إبراهيم عن ابن سيرين
قال : يعد عصيراً
ممن متّخذه طلا ولا يتخذه خمراً قال أبو سعيد الطلا الذي قد طبخ حتى ذهب ثلثاه
وبقي ثلثه،
سمّي بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل
في ثخنه وسواده.
قال عبيد بن الابرص :
هي الخمرتكنى الطلاء
كما الذئب يكنى أبا جعدة
قال الثعلبي : الطلاء الذي ورد
فيه الرخصة إنما هو الرُّبّ فإنه إذا طبخ حتى يرجع إلى الثلث فقد ذهب سكره وشرّه
وخلا شيطانه.
واحتجوا أيضاً بما روى هشيم عن
المغيرة عن إبراهيم أنه أُهدي له بطيخ خاثر فكان تبيّنه ويلغي فيه المسكر.
وعن مغيرة عن أبي معشر عن
إبراهيم
قال : لا بأس
بنبيذ البطيخ.
عن أبي أسامة
قال : سمعت ابن
المبارك يقول : ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيح إلاّ عن إبراهيم.
حماد بن سلمة عن عمر عن أنس
قال : كان لأُم
سلمة قدح فقالت : سقيت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) كل الشراب : الماء والعسل
واللبن والنبيذ.
وعن ابن شبرمة
قال : قال طلحة
بن مصرف لأهل الكوفة في النبيذ فقال : يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير،
قال : وكان المقداد والزبير يسقيان اللبن في العسل فقيل لطلحة :
ألا نسقيهم النبيذ؟
قال : إني أكره أن يسكر مسلم في سنتي.
وعن سفيان
قال : ذُكر قول
طلحة عند أبي إسحاق في النبيذ فقال ابن إسحاق : قد سقيته أصحاب عليّ وأصحاب عبد
اللّه في الخوافي قبل أن يولد طلحة،
وعن ابن شبرمة
قال : رحم اللّه
إبراهيم شدّد الناس في النبيذ ورخّص فيه.
واحتجّوا أيضاً بما أسندوه إلى
عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بينما هو يسير إذ حلّ بقوم فسمع لهم لغطاً فقال : ما هذا الصوت؟
قالوا : يا نبيّ اللّه لهم شراب يشربونه،
فبعث النبي إليهم فدعاهم فقال : في
أي شيء تنبذون؟
قالوا : ننبذ في النقير وفي الدباء وليس لنا ظروف،
فقال : لا تشربوا إلاّ ما
أوكيتم عليه،
قال : فلبث بذلك ما شاء اللّه أن يلبث،
فرجع إليهم فإذا هم قد أصابهم
وباء وصفروا فقال : ما لي
أراكم قد هلكتم؟
قالوا : يا نبيّ اللّه أرضنا وبيئة وحرّمتَ علينا إلاّ ما أوكينا
عليه
قال : اشربوا،
وكل مسكر حرام.
قالوا : أراد بهذا الخمر الذي يحصل منه السكر،
لأن التنبّذ ذلك الطرب والنشاط
ولا يحصلان إلاّ عن شراب مسكر.
أبو الزبير عن جابر أن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) كان ينبذ له في
(قدر من
عفاره).
قال الثعلبي : ويحتمل أنّ لهذه
الأخبار وأمثالها معنيين : أحدهما أنها كانت قبل تحريم الخمر،
والمعنى الآخر وهو أقربهما إلى
الصواب أنهم أرادوا بالنبيذ الماء الذي ألقي فيه التمر أو الزبيب حتى أخذ من قوته
وحلاوته قبل أن يشتدّ ويُسكر،
يدلّ عليه ما روي عن ابن عباس
أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يصنع له النبيذ فيشربه يومه والغد وبعد الغد.
وروى الأعمش عن يحيى بن أبي
عمرو عن ابن عباس
قال : كان النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) يُنبذ له نبيذ الزبيب من الليل
ويُجعل في سقاء فيشربه يومه ذلك والغد وبعد الغد،
فإذا كان من آخر الآنية سقاه أو
شربه فإن أصبح منه شيء أراقه.
وعن عبد اللّه بن الديلمي عن
أبيه فيروز
قال : قدمت على
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقلت : يا رسول اللّه إنّا أصحاب كرم وقد أنزل اللّه تحريم الخمر،
فماذا نصنع؟
قال : تتخذونه زبيباً،
قلت : فنصنع بالزبيب ماذا؟
قال : تنقعونه على غدائكم،
وتشربونه على عشائكم،
وتنقعونه على عشائكم،
وتشربونه على غدائكم،
قلت : أفلا نؤخّره حتى يشتدّ؟
قال : فلا تجعلوه في السلال واجعلوه في الشنان،
فإنه إن تأخّر صار خمراً.
وعن نافع عن ابن عمر أنه كان
يُنبذ له في سقاء للزبيب غدوة فيشربه من الليل،
ويُنبذ له عشوة فيشربه غدوة،
وكان يغسل الأسقية ولا يجعل
فيها نرديّاً ولا شيئاً،
قال نافع : وكنّا نشربه مثل
العسل.
وعن بسام
قال : سألت أبا
جعفر عن النبيذ
قال : كان عليّ بن الحسين يُنبذ له من الليل فيشربه غدوة،
ويُنبذ له غدوة فيشربه من
الليل.
وعن عبد اللّه
قال : سمعت سفيان
وسئل عن النبيذ
قال : أنبذ عشاءً وأشربه غدوة.
فهذه الأخبار تدلّ على أنه نقيع
الزبيب والتمر قبل أن يشتد،
وباللّه التوفيق.
وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأكثر أهل الآثار : إن الخمر كل شراب مسكر سواء
كان عصير العنب ما أُريد منها،
مطبوخاً كان أو نيّاً وكل شراب
مسكر فهو حرام قليله وكثيره،
وعلى شاربه الحدّ إلاّ أن
يتناول المطبوخ
(بعد ذهاب ثلثه) فإنه لا يحدّ وشهادته لا تُرد،
والذي يدلّ على حجّة هذا المذهب
من اللغة أن الخمر أصله الستر،
ويقال لكل شيء ستر شيئاً من شجر
أو حجر أو غيرهما خمر،
وقال : وخمر فلان في خمار
الناس،
ومنه خمار المرأة وخمرة
السجادة،
والخمر سُميّ بذلك لأنه يستر
العقل،
يدلّ عليه ما روى الشعبي عن ابن
عمر
قال : خطب عمر فقال : إن الخمر
نزل تحريمها،
وهي من خمسة أشياء : العنب
والتمر والحنطة والشعير والعسل،
والخمر ما خامر العقل. وقال أنس
بن مالك : سُمّيت خمراً لأنهم كانوا يَدَعونها في الدّنان حتى تختمر وتتغيّر.
وقال سعيد بن المسيّب : إنّما
سُمّيت الخمر لأنها تُركتْ حتى صفا صفورها ورسب كدرها.
وقال أنس : لقد حُرّمت الخمر
وإنّما عامة خمورهم يومئذ الفضيخ
قال : وما كان بالمدينة يصنعون الخمر وما عندهم من العنب ما يتخذون
وإنما نسمع الخمور في بلاد الأعاجم وكنا نشرب الفضيخ من التمر والبسر،
والفضيخ ما افتضخ من التمر
والبسر من غير أن تمسّه النار.
وفيه روي عن ابن عمر أنه
قال : ليس
بالفضيخ ولكنه الفضوخ،
ودليلهم من السنّة ما روى نافع
عن ابن عمر أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(كل مسكر خمر،
وكل خمر مسكر حرام).
سالم بن عبد اللّه عن أبيه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(كل مسكر خمر وما أسكر كثيره فقليله حرام).
عن أبي عثمان عمرو بن سالم
الأنصاري عن القاسم عن عائشة عن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال : ما أسكر
الغرق منه فملء كفك منه حرام والغرق إناء يحمل ستة عشر رطلاً.
وعن أبي الغصن الملقب بحجى
قال : قال لي :
هشام بن عروة : هل تشرب النبيذ؟
قلت نعم واللّه إني لأشربه
قال : إن أبي
حدّثني عن عائشة أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(كل مسكر حرام أوّله وآخره).
وقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(إنّ من التمر لخمراً،
وإنّ من العنب
لخمراً،
وإنّ من الزبيب
لخمراً،
وإنّ من العسل
لخمراً،
وإنّ من الحنطة
لخمراً،
وإنّ من الشعير
لخمراً،
وإنّ من الذرة
لخمراً وأنا أنهاكم عن كل مسكر).
وعن ابن سيرين
قال : جاء رجل
إلى ابن عمر فقال : إنّ أهلنا
ينبذون لنا شراباً عشاءً فاذا أصبحنا شربناه. فقال : أنهاك عن المسكر
قليله وكثيره واعبد اللّه عزّ وجلّ،
أنا أنهاك عن المسكر قليله
وكثيره وأعبد اللّه عزّوجل،
عليك أن أهل خيبر ينبذون شراباً
لهم كذا وكذا يسمّونه كذا وكذا،
وأن أبيك ينبذ شراباً من كذا
وكذا يسمّونه كذا وكذا وهي الخمر،
حتى عدّ له أربعة أشربة آخرها
العسل.
وعن عكرمة
قال : دخل النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) على بعض أزواجه وقد نبذوا العصير لهم في كوز فأراقه وكسر الكوز.
روى عبادة بن الصامت أن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ليستحلّنّ ناس من أُمتي الخمر باسم يسمّونها
إيّاه).
ويُروى عنه أنه قال
(صلى اللّه عليه وسلم)
(أما الخمر لم تحرّم لإسمها إنّما حرّمت لما فيها،
وكل شراب عاقبته
الخمر فهو حرام).
وحكي أنّ رجلاً من حكماء العرب
قيل له : لم لا تشرب النبيذ؟
فقال : اللّه منحني عقلي
صحيحاً،
فكيف أدخل عليه ما يفسده.
{وَالْمَيْسِرِ}
يعني القمار قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يقامره الرجل
على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
والميسر مفعل من قول القائل :
يسر هذا الشيء إذا وجب فهو ييسر يسراً وميسراً،
والياسرالرامي بقداح وجب ذلك أو
مباحه أو غيرهما،
ثم قيل للقمار : ميسر،
وللمقامر : ياسر ويسر قال
النابغة :
أو ياسر ذهب القداح بوفره
أسف نأكله الصديق مخلع
وقال الآخر :
فبتّ كأنني يسر غبين
يقلب بعدما اختلع القداحا
وقال مقاتل : سمّي ميسراً لأنهم
كانوا يقولون : يسر هو لنا ثمن الجزور،
وكان أصل اليسر في الجزور،
وذلك أنّ أهل الثروة من العرب
كانوا يشترون جزوراً فيحزّونها ويجزونها اجتزاءً.
واختلفوا في عدد الأجزاء فقال
أبو عمرو : عشرة وقال الأصمعي : إنما هي عشرون ثم يضمّون عليها عشرة قداح ويقال : منه
الأزلام والأقلام سبعة منها لها أنصباء هي : الفذ وله نصيب واحدة،
والتّوأم وله نصيبان،
والرفت وله ثلاثة،
والجلس وله أربعة،
والنافس وله خمسة،
والمسيل وله ستة،
والمغلّي وله سبعة،
وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي
النسيج والسفنج والوغد.
ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى
الربابة،
قال أبو ذؤيب :
وكأنّهنّ ربابة وكأنّه
يسر يفيض على القداح ويصدع
ويضعون الربابة على يد رجل عدل
عندهم ويسمى المجيل والمفيض،
ثم يجيلها ويخرج قدحاً منها
باسم رجل منهم،
فأيّهم خرج سهمه أخذ نصيبه على
قدر ما يخرج،
فانْ خرج له واحد من هذه
الثلاثة التي لا أنصباء لها فاختلفوا فيه فكل منهم كان لا يعهد شيئاً ويغرّم ثمن
الجزور كلّه.
وقال بعضهم : لا يأخذ ولا يغرّم،
ويكون ذلك القداح لغواً فيعاد
سهمه ثانياً فهؤلاء الياسرون والايسار ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا
يأكلون منه شيئاً،
وكانوا يفتخرون بذلك ويذمّون من
لم يفعل ذلك منهم ويسمّونه البرم،
قال متمم بن نويرة :
ولا برماً تهدى النساء لعرسه
إذا القشع في برد الشتاء تقعقعا
فأصل هذا القمار الذي كانت
العرب تفعله وإنما نهى اللّه تعالى في هذه
الآية عن أنواع القمار
كلّها.
ليث عن طاوس ومجاهد وعطاء
قالوا : كل شيء فيه
قمار فهو الميسر حتى لعب الصبيان بالعود والكعاب.
عن أبي الأحوص عن عبد اللّه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(إياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين فإنّهما من
ميسر العجم).
وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن
عليًّا كرّم اللّه وجهه قال في النرد والشطرنج : هي من الميسر.
وعن القاسم بن محمد أنه
قال : كل شيء
ألهى عن ذكر اللّه وعن الصلاة فهو الميسر.
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ووزر كبير من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور،
وزوال العقل والمنع من الصلاة
واستحلال مال الغير بغير حق.
قرأ أهل الكوفة إلاّ عاصم :
كثير بالثاء،
وقرأ الباقون بالباء واختاره
أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : وإثمهما أكبر من نفعهما،
وقوله : حوباً كبيراً
{وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ} وهي ما كانوا يصيبونها في الخمر من التجارة واللّذة عند
شربهما يقول الأعشى :
لنا من صحاها خبث نفس وكابة
وذكرى هموم ما تفك أذاتها
وعند العشاء طيب نفس ولذّة
ومال كثير عدّة نشواتها
ومنفعة الميسر ما يصاب من
القمار ويرتفق به الفقراء.
{وَإِثْمُهُمَآ
أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قال المفسّرون :
إثم الخمر هو أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس،
وإثم الميسر أن يقامر الرجل
فيمنع الحق ويظلم.
وقال الضحّاك والربيع : المنافع
قبل التحريم،
والإثم بعد التحريم.
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ} وذلك أنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) حثّهم على الصدقة ورغّبهم فيها من غير عزم
قالوا : يا رسول اللّه
ماذا ننفق؟
وعلى من نتصدق؟
فأنزل اللّه تعالى
{ يَسَْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}
أي شيء ينفقون وللاستفهام
{قُلِ الْعَفْوَ} قرأ الحسن
وقتادة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو
{قُلِ
الْعَفْوَ} بالرفع،
واختاره محمد بن السدّي على
معنى : الذي ينفقون هو العفو،
دليله
قوله :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ
قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} وقرأ الآخرون
بالنصب واختاره أبو عبيد وأبو حاتم : قل ينفقون العفو.
واختلفوا في معنى العفو،
فقال عبد اللّه بن عمرو ومحمد
بن كعب وقتادة وعطاء والسدّي وابن أبي ليلى : هو ما فضل من المال عن العيال،
وهي رواية مقسم عن ابن عباس.
الحسن : هو أن لا تجهد مالك في
النفقة ثم تقعد تسأل الناس.
الوالبي عن ابن عباس : ما لا
يتبيّن في أموالكم.
مجاهد : صدقة عن تطهير غني.
عمرو بن دينار وعطاء : الوسط من
النفقة ما لم يكن إسرافاً ولا إقتاراً. الضحّاك : الطّاقة. العوفي عن ابن عباس :
ما اتوك به من شيء قليلٌ أو كثير فاقبله منهم.
طاووس وعطاء الخراساني : سمعنا
(بشراً)
قال : العفو
اليسر من كل شيء.
الربيع : العفو الطيب،
يقول : أفضل مالك هو النفقة.
وكلها متقاربة في المعنى،
ومعنى العفو في اللغة الزيادة
والكثرة
قال اللّه :
{حَتَّى عَفَوا}
أي كثروا،
وقال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(أعفوا اللّحى).
قال الشاعر :
ولكنا يعضّ السيف منا
بأسوق عافيات الشحم كوم
أي كثيرات الشحوم،
والعفو ما يغمض الانسان فيه
فيأخذه أو يعطيه سهلاً بلا كلف من قول العرب : عفا
أي نال سهلاً من غير
إكراه،
ونظير هذه
الآية من الأخبار
ما روى أبو هريرة أن رجلاً
قال : يا رسول اللّه عندي خير ،
قال :
(أنفقه
على نفسك)
قال : عندي آخر ،
قال :
(انفقه
على أهلك)
قال : عندي آخر ،
قال :
(أنفقه
على ولدك )
قال : عندي آخر ،
قال :
(أنفقه
على والديك) قال عندي آخر،
قال :
( أنفقه
على قرابتك )
قال : عندي آخر
قال :
(أنت
أبصر).
وروى محمود بن سهل عن عامر بن
عبد اللّه
قال : أتى رسول
اللّه رجل ببيضة من ذهب
(استلّها) من بعض المعادن فقال
: يا رسول اللّه خذها مني صدقة،
فواللّه ما أمسيت أملك غيرها،
فأعرض عنه،
فأتاه من ركنه الأيمن فقال له
مثل ذلك فأعرض عنه. فأتاه من ركنه الأيسر فقال له مثل ذلك فأعرض عنه،
ثم قال له مثل ذلك فقال مغضباً
: هاتها فأخذها منه وحذفه بها حذفة لو أصابه لفجّه أو عقره،
ثم
قال : هل يأتي أحدكم بما
يملكه ليتصدق به ويجلس يكفّف الناس،
أفضل الناس ما كان عن طهر غنيّ،
وليبدأ أحدكم بمن يعول.
قال الكلبي : فكان الرجل بعد
نزول هذه
الآية إذا كان له
مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله نفقة سنة أمسكه وتصدّق
بسائره،
وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما
يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدّق بالباقي،
حتى نزلت آية الزكاة المفروضة
فنسخت هذه
الآية وكل صدقة
أمروا بها قبل نزول الزكاة.
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللّه} قال الزجاج : إنما
قال : كذلك على الواحد
وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها القبيل كأنّه
قال : أيّها القبيل
يبيّن اللّه لكم،
وجائز أن يكون خطاباً للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ؛ لأن خطابه مشتمل على خطاب أُمّته كقوله
{يا أيّها النبيّ إذا طلّقتم النساء} وقال المفضل بن سلمة : معنى
الآية
{ كذلك يُبَيِّنُ اللّه لَكُمُ ايَاتِ} في النفقة
٢٢٠
{لعلكم تتفكرون في
الدّنيا والآخرة} فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم
في معاش الدنيا،
وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في
العقبى.
وقال أكثر المفسّرين : معناها :
يبيّن اللّه لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلّكم تتفكرون في زوال الدنيا
وفنائها فتزهدوا فيها،
وفي إقبال الآخرة وذهابها
فترغبوا فيها.
{فِى الدُّنْيَا
والآخرة} قال الضحّاك والسدّي وابن عباس في رواية عطية : كان العرب في
الجاهلية يعظّمون شأن اليتيم ويشدّدون في أمره حتى كانوا لا يؤاكلونه،
ولا يركبون له دابّة،
ولا يستخدمون له خادماً،
وكانوا يتشاءمون بملامسة
أموالهم،
فلمّا جاء الاسلام سألوا عن ذلك
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه
الآية.
وقال قتادة والربيع وابن عباس
في رواية سعيد بن جبير وعلي بن أبي طلحة : لمّا نزل في أمر اليتامى
{ولاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى
هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
وقوله
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْمًا} اعتزلوا أموال اليتامى وعزلوا طعامهم من طعامهم،
واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء
حتى كان يُصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد واشتدّ
ذلك عليهم،
وسألوا عنه رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت
{فِى الدُّنْيَا
والآخرة} .
{قُلْ إِصْلاحٌ
لَّهُمْ خَيْرٌ}
وقرأ طاووس : قلْ إصلاح إليهم
خير بمعنى الاصلاح لأموالهم من غير أُجرة. ومن غير عوض عنهم خير وأعظم أجراً.
{وَإِن
تُخَالِطُوهُمْ} فتشاركوهم في أموالهم
وتخالطوها بأموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمكم ودوابّكم،
فتصيبوا من أموالهم عوضاً عن
قيامكم بأُمورهم وتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم
{فَإِخْوَانُكُمْ}
أي فهم إخوانكم،
وقرأ أبو مجلز : فإخوانكم
نصيباً
أي فخالطوا إخوانكم
أو فأخوانكم تخالطون والإخوان يعين بعضهم بعضاً ونصب أعينهم.
يقال : بعض على وجه
الاصلاح والرضا قالت عائشة : إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغرة حتى أخلط
طعامه بطعامي وشرابه بشرابي.
ثم
قال :
{وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} لها فاتقوا اللّه في مال اليتامى،
ولا تجعلوا مخالفتكم إيّاهم
ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق
{وَلَوْ شَآءَ اللّه عْنَتَكُمْ} لضيّق عليكم وآثمكم في ظلمكم إيّاهم قال ابن عباس : ولو شاء اللّه لجعل
ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً.
وأصل العنت الشدّة والمشقّة يقال : عقبه عنوت
أي شاقه كؤود،
وقال الزجاج : أصل العنت أن
يحدث في رِجل البعير كسر بعد جبر حتى لا يمكنه أن يمشي. قال القطامي :
فماهمُ صالحوا من ينتقى عنتي
ولا همُ كدّروا الخير الذي
فعلوا
٢٢١
{ولا تنكحوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
الآية نزلت في
عمّار بن أبي مرثد الغنوي.
وقال مقاتل : هو أبو مرثد
الغنوي واسمه أيمن،
وقال عطاء : هو أبو مرثد عمّار
بن الحصين،
وكان شجاعاً قوياً،
فبعثه رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سرًّا،
فلمّا قدمها سمعت به امرأة
مشركة يقال لها عناق،
وكانت خليلته في الجاهلية فأتته
قالت : يا مرثد ألا تخلو؟
فقال لها : ويحك يا عناق إنّ
الاسلام قد حال بيننا وبين ذلك،
فقالت : فهل لك أن تتزوّج بي فقال : نعم ولكن
أرجع إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) فأستأمره ثم أتزوّجك،
فقالت : أبيّ تتبرم،
ثم استغاثت عليه فضربوه ضرباً
شديداً ثم خلّوا سبيله،
فلمّا قضى حاجته بمكة وانصرف
إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) أعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال : يا رسول
اللّه أتحلّ لي أن أتزوجها؟
فأنزل اللّه تعالى
{ولا تنكحوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
أي لا تتزوجوا منهن حتى يؤمنّ.
قال المفضل : أصل النكاح
الجماع،
ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد نكاح،
كما قيل : عذرة وأصلها فناء
الدار لالقائهم إيّاه بها،
ولذبيحة الصبي عقيقة،
وأصلها الشعر الذي يولد للصبي،
وهو علّة لذبحهم إيّاها عند
جلّهم،
ونحوها كثير،
فحرّم اللّه نكاح المشركات
عقداً ووطئاً،
ثم استثنى الحرائر الكتابيات فقال :
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} .
ثم
قال :
{ولأمة مشركة ولو أعجبتكم} بجمالها ومالها،
نزلت في خنساء وكانت سوداء كانت
لحذيفه بن اليمان فقال : يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل
اللّه عزّوجل ذكرك في كتابه فأعتقها حذيفة وتزوجها.
وقال السدّيّ : نزلت في عبد
اللّه بن رواحة وكانت له أمة سوداء فغضب عليها وآذاها،
ثم فزع إلى النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) وأخبره بذلك،
فقال له النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) وما هو يا أبا عبد اللّه
قال : هي تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وإنك رسوله وتصوم شهر رمضان
وتحسن الوضوء وتصلّي فقال : هذه
(مؤمنة)،
قال عبد اللّه : فوالّذي بعثك
بالحق لأُعتقنّها ولأتزوجنها،
ففعل وطعن عليه ناس من
المسلمين،
قالوا : أتنكح أمه؟
وعرضوا عليه حرّة مشركة،
وكانوا يرغبون في نكاح المشركات
رجاء إسلامهنّ،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
ثم
قال :
{ولا تنكحوا} ولا تُزوّجوا
{الْمُشْرِكِينَ
حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ} بماله وحسن حاله.
وعن مروان بن محمد
قال : سألت مالك
بن أنس عن تزويج العبد فقال :
{وَلَعَبْدٌ
مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} .
{أُولَائِكَ
يَدْعُونَ}
يعني المشركين إلى النار
أي إلى الحال الموجبة
للنار
{ولا تنكحوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
وَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} أوامره ونواهيه
{لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتّعظون.
٢٢٢
{وَيَسْ َلُونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ}
الآية عطاء بن السائب عن
سعد بشير عن ابن عباس ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
ما سألوا النبي عن ثلاث عشرة
مسألة حتى
(نزل ذكرهنّ) في القرآن :
{
يَسَْئلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}
{ يَسَْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ
أَنفَقْتُم}
{
يَسَْئلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ}
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ اهِلَّةِ}
{
يَسَْئلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
{يسألونك عن اليتامى}
{وَيَسْ َلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}
{
يَسَْئلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَ اهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِندَ رَبِّي}
{وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}
{ يَسَْئلُونَكَ عَنِ الأنفال}
{يسألونك
عن الروح}
{وَيَسْ
َلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ}
{وَيَسْ َلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} .
قال المفسرون : كانت العرب في
الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت ولم
يجالسوها على فراش كفعل المجوس واليهود.
فسأل أبو الدحداح ثابت بن
الدحداح رسول اللّه عن ذلك وقال : يا رسول اللّه كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟
فأنزل اللّه
{وَيَسْ َلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}
أي الحيض،
وهو مصدر قولك حاضت المرأة تحيض
حيضاً ومحيضاً،
مثل السير والمسير،
والعيش والمعيش،
والكيل والمكيل. وأصل الحيض
الانفجار يقال : حاضت
الثمرة إذا سال منها شيء كالدم.
{قُلْ هُوَ أَذًى}
أي قذر،
قاله قتادة والسّدّي،
وقال مجاهد والكلبي : دم،
والأذى ما يعمّ ويكره من شيء
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ} اعلم إنّ الحيض يمنع من تسعة أشياء : من الصلاة جوازاً
ووجوباً ومن الصوم جوازاً ثم يلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلاة.
عاصم الأحول عن معادة العدوية
أن إمرأة سألت عائشة فقالت : الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت لها :
أحروريّة أنت؟
فقالت : ليست بحروريّة ولكني
أسأل،
فقالت : كان يصيبنا ذلك على عهد
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فنؤمر بقضاء الصوم،
ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
عياض عن أبي سعيد
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) : ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداهنّ،
فقلن له : وما نقصان عقلنا
وديننا يا رسول اللّه؟
قال : أليس شهادة المرأة على مثل نصف شهادة الرجل فذاك من نقصان
عقلها؟
أوليس إذا حاضت المرأة لم تصلِّ
ولم تصمْ؟
فقلن بلى
قال : فذلك من
نقصان دينها.
وتمنع أيضاً من قراءة القرآن
وقد رخص فيها مالك بعض الرخصة إذا طالت المدّة احترازاً من نسيان القرآن،
والفقهاء على خلافه،
وتمنع من مسّ المصحف،
ودخول المسجد والاعتكاف فيه،
ومن الطواف بالبيت ومن الاحتساب
بالعدة ومن الوطء
قال اللّه تعالى :
{فَاعْتَزِلُوا
النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ} فلمّا نزلت هذه
الآية عمد
المسلمون الى النساء الحيّض فأخرجوهنّ من البيوت واعتزلوهنّ فاذا اغتسلنّ ردّوهن
الى البيت،
فقدم بعض من أعراب المدينة
فشكوا عزل الحيض معهم وقالوا : يا رسول اللّه إنّ البرد شديد والثياب قليلة فإنْ آثرناهنّ
بالثياب حال بنا وأهل البيت برد،
وإن آثرتا بالثياب هلكت الحيض،
وليس كلنا يجد سعة لذلك فيوسع
عليهم جميعاً،
فقال لهم رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) : إنّما أُمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن،
ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت
كفعل الأعاجم،
وقرأ عليهم هذه
الآية.
الناصري عن سعيد بن المسّيب عن
أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(من وطئ امرأته وهي حائض فقضى منهما ولد فأصابه
جذام فلا يلومنّ إلاّ نفسه،
ومَنِ احتجم يوم
السبت والأربعاء فأصابه ضرر واضح فلا يلومنّ إلاّ نفسه).
وإنْ جامعها أثِمَ ولزمته
الكفارة،
وهي ما روى ابن أبي المخارق عن
مقسم عن ابن عباس عن النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) أنّ رجلا جامع امرأته وهي حائض
قال : إن كان
دماً عبيطاً فليتصدّق بدينار،
وإن كان صفرة فنصف دينار.
ولا بأس باستخدام الحائض
ومباشرة بدنها إذا كانت مؤتزرة وبالاستمتاع بها فوق الإزار.
قيل لمسروق : ما يحلّ للرجل من
امرأته إذا كانت حائضاً؟
قال : كل شيء إلاّ الجماع.
وعن ربيعة بن عبد الرحمن أنّ
عائشة كانت مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) مضطجعة في ثوب واحد وأنها وثبت
وثبة شديدة فقال لها رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) :
(ما لكِ لعلّك نفستِ يعني الحيضة قالت : نعم،
قال : شدّي عليك
إزارك ثم عودي لمضجعك).
معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى
عن أبي سلمة أنّ زينب بنت أبي سلمة حدّثت أن أم سلمة حدّثتها قالت : بينا أنا
مضطجعة مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) في الخميلة إذ حضت فانسللت
فأخذت ثياب حيضتي،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) : أنفست؟
قلت : نعم،
فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة.
عن يزيدة مولاة ميمونة زوج
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) عن ميمونة قالت : كان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ إلى أنصاف
الفخذين أو الركبتين.
إبراهيم عن الأسود عن عائشة
قالت : كنت أغتسل أنا ورسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) من إناء واحد،
ونحن جنبان وكنت أُفلي رأس رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وهو معتكف في المسجد وأنا حائض،
وكان يأمرني إذا كنت حائضاً أن
أتّزر ثم يباشرني.
ثابت بن عبيدة عن القاسم عن
عائشة أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال : ناوليني الخمرة فقالت : إني حائض فقال :
(إنّ حيضتك ليست في يدك).
وعن شريح
قال : قيل لعائشة
: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟
قالت : نعم،
كان رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يدعوني فآكل معه وأنا حائض،
وكان يأخذ العرق فيقسم عليّ فيه
فأعُرّق منه،
ثم أضعه فيأخذ فيعرّق منه ويضع
فمه حيث وضعت فمي من العرق ويدعو بالشراب فيقسم عليّ قبله أن أشرب منه فآخذه وأشرب
منه،
ثم أضعه فيأخذه ويشرب منه ويضع
فمه حيث وضعت فمي من القدح.
فدلّت هذه الأخبار على أنّ
المراد بالاعتزال عن الحيض جماعهنّ،
وذلك أن المجوس واليهود كانوا
يجتنبون الحيّض في كل شيء،
وكان النصارى يجامعوهن ولا
يبالون بالحيض،
فأنزل اللّه تعالى بالاقتصاد
بين هذين الأمرين،
وخير الأمور أوسطها.
ثابت عن أنس
قال : أنزل اللّه
عزّ وجلّ :
{يسألونك عن الحيض}
الآية فقال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) : افعلوا كل شيء إلاّ الجماع،
فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد
هذا الرجل،
لم يدعْ من أمرنا شيئاً إلاّ
خالفنا فيه،
فجاء أسد بن حصين وعباد بن شبر
إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) فقالا : يا رسول اللّه إنّ اليهود قالت كذا وكذا،
أفلا نجامعهنّ؟
فتغيّر وجه رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
فظنّا أن قد وجد عليهما،
فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن
إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) ،
فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا
أن لم يجد عليهما.
{وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ}
يعني لا تجامعوهنّ،
{حَتَّى يَطْهُرْنَ} قرأ ابن محيص والأعمش وعاصم وخمرويه والكسائي يطّهّرن بتشديد
الطاء والهاء ومعناه يغتسلن،
يدلّ عليه قراءة عبد اللّه حتى
يتطهرنّ بالتاء على الأصل،
وقرأ الباقون
{يَطْهُرْنَ} مخففاً ومعناه
{حَتَّى
يَطْهُرْنَ} من حيضهنّ وينقطع الدم.
واختلف الفقهاء في الحائض متى
يحلّ وطؤها،
فقال
أبو حنيفة وصاحباه : إذا
حاضت المرأة بعشرة أيام حلّ وطؤها دون أن تغتسل،
فإن طهرت لما دون العشرة لم
يحلّ وطؤها إلاّ بإحدى ثلاث : قلت أن تغتسل أو يمضي بها أقرب وقت الصلاة،
فيحكم لها بذلك حكم الطاهرات في
وجوب الصلاة في زمنها أو تيمماً عند عدم الماء.
مجاهد وطاوس وعطاء : إذا طهرت
الحائض من الدم وأخذ زوجها شبق،
فإن غسلت فرجها وتوضأت ثم أتاها
جاز.
وقال
الشافعي : لا يحلّ وطء
الحائض إلاّ يحين انقطاع الدم والاغتسال،
وهو قول سالم ابن عبد اللّه
وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وابن شهاب والليث بن سعد وزفر وقال الحسن البصري
: إذا وطئ الرجل امرأته بعد إنقطاع الدم قبل أن تغتسل فعليه من الكفارة مثل ما على
من يطأ الحائض،
فمن قرأ
{حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد فهو حجّة للمبيحين،
والدليل على أنّ وطأها لا يجوز
ما لم تغتسل أن اللّه عزّوجل علّق جواز وطئها بشرطين فلا تحل قبل حصولهما،
وهما :
قوله عزّوجل
{حَتَّى يَطْهُرْنَ}
وقوله
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}
أي اغتسلن دليله
قوله
{وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} ولا يجهد الانسان على ما لا صنع له فيه،
والاغتسال فعلها وانقطاع الدم
ليس من فعلها،
ويدلّ عليه أيضاً
قوله في النساء
والمائدة
{وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وأطّهر وتطّهر واحد وهو الاغتسال
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللّه}
أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه وهو الفرج،
قاله مجاهد وإبراهيم وقتادة
وعكرمة.
الوالبي عن ابن عباس يقول :
وطأهنّ في الفرج،
ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل
شيئاً من ذلك فقد اعتدى.
الربيع بن عبيد : نهيتم عنه
واتقوا الأدبار،
وإنما
قال :
{مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللّه}
لأنّ النهي أيضاً أمر بترك
المنهي عنه.
وقال قوم :
قوله :
{فَأْتُوهُنَّ} من الوجه الذي أمركم اللّه أن تأتوهنّ وهو الطهر،
فكأنه
قال : فأتوهنّ من قبل
طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ،
وهو قول ابن رزين والضحّاك
ورواية عطية عن ابن عباس.
ابن الحنفية : فأتوهنّ من قبل
الحلال دون الفجور.
ابن كيسان : لا تأتوهنّ صائمات
ولا معتكفات ولا محرمات،
وأتوهنّ،
وأقربوهنّ وغشيانهنّ لكم حلال.
الفرّاء : مثل قولك : أتيت
الارض من مأتاه
أي من الوجه الذي يؤتى منه.
الواقدي معناه
{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ} وهو الفرج،
نظيره في سورة الملائكة
والأحقاف
{أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض}
أي في الأرض،
وقوله
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ}
أي في يوم الجمعة.
{إِنَّ اللّه يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال مجاهد عن ابن رزين والكلبي
{إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الذنوب
{الْمُتَطَهِّرِينَ} من أدبار النساء أن لا يأتوها.
وقال : من أتى المرأة في
دبرها فليس من المتطّهرين،
فإن دبر المرأة مثله من الرجل.
مقاتل بن حيّان
{التَّوَّابِينَ} من الذنوب
{الْمُتَطَهِّرِينَ} من الشرك والجهل.
كنت عند أبي العالية يوماً
فتوضأ وضوءاً حسناً فقلت
{إِنَّ
اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} فقال : الطهور من الماء حسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب.
سعيد بن جبير
{التَّوَّابِينَ} من الشرك
{الْمُتَطَهِّرِينَ} من الذنوب.
وعن أبي العالية أيضاً
{التَّوَّابِينَ} من الكفر
{الْمُتَطَهِّرِينَ} بالايمان.
ابن جريج عن مجاهد
{التَّوَّابِينَ} من الذنوب لا يعودون لها
{الْمُتَطَهِّرِينَ} هنا لم يصبوها.
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم
بن محمد بن حبيب يقول : سألت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القنّاد عن هذه
الآية
قال :
{إِنَّ اللّه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} من الكبائر
{الْمُتَطَهِّرِينَ} من الصغائر.
{التَّوَّابِينَ} من الأفعال
{الْمُتَطَهِّرِينَ} من الأقوال.
التوابين من الأقوال والأفعال
والمتطهرين من العقود والإضمار. التوابين من الآثام والمتطهرين من الاجرام.
التوابين من الجرائر،
والمتطهرين من خبث السرائر.
التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب.
والتواب الذي كلما أذنب تاب،
نظيره
قوله
{إنه كان للأوّابين غفوراً} .
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد
اللّه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) :
(مرّ رجل ممن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة
فنظر اليها فقال : أي ربّ أنت أنت،
وأنا أنا،
أنت العوّاد
بالمغفرة،
وأنا العوّاد
بالذنوب،
ثم خرّ ساجداً فقيل
له : ارفع رأسك فأنا العوّاد بالمغفرة،
وأنت العوّاد
بالذنوب فرفع رأسه فغفر له).
٢٢٣
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ
لَّكُمْ}
الآية،
جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس
قال : جاء عمر إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يارسول
اللّه هلكت،
قال : ما الذي أهلكك؟
قال : حوّلت رحلي البارحة فلم يردّ عليّ شيئاً فأوحى اللّه تعالى
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ} يقول أقبل وأدبر واتق الدّبر
والحيضة.
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد
اللّه
قال : كان اليهود
يقولون : من جامع امرأته وهي مجبيّة من دبرها في قبلها كان ولدها أحول،
فذكر ذلك لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : كذبت
اليهود فأنزل اللّه تعالى
{نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
مجاهد عن ابن عباس
قال : كان هذا
الحي من الأنصار،
وهم أهل وثن مع هذا الحي من
اليهود،
وهم أهل كتاب،
وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في
العلم،
فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم
وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلاّ على حرف،
وذلك أيسر ما يكون للمرأة،
فكان هذا الحي من الأنصار
يأخذون بذلك من فعلهم،
وكان هذا الحي من قريش يشرح عن
النساء شرحاً منكراً،
ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات
ومستلقيات،
فلمّا قدم المهاجرون المدينة
تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار،
فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه
وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف فإن شئت فاصنع وإلاّ فاجتنبني،
حتى انتشر أمرهما فبلغ ذلك رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عزّ وجلّ
{نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}
يعني موضع الولد
قالوا :
{حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مدبرات ومقبلات ومستلقيات.
قال الحسن وقتادة والمقاتلان
والكلبي تذاكر المهاجرون والأنصار واليهود إتيان النساء في مجلس لهم فقال
المهاجرون : إنّا نأتيهن باركات وقايمات ومستلقيات ومن بين أيديهن ومن خلفهن،
بعد أن يكون المأتي واحداً في
الفرج،
فعابت اليهود وقالت : ما أنتم
إلاّ أمثال البهائم لكنّا نأتيها على هيئة واحدة،
فإنا لنجد في التوراة أن كل
إتيان يؤتى للنساء غير الاستلقاء دنس عند اللّه،
ومنه يكون الحَوَل والخَبل،
فذكر المسلمون ذلك لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا : يا رسول
اللّه إنّا كنا في جاهليتنا وبعدما أسلمنا نأتي النساء كيف شئنا،
فإنّ اليهود عابت ذلك علينا
وزعمت أنّا كذا وكذا،
فكذّب اللّه عزّوجل اليهود،
وأنزل رخصة لهم
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ}
أي كيف شئتم وحيث
شئتم ومتى شئتم بعد أن يكون في
(فرج) واحد.
(أنّى) حرف استفهام ويكون سؤالاً عن الحال والمحلّ.
وقال سعيد بن المسيب : هذا في
العزل
يعني إن شئتم
فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا.
يحيى بن أبي كثير عن رجل
قال : قال عبد
اللّه ستامر الحرّة في العزل ولا تستأمر الأمة،
وفي هذه
الآية دليل على
تحريم أدبار النساء لأنها موضع الفرث لا موضع الحرث،
وإنما
قال اللّه تعالى :
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} وهذا من لطف كنايات القرآن حيث عبّر بالحرث عن الفرج فقال :
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}
أي مزرع ومنبت الولد،
وأراد به المحرث المزدرع،
ولكنّهن لما كنّ من أسباب الحرث
جُعلن حرثاً.
وقال أهل المعاني : تقدير
الآية : نساؤكم
كحرث لكم،
كقوله تعالى :
{حَتَّى
إِذَا جَعَلَهُ نَارًا}
أي كنار،
قال الشاعر :
النشر مسك والوجوه دنانير
وأطراف الأكف عنم
والعرب تسمي النساء حرثاً،
قال المفضل بن سلمة : أنشدني
أبي :
إذا أكل الجراد حروث قوم
فحرثي همّه أكل الجراد
وقال الثعلبي : وأنشدني أبو
القاسم الحسن بن محمد السدوسي،
قال : أنشدني أبو منصور مهلهل بن علي العزّي،
قال : أنشدني أبي
قال : أنشدنا أحمد بن يحيى :
حبّذا من حبّة اللّه النبات
الصالحات
هن النسل والمزروع بهنّ الشجرات
يجعل اللّه لنا فيما يشاء
البركات
إنما الأرضون لنا محرثات
فعلينا الزرع فيها وعلى اللّه
النبات
وقد وهم بعض الفقهاء في تأويل
هذه
الآية وتعلق
بظاهر خبر رواه وهو ما أخبرنا أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن الحسين من رواة
الدينوري،
حدّثنا محمد بن عيسى الهيّاني
أبو بكر الطرسوسي وإسحاق الغروي عن مالك بن أنس عن نافع
قال : كنت أمسك على ابن
عمر المصحف فقرأ هذه
الآية
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ
لَّكُمْ}
قال : أتدري فيما نزلت هذه
الآية؟
قلت : لا،
قال : نزلت في رجل أتى امرأة في دبرها على عهد رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فشقّ ذلك عليه فنزلت
{نِسَآؤُكُمْ
حَرْثٌ لَّكُمْ}
الآية،
وأما تأويل حديث ابن عمر فهو ما
روى عطاء عن موسى بن عبد اللّه بن الحسن عن أبيه أنّه لقي سالم بن عبد اللّه،
فقال : يا أبا عمر ما
حدّث محدّث نافع عن عبد اللّه؟
قال : وما هو؟
قال : زعم أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النساء من أدبارهنّ،
قال : كذب العبد وأخطأ،
إنّما قال عبد اللّه : تؤتى في
فروجهنّ من أدبارهنّ،
الدليل على تحريم الأدبار ما
روى عكرمة عن ابن عباس
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) في
قوله تعالى
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ}
قال : لا يكون الحرث إلاّ حيث يكون النبات،
وعن عمر بن الخطاب
(رضي اللّه عنه)
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إن اللّه لا يستحي من الحق،
لا تأتوا النساء في أدبارهنّ.
مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن
عباس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ملعون من أتى امرأته في دبرها.
{وَقَدِّمُوا
لأنفُسِكُمْ}
يعني طلب الولد،
وقيل : التزوّج بالعفائف ليكون الولد صالحاً طاهراً،
وقيل : هو لذم الإفراط،
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلاّ تحلّة القسم،
فقيل : يا رسول اللّه اثنان،
قال : واثنان،
فقال : فظننا أن لو قيل
واحد لقال واحد.
شهر بن عطية عن عطاء
{وَقَدِّمُوا لأنفُسِكُمْ}
قال : التسمية
عند الجماع،
وقال مجاهد
{وَقَدِّمُوا لأنفُسِكُمْ}
يعني : إذا أتى
أهله فليدعُ. سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس
قال : قال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل : بسم اللّه اللّهم جنبني الشيطان
وجنب الشيطان ما رزقتنا،
فإنْ قدر بينهما منهما ولد لم
يضرّه شيطان.
السدّي والكلبي
يعني الخير
والعمل الصالح دليله سياق
الآية
{وَاتَّقُوا
اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ} ابن كيسان قدِّموا لأنفسكم في كل ما أحلّ اللّه لكم،
وما تعبّدكم به،
فإن تصديقكم اللّه ورسوله بكل
ما أحلّه لكم وحرّم عليكم وما تعبّدتم به قدم صدق لكم عند ربّكم،
واتقوا اللّه فيما أمركم به
ونهاكم عنه،
واعلموا أنّكم ملاقوه فيجزيكم
بأعمالكم.
٢٢٤
{وبشّر المؤمنين ولا
تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم}
الآية،
قال الكلبي : نزلت في عبد اللّه
ابن رواحة ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري،
وذلك أنه كان بينهما شيء فحلف
عبد اللّه أن لا يدخل عليه ولا يكلّمه ولا يصلح عنه وعن خصم له،
وجعل يقول : قد حلفت باللّه
ألاّ أفعل،
فلا تحلّ لي الاّ أن يبرّ
يميني،
فأنزل اللّه هذه
الآية.
قال مقاتل بن حيان : نزلت هذه
الآية في أبي بكر
الصديق
(رضي اللّه عنه) حين حلف ألاّ يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم. ابن جريج : حُدِّثت أنها
نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مُسيطح حين خاض في حديث الإفك.
والعرضة أصلها الشدّة والقوة،
ومنه قيل للدابة التي تتخذ
للسفر وتُعد له : عرضة،
لقوتها عليه،
يقال : عرضت ناقتي لذلك
أي اتخذتها له،
قال أوس بن حجر :
وأدماء مثل الفحل يوماً عرضتها
لرحلي وفيها هزّة وتقاذف
ثم قيل لكل ما يصلح لشيء هو
عرضة له،
حتى قالوا للمرأة : هي عرضة
للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه،
ويقال فلان عرضة للسهر والحرب،
قال حسّان :
وقال اللّه قد يسّرتُ جنداً
همُ الأنصار عرضتها اللقاء
قال المفسرون : هذا في الرجل
يحلف باللّه تعالى لا يصل رحماً ولا يكلّم قرابته أولا يتصدق له بالصنع خيراً،
أو يصلح بين اثنين فيعصيانه أو
يتهمانه أو أحدهما فيحلف باللّه لا يصلح بينهما،
فأمره اللّه أن يحنث في يمينه
ويفعل ذلك سرّاً ويكفّر عن يمينه،
فمعنى
الآية ولا تجعلوا اللّه
علّة ومانعاً لكم من البرّ والتقوى،
يقول أحدكم : حلفت باللّه فيغلّ
يمينه في ترك البرّ والصلاح وهو
قوله
{أَن
تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} معناه أن لا تبرّوا كقوله
{يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّوا}
أي لئلاّ تضلّوا،
وقال امرؤ القيس :
فقلت يمين اللّه أبرح قاعداً
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
ويبيّن هذه
الآية ما روى
سماك عن الحسين عن عبد الرحمن بن سمرة،
قال : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها،
فأت الذي هو خير،
وكفّر عن يمينك).
وقال سنان بن حبيب : قلت لسعد
بن حمير : إنّي عصت عليّ مولاة لي كان مسكنها معي فحلفتُ أن لا تساكنني،
فقال : هذا من عمل
الشيطان كفّر عن يمينك وأسكنها ثم قرأ
{ولا
تَجْعَلُوا اللّه عُرْضَةً يْمَانِكُمْ} .
٢٢٥
{لا يؤاخذكم اللّه
بالغوا في أيمانكم} أصل اللغو في كلام العرب ما
أسقط فلم يعتد به،
قال ذو الرمّة :
وتطرح بينها المرّي لغواً
ما ألغيت في الماية الحوارا
يريد بالماية التي تُساق في
الدية إذا وضعت ناقة منها حواراً لا يقدّمه،
والمرّي منسوب إلى امرئ القيس
بن زيد بن مناة بن تميم،
قال المثقب العبدي :
أومائة تجعل أولادها
لغواً وعرض المائة الجلمد
واللغو واللغاء في الكلام ما لا
خير فيه ولا معنى له،
ونظيره في اللغة صفو فلان معك
وصفاه،
قال اللّه تعالى :
{وَالَّذِينَ
هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} وقال تعالى :
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} قال أُمية :
فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها
وما فاهوا به لهمُ مقيم
وقال العجّاج :
وربّ أسراب الحجيج الكظّم
عن اللغا ورَفَث التكلّم
واختلف العلماء في لغو اليمين
المذكور في هذه
الآية،
فقال قوم هو ما يسبق به لسان
الإنسان من الايمان على سرعة وعجلة ليصل به كلامه من غير عقد ولا قصد،
مثل قول القائل : لا واللّه
وبلى واللّه وكلاّ واللّه ونحوها،
فهذا لا كفارة فيه ولا إثم.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِى
أَيْمَانِكُمْ} قالت : قول الإنسان لا واللّه وبلى واللّه،
وعلى هذا القول الشعبي وعكرمة
ومجاهد في رواية الحكم،
وقال الفرزدق :
ولست بمأخوذ بلغو تقوله
إذا لم تعمد صاغرات العزايم
وقال آخرون : لغو اليمين هو أن يحلف الإنسان على الشيء يرى أنه صادق فيه
ثم يتبيّن أنه خلاف ذلك،
فهو خطأ منه من غير عمد،
ولا كفارة عليه ولا إثم،
وهو قول الزهري والحسن وسليمان
بن يسار وإبراهيم النخعي وأبي مالك وقتادة والربيع وزرارة بن أوفى ومكحول والسدي
وابن عباس في رواية الوالبي،
وعن أحمد برواية ابن أبي نجيح.
وقال علي وطاووس : اللغو اليمين
في حال الغضب والضجر من غير عزم ولا عقد،
ومثله روى عطاء عن وسيم عن ابن
عباس،
يدلّ عليه
قوله
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا يمين في غضب).
وقال بعضهم : هو اليمين في المعصية لا يؤاخذ به اللّه عزّ وجلّ في الحنث فيها،
بل يحنث في يمينه ويكفّر،
قاله سعيد بن جبير،
وقال غيره : ليس فيه كفارة.
وقال مسروق : في الرجل الذي
يحلف على المعصية ليس عليه كفّارة. الكفر عن خطوات الشيطان،
ومثله روى عكرمة عن ابن عباس،
وقال الشعبي : في الرجل الذي
يحلف على المعصية كفارته أن يتوب منها،
فكل يمين لا يحل لك أن تفي بها
فليس فيها كفارة،
فلو أمرته بالكفارة لأمرته أن
يتم على
قوله،
يدلّ عليه ما روى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(من نذر فيما لا يملك فلا نذر له،
ومن حلف على معصية
اللّه فلا يمين له).
وروت عمرة عن عائشة،
قالت : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من حلف على قطيعة رحم أو معصية فبرّه أن يحنث
منها ويرجع عن يمينه).
وروى حماد عن إبراهيم
قال : لغو اليمين
أن يصل الرجل كلامه بأن يحلف : واللّه لا آكلنّ أو لا أشربنّ،
ونحو هذا لا يتعمد به اليمين
ولا يريد حلفاً فليس عليه كفارة يدل عليه ما روى عوف الأعرابي عن الحسين بن أبي
الحسن،
قال : مرّ رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) بقوم ينتضلون ومعه رجل من
أصحابه،
فرمى رجل من القوم فقال : أصبت واللّه
وأخطأت،
فقال الذي مع النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) حنث الرجل،
قال واللّه،
فقال :
(كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة).
وقالت عائشة : أيمان اللغو ما
كان في الهزل والمراء والخصومة،
والحديث الذي لا يعقد القلب
عليه.
وقال زيد بن أسلم : هو دعاء
الحالف على نفسه كقوله : أعمى اللّه بصري إن لم أفعل كذا،
أخرجني من مالي إن لم أرك غداً،
أو تقول : هو كافر إنْ فعل كذا،
فهذا كلّه لغو إذا كان باللسان
دون القلب لا يؤاخذه اللّه بها حتى يكون ذلك من قلبه ولو واحدة بها لهلك،
يدلّ عليه
قوله
{ويدع الإنسان بالشر دعائه بالخير وكان الإنسان
عجولا ولو يعجّل اللّه للناس الشرّ استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} .
الضحاك : هو اليمين المكفّر
وسمي لغواً لأن الكفارة تُسقط منه الإثم،
تقديره : لا يؤاخذكم اللّه
بالاثم في اليمين إذا كفّرتم. المغيرة عن إبراهيم : هو الرجل يحلف على الشيء ثم
ينسى فيحنث
(باللّه) فلا يؤاخذه اللّه عزّ وجلّ به،
دليله
قوله
(صلى اللّه عليه وسلم)
(رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
{وَلَاكِن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
أي عزمتم وقصدتم
وتعمّدتم لأن كسب القلب العقد على الشيء والنيّة.
{وَاللّه غَفُورٌ
حَلِيمٌ}
الآية.
اعلم أنّ الأيمان على وجوه :
منها أن يحلف على طاعة كقوله : واللّه لأصلينّ أو لأصومنّ أو لأحجّنّ أو لأتصدقنّ ونحوها،
فإنْ كان فرضاً عليه فالواجب
عليه أن لا يحنث،
فإنْ حنث فعليه الكفارة،
لأنه كان فرضاً عليه فزاده
تأييداً باليمين،
وإنْ كان ذلك تطوعاً ففيه قولان
: أحدهما أنّ عليه الكفارة بالحنث فيه،
والقول الثاني : عليه بالوفاء
بما قال ولا يجزيه غيره،
ومنها أن يحلف على معصية وقد
ذكرنا حكمه والاختلاف فيه،
ومنها أن يحلف على مباح،
وهو على ضربين : من ماض ومستقبل،
فاليمين على المستقبل مثل أن
يقول : واللّه لأفعلنّ كذا،
واللّه لا أفعل كذا،
فإنّ هذا إذا حنث فيه لزمته
الكفارة بلا خلاف،
واليمين على الماضي مثل أن يقول
: واللّه لقد كان كذا ولم يكن،
أو لم يكن كذا وقد كان،
وهو عالم به فهو اليمين الغموس
الذي يغمس صاحبه في الإثم لأنّه تعمد الذنوب،
ويلزمه الكفارة عندنا،
وقال
أبو حنيفة : لا يلزمه
الكفارة وتحصيله كاللغو.
ثم اعلم أن المحلوف به على ضروب
: ضرب منها يكون يميناً ظاهراً وباطناً،
ويلزم المرء الكفارة بالحنث
فيها،
وهو قول الرجل : واللّه وباللّه
وتاللّه،
فهذه أيمان صريحة ولا يعتبر
فيها النية،
والضرب الثاني أن يحلف بصفة من
صفات اللّه عزّ وجلّ كقوله : وقدرة اللّه وعظمة اللّه وكلام اللّه وعلم اللّه ونحوها،
فإنّ حكم هذا كحكم الضرب الأول
سواء،
والضرب الثالث أن يحلف بكنايات
اليمين كقوله : أيم
اللّه وحق اللّه وقسم اللّه ولعمرو اللّه ونحوها،
فهذا يعتبر فيها النية،
فإن نوى اليمين كان يميناً،
وإنْ
قال : لم أرد به اليمين
قبلنا
قوله فيه،
والضرب الرابع : أن يحلف بغير
اللّه مثل أن يقول : والكعبة والصلاة واللوح والقلم وحق محمد وأبي وحياتي ورأس
فلان ونحوها،
فهذا ليس بيمين،
ولا يلزم الكفارة بالحنث فيه،
وهو يمين مكروه فيه،
قال
الشافعي : والمعنى أن
يكون.
..).
عبد اللّه بن دينار
قال : سمعت ابن
عمر يقول : كانت قريش تحلف بآبائها،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من كان حالفاً فليحلف باللّه،
لا تحلفوا بآبائكم).
وسمع رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(عمر) يقول :
وأبي فنهاه عن ذلك،
قال عمر : فما حلفت بهذا بعد
ذاكراً ولا آثراً
٢٢٦
{لِّلَّذِينَ
يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
قتادة : كان الإيلاء طلاق أهل
الجاهلية. سعيد بن المسيّب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية،
كان الرجل لا يريد المرأة ولا
يحبّ أن يتزوجها غيره يحلف ألاّ يقربها أبداً،
وكان يتركها كذلك لا أيّماً ولا
ذات بعل،
وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية
وفي الإسلام،
فجعل اللّه الأجل الذي يعلم به
عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر،
فأنزل اللّه تعالى
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} وفي حرف عبد اللّه للذين آلوا من نسائهم على أنها الماضي،
وقرأ ابن عباس : للذين يقسمون
من نسائهم. الإيلاء : الحلف،
يقال : آلى يولي،
إيلاء،
قالت الخنساء :
فآليت آسى على هالك
أو أسأل نائحة مالها
والاسم منه الألية،
قال الشاعر :
عليّ ألية وصيام
أمسك طارها ألاّ يكفّ
وفيه أربع لغات،
أليّة وألوة وللوة وآلوة ومعنى
الآية
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أن يعتزلوا من نسائهم،
فترك ذكره اكتفى بدلالة الكلام
عليه،
والتربّص : التريث والتوقف،
وزعم بعضهم أنّه من المقلوب،
قالوا : التربّص : التصبّر،
فمثلا أن يحلف الرجل أن لا يقرب
امرأته فيقول لها : واللّه لا أجامعك أو لا يجتمع فراشي بفراشك،
ونحو ذلك من ألفاظ الجماع،
وكل حين يحلفها الرجل على
امرأته فيصير ممتنعاً من جماعها أكثر من أربعة أشهر إلاّ بشيء
(يكون) في بدنه
وماله فهو إيلاء،
وما كان دون أربعة شهر فليس
بإيلاء.
وكان علي بن أبي طالب
(رضي اللّه عنه) يقول : الإيلاء يمين في الغضب فإذا حلف في حال الرضا فليس بإيلاء،
وعامة الفقهاء يجرونه على
العمد،
ويلزمون الإيلاء في كل يمين منع
من جماعها في حال الرضا والغضب،
فإذا آلى تُبان فإنْ هو جامع
قبل مضي أربعة أشهر كفّر عن يمينه ولا شيء عليه،
والنكل ثابت هو إنْ هو لم يجامع
حتى تنقضي أربعة أشهر،
فاختلف الفقهاء فيه،
فقال بعضهم : إذا مضت أربعة أشهر ولم يفِ بانت منه بتطليقة وهي أملك
بنفسها،
وهذا قول عبد اللّه بن مسعود
ومحمد بن ثابت وقتادة ومقاتل بن حبّان والكلبي وأبي حنيفة،
يدلّ عليه قول ابن عباس : عزيمة
الطلاق إمضاء أربعة أشهر.
وقال بعضهم : إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع فإن عفّت المرأة ولم تطلب
حقّها من الجماع فلا شيء على الرجل ولا يقع به طلاق وهما على نكاح ما لو قامت على
ذلك،
وإن طلبت حقها وقف الحاكم
زوجها،
فإما أن يفي وإما أن يطلّق،
فإنْ أبى
(الفيئة) والطلاق جميعاً طلق عليه الحاكم،
وقيل : يحبسه أبداً حتى يطلّق،
وجملة هذا القول الذي ذكروا من
الوقف قول عمر وعثمان وعليّ وأبي الدرداء وابن عمر وعائشة وسعيد بن جبير وسليمان
بن يسار ومجاهد،
ومذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث.
وقال يونس الصواف : أتيت سعيد
بن المسيّب فقال : من أين؟
قلت : من الكوفة،
قال : وإنّهم يقولون في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر
(فلا شيء عليه) ولا أربع سنين حتى لو
(يفىء
أن يطلّق) وألغى الجماع فإن كان عاجزاً عن الجماع بمرض أو عنّة أو
نحوها فاء بلسانه وأُشهد.
وقال : كان إبراهيم
النخعي يقول : ألغي باللسان على كل حال،
فإذا فاء فعليه الكفارة ليمينه
في قول الفقهاء،
إلاّ الحسن وإبراهيم وقتادة
فإنهم أسقطوا الكفارة عن المولى إذا فاء لقوله
{فإن فاؤا فإن اللّه غفور رحيم} وقال إبراهيم : هذا في إسقاط الحق به لا في الكفارة.
٢٢٧
{وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ}
أي حققوا وصدّقوا ونووا،
وقرأ ابن عباس : وإن عزموا
السراح،
وهو الطلاق أيضاً.
{فَإِنَّ اللّه
سَمِيعٌ} لقولهم
{عَلِيمٌ} بنيّاتهم،
وفيه دليل على أنّها لا تطلّق
بعد مضي الأربعة الأشهر ما لم يطلقها زوجها أو السلطان لأنه شرط فيه العزم،
ولأن السماع يقتضي
(...) والقول هو الذي يسمع،
والسماع راجع إلى الطلاق واللّه
أعلم.
٢٢٨
{وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}
الآية،
قال مقاتل بن حيان والكلبي :
كان الرجل أول الإسلام إذا طلّق امرأته ثلاثاً وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما لم تضع
ولدها إلى أن نسخ اللّه ذلك بقوله
{الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ}
وقوله
{فَإِن
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ}
الآية،
وطلّق إسماعيل بن عبد اللّه
الغفاري امرأته قتيلة وهي حبلى.
وقال مقاتل : هو مالك بن الأشدق
رجل من أهل الطائف،
قالوا جميعاً : ولم يشعر الرجل
بذلك ولم تخبره بذلك،
فلمّا علم بحبلها راجعها وردّها
إلى بيته،
فولدت وماتت ومات ولدها،
وفيها أنزل اللّه تعالى هذه
الآية
{وَالْمُطَلَّقَاتُ}
أي المخلّيات من حبال
أزواجهن وهو من
قولهم : أطلقت الشيء من يدي وطلقته إذا خلّيته،
إلاّ أنهم لكثرة استعمالهم
اللفظين فرّقوا بينهما ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات وبذلك أنزل القرآن
{يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء} والاسم منه الطلاق،
ويقال : طلق الرجل المرأة
وطلّقت وطلقت معاً،
وأصله من
قولهم : انطلق
الرجل إذا مضى غير ممنوع،
ويقال للشوط الذي يجريه الفرس
وغيره من غير أن يمنع طلق.
{يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن بأنفسهن ولا يتزوجن ثلاثة قروء،
جمع قُرء،
مثل قرع وجمعه القليل قروء
والجمع الكثير أقرُاء وقرؤ،
واختلف الفقهاء في القروء،
فقال قوم : هي الحيض،
وهو قول علي وعمر وابن مسعود
وأبي موسى الأشعري ومجاهد ومقاتل بن حيّان،
ومذهب سفيان وأبي حنيفة وأهل الكوفة،
واحتجوا بقول النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) للمستحاضة :
(دعي
الصلاة أيام أقرائك) والصلاة إنما تترك في حال
الحيض،
يقول الراجز أنشده تغلب عن ابن
الأعرابي :
له قروء كقروء الحائض
يعني أنّ عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض بأوقات
معلومة،
فمَنْ قال بهذا القول
قال : لا تحلّ
المرأة للأزواج ولا تخرج من عدّتها ما لم تنقضِ الحيضة الثالثة،
يدل عليه ما روى الزهري عن ابن
المسيّب أن علياً قال في الرجل يطلق امرأته واحدة أو ثنتين :
(لا) يحل لزوجها
الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلّ لها الصلاة.
وقال آخرون : هي الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة ومذهب مالك
والشافعي وأهل المدينة،
واحتجوا بقوله
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء طلقوهنّ لعدتهنّ} وقال النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) لمّا طلّق ابن عمر امرأة وهي
حائض لعمر : مُرْه فلْيراجعها،
فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك،
وتلا النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قوله عزّ وجلّ
{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} فأخبر
(صلى
اللّه عليه وسلم) أنّ العدّة الأطهار من الحيض
وقرأ
{فَطَلِّقُوهُنَّ} لتتم عدتهنّ،
وهو أن يطلقها طاهراً لأنها
حينئذ تستقبل عدّتها،
ولو طلقت أيضاً لم تكن مستقبلة
عدّتها إلاّ بعد الحيض،
ويدلّ على تلك القروء والأطهار
قول الشاعر وهو الأعشى :
وفي كل عام أنت جاشم غزوة
تشد لأقصاها عزيم غزائكا
مورثة مالاً وفي الحي رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والقُرء في هذا البيت الطهر،
لأنّه خرج إلى الغزو ولم يغش
نساءه فأضاع اقراءهنّ
أي أطهارهن،
ومن قال بهذا القول
قال : إذا حاضت
المرأة الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للزواج،
يدلّ عليه ما روى الزهري عن
عروة وعمرة عن عائشة،
قالت : إذا دخلت المطلقة في
الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلّت للأزواج،
قالت عمرة : وكانت عائشة تقول :
القرء : الطهر ليس الحيض.
ابن شهاب
قال : سمعت أبا
بكر بن عبد الرحمن يقول : ما أدركت أحداً من فقهائنا إلاّ وهو يقول هذا،
يريد قول عائشة الأقراء الأطهار،
وإنما وقع هذا الاختلاف لأن
القُرء في اللغة من الأضداد يصلح للمعنيين جميعاً،
يقول أقرأت المرأة إذا حاضت
وأقرأت إذا طهرت،
فهي تقرى،
واختلفوا في أصلها،
فقال أبو عمر وأبو عبيدة هو وقت
مجيء الشيء وذهابه،
يقال : رجع فلان لقُرئه
وقاريه
أي لوقته الذي يرجع
فيه،
وهذا قاري الرياح
أي وقت هبوبها.
قال مالك بن الحرث الهذلي :
كرهت العقر عقر بني شليل
إذا هبّت لقارئها الرياح
أي لوقتها،
ويقال : أقرأت النجوم إذا
طلعت،
وأقرأت إذا أفلت.
قال كثير :
إذا ما الثريا وقد أقرأت
أحسُّ السما كان منها أُفولا
فالقرء للوجهين،
لأن الحيض يأتي لوقت والطهر
يأتي لوقت،
وقيل : هو من
(قرء
الماء في الحوض،
وهو جمعه)،
قال عمرو بن كلثوم :
ذراعي عيطل إذماء بكر
هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تحمل،
ولم تضم في رحمها،
وإنما تقول العرب : ما قرأت
الناقة بلا قرط
أي لا تضمّ رحمها على ولد،
ومنه
قولهم : قرأت القرآن
أي نطقت به مجموعاً،
هذا اختيار الزجّاج.
قال : ومنه قريت
الماء في المقراة،
ترك همزها والأصل فيه الهمز،
فالقرء احتباس الدم واجتماعه
وهو يكون في حال الطهر والحيض جميعاً،
إلاّ أن الترجيح للطهر لأنّه
يجمع الدم ويحبسه،
والحيض يرخّيه ويرسله واللّه
أعلم.
حكم
الآية
اعلم أن لفظها خبر ومعناها أمر،
كقوله
{والوالدات يتربّصن أولادهن} وأمثاله،
والعدّة على ضربين : عدّة
المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها،
فعدّة المطلقة على ثلاثة أضرب :
عدة الحائض ثلاثة قروء،
وعدّة الحامل أن تضع حملها،
وعدّة الصغيرة التي لم تحض
والكبيرة التي آيست ثلاثة أشهر،
وعدّة المتوفى عنها زوجها ضربان
: إن كانت حاملا فعدّتها أن تضع حملها وإلاّ فعدّتها أربعة أشهر وعشرة،
وعدّة الإماء فيما له نصف ومن
الأقراء قُرآن لأنها لا نصف ولا عدّة على متن لم يدخل بها إذا توفي عنها زوجها،
فعدّتها أربعة أشهر وعشراً.
{وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّه فِى أَرْحَامِهِنَّ} قال عكرمة وإبراهيم :
يعني الحيض،
وهو أن تعتدّ المرأة فيريد
الرجل أن يراجعها فتقول : إنّي قد حضت الثالثة. ابن عباس وقتادة ومقاتل :
يعني الحمل في
الولد،
فمعنى
الآية لا يحلّ لهنّ أن
يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن من الحيض والحمل ليبطلن حق الزوج في الرجعة والولد،
فإنّ المرأة أمينة على فرجها.
{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ
بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ} أزواجهنّ،
وهو جمع بعل،
كالفحولة والذكورة والحزولة
والخيوطة،
ويقال : تبعّلت المرأة إذا
تزوجت،
ومنه قيل للجماع بعال،
وإنما سمي الزوج بعلا لقيامه
بأُمور زوجته،
وأصل البعل السيّد والمالك،
قال اللّه تعالى
{أَتَدْعُونَ
بَعْلا} وقرأ مسلم بن محارب
{وَبُعُولَتُهُنَّ} بإسكان
التاء لكثرة الحركات،
والاتباع أفصح وأحسن وأوفق
وأولى.
{أَحَقُّ} أولى
{بِرَدِّهِنَّ}
أي برجعتهن
{فِي ذلك
}
أي في حال العدّة
{إِنْ
أَرَادُوا إِصْلَاحًا} لا إضراراً،
وذلك إن الرجل إذا أراد الإضرار
بامرأته طلّقها واحدة وتركها حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها،
ثم تركها مدّة،
ثم طلّقها أُخرى وتركها كما فعل
في الأولى،
ثم راجعها فتركها مدّة ثم طلقها
{وَلَهُنَّ}
أي وللنساء على
أزواجهنّ
{مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ} من الحق.
يُروى أن امرأة معاذ قالت : يا
رسول اللّه ما حق الزوجة على زوجها؟
قال :
(أن لا
يضرب وجهها،
وأن لا يقبحها،
وأن يطعمها مما
يأكل،
ويلبسها مما يلبس
ولا يهجرها).
المبارك بن فضالة عن الحسن
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان
لايملكنّ لأنفسهن شيئاً)
(إنما اتخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ
بكلمة اللّه).
وعن ميمونة زوج النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم،
وخير النساء من أمتي
خيرهنّ لأزواجهنّ،
يرفع لكل امرأة
منهنّ كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل اللّه صابرين محتسبين،
ولفضل إحداهنّ على
الحور العين كفضل محمّد على أدنى رجل منكم،
وخير النساء من أمتي
من تأتي مسيرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية اللّه عزّ وجلّ،
وخير الرجال من
أُمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها،
يُكتب لكل رجل منهم
في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد قتلوا في سبيل اللّه محتسبين صابرين).
فقال عمر بن الخطاب
(رضي اللّه عنه) : يا رسول اللّه فكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد وللرجل مائة شهيد؟
قال :
(أوما
علمت أن المرأة أعظم أجراً من الرجل،
وأفضل ثواباً،
وأنّ اللّه عزّ وجلّ
لَيرفع الرجل في الجنة درجات فوق درجاته برضا زوجته عنه في الدنيا ودعائها له؟
أوما علمت أنّ أعظم
وزر بعد الشرك باللّه المرأة إذا غشت زوجها؟
ألا فاتقوا اللّه في
الضعيفين،
فإنّ اللّه سائلكم
عنهما : اليتيم والمرأة،
فمن أحسن إليهما فقد
بلغ إلى اللّه ورضوانه،
ومن أساء إليهما فقد
استوجب من اللّه سخطه،
حق الزوج على المرأة
كحقّي عليكم،
فمن ضيّع حقّي فقد
ضيّع حق اللّه،
ومن ضيّع حق اللّه
فقد باء بسخط من اللّه ومأواه جهنم وبئس المصير).
{بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في الفضل.
قال ابن عباس : بما ساق إليها
من المهر،
وأنفق عليها من المال،
وقيل : بالعقل،
وقيل : بالميراث،
وقيل : بالدرجة،
قال قتادة : بالجهاد. عن أبي
جعفر محمد بن علي عن جابر بن عبد اللّه،
قال : بينما نحن عند رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وهو في نفر من أصحابه إذ أقبلت امرأة حتى قامت على رأسه،
ثم قالت : السلام عليك يا رسول
اللّه،
أنا وافدة النساء إليك،
ليست من امرأة
(سمعت بمخرجي) إليك إلا أعجبها ذلك،
يا رسول اللّه : إن اللّه ربّ
الرجال وربّ النساء،
وآدم أب الرجال وأب النساء،
وحواء أم الرجال وأم النساء،
فالرجال إذا خرجوا في سبيل
اللّه وقتلوا فأحياء عند ربهم يرزقون،
وإذا خرجوا فلهم من الأمر ما قد
علمت،
ونحن
(نحبس) عليهم ونخدمهم فهل
لنا من الأجر شيء؟
قال :
(نعم،
اقرأي النساء السلام
وقولي لهنّ : (إنّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك،
وقليل منكنّ يفعلهُ).
ثابت عن أنس،
قال : جئن إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقلن : يا رسول اللّه ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل اللّه،
فما لنا عمل بعدك به عمل في
سبيل اللّه.
بكر بن عبد اللّه المزني عن
عمران بن الحصين
قال : سئل رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) هل على النساء جهاد؟
قال :
(نعم،
جهادهن الغيرة،
يجاهدن أنفسهن فإنْ
صبرن فهنّ مجاهدات،
وإن صبرن فهنّ
مرابطات ولهنّ أجران اثنان).
وقيل : بالطلاق والرجعة،
وقيل : بالشهادة،
وقيل : بقوة العبادة،
وقال سفيان وزيد بن أسلم :
بالإمارة. وقال القتيبي : معناه : وللرجال عليهنّ درجة
أي فضيلة للحق.
{واللّه عزيز حكيم الطلاق
مرّتان} روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أنّ
زوجها يطلقها ويسترجعها ليضارّها بذلك،
وكان الرجل في الجاهلية إذا
طلّق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك،
فإنْ طلّقها ألف مرة لم يكن
للطلاق عندهم حدّ،
فذكرت ذلك عائشة لرسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت
{الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ} فجعل حدّ الطلاق ثلاثاً وللطلاق الثالث
قوله تعالى
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ
حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
وقيل للنبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
٢٢٩
{الطَّلَاقُ
مَرَّتَانِ} فأين الثالثة؟
قال
{إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}.
وقال المفسّرون : معنى
الآية الطلاق
الذي يملك فيه الرجعة مرّتان
{فَإِمْسَاكُ
بِمَعْرُوفٍ}
أي عليه إمساك بمعروف
أي يراجعها في
التطليقة الثالثة
{أَوْ تَسْرِيحُ
بِإِحْسَانٍ} بعدها ولا يضارّها فإنْ طلقها واحدة أو ثنتين فهو أملك
برجعتها ما دامت في العدّة،
فإذا انقضت العدّة فهي أحق
بنفسها،
وجاز أن يراجعها عن تراض منهما
بنكاح جديد،
فإن طلّقها الثالثة بانت منه
وكانت أحق بنفسها منه،
ولا تحلّ له حتى تنكح زوجاً
غيره.
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ
أَن تَأْخُذُوا} في حال الاستبدال والطلاق
{مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} أعطيتموهنّ من المهور وغيرها،
ثم استثنى الخلع فقال
{إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه} نزلت هذه
الآية في جميلة بنت عبد اللّه بن أبي أوفى تزوجها ثابت بن قيس بن
شماس،
وكانت تبغضه بغضاً شديداً،
وكان يحبّها حبّاً شديداً،
وكان بينهما كلام فأتت أباها
فشكت إليه زوجها وقالت : إنه يسيء إليّ ويضربني،
فقال لها : ارجعي إلى زوجك
فواللّه إنّي لأكره للمرأة أن لا تزال رافعة يدها تشكو زوجها،
فرجعت إليه الثانية وبها أثر
الضرب،
فشكت إليه فقال لها : ارجعي إلى
زوجك،
فلمّا رأت أنّ أباها لا يشكيها
أتت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) ،
فشكت إليه زوجها وأرته آثاراً
بها من الضرب وقالت : يا رسول اللّه لا أنا ولا هو،
قال : فأرسل رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) إلى ثابت بن قيس فقال : يا ثابت
مالك ولأهلك؟
قال : والذي بعثك بالحق ما على ظهر الأرض أحبّ إليّ منها غيرك،
قال لها : ما تقولين؟
فكرهت أن تكذب رسول اللّه حين
سألها،
فقالت : صدق يا رسول اللّه،
ولكنّي خشيت أن يهلكني فأخرجني
منه يا رسول اللّه،
فقال : إني قد أعطيتها
حديقة لي فقل لها فلتردّها عليّ وأنا أُخلّي سبيلها،
قال لها : ما تقولين تردّين
إليه حديقته وتملكين أمرك؟
قالت : نعم،
وأنا لا أريده،
قال : لا، حديقته فقط.
ثم قالت : يا رسول اللّه ما كنت
أحدّثك اليوم حديثاً ينزل عليك خلافه غداً هو من أكرم الناس حبّه لزوجته ولكنّي
أبغضه،
فلا هو ولا أنا،
فقال له النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها) ففعل،
وكان أوّل خلع في الإسلام،
فأنزل اللّه عزّ وجلّ
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ
ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَن يَخَافَآ} يعلما،
وتصديقه قراءة أُبي : إلاّ أن
يظنّا،
وقال محجن :
فلا تدفننّي بالفلاة فإنّني
أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
أي أعلم،
وقرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب :
(يخافا) بضمّ الياء
أي يعلم ذلك منهما
اعتباراً بقراءة ابن مسعود : إلاّ أن يخافوا،
واختاره أبو عبيد لقوله تعالى
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللّه}
قال : فجعل الخوف لغيرهما ولم يقل فإن يخافا ألاّ يقيما حدود اللّه
وهو أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها فتعصي اللّه في أمر زوجها،
ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته
أن يعتدي عليها،
فنهى اللّه تعالى الرجل أن يأخذ
من امرأة شيئاً بغير رضاها إلاّ أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها فتقول :
واللّه لا أبرّ لك قسماً ولا أطيع لك أمراً ولا أطأ لك مضجعاً،
ونحو ذلك،
فإذا فعلت ذلك به حلّ له
العقوبة منها إذا دعته إلى ذلك،
ويكره أن يأخذ منها أكثر ممّا
أعطاها،
ولكنه في الحكم جائز.
يبيّن ذلك ما روى الحكم بن
عيينة أنّ امرأة نشزت على زوجها في إمارة عمر بن الخطاب،
فوعظها عمر
(رضي اللّه عنه) وأمرها بطاعة زوجها فأبت وقالت : لئن رددتني إليه واللّه لأقتلنّ نفسي،
فأمر بها فحُبست في اصطبل
الدواب في بيت الزمل ثلاث ليال،
ثم دعاها فقال : كيف رأيت
مكانك؟
فقالت : ما بتّ ليالي أقرّ
لعيني منها،
وما وجدت الراحة مذ كنت عنده
إلاّ هذه الليالي،
فقال : هذا وأبيكم
النشوز،
ثم قال لزوجها : اخلعها ولو من
قرطيها،
اخلعها بما دون عقاص رأسها فلا
خير لك فيها،
فذلك
قوله عزّ وجلّ
{فلا جناح عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} المرأة نفسها منه.
قال الفراء : أراد به الزوج دون
المرأة فذكرهما جميعاً لأقرانهما كقوله
{نَسِيَا
حُوتَهُمَا} وإنما الناسي فتى موسى دون موسىج
وقوله
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من المالح دون العذب،
وقال الشاعر :
فإن تزجراني يابن عفّان أنزجر
وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعا
وقال قوم معناه : فلا جناح
عليهما جميعاً،
لا جناح على المرأة في النشوز
إذا خشيت الهلاك والمعصية،
ولا فيما افتدت به وأعطبت من
المال،
لأنها ممنوعة من اتلاف المال
بغير حق،
ولا على الرجل فيما أخذ منها من
المال إذا أعطته طائعة بمرادها،
وللفقهاء في الخلع قولان :
أحدهما : إنه فسخ بلا طلاق،
وهو قول ابن عباس،
وقول
الشافعي في القديم
بالعراق،
ثم رجع عنه بمصر.
والقول الثاني : إنّ الخلع
تطليقة بائنة إلاّ أن ينوي أكثر منها،
وهو قول عثمان بن عفان
(رضي اللّه عنه)،
والقول الجديد من قول
الشافعي.
{تِلْكَ حُدُودُ
اللّه} هذه أوامر اللّه ونواهيه
{فَلا تَعْتَدُوهَا} فلا تجاوزوها
{وَمَن
يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَأُولَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
٢٣٠
{فَإِن طَلَّقَهَا}
يعني ثلاثاً
{ولا تحلّ
له من بعد}
يعني من بعد التطليقة الثالثة،
وبعد رفع على الغاية
{حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
أي غير المطلِّق فيجامعها،
والنكاح يتناول العقد والوطء
جميعاً.
نزلت هذه
الآية في تميمة،
وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرطي،
كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك
القرطي،
وكان ابن عمها فطلّقها ثلاثاً،
وتزوجت بعده عبد الرحمن بن
الزبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثوب،
وإنه طلقني قبل أن يمسّني
أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟
فتبسّم رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وقال :
(أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة،
لا حتى تذوقي عسيلته
ويذوق عسيلتك).
قال : وأبو بكر جالس عند النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
وخالد بن سعيد بن العاص جالس
بباب الحجرة فطفق خالد ينادي : يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تهجر به عند رسول
اللّه،
والعسيلة اسم للجماع،
وأصلها من العسل شبّه للّذة
التي ينالها الإنسان في تلك الحال بالعسل يقال منه : عسلها يعسلها عسلا إذا
جامعها.
فلبثت ما شاء اللّه أن تلبث ثم
رجعت إلى النبي
(صلى اللّه عليه
وسلم) فقالت : إن زوجي كان قد مسّني،
فقال لها النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كذبت بقولك الأول فلن نصدّقك في الآخر)
فلبثت حتى قبض النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فأتت أبا بكر،
فقالت : يا خليفة رسول اللّه
أرجع إلى زوجي الأول،
فإن زوجي الآخر قد مسّني
وطلّقني،
فقال أبو بكر : قد شهدت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) حين أتيته،
وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه،
فلمّا قُبض أبو بكر أتت عمر
(رضي اللّه عنه) وقالت له مثل ما قالت لأبي بكر،
فقال عمر : لئن رجعت إليه
لأرجمنّك،
فإن اللّه تعالى قد أنزل
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ
حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
{فَإِن طَلَّقَهَا} زوجها الثاني أو مات عنها بعد ما جامعها
{فلا جناح عَلَيْهِمَآ}
يعني على المرأة
المطلّقة وعلى الزوج الأول
{أَن
يَتَرَاجَعَآ} بنكاح جديد،
فذكر النكاح بلفظ التراجع
{إِن ظَنَّآ} عَلِما،
وقيل : رجوا،
قالوا : ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأنّ أحداً لا يعلم ما هو كائن
إلاّ اللّه عزّ وجلّ
{أَن يُقِيمَا
حُدُودَ اللّه}
يعني ما بيّن اللّه من حق أحدهما على الآخر،
ومحلّ
(أن) في
قوله
{أَن يَتَرَاجَعَآ} نصب بنزع حرف الجر
أي في أن يتراجعا،
وفي
قوله
{أَن يُقِيمَا} نصب بوقوع الظن عليه.
وقال مجاهد : ومعناه إن علما
أنّ نكاحهما على غير دلسة،
وأراد بالدلسة التحليل،
هذا مذهب سفيان والأوزاعي ومالك
وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق،
قالوا في الرجل يطلّق امرأته
ثلاثاً فتزّوج زوجاً غيره ليحلّها لزوجها الأول : إن النكاح فاسد،
وكان
الشافعي يقول : إذا
تزوّجها ليحلّها فالنكاح ثابت إذا لم يشترط ذلك في عقد النكاح مثل أن يقول : أنكحك
حتى أصيبك فتحلّي لزوجك الأول،
فإذا اشترط هذا فالنكاح باطل،
وما كان من شرط قبل عقد النكاح
فلا يفسد النكاح.
وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال : إنّ رجلا
طلّق امرأته ثلاثاً،
فانطلق أخ له من غير مراجعة
فتزوجها ليحلّها للأول فقال : لا، إلاّ بنكاح رغبة،
كنّا نعدّ هذا سفاحاً على عهد
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
وقال ج :
(لعن اللّه المحلّل والمحلَّل له).
عقبة بن عامر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ألا أدلّكم على التيس المستعار؟)
قالوا : بلى يا رسول اللّه،
قال :
(هو
المحلِّل والمحلَّل له).
قبيصة بن جابر الأسدي،
قال : سمعت عمر بن الخطاب يخطب وهو على المنبر : واللّه لا أوتى
بمحلّل ولا بمحلَّل له إلاّ رجمتها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ
اللّه يُبَيِّنُهَا} روى المفضل وأبان عن عاصم
بالنون
{لقوم يعلمون وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ} نزلت في رجل من الأنصار يُدعى ثابت بن يسار،
طُلِّقت امرأته حتى إذا انقضت
عدتها إلاّ يومين أو ثلاثة وكادت تبين منه،
راجعها ثم طلقها،
ففعل بها ذلك حتى مضيت لها تسعة
أشهر مضارة لها بذلك،
ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً،
وكان إذا أراد الرجل أن يُضارّ
امرأته طلقها ثم تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة،
ثم راجعها ثم طلّقها فتطويله
عليها هو الضرار،
٢٣١-٢٣٢
فأنزل اللّه تعالى
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ}
أي أمرهنّ في أن تبين بانقضاء العدة،
ولم يرد إذا انقضت عدتهنّ لأنها
إذا انقضت عدّتها لم يكن للزوج إمساكها،
فالبلوغ ها هنا بلوغ مقاربة،
وقوله بعد هذا
{فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} بلوغ انقضاء
وانتهاء،
والبلوغ يتناول المعنيين
جميعاً،
يقال : بلغ المدينة إذا
صار إلى حدّها وإذا دخلها.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ}
أي راجعوهنّ
{بِمَعْرُوفٍ} قال محمد بن جرير : بمعروف
أي بإشهاد على الرجعة
وعقد لها دون الرجعة بالوطء
{أَوْ
سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
أي اتركوهنّ حتى
تنقضي عدّتهنّ،
وكنّ أملك لأنفسهنّ.
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَارًا} مضارّة وأنتم لا حاجة بكم إليهنّ
{لِّتَعْتَدُوا} عليهن
بتطويل العدّة
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك } الاعتداء
{فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ} ضرّها بمخالفة أمر اللّه عزّ وجلّ.
مرّة الطيب،
عن أبي بكر الصديق
(رضي اللّه عنه)
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ملعون من ضارّ مسلماً أو ماكره).
{وَلا تُمْسِكُوهُنَّ
ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن} الحسن عن أبي
الدرداء
قال : كان الرجل
يطلق في الجاهلية ويقول : إنّما طلّقت وأنا لاعب فيرجع فيها ويعتق،
فيقول مثل ذلك ويرجع فيه وينكح،
ويقول مثل ذلك،
فأنزل اللّه تعالى
{وَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن} يقول : حدود اللّه وقرأها رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : من طلق أو
حرّر وأنكح وزعم أنّه لاعب فهو جدّ،
وفي الخبر : خَمسٌ جدّهنّ جدّ
وهزلهنّ جدّ : الطلاق،
والعتاق،
والنكاح،
والرجعة،
والنذر.
وعن أبي موسى،
قال : غضب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) على الأشعريين
قال : يقول
(أحدكم لامرأته : قد طلقتك،
قد راجعتك،
ليس هذا طلاق
المسلمين،
طلّقوا المرأة في
قبل طمثها).
وقال الكلبي
{وَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن}
يعني
قوله
{فَإِمْسَاكُ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ} .
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ} بالإيمان
{وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ}
يعني القرآن
{وَالْحِكْمَةَ}
يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام.
{يعظكم به واتقوا
اللّه واعلموا أنّ اللّه بكل شيء عليم وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهنّ فلا
تعضلوهن}
الآية،
نزلت في جميلة بنت يسار أخت
معقل بن يسار المزني،
كانت تحت أبي البدّاح عاصم بن
عدي بن عجلان،
فطلّقها تطليقة واحدة ثم تركها
حتى انقضت عدّتها ثم جاء يخطبها وأراد مراجعتها وكان رجل صدق،
وكانت المرأة تحبّ مراجعته،
فمنعها أخوها معقل وقال لها :
لئن راجعتهِ لا أكلمك أبداً،
وقال لزوجها : أفرشتك كريمتي
وآثرتك بها على قومي فطلّقتها،
ثم لم تراجعها حتى إذا انقضت
عدّتها جئت تخطبها،
واللّه لا أنكحك بها أبداً،
وحمى أنفاً،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية،
فدعا رسول اللّه معقلا وتلاها
عليه،
فقال : فإني أؤمن باللّه
واليوم الآخر،
فأنكحها إيّاه وكفّر يمينه على
قول أكثر المفسّرين.
وقال السدّي : نزلت هذه
الآية في جابر بن
عبد اللّه الأنصاري،
وكانت له بنت عم فطلّقها زوجها
تطليقة واحدة وانقضت عدّتها ثم أراد رجعتها،
فأتى جابر فقال : طلّقت ابنة
عمي ثم تريد أن تنكحها الثانية،
وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل
اللّه
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ} فانقضت عدّتهن قال الزجّاج : الأجل آخر المدة وعاقبة
الأُمور،
قال لبيد :
فاخرها بالبرّ للّه الأجل
يريد عاقبة الأُمور.
{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} فلا تمنعوهنّ،
والعَضْل : المنع من التزوّج،
وأنشد الأخفش :
ونحن عضلنا بالرماح لسانا
وما فيكم عن حرمة له عاضل
وأنشد :
وأن قصائدي لك فاصطنعني
كرائم قد عضلن عن النكاح
وأصل العضل الضيق والشدّة،
يقال : عضلت المرأة
والشاة إذا تشبث ولدهما في بطنهما فضاق عليه الخروج،
وعضلت الدجاجة إذا تشبّث البيض
فيها،
وعضل الفضاء بالجُلَّس إذا ضاق
عليهم لكثرتهم،
ويقال : ذا عضال إذا ضاق
علاجه فلا يطاق،
ويقال : عضل الأمر إذا
اشتدّ وضاق.
قال عمر
(رضي اللّه عنه) : أعضل أهل الكوفة لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير،
وقال أوس بن حجر :
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنّه النائي إذا كنت آمناً
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
قال طاووس : لقد وردت عضل أقضية
ما قام بها إلاّ ابن عباس،
وكل مشكل عند العرب معضل ومنه
قول
الشافعي :
إذا المعضلات بعدن عني
كشفت حقائقها بالنظر
{أَن يَنكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ} الأوّل بنكاح جديد
{إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ} بعقد حلال ومهر جائز،
ونظم
الآية : فلا تعضلوهنّ أن
ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا بينهم،
وفي هذه
الآية دليل قول
من
قال : لا نكاح
إلاّ بولي لأنه تعالى خاطب الأولياء في التزويج،
ولو كان للمرأة إنكاح نفسها لم
يكن هناك عضل ولا لنهي اللّه الأولياء عن العضل معنى،
يدلّ عليه ما روى أبو بردة عن
أبي موسى
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا نكاح إلاّ بولي).
{ ذلك }
أي ذلك الذي ذكرت من النهي
{يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ
الآخِرِ} وإنما قال ذلك موحداً والخطاب للأولياء؛ لأنّ الأصل في
مخاطبة الجمع ذلكم ثم كثر ذلك حتى توهّموا أنّ الكاف من نفس الحرف،
وليس بكاف الخطاب،
فقالوا ذلك،
وإذا قالوا هذا كانت الكاف
موحدة منصوبة في الآيتين والجمع والمذكر والمؤنث.
وقيل : ها هنا خطاب للنبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فلذلك وحَّده ثم رجع إلى خطاب المؤمنين،
فقال عزّ من قائل
{ذالِكُمْ أَزْكَى} خيرٌ وأفضل
{لَكُمْ وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من الريبة وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما
علاقة حبّ لم يؤمن بأن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ اللّه لهما،
ولم يؤمن من أوليائهما إن سبق
إلى قلوبهم منهما لعلّهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون.
{وَاللّه يَعْلَمُ} من خبر كل واحد منهما لصاحبه
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
٢٣٣
{وَالْوَالِدَاتُ} المطلقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ المطلقين ولدنهم قبل
الطلاق أو بعده
{يرضعن أودلاهن}
يعني أنهنّ أحق برضاعهنّ من غيرهنّ،
أمر استحباب لا أمر إيجاب من
أنه رضاعهن عليهنّ لأنه سبحانه وتعالى قال في سورة الطلاق
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن} إلى
{لَهُ
أُخْرَى} .
ثم بيّن حدّ الرضاع فقال :
{حَوْلَيْنِ}
أي سنتين،
وأصله من
قولهم : حالَ
الشيء إذا انتقل وتغيّر
{كَامِلَيْنِ} على التأكيد كقوله تلك عشرة كاملة،
وقال أهل المعاني : إنما قال
{كَامِلَيْنِ} لأنّ العرب تقول : أقام فلان مقام كذا حولين أوشهرين وإنما أقام حولا
وبعض آخر،
ويقولون : اليوم يومان مذ لم
أره،
وإنما يعنون يوماً وبعض آخر،
ومنه
قوله
{فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} ومعلوم أنه يتعجل أو يتأخر في يوم ونصف،
ومثلها كثير،
فبيّن اللّه أنهما حولان كاملان
أربعة وعشرين شهراً من يوم ولد إلى أن يُفطم.
واختلف العلماء في هذا الحدّ
أهو حدّ لكل مولود أو حدّ لبعض دون بعض؟
فروى عكرمة عن ابن عباس : إذا
وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين،
أربعة وعشرين شهراً،
وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته
ثلاثة وعشرين شهراً،
وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته
إحدى وعشرين شهراً،
كل ذلك تمام ثلاثين شهراً،
قال اللّه تعالى :
{وَحَمْلُهُ
وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} .
وقال قوم : هو حدّ لكل مولود في وقت وأن لا ينقص من حولين ولا يزيد إلاّ
أن يشاء الزيادة؛ فإن أراد الأب يفطمه قبل الحولين ولم ترضَ الأُم فليس له ذلك،
وإذا قالت الأُم : أنا أفطمه
قبل الحولين،
وقال الأب : لا، فليس لها أن
تفطمه حتى يتفقا جميعاً على الرضا،
فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه
وإن اختلفا لم يفطماه قبل الحولين،
وذلك
قوله
{عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} ويشاور هذا قول ابن جريج والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وقال آخرون : المراد بهذه
الآية الدلالة على الرضاع ما كان في الحولين،
فإنّ ما بعد الحولين من الرضاع
يحرم،
وهو قول علي وعبد اللّه وابن
عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري،
وفي الحديث : لا رضاع بعد
الحولين،
وإنما يحرم من الرضاع ما أنبت
اللحم وأنشر العظم.
وقال قتادة والربيع : فرض اللّه
عزّوجل على الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد
ذلك فقال :
{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
أي هذا منتهى الرضاع،
وليس فيما دون ذلك وقت محدود،
وإنما هو على مقدار صلاح الصبي
وما يعيش به،
وقرأ أبو رجاء
{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} بكسر الراء،
قال الخليل والفرّاء : هما
لغتان،
مثل الوِكالة والوَكالة
والدِّلالة.
وقرأ مجاهد وابن محجن
(لمن أراد أن يتم الرضعة) وهي فعلة كالمرّة الواحدة،
وقرأ عكرمة وحميد وعون العقيلي
(لمن أراد أن تتم الرضاعة) بتاء مفتوحة ورفع الرضاعة على أن الفعل لها،
وقرأ ابن عباس
(يكمل الرضاعة).
{وعلى المولولد له}
يعني الأب
{رِزْقُهُنَّ} طعامهنّ وقوتهنّ
{وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسهنّ،
وقرأ طلحة عن مصرف بضم الكاف،
وهما لغتان مثل أُسوه وإسوة
ورشوه ورشوة
{بِالْمَعْرُوفِ} علم اللّه تفاوت أحوال خلقه في الغنى والفقر،
فقال
{بِالْمَعْرُوفِ}
أي على قدر الميسرة
جعل الرضاعة على الأم والنفقة على الأب
{تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} والتكليف الإلزام،
قال الشاعر :
تكلّفني معيشة آل فهر
ومن لي بالصلائق والصناب
والوسْع ما يسع الإنسان فيطيقه
ولا يضيق عليه،
وهو اسم كالجهد والوجد،
وقيل : الوسع
يعني الطاقة،
ورُفع
(النفس) باسم الفعل
المجهول لأنّه وضع موضع الفاعل،
وانتصب
(الوسع) بخبر الفعل
المجهول،
لأنّه أُقيم مقام المفعول،
نظيرها في سورة الطلاق.
{تُضَآرَّ وَالِدَةُ
بِوَلَدِهَا} قرأ ابن محجن وابن كثير وشبل وأبو عمرو وسلام ويعقوب وقتيبة
برفع الراء مشددة وأجازه أبو حاتم على الخبر مسبوقاً على
قوله
{يُكَلِّفُ اللّه} وأصله فلا يضارر فأُدغمت الراء في الراء،
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم
وحمزة والكناني وخلف
{وَلا
تُضَآرُّوهُنَّ} مشددة منصوبة الراء،
واختاره أبو عبيد على النهي
وأصله لا تضارر فأدغمت وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب،
ويدلّ عليه قراءة عمر : لا
تضارر على إظهار التضعيف،
وقرأ الحسن : لا تضارّ براء
مدغمة مكسورة لأنها لمّا أُدغمت سُكّنت،
وبجزمه تحرّك إلى الكسر،
وروى أبان عن عاصم : لا تُضارر
مظهرة مكسورة على أنّ الفعل لها،
وقرأ أبو جعفر لا تضار بجزم
الراء وتخفيفه على الحذف طلباً للخفّة.
ومعنى
الآية
{تُضَآرَّ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها
الصبي
{وَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك.
وقيل : معناه
{لا
تُضَآرَّ وَالِدَةُ} فيكرهها على الرضاعة إذا قبل
من غيرها،
وكرهت هي إرضاعه؛ لأنّ ذلك ليس
بواجب عليها
{وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع الولد إلاّ منها أكثر
ممّا يحب لها عليه،
فهذان القولان على مذهب الفعل
المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بها وبوالده والمولود له مفعولان،
وأصل الكلمة يضارّ بفتح الراء
الأُولى،
ويحتمل أن يكون الفعل لهما،
وأن يكون تضارّ على مذهب ما قد
سُمّي فاعله،
والمعنى : لا يضارّ والده فتأبى
أن ترضع ولدها لتشقّ على أبيه ولا مولود له،
ولا يضارّ الأب أم الصبي
فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها،
وعلى هذا المذهب أصله لا يضارر
بكسر الراء الأُولى،
وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار
إلى الوالدين بضرّ كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد.
ويجوز أن يكون الضرار راجعاً
إلى الصبي
أي لا يضارّ كل واحد
منهما الصبي،
فلا ترضعه الأم حتى يموت،
أولا ينفق عليها الأب أو ينزعه
من أُمه حتى يضرّ بالصبي وبكون الياء زائدة معناه : لا تضارّ الأم ولدها ولا أب
ولده،
وكل هذه الأقاويل مروية عن
المفسّرين.
{وَعَلَى الْوَارِثِ
مِثْلُ ذلِكَ} اختلف أهل الفتاوى فيه
أي وارث هو؟
ووارث من هو؟
فقال قوم : هو وارث الصبي،
معناه : وعلى وارث الصبي الذي
لو مات الصبي وله خال ورثه،
مثل الذي كان على أبيه في
حياته.
ثم اختلفوا
أي وارث هو من ورثته؟
فقال بعضهم : هو عصبته كائناً من كان من الرجال دون النساء،
مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم
وابن العم ونحوهم،
وهو قول عمر
(رضي اللّه عنه) والزهري والحسن ومجاهد وعطاء ومذهب سفيان،
قال : إذا لم يبلغ نصيب الصبي ما ينفق عليه أجرت العصبة الذين يرثونه
أن يسترضعوه.
قال ابن سيرين : أتى عبد اللّه
بن عتبة في رضاع صبي يتيم ومنعه وليه؛ فجعل رضاعه في ماله،
وقال لوارثه : لو لم يكن له مال
لجعلنا رضاعه في مالك،
ألاترى أنّ اللّه عزّ وجلّ يقول
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} ؟
قال الضحاك : إنْ مات أبُ الصبي
وللصبي المال أخذ رضاعه من المال،
وإنْ لم يكن له مال أخذ من
العصبة،
وإن لم يكن للعصبة مال أجرت
عليه أُمّه.
وقال بعضهم : هو ويرث الصبي كائناً من كان من الرجال والنساء،
وهو قول قتادة والحسن بن صالح
وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور
قالوا : يجبر على نفقته كل
وارث على قدر ميراثه،
عصبةً كانوا أو غيرهم.
وقال بعضهم : هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود؛ فمن لم يكن بمحرم
مثل ابن العم والمولى وما أشبههما فليسوا ممن عناهم اللّه بقوله
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } وإن كانوا من جملة العصبة لا يجبرون على النفقة،
وهو قول
أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد،
قال : لا يجبر على نفقة الصبي إلاّ ذو رحمه المحرم،
وقال آخرون
{على الوارث مثل ذلك}
يعني الصبي نفسه
الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنّ عليه أجر رضاعه في ماله إن كان له مال،
فإن لم يكن له مال أجبر أمّه
على رضاعه،
ولا يجبر على نفقة الصبي إلاّ
الوالدان،
وهو قول مالك والشافعي.
وقيل : هو الباقي من والديّ المولود بعد وفاة الآخر منهما عليه
مثل ذلك،
يعني : مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع والنفقة والكسوة،
قاله أكثر العلماء،
وقال الشعبي والزهري :
{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك }
يعني أن لا يضارّ.
{فَإِنْ أَرَادَا}
يعني الوالدان
{فِصَالا} فطاماً قبل الحولين وأصل الفصل القطع
{عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} جميعاً به واتفاقاً عليه
{وَتَشَاوُرٍ} وهو استخراج الرأي،
وأصله من شرت الدابة وشوّرتها
إذا استخرجت ما عندها من
(الغدد) ويقال لعلم ذلك : المشوار.
{فلا جناح
عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ} أيها الآباء
{أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} مراضع غير أمهاتهم إذا أَبين مراضاتهم أن يرضعنه،
أو لعلّة بهنّ أو انقطاع
لبنهنّ،
أو أردن النكاح،
أو خفتم الضيعة على أولادكم
{فلا جناح عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم} إلى أُمهاتهم أجرهن بقدر ما أرضعن،
وقيل : سلّمتم أجور المراضع إليهن.
٢٣٤
وقيل : إذا سلّمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار وذلك
قوله تعالى
{ما آتيتم بالمعروف واتقوا اللّه واعلموا أن اللّه
بما تعملون بصير والذين يُتوفون منكم}
أي يُقبضون ويموتون،
وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً،
وقرأ علي بن أبي طالب كرّم
اللّه وجهه بفتح الياء
أي يتوفون أعمارهم وأرزاقهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد
{وَيَذَرُونَ} ويتركون
{أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ} فإن قيل : فأين الخبر عن
قوله
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قيل : هو متروك فإنه لم يقصد الخبر عنهم،
وذلك جائز في الاسم يذكر ويكون
تمام خبره في اسم آخر،
أن يقول الأول ويخبر عن الثاني
فيكون معناه
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} كقول الشاعر :
بني أسد أنّ ابن قيس وقتله
بغير دم دار المذلّة حلّت
فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره،
وأخبر عن قتله أنه ذلّ،
وأنشد :
لعلّي أن مالت بي الريح ميلة
على ابن أبي ذبان أن يتندما
فقال : لعلّي ثم
قال : يتندما لأن
المعنى فيه عدا قول الفرّاء.
وقال الزجّاج : معناه :
{والذين يتوفون ويذرون أزواجاً} أزواجهم يتربصن بأنفسهنّ.
وقال الأخفش : خبره في
قوله
{يَتَرَبَّصْنَ}
أي يتربصن بعدهم.
وقال قطرب : معناه ينبغي لهنّ
أن يتربصن
أي ينتظرن ويحتبسن
بأنفسهن،
معتدّات على أزواجهن،
تاركات الطيب والزينة والأزواج
والنقلة عن المسكن الذي كنّ يسكنّه في حياة أزواجهنّ أربعة أشهر وعشراً إلاّ أن
يكنّ حوامل فيتربصن إلى أن يضعن حملهن،
فإذا ولدنَ انقضت عدّتهنّ.
روى الزهري عن عروة عن عائشة
أنها كانت تفتي للمتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدّتها أن لا تلبس مصبوغاً،
وتلبس البياض ولا تلبس السواد،
ولا تتزيّن ولا تلبس حليّاً ولا
تكتحل بالأثمد ولا بكحل فيه طيب وإنْ وجعت عينها،
ولكنها تتحلّى بالصبر وما بدا
لها من الأكحال سوى الأثمد مما ليس فيه طيب.
وروى نافع عن زينب بنت أم سلمة
أنّ امرأة من قريش جاءت إلى رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقالت : إن ابنتي توفي زوجها
وقد اشتكت عينها حتى خفت على عينها وهي تريد الكحل،
فقال عليه الصلاة والسلام :
(قد كانت احداكنّ تلبس أطمار ثيابها وتجلس في أخسّ
بيوتها وتمكث حولا في بيتها،
فإذا كان الحول خرجت
فمن كملت رمته ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشراً).
وروى نافع عن صفية بنت عبد
الرحمن عن حفصة بنت عمر أن النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد
على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج،
فإنها تحدّ عليه
أربعة أشهر وعشراً).
وقال سعيد بن المسيّب : الحكمة
في هذه المدّة أن فيها ينفخ الروح في الولد،
وإنّما قال وعشراً بلفظ المؤنث
لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أتممت العدد من الليالي والأيام غلّبت عليه
الليالي فيقولون : صمنا عشراً،
والصوم لا يكون إلاّ بالنهار،
قال الشاعر :
وطافت ثلاثاً بين يوم وليلة
وكان النكير أن يضيف ويجار
أي يخاف فاضح،
ويدلّ عليه قراءة ابن عباس :
أربعة أشهر وعشر ليال،
وقال المبرّد : إنّما أنّث
العشر لأنّه أراد به المدد.
{فَإِذَا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ}
يعني انقضاء العدّة
{فلا
جناح عَلَيْكُمْ} يخاطب الأولياء
{فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} من البر في أن يتولّوه لهنّ
{بِالْمَعْرُوفِ وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
٢٣٥
{ولا جناح
عَلَيْكُمْ} يا معشر الرجال
{فِيمَا
عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} النساء المعتدّات،
وأصل التعريض التلويح بالشيء.
قال الشاعر :
كما خطّ عبرانيّة بيمينه
بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا
والتعريض في الكلام ما كان من
لحن الكلام الذي يفهم به السامع من غير تصريح،
وأصله من عرض الشيء وهو جانبه يقال : أضرب به
عرض الحائط كأنه يحوم حوله ولا يظهره،
وتعريض الخطبة المذكورة في هذه
الآية على ما جاء
في التفسير هو أن يقول لها وهي في العدة : إنّك لجميلة،
وإنك لصالحة،
وإنّك لنافعة،
وإنّ من عزمي أن أتزوج،
وإني فيك لراغب،
وإني عليك لحريص،
ولعلّ اللّه أن يسوق إليك
خيراً،
وإنْ جمع اللّه بيننا بالحلال
أعجبني،
ولئن تزوجتك لأعطيتك ولأحسن
إليك ونحوها من الكلام من غير أن يقول لها : انكحي.
قال إبراهيم : لا بأس أن يهدي
لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه.
وروى ابن عوف عن محمد عن عبيدة
في هذه
الآية
قال : يقول
لوليّها لا سبقني إليها. قال مجاهد قال رجل لامرأة في جنازة زوجها : لا تسبقيني
بنفسك،
فقالت : قد سُبقت،
وروى ابن المبارك عن عبد الرحمن
بن سليمان عن خالته،
أن سكينة بنت حنظلة قالت : دخل
عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال : يابنت حنظلة،
أنا من قد علمت من قرابتي من
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام،
فقالت : غفر اللّه لك يا أبا
جعفر،
أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ
عنك؟
فقال : أو لقد فعلت إنما
أُجرتك بقرابتي من رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) وموضعي،
قد دخل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) على أُم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها،
فلم يزل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يذكر لها منزلته من اللّه وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من
شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة.
وقال ابن يزيد في هذه
الآية : كان أبي
يقول : كلّ شيء كان دون أن يعزما عقدة النكاح فهو زنا،
قال اللّه عزّ وجلّ
{وَلا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ} والخطبة التماس النكاح،
وهو مصدر قولك : خطب الرجل
المرأة يخطبها خطبة وخطباً.
وقال قوم : هي مثال الجلسة والقعدة والركبة،
ومعنى
قولهم خطب فلان فلانة :
سألها خطبة إلى ما في نفسها
أي حاجاته وأمره من
قولهم ما خطبك
أي حاجتك وأمرك،
قال اللّه
{فما
خطبك يا سامري} وقال الأخفش : الخطبة : الذكر،
والخطبة المشهد،
فيكون معناه : فيما عرّضتم به
من تخطبون النساء عندهنّ
{أَوْ
أَكْنَنتُمْ} أسررتم وأضمرتم
{فِي
أَنفُسِكُمْ} في خطبتهنّ وزواجهنّ،
يقال : كننت الشيء
وأكننته لغتان،
وقال ثعلب : أكننت الشيء خفيته
في نفسي وكننته سترته،
وقال السدي : هو أن يدخل
فيساويهنّ إن شاء ولا يتكلم بشيء.
{عَلِمَ اللّه
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} بقلوبكم،
وقال الحسن :
يعني الخطبة
{وَلَاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ} بيوم،
قال بعضهم : هو الزنا وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة وهو
يعرّض بالنكاح فيقول لها : دعيني فإذا وفيت عدّتك أظهرت نكاحك،
فنهى اللّه تعالى عن ذلك،
هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم
وجابر بن زيد وابن أبي مجلز والضحّاك والربيع وعطاء،
وهي رواية عطية عن ابن عباس،
يدلّ عليه قول الأعشى :
ولا تقربنّ جارةً إنّ سرّها
عليك حرام
(وانكحن أو تأبّدا)
وقال الحطيئة :
ويحرم سرّ جارتهم عليهم
ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال مجاهد : هو قول الرجل
للمرأة : لا تفوتيني نفسك،
فإنّي أنكحك. الشعبي والسدي :
لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره. عكرمة : لا يخطبها في العدة. سعيد بن جبير : لا
يقايضها على كذا وكذا من المال على أن لا تتزوج غيره،
وهذه التأويلات كلها متقاربة،
والسرّ على هذه الأقوال النكاح،
قال امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي
قال الأعشى :
فلم يطلبوا سرّها للغنى
ولم يسلموها لإزهادها
أي نكاحها،
وقال الكلبي : لا تواعدوهنّ
سرّاً
أي لا تصفوا أنفسكم
لهنّ بكثرة الجماع فيقول لها آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك،
وعلى هذا القول السرّ هو الجماع
نفسه،
وقال الفرزدق :
موانع للأسرار إلاّ لأهلها
ويخلفن ما ظنّ الغيورالمشفشف
يعني أنهنّ عفائف اليد عن الجماع إلاّ من أزواجهنّ. قال رؤبة :
فعفّ عن أسرارها بعد الغسق
ولم يضعها بين فرك وعشق
يعني عفّ عن غشيانها بعد ما لزمته لذلك.
وقال زيد بن أسلم : لا
تواعدوهنّ سرّاً
أي لا تنكحوهنّ سرّاً،
ثم يمسكها حتى إذا حلّت أظهرت
ذلك،
وأصل السرّ ما أخفيته في نفسك،
وإنما قيل للنكاح والزنا
والجماع السرّ لأنها تكون بين الرجل والمرأة في خفاء،
ويقال أيضاً للفرج سرّ لأنّه لا
يظهر،
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي :
لمّا رأت سرّي تغيّر وانحنى
من دون
(نهمة) سرّها حين
انثنى
ثم استثنى فقال
{إِلا أَن تَقُولُوا قولا معروفا} قيل عدة جميلة،
وقال مجاهد : هو التعرض من غير
أن يصرّح ويبوح،
و
(أنْ) في محل نصب بدلا
من السرّ،
وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا
كلّه منسوخ بقوله
{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ}
أي لا تصححوا عقدة النكاح،
وقال ابن الزجاج : ولا تعزموا
على عقدة النكاح،
كما يقال : يضرب يد الطهر
واليُمن وقال عنترة :
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه
حتى أنال به كريم المطعم
أي وأظل عليه.
{حَتَّى يَبْلُغَ
الْكِتَابُ أَجَلَهُ} حتى تنقضي العدّة وإنما سماها
كتاباً لأنها فرض من اللّه تعالى كقوله
{كُتِبَ
عَلَيْكُمْ} .
{وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللّه يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} فخافوا اللّه
{وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ} لا يعجل بالعقوبة،
تقول العرب : ضع الهودج على
أحلم الجمال.
٢٣٦
{لا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}
الآية،
نزلت في رجل من الأنصار تزوج
بامرأة من بني حنيفة،
ولم يسمّ لها مهراً،
ثم طلّقها قبل أن يمسّها فأنزل
اللّه تعالى هذه
الآية،
فلمّا نزلت قال له رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(متّعها ولو بقلنسوتك)،
فذلك
قوله
{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ
مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهنّ.
قرأ حمزة والكسائي وخلف :
تماسّوهنّ بالألف على المفاعلة لأنّ بدن كل واحد منهما يمسّ بدن صاحبه فيتماسّان
جميعاً،
دليله
قوله
{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} وقرأ الباقون : تمسّوهنّ بغير ألف لأن الغشيان إنما هو من
فعل الرجل،
دليله
قوله
{وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} .
{أَوْ تَفْرِضُوا
لَهُنَّ فَرِيضَةً}
أي توجدوا لهنّ
صداقاً،
يقال فرض السلطان لفلان
أي أثبت له صدقة في
الديوان،
فإنْ قيل : ما الوجه في نفي
الجناح عن المطلق وهل على الرجل جناح لو طلّق بعد المسيس فيوضع عنه قبل المسيس؟
قيل : روي عن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) أنه
قال :
(ما بال أقوام يلعبون بحدود اللّه يقولون :
طلّقتك، راجعتك؟)،
وقال
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا تطلّقوا نساءكم إلاّ عن ريبة؛ فإنّ اللّه لا
يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات).
وقال ج :
(أبغض الحلال عند اللّه الطلاق)،
وقال ج :
(إنّ اللّه يبغض كل مطلاق مذواق).
فلمّا قال رسول اللّه هذا ظنّوا
أنهم يأثمون في ذلك فأخبر اللّه تعالى أنه لا جناح في تطليق النساء إذا كان على الوجه
المندوب،
فربّما كان الفراق أروح من
الإمساك،
وقيل : معنى
قوله
{لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}
أي لا سبيل عليكم
للنساء إن طلّقتموهنّ ما لم تمسّوهنّ ولم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة في أتباعكم
بصداق ولا نفقة.
وقيل : معناه
{لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} في
أي وقت شئتم لأنه لا سنّة في طلاقهنّ،
فللرجل أن يطلّقهن إذا لم يكن
مسّهنّ حائضاً أو طاهراً،
وفي كل وقت أحبّ،
وليس كذلك في المدخول بها لأنّه
ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلاّ العدة ظاهراً في طهر لم يجامعها
فيه،
فإن طلّقها حائضاً آيساً وقع
الطلاق.
{وَمَتِّعُوهُنَّ}
أي زوّدوهنّ وأعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به،
والمتعة والمتاع ما تبلغ به من
الزاد
{عَلَى الْمُوسِعِ}
أي الغني
{قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ} الفقير
{قَدَرُهُ}
أي إمكانه وطاقته،
قرأ أبو جعفر وحفص وحمزة
والكسائي وخلف وابن ذكوان بفتح الدال فيهما،
واختاره أبو عبيدة
قال : لما فيهما
من الفخامة،
وقرأ الآخرون بجزم الدال فيهما
واختاره أبو حاتم وهما لغتان،
قال : نطق بهما القرآن فتصديق الفتح
قوله :
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا} وتصديق الجزم
قوله :
{وَمَا
قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} تقول العرب :
القضاء والقدر،
وقال أبو يزيد الأنصاري :
القضاء والقدر بتسكين الدال،
وقال الشاعر وهو الفرزدق :
وما صبّ رملي في حديد مجاشع
مع القدر إلاّ حاجة لي أريدها
وقال بعضهم : القدْر المصدر والقدَر الاسم
{مَّتَاعًا} نصب على المصدر
أي متعوهن متاعاً،
ويجوز أن يكون نصباً على القطع
لأنّ المتاع نكرة والقدر معرفة
{بِالْمَعْرُوفِ}
أي ما أمركم اللّه به من غير ظلم ولا مطل
{حَقًّا} نصب على
الحكاية تقديره : أخبركم حقاً،
وقيل على القطع.
حكم
الآية
قال المفسّرون : قيل : هذا في
الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقاً فطلقها قبل أن يمسها فلها المتعة ولا
فريضة لها بإجماع العلماء،
واختلفوا في متعة المطلقة فيما
عدا ذلك،
فقال قوم : لكل مطلقة متعة
كائنة من كانت وعلى
أي وجه وقع الطلاق،
فالمتعة واجبة تقضى لها في مال
المطلّق كما تقضى عليه سائر الديون الواجبة عليه،
سواء دخل بها أو لم يدخل،
فرض لها أو لم يفرض إذا كان
الطلاق من قبله،
فأما إذا كان الفراق من قبلها
فلا متعة لها ولا مهر،
وهو قول الحسن وسعيد بن جبير
وأبي العالية ومحمد بن جرير،
قال : لقوله
تعالى :
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعُ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فأوجب المتعة لجميع المطلقات ولم يفرّق،
ويكون معنى
الآية على هذا
القول : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة أو لم
تفرضوا لهنّ فريضة،
لأنّ كل منكوحة إنما هي احدى
اثنتين : مُسمّى لها الصداق أو غير مسمّى لها فعلمنا بالذي نقلوا من
قوله
{أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} أن المعنيّة بقوله :
{لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ} المفروضات لهن
{مِن
قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} وغير المفروض لها
إذ لا معنى لقول القائل :
{لا جناح
عليكم إن طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهنّ فريضة} ثم
قال :
{وَمَتِّعُوهُنَّ}
يعني الجميع.
وقال آخرون : المتعة واجبة لكل مطلّقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طُلّقت
قبل الدخول فإنه لا متعة لها وإنما لها نصف الصداق المسمّى،
وهذا قول عبد اللّه بن عمر
ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب
الشافعي،
ويكون وجه
الآية على هذا
القول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة،
الألف زائدة كقوله
{أَوْ يَزِيدُونَ} ونحوها،
ثم أمر بالمتعة لهنّ.
ويجوز أن يكون
قوله
{وَمَتِّعُوهُنَّ} راجعاً إلى المطلقات غير المفروضات قبل المسيس دون المفروضات لهنّ،
ويكون
قوله في عقبه : وإن
طلقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ مختصاً له،
فجرى في أول
الآية على ظاهر
العموم في المفروضات وغير المفروضات،
وفي
قوله
{وَمَتِّعُوهُنَّ} على التخصيص في غير المفروضات للآية التي بعدها.
وقال الزهري : متعتان يقضي
بأحدهما السلطان ولا يقضي بالأخرى،
بل يلزمه فيما بينه وبين اللّه،
فأمّا التي يقضي بها السلطان
فهو فيمن طلق قبل أن يفرض لها ويدخل بها فإنه يؤخذ بالمتعة وهو
قوله :
{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} .
والمتعة التي تلزم فيما بينه
وبين اللّه تعالى ولا يقضي به السلطان هي فيمن طلق بعدما يدخل بها ويفرض لها وهو
قوله :
{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
وقال
بعضهم : ليس شيء من ذلك بواجب،
وإنما المتعة إحسان والأمر بها
أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب،
وهو قول
أبي حنيفة،
وروى ابن سيرين أنّ رجلا طلّق
امرأة وقد دخل بها،
فخاصمته إلى شريح في المتعة
فقال شريح : لا تاب أن يكون من المحسنين ولا تاب أن يكون من المتقين ولم يجبره على
ذلك.
واختلفوا في قدر المتعة
ومبلغها،
فقال ابن عباس والشعبي والزهري
والربيع بن أنس : أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب : درع وخمار
(وجلباب) وإزار،
ودون ذلك النفقة،
ثم دون ذلك الكسوة،
شيء من الورق،
وهذا مذهب
الشافعي
قال : أعلاها
خادم على الموسع،
وأوسطها ثوب،
وأقلّها أقلّ ماله ثمن. قال
الحسن : ثلاثون درهماً،
وكان شريح يمتّع بخمسمائة درهم،
ومتّع عبد الرحمن بن عوف أم أبي
سلمة حين طلّقها جاريةً سوداء،
ومتّع الحسن بن علي
(رضي اللّه عنه) امرأة له بعشرة آلاف درهم،
فقالت : متاع قليل من حبيب
مفارق.
قال
أبو حنيفة : متاعها إذا
اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها ولا تجاوز ذلك،
والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر
عسر الرجل ويسره كما قال تعالى،
ولو كان المعتبر فيه المهر لكان
يقول : ومتعوهنّ على قدرهنّ وقدر صداق مثلهنّ،
فلمّا قال
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ} دلّ على أنّ المعتبر فيه حال الرجل لا حال المرأة،
وروى ابن أبي زائدة عن صبيح بن صالح
قال : سئل عامر :
بكم يمتّع الرجل امرأته؟
قال : على قدر ماله.
تفصيل حكم
الآية
من تزوّج امرأة على غير مهر
مسمّى فالنكاح جائز،
فإن طلبت الفرض أمرناه أن يفرض
لها،
وإن لم يفرض لها ودخل بها فلها
مهر مثلها،
فإن طلقها قبل الدخول فلها
المتعة ولا مهر لها،
وإن مات عنها بعد الدخول فلها
مهر مثلها،
وإن مات عنها قبل الدخول
والتسمية ففيها قولان :
أحدهما : لها مهر مثلها،
وهو مذهب أهل العراق،
والدليل عليه حديث بروع بنت
واسق الأشجعية حين توفي عنها زوجها ولم يفرض لها ولا دخل بها فقضى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بمهر
(نسائها) لا وكس ولا شطط،
وعليها العدة،
ولها الميراث.
والقول الثاني : أنّ لها
الميراث وعليها العدة ولا مهر لها،
بل لها المتعة كما لو طلّقها
قبل الدخول والتسمية،
وهو قول علي،
وكان يقول في حديث بروع : لا
يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب اللّه وسنّة رسوله.
٢٣٧
{وَإِن
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ}
الآية هنا في
الرجل يتزوج المرأة،
وقد سمّى لها صداقاً،
ثم يطلقها قبل أن يمسّها فلها
نصف الصداق،
وليس لها أكثر من ذلك،
ولا عدة عليها،
وإن لم يدخل بها حتى توفي فلا
خلاف أنّ لها المهر كاملا والميراث،
وعليها العدة،
والمسّ ههنا الجماع.
وقال
أبو حنيفة وأصحابه : إن خلا
رجل بامرأة ولم يجامعها حتى فارقها فإنّ المهر الكامل يلزمه،
والعدّة تلزمها لخبر ابن مسعود
: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق باباً وأرخى ستراً أن لها المهر وعليها العدّة،
وأما
الشافعي فلا يلزم مهراً
كاملا ولا عدّة إذ لم يكن دخول بظاهر القرآن.
قال شريح : لم أسمع اللّه تعالى
ذكر في كتابه باباً ولا ستراً،
إنما زعم أنه لم يمسّها فلها
نصف الصداق،
وهو مذهب ابن عباس.
وهذه
الآية ناسخة
الآية التي في
سورة الأحزاب
{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات}
الآية،
إلى
قوله :
{فَمَتِّعُوهُنَّ} قد كان لها المتاع،
فلمّا نزلت هذه
الآية نسخت ما
كان قبلها وأوجبت للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف مهرها المسمّى،
ولا متاع لها كما قال عزّ من
قائل :
{وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن
تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهنّ.
{وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً} أوجبتم لهنّ صداقاً،
وسمّيتم لهنّ مهراً،
وأصل الفرض القطع،
ومنه قيل لحزّ الميزان والقوس :
فرضة،
وللنصيب فريضة لأنّه قطعه من
الشيء
{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
أي نصف المهر
المستحق،
وقرأ السلمي فنُصف بضم النون
حيث وقع،
وهما لغتان.
ثم قال
{إِلا أَن يَعْفُونَ}
يعني النساء،
ومحل يعفون نصب بأن إلاّ أنّ
جمع المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم،
يكون في كل حال بالنون تقول :
هنّ يضربن،
ولن يضربن،
ولم يضربن لأنها لو سقطت النون
لاشتبه بالمذكر.
{أَوْ يَعْفُوَا} قرأ الحسن ساكنة الواو كأنه استثقل الفتحة في الواو كما
استثقلت الضمّة فيها
{الَّذِى بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ} اختلف العلماء فيه،
فقال بعضهم : هو الولي،
ومعنى
الآية إلاّ أن يعفون
أي يهبن ويتركن النصف
فلا يطالبن الأزواج إذا كنّ ثيّبات بالغات رشيدات جائزات الأمر،
أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح
وهو وليها،
فيترك ذلك النصف إذا كانت بكراً
أو غير جائزة الأمر،
ويجوز عفوه عليها وإن كرهت،
فإن عفت المرأة وأبى الولي
فالعفو جائز،
فإن عفى الولي وأبت المرأة
فالعفو جائز بعد أن لا تريد ضراراً،
وهذا قول
(علي) وأصحاب عبد
اللّه وإبراهيم وعطاء والحسن والزهري والسدي وأبو صالح وأبي زيد وربيعة الرأي،
ورواية العوفي عن ابن الحسن.
وروى معمر عن ابن طاووس عن أبيه
وعن إسماعيل بن شرواس قالا : الذي بيده عقدة النكاح هو الولي،
وقال عكرمة : أذن اللّه تعالى
هو في العفو ورضي به وأمر به،
فأيّ امرأة عفت جاز عفوها وانْ
شحّت وضنّت عفا وليها وجاز عفوه،
وهذا مذهب فقهاء الحجاز إلاّ
أنهم
قالوا : يجوز عفو
ولي البكر فإذا كانت ثيّباً فلا يجوز عفوه عليها.
وقال بعضهم : الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج،
ومعنى
الآية : إلاّ أن تعفو
النساء فلا يأخذن شيئاً من المهر،
أويعفو الزوج فيعطيها الصداق
كاملا،
وهذا قول علي وسعيد بن المسيب
والشعبي ومجاهد ومحمد بن كعب القرضي ونافع والربيع وقتادة وابن حبّان والضحّاك
ورواية عمار بن أبي عمار عن ابن عباس،
وهو مذهب
(أهل) العراق لا
يرون سبيلا للولي على شيء من صداقها إلاّ بإذنها،
ثيّباً كانت أو بكراً،
قالوا : لإجماع الجميع من أنّ ولي المرأة لو أبرأ زوجها من مهرها قبل
الطلاق أنه لا يجوز ذلك،
فكذلك إبراؤه وعفوه بعد الطلاق
لا يجوز،
ولإجماعهم أيضاً على أنه لو وهب
وليّها من مالها لزوجها درهماً بعد البينونة أثم ما لم يكن له ذلك،
وكانت تلك الهبة باطلة والمهر
مال من أموالها،
فوجب أن يكون الحكم كحكم
بإبراء،
مالها ولإجماعهم أنّ من
الأولياء من لا يجوز عفوه عليها بالإجماع،
وهم بنو الأخوة وبنو الأعمام
وما يفرق اللّه
(بعض) في
الآية.
عن عيسى بن عاصم
قال : سمعت
شريحاً يحدّث
قال : سألني علي
عن الذي بيده عقدة النكاح،
فقلت : ولي المرأة،
فقال : لا، بل الزوج،
وروي أن رجلا زوّج اخته وطلقها
زوجها قبل أن يدخل بها؛ فعفا أخوها عن المهر فأجازه شريح،
ثم
قال : أنا أعفو عن نساء
بني مرّة فقال عامر : لا واللّه ما قضى شريح قضاء أردأ ولا هو أحمق فيه منه أن
يجيز عفو الأخ،
قال : رجع بعدُ شريح عن
قوله،
وقال : هو الزوج.
وعن القاسم
قال : كان أشياخ
الكوفة ليأتون شريحاً فيخاصمونه في
قوله
{الَّذِى
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} حتى يجثو على
ركبتيه فيقول شريح : إنه الزوج،
إنه الزوج.
روى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن
جبير
قالوا : هو الزوج،
وقال طاووس ومجاهد : هو الولي
فكلّمتهما في ذلك فرجعا عن
قولهما وتابعا سعيد وقالا : هو الزوج،
وروى محمد بن شعيب مرسلا أنّ
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(الذي بيده عقدة النكاح الزوج،
يعفو فيعطي الصداق
كاملا).
وعن صالح بن كيسان أن جبير بن
مطعم تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحقّ
بالعفو وتأوّل
قوله :
{أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} فيكون وجه
الآية على هذا التأويل
{الَّذِى
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} نفسه في كل حال
قبل الطلاق وبعده،
فلمّا أدخل الألف واللام حذف
الهاء كقوله
{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى}
يعني مأواه،
وقال النابغة :
لهم شيمة لم يعطها اللّه غيرهم
من الناس فالأحلام غير عوازب
يعني وأحلامهم فكذلك
قوله
{عُقْدَةَ
النِّكَاحِ} بمعنى عقدة نكاحه
{وأن
تعفو أقرب للتقوى} قال سيبويه موضعه رفع
بالإبتداء
أي والعفو أقرب
للتقوى وألزم،
بمعنى إلى
أي،
إلى التقوى : والخطاب ههنا
للرجال والنساء،
لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا
غلب المذكر،
ومعناه وعفوكم عن بعض أقرب إلى
التقوى لأنّ هذا العفو ندب وإذا سارع إليه وأتى به كان معلوماً أنه لما كان فرضاً
أشد استعمالا ولمّا نهى عنه أشد تجنباً وقرأ الشعبي : وأن يعفو بالياء جعله خبراً
عن الذي بيده عقدة النكاح.
{وَلا تَنسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} قرأ علي بن أبي
طالب وأبو داود والنخعي
{ولا
تناسوا الفضل} من المفاعلة بين اثنين كقوله :
{وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ} وقرأ يحيى بن يعمر
{وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ} بكسر الواو،
وقرأ الباقون
{وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ} بضم الواو،
ومعنى الفضل إتمام الرجل الصداق
أو ترك المرأة النصف،
حثّ اللّه تعالى الزوج والمرأة
على الفضل والإحسان وأمرهما جميعاً أن يسبقا إلى العفو.
{إِنَّ اللّه بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
٢٣٨
{حَافِظُوا عَلَى
الصلواتِ}
أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها
وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وجميع ما يجب فيها من حقوقها،
وكل صلاة في القرآن مقرونة
بالمحافظة فالمراد بها الصلوات الخمس،
ثم خصّ الصلاة الوسطى من بينها
بالمحافظة دلالة على فضلها
كقوله
تعالى :
{من كان
عدواً للّه وملائكته ورسله وجبرائيل وميكائيل} وهما من جملة الملائكة،
وقوله :
{فِيهِمَا
فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أخرجهما بالذكر من
الجملة بالواو الدالة على التخصيص والتفصيل،
فكذلك
قوله :
{حَافِظُوا عَلَى} .
وقرأت عائشة
{حَافِظُوا عَلَى} بالنصب على الإغراء،
وروى قالون عن نافع
{الْوُسْطَى} بالصاد لمجاورة الطاء لأنهما من جنس واحد،
وهما لغتان كالصراط والسراط،
والصدغ والسدغ،
والبصاق والبساق،
واللصوق واللسوق،
والصندوق والسندوق،
والصقر والسقر.
والوسطى تأنيث الأوسط،
ووسط الشيء خيره وأعدله لأن خير
الأمور أوسطها،
قال اللّه تعالى :
{وَ كذلك
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
أي خياراً وعدلا،
وقال تعالى :
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ}
أي خيرهم وأفضلهم،
وقال أعرابي يمدح النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) :
يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم
وأكرم الناس أُمّاً برّة وأبا
واختلف العلماء في الوسطى وأي
صلاة هي،
فقال سعيد بن المسيب : كان
أصحاب رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) فيها هكذا في الاختلاف،
وشبّك من أصابعه،
فقال قوم : هي صلاة الفجر،
وهو قول معاذ وعمر وابن عباس
وابن عمر وجابر بن عبد اللّه وعطاء وعكرمة والربيع ومجاهد وعبد اللّه بن شداد بن
الهاد،
وعن موسى بن وهب
قال : سمعت أبا
أمامة وقد سئل عن الصلاة الوسطى
قال : لا أحسبها إلاّ صلاة الصبح. معمر بن طاوس عن أبيه وإسماعيل
بن شروس عن عكرمة قالا : هي الصبح
يعني الصلاة الوسطى،
وهو اختيار الإمام أبي عبد
اللّه
الشافعي،
يدلّ عليه ما روى الربيع عن أبي
العالية أنه صلّى مع أصحاب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) صلاة الغداة،
فلمّا أن فرغوا
قال : قلت لهم :
أيّتهنّ الصلاة الوسطى؟
قالوا : التي صلّيتها،
قيل : ولأنها بين صلاتي ليل
وصلاتي نهار.
وروى عكرمة عن ابن عباس
قال : هي صلاة
الصبح،
وسّطت فكانت بين الليل والنهار،
يصلّى في سواد من الليل وبياض
من النهار،
وهي أكبر الصلوات تفوت الناس،
ولأنها لا تقصر ولا تجمع إلى
غيرها،
ولأنها بين صلاتين تجمعان،
وتصديق هذا التأويل من التنزيل
دالا على التخصيص والتفضيل
قوله
تعالى
{وَقُرْءَانَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}
يعني تشهده
ملائكة الليل وملائكة النهار،
مكتوب في ديوان الليل وديوان
النهار،
ودليل آخر من سياق
الآية وهو أنه
عقبها بقوله
{وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ}
يعني وقوموا للّه فيها قانتين،
قالوا : ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت سوى صلاة الفجر فعلم أنها هي،
وفيه دليل على ثبوت القنوت.
وقال أبو رجاء العطاردي : صلّى
بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة،
فقنت بنا قبل الركوع ورفع يديه،
فلمّا فرغ
قال : هذه الصلاة
الوسطى التي أُمرنا أن نقوم فيها قانتين،
والدليل عليه ما روى حنظلة عن
أنس
قال : قنت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) شهراً وقال : ما زال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا.
ابن أبي ليلى عن عطاء بن أبي
رباح عن ابن عباس
قال : قنت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) حتى مات،
وأبو بكر حتى مات،
وعمر حتى مات،
وعثمان حتى مات،
وعلي حتى مات،
وقال آخرون : هي صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة
بن زيد وعائشة.
روى عروة عن زيد بن ثابت أن
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يصلّي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلاّ
الصف والصفّان،
وأكثر الناس يكونون في قائلتهم
وفي تجاراتهم،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة
بيوتهم) فنزلت هذه
الآية
{حَافِظُوا
عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى} ودليلهم
أنها وسط النهار ما روى أبو ذر عن علي كرم اللّه وجهه
قال : قال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه في السماء الدنيا حلفة تزول منها
الشمس،
فإذا مالت الشمس
سبّح كل شيء لربّنا،
وأمر اللّه تعالى
بالصلاة في تلك الساعة،
وهي الساعة التي
تفتح فيها أبواب السماء فلا تغلق حتى يصلّى الظهر،
ويستجاب فيها
الدعاء).
ولأنها أوسط صلوات النهار،
ومن خصائصها أنها أول صلاة
فرضت،
وأول صلاة توجّه فيها رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه إلى الكعبة،
وهي التي ترفع جميع الصلوات
والجماعات
(لأجلها) يوم الجمعة.
وقال بعضهم : هي صلاة العصر،
وهو قول علي وعبد اللّه وأبي
هريرة والنخعي وزرّ بن حبيش وقتادة وأبي أيوب والضحّاك والكلبي ومقاتل،
واختيار
أبي حنيفة،
يدلّ عليه ما روى الحسن عن سمرة
بن جندب عن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) أنه
قال :
(صلاة الوسطى العصر).
وفي بعض الأخبار هي التي فرّط
فيها سليمانج. سفيان بن عيينة عن البراء بن عازب
قال : نزلت
{حَافِظُوا عَلَى الصلاتِ} وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ما شاء اللّه ثم
(سنحتها)
{حَافِظُوا
عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى} فقال له
بعضهم : فهي صلاة العصر،
قال : أعلمتك كيف نزلت وكيف نسختها،
واللّه أعلم.
نافع عن حفصة زوج النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) أنها قالت لكاتب مصحفها : إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما
سمعت من رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) ،
فلمّا أخبرها قالت : اكتب إني
سمعت رسول اللّه يقول
{حَافِظُوا
عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى} صلاة
العصر.
هشام عن عروة عن أبيه قال كان
في مصحف عائشة
{حَافِظُوا عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى} صلاة العصر
{وَقُومُوا
للّه قَانِتِينَ} وهكذا كان يقرأها أبي بن كعب
وعبيد بن عمير.
الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل
عن علي
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يوم الأحزاب :
(شغلونا
عن الصلاة الوسطى صلاة العصر،
ملأ اللّه بيوتهم أو
قبورهم نارا).
قال ثم صلاّها بين العشاءين،
وفي بعض الأخبار أن رجلا قال في
مجلس عبد العزيز بن مروان : أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير إلى النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) أسأله عن الصلاة الوسطى،
فأخذ اصبعي الصغيرة فقال :
(هذه الفجر)،
وقبض التي تليها وقال :
(هذه الظهر)،
ثم قبض الإبهام فقال :
(هذه المغرب)،
ثم قبض التي تليها فقال :
(هذه العشاء)،
ثم
قال :
(أي أصابعك بقيت؟)
فقلت : الوسطى،
فقال :
(أي الصلاة بقيت؟)
قلت : العصر،
قال :
(هي
العصر).
قالوا : ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل،
(وكان) النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) متسامحاً فأخذ يصلّيها ويبالغ،
وروى أبو تميم الحبشاني عن أبي
بصرة الغفاري
قال : صلّى بنا
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) صلاة العصر،
فلمّا انصرف
قال :
(إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم؛ فتوانوا
فيها وتركوها؛ فمن صلاّها منكم وحافظ عليها أوتي أجرها مرّتين ولا صلاة بعدها حتى
يرى الشاهد) والشاهد : النجم.
أبو قلابة عن أبي المهاجر عن
بريدة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(بكّروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاة
العصر حبط عمله).
نافع عن ابن عمر عن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(الذي يصلّي العصر كافاه في أهله وماله).
وقال قبيصة بن ذؤيب : هي صلاة
المغرب،
ألا ترى أنها واسطة ليست بأقلها
ولا أكثرها وهي لا تقصر في السفر ومن وتر النهار.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إن أفضل الصلوات صلاة المغرب،
لم يحطها اللّه عن
مسافر ولا مقيم،
فتح اللّه بها صلاة
الليل،
وختم بها النهار،
فمن صلّى المغرب
وصلّى بعدها ركعتين بنى اللّه له قصراً في الجنة،
ومن صلّى بعدها أربع
ركعات غفر اللّه له ذنب عشرين سنة،
أو قال : أربعين
سنة).
وحكى الشيخ أبو ميثم سهل بن
محمد عن بعضهم أنها صلاة العشاء الأخيرة،
وقال : لأنها بين صلاتين
لا تقصران.
وروى عبد الرحمن بن أبي عمر عن
عثمان بن عفان
(رضي اللّه عنه) عن النبي
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(من
صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة،
ومن صلى الفجر في
جماعة كان كقيام ليلة).
وقال بعضهم : هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها عينها،
سئل الربيع بن خيثم عن الصلاة
الوسطى فقال للسائل :
(أراغب) إن علمتها كنت محافظاً عليها ومضيّعاً سائرهن؟
قال : لا،
قال : فإنك إنْ حافظت عليهنّ فقد حافظت عليها،
وبه قال أبو بكر الورّاق،
قال : لو شاء اللّه عزّ وجلّ لبيّنها،
ولكنه سبحانه أراد تنبيه الخلق
على أداء الصلوات.
قال الثعلبي
(ولقد أحسنا) في قوليهما فإن اللّه تعالى أخفى الصلاة الوسطى في جميع الصلوات المكتوبة
ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى،
كما أخفى ليلة القدر في ليالي
شهر رمضان،
واسمه الأعظم في جميع الأسماء،
وساعة الإجابة في ساعات الجمعة
حكمةً منه في فعله ورحمةً على خلقه.
وفي
قوله عزّ وجلّ
{والصلاة الوسطى} دليل على أن الوتر ليس بواجب وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن الصلوات
المفروضات تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة،
وليس من الثلاثة والسبعة فرد
إلاّ خمسة،
والأزواج لا وسطى لها،
فثبت أنها خمسة.
قتادة عن أنس
قال : قال رجل :
يا رسول اللّه،
كم افترض اللّه على عباده
الصلوات؟
قال : خمس صلوات،
قال : فهل قبلهنّ وبعدهنّ شيء افترض اللّه على عباده
قال : لا، فحلف
الرجل باللّه لا يزيد عليهنّ ولا ينقص،
فقال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إن صدق الرجل دخل الجنة).
وعن طلحة بن عبيد اللّه
قال : جاء رجل
إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) من أهل نجد ثائر الرأس،
يسمع دوي صوته ولا يفهم ما
يقول،
حتى دنا فإذا هو يسأل عن
الإسلام،
فقال له رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(خمس صلوات في اليوم والليلة)
قال : هل عليّ غيرهنّ؟
قال :
(لا
إلاّ أن تتطوع) قال
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(وصيام شهر رمضان)
قال : هل عليّ
غيره؟
قال :
(لا،
إلاّ أن تتطوع) وذكر له عليه الصلاة والسلام الزكاة،
قال : هل عليّ غيرها؟
قال :
(لا،
إلاّ أن تتطوع) فأدبر الرجل وهو يقول : واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص
منه،
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(أفلح إن صدق).
عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن
جرير أن رجلا من بني كنانة يدعى المحدجي كان يسمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول
: الوتر واجب،
قال المحدجي : فرحت إلى عبادة
بن الصامت واعترضت له وهو رايح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد،
فقال عبادة : كذب أبو محمد،
سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(خمس صلوات كتبهنّ
اللّه على العباد،
من جاء بهنّ لم
يضيّع منهنّ استخفافاً بحقهنّ كان له عند اللّه عهد أن يدخله الجنة،
ومن لم يأت بهنّ
فليس له عند اللّه عهد إن شاء عذّبه اللّه وإن شاء أدخله الجنة).
وعن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي
طالب
(رضي اللّه عنه)
قال : ليس الوتر
بحتم لأنه لا تكبير به ولكنه سنّة سنّها رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
والدليل على أنّ الوتر ليس
بواجب ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) كان يوتر على راحلته،
وعن نافع أيضاً أن ابن عمر كان
يوتر على بعيره،
ويذكر أن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يفعل ذلك،
وأجمع الفقهاء على أن الصلاة
المكتوبة على الراحلة في حال الأمن لا تجوز.
{وَقُومُوا للّه
قَانِتِينَ}
أي مطيعين،
قاله الشعبي وعطاء وجابر بن زيد
وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاووس وابن عباس برواية عكرمة وعطية وابن أبي طلحة،
قال الضحّاك ومقاتل والكلبي :
لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين،
فقوموا أنتم في صلواتكم للّه
مطيعين،
ودليل هذا التأويل ما روى أبو
سعيد الخدري عن النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) أنه
قال :
(كل قنوت في الظهرين هو الطاعة).
وقال بعضهم : القنوت : السكوت
(عمّا) لا يجوز التكلم به في الصلاة،
قال زيد بن أرقم : كنّا نتكلّم
على عهد رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) في الصلاة ويكلّم أحدنا مَنْ إلى جانبه،
ويدخل الداخل فيسلّم فيردون
عليه،
ويسألهم : كم صلّيتم؟
فيردّون عليه مخبرين كم صلوا،
ويجيء خادم الرجل وهو في الصلاة
فيكلّمه بحاجته كفعل أهل الكتاب،
فكنّا كذلك إلى أن نزلت
{وَقُومُوا للّه قَانِتِينَ} فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام.
مجاهد : خاشعين،
قال : ومن القنوت طول الركوع وغضّ البصر والركود وخفض الجناح،
كان العلماء إذا قام أحدهم
يصلّي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلّب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدّث نفسه بشيء من
أمر الدنيا إلاّ ناسياً.
الحسن والربيع : قياماً في
الصلاة،
يدلّ عليه حديث جابر أن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) سئل :
أيّ الصلاة أفضل؟
فقال :
(طول القنوت).
وقال ابن عباس في رواية رجاء :
داعين في صلاتهم،
دليله أن النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) قنت على رجل وذكر أن
أي دعاء عليهم
(قد) قيل : مصلّين دليله
قوله تعالى
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ}
أي مصلِّ،
وقال النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مثل المجاهد في سبيل اللّه كمثل القانت الصائم)
أي المصلي الصائم
٢٣٩
{فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَا}
أي رجّالة،
ويقال : راجل ورجال مثل
صاحب وصحاب وصائم وصيام وقائم وقيام،
قال اللّه تعالى
{يَأْتُوكَ
رِجَا} قال الأخطل :
وبنو غدانة شاخص أبصارهم
يمشون تحت بطونهنّ رجالا
يروى أنهم أحنوا مأسورين
وأبصارهم شاخصة إلى ولْدهم
{أَوْ
رُكْبَانًا} على دوابّهم،
وهو جمع راكب،
قال المفضل : لا يقال راكب إلاّ
لصاحب الجمل،
فأمّا صاحب الفرس فيقال له
فارس،
ولراكب الحمار الحمّار،
ولراكب البغال بغّال،
ونصبت على الحال،
أي فصلّوا رجالا أو ركباناً.
ومعنى
الآية : فإن لم يمكنكم
أن تصلّوا قانتين موفين الصلاة حقّها لخوف فصلّوا رجالا
أي مشاة على أرجلكم،
أو ركباناً على ظهور دوابّكم،
فإن ذلك يجزيكم.
قال المفسرون : هذا في المسابقة
والمطاردة،
يصلّي حيث يولي وجهه،
مستقبل القبلة أو غير مستقبلها،
راكباً أو راجلا،
ويجعل السجود أخفض من الركوع،
يومئ إيماء،
وهذه صلاة شدّة خوف،
والصلاة في حال الخوف على
ضربين،
وسنذكرها في سورة النساء،
وصلاة شدّة الخوف وهي هذه،
والخوف الذي يجوز للمصلّي أن
يصلي من أجله راكباً أو
(راجلا) وحيث ما كان وجهته هو المحاربة والمسابقة في قتال من أُسر
بقتال من عدوّ أو محارب أو خوف سبع هائج،
أو جمل صائل،
أو سيل سائل،
أو كان الأغلب من شأنه الهلاك،
وإن صلّى صلاة الأمن فله أن
يصلي صلاة شدة الخوف وهي ركعتان،
فإن صلاّها ركعة واحدة جاز لما
روى مجاهد عن ابن عباس
قال : فرض اللّه عزّ وجلّ الصلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعاً
وفي السفر ركعتين،
وفي الخوف ركعة.
وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في
القتال،
والتقى الزحفان،
وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل :
سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر،
واذكر اللّه،
فتلك صلاتك. قال الزهري : فإن
لم يستطع فلا يدع ذكرها في نفسه.
٢٤٠
{فَإِذَآ أَمِنتُمْ
فَاذْكُرُوا اللّه}
أي فصلوا الصلوات
الخمس تامّة لحقوقها
{كما علّمكم ما لم
تكونوا تعلمون والذين يتوفون منكم} يا معشر الرجال
{وَيَذَرُونَ} ويتركون
{أَزْوَاجًا} زوجات.
قال الكسائي : أكثر ما تقول
العرب للمرأة زوجة،
ولكن في القرآن زوج
{وَصِيَّةً زْوَاجِهِم} قرأ الحسن وأبو عمرو وأبو عامر والأعمش وحمزة
(وصيّة) بالنصب على معنى
فليوصوا وصية،
وقرأ الباقون بالرفع على معنى
كُتب عليهم الوصية،
وقيل : معناه لأزواجهم وصية،
وقيل : ولتكن وصية،
ودليل هذه القراءة قراءة عبد
اللّه : كُتبت عليهم وصية لأزواجهم.
وقرأ أُبي : ويذرون أزواجاً
متاع لأزواجهم،
قال أبو عبيد : ومع هذا رأينا
هذا المعنى كلّها في القرآن رفعاً مثل
قوله
{فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ} ،
{فَدِيَةٌ
مُّسَلَّمَةٌ} ونحوهما.
{مَّتَاعًا} نصب على المصدر
أي متّعوهنّ متاعاً،
وقيل : جعل اللّه عزّ وجلّ ذلك لهنّ متاعاً،
وقيل : نصب على الحال،
وقيل : نصب بالوصية كقوله
{أو
إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما}. والمتاع : النفقة
سنة لطعامها وكسوتها أو سكناها أو ما تحتاج إليه
{إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نصب على الحال،
وقيل : بنزع حرف الصفة
أي من غير إخراج.
فأما تفسير
الآية وحكمها،
فقال ابن عباس وسائر المفسرين :
نزلت هذه
الآية في رجل من
أهل الطائف يقال له : حكيم بن الحرث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه
وامرأته فمات،
فرفع ذلك إلى النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية،
فأعطى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها
من تركة زوجها حولا،
وذلك أن الرجل كان إذا مات وترك
امرأة اعتدّت سنة في بيت زوجها لا تخرج،
فإذا كان الحول خرجت ورمت كلباً
ببعرة تعني بذلك أن قعودها بعد زوجها أهون عليها من بعرة رُمي بها كلب،
وقد ذكر ذلك الشعراء في شعرهم،
قال لبيد :
والمرملات إذا تطاول عامها
وكان سكناها ونفقتها واجبة في
مال زوجها هذه السنة ما لم تخرج،
وكان ذلك حظّها من تركة زوجها،
ولم يكن لها الميراث،
وإنْ خرجت من بيت زوجها فلا
نفقة لها،
وكان الرجل يوصي بذلك،
وكان كذلك حتى نزلت آية
المواريث فنسخ اللّه نفقة الحول بالربع والثمن،
ونسخ عدة الحول بقوله
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا}
قال
اللّه تعالى
{فَإِنْ
خَرَجْنَ}
يعني من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة
{فلا جناح عَلَيْكُمْ} يا أولياء الميت
{فيما
فعلن في أنفسهن من معروف}
يعني التشوق
للنكاح،
وفي معنى رفع الجناح عن الرجال
بفعل النساء وجهان :
أحدهما : لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء
الحول.
والوجه الآخر : لا جناح عليكم
في ترك منعهنّ من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها،
خيّرها اللّه في ذلك إلى أن
نسخت أربعة أشهر وعشراً،
لأن ذلك لو كان واجباً عليها ما
كان على أولياء الزوج منعها من ذلك،
فرفع اللّه الجناح عنهم وعنها،
وأباح لها الخروج إن شاءت،
ثم نسخ النفقة بالميراث،
٢٤١
ومقام السنة بأربعة أشهر وعشراً
{واللّه عزيز حكيم وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً
على المتقين} قد ذكرنا حكم المتعة بالاستقصاء،
فأغنى عن إعادته،
وإنّما أعاد ذكرها ههنا لِما
فيها من زيادة المعنى على ما سواها وهي أنّ فيما سوى هذا بيان حكم غير الممسوسة
إذا طلقت،
وههنا بيان حكم جميع المطلقات
في المتعة.
وقال ابن زيد : نزلت هذه
الآية لأنّ اللّه
تعالى لما أنزل
قوله
{وَمَتِّعُوهُنَّ} إلى
قوله
{عَلَى
الْمُحْسِنِينَ} قال رجل من المسلمين : إن
أحسنتُ فعلتُ وإن لم أُردْ ذلك لم أفعل،
قال اللّه تعالى
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعُ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
يعني المؤمنين
المتقين الشرك،
فبيّن أنّ لكل مطلقة متاعاً وقد
ذكرنا الخلاف فيها،
وروى أياس بن عامر عن علي بن
أبي طالب
(رضي اللّه عنه)
قال : لكل مؤمنة
مطلقة حرّة أو أمة متعة وتلا
قوله
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعُ بِالْمَعْرُوفِ}
الآية.
٢٤٢
{ كذلك يُبَيِّنُ
اللّه لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
٢٤٣
{أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا}
الآية،
قال أكثر المفسّرين : كانت قرية
يقال لها داوردان قِبلَ واسط وقع بها الطاعون،
فخرجت طائفة هاربين من الطاعون،
وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي
في القرية،
وسلم الذين خرجوا،
فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا
سالمين،
فقال الذين بقوا : أصحابنا
كانوا أحزم منا،
لو صنعنا كما صنعوا لبقينا،
ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ
إلى أرض نأوي بها،
فوقع الطاعون من قابل؛ فهرب
عامّة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح،
فلمّا نزلوا المكان الذي يبتغون
فيه النجاة والحياة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا
جميعاً.
وعن الأصمعي
قال : لما وقع
الطاعون بالبصرة خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده وخلفه عبد حبشي
يسوق حماره،
فطفق العبد يرتجز وهو يقول :
لن نسبق اللّه على حمار
ولا على ذي منعة مُطار
قد يصبح اللّه أمام الساري
فرجع الرجل بعياله لمّا سمع
قوله،
وروى عبد الرحمن بن عوف عن رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أنه
قال :
(إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه،
وإذا وقع وأنتم فيه
فلا تخرجوا فراراً منه).
وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي :
إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال
عدوّهم،
فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا
الموت واعتلّوا،
وقالوا لملكهم : إن الأرض التي
نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء،
فأرسل اللّه تعالى عليهم الموت،
فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم
خرجوا
{مِّن دِيَارِهِمْ} فراراً من الموت،
فلمّا رأى الملك ذلك
قال : اللّهم رب
يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا
يستطيعون الفرار منك،
فلمّا خرجوا قال لهم اللّه :
موتوا،
عقوبة لهم،
فماتوا جميعاً،
وماتت دوابهم كموت رجل واحد،
فأتى عليهم ثمانية أيام حتى
انتفخوا وأروّحت أجسادهم،
فخرج إليهم الناس فعجزوا عن
دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.
واختلفوا في مبلغ عددهم،
فقال عطاء الخراساني : كانوا
ثلاثة آلاف،
ابن عباس ووهب : أربعة آلاف،
مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف،
أبو روق : عشرة آلاف،
أبو مالك : ثلاثون ألفاً،
الواقدي بضعة ومائتين ألفاً،
ابن جريج : أربعين ألفاً،
عطاء بن أبي رياح : سبعين
ألفاً،
الضحّاك : كانوا عدداً كبيراً،
وأَولى الأقاويل بالصواب قول من
قال : زادوا على
عشرة آلاف،
وذلك أنّ اللّه تعالى قال
{وَهُمْ أُلُوفٌ} وما دون العشرة لا يقال ألوف،
إنّما يقال : ثلاثة آلاف
فصاعداً إلى عشرة آلاف،
فمن الألوف جمع الكثير وجمعه
القليل آلاف،
مثل يوم وأيام،
ووقت وأوقات،
وألف على وزن أفعل.
(وقيل : ) كانوا ثلاثة آلاف
(وكيسة) اليمان أعجمي من بني الفداحم.
قالوا : فأتى على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطّعت
أوصالهم،
فمرّ عليهم نبي يقال له حزقيل
بن بوري ثارم أحد خلفاء بني إسرائيل بعد موسىج،
وذلك بأنّ القيّم بأمر بني
إسرائيل كان بعد موسىج يوشع بن نون،
ثم كالب بن يوفنا،
ثم حزقيل،
وكان يقال له ابن العجوز وذلك
أنّ أمه كانت عجوزاً فسألت اللّه تعالى الولد،
وقد كبرت وعقمت فوهبه اللّه لها
فلذلك قيل له : ابن العجوز.
قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل
لأنّه تكفل سبعين نبيّاً وأنجاهم من القتل،
وقال لهم : اذهبوا فإني إنْ
قُتلت كان خيراً من أن تقتلوا جميعاً،
فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل
عن الأنبياء السبعين،
قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم،
ومنع اللّه ذا الكفل من اليهود،
فلمّا مرّ حزقيل على أُولئك
الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم،
فأوحى اللّه إليه : يا حزقيل
تريد أن أريك آية،
فأريك كيف أحيي الموتى؟
قال : نعم،
فأحياهم اللّه. هذا قول السدي
وجماعة من المفسّرين.
وقال هلال بن يساف وجماعة من
العلماء : بل دعا حزقيل ربّه أن يحييهم،
فقال : ياربّ لو شئت
أحييت هؤلاء فعمّروا بلادك وعبدوك،
فقال اللّه : أتحب أن أفعل؟
قال : نعم،
فأحياهم.
وقال عطاء ومقاتل والكلبي : بل
هم كانوا قوم حزقيل أحياهم اللّه تعالى بعد ثمانية أيام،
وذلك أنّهم لما أصابهم ذلك خرج
حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى وبكى وقال : ياربّ كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدّسونك ويهللونك
ويكبّرونك؛ فبقيت وحيداً لا قوم لي،
فأوحى اللّه إليه : إني قد جعلت
حياتهم إليك،
فقال حزقيل : احيوا بأمر اللّه،
فعاشوا.
وقال : وثمّت أصابهم بلاء
وشدّة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا : ما لبثنا،
متنا واسترحنا مما نحن فيه؛
فأوحى اللّه تعالى إلى حزقيل : إن قومك قد صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودّوا لو
ماتوا واستراحوا وأي راحة لهم في الموت،
أيظنون أنّي لا أقدر أن أبعثهم
بعد الموت،
فانطلقْ إلى جبّانة كذا فإن
فيها قوماً أمواتاً،
فأتاهم فقال اللّه : يا حزقيل قم فنادهم،
وكانت أجسادهم وعظامهم قد
تفرّقت،
فنادى حزقيل : أيتها العظام إنّ
اللّه يأمركِ أن تكتسي باللحم،
فاكتست جميعاً باللحم،
وبعد اللحم جلداً ودماً وعصباً
وعروقاً وكانت أجساداً،
ثم نادى أيّتها الأرواح إنّ
اللّه يأمرك أن تعودي في أجسادك،
فقاموا جميعاً وعليهم ثيابهم
التي ماتوا فيها،
وكبّروا تكبيرة واحدة.
وروى المنصور بن المعتمر عن
مجاهد أنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربّنا وبحمدك،
لا إله إلاّ أنت،
فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم
اللّه،
وتناسلوا وعاشوا دهراً يعرفون
أنهم كانوا موتى،
سحنة الموت على وجوههم،
لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد دسماً
مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت عليهم.
قال ابن عباس : فإنها لتوجد
اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح.
قال قتادة : مقتهم اللّه تعالى
على فرارهم من الموت،
فأماتهم
(عقربة) ثم بعثهم
إلى بقية آجالهم ليستوفوها،
ولو كان آجال القوم جاءت ما
بعثوا بعد موتهم،
فذلك
قوله
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} ألمْ ترَ
أي ألمْ تُخبر،
ألمْ تعلم بإعلامي إيّاك وهو
رؤية القلب لا رؤية العين؛ فصار تصديق أخبار اللّه عزّ وجلّ كالنظر إليه عياناً.
وقال أهل المعاني : هو تعجب
وتعظيم يقول : هل رأيت مثلهم كما تقول : ألمْ ترَ إلى ما يصنع فلان؟
وكلّ لم في القرآن من
قوله
{أَلَمْ تَرَ} ولم يعاينه النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) فهذا وجهه ومعناه،
وقرأها كلّها أبو عبد الرحمن
السلمي
{أَلَمْ تَرَ} بسكون الراء وهي لغة قسم من العرب لمّا حذفوا الياء للجزم توهّموا أن
الراء آخر الكلمة فسكّنوها،
وأنشد الفراء :
قالت سليمى سرْ لنا دقيقا
إلى الذين خرجوا من ديارهم
{وَهُمْ} واو الحال
{أُلُوفٌ} جمع ألف،
وقال ابن زيد : مؤتلف قلوبهم
جعله جمع ألف مثل جالس وجلوس وقاعد وقعود
{حَذَرَ الْمَوْتِ}
أي من خوف الموت
{فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا} أمر تحويل كقوله
{كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .
{ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} من بعد موتهم
{إِنَّ
اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} إلى
{يَشْكُرُونَ} ثم حثّهم على الجهاد فقال :
{وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللّه} طاعة اللّه،
٢٤٤
أعداءَ اللّه
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أكثر المفسّرين : هذا للذين أُحيوا،
قال الضحّاك : أُمروا أن
يقاتلوا في سبيل اللّه فخرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد؛ فأماتهم اللّه عزّ وجلّ
ثم أحياهم ثم أمرهم أن يعودوا إلى الجهاد،
وقال بعضهم : هذا الخطاب لأُمّة محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) .
٢٤٥
{مَّن ذَا الَّذِى
يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا}
الآية،
قال سفيان : لمّا نزلت
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا} قال النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(رب زد أُمتي) فنزلت
{مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللّه}
الآية،
فقال :
(زد أُمتي) فنزلت
{إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
واختلف العلماء في معنى هذا
القرض،
فقال الأخفش :
قوله
{يُقْرِضُ} ليس لحاجة باللّه ولكن تقول العرب : لك عندي قرض صدق وقرض سوء لأمر يأتي
فيه مسرّته أو مساءته.
وقال الزجاج : القرض في اللغة
البلاء الحسن والبلاء السيّىء،
قال أُمية بن أبي الصلت :
لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة
واخلع ثيابك منها وأنج عريانا
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا
أو سيّئاً أو مديناً مثل ما
دانا
وأنشد الكسائي :
تجازى القروض بأمثالها
فبالخير خيراً وبالشرّ شرّا
وقال أيضاً : ما أسلفت من عمل
صالح أو سيّىء.
ابن كيسان : القرض أن تعطي
شيئاً ليرجع إليك مثله ويقضى شبهه؛ فشبّه اللّه عمل المؤمنين للّه على ما يرجون من
ثوابه بالقرض؛ لأنّهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما عند اللّه عزّ وجلّ من جزيل الثواب،
فالقرض اسم لكل ما يعطيه
الإنسان ليجازى عليه،
قال لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجز به
إنما يجزى الفتى ليس الجمل
قال بعض أهل المعاني : في
الآية اختصار
وإضمار،
مجازها : من ذا الذي يقرض عباد
اللّه
(قرضاً) كقوله
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه وَرَسُولَهُ}
وقوله
{فَلَمَّآ
ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فأضافه سبحانه
ههنا إلى نفسه للتفضيل وللاستعطاف،
كما في الحديث : إن اللّه تعالى
يقول لعبده : استطعمتك فلم تطعمني،
واستسقيتك فلم تسقني،
واستكسيتك فلم تكسني،
فيقول العبد : وكيف ذلك يا
سيدي؟
يقول : مرّ بك فلان الجائع،
وفلان العاري فلم
(تعطف) عليه من
فضلك،
فلأمنعنّك اليوم من فضلي كما
منعته.
وقال أهل الإشارة : أمر اللّه
تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهاراً لمحبّته لعباده المؤمنين،
وذلك أنه إنما يستقرض من
الأحبّة،
ولذلك قال يحيى بن معاذ : عجبت
ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه،
وقال بعضهم : هذا
(تلطف) من اللّه تعالى في المواساة والإقراض لعباده.
أبوالقاسم عن أبي أمامة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(رأيت على باب الجنة مكتوباً : والقرض بثمانية
عشر،
والصدقة بعشر فقلت :
يا جبرئيل ما بال القرض أعظم أجراً؟
قال : لأن صاحب
القرض لا يأتيك إلاّ محتاجاً،
وربّما وقعت الصدقة
في غير أهلها).
أبو سلمة عن أبي هريرة وابن
عباس قالا : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أُحد وثبير وطور سيناء
حسنات).
فمعنى
الآية : مَنْ هذا الذي
(من) استفهام
ومحلّه رفع بالإبتداء و
(الذي) خبره
(يقرض
اللّه) ينفق في طاعة اللّه،
وأصل القرض القطع،
ومنه قرض الفأر الثوب وسُمّي
الشعر قريضاً لأنّه يقطعه من كلامه،
والدَّين قرضاً لأنّه يقطعه من
ماله.
{قَرْضًا حَسَنًا} قال علي بن الحسين الواقدي
يعني محتسباً،
طيّبة به نفسه. ابن المبارك :
هو أن يكون المال من الحلال. عمر بن عثمان الصدفي : هو أن لا يمنّ به ولا يؤذي.
سهل بن عبد اللّه : هو أن لا يعتقد بقرضه عوضاً
{فَيُضَاعِفَهُ} يزيده
{لَهُ} واختلف
القرّاء فيه،
فقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وأبو
حاتم
{فَيُضَاعِفَهُ} نصباً بالألف،
وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد
والنصب وبالألف،
وقرأ ابن كثير وأبو جعفر
بالتشديد والرفع،
وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف
ورفع الفاء،
فمن رفع جعله نسقاً على
قوله
{يُقْرِضُ} ،
وقيل : فهو يضاعفه،
ومَنْ نصبه جعله جواباً
للإستفهام بالفاء،
وقيل : بإضمار أنْ والتشديد والتخفيف لغتان،
ودليل التشديد
قوله
{أَضْعَافًا كَثِيرَةً} لأنّ التشديد للتكثير.
قال الحسن والسدي : هذا التضعيف
لا يعلمه إلاّ اللّه مثل
قوله
{وَيُؤْتِ
مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وقال أبو هريرة :
هذا في نفقة الجهاد،
قال : وكنّا نحسب ورسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بين أظهرنا نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره ألفي ألف.
{وَاللّه يَقْبِضُ}
يعني يمسك الرزق عمّن يشاء ويقتر ويضيق عليه،
دليله
قوله
{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}
أي يمسكونها عن النفقة في سبيل اللّه
{وَيَبْصُطُ}
أي يوسع الرزق على من
يشاء،
نظيره
قوله
{وَلَوْ بَسَطَ اللّه الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ}
الآية،
والأصل في هذا قبض اليد عند
البخل وبسطها عند البذل.
وقيل : هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في
عمره فقد بسط له،
وقيل : واللّه يقبض الصدقة ويبسط بالخلف،
وروى اليزيدي عن عمرو
قال : بالصاد في
بعض الروايات،
وعن بعضهم كأنّه
قال : هذا في
القلوب،
لمّا أمرهم اللّه بالصدقة
أخبرهم أنه لا يمكنهم ذلك إلاّ بتوفيقه،
واللّه يقبض ويبسط
يعني يقبض على
القلوب فيزويه كيلا ينبسط لخير ويبسط بعضها فيقدّم لنفسه خيراً.
{وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ}
يعني وإلى اللّه تعودون فيحسن لكم بأعمالكم،
وقال قتادة : الهاء راجعة إلى
التراب كناية عن غير مذكور
أي من التراب خلقهم وإليه يعودون،
وعن ابن مسعود وأبي أمامة وزيد
بن أسلم دخل حديث بعضهم في بعض
قالوا : نزلت
{مَّن
ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا}
الآية،
فلمّا نزلت قال أبو الدحداح :
فداك أبي وأمي يا رسول اللّه،
إنّ اللّه يستقرض وهو غنيّ عن
القرض،
قال :
(نعم،
يريد أن يدخلكم
الجنة)
قال : فإنّي إن أقرضت ربي قرضاً تضمن لي الجنة؟
قال :
(نعم،
من تصدّق بصدقة فله
مثلها في الجنّة)،
قال : فزوجي أم الدحداح معي؟
قال : نعم قال
(وصبيان) الدحداح معي؟
قال : نعم،
قال : ناولني يدك فناوله رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يده فقال : إنّ لي
حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية،
واللّه لا أملك غيرهما وجعلتهما
قرضاً للّه عزّ وجلّ،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إجعل إحداهما للّه عزّ وجلّ والأخرى معيشة لك
ولعيالك)
قال : فاشهدك يا رسول اللّه أني جعلت غيرهما للّه تعالى وهو حائط
فيه ستمائة نخلة،
قال :
(يجزيك
اللّه إذاً به بالجنة).
فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم
الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول :
هداك ربي سُبُلَ الرشادِ
إلى سبيل الخير والسدادِ
قرضي من الحائط لي بالواد
فقد مضى قرضاً إلى التناد
أقرضته اللّه على اعتماد
بالطوع لا منّ ولا ارتداد
إلاّ رجاء الضعف في المعاد
فارتحلي بالنفس والأولاد
والبرّ لاشك فخير زاد
قدّمه المرؤ إلى المعاد
قالت أم الدحداح : ربح بيعك،
بارك اللّه لك فيما اشتريت،
فأنشأ أبو الدحداح يقول :
مثلك أجدى ما لديه ونصح
إن لك الحظ إذا الحق وضح
قد متّع اللّه عيالي ومنح
بالعجوة السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح
طول
(الليالي) وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على
صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتى أفضت إلى الحائط الآخر فقال
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم)
(كم من عذق رداح،
ودار فياح في الجنة
لأبي الدحداح)
٢٤٦
{أَلَمْ تَرَ إِلَى
الملأ مِن بنى إسرائيل} والملأ من القوم
وجوههم وأشرافهم،
وأصل الملأ الجماعة من الناس،
لا واحد له من لفظ مثل الإبل
والخيل والجيش،
ولكن جمعه أملاء،
قال الشاعر :
(وسط) الأملاء وافتتح الدعاءا
لعلّ اللّه يكشف ذا البلاءا
{مِن بَعْدِ مُوسَى}
أي من بعد موت موسى
{إِذْ
قَالُوا لِنَبِىٍّ لَّهُمُ} اختلفوا في ذلك
النبي من هو،
فقال قتادة : هو يوشع بن نون بن
أفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،
وقال السدّي : اسمه شمعون،
وإنّما سمّي شمعون لأنّ أمّه
دعت اللّه أن يرزقها غلاماً؛ فاستجاب اللّه دعاءها فولدت غلاماً فسمّته شمعون تقول
: سمع اللّه دعائي والسين يصير شيناً بلغة العبرانية،
وهو شمعون بن صفية بن علقمة بن
أبي ياسف بن قارون بن نصهر بن فاحث بن لاوي بن يعقوب.
وقال سائر المفسّرين : هو
إشمويل،
وهو بالعربية إسماعيل بن نالي
بن علقمة بن حازم بن الهر بن عرصوف بن علقمة بن فاحث بن عموصا بن عرزيا،
وقال مقاتل : هو من نسل هارون
ج. مجاهد : هو اسمويل بن هلفانا ولم ينسبه أكثر من ذلك.
قال وهب وابن إسحاق والسدي
والكلبي وغيرهم : كان سبب مقاتلتهم إيّاه ذلك أنه لما مات موسىج خلّف بعده في بني
إسرائيل يوشع،
يقيم فيهم التوراة وأمْر اللّه
حتى قبضه اللّه،
ثم خلف فيهم كالب يقيم فيهم
التوراة وأمْر اللّه تعالى حتى قبضه اللّه تعالى،
ثم خلف فيهم حزقيل كذلك،
ثم إن اللّه تعالى قبض حزقيل،
وعظمت في بني إسرائيل الأحداث
ونسوا عهد اللّه حتى عبدوا الأوثان،
فبعث اللّه تعالى إليهم إلياس
نبيّاً،
فجعل يدعوهم إلى اللّه،
وإنّما كانت الأنبياء من بني
إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم لتجديد ما نسوا من التوراة.
ثم خلّف بعد إلياس اليسع وكان
فيهم ما شاء اللّه أن يكون،
ثم قبضه اللّه إليه،
وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم
الخطايا،
وظهر لهم عدو يقال له البلثانا
وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم من مصر وفلسطين،
وهم العمالقة فظهروا على بني
إسرائيل وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبنائهم أربعين
وأربعمائة غلام وضربوا عليهم الجزية،
وأخذوا توراتهم ولقي بنو
إسرائيل منهم بلاء وشدة،
ولم يكن لهم نبي يدبّر أمرهم،
وكانوا يسألون أن يبعث
(اللّه) لهم نبيّاً
يقاتلون معه.
وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم
يبق منهم إلاّ امرأة حبلى فأخذوها وحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدّله بغلام
لما يرى من رغبة بني إسرائيل في ولدها،
فجعلت المرأة تدعو اللّه عزّ
وجلّ أن يرزقها غلاماً،
فولدت غلاماً فسمّته إشمويل
تقول سمع اللّه دعائي،
فكبر الغلام فأسلمته يتعلم
التوراة في بيت المقدس،
وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه،
فلما بلغ الغلام أن يبعثه اللّه
نبياً أتاه جبرائيل ج والغلام نائم إلى جنب الشيخ،
وكان لا يأتمن عليه أحداً فدعاه
بلحن الشيخ : يا إشمويل فقام الغلام فزعاً إلى الشيخ فقال : يا أبتاه دعوتني،
فكره الشيخ أن يقول : لا فيفزع
الغلام،
فقال : يا بني ارجع فنم
فرجع الغلام فنام،
ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام
أيضاً فقال : دعوتني،
فقال : ارجع فنم فإن
دعوتك الثالثة فلا تجبني،
فلمّا كانت الثالثة ظهر له
جبرائيل ج فقال له : اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك فإنّ اللّه قد بعثك فيهم
نبياً،
فلما أتاهم كذّبوه وقالوا
استعجلت النبوة ولم يأن لك.
وقالوا : إن كنت صادقاً
{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ
اللّه} آيةً من نبوتك،
وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل
بالإجتماع على الملوك،
وطاعة الملوك أنبياءهم،
وكان الملك هو الذي يسير
بالجموع،
والنبي يقيم له أمره ويشير
عليه،
يرشده ويأتيه بالخبر من ربه عزّ
وجلّ.
وقال وهب : بعث اللّه تعالى
إشمويل نبيّاً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال،
ثم كان من أمر جالوت والعمالقة
ما كان فقالوا لأشمويل
{ابْعَثْ
لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي يقاتل،
بالياء جعل الفعل للملك وهو جزم
على جواب الأمر،
فلمّا قالوا له ذلك قال لهم :
{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ} هل عسيتم استفهام
(منك) يقول لعلكم،
وقرأ نافع والحسن : عَسِيتم
بكسر السين
(في) كل القرآن،
وهي لغة،
وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة
الفصيحة،
قال أبو عبد الرحمن : لو جاز
عسيتم لقرئ عسى ربكم إن كتب،
فرض عليكم القتال مع ذلك الملك
{أَلا تُقَاتِلُوا} أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلوا معه.
{قَالُوا وَمَا لَنَآ
أَلا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللّه} إنْ قيل : ما وجه
دخول
(أن) في هذا
الموضع،
والعرب لا تقول : مالك أن لا
تفعل،
وإنما يُقال : مالك لا
تفعل
قيل : دخول أن وحذفها لغتان
صحيحتان فصيحتان،
فأما دخول أنّ فكقوله :
{مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} وأما حذفها فكقوله
{وَمَا
لَكُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّه} .
وقال الكسائي : معناه : وما لنا
في أن لا نقاتل،
ما لنا وأن لا نقاتل فحذف
الواو،
حكاه محمد بن جرير
{وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآنَا} وقرأ عبيد بن حميد : قد أَخرجَنا بفتح الهمزة والجيم
يعني العدو.
ومعنى الكلام : وقد أخرج من كتب
عليهم من ديارهم وأبنائهم،
ظاهر الكلام العموم وباطنه
الخصوص،
لأنّ الذين قالوا لنبيهم ابعث
لنا ملكاً نقاتل في سبيل اللّه كانوا في ديارهم وأوطانهم،
وإنما من داره مَنْ أُسر وقُهر
منهم.
ومعنى
الآية : إنهم قالوا
مجيبين : إنّا إنما كنّا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤنا عدونا
ولا يظهر علينا،
فأمّا إذا بلغ ذلك منا،
فلابد من الجهاد فنطيع ربنا في
الغزو ونمنع نساءنا وأولادنا.
قال اللّه تعالى
{فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الجهاد وضيّعوا أمر اللّه عزّ وجلّ
{إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} وفي الكلام حذف معناه : فبعث اللّه لهم ملكاً وكتب عليهم القتال،
فلمّا كُتب عليهم القتال تولوا
إلاّ قليلا منهم وهم الذين عبروا النهر وسنذكرهم في موضعها.
{وَاللّه عَلِيمُ
بِالظَّالِمِينَ} .
٢٤٧-٢٤٨
{وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}
الآية،
وكان السبب فيه على ما ذكره
المفسّرون أن أشمويلج سأل اللّه عزّ وجلّ أن يبعث لهم ملكاً فأتى بعصا وقرن فيه
دهن القدس
وقيل له إنّ
صاحبكم الذي يكون ملكاً طوله طول هذه العصا،
وقيل له : انظر القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنشَّ
الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل،
فادهن به رأسه وملّكه عليهم،
فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم
يكونوا مثلها.
وكان طالوت اسمه شادل بن قيس بن
أبيال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ج
رجلا دبّاغاً يعمل الأدم،
قاله وهب.
وقال عكرمة والسدي : كان سقاء
يسقي على حمار له من النيل فضلّ حماره فخرج في طلبه،
وقيل : كان خربندشاه.
وقال وهب : بل ضلّت حُمُر لأبي
طالوت فأرسله وغلاماً له يطلبانها؛ فمرّا ببيت إشمويل،
فقال الغلام لطالوت : لو دخلنا
على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا فيها بخير،
فقال طالوت : نعم،
فدخلا عليه،
فبينا هما عنده يذكران له شأن
الحمر إذ نشّ الدهن الذي في القرن،
فقام إشمويل وقاس طالوت بالعصا
فكانت على طوله فقال لطالوت : قرّب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس ثم قال له : أنت
ملك بني إسرائيل الذي أمرني اللّه تعالى أن أُملّكه عليهم،
فقال طالوت : أنا؟
قال : نعم،
قال : أو ما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟
قال : بلى،
قال : أفما علمت أنّ بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟
قال : بلى،
قال : فبأيّ آية؟
قال : آية أنّك ترجع وقد وجد أبوك حُمُره فكان كذلك،
ثم قال لبني إسرائيل : إنّ
اللّه تعالى قد بعث لكم طالوت ملكاً،
قال مجاهد : أميراً على الجيش.
{قَالُوا أَنَّى} من أين
{يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} وإنما قالوا ذلك لأنّه كان في بني إسرائيل سبطان : سبط
نبوّة،
وسبط مملكة،
وكان سبط النبوة سبط لاوي بن
يعقوب ومنه موسى وهارون،
وسبط المملكة سبط يهود بن يعقوب
ومنه كان داود وسليمان،
ولم يكن طالوت من سبط النبوة
ولا من سبط الملك،
إنمّا كان من سبط ابن يامين بن
يعقوب،
وكانوا عملوا ذنباً عظيماً،
كانوا ينكحون النساء على ظهر
الطريق نهاراً،
فغضب اللّه عليهم ونزع الملك
والنبوة منهم،
فلمّا قال نبيّهم : إن اللّه قد
بعث لكم طالوت ملكاً،
أنكروا لأنّه كان من ذلك السبط
فقالوا
{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} ومع ذلك هو فقير
{وَلَمْ يُؤْتَ} يُعط
{سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّه
اصْطَفَاهُ} اختاره
{عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً} فضيلة وسعة في العلم وذلك أنه
كان أعلم بني إسرائيل في وقته،
وذُكر أنه أتاه الوحي حين أوتي
الملك قال الكلبي
{وَزَادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ} بالحرب
{وَالْجِسْمِ}
يعني بالطول،
وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه
وإنما سُمّي طالوت لطوله وكذلك كان كالعصا التي قيسَ بها،
ودليل هذا التأويل
قوله تعالى
{وزاده في الخلق بسطة}
يعني طول
القامة،
وقال ابن كيسان بالجمال،
وكان طالوت أجمل رجل في بني
إسرائيل وأعلمهم.
{وَاللّه يُؤْتِى
مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ}
يعني لا ينكروا
ملك طالوت مع كونه من غير أهل بيت المملكة،
فإنّ الملك ليس بالوراثة إنما
هو بيد اللّه يؤتيه من يشاء
{وَاللّه
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فقالوا له : فما آية ذلك
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ
مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}
الآية.
وكانت قصة التابوت وصفتها على
ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار : إن اللّه تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه
صور الأنبياء من أولاده،
وفيه بيوت بعدد الأنبياء كلّهم،
وآخر البيوت بيت محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) وصورته موقّرة على صور جميع الأنبياء من ياقوتة حمراء قائم يصلي،
وعن يمينه الكهل المطيع مكتوب
على جبينه هذا أول من يتّبعه من أمته أبو بكر،
وعن يساره الفاروق مكتوب على
جبينه قرن من حديد،
لا تأخذه في اللّه لومة لائم،
ومن ورائه ذو النورين آخذ
بحجزته،
مكتوب على جبهته بارّ من
البررة،
ومن بين يديه علي بن أبي طالب
شاهر سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه : هذا أخوه وابن عمّه المؤيد بالنصر من عند
اللّه،
وحوله عمومته والخلفاء والنقباء
والكوكبة الخضراء،
وهم أنصار اللّه وأنصار رسوله،
نور حوافر دوابّهم يوم القيامة
مثل نور الشمس في دار الدنيا.
وكان التابوت نحواً من ثلاثة
أذرع في ذراعين وكان من عود الشمشار الذي يتّخذ منه الأمشاط ممّوه بالذهب،
وكان عند آدم ج إلى أن مات ثم
عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم،
فلمّا مات كان عند إسماعيل
لأنّه أكبر ولده،
فلمّا مات إسماعيل كان عند ابنه
قيذار فنازعه ولد إسحاق،
وقالوا : إن النبوة قد صرفت
عنكم فليس لكم إلاّ هذا النور الواحد،
فأعطنا التابوت،
فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول :
إنه وصية أبي ولا أعطيه أحداً من العالمين.
قال : فذهب ذات يوم يفتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه فناداه مناد
من السماء : مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل،
لأنّه وصية نبي فلا يفتحه إلاّ
نبي فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل اللّه.
فحمل قيذار التابوت على عنقه
وخرج يريد أرض كنعان،
وكان بها يعقوب،
فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة
سمعها يعقوب فقال لبنيه : أقسم باللّه لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه،
فقام يعقوب وأولاده جميعاً
إليه،
فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار
استعبر باكياً وقال : يا قيذار مالي أرى لونك متغيراً وقوتك ضعيفة،
أرهقك عدوّ أم أتيت معصية قد
رابتك؟
فقال : ما رهقني عدوّ ولا
أتيت معصية ولكن نُقل من ظهري نور محمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني.
قال : أفمن بنات إسحاق؟
قال : لا في العربية الجرْهمية وهي الغاضرة،
قال يعقوب : بخ بخ بشّرها
بمحمد،
لم يكن اللّه عزّ وجلّ ليخزنه
إلاّ في العربيات الطاهرات،
يا قيذار وأنا مبشّرك ببشارة
قال : وما هي؟
قال : اعلم أنّ الغاضرة قد ولدت لك البارحة غلاماً،
قال قيذار : وما علمك يابن عمي
وأنت بأرض الشام وهي بأرض الجرهم؟
قال يعقوب : علمت ذلك لأني رأيت
أبواب السماء قد فتحت،
ورأيت نوراً كالقمر الممدود من
السماء والأرض،
ورأيت الملائكة ينزلون من السماء
بالبركات والرحمة،
فعلمت أن ذلك من أجل محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) .
فسلّم قيذار التابوت إلى يعقوب
ورجع إلى أهله فوجدها قد ولدت غلاماً فسمّاه
(حمد)،
وفيه نور محمد ج.
قالوا : وكان التابوت في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى وكان موسى
يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه،
وكان عنده إلى أن مات،
ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل
إلى وقت إشمويل فوصل إلى إشمويل وقد تكامل أمر التابوت بما فيه،
وكان فيه ما ذكر اللّه.
{فِيهِ سَكِينَةٌ
مِّن رَّبِّكُمْ} واختلفوا في السكينة ما هي؟
فقال علي ج : السكينة ريح خجوج
حفّافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان. مجاهد : لها رأس كرأس الهرّة وذَنَب كذنب
الهرّة وجناحان. ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بني إسرائيل : السكينة هرّة ميّتة
كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس
: هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيها قلوب الأنبياء. بكّار بن عبد اللّه عن وهب
بن منبه : روح من اللّه عزّ وجلّ يتكلم،
إذا اختلفوا في شيء تكلّمَ
فأخبرهم ببيان ما يريدون.
عطاء بن أبي رياح : هي ما
تعرفون من الآيات فتسكنون إليها. قتادة والكلبي : فعيلة من السكون
أي طمأنينة من ربكم
وفي
أيّ مكان كان
التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. الربيع : رحمة من ربّكم.
{وَبَقِيَّةٌ} وهي الباقي،
فعيلة من البقاء والهاء فيه
للمبالغة
{مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ}
يعني موسى وهارون نفسهما. قال جميل :
بثينة من آل النساء وإنما
يكنّ لأدنى لا وصال الغائب
أي من النساء،
والآل الشخص أيضاً،
وأصله أهل بُدّلت الهاء همزة،
فإذا صغّروا الآل
قالوا : أُهيل
ردّوه إلى الأصل.
قال المفسرون : كان فيه عصا
موسى ورضاض الألواح
أي كسره،
وذلك أن موسى لمّا ألقى الألواح
انكسرت فرفع بعضها وجمع ما بقي؛ فجعله في التابوت وكان فيه أيضاً لوحان من التوراة
وقفيز من المنّ الذي كان ينزل عليهم،
ونعلا موسى وعمامة هارون وعصاه،
وقالوا : وكان عند بني
إسرائيل،
وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم
وحكم بينهم،
فإذا حضروا القتال قدّموه بين
أيديهم يستفتحون به على عدوّهم؛ فلمّا عصوا وفسدوا سلّط اللّه عليهم العمالقة
فغلبوهم على التابوت وسلبوه.
وكان السبب في ذلك أنّه كان
لعيلي الذي ربي إشمويل ابنان شابان وكان عيلي خيرهم وصاحب قربانهم ما حدّث ابناه
في القربان شيئاً لم يكن فيه كان في مشوط القربان الذي كانوا يشوطونه به
(كلاليب) فما ما كان عليهما كان للكاهن الذي يشوطه فجعل ابناه كلاليب.
وكان النساء يصلين في المقدس
فجعلا يتشبثان بهنّ أيضاً فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى إشمويل انطلق إلى عيلي فقل له
: منعك حب الولدان زجر ابنيك أن يحدثا في قرباني وقدسي وأن يعصياني فلأنزعن منك
الكهانة ومن ولدك،
ولأُهلكنّه وإياهما.
فأخبر إشمويل عيلي بذلك ففزع
فزعاً شديداً فسار إليهم عدوّ ممن حولهم،
فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس
ويقاتلا ذلك العدو فخرجا،
وأخرجا معهما التابوت،
فلمّا تهيّأؤا للقتال جعل عيلي
يتوقع الخبر : ماذا صنعوا؟
فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيّه
أنّ الناس قد هُزموا وأن ابنيك قد قُتلا،
قال : فما فُعل بالتابوت،
قال : قد ذهب به العدو فشهق ووقع على قفاه من كرسيّه ومات،
فمرج أمر بني إسرائيل واختلّ
وتفرّقوا إلى أن بعث اللّه طالوت ملكاً،
فسألوا البيّنة،
وقال لهم نبيّهم : إنّ آية ملكه
أن يأتيكم التابوت.
وكان قصة اتيان التابوت أنّ
الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود،
وجعلوه في بيت صنم لهم،
وضعوه تحت الصنم الأعظم،
وأصبحوا من الغد والصنم تحته
فأخذوه ووضعوه فوقه وشدّدوا قدمي الصنم على التابوت،
وأصبحوا من الغد وقد قطّعت يدا
الصنم ورجلاه،
وأصبح يلقى تحت التابوت،
وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة؛
فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم،
فأخذ أهلَ تلك الناحية وجعٌ في
أعناقهم حتى هلك أكثرهم.
فقال بعضهم لبعض : أليس قد
علّمتكم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه من مدينتكم،
فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث
اللّه عزّ وجلّ على أهل تلك القرية فأراً
(تقرص) الفأرة الرجل
فيصبح ميّتاً قد أكلت ما في جوفه من دبره،
وأخرجوه منه إلى الصحراء ودفنوه
في مخرأة لهم؛ فكان كل من تبرّز هناك أخذه الناسور والقولنج؛ فبقوا في ذلك فتحيروا
فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء : لا تزالون
ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم فأتوا بعجلة بإشارة تلك
المرأة وحملوا عليها التابوت،
ثم علّقوها على ثورين وضربوا
جنوبهما فأقبل الثوران يسيران،
ووكّل اللّه عزّ وجلّ بها أربعة
من الملائكة يسوقونها،
فلم يمسّ التابوت بشيء من الأرض
إلاّ كان مقدّساً،
فأقبلا حتى وقفا على أرض بني
إسرائيل فكسرا بقرنهما وطفقا جناحهما،
ووضعوا التابوت في أرض فيها
حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما،
فلم تدعُ بنو إسرائيل إلاّ
بالتابوت فكبّروا وحمدوا اللّه عزّ وجلّ واستوسقوا على طالوت فذلك
قوله :
{تَحْمِلُهُ الْمَلَ ائِكَةُ}
أي تسوقه .
وقال ابن عباس : جاءت الملائكة
بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتّى وضعته عند طالوت.
وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش
(تحمله الملائكة) بالياء.
وقال قتادة : بل كان التابوت في
التيه جعله موسى عند يوشع بن نون فبقي هنالك فحملته الملائكة حتى وضعته في دار
طالوت فأقرّوا بملكه. وقال ابن زيد : غير راضين.
{إِنَّ فِي ذلك لآية} لعبرة
{لَّكُمْ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابن عباس :
إنّ التابوت وعصا موسى في الجيزة الطبريّة وأنّهما يخرجان قبل يوم القيامة.
٢٤٩
{فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}
أي خرج
(ورحل) بهم،
وأصل الفصل : القطع فمعنى
قوله
{فَصَلَ}
أي قطع مستقر فتجاوزه
شاخصاً إلى غيره نظير
قوله
تعالى :
{وَلَمَّا
فَصَلَتِ الْعِيرُ} . فخرج طالوت من بيت المقدس
بالجنود وهم يؤمئذ سبعون الف مقاتل.
وقيل : ثمانون ألفاً لم يتخلّف عنه إلاّ كبير لهرمه أو مريض لمرضه
أو ضرير لضرره أو معذور لعذره.
وذلك أنّهم لما رأوا التابوت
قالوا : قد أتانا
التابوت وهو النور لا شك فيه،
فتسارعوا إلى الجهاد.
فقال طالوت : لا حاجة لي في كلّ
ما أرى. لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه،
ولا صاحب تجارة مشتغل بها،
ولا رجل عليه دين،
ولا رجل تزوّج بامرأة لم يدن
لها ولا أبتغي إلاّ الشاب النشيط الفارغ.
فاجتمع ثمانون ألفاً ممن شرطه
وكان في حرّ شديد فشكوا قلّة المياه بينهم وبين عدوهم،
وقالوا : إنّ المياه لا
تحملنا فادع اللّه تعالى أن يجري لنا نهراً.
فقال طالوت :
{إِنَّ اللّه مُبْتَلِيكُم} مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم
{بِنَهَرٍ} قرأه العامّة بفتح
الهاء،
وقرأ حميد وابن محصن
{بِنَهَرٍ} ساكنة الهاء،
وهما لغتان مثل شعْر وشعَر
وصخْر وصخَر وصمْغ وصمَغ وسمْع وسمَع وفحْم وفحَم.
قال ابن عباس والسدي : هو نهر
فلسطين. قتاده والربيع : نهر بين الأردن وفلسطين عذب.
{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ
فَلَيْسَ مِنِّي}
أي ليس من أهل ديني
وطاعتي
{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} يشربه
{فَإِنَّهُ مِنِّى} نظير
قوله :
{لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ثم استثنى فقال :
{إِلا
مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةَ بِيَدِهِ} قرأ ابن عباس،
وابن أبي إسحاق،
وسليمان التيمي،
وابن أبي الجوزاء،
وأبو جعفر،
وشيبة،
ونافع،
وأبو مخرمة،
وأبو عمرو،
وأيوب :
{غُرْفَةَ} بفتح الغين وقرأ الباقون بضمّه وهو قراءة عثمان وهما لغتان.
وقال الكسائي وأبو عبيدة :
الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف. والغرفة : الاغتراف،
فالضم اسم والفتح مصدر.
وقال أبو حاتم : الغرفة بالضم
مِلء الكف أو ملء المغرفة،
والغرفة : المرّة الواحدة من
القليل والكثير.
{فَشَرِبُوا مِنْهُ
إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ} نصب على
الاستثناء. وقرأ ابن مسعود
{قَلِيلٌ} بالرفع كقول الشاعر :
وكلّ أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
وكلّ قرينة قرنت بأخرى
وإن ضنّت بها سيفرّقان
واختلفوا في القليل الذي لم
يشربوا،
فقال السدي : كانوا أربعة آلاف،
وقال غيره : ثلاث مائة وبضعة
عشر وهو الصحيح،
يدلّ عليه قول البراء بن عازب
قال : قال لنا
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يوم بدر :
(أنتم اليوم على عدّة
أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلاّ مؤمن)
قال : وكنّا
يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
قالوا : فمن اغترف غرفة كما أمر اللّه سبحانه،
قوي قلبه وصحّ إيمانه وعبر
النهر سالماً وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه،
والذين شربوا وخالفوا أمر اللّه،
سوّدت شفاههم وغلبهم العطش فلم
يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ولم يشهدوا الفتح.
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ}
يعني النهر
{هُوَ}
يعني طالوت
{وَالَّذِينَ
ءَامَنُوا مَعَهُ}
يعني القليل
{قَالُوا} الذين شربوا وخالفوا أمر اللّه عزّ وجلّ وكانوا أهل شك ونفاق
{طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت.
{قَالَ الَّذِينَ
يَظُنُّونَ} يوقنون ويعلمون
{أَنَّهُم
مُّلَاقُوا اللّه} وهم الذين ثبتوا مع طالوت
{كَمْ} وقرأ أُبيّ
: كائن
{مِّن فِئَةٍ} جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه،
وجمعها فئات وفئون في الرفع،
وفئين في النصب والخفض
{قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ
اللّه وَاللّه مَعَ الصَّابِرِينَ} مُعينهم وناصرهم.
قال الزجّاج : إنّما قيل للفرقة
فئة من فأوت رأسه بالعصا وفائته إذا شققته كأنّها قطعة.
٢٥٠
{وَلَمَّا بَرَزُوا}
يعني طالوت وجنوده المؤمنين
{لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} المشركين ومعنى
{بَرَزُوا} صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى
{قَالُوا} وهم أهل البصيرة والطاعة
{رَبَّنَآ
أَفْرِغْ} أنزل وأصبب
{عَلَيْنَا
صَبْرًا} كما يفرغ الدلو
{وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا} وقوّ قلوبنا
{وَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وفي
الآية إضمار
تقديرها : فأنزل اللّه عليهم صبراً ونصراً
٢٥١
{فَهَزَمُوهُم
بِإِذْنِ اللّه وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} .
صفة قتل داود جالوت
قال المفسّرون بألفاظ متشابهة
ومعان متّفقة : عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيشا أبو داود في ثلاثة عشر ابناً
وكان داود أصغرهم،
فأتاهم ذات يوم فقال : يا أبتاه
ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته فقال
: أبشر فإنّ اللّه جعل رزقك في قذافتك،
ثم أتاه مرّة أُخرى فقال : يا ابتاه
لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني،
فقال : أبشر يابني فإنّ
هذا خير أعطاكه اللّه.
ثم أتاه يوماً آخر فقال : يا أبتاه
إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل إلاّ يُسبّح معي،
فقال : أبشر يابني فإنّ
هذا خير أعطاكه اللّه.
قالوا : فارسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ مَنْ يقاتلني فإن قتلني
فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم،
فشقّ ذلك على طالوت فنادى في
عسكره مَنْ يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي،
فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد.
فسأل طالوت نبيّهم اشمويل ان
يدعوا اللّه،
فدعا اللّه عزّ وجلّ في ذلك،
فأتى بقرن فيه دهن،
وتنور من حديد،
فقيل : إنّ صاحبكم الذي يقتل
جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتى يدهن رأسه منه ولا يسيل
على وجهه يكون على رأسه كهيئة إلاّ كليل،
ويدخل في هذا التنور فيملأه لا
يتقلقل فيه،
فدعا طالوت بني اسرائيل فجرّبهم
فلم يوافقه منهم أحد.
فأوصى اللّه تعالى إلى نبيهم
إنّ في ولد أيشا مَنْ يقتل اللّه به جالوت،
فدعا طالوت أيشا وقال : أعرض عليّ
نبيك،
فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال
السواري،
فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى
شيئاً فيقول لرجل منهم : بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى اللّه تعالى إليه
إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم،
فقال لأيشا : هل بقى لك ولد
غيرهم؟
قال : لا.
فقال النبيّج : يا ربّ إنّه زعم
أنّ لا ولد له غيرهم ،
فقال : كذب.
فقال النبيّ : إنّ ربّي كذّبك،
فقال : صدق اللّه يانبي
اللّه إنّ لي ابناً صغيراً يقال له : داود،
استحييت أن يراه الناس لقصر
قامته وحقارته،
فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في
شعب كذا،
وكان داود ج رجلاً قصيراً
مسقاطاً مصفاراً أزرق أمعد.
فدعاه طالوت،
ويقال : بل خرج طالوت إليه
فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح إليها،
فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما
السيل ولا يخوض بهما الماء،
فلما رآه النبيّ ج
قال : هذا هو لا
شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم،
فدعاه ووضع القرن على رأسه
ففاض.
فقال له طالوت : هل لك أن تقتل
جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟
قال : نعم.
قال : وهل أنست من نفسك شيئاً تقوى به على قتله؟
قال : نعم،
أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر
والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه.
فردّه إلى عسكره،
فمرّ داود بحجر فناده : يا داود
احملني فإنّي حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا،
فحمله في مخلاته.
ثم مرّ بحجر آخر فناده : ياداود
احملني فإنّي حجر موسى الذي قتل بيّ ملك كذا،
فحمله في مخلاته.
فمرّ بحجر آخر فقال : احملني
فإنّي حجرك الذي تقتل بي جالوت،
وقد خبأني اللّه لك،
فوضعها في مخلاته.
فلما تصافوا القتال وبرز جالوت
وسأل المبارزة،
انتدب له داود فأعطاه طالوت
فرساً ودرعاً وسلاحاً،
فلبس السلاح وركب الفرس،
فسار قريباً ثم انصرف فرجع إلى
الملك،
فقال مَن حوله : جَبُنَ الغلام
فجاء فوقف على الملك،
فقال : ما شأنك؟
فقال : إنّ اللّه إن لم
ينصرني لا يغني عني السلاح شيئاً فدعني أُقاتل كما أُريد.
قال : نعم،
فأخذ داود مخلاته فتقلّدها وأخذ
المقلاع ومضى نحو جالوت،
وكان جالوت من أشدّ الناس
وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاث مائة من حديد،
فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه
فقال له : أنت تبرز لي؟
قال : نعم.
وكان جالوت على فرس أبلق عليه
السلاح التام.
قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تؤتى الكلاب؟
قال : نعم،
لأنت شرّ من الكلب.
قال : لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء.
قال داود : أو يقسم اللّه لحمك.
ثم قال داود : باسم إله إبراهيم
وأخرج حجراً،
ثم أخرج الآخر وقال : باسم إله
إسحاق ووضعه في مقلاعه،
ثم أخرج الثالث وقال : باسم إله
يعقوب ووضعه في مقلاعه فصار كلّها حجراً واحداً،
ودوّر المقلاع ورماه به فسخّر
اللّه الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه
ثلاثين رجلاً،
وهزم اللّه سبحانه الجيش وخرّ
جالوت قتيلاً فأخذه فجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت.
ففرح المسلمون فرحاً شديداً
وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت،
وقال : أنجز لي ما
وعدّتني وأعطني امرأتي،
فقال له : أُتريد ابنة الملك
بغير صداق.
قال داود : ما شرطت عليّ صداقاً
وليس لي شيء.
قال : لا أُكلّفك إلاّ ما تطيق،
أنت رجل حربي وفي جبالنا أعداء
لنا غلفٌ،
فإذا قتلت منهم مائتي رجل
وجئتني بغلفهم زوّجتك ابنتي،
فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم
رجلاً نظم غلفته في خيطه حتّى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال : ادفع إلي
امرأتي،
فزوّجه أبنته وأجرى خاتمه في
ملكه.
فمال الناس إلى داود وأحبّوه
وأكثروا ذكره،
فوجد طالوت من ذلك وحسده فأراد
قتله،
فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال
له ذو المغنيين،
فقالت لداود : إنّك لمقتول
الليلة.
قال : ومَنْ يقتلني؟
قالت : أبي.
قال : وهل جزمت جزماً؟
قالت : حدّثني مَنْ لا يكذب ولا
عليك لن تفوت الليلة حتى تنظر مصداق ذلك.
فقال : لئن كان أراد ذلك
ما أستطيع خروجاً ولكن ائتيني بزق من خمر،
فأتته،
فوضعه في مضجعه على السرير.
وسجّاه ودخل تحت السرير فدخل
طالوت نصف الليل وأراد أن يقتل داود فقال لها : أين بعلكِ؟
فقالت : هو نائم على السرير،
فضربه ضربة بالسيف فسال الخمر،
فلما وجد ريح الشراب
قال : يرحم اللّه
داود ما أكثر شربه الخمر وخرج،
فلما أصبح علم أنّه لم يفعل
شيئاً.
فقال : إن رجلاً طلبت منه
ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتّى يدرك منّي ثأره،
فشدّد حجّابه وحرّاسه وأغلق
دونه أبوابه.
ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت
العيون وأعمى اللّه تعالى الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه
فوضع سهماً عند رأسه وسهماً عند رجليه وسهماً عن يمينه وسهماً عن شماله ثم خرج.
فلما استيقظ طالوت أبصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم اللّه داود
فهو خير منّي،
ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي
فكفّ عنّي،
ولو شاء لوضع هذا السهم في
حلقي. وما أنا بالذي آمنهُ.
فلما كانت المقابلة أتاه ثانياً
فأعمى اللّه الحجّاب فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه
وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئاً من هدب ثيابه ثم خرج وهرب
وتوارى.
فلما أصبح طالوت ورأى ذلك،
سلّط على داود العيون وطلبه
أشدّ الطلب فلم يقدر عليه،
ثم إن طالوت ركب يوماً فوجد
داود يمشي في البريّة،
فقال طالوت : اليوم أقتل داود
أنا راكب وهو ماش،
وكان داود إذا فزع لم يدرك فركض
طالوت على أثره،
فاشتدّ داود فدخل غاراً فأوحى
اللّه تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتاً.
فلما أنتهى طالوت إلى الغار
ونظر إلى بناء العنبكوت،
قال : لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى،
وانطلق داود وأتى الجبل مع
المتعبّدين فتعبّد فيه.
وطعن العلماء والعُبّاد في
طالوت في شأن داود،
فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل
داود إلاّ قتله وأغرى بقتل العلماء،
فلم يكن يقدر على عالم في بني
اسرائيل فيطيق قتله إلاّ قتله ولم يكن يحارب جيشاً إلاّ هزم،
حتى أتى بامرأة تعلم اسم اللّه
الأعظم فأمر جبّاراً بقتلها فرحمها الجبّار فقال : لعلّنا نحتاج إلى
عالم فتركها،
فوقع في قلب طالوت التوبة وندم
على ما فعل وأقبل على البكاء حتّى رحمه.
فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور
فيبكي وينادي : أنشد اللّه عبداً يعلم أن لي توبة إلاّ أخبرني بها.
فلما أكثر عليهم ناداه منادا من
القبور : يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتّى تؤذينا أمواتاً،
فازداد بكاءً وحزناً،
فرحمه الجبّار فكلّمه فقال : مالك أيّها
الملك؟
فقال : هل تعلم لي في
الأرض عالماً أسأله هل لي من توبة؟
فقال الجبّار : هل تدري ما
مثلك؟
إنّما مثلك مثل ملك نزل قرية
عشاءً فصاح الديك فتطيّر منه،
فقال : لا تتركوا في
القرية ديكاً إلاّ ذبحتموه،
فلما أراد أن ينام قال لأصحابه،
إذا صاح الديك فأيقضونا حتى
ندلج.
فقالوا : هل تركت ديكاً
نسمع صوته.
ولكن هل تركت عالماً في الأرض،
فازداد حزناً وبكاءً.
فلما رأى الجبّار ذلك
قال : أرأيتك إن
دللتك على عالم لعلّك أن تقتله.
قال : لا.
فتوثّق عليه الجبّار فأخبره أن
المرأة العالمة عنده
قال : انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟
وكان إنّما يعلم ذلك الاسم أهل
بيت إذا فنيت رجالهم علمت نساءهم.
فلما بلغ طالوت الباب قال
الجبّار : أيّها الملك إنّها إن رأتك فزعت،
فخلّفه خلفه ثم دخل عليها فقال
لها : ألست أعظم الناس عليك مِنّة أن نجّيتك من القتل وآويتك عندي؟
قالت : بلى.
قال : فإنّ لي إليكِ حاجة : هذا طالوت يسأل هل له من توبة،
فغُشي عليها من الخوف.
فقال لها : إنّه لا يُريد قتلك
ولكن يسألك هل له من توبة؟
فقالت : واللّه لا أعلم لطالوت
توبة،
ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟
فانطلق بها إلى قبر أشمويل،
فصلّت ودعت ثم نادت صاحب القبر،
فخرج أشمويل من القبر فنفض من
رأسه التراب،
فلما نظر إليهم ثلاثتهم :
المرأة وطالوت والجبّار،
قال : مالكم أقامت القيامة؟
قالا : لا، ولكن طالوت يسألك هل
له من توبة؟
قال : أشمويل : يا طالوت ما فعلت بعدي؟
قال : لم أدع من الشرّ شيئاً إلاّ فعلته وجئت أطلب التوبة.
قال : كم لك من الولد؟
قال : عشرة رجال.
قال : ما أعلم لك توبة إلاّ أن تتخلّى من ملكك وتخرج أنت وولدك في
سبيل اللّه ثم تقدّم ولدك حتّى
(يقتلوا) بين يديك ثم تقاتل أنت حتّى تقتل آخرهم،
ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط
ميّتاً.
ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة إن
لا يتابعه وُلده،
وقد بكى حتّى سقط أشفار عينيه
ونحل جسمه،
فدخل أولاده عليه،
فقال لهم : أرأيتم لو دفعت إلى
النار هل كنتم تفدونني؟
قالوا : بلى،
نفديك بما قدرنا عليه.
قال : فإنّها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم،
قالوا : فاعرض علينا،
فذكر لهم القصّة،
قالوا : وإنّك لمقتول؟
قال : نعم.
قالوا : فلا خير لنا في الحياة فقد طابت أنفسنا بالذي سألت. فتجهّز
بماله وولده،
فقدّم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا
حتّى قُتلوا بين يديه ثم شدّ هو بعدهم حتّى قُتل،
فجاء قاتله إلى داود النبيّ ج
ليبشّره وقال : قد قتلت
عدوّك.
فقال : ما كنت بالذي تحيا
بعده فضرب عنقه،
وأتى بنو إسرائيل بداود فأعطوه
خزائن طالوت وملّكوه على أنفسهم.
وكان ملك طالوت من أوّله إلى أن
قُتل في الغزو مع ولده أربعين سنة.
قال الضحاك والكلبي : ملك داود
بعد جالوت تسعاً وستين سنة.
ولم يجتمع بنو اسرائيل على ملك
واحد إلاّ على داود،
فذلك
قوله
{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءَاتَ اهُ اللّه
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} وهو داود بن أيشا
بن سوئل بن ناغر بن سلمون بن يخشون بن عمّي ابن يا رب بن رام بن حصرون بن فارض بن
يهود بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ج،
وأتاه اللّه الملك والحكمة
يعني النبوّة.
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا
يَشَآءُ} فقال الكلبي وغيره :
يعني صنعة الدروع،
والتقدير : في السر وكان يصنعها
ويبيعها حتّى جمع من ذلك مالاً،
وكان لا يأكل إلاّ من عمل يديه
دليله
قوله :
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ}
وقيل : منطق الطير وكلام النحل والنمل،
وقيل : الزبور،
وقيل : الصوت الطيّب والألحان،
ولم يعط اللّه أحداً من خلقه
مثل صوته،
كان إذا قرأ الزبور يدنوا
الوحوش حتّى تؤخذ بأعناقها وتظلّه الطيور مصيخة له. ويركد الماء الجاري ويسكن
الريح،
وما صنعت المزامير والبرابط
والصنوج إلاّ على صوته.
الضحاك عن ابن عباس
قال : إنّ اللّه
سبحانه أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك ورأسها عند صومعة داود ج وكان قوّتها
قوّة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستدير مفصّلة بالجواهر مدسّرة بقضبان اللؤلؤ
الرطب،
فلا يحدّث في الهواء حدث إلاّ
صلصلت السلسلة فعلم داود ذلك الحدث،
ولا يمسّها ذو عاهة إلاّ برء،
وكان علامة دخول قومه في الدين
أن يمسّوها بأيديهم ثمّ يمسحون أكفّهم على صدورهم،
وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود
إلى أن رُفعت،
وكانوا يأتونها فمن تعدّى على
صاحبه وأنكر له حقّاً أتى السلسلة،
فمن كان صادقاً محقّاً مدّ يده
إلى السلسلة فنالتها ومن كان كاذباً ظالماً لم ينلها،
وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم
المكر والخديعة.
فبلغنا أن بعض ملوكها أودع
رجلاً جوهرة ثمينة،
فلما استردّها منه أنكر فتحاكما
إلى السلسلة،
فعلم الذي كانت الجوهرة عنده
أنّ يده لا تنال السلسلة،
فعمد إلى عكازه فنقرها ثم
ضمّنها الجوهرة وأعتمد عليها حتّى حضروا السلسلة.
فقال صاحب الجوهرة : ردّ إلىّ
الوديعة.
فقال صاحبه : ما أعلم لك عندي
وديعة،
فإنّ كنت صادقاً فتناول السلسلة
فتناولها بيده،
فقيل للمنكر أيضاً : قم أنت
أيضاً فتناولها،
فقال لصاحب الجوهرة : خذ عكازتي
هذه فاحفظها حتّى أتناول السلسلة،
فأخذها وقال الرجل : اللّهمّ
إنّ كنت تعلم إنّ هذه الوديعة يدعيها عليّ قد وصلت إليه فقرّب السلسلة،
فمدّ يده فتناولها،
فتعجّب القوم وشكّوا فيها
فأصبحوا وقد رفع اللّه السلسلة.
{وَلَوْ دَفْعُ اللّه
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} قرأ أبو جعفر
وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب
(دفاع
اللّه) بالألف هاهنا وفي سورة الحجّ واختاره أبو حاتم،
وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما
وأختاره أبو عبيد
قال : لأنّ اللّه تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده،
وقال أبو حاتم : وقد يكون
الفعال من واحد مثل قول العرب : أحسن اللّه عنك الدفاع،
وعافاك اللّه،
وعاقبه اللّه،
وناول شيئاً.
ابن عباس ومجاهد : لولا دفع
اللّه بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين
وخرّبوا البلاد والمساجد.
وقال سائر المفسّرين : لولا دفع
اللّه بالمؤمنين والأبرار عن الكفّار والفجّار
{لَّفَسَدَتِ الأرض} لهلكت بمن فيها.
قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يدفع اللّه العذاب بمن يُصلّي عمّن لا يُصلّي،
وبمن يُزكّي عمّن لا
يُزكّي،
وبمن يصوم عمّن لا
يصوم،
وبمن يحجّ عمّن لا
يحج،
وبمن يجاهد عمّن لا
يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما ناظرهم اللّه طرفة عين). ثم تلا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) هذه
الآية.
وروى مالك بن عبيد عن أبيه عن
جدّه إنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(لولا
عباد للّه ركع وصبية رضّع،
وبهائم رتّع،
لصبّ عليكم العذاب
صبّاً ثم لترضن رضا).
قال الثعلبي وأنشدني لنفسه :
لولا عباد للاله ركع
وصبية من اليتامى رضّع
ومهملات في الفلاة رتّع
صبّ عليكم العذاب الأوجع
وروى محمد بن المنكدر عن جابر
بن عبد اللّه
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه سبحانه ليصلح بصلاح الرجل ولده وولد
ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم).
وقال قتادة : يبتلي اللّه
المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن.
(...) بن عبد الرحمن عن
ابن عمر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل
بيت من جيرانه البلاء)،
ثم قرأ ابن عمر :
{وَلَوْ دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ
لَّفَسَدَتِ الأرض} .
٢٥٢
{ولكن اللّه ذو فضل
على العالمين تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق}
أي كلام اللّه.
{وَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ} .
٢٥٣
{تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّه} ،
قال الأخفش :
أي كلّمه اللّه لقوله : و{فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} وزان
{مَا
تَشْتَهِيهِ} .
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ
دَرَجَاتٍ} الربيع بن الهيثم
قال
: لا أُفضّل على نبيّنا أحداً ولا أفضّل بعده على إبراهيم
أحداً.
{تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّه وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ}
أي من بعد الرسل
{من بعدما جاءتهم البيّنات ولكن اختلفوا في الدين
فمنهم مَنْ ءامن} ثبت على إيمانه
{وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} فتهوّد وتنصّر وكانوا يعقوبيّة ونسطوريّة وملكائيّة ثم تحاربوا{وَلَوْ شَآءَ اللّه مَا اقْتَتَلُوا وَلَاكِنَّ
اللّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} فيوفّق من يشاء
عدلاً ويخذل مَنْ يشاء عدلاً.
وعن الحرث الأعور
قال : قام رجل
إلى عليّ
(رضي اللّه عنه) فقال : يا أمير
المؤمنين أخبرني عن القدر،
قال : طريق مظلم لا تسلكه.
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر،
قال : بحر عميق لا تلجه،
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر،
قال : سرّ اللّه قد خفي عليك فلا تفشه،
قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر،
فقال عليّج : أيُّها السائل إن
اللّه خلقك كما شاء أو كما شئت؟.
فقال : كما شاء.
قال : فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟.
قال : كما شاء.
قال : أيّها السائل ألك مع اللّه مشيئة أو فوق اللّه مشيئة أو دون
اللّه مشيئة؟
فإن زعمت أن لك دون اللّه مشيئة
فقد أكتفيت عن مشيئة اللّه،
وإن زعمت أنّ لك فوق اللّه
مشيئة فقد زعمت أن مشيئتك غالبة على مشيئة اللّه،
وإن زعمت أن لك مع اللّه مشيئة
فقد أدعيت الشركة،
ألست تسأل ربّك العافية؟
قال : بلى.
قال : فمن
أي شيء تسأله،
أمن البلاء الذي ابتلاك به،
أم من البلاء الذي ابتلاك به
غيره؟.
قال : من البلاء الذي ابتلاني به.
قال : ألست تقول : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه؟
قال : بلى.
قال : فتعلّم تفسيرها؟
قال : لا، علّمني يا أمير المؤمنين مما علمك اللّه.
قال : تفسيرها : أن العبد لا يقدر على طاعة اللّه ولا يكون له قوّة
على معصية اللّه في الأمرين جميعاً إلاّ باللّه،
أيّها السائل إن اللّه عزّ وجلّ
(يصح ويداوي،
منه الداء ومنه
الدواء) أعقلت عن اللّه أمره.
قال : نعم.
قال علي
(رضي اللّه عنه) : الآن أسلم أخوكم قوموا فصافحوه.
ثم
قال : لو وجدت رجلاً من
القدرية لأخذت برقبته فلا أزال أطأ عنقه حتى أكسرها فإنّهم يهود هذه الأمّة
ونصاراها ومجوسها.
وقال المزني : سمعت
الشافعي يقول :
وما شئتَ كانَ وإن لم أشأ
وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
٢٥٤
{يا أيُّها الذين
آمنوا انفقوا ممّا رزقناكم}
يعني صدقة
التطوّع والنفقة في الخير
{مِّن
قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ}
(...)
{وَلا
خُلَّةٌ} ولا صداقة
{وَلا
شَفَاعَةٌ} إلاّ بإذن اللّه،
قرأها كلّها بالنصب ابن كثير
وأبو عمرو ويعقوب وقرأ الباقون كلّها بالرفع والتنوين،
وكلا الوجهين سائغ في
(العربيّة).
{وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنّهم وضعوا العبادة في غير
موضعها.
٢٥٥
{اللّه لا اله إِلا
هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}
الآية.
عن أُبيّ بن كعب
قال : سألني رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
(يا أبا المنذر أي آية في كتاب اللّه عزّ وجلّ
أعظم)؟
قلت : اللّه ورسوله أعلم.
قالها ثلاثاً ثم سألني،
فقلت : اللّه ورسوله أعلم،
ثم سألني فقلت : اللّه لا إله
إلاّ هو الحيّ القيّوم،
فضرب في صدري ثم
قال :
(هنيئاً لك العلم يا أبا المنذر والذي نفسي بيده
إنّ لها لساناً تقدّس الملك عند ساق العرش).
عبد اللّه بن عمرو بن العاص
قال : قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة مكتوبة كأن الذي
يتولّى قبض نفسه ذو الجلال والإكرام،
وكان كمن قاتل مع
أنبياء اللّه حتى استشهد).
روى إسماعيل بن مسلم عن أبي
المتوكّل الناجي إنّ أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر،
فذهب يوماً وفتح الباب فإذا
التمر قد أُخذ منه ملء كفّ،
ثم دخل يوماً آخر وقد أخذ منه
ذلك،
ثم دخل يوماً آخر فإذا قد أُخذ
منه مثل ذلك،
قال : فذكر ذلك أبو هريرة للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال له النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(أيسرّك أن تأخذه)؟
قال : نعم.
قال :
(فإذا
فتحت الباب فقل سبحان مَنْ سخّرك لمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) .
قال : فذهب ففتح الباب فقال
: سبحان مَنْ سخّرك لمحمد،
فإذا هو قائم بين يديه فقال له
: ياعدو اللّه أنت صاحب هذا؟
قال : نعم،
وقال لي : لا أعود،
ما كنت آخذه منك إلاّ لأهل بيت
فقراء من الجن،
ثم عاد فذكره للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال له :
(أيسرّك أن تأخذه)
قال : نعم،
قال :
(فإذا
فتحت فقل مثل ذلك أيضاً)،
ففتح الباب فقال : سبحان مَنْ
سخّرك لمحمد،
فإذا هو قائم بين يديه،
فقال له : ياعدو اللّه أليس
زعمت أنّك لا تعود؟
قال : دعني هذه المرّة فإنّي لا أعود.
فأخذه الثالثة فقال له : أليس
عاهدتني أن لا تعود،
اليوم لا أدعك حتى أذهب بك إلى
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ،
قال : لا تفعل فإنّك إنّ تدعني علّمتك كلمة إذا أنت قلتها لم يقربك
أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أُنثى.
قال له : لتفعلن؟
قال : نعم،
قال : فما هي؟
قال : اللّه لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم،
حتّى ختمها،
فتركه فذهب فلم يعد،
فذكر ذلك أبو هريرة للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال له رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(أما علمت يا أبا هريرة أنّه كذلك).
عن جعفر بن محمد بن الحسين بن
علي بن أبي طالب ج عن علي رضي اللّه عنه
قال : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يا عليّ آية نزلت من كنوز العرش خرّ كلّ صنم
يُعبد في المشرق والمغرب على وجهه) وفزع إبليس. وقال : يحدث في
هذه الليلة حدث كبير فانظروني أضرب لكم مشارق الأرض ومغاربها،
فأتى يثرب فاستقبله رجل
(فتراءى) له إبليس في صورة شيخ.
قال : ياعبد اللّه هل حدث هذه الليلة أو في هذا اليوم شيء؟
قال : نعم،
أخبرنا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّه نزلت عليه آية أصبح كلّ صنم خاراً على وجهه،
فانصرف إبليس إلى أصحابه وقال : حدث بيثرب
أعظم الحدث
(فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد
نزلت)،
وقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ما قُرأت هذه الآية في دار إلاّ هجره الشيطان
ثلاثة أيام أو قال ثلاثين يوماً ولا يدخله ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة. يا علي
علّم ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها).
وعن عطيّة العوفي عن علي رضي
اللّه عنه قال سمعت نبيّكم
(صلى
اللّه عليه وسلم) على أعواد المنبر وهو يقول :
(مَنْ قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم
يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت ولا يواظب عليها إلاّ صدّيق أو عابد،
ومَنْ قرأها إذا أخذ
مضجعه آمنه اللّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله).
عن أنس وعن جابر رفعا الحديث
إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
(أوحى
اللّه تعالى إلى موسى بن عمران من داوم على قرآة آية الكرسي دبر كلّ صلاة أعطيته
قلوب الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصدّيقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم أمنعه
أن أدخله الجنّة إلاّ أن يأتيه الموت.
قال موسى : إلهي
ومَنْ يداوم عليها؟
قال : لا يداوم
عليها إلاّ نبي أو صدّيق أو رجل قد رضيت عنه أو رجل أُريد قتله في سبيلي).
محمد بن كعب الفرضي عن أبي
هريرة عن النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(مَنْ
خرج من منزله فقرأ آية الكرسي بعث اللّه إليه سبعين ألفاً من الملائكة يستغفرون له
ويدعون له،
فإذا رجع إلى منزله
ودخل بيته فقرأ آية الكرسي نزع اللّه الفقر من بين عينيه).
نافع عن ابن عمر
قال : بينا عمر
بن الخطاب جالس في مسجد المدينة في جماعة من أصحاب النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) وهم يتذاكرون فضائل القرآن إذ قال قائل منهم : خاتمة براءة،
وقال قائل : خاتمة بني إسرائيل،
وقال قائل : كهيعص
(وقال قائل : طه) فقدّم القوم وأخروا،
فقال عليّ ج : وأين أنتم يا
أصحاب محمد عن آية الكرسي؟
فقالوا له : أخبرنا يا أبا
الحسن ما سمعت النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) يقول؟
فقال عليّ
(رضي اللّه عنه) : قال النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(ياعلي سيّد النبيين آدم،
وسيّد العرب محمد
ولا فخر،
وسيّد الفرس سلمان،
وسيّد الروم صهيب،
وسيّد الحبشة بلال،
وسيّد الجبال الطور،
وسيّد الشجر السدر،
وسيّد الشهور الأشهر
الحرم،
وسيّد الأيام يوم
الجمعة،
وسيّد الكلام
القرآن،
وسيّد القرآن
البقرة،
وسيّد البقرة آية
الكرسي.
ياعلي إنّ فيها
لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة).
عمر بن أبي المقدام قال سمعت
أبا جعفر الباقر يقول :
(مَنْ
قرأ آية الكرسي مرّة صرف عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا وألف مكروه من مكروه
الآخرة،
أيسر مكروه الدنيا
الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر).
قوله تعالى
{اللّه} إلهاً،
رفع بالابتداء وخبره في
{اله إِلا هُوَ} .
وقيل : هو رفع بالإيجاب والتحقيق كقوله عزّ وجلّ :
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} .
و{الْحَىُّ} من له الحياة،
وهي الصفة التي يكون الموصوف
بها حيّاً مخالفاً للجمادات والأموات وهو على وزن فعل مثل الحذر والطمع،
فسكنت الياء وأُدغمت.
و{الْقَيُّومُ} فيعول من القيام
وفيه ثلاث لغات : القيام وهي قراءة عمر بن مسعود والنخعي والأعمش،
والقيّم وهي قراءة علقمة،
والقيّوم وهي قراءة الباقين،
وكلّها لغات بمعنى واحد،
والأصل : قيوم وقيوام وقيّوم
كما يقال : مافي الدار
ديّور وديّار ودير. والقيّوم : المبالغ في القيام على خلقه.
قال مجاهد : القيّوم : القائم
على كلّ شيء،
سعيد بن جبير : الذي لا نرى له،
الضحاك : الدائم،
أبو روق : الذي لا يلي،
الربيع : القيّم على كلّ شيء
يحفظه ويرزقه،
الكلبي : القائم على كلّ نفس
بما كسبت،
أبو عبيد : الذي لا يزول.
قال أُحية : لم يخلق السماء
والنجوم والشمس معها قمر يقوم قدره المهيمن القيّوم والحشر والجنّة والجحيم إلاّ
لأمر شأنه عظيم.
قتادة عن أنس إنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) كان يدعوا : ياحيّ ياقيّوم،
وكان ابن عباس يقول : أعظم
أسماء اللّه عزّ وجلّ الحيّ القيّوم وهو دائماً أهل الخير.
يدلّ عليه ما روى القاسم عن أبي
إمامة عن النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم) ،
قال :
(إنّ
اسم اللّه الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث : البقرة وآل عمران وطه).
قال بعضهم : فنظرت في هذه السور الثلاث فرأيت فيها اسماً ليس في شيء من
القرآن :
في آية الكرسي
{اللّه لا اله إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} .
وفي آل عمران
{ألم اللّه لا إله إلاّ هو الحيُّ القيّوم} .
وفي طه
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ} .
{تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} ،
قال المفسّرون :
السّنة : النعاس،
وهو النوم الخفيف وهو ريح تجيء
من قبل الرأس لينة فتغشي العين،
ورجل وسنان إذا كان بين النائم
واليقظان يقال له : وسن يوسن وسناً وسنة فهو وسنان.
قال ابن الرقاع :
وسنان أقصده النعاس فرنقت
في عينه سنةً وليس بنائم
{وَلا نَوْمٌ} والنوم هو المستثقل المزيل للقوّة والعقل،
فنفى اللّه تعالى عن نفسه النوم
لأنّه آفة ولا يجوز عليه الآفات ولأنّه تغيّر ولا يجوز عليه تغيّر الأحوال،
ولأنّه قهر واللّه تعالى قاهر
غير مقهور،
ولأنّه للإستراحة ولا يناله تعب
فيسترح ولأنّه أخ الموت.
محمد بن المنكدر عن جابر
قال : سُئل رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أينام أهل الجنّة؟
قال : لا :
(النوم
أخ الموت ولا يموت أهل الجنّة) ولأنّه لو نام
العقل ولو غفل لأختلّ ملكه وتدبيره.
أبو عبيدة عن أبي موسى
قال : قام فينا
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بخمس كلمات فقال :
(إنّ
اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ولكنّه يرفع القسط ويخفضه،
يرفع إليه عمل الليل
قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل،
حجابه النور لو
كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
عكرمة عن أبي هريرة
قال : سمعت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يحكي عن موسىج على المنبر
قال
:
(وقع في
نفس موسى هل ينام اللّه عزّ وجلّ،
فأرسل اللّه إليه
مَلَكاً (فأرّقه ثلاثاً ثم) أعطاه قارورتين في
كلّ يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما،
قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ويحبس أحدهما عن الأخرى حتّى
نام نومه واصطكت يداه فانكسرت القارورتان).
قال : ضرب اللّه تعالى مثلاً أن اللّه سبحانه لو نام لم يستمسك
السماء والأرض.
{له مافي السماوات
وما في الأرض} ملكاً وخلقاً.
{مَن
ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} بأمره،
قال أهل الاشارة : في هذه
الآية جذب بها
قلوب عباده إليه عاجلاً وآجلاً فسبحان مَنْ لا وسيلة إليه.
الآية :
{يعلم
مابين أيديهم وما خلفهم} قال مجاهد وعطاء
والحكم والسدي :
{يعلم مابين أيديهم} من أمر الدنيا
{وَمَا
خَلْفَهُمْ} من أمر الآخرة.
الضحاك والكلبي :
{يعلم مابين أيديهم}
يعني الآخرة
لأنّه يقدمون عليها
{وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا لأنّهم يخلفونها ابن جريح :
{مابين أيديهم}
يعني ما كان قبل
خلق الملائكة
{وَمَا خَلْفَهُمْ} وما يكون بعد خلقهم.
وقيل :
{يعلم
مابين أيديهم}
يعني ما فعلوه من خير وشرّ
{وَمَا خَلْفَهُمْ} وأمامهم ما
فعلوه.
{وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ}
أي علم اللّه
{إِلا بِمَا شَآءَ} أن يعلّمهم ويطلعهم عليه
{وَسِعَ
كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض}
أي ملأ وأحاط به،
واختلفوا في الكرسي،
فقال ابن عباس وسعيد بن جبير
ومجاهد : علمه،
ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم
مكتوب : كراسة.
ومنه قول الراجز في صفة قانص :
حتى إذا ما جأه تكرّساً
يعني : علم.
ويقال للعلماء : الكراسيّ.
قال الشاعر :
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة
كراسي بالأحداث حين نتوب
وقال بعضهم : سلطانه وملكه وقدرته.
والعرب تُسمّي أصل كلّ شيء
الكرسي.
يقال : فلان كريم الكرسي
أي الأصل.
قال العجاج :
قد علم القدوس مولى القدس
أن أبا العباس أولى النفس
بمعدن الملك الكريم الكرسي
قال الثعلبي : رأيت في بعض
التفاسير
{كُرْسِيُّهُ} : سرّه.
وأنشدوا فيه :
مالي بامرك كرسيّ أكاتمه
وهل بكرسيّ علم الغيب مخلوق
وزعم محمد بن جرير الطبري أن
الكرسي : الأجل،
أي وسع
(أجله) السماوات والأرض.
وقال أبو موسى والسدّي وغيرهما
: هو الكرسي بعينه،
وهو لؤلؤ،
وما السماوات السبع في الكرسي
إلاّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
وقال عليّ ومقاتل : كلّ قامة من
الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع وهو بين يدي العرش،
ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكلّ
مَلَك أربعة وجوه أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمس مائة
عام :
مَلَك على صورة سيّد البشر آدمج
وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة،
وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل
من دون اللّه،
ومَلَك على صورة سيّد الأنعام
وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد
العجل من دون اللّه،
ومَلَك على صورة سيّد السباع
وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة،
ومَلَك على صورة سيّد الطير وهو
النسر يسال اللّه الرزق للطيور من السنة إلى السنة.
أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر
قال : قلت :
يارسول اللّه إيّما
آي أنزل عليك أعظم؟
قال :
(آية
الكرسي).
ثم
قال :
(يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلاّ
كحلقة (من حديد) ملقاة في أرض فلاة،
وفضل العرش على الكرسي كفضل
الفلاة على الحلقة).
وفي بعض الأخبار أن بين حملة
العرش وبين حملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور،
غَلِظ كلّ حجاب مسيرة خمس مائة
عام،
لولا ذلك لأحترقت حملة الكرسي
من نور حملة العرش.
قال الحسن البصري : الكرسي هو
العرش بعينه. وحكى الأُستاذ أبو سعيد عبد الملك عن أبي عثمان الزاهد عن بعض
المتقدّمين : أنّ الكرسي اسم مَلَك من الملائكة أضافه إلى نفسه تخصيصاً وتفضيلاً
فنبّه به عباده على عظمته وقدرته.
فقال : إن خلقاً من خلقي
(وسع) السماوات
والأرض فيكف تقدر قدرتي وتعرف عظمتي. واللّه أعلم.
{وَلا نَوْمٌ}
أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه.
قالت الخنساء :
وحامل الثقل بالأعباء قد علموا
إذا يؤود رجالاً بعض ما حملوا
وقيل : يؤوده
أي يسقطه من ثقله.
قال الشاعر :
إليّ وما سحروا عداة منّا
عند الحمار يؤودها العقل
{حِفْظُهُمَا} حفظ السماوات والأرض
{وَهُوَ الْعَلِىُّ} الرفيع فوق خلقه في التدبير والقوّة والقدرة لا بالمسافة والمكان والجهة
{الْعَظِيمِ} فلا شيء أعظم منه.
قال المفسّرون : سبب نزول هذه
الآية أنّ
الكفّار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
٢٥٦
{لا إِكْرَاهَ فِى
الدِّينِ}
الآية. قال مجاهد : نزلت هذه
الآية في رجل من الأنصار
يكنّى
(أبو الحصين) وكان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أراد
الرجوع إلى المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانيّة فتنصّرا وخرجا
إلى الشام،
فأخبر أبو الحصين رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بذلك فقال لرسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) اطلبهما،
فانزل اللّه تعالى
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} فقال
(صلى اللّه عليه وسلم)
(أبعدهما اللّه فهما أوّل مَنْ كفر) فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) حين لم يبعث في طلبهما فأنزل اللّه تعالى
{فَلا وَرَبِّكَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ}
الآية.
قال : وكان هذا قبل أن يؤمر رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بقتال أهل الكتاب ثم نسخ
قوله :
{إِكْرَاهَ
فِى الدِّينِ} وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة.
وهكذا قال ابن مسعود وابن زيد :
أنّها منسوخة بآية السيف،
وقال الباقون : هي محكمة.
سعيد بن جبير عن ابن عباس في
قوله
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}
قال : كانت
المرأة من الأنصار تكون مثقلاً لا يعيش لها ولد ونذوراً فتنذر لئن عاش لها ولد
لتهوّدنّه،
فجاء الإسلام وفيهم منهم،
فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم
أناس من الأنصار فقالت الأنصار : يا رسول اللّه أبناؤنا وأخواننا،
فكست عنهم
(صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت :
{إِكْرَاهَ فِى
الدِّينِ} .
الآية.
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(قد خُيّر أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم،
وإن اختاروهم
فاجعلوهم معهم).
قال : وكان الفصل مابين الأنصار واليهود إجلاء بني النضير فمن لحق
بهم اختارهم ومن أقام اختار الإسلام. وقال المفسّرون : كان لرجل من الأنصار من بني
سالم ابنان فتنصّرا قبل أن يبعث النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) ثم قدما المدينة في نفر من
النصارى يحملون الطعام فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال : لا ادعكما حتى
تُسلما،
فأبيا أن يسلما فأختصموا إلى
النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول
اللّه أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟
فأنزل اللّه تعالى
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}
الآية،
فخلّى سبيلهما.
ابن أبي
(حاتم) عن مجاهد
قال : كان ناس
مسترضعين في اليهود قريظة والنظير فلما أمر النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) بإجلاء بني النضير فقال نسائهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم :
لنذهبن معهم ولتذنبن بذنبهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت
هذه
الآية
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} .
قتادة والضحاك وعطاء وأبو روق
والواقدي : معنى
{إِكْرَاهَ فِى
الدِّينِ} بعد إسلام العرب إذا قبلوا الجزية،
وذلك أن العرب كانت أمّة أميّة
لم يكن لهم دين ولا كتاب فلم يقبل عنهم إلاّ الإسلام أو السيف وأكرهوا على الإسلام
فلم يقبل منهم الجزية،
ولما أسلموا ولم يبق أحد من
العرب إلاّ دخل في الإسلام طوعاً أو كرهاً،
أنزل اللّه تعالى
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} فأمر أن يقاتل أهل الكتاب والمجوس والصابئين على أن يسلموا أو أن يقرّوا
بالجزيّة فمن أقرّ منهم بالجزية قُبلت منه وخلّى سبيله ولم يكره على الإسلام.
وقال مقاتل : كان النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) لا يقبل الجزية إلاّ من أهل الكتاب،
فلما أسلمت العرب طوعاً أو
كرهاً،
قبل الخراج من غير أهل الكتاب
فكتب النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى المنذر بن ساوي وأهل هُجر يدعوهم إلى الإسلام :
(إن مَنْ شهد
شهادتنا وصلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وكان بديننا فذلك المسلم الذي
له ذمّة اللّه وذمّة رسوله،
فإن أسلمتم فلكم
مالنا وعليكم ما علينا ومَنْ أبى الإسلام فعليه الجزية).
فكتب المنذر إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إنّي قرأت كتابك على أهل هجر فمنهم مَنْ أسلم ومنهم مَنْ أبى،
فأمّا اليهود والمجوس فأقرّوا
الجزيّة وكرهوا الإسلام فرضي النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم) منهم بالجزية،
فقال منافقوا أهل المدينة : زعم
محمد أنّه لم يؤمر بأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب فما باله قبله من مجوس هجر وقد
ردّ ذلك على آبائنا وأخواننا حتّى قتلهم،
فشق ذلك على المسلمين،
فذكروا ذلك للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه تعالى
{إِكْرَاهَ
فِى الدِّينِ}
يعني بعد إسلام العرب.
وروى شريك عن عبد اللّه بن أبي
هلال عن وسق
قال : كنت
مملوكاً لعمر بن الخطاب
(رضي
اللّه عنه) وكنت نصرانيّاً وكان يقول : يا وسق أسلم فإنّك لو أسلمت
لولّيتك بعض أعمال المسلمين فإنّه ليس يصلح أن يلي أمرهم مَنْ ليس على دينهم،
فأبيت عليه فقال :
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} فلما مات أعتقني،
وقال ابن أبي نجيح : سمعت
مجاهداً يقول لغلام له نصراني : يا جرير أسلم،
ثم
قال : هكذا كان يقال :
(أم لا يكرهون).
وقال الزجاج وغيره : هو من قول
العرب : أكرهت الرجل إذا نسبته إلى الكره كما يقال : أكفرته وأفسقته
وأظلمته إذا نسبته إليها.
قال الكميت :
وطائفة قد أكفروني بحبّكم
وطائفة قالوا مسيءٌ ومذنب
ومعنى
الآية : لا تقولوا لمن
دخل بعد الحرب في الإسلام : أنّه دخل مكرهاً،
ولا تنسبوا فمن دخل في الإسلام
إلى الكره يدلّ عليه
قوله :
{وَلا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىا إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} .
{قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ} قد ظهر الكفر من
الإيمان والهدى من الضلالة والحق من الباطل،
عن ابن مسعود عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّه
قال :
(مَنْ أطاع اللّه ورسوله فقد رشد).
وعن مقاتل بن حسّان
قال : زعم الضحاك
أن الناس لما دخلوا في الإسلام طوعاً أو كرها ولم يبق من عدو نبيّ اللّه من مشركي
العرب أحد إلاّ دخلوا في الإسلام طوعاً أو كرها وأكمل الدين نزل :
{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الْغَىِّ} مَنْ شاء أسلم ومَنْ شاء أعطى الجزية.
وقرأ الحسن ومجاهد والاعرج
{الرُّشْدُ} بفتح الراء والشين وهما لغتان كالحزن والحزن والبُخل والبَخل.
وقرأ عيسى بن عمر :
{الرُّشْدُ} بضمّتين.
وقرأ الباقون بضم الراء وجزم
الشين وهما لغتان كالرُعب والرَعب،
والسُحت والسَحت.
{فَمَن يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ}
يعني الشيطان،
قاله ابن عمرو ابن عباس ومقاتل
والكلبي.
وقيل : هو الصنم،
وقيل : الكاهن،
وقيل : هو كلّ ما عُبد من دون اللّه.
وقال أهل المعاني : الطاغوت :
كلّ مايغطي الإنسان،
وهو فاعول من الطغيان زيدت
التاء فيه بدلاً من لام الفعل،
كقوله : حانوت وتابوت.
وقال أهل الاشارة : طاغوت كلّ
امرىء نفسه بيانه
قوله
{إِنَّ
النَّفْسَ مَّارَةُ بِالسُّوءِ}
الآية.
{وَيُؤْمِن بِاللّه} عن سعيد
قال : الإيمان : التصديق،
والتصديق أن يعمل العبد مما
صدّق به من القرآن.
وعن ابن عباس
قال : أخبر اللّه
تعالى إنّ الإيمان هو العروة الوثقى ولا يقبل عمل إلاّ به،
وعن ابن عباس أيضاً
قال : أخبر اللّه
تعالى أنّ الإيمان لا إله إلاّ اللّه.
{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} تمسك واعتصم
{بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى} بالعصمة الوثيقة المحكمة
٢٥٧
{لا انفصام لها
واللّه سميعٌ عليم اللّه ولي الذين آمنوا}
أي ناصرهم ومعينهم
وقيل محبهم
وقيل متولي
أمرهم لا يكلهم إلى غيره. يقال : توليت أمر فلان وولّيته ولاية بكسر الواو،
وقيل : أولى وأحق بهم لأنّه يربّهم،
وقال الحسن : ولي هداهم.
{يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
أي من الكفر والضلالة
إلى الإيمان والهداية،
وكذلك كانوا في علم اللّه عزّ
وجلّ قبل أنّ يخلقهم،
فلما خلقهم مضى فيهم علمه
فآمنوا.
وقال الواقدي : كلّ شيء في
القرآن من الظلمات والنور فإنّه أراد به الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام
{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} فإنّه
يعني به الليل والنهار.
قال ابن عباس : هؤلاء قوم كفروا
بعيسىج ثم آمنوا بمحمد
(صلى
اللّه عليه وسلم) فأخرجهم
(من الكفر) بعيسى إلى إيمانهم بالمصطفى وسائر الأنبياء
(عليهم السلام)،
وقال غيره : هو عام لجميع
المؤمنين،
وقال ابن عطاء : هذه
الآية
(تغنيهم من) صفاتهم بصفة فيصيرون قائمين بالحق للحق مع الحق.
الواسطي : يخرجهم من ظلمات
نفوسهم إلى آدابها كالرضا والصدق والتوكّل والمعرفة والمحبّة.
أبو عثمان : يخرجهم من رؤية
الأفعال إلى رؤية المنن والأفضال،
وقيل : يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصيلة والقربة.
{والذين كفروا
أوليائهم الطاغوت} هكذا قرأه العامّة وقرأ الحسن
الطواغيت على الجمع.
قال أبو حاتم : العرب تجعل
الطاغوت واحداً وجمعاً ومذكّراً ومؤنّثاً.
قال اللّه تعالى في الواحد والمذكّر
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} .
وقال في المؤنّث :
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن
يَعْبُدُوهَا} وقال في الجمع :
{يُخرجهم
من النور إلى الظلمات}.
قال ابن عباس :
يعني بالطاغوت
الشيطان.
قال مقاتل
يعني كعب بن
الأشرف،
ويحيى بن أخطب وسائر رؤوس
الضلالة يُخرجونهم ويدعونهم من النور إلى الظلمات،
دليله
قوله تعالى :
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ
أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
يعني أدعوهم.
فإن قيل : ما وجه
قوله
{يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُمَاتِ} وهم كفّار لم يكونوا في نور قط وكيف يخرجونهم ممّا لم يدخلوا
فيه.
فالجواب ما قال مقاتل وقتادة :
هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمّد
(صلى
اللّه عليه وسلم) قبل أن يُبعث فلما بُعث كفروا
به وجحدوا ما وجدوه في كتبهم من نعته وصفته ونبوّته بيانه
قوله :
{فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} فذلك خروجهم من النور
يعني بإيمانهم بمحمد
قبل البعث،
ويعني بالظلمات كفرهم بمحمد
(صلى اللّه عليه وسلم) بعد البعث،
والإدخال والإخراج الى اللّه
عزّ وجلّ لا إلى غيره إلاّ على سبيل الشريعة والتفريع.
قال اللّه عزّ وجلّ :
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ
وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} ،
وأجراها أهل المعاني على العموم
في جميع الكفّار.
وقالوا : منعه إياهم من
الدخول فيه إخراج،
وهذا كما يقول الرجل لأبيه :
أخرجتني من مالك ولم يكن فيه،
فقال اللّه تعالى إخباراً عن
يوسف :
{إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
بِاللّه} ولم يكن أبداً على دينهم حتّى تركه
قال اللّه تعالى
{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ولم يكن فيه قط.
وقال أمرؤ القيس :
ويأكلون البدل قد عاد احِماً قط
قال له الأصوات ذي كلا نجلى
وقال آخر :
أطعت النفس في الشهوات حتّى
أعادتني عسيفا عبد عبد
ولم يكن عبداً قط.
وقال الغنوي :
فإنّ تكن الأيام أحسن مرّة
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
٢٥٨
{أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ}
أي خاصم وجادل وأصلها
من الحجّة،
وهو نمرود بن كنعان بن سخاريب
بن كوش بن سام بن نوح وهو أول مَنْ وضع التاج على رأسه وتجبّر في الأرض وادّعى
الربوبيّة
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى}
أي لأنّ أتاه اللّه الملك فطغى،
وموضع
(أن) نصب بنزع حرف
الصفة.
العلاء بن عبد الكريم الأيامي
عن مجاهد.
قال : ملك الأرض
مؤمنان وكافران،
فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود
وذو القرنين،
وأمّا الكافران فنمرود وبخت
نصر.
واختلفوا في وقت هذه المناظرة،
فقال مقاتل : لما كسّر إبراهيم
الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار،
فقال له : مَنْ ربّك الذي
تدعونا إليه؟
قال : ربّي الذي يُحيي ويُميت.
وقال آخرون : كان هذا بعد إلقائه في النار.
عبد الرزاق عن معمّر بن زيد بن
أسلم : أن أوّل جبار في الأرض كان نمرود بن كنعان وكان الناس يخرجون فيمتارون من
عنده الطعام.
قال : فخرج إبراهيم ج يمتار.
فإذا مرّ به أُناس
قال : مَنْ
ربّكم؟
قالوا : أنت،
حتّى مرّ به إبراهيم
قال : مَنْ ربّك،
قال : الذي يُحيي ويُميت. كما ذكره اللّه تعالى.
قال : فردّه بغير طعام فرجع إبراهيم ج إلى أهله فمرّ على كثيب من
رمل أعفر فقال : ألا أخذ من
هذا فأتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم،
فأخذ منه فأتى به أهله فوضع
متاعه ثم نام فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رآه أحد فصنعت له
منه فقرّبت إليه وكان عهد بأهله ليس لهم طعام.
فقال : من أين هذا؟
قالت : من الطعام الذي جئت به،
فعرف أنّ اللّه رزقه فحمد
اللّه.
قال : ثم بعث اللّه مَلَكاً إلى الجبّار أن آمِن بيّ فأتركك على
ملكك،
فقال نمرود : وهل ربّ غيري؟
فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك،
فأبى عليه،
ثم أتاه الثالثة فأبى عليه وقال : لا أعرف
الذي تقول،
ألربك جنود؟
قال : نعم.
قال : فليقاتلني إنّ كان ملكاً فإنّ الملوك يقاتل بعضهم بعضاً.
قال له الملك : نعم إن شئت،
قال : قد شئت.
قال : فاجمع جندك إلى ثلاثة أيام حتّى تأتيك جنود ربّي.
قال : فجمع الجبّار جنوده.
فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى خزنة
البعوض أن افتحوا منها ففتحوا باباً من البعوض،
فلما أصبح اليوم الثالث نظر
نمرود إلى الشمس فقال : ما بالها لا تطلع،
وظنّ أنّها أُبطئت،
فقال الملك : حال دونها جنود
ربّي.
قال : فأحاطت بهم البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق من
الناس والدواب إلاّ العظام ونمرود كما هو لم
(يصبه) شيء.
فقال له الملك : أتؤمن الآن؟
قال : لا.
فأمر اللّه عزّ وجلّ بعوضة
فقرصت شفته السفلى فشربت وعظمت،
ثم قرصت شفته العليا فشربت
وعظمت،
ثم دخلت منخره وصارت في دماغه
وأكلت من دماغه حتّى صارت مثل الفأرة فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق،
فأرحم الناس به من كان يجمع يده
ثم يضرب به رأسه فعذّبه اللّه أربعمائة سنة كما ملك أربعمائة سنة.
قال اللّه عزّ وجلّ :
{أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى} وهو جواب سؤال سابق غير مذكور تقديره : قال له : مَنْ ربّك؟
قال إبراهيم :
{رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} .
قرأ الأعمش وحمزة وعيسى :
{رَبِّيَ الَّذِى} بإسكان الياء،
وقرأ الباقون بفتحه لمكان الألف
واللام.
فقال نمرود :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} .
قرأ أهل المدينة
(أنا) بالمدّ في
جميع القرآن،
وهو لغة قوم يجعلون الوصل فيه
كالأصل.
وأنشد الكسائي :
أنا سيف العشرة فاعرفوني
حميد قد تذرّيت السناما
وقال آخر :
أنا عبيد اللّه
(يميني) عمرْ
خير قريش من مضى ومن غبر
إلاّ رسول اللّه والشيخ الأغر
والأصل في
(أنا) أن تفتح
النون وابتغي لها الوقت فكتبت ألفاً على نيّة الوقف فصار : أنا. وأكثر العرب يقول
في الوقف : أنّه.
قال أكثر المفسّرين : دعا نمرود
برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فسمّى ترك القتل إحياءً.
كقوله :
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا}
أي لم يقتلها.
وقال السدي في
قوله تعالى :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى}
قال : أخذ أربعة
نفر فأدخلهم بيتاً فلا يُطعمون ولا يُسقون حتّى إذا أشرفوا على الهلاك أطعم اثنين
وسقاهما وترك اثنين فماتا،
فانتقل إبراهيم إلى حجّة أخرى
لا عجزاً لأن له أن يقول : فأحي مَنْ أمتّ إن كنت صادقاً،
بل إيضاحاً بالحجّة فقال :
{قَالَ إِبْرَاهِمُ فَإِنَّ اللّه يَأْتِى
بِالشَّمْسِ} كلّ يوم
{مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ}
أي تحيّر ودُهش وانقطعت حجّته.
يقال : رجل مبهوت،
أي مدهوش.
قال الشاعر :
ألا إنّ لرئاها فجأة
فأبهت حتّى ما أكاد أسير
وقرأ محمد بن السميقع اليماني :
{فَبُهِتَ} بفتح الباء والهاء
أي بهته إبراهيم. تصديقه
قوله تعالى :
{بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ}
أي تدهشهم.
{وَاللّه لا يَهْدِى
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى الحجّة
٢٥٩
{أَوْ كَالَّذِى
مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} هذا عطف على معنى
الآية الأولى
تقديره : هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربّه،
أو هل رأيت كالذي مرّ على قرية.
قال بعض نحّاة البصرة :
(الكاف) صلة كأنّه
قال : ألم ير إلى
الذي أو الذي.
واختلفوا في ذلك المارّ من هو،
فقال قتادة والربيع وعكرمة
وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة والضحاك والسدي وسليم الخواص : هو عزير بن شرحيا.
وقال وهب بن منبّه وعبد اللّه
بن عبيد بن عمير : هو أرميا بن خلفيا وكان من سبط هارون ابن عمران،
وهو الخضر.
وقال مجاهد : هو رجل كافر شكّ
في البعث.
واختلفوا في القرية التي عليها،
فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع
: هي بيت المقدّس،
وقال الضحاك : هي الأرض
المقدّسة،
وقال ابن زيد : الأرض التي أهلك
اللّه فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر موت.
وقال الكلبي : هي دير سائداباذ،
وقال السدي : هي سلماباذ،
وقيل : دير هرافيل،
وقيل : قرية العنب وهو على فرسخين من بيت المقدس.
{وَهِىَ خَاوِيَةٌ} ساقطة،
يقال : خوى البيت يخوى
خوىً مقصوراً إذا سقط،
وخوى البيت بالفتح خواً ممدود
إذا خلا.
{عَلَى عُرُوشِهَا} سقوفها وأبنيتها واحدها عرش وجمعه القليل : أعرش،
وكلّ بناء عرش،
يقال : عرش فلان،
إذا بنى فهو يعرش ويعرش عرشاً،
قال اللّه :
{وَمَا
كَانُوا يَعْرِشُونَ}
أي يبنون.
ومعنى
الآية : إنّ السقوف سقطت
ثم وقعت الحيطان عليها.
وقيل :
(على) بمعنى مع،
أي خاوية مع عروشها.
قال الشاعر :
كأن مصفحات في ذراه
وأبراجاً عليهن المآلي
أي معهن.
نظيرها في سورة الكهف والحجّ.
{قَالَ أَنَّى يُحْىِ
هذه اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا} وكان السبب في ذلك
على ماروى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبّه : إن اللّه سبحانه وتعالى قال لأرميا ج
حين بعثه نبيّاً إلى بني إسرائيل : يا أرميا من قبل أن خلقتك اخترتك،
ومن قبل أن أُصوّرك في رحم
أُمّك قدّستك،
ومن قبل أن تبلغ السعي نبّأتك
ولأمر عظيم أحببتك. فبعث اللّه أرميا إلى ناشئة بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده
ويأتيه بالخبر من اللّه تعالى،
فعظمت الأحداث في بني إسرائيل
فركبوا المعاصي واستحلّوا المحارم،
فأوحى اللّه تعالى إلى أرميا أن
ذكّر قومك نعمي وعرّفهم أحداثهم فادعهم إليّ.
فقال أرميا : إنّي ضعيف إنّ لم
تقوّني عاجز إن لم تنصرني.
فقال اللّه تعالى : أنا
ألهمك،
فقام أرميا فيهم ولم يدر ما
يقول،
فألهمه اللّه عزّ وجلّ في الوقت
خطبة بليغة طويلة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية.
وقال في آخرها : وإنّي أنا
اللّه بعزتي لأقضين لهم فتنة يتحيّر فيها الحليم ولأسلطنّ عليهم جبّاراً قاسياً
ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرحمة يتّبعه عدد مثل سواد الليل المظلم.
فأوحى اللّه تعالى إلى أرميا :
إنّي مهلك بني اسرائيل بيافث ويافث،
أهل بابل وهم من ولد يافث بن
نوح،
فلمّا سمع ذلك أرميا صاح وبكى
وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع اللّه تضرّع أرميا وهو الخضرج وبكاه
ناداه : يا أرميا أشق عليك ما أوحيت إليك؟
قال : نعم يارب،
أهلكني قبل أن أرى في بني
إسرائيل ما لا أسرّ به.
فقال اللّه عزّ وجلّ : وعزّتي
لا أهلك بني اسرائيل حتّى يكون الأمر في ذلك من قبلك،
ففرح بذلك أرميا وطابت نفسه،
وقال : والذي بعث موسى
بالحق لا أرضى بهلاك بني اسرائيل،
ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان
ملكاً صالحاً فاستبشر وفرح وقال : إن يُعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة لنا وإنّ عفا عنّا فبرحمته.
ثم إنّهم لبثوا بعد الوحي ثلاث
سنين لم يزدادوا إلاّ معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم،
فقل الوحي ودعاهم الملك إلى
التوبة فلم يفعلوا،
فسلّط اللّه عليهم بخت نصّر
فخرج في ستمائة ألف راية تريد أهل بيت المقدس،
فلما فصل سائراً أتى الخبر
الملك فقال لأرميا : أين مازعمت أن اللّه أوحى إليك؟
فقال أرميا : إنّ اللّه لا يخلف
الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل وعزم اللّه
تعالى على هلاكهم،
بعث اللّه إلى أمريا مَلَكاً قد
تمثّل له رجلاً من بني إسرائيل.
فقال : يا نبي اللّه
أستعينك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم أت إليهم إلاّ حيناً ولا يزيدون مع إكرامي
إياهم إلاّ اسخاطاً لي فأفتني فيهم،
فقال له : أحسن فيما بينك وبين
اللّه وصلهم وأبشر بخير.
فانصرف المَلَك فمكث أياماً ثم
أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه،
فقال له أرميا : أوماظهرت
أخلاقهم لك بعد؟
قال : يانبي اللّه والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من
الناس إلى أهل رحمة إلاّ قدّمتها إليهم وأفضل.
فقال النبيّ : أرجع إلى أهلك
وأحسن إليهم واسأل اللّه تعالى الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم،
فقام المَلَك فمكث أياماً وقد
نزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجرّاد ففزع بني اسرائيل وشقّ عليهم.
فقال المَلِك لارميا : يانبي
اللّه أين ما وعدك اللّه؟
قال : إنّي بربّي واثق.
ثم أقبل المَلَك إلى أرميا وهو
قاعد على جدار بيت المقدس فضحك واستبشر بنصر ربّه الذي وعده فقعد بين يديه وقال : أنا الذي
أنبأتك في شأن أهلي مرّتين.
فقال النبيّ : ألم يأن لهم أن
يفيقوا من الذي هم فيه؟
فقال المَلَك : يانبي اللّه كلّ
شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضى اللّه عزّ
وجلّ به.
فقال النبي : على
أي عمل رأيتهم؟
قال : عمل عظيم من سخط اللّه فغضبت للّه ولك وأتيتك لأخبرك وإنّي
أسألك باللّه الذي بعثك بالحق إلاّ ما دعوت اللّه عليهم ليهلكهم.
فقال أرميا : يا مَالك السماوات
والأرض إنّ كانوا على حق وصواب فابقهم وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من فم أرميا
أرسل اللّه عزّ وجلّ صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف سبعة
أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق
ثيابه ونبذ الرماد على رأسه،
وقال : يا مَالك السماوات
والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟،
فنودي أنّه لم يصبهم الذي
أصابهم إلاّ بفتياك ودعائك،
فاستيقن النبيّ أنّها فتياه
التي أفتى بها،
وأنه رسول ربه.
فطار أرميا حتّى خالط الوحوش،
ودخل بخت نصّر وجنوده بيت
المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرّب بيت المقدس،
ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل
منهم ترسه تراباً ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتى ملاؤه،
ثم أمرهم أن يجمعوا مَنْ كان في
بلدان بيت المقدس كلّهم فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل واختار منهم
مائة ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة،
وفرّق بخت نصّر مَنْ بقى من بني
إسرائيل ثلاث فرق : فثلثاً أقرّ بالشام،
وثلثاً أسر،
وثلثاً قتل،
فكانت هذه الواقعة الأولى التي
أنزلها اللّه ببني إسرائيل بظلمهم.
فلما ولّى بخت نصّر عنهم راجعاً
إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل،
أقبل أرميا على حمار له معه عصير
عنب في زُكرة وسلّة تين حتّى أتى ايليا فلما وقف عليها ورأى خرابها
قال :
{أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} ؟
وقال الذين قالوا إن هذا المارّ
كان عزيراً : إن بخت نصّر لما خرّب بيت المقدس وأقدم بسبي بني إسرائيل إلى أرض
بابل كان فيهم عزير وكان من علماء بني إسرائيل،
ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت
داود.
فلما نجا عزير من بابل ارتحل
على حمار حتّى نزل على دير هرقل على شط دجلة،
فطاف في القرية فلم يرَ فيها
أحد وعلم بخبرها،
فأكل من الفاكهة وعصر من العنب
فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلّة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك
أهلها
قال :
{أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِىَ} . لم يشك في البعث ولكن قالها تعجبّاً.
رجعنا إلى حديث وهب :
قال : ربط أرميا
حماره بحبل جديد فألقى اللّه عليه النوم،
فلمّا نام نزع منه الروح مائة
سنة وأمات حماره،
وعصيره وتينه عنده،
وأعمى اللّه عنه العيون فلم يره
أحد وذلك ضحى،
ومنع اللّه السباع والطير لحمه.
فلمّا مضى من موته سبعون سنة أرسل اللّه عزّ وجلّ مَلَكاً إلى ملك من بني اسرائيل
عظيم يقال له :
(يوسك) فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يأمرك أن تنفر قومك فتعمّر بيت المقدس
وإيليا وأرضها حتّى تعود أعمر ما كان،
فانتدب الملك ألف قهرمان مع كلّ
قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمّرونها،
وأهلك اللّه تعالى بخت نصّر
ببعوضة دخلت دماغه
(...) اللّه تعالى مَنْ
بقى من بني إسرائيل ولم يمت ببابل وردّهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه،
فعمّروه ثلاثين سنة وكثروا حتى
صاروا كأحسن ما كانوا عليه،
فلما مضت المائة أحيا اللّه
تعالى منه عينيه وسائر جسده ميّت،
ثم أحيا جسده وهو ينظر،
ثم نظر إلى حماره وإذا عظامه متفرّقة
بيض تلوّح،
فسمع صوتاً من السماء : أيّها
العظام البالية إنّ اللّه يأمرك أن تجتمعي،
فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل
بعضها ببعض.
ثم نودي : إنّ اللّه يأمرك أن
تكتسي لحماً وجلداً،
فكان كذلك،
ثم نُودي : إنّ اللّه يأمرك أن
تحيي،
فقام بأذن اللّه ونهق الحمار.
وعمّر اللّه أرميا،
فهو الذي يُرى في الفلوات فذلك
قوله تعالى :
{فَأَمَاتَهُ اللّه مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}
أي أحياه.
{قَالَ كَمْ} إستفهام عن مبلغ العدد
{لَبِثْتَ} قرأ ابن محيص
والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي : لبث ولبثتم بالإدغام في جميع القرآن. الباقون
بالإظهار.
فمَنْ أدغم فلا يجاوره في
المخرج والمشاكلة في الهمس،
ومَنْ أظهر
(فلإظهارها) في المصحف،
وكلاهما غريبان فصيحان ومعناه :
كم مكثت وأقمت هاهنا. يقال : لبث يلبث لبثاً والباثاً.
{قَالَ لَبِثْتُ
يَوْمًا} وذلك إنّ اللّه تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد
مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس،
فقال :
{لَبِثْتُ يَوْمًا} وهو يرى إنّ الشمس قد غربت،
ثم التفَتَ فرأى بقيّة من الشمس
فقال :
{أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} بمعنى بل بعض يوم،
لأن
قوله
{بَعْضَ يَوْمٍ} رجوع عن
قوله :
{لَبِثْتُ
يَوْمًا} كقوله :
{أَوْ
يَزِيدُونَ} .
{قَالَ بَل لَّبِثْتَ
مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ}
يعني التين
{وَشَرَابِكَ}
يعني العصير
{لَمْ يَتَسَنَّهْ} قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وَصْلاً وكذلك في
قوله
{فَبِهُدَ اهُمُ اقْتَدِهْ} .
وقرأ الباقون بالهاء فيها وصلاً
ووقفاً. وذكر أبو حاتم عن طلحة
{لَمْ
يَتَسَنَّهْ} بادغام التاء في السين وزعم أنّه في حرف أُبيّ كذلك ومعناه :
لم تغيّره السنون.
فمن أسقط الهاء في الوصل حول
الهاء صلة زائدة،
وقال : أصله لم يتسنّي
فحذف الياء بالجزم وأبدل منها هاء في الوقف،
وهذا على قول من جعل الهاء في
السنة زائدة.
وقال : أصلها يسنوه
وجمعها سنوات والفعل منه سانيت مساناة وتسنّيت تسنّياً،
إلاّ أن الواو يردّ إلى الباقي
التفعّل والتفاعل،
كقولهم : التداعي
والتداني؛ لأن الياء أخف من الواو.
وقال أبو عمر : وهو من التسنن
بنونين،
وهو التغيير كقوله :
{مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ}
أي متغيّر ثم عوّضت
عن إحدى النونين كقول الشاعر :
فهلا إذ سمعت بحثت عنه
ولم تمس الحكومة بالتطنّي
أراد بالتعيّن.
قال العجّاج :
تفصّي البازي إذ البازي كسر
أراد تفضض.
وتقول العرب : نتلعى،
إذا خرجوا في إجتناء نبت ناعم
يقال له المقاع.
قال اللّه تعالى :
{وَقَدْ
خَابَ مَن دَسَّ اهَا}
أي دسَّسها.
ومن أثبت الهاء في الحالين
جعلها هاءً أصلّيّة لام الفعل،
وعلى هذا قول من جعل السنة
سنهية وتصغيرها سنيهة والفعل منه المسانهة.
قال الشاعر :
ليست بسنهاء ولا رجبية
ولكن عرايا في السنين الجوائح
فإن قيل : أخبر عن شيئين اثنين
ثم
قال :
{لَمْ يَتَسَنَّهْ} ولم يثنه،
قيل : لأن التغيير راجع إلى
أقرب اللفظين وهو السنوات،
واكتفى بذكر أحد المذكورين عن
الآخر لأنّه في موضع الفاني كقوله الشاعر :
(عقاب عقبناه كان
وظيفه
وخرطوعة إلاّ على
سنان فلوج)
ولم يقل سنانان فلوجان،
ودليل هذا التأويل قراءة ابن
مسعود : فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنّه.
{وَانظُرْ إِلَى
حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ} قال أكثر العلماء : في
الآية تقديم وتأخير،
أي وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه ولنجعلك آية للناس وأنظر
إلى حمارك،
ويحتمل أن يكون
(المعنى) : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وأنظر إلى حمارك.
{وَانظُرْ إِلَى
العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .
فأمّا تفسير
الآية والقراءات
فيها فقرأ خارجة والأعرج وعيسى بن عمر وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي حمارك
والحمار بالأمالة،
الباقون بالتفخيم،
وقوله تعالى :
{كَيْفَ
نُنشِزُهَا} . قرأ أُبي بن كعب وعبد اللّه بن عامر والأعمش وحمزة
والكسائي وخلف : ننشزها بالزاء وضم النون وكسر الشين.
وروى أبو العالية عن زيد بن
ثابت
قال : إنّما هي
راء قرؤها زاء
أي أنقطها. وكذلك روى
معاوية بن قرّة عن ابن عباس بالزاي واختاره أبو عبيدة.
وانشاز الشيء : رفعه ونقله
وإزعاجه،
فقال : أنشزته فنشز،
أي رفعته فارتفع،
ومنه نشز المرأة على زوجها ونشز
الغلام،
أي ارتفع،
فمعنى
الآية : كيف نرفعها من
الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسد ونركّب بعضها على بعض.
قال ابن عباس والسدي : نخرجها،
والكسائي : فننبتها ونعظّمها.
قتادة وعطاء وأبو جعفر وشيبة
ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيوب : ننشرها بالراء وضمّ النون وكسر الشين،
وأختاره أبو حاتم،
ومعناه : نحييها.
فقال : أنشر اللّه الميّت
إنشاراً فينشر هو نشوراً،
قال اللّه تعالى :
{ثُمَّ
إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} . وقال :
{هُمْ يُنشِرُونَ} ،
وقال :
{بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} وقال :
{ كذلك
النُّشُورُ} .
{وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ} . وقال حارثة بن بدر الغداني :
فأنشر موتاها وأقسط بينها
فبان وقد ثابت إليها عقولها
وقال الأعشى في اللازم :
حتّى يقول الناس ممّا رأوا
يا عجباً للميّت الناشر
وقرأ الحسن والمفضّل ننشرها
بالراء وفتح النون وضمّ الشين.
قال الفرّاء : ذهب إلى النشر
والطي.
وقال بعضهم : هو من الإحياء أيضاً،
يقال : أنشر اللّه الميّت
ونشره إذا أحياه،
قال أبو حاتم : وليس بالمعروف.
وقرأ النخعي بالزاء وفتح النون
وضم الشين.
قال أبو حاتم ذلك غلط،
وقال غيره : يقال نشزه
(ونشطه) وأنشزه
بمعنى واحد.
{ثُمَّ نَكْسُوهَا
لَحْمًا}
أي نكسوها ونواريها به كما نواري الجسد بالثوب،
واختلفوا في معنى
الآية،
فقال بعضهم : أراد به عظام حماره وذلك أن اللّه تعالى أمات حماره ثم أحياه
خلقاً سويّاً وهو ينظر.
قال السدي : إنّ اللّه أحيا
عزيراً ثم قال انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه،
فبعث اللّه عزّ وجلّ ريحاً
فجاءت بعظام الحمار من كلّ سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع واجتمعت فركّب بعضها في
بعض وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم،
ثم كسا العظام لحماً ودماً فصار
حماراً ليس فيه روح،
ثم أقبل مَلَك يمشي حتّى أخذ
منخر الحمّار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن اللّه.
ومعنى
الآية على هذا القول :
وانظر إلى لحم حمارك وإلى عظامه كيف ننشزها،
فلما حذف الهاء من العظام أبدل
الألف و.............. وعلى هذا أكثر المفسّرين.
وقال آخرون : أراد به عظام هذا الرجل نفسه،
وذلك أنّ اللّه تعالى لم يمت
حماره فأحيا اللّه عينيه،
ورأسه وسائر جسده ميّت،
ثم قال له : انظر إلى حمارك،
فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئة
يوم ربطه حيّاً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرقية في عنقه جديداً لم
تتغيّر.
وتقدير
الآية على هذا
القول : فانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها. وهذا قول الضحاك وقتادة
والربيع وابن زيد.
{وَلِنَجْعَلَكَ
ءَايَةً لِّلنَّاسِ} فعلنا ذلك
(لنجعلك). وإن شئت جعلت الواو مفخّمة زائدة،
كقول الشاعر الأسود بن جعفر :
فإذا وذلك لا مهاة لذكره
والدهر يعقب صالحاً بفساد
أي فإذا ذلك.
ومعنى
الآية : فعلنا هذا بك
لنجعلك آية للناس،
أي عبرة ودلالة على البعث بعد الموت،
قاله أكثر المفسّرين.
وقال الضحاك وغيره : هذه
الآية أنّه عاد
إلى قريته شاباً وإذا أولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية.
وروى قتادة عن كعب وعن الحسن
ومقاتل وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس،
وعبد اللّه ابن إسماعيل السدي
عن أبيه عن مجاهد عن ابن عباس
قالوا : لمّا أحيا اللّه عزيراً بعدما أماته مائة سنة ركب حماره حتّى
أتى محلّته فأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر منازله،
فانطلق على وهم منه حتّى أتى
منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمةً لهم فخرج
عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وكفلته فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة
فقال لها عزير : ياهذه أهذا منزل عزير؟
قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت
وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً وقد نسيه الناس،
قال : فإنّي أنا عزير.
قالت : سبحان اللّه إنّ عزيراً
قد فقدناه من مائة سنة فلم نسمع بذكره.
قال : فإنّي أنا عزير كان اللّه عزّ وجلّ أماتني مائة سنة ثم
بعثني.
قالت : فإنّ عزيراً كان مستجاب
الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء،
فادع اللّه حتّى يردّ عليّ بصري
حتى أراك فإنّ كنت عزيراً عرفتك،
قال : فدعا ربّه ومسح يده على عينيها ففتحت وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن
اللّه،
فاطلق اللّه عزّ وجلّ رجليها
فقامت صحيحة بإذن اللّه كأنّها نشطت من عقال،
فنظرت فقالت : أشهد إنّك عزير،
فأنطلقت إلى محلة بني إسرائيل
وهم في أنديتهم ومجالسهم،
وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة
وثمانية عشر سنة وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادت : هذا عزير قد جاءكم،
فكذّبوها.
فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا
لي ربّه عزّ وجلّ فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي وزعم إنّ اللّه تعالى كان أماته مائة
سنة ثم بعثه.
قال : فنهض الناس فأقبلوا إليه،
فقال ابنه : كانت لأبي شامة
سوداء مثل الهلال بين كتفيه،
فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير.
قال
(قتادة ومقاتل) والسدي
والكلبي : هو أن عزيراً رجع إلى قريته وقد أحرق بخت نصّر التوراة ولم يكن من اللّه
تعالى عهد بين الخلق فبكى عزير على التوراة،
فأتاه مَلَك بأناء فيه ماء
فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره،
فرجع إلى بني إسرائيل،
وقد علّمه اللّه التوراة وبعثه
نبيّاً.
فقال : أنا عزير،
ولم يصدّقون.
وقال : حدّثنا أبائنا إنّ
عزيراً مات بأرض بابل.
فقال : أنا عزير بعثني
اللّه إليكم لأجدد لكم توراتكم.
فقالوا : أملها علينا إن
كنت صادقاً،
فأملاها عليهم من ظهر قلبه.
وقال رجل منهم : حدّثني أبي عن
جدّي أنّه دفن التوراة يوم سُبينا في خابية في كرم لأبي،
فإنّ أريتموني كرم جدي أخرجتها
لكم،
فأروه،
فأخرجها لهم،
فعارضوها بما أملى عزير فما
اختلفا في حرف،
ولم يقرأ التوراة منذ أنزلت عن
ظهر قلبه إلى هذا اليوم غير عزير.
فقالوا : ما جعل اللّه
التوراة في قلب رجل بعدما نسخت وذهبت إلاّ أنّه ابنه،
فعندها
قالوا : عزير ابن
اللّه،
وسنذكر هذه القصّة بالاستقصاء
في سورة التوبة إنّ شاء اللّه.
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ} ذلك عياناً
{قَالَ
أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قرأ ابن عباس وأبو رجاء وحمزة والكسائي :
{قَالَ أَعْلَمُ} موصولاً
مجزوماً على الأمر بمعنى
قال
اللّه له اعلم،
يدلّ عليه قراءة عبد اللّه
والأعمش : قل اعلم،
وقرأ الباقون
{قَالَ أَعْلَمُ} معطوفاً مرفوعاً على الخبر عن عزير أنّه قال لمّا رأى ذلك :
{أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
عن المنعم بن إدريس عن أبيه عن
وهب
قال : ليس في
الجنّة كلب ولا حمار إلاّ كلب أصحاب الكهف وحمار أرميا الذي أماته اللّه مائة عام.
٢٦٠
{وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيم رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى}
الآية إن قيل :
ما السبب في مسألة إبراهيم ربّه عزّ وجلّ أن يُريه كيف يُحيى الموتى،
وما وجه ذلك،
وهل كان إبراهيم شاكّاً في
إحيائه الموتى حتّى
قال : ولكن ليطئمن قلبي؟
فالجواب عنه من وجوه : قال
الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج : كان سبب ذلك السؤال أنّ إبراهيم
أتى على دابة ميّتة،
قال ابن جريج : كانت جيفة حمار
بساحل البحر،
قال عطاء : بحيرة الطبريّة،
قالوا : فرآها وقد توزّعتها
(دواب) البر والبحر،
وكان إذا مدّ البحر جاءت
الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في الماء،
وإذا جزر البحر جاءت السباع
فأكلت منها فما وقع منها يصير تراباً،
فإذا ذهبت السباع جاءت الطيور
فأكلن منها فما سقط قطعته الريح في الهواء،
فلما رأى ذلك إبراهيم ج تعجّب
منها وقال : يارب قد
علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع وحواصل الطيور وأجواف دواب البر فأرني كيف
تُحييها لأعاين ذلك فأزداد يقيناً،
فعاتبه اللّه عزّ وجلّ فقال :
{قَالَ أَوَلَمْ} بإحياء الموتى
{قَالَ
بَلَى} يارب علمت وآمنت ولكن ليس الخبر كالمعاينة فذلك
قوله :
{وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ قَلْبِى}
أي يسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة.
فعلى هذا القول أراد إبراهيم ج
أن يصير له علم اليقين عين اليقين،
كما أن الإنسان يعلم الشيء
ويتيقنه ولكن يحب أن يراه من غير شك له فيه،
كما أن المؤمنين يحبّون رؤية
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ورؤية الجنّة ورؤية اللّه تعالى مع الإيمان بذلك وزوال الشك فيه.
قال ابن زيد : مرّ إبراهيم ج
بحوت ميّت نصفه في البر ونصفه في البحر فما كان في البحر فدواب البحر تأكله وما
كان في البر فدواب البر تأكله،
فقال له الخبيث إبليس : متى
يجمع اللّه هذا من بطون هؤلاء؟
فقال :
{رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى} ،
قال :
{أَوَلَمْ
تُؤْمِن} ؟
{قَالَ بَلَى وَلَاكِن
قَلْبِى} بذهاب وسوسة إبليس منه ويصير الشيطان خاسراً صاغراً.
وقال بعضهم : إن إبراهيم ج لما أحتجّ على نمرود وقال :
{رَبِّيَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ} .
وقال :
{أَلَمْ تَرَ إِلَى} وقتل ذلك الرجل وأطلق الآخر.
قال إبراهيم : فإنّ اللّه عزّ
وجلّ يحيي بأن يقصد إلى جسد ميّت فيحييه ويجعل الروح فيه.
فقال له نمرود : أنت عاينت هذا،
فلم يقدر أن يقول نعم رأيته،
فانتقل إلى حجّة أُخرى،
فقال إنّ اللّه عزّ وجلّ يأتي
بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب،
ثم سأل ربّه فقال :
{رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِن} ؟
{قَالَ بَلَى
وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ قَلْبِى} حتّى إذا قال لي
قائل : أنت عاينت؟
أقول : نعم قد عاينت ولا أحتاج
إلى الإنصراف لأي حجّة أُخرى،
وليعلم نمرود إنّ الإحياء كما
فعلت لا كما فعل هو. وهذا معنى قول محمد بن إسحاق عن ابن يسارة.
روى في الخبر : إنّ نمرود قال
لإبراهيم ج : أنت تزعم إن ربّك يُحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته فسل لربّك يُحيي
الموتى إنّ كان قادراً وإلاّ قتلتك.
فقال إبراهيمج :
{رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِن} ؟
{قَالَ بَلَى
وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ قَلْبِى} بقوّة حجّتي
ونجاتي من القتل،
فإن عدو اللّه توعدني بالقتل
إنّ لم تُحيي له ميّتاً.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير
والسدي : لما أتخذ اللّه إبراهيم خليلاً،
سأل مَلَك الموت أن يأذن له
فيبشّر إبراهيم بذلك،
فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن
في الدار،
فدخل داره وكان إبراهيم ج أغير
الناس،
إذا خرج أغلق بابه،
فلمّا دخل وجد في داره رجلاً
فثار إليه ليأخذه فقال له : مَنْ أذن لك أن تدخل داري؟
فقال مَلَك الموت : أذن لي ربّ
هذه الدار،
قال إبراهيم : صدقت،
وعرف أنّه مَلَك الموت.
فقال : مَنْ أنت؟
قال : مَلَك الموت جئت أُبشّرك بأن اللّه عزّ وجلّ أتخذك خليلاً،
فحمد اللّه تعالى وقال له : ما
علامة ذلك؟
قال : أن يجيب اللّه دعائك ويُحيي الموتى بسؤالك،
ثم أنطلق مَلَك الموت.
فقال إبراهيم :
{رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِن} ؟
{قَالَ بَلَى
وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ قَلْبِى} بعلمي أنّك تجيبني
إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك. واتخذتني خليلاً.
محمد بن مسلم عن سعيد بن
المسيّب وأبي عبيدة عن أبي هريرة عن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(يرحم اللّه إبراهيم نحن أحق بالشك منه قال :
{رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِن} ؟
{قَالَ بَلَى
وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ قَلْبِى} ) ثم قرأ إلى آخر
الآية.
محمد بن إسحاق بن خزيمة قال
سمعت أبا إبراهيم المزني يقول : معنى
قوله ج
(نحن
أحق بالشك من إبراهيم) إنّما شك إبراهيم
أيجيبه اللّه عزّ وجلّ إلى ما يسأل أم لا.
عبد الرحمن السلمي
قال : سمعت أبا
القاسم النصر أباذي سُئل عن هذه
الآية فقال : حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه،
فذلك
قوله عزّ وجلّ
{أَوَلَمْ تُؤْمِن} .
يعني أنت مؤمن
شهد له بالإيمان،
كقول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
يعني أنتم كذلك.
{قَالَ بَلَى
وَلَاكِن لِّيَطْمَ نَّ} ليسكن
{قَلْبِى} بزيادة اليقين والحجّة،
وحقيقة الخلّة وإجابة الدعوة.
قال اللّه تعالى لإبراهيمج :
{فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} مختلفة أجناسها
وطباعها ليكون أبلغ في القدرة،
وخصّ الطائر من سائر الحيوان
لخاصيّة الطيران،
واختلفوا في ذلك الطير ماهي.
فقال ابن عباس : أخذ طاووساً
ونسراً وغراباً وديكاً.
مجاهد وعطاء بن يسار وابن جريج
وابن زيد : كانت غراباً وديكاً وطاووساً وحمامة.
سعيد بن أيوب عن سعيد بن الحرث
الغراب عن أبي هريرة السناني : أنّها الطاووس والديك والغراب والحمامة.
قال عطاء الخراساني : أوحى
اللّه عزّ وجلّ لنبيّه أن أحضر أربعة من الطير : بطّة خضراء وغراباً أسود وحمامة
بيضاء وديكاً أحمر.
{فَصُرْهُنَّ
إِلَيْكَ} قرأ عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه وأبو الأسود الدؤلي
وأبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعكرمة والأعرج وشيبة
ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم والكسائي وأبو عمرو ويعقوب وأيوب : بضم الصاد،
وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم :
إضممهنّ ووجّههنّ إليك.
يقال : صرت الشيء أصوره
إذا أملته.
قال أمرؤ القيس :
وأفرع ميّال يكاد يصورها
وعجز كدعص أثقلته البوايص.
وقال الطرمّاح :
عفايف الأذيال أو أن يصورها
هوى والهوى للعاشقين صروع
أي يميلها هوى.
ويقال : رجل أصور إذا كان
مائل العنق.
ويقال : إنّي إليكم لأصور،
أي مشتاق مائل،
وامرأة صوراء،
والجمع صور،
مثل عوداء وعُود.
قال الشاعر :
اللّه يعلم أنا في تلفتنا
يوم الفراق إلى جيراننا صور
وقال عطاء وعطيّة وابن زيد
والمؤرخ : معناه : أجمعهن وأضممهن،
يقال : صار يصور صوراً
إذا جمع،
ومنه قيل :
(إني إليكم لأصور).
قال الشاعر :
وجاءت خلعة دُهس صفايا
يصوّر عنوقها أحوى زنيم
أي بضم خلعة والخلعة خيار المال،
ودهس على لون الدهاس وهو الرمل.
صفايا غزار معجبة.
قال أبو عبيدة وابن الأنباري :
معناه : قطّعهن وأصغر القطع.
قال به ابن الحمير :
فلما جذبت الحبل أطّت نسوعه
بأطراف عيدان شديد أسورها
فأدنت لي الأسباب حتّى بلغتها
بنهض وقد كاد أرتقائي يصورها
قال رؤبة :
صرنا به الحكم واعياً الحكما
أي قطعنا الحكم به
وقرأ علقمة وعبيد بن عمير وسعيد
بن جبير وطلحة وقتادة وأبو جعفر ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة وخلف :
{فَصُرْهُنَّ} بكسر الصاد،
ومعناه : قطّعهن وفرّقهن. يقال : صار يصير
صيراً،
إذا قطع،
وأنصار الشيء بنصار أنصاراً إذا
انقطع.
قالت الخنساء :
فلو تلاقي الذي لاقته مضر
لظلت الشم منها وهي تنصار
أي مقطّع مصدّع وتمهيد.
وأنشد أبو سهيل محمد بن محمد
الأشعث الطالقاني في العزائم :
وغلام رأيته صار كلبا
(...........) ساعتين صار غزالاً
وقال الفرّاء : هو مقلوب من صرت
أصري صريا إذا قطعت فقدمت هاوياً كما يقال
: عوث وعاث
يعني قطعهم ثم قلب فقيل صار.
قال الشاعر :
يقولون إن الشام يقتل أهله
فمن لي إذ لم آته بخلود
تغرب آبائي فهلا صراهم
من الموت إن لم يذهبوا وجدودي
وقال بعضهم : معناه أملهنّ،
وهي لغة هذيل وسليم. وأنشد
الكسائي :
وفرع يصير الجيد وحف كأنّه
على الليت قنوان الكروم الدوالح
أي الجيد يميله من كثرته.
وعن ابن عباس فيه روايتان :
{فَصُرْهُنَّ} مفتوحة الصاد مشددة الراء مكسورة من التصرية وهي الجمع ومنه المصرّاة.
والثاني :
{فَصُرْهُنَّ} بضم الصاد وفتح الراء وتشديدها من الصرّة وهي في معنى الجمع
والشدّ أيضاً. فمن تأوّله على القطع والتفريق،
ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره
: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن. ومَنْ فسّره على الضم ففيه إضمار معناه : فصرهن
إليك،
ثم قطعهنَّ فحذفه فأكتفى بقوله تعالى :
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ
جُزْءًا} لأنّه يدلّ عليه،
وهذا كما يقال : خذ هذا
الثوب واجعل على كلّ رمح عندك منه علماً،
يريد قطعّهُ واجعل على كلّ رمح
علماً.
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى
كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ} ،
لفظه عام ومعناه خاص؛ لأنّ
أربعة من الطير لا يبلغ الجبال كلّها،
ولا كان إبراهيم ج يصل إلى ذلك
فهذا كقوله عزّ وجلّ :
{مِن كُلِّ شَىْءٍ} كقوله
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء} .
{جُزْءًا} قرأ عاصم رواية أبي بكر والمفضّل
{جُزْءًا} مثقلاً مهموزاً
حيث وقع.
وقراء أبو جعفر
{جُزْءًا} مشدّدة الزاء،
وقرأ الباقون مهموزاً مخففّاً،
وهي لغات معناها : النصيب
والبعض.
قال المفسّرون : أمر اللّه
تعالى إبراهيم ج أن يذبح تلك الطيور بريشها ويقطّعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها
ودماءها ولحومها بعضها ببعض. ففعل ذلك إبراهيم ثم أمره أن يجعل أجزاءها على
الجبال.
واختلفوا في عدد الأجزاء
والجبال،
قال ابن عباس وقتادة والربيع
وابن أبي إسحاق : أُمر بأن يجعل كلّ طائر أربعة أجزاء ثم يعمد إلى أربعة أجبل
فيجعل على كلّ جبل ربعاً من كلّ طائر ثم يدعوهن : تعالين بإذن اللّه. هذا مثل ضربه
اللّه عزّ وجلّ لإبراهيم وأراه إياه،
يقول : كما بعثت هذه الأطيار من
هذه الأجبل الأربعة فكذلك أبعث الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
وقال ابن جريج والسدي : جزّأها
سبعة أجزاء فوضعها على سبعة أجبل ففعل ذلك وأمسك رؤسهن عنده،
ثم دعاهن : تعالين بأمر اللّه
سبحانه،
فجعل كل قطرة من دم طير تطير
إلى القطرة الأخرى،
وكل ريشة تطير إلى الريشة
الأُخرى،
وكلّ عظم يصير إلى الآخر،
وكلّ بضعة تذهب إلى الأُخرى،
وإبراهيم ينظر حتى لقيت كلّ جثة
بعضها بعضاً في السماء بغير رأس،
ثم أقبلن إليّ فكلّما جاء طائر
مال برأسه فإنّ كان رأسه دنا منه وإن لم يكن رأسه تأخّر حتّى يلقي كلّ طائر برأسه.
فذلك
قوله :
{ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} هو مصدر،
أي يسعين سعياً،
وقيل : نصب بنزع حرف الصفة،
أي بالسعي،
واختلفوا في معنى السعي،
فقال بعضهم : هو الإسراع والعدو،
وقال بعضهم : مشياً على أرجلهن كقوله سبحانه في سورة
القصص :
{وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ
يَسْعَى} نظيره في سورة الجمعة :
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّه}
أي فامضوا.
والحكمة في المشي دون الطيران
كونه أبلغ في الحجّة وأبعد من الشبهة؛ لأنّها لو طارت لتوهم متوهم أنّها غير تلك
الطير أو أن أرجلها غير سليمة واللّه أعلم.
وقال بعضهم : هو بمعنى الطيران،
وقال النضر بن شميل : سألت
الخليل بن أحمد عن
قوله
{يَأْتِينَكَ
سَعْيًا} هل يقال لطائر إذا طار سعي؟
قال : لا.
قلت : فما معنى
قوله :
{يَأْتِينَكَ سَعْيًا} ؟
قال : معناه : يأتينّك وأنت تسعى سعياً.
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم
بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الأقطع وكان حكيماً يقول : صحّ عن
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) أنّه
قال :
(لكلّ آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ومطلع).
وظاهر
الآية ما ذكره أهل
التفسير،
وبطنها : إن إبراهيم ج أُمر
بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكين
(الأياس) كما ذبح في الظاهر الأربعة الأطيار بسكين الحديد،
فالنسر مثل لطول العمر
(والأجل)،
والطاووس زينة الدنيا وبهجتها،
والغراب الحرص،
والديك الشهوة.
قال اللّه تعالى :
{وَاعْلَمْ
أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
٢٦١
{مَّثَلُ الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}
الآية فيها إضمار
واختصار تقديرها : مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم،
فإن شئت قلت :
{مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} .
{فِي
سَبِيلِ اللّه كَمَثَلِ} زارع حبّة
{أَنبَتَتْ} أخرجت
{سَبْعَ سَنَابِلَ} جمع سنبلة،
أدغمها أبو عمر وأبو
(غزية) وحمزة
والكسائي،
وأظهرها الباقون. فمن أدغم فلأن
التاء والسين مهموزتان،
ألا ترى أنهما متعاقبان. أنشد
أبو عمرو :
يالعن اللّه بني السعلاة
عمرو بن ميمون لئام النات
أراد لئام الناس فحوّل السين
تاء. ومن أبرز فلأنهما كلمتان وهو الأصل واللغة الفاشية.
{فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ
مِّائَةُ حَبَّةٍ} أبو جعفر والأعمش : يتركان خمس
مائة ومائة،
حيث كانت استخفافاً.
وقرأ الباقون بالمد.
فإن قلت : هل رأيت سنبلة فيها
مائة حبة،
أو هل بلغك ذلك؟
قيل : لا ننكر ذلك ولا يستحيل،
فإن يكن موجوداً فهو ذلك وإلاّ
فجائز أن يكون
(معناه كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل) في كلّ سنبلة مائة حبّة أن جعل اللّه سبحانه ذلك فيها،
ويحتمل أن يكون معناه : أنّها
إذا بُذرت أنبتت مائة حبّة،
فيكون ما حدث عن البذر الذي كان
منها من المائة الحبّة مضاهياً لها،
لأنّه كان عنها،
وكذلك ما قاله الضحاك
قال : أنبتت كلّ
سنبلة مائة حبّة.
{وَاللّه يُضَاعِفُ
لِمَن يَشَآءُ} ما بين سبع وسبعين وسبعمائة إلى ما شاء اللّه عزّ وجل ممّا
لا يعلمه إلاّ اللّه.
{وَاللّه وَاسِعٌ} غني لتلك الأضعاف
{عَلِيمٌ} بمن ينفق.
قال الضحاك في هذه
الآية : من أخرج
درهماً
(ابتغاء) مرضاة اللّه فله في الدنيا لكلّ درهم سبعمائة درهم خلفاً عاجلاً،
ولقي ألف درهم يوم القيامة.
٢٦٢
قال الكلبيّ في
قوله
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللّه}
الآية : نزلت في عثمان بن عفّان
(رضي اللّه عنه) وعبد
الرحمن بن عوف،
أمّا عبد الرحمن فإنّه جاء إلى
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بأربعة آلاف درهم صدقة فقال : كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف،
وأربعة آلاف أقرضتها ربّي عزّ
وجل.
فقال له رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(بارك اللّه لك في ما أمسكت وفيما أعطيت). فأمّا عثمان فقال
: عليّ جهاز مَنْ لا جهاز له في غزوة تبوك،
فجهّز المسلمين ألف بعير
بأحلاسها وأقتابها وتصدق برومةركية كانت له على المسلمين فنزلت فيهما هذه
الآية.
قال عبد الرحمن بن سمرة : جاءَ
عثمان
(رضي اللّه عنه) بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال : رأيت
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) يُدخل يده فيها ويقبلها ويقول :
(ماضرّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم).
قال أبو سعيد الخدري : رأيت النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) رافعاً يده يدعو لعثمان
(رضي
اللّه عنه)
(يارب
عثمان بن عفّان رضيت عنه فأرض عنه) وما زال يدعو
رافعاً يديه حتّى طلع الفجر فأنزل اللّه تعالى فيه
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّه}
أي في طاعة اللّه.
{ثُمَّ يُتْبِعُونَ
مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا} وهو أن يمنّ عليه
بعطائه ويعد نعمه عليه يكدّرها يواصل المنّة النعمة.
يقال : مَنْ يمنّ منّة
ومنّاً ومنيّتاً إذا أنعم وأعطى.
قال
اللّه تعالى :
{هذا
عطاءنا فأمنن}
أي إعط ثم كثر ذلك حتّى صار ذكر النعمة والاعتداد بها منّة.
{ولا أذىً لهم أجرهم
عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزون} بإظهار
العطيّة وذكرها لمن لا يجب وقوفه عليها وما أشبه ذلك من القول الذي يُؤديه.
قال سفيان والمفضّل في
قوله :
{مَنًّا وَلا أَذًى} : هو أن يقول أعطيتك فما شكرت.
قال الضحاك : أن لا ينفق الرجل
ماله خير من أن ينفقه ثم يتّبعه مناً وأذىً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
قال : كان أبي
يقول : إذا أعطيت رجلاً شيئاً وظننت أنّ سلامك يثقل عليه،
فكفّ سلامك عنه.
قال ابن زيد : فشيء خير من
السلام؟
قال : وقالت امرأة لأبي : يا أبا أُسامة تدلّني على رجل يخرج في
سبيل اللّه حقّاً فإنّهم لا يخرجون إلاّ ليأكلوا الفواكه،
فعندي جعبة وأسهم فيها فقال : اللّه لا
بارك اللّه لكِ في جعبتك ولا في أسهمك فقد أذيتهم قبل أن تعطيهم.
فحظر اللّه عن عباده المن
بالصنيعة وأختص به صفتاً لنفسه؛ لأن منّ العباد تعيير وتكدير ومَنّ اللّه عزّ وجلّ
إنعام وأفضال وتذكير. وأنشد معاد بن المثنّى العنبري عن أبيه محمود بن الورّاق :
أحَسَنُ مَنْ كلّ حَسَنْ
في كلّ حين وزمن
صنيعةٌ مربوبةٌ
خاليةٌ مِنَ المننْ
قال الثعلبي : أبو علي زاهر بن
أحمد السرَخسي
قال : أنشدنا أبو
ذر القرطبي :
ماتم معروفك عند أمري
كلّفته المعرف إعظامكا
إنّ من البر فلا تكذبن
إكرام من أظهر إكرامكا
والمن للمنعم نقصٌ فلا
تستفسدن بالمنّ إنعامكا
والعزّ في الجود وبخل الفتى
مذلّة أحببت إعلامكا
قال : وأنشدني محمد بن القاسم
قال : أنشدني محمد بن
طاهر
قال : أنشدني أبو
علي البصري :
وصاحب سلفت منه إليّ يد
أبطا عليه مكافاتي فعاداني
لما تيقّن أنّ الدهر حاربني
أبدى الندامة فيما كان أولاني
وقال آخر :
أفسدت بالمن ماقدّمت من حُسن
ليس الكريم إذا أعطى بمنّان
٢٦٣
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ}
أي كلام حسن وردّ على السائل جميل،
وقيل :
(...) حسن.
وقال الكلبي : دعاء صالح يدعو
لأخيه بظهر الغيب. قال الضحاك : قول في إصلاح ذات البين.
{وَمَغْفِرَةٌ}
أي مغفرة منه عليه
لما علم خلّته وفاقته. قاله محمد بن جرير،
وقال الكلبي والضحاك : تجاوز عن
ظلمه،
وقال : يتجاوز عنه إذا
استطال عليه عند ردّه علم اللّه تعالى إنّ الفقير إذا رُدّ بغير نوال شقّ عليه ذلك
مما يدعو إلى بذاء اللسان أو إظهار الشكوى،
وعلم ما يلحق المانع منه،
فحثّه على الصفح والعفو وبيّن
أن ذلك خير له
{مِّن صَدَقَةٍ} يدفعها إليه
{يَتْبَعُهَآ
أَذًى}
أي مَنّ وتعيير السائل بالسؤال أو شكاية منه أو عيب أو قول
يُؤذيه.
{وَاللّه غَنِىٌّ} عن صدقة العباد،
ولو شاء لأغنى جميع الخلق
ولكنّه أعطى الأغنياء لينظر كيف شكرهم
(وأخلى
الفقراء) لينظر كيف صبرهم،
وذلك
قوله عزّ وجلّ :
{وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى
الرِّزْقِ} بالفرض والصدقة والمعروف
( ).
{حَلِيمٌ} إذ لم يعجّل على مَنْ يمنّ ويؤذي بصدقته.
وعن عبد الرحمان السليماني مولى
عمر بن الخطاب
(رضي اللّه عنه)
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ
منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردَ جميل فإنّه قد يأتيكم مَنْ ليس
بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم اللّه عزّ وجلّ).
وعن بشر بن الحرث
قال : رأيت أمير
المؤمنين عليّ بن أبي طالب ج في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين تقول شيئاً لعلّ
اللّه عزّ وجلّ ينفعني به.
فقال : ما أحسن عطف
الأغنياء على الفقراء رغبةً في ثواب اللّه،
وأحسن منه تَيْهِ الفقراء على
الاغنياء ثقةً باللّه عزّ وجلّ.
فقلت : يا أمير المؤمنين زدني،
فولّى وهو يقول :
قد كنت ميّتاً فصرت حيّاً
وعن قليل تصير ميتاً
فاضرب بدار الفناء بيتاً
وابن بدار البقاء بيتاً
٢٦٤
{يا أيُّها الذين
آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}
أي لا تحبطوا أجور
صدقاتكم وثواب نفقاتكم بالمنّ على السائل.
وقال ابن عباس : بالمنّ على
اللّه تعالى والأذى لصاحبها.
ثم ضرب لذلك مثلاً فقال :
{كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ}
أي كإبطال الذي ينفق ماله
{رِئَآءَ النَّاسِ} مراءاة
وسمعة ليروا نفقته ويقولوا أنّه كريم سخي صالح
{وَلا يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن كفره غير مرائي
{فَمَثَلُهُ}
أي مثل هذا المنافق
المرائي
{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} الحجر إلاّ ملس.
قال الشاعر :
مالي أراك كإنّي قد زرعت حصاً
في عام جدب ووجه الأرض صفوان
أما لزرعي آبان فأحصده
كمايكون لوقت الزرع آبان
وهو واحد وجمع،
فمن جعله جمعاً
قال : واحده
صفوانة،
بمنزلة تمرة وتمر ونخلة ونخل.
ومن جعله واحداً
قال : جمعه صفي
وصفى.
قال الشاعر :
مواقع الطير على الصفى
وقال الزعري :
{صَفْوَانٍ} بفتح الفاء،
وجمعه صِفوان مثل كَروان
وكِروان ووَرشانْ ووِرشان.
{عَلَيْهِ}
أي على ذلك الصفوان
{تُرَابٌ
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد العظيم القطر
{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وهو الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه.
قال تابّط شراً :
ولست بحلب جلب ريح وقرّة
ولا بصفا صلد عن الخير معزل
وهو من الأرض مالا ينبت،
ومن الرؤوس مالا شعر عليه.
قال رؤبة :
لمّا رأتني حلق المموّه
براق أصلاد الجبين الأجلة
يعني الأجلح.
وهذا مثل ضربه اللّه تعالى
لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي،
يعني : إن الناس يرون في الظاهر إنّ لهؤلاء أعمالاً كما يرى
التراب على هذا الصفوان،
فإذا كان يوم القيامة أضمحل
كلّه وبطل لأنّه لم يكن للّه عزّ وجلّ كأنّه لم يكن كما أذهب الوابل ما كان على
الصفوان من التراب.
{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أجرد لا شيء عليه
{لا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ} على ثواب شيء
{مِّمَّا كَسَبُوا} عملوا في الدنيا لأنّهم لم يعملوه للّه تعالى وطلب ما عنده وإنّما عملوه
رياء الناس وطلب حمدهم فصار ذلك معظم من أعمالهم.
{وَاللّه لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} نظيره
قوله تعالى في وصف أعمال الكفّار :
{مَّثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} .
وقوله :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب
بِقِيعَةٍ}
الآية.
عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع :
أين الذين يعبدون الناس قوموا وخذوا أُجوركم ممن عملتم له فإنّي لا أقبل عملاً
خالطه شيء من الدنيا).
عبد اللّه المدني
قال : بلغني أنّ
رجلاً دخل على معاوية
قال : مررت بالمدينة فإذا أبو هريرة جالس في المسجد،
حوله حلقة يحدّثهم فقال : حدّثني أبو
القاسم ثم استعبر فبكى فقال : حدّثني خليلي أبو القاسم ثم استعبر فبكى فقال : حدّثني
خليلي أبو القاسم ثم بادره الرجل فقال : إنّي رجل غريب لست من أهل البلد وقد أردت أن تحدّث عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) كل ذلك تخنقك العبرة فأخبرني هذا الذي أردت أن تحدّث به،
قال : سمعت النبي
(صلى
اللّه عليه وسلم) يقول :
(إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل قد كان خوّله
مالاً فيقال كيف صنعت فيما خوّلناك؟
فقال : أنفقت
وأعطيت،
فقال : أردت أن يقال
فلان سخي فقد قيل لك فماذا يُغني عنك. ثم يؤتى برجل شجاع فيقال له : ألم أشجّع
قلبك؟
قال : بلى،
فيقال : كيف صنعت؟
قال : قاتلت حتّى
أحرقت مهجتي،
فيقال له : أردت أن
يقال فلان شجاع وقد قيل فماذا يغني عنك،
ثم يؤتى برجل قد
أُوتي علماً فيقال له : ألم أستحفظك العلم؟
قال : بلى،
فيقال : كيف صنعت،
فيقول : تعلّمت
وعلّمت،
فيقال : أردت أن
يقال فلان عالم وقد قيل فماذا يغني عنك،
ثم قال : أذهبوا بهم
إلى النار).
٢٦٥
{ومثل الذين يُنفقون
أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه} طلب رضا اللّه
{وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} قال الشعبي والكلبي والضحاك :
يعني تصديقاً من أنفسهم
يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم يعلمون أن ما أخرجوا خيراً لهم ممّا تركوا.
السدي وأبو صالح وأبو روق وابن
زيد والمفضّل : على يقين إخلاف اللّه عليهم. قتادة : احتساباً بإيمان من أنفسهم،
عطاء ومجاهد : مثبّتون
أي لا يضيّعون
أموالهم،
وكذلك قرأ مجاهد : وتثبيتاً
لأنفسهم.
قال الحسن : كان الرجل إذا همّ
بصدقة تثبّت إن كان للّه أعطى وإن خالطه شيء أمسك،
وعلى هذا القول يكون التثبيت
بمعنى التثبت كقوله عزّ وجلّ :
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا}
أي تبتّلاً.
سعيد بن جبير وأبو مالك :
تخفيفاً في ذنبهم. ابن كيسان : إخلاصاً وتوطيناً لأنفسهم على طاعة اللّه عزّ وجلّ
في نفقاتهم،
الزجاج : ينفقونها مقرّين بأن
اللّه عزّ وجلّ رقيب عليهم.
وأصل هذه الكلمة من قول السائل
: ثبت فلان في هذا الأمر إذا حققه وثبت عليه وعزمه وقوي عليه بذاته.
فثبت اللّه ما آتاك من حسن
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
{كَمَثَلِ جَنَّة}
أي بستان. قال الفراء : إذا كان في البستان نخل فهو جنّة،
وإذا كان كرم فهو فردوس.
وقول مجاهد : كمثل حبّة بالحاء
والباء
{بِرَبْوَةٍ} قرأ السليمي والعطاردي والحسن وعاصم وابن عامر :
{بِرَبْوَةٍ} بفتح الراء هاهنا وفي سورة المؤمنين وهي لغة بني تميم.
وقال أبو جعفر وشيبة ونافع وابن
كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب بضم الراء فيهما.
واختاره أبو حاتم وأبو عبيد لأنّها أكمل اللغات وأشهرها،
وقول ابن عباس وأبو إسحاق
السبيعي وابن أبي إسحاق : بربوة،
وقرأ أشهب العقيلي : برباوة
بالألف وكسر الراء فيها. وهي جميعاً المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار
ولا يخلو من الماء. وإنّما سمّيت ربوة لأنّها ربت
(وطابت) وعلت،
من
قولهم ربا الشيء يربو
إذا انتفخ وعظم،
وإنّما جعلها بربوة لأن النبات
عليها أحسن وأزكى.
{أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شديد كثير
{فََاتَتْ
أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} قرأ نافع وابن
كثير وأبو عمرو :
{أُكُلَهَا} بالتخفيف والباقون بالتشديد وهو الثمر.
قال المفضّل : الأكل : كثرة
مافي الشيء ممّا يجود ويقوى به،
يقال : ثوب كثير الأكل،
أي كثير الغزل. ومعناه : وأعطت ثمرها ضعفين والضعف في الحمل.
قال عطاء : حملت في سنة من
الريع ما تحمل غيرها في سنتين. قال عكرمة : حملت في السنة مرّتين.
{فَإِن لَّمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
أي فطشّ وهو أضعف
المطر وألينه.
قال السدي : هو الندى.
أبو سلام عبد الملك بن سلام عن
زيد بن أسلم في
قوله
{فَإِن
لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
قال : هي أرض مصر
إن لم يصبها مطر زكت وإن أصابها مطر ضعفت،
وهذا مثل ضربه اللّه عزّ وجلّ
لعمل المؤمن المخلص،
يقول : كما أن هذه الجنّة تريع
في كلّ حال ولا تخلف ولا تُخيّب صاحبها سواء قلّ المطر أو كثر،
كذلك يُضاعف اللّه عزّ وجلّ
ثواب صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمنّ ولا يُوذي سواء قلّت نفقته وصدقته أو كثرت
فلا تخيب بحال.
{لَن تَنفَعَكُمْ
أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ
وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هذه
الآية متصلة بقوله تعالى :
{يا أيُّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى}.
الآية
{أَيَوَدُّ
أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} .
{تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وإنّما
قال :
{أَصَابَهُ} فردّ الماضي على المستقبل؛ لأن العرب تلفظ توددت مرّة مع
(لو) وهي الماضي
فتقول : وددت لو ذهبتَ عنّا،
ومرّة مع
(أن) وهي
للمستقبل فتقول : وددت أن تذهب عنّا،
و
(لو) و
(أن) مضارعان في
معنى الجزاء،
ألا ترى أنّ العرب فيما جمعت
بين
(لو) و
(أن)
قال اللّه تعالى :
{وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ
بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} .
الآية كما تجمع
بين
(ما) و
(أن) وهما جحد.
قال الشاعر
ما أنْ رأيت ولا سمعت بمثله
كاليوم طالي أينق جرب
فلما جاز ذلك صلح أن يقال : فعل بتاويل
يفعل ويفعل بتأويل فعل،
وان ينطق ب
(لو) عنها ما
كان
(أن) وب
(أن) مكان
(لو).
٢٦٦
فمعنى
الآية :
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لو كان له جنّة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كلّ
الثمرات
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} أولاد صغار
{ضُعَفَآءُ} عجزة
{فَأَصَابَهَآ
إِعْصَارٌ} وهي الريح العاصف التي تهب من الأرض إلى السماء كأنّها عمود.
قال الكميت :
(تسدي الرياح بها
ذيلا وتلحمهُ
ذا معتو من دقيق
الترب موّار
في منخل جاء من هيف
يمانيه
بالسافيات وفي غربال
إعصار)
وجمعه أعاصير.
قال يزيد بن المقرّع الحميري.
أناس أجارونا وكان جوارهم
أعاصير من فسو العراق المبذر
وهذا مثل ضربه اللّه تعالى
لنفقة المنافق المرائي،
يقول : عمل هذا المرائي لي حسنة
لحين الجنّة فينتفع بها كما ينتفع صاحب الجنّة بها وإذا كبر وضعف وصار له أولاد
صغار أصاب جنته إعصار
{فِيهِ
نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أخرج ما كان إليها وضعف عن
إصلاحها لِكِبَره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود على أولاده
به،
ولا أولاده ما يعودون به على
أبيهم فينتفي هو وأولاده فقراً عجزه متحيّرين لا يقدرون على حيلة،
فكذلك يبطل اللّه على هذا
المنافق والمرائي حين لا مستعتب له ولا توبة ولا إقالة من عبرتهما وديونهما.
قال عبيد بن عمير :
(ضربت مثلاً للعمل يبدأ فيعمل عملاً صالحاً فيكون
مثلاً للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات،
ثم يسىء في آخر
عمره)،
فيتمادى في الإساءة حتّى يموت
على ذلك،
فيكون الأعصار الذي فيه نار
التي أحرقت الجنة مثلاً لإساءته التي مات
(وهو) عليها.
٢٦٧
{كذلك يُبيّن اللّه
لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون يا أيُّها الذين آمنوا انفقوا} تصدّقوا
{مِن
طَيِّبَاتِ} خيار وجياد نظير
قوله :
{لَن
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} . ابن مسعود ومجاهد : حلالات،
دليله
قوله :
{يا أيُّها الرُسُل كلوا من الطيّبات} .
{يا أيُّها الذين
آمنوا كلّوا من طيّبات ما رزقناكم}.
قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم وإن
اللّه طيّب لا يقبل إلاّ طيباً،
لا يكسب عبد مالاً
من حرام فيتصدّق منه،
فيقبل منه ولا ينفق
منه،
فيبارك له فيه ولا
يتركه خلف ظهره إلاّ كان زاده إلى النار،
وأن لا يمحو السيء
بالسيء ولكنّه يمحو السيء بالحسن والخبيث لا يمحو به الخبيث).
{مَّا كَسَبْتُمْ} بالتجارة والصناعة من الذهب والفضّة.
قال عبيد بن رفاعة : خرج علينا
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
(يا معشر التجّار أنتم فجّار إلا من أتقى وبرّ
وصَدّق وقال هكذا وهكذا وهكذا).
وقال قيس بن عروة الغفاري :
كنّا على عهد رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) بالمدينة نُسمّي أنفسنا
السماسرة فسمّانا رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) باسم هو أحسن من إسمنا فقال :
(يا معشر التجّار،
إنّ هذا البيع يحضره
اللّهو والكذب واليمين فشوبوه بالصدقة).
مكحول عن أبي إمامة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الخير عشرة أجزاء أفضلها التجارة؛ إذا أخذ الحق
وأعطاه) وقال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء).
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يا معشر قريش لا يغلبنّكم هذه الموالي على
التجارة وإنّ البركة في التجارة وصاحبها لا يفتقر إلاّ تاجر خلاّف مهين).
عاصم ابن أبي النجود عن أبي
وائل
قال : درهم من
تجارة أحب إليّ من عشرة من عطائي. الأعمش عن أبي إبراهيم عن عائشة قالت : قال
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه).
وقال سعيد بن عمير : سُئِل
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
أي كسب الرجل أطيب؟
قال :
(عمل
الرجل بيده وكلّ بيع مبرور).
محمد بن الراضبي
قال : مرّ
إبراهيم النخعي على امرأة من مزاد وهي تغزل على بابها فقال : يا أم بكر أما
كبرتِ أما آن لك أن تلقي هذا،
قالت : كيف ألقيه وقد سمعت
عليّاً
(رضي اللّه عنه) يقول : إنّه من طيّبات الرزق.
{وَمِمَّآ
أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}
يعني الحبوب
والثمار التي تقتات وتدخر مما يجب فيه الزكاة. عمر بن دينار
قال : سمعت جابر
بن عبد اللّه يقول : دخل رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) على أم معبد حائطاً،
فقال :
(يا أم معبد من غرس هذا، أمسلم أم كافر؟)
قالت : بل مسلم،
قال :
(فلا
يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلاّ كانت له صدقة إلى يوم
القيام).
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
: إنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(قال التمسوا الرزق في خبايا الأرض).
قال مالك بن دينار : قرأت في
التوراة : طوبى لمن أكل من ثمرة يديه.
{وَلا تَيَمَّمُوا} قرأ ابن مسعود : ولا تامموا بالهمز. وقرأ ابن عباس : ولا
تيمموا مضمومة التاء مكسورة الميم الأولى
يعني لا توجّهوا.
وقرأ ابن كثير :
(ولا تيمموا) بتشديد الياء وفتحها فيها وفي أخواتها وهي أحدى وثلاثون موضعاً في القرآن
رد الساقط وأدغم لأن في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الأمر فحذفت تاء الفعل.
وقرأ الباقون : ولا تيمموا
مفتوحة مخففة.
وهي كلّها لغات بمعنى واحد،
يقال : أممت فلاناً
وتيممته وتأممته،
إذا قصدته وعمدته.
قال الأعشى ميمون بن قيس :
تيممت قيساً وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شزن
السدي عن علي بن ثابت عن الفراء
قال : نزلت هذه
الآية في الأنصار
كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل
بين اسطوانتين في مسجد رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فيأكل منه فقراء المهاجرين،
وكان الرجل يعمد فيخرج قنو
الحشف وهو يظن أنّه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن فعل ذلك.
{وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}
يعني القنو الذي
فيه الحشف ولو كان أهدى لكم ما قبلتموه.
عن باذان عن ابن عباس في هذه
الآية
قال : رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) قال لهم :
(إنّ للّه في
أموالكم حقّاً فإذا بلغ حق اللّه في أموالكم فاعطوا منه) وكان الناس يأتون أهل الصدقة بصدقاتهم ويضعونها في المسجد فإذا اجتمعت
قسّمها رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) بينهم.
قال : فجاء رجل ذات يوم بعد مارَقّ أهل المسجد وتفرّق هامهم بعذق
حشف فوضعه في الصدقة،
فلما خرج رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أبصره فقال :
(مَنْ
جاء بهذا العذق الحشف)
قالوا : لا ندري
يارسول اللّه.
قال :
(بئسما
صنع صاحب هذا الحشف) فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وقال عليّ بن أبي طالب والحسن
ومجاهد والضحاك : كانوا يتصدّقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فيعزلون الجيّد
ناحية لأنفسهم،
فأنزل اللّه تعالى
{وَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}
يعني الردي من أموالكم،
والخشف من التمر،
والعفن والزوان من الحبوب،
والزيوف من الدراهم والدنانير.
{وَلَسْتُم
بَِاخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} محل أن نصب بنزع حرف الصفة،
يعني : بأن تغمضوا فيه.
وقرأ الزهري :
{تُغْمِضُوا} بفتح التاء وضم الميم. وقرأ الحسن بتفح التاء وكسر الميم،
وهما لغتان غمض يغمِض ويَغمَض.
وقرأ قتادة تغمضّوا فيه من التفعيل وقرأ أبو مجلن : تغمّضوا بفتح الميم وضم التاء
يعني إلاّ أن
تغمض لكم. وقرأ الباقون : تغمّضوا.
والاغماض : غض البصر وإطباق جفن
على جفن. قال روبة :
أرَق عينيّ عن الإغماض
برق سرى في عارض نهّاضِ
وأراد هاهنا التجويز والترخص
والمساهلة،
وذلك إن الرجل إذا رأى ما يكره
أغمض عينه لئلاّ يرى جميع ما يفعل،
ثم كثر ذلك حتّى جعل كلّ تجاوز
ومساهلة في البيع إغماضاً.
قال الطرمّاح :
لم يفتنا بالوتر قوم وللضي
م رجال يرضون بالإغماض
قال علي والبراء بن عازب :
معناه : لو كان لأحدكم على رجل حقّ فجاءه بهذا،
لم يأخذه إلاّ وهو يرى أنّة قد
أغمض عن بعض حقّه. وهي رواية العوفي عن ابن عباس.
وروى الوالبي عنه : ولستم بآخذي
هذا الردي لو كان لأحدكم على الآخر حقّ بحساب الجيّد حتّى تنقصوه.
الحسن وقتادة : لو وجدتموه
بياعاً في السوق ما أخذتموه بسعر الجيّد حتّى يغمّض لكم من ثمنه.
وروي عن الفراء أيضاً
قال : لو أهدي
ذلك لكم ما أخذتموه إلاّ على استحياء من صاحبه وغيظ أنّه بعث إليك بما لم يكن فيه
حاجة،
فكيف ترضون لي مالا ترضون
لأنفسكم؟
أخبر اللّه تعالى أن أهل
السهمان شركاء ربّ المال في ماله فإذا كان ماله كلّه جيّداً فهم شركائه في الجيّد
فأمّا إذا كان المال كلّه ردئاً فلا بأس باعطاء الردي لأن الواجب فيه ذلك إلاّ أن
تتطوع.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللّه غَنِيٌّ} عن نفقاتكم وصدقاتكم
{حَمِيدٌ} محمود في أفعاله.
وعن معبد بن منقذ ان أبا شريح
الكعبي صاحب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال : إذا رأيتموني
أتصدّق شرّ ما عندي فاكووني واعلموا إنّي مجنون.
٢٦٨
{الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}
أي بالفقر فحذف الباء
كقول الشاعر :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فقد تركتك ذا مال وذا نسب
ويقال : وعدته خيراً
ووعدته شرّاً،
قال اللّه تعالى في الخير :
{وَعَدَكُمُ
اللّه مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا}
وفي الشر :
{النَّارُ وَعَدَهَا اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا} فإذا لم يذكر الخير والشرّ قلت في الخير : وعدته،
وفي الشر : أوعدته وأنشد أبو
عمرو :
وإنّي وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف أيعادي ومنجز موعدي
والفقر : سوء الحال وقلّة اليد،
وفيه لغتان : الفَقر والفُقر
كالضَعف والضُعْف.
وأصله من كسر الفقار،
يقال : رجل فقّار وفقير،
أي مكسور فقار الظهر.
قال الشاعر :
وإذا تلسنني ألسنتها
إنني لست بموهون فقر
ومعنى
الآية : إنّ الشيطان
يخوّفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك مالك فإن تصدّقت افتقرت.
{وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ}
أي البخل ومنع الزكاة.
وزعم مقاتل
(بن حيان) أنّ كلّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاّ في هذه
الآية.
{وَاللّه يَعِدُكُم}
أي يجازيكم،
وعد اللّه إلهام وتنزيل،
ووعد الشيطان وساوس وتخيّل.
{مَّغْفِرَةً
مِّنْهُ} لذنوبكم
{وَفَضْ}
أي رزقاً وخلفاً
{وَاللّه
وَاسِعٌ} غني
{عَلِيمٌ} يقال : مكتوب في التوراة : عبدي أنفق من رزقي،
أبسط عليك من فضلي.
٢٦٩
{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ
مَن يَشَآءُ} قال السدي : هي النبوّة. ابن عباس وقتادة وأبو العالية : علم
القرآن : ناسخه ومنسوخه،
ومحكمه ومتشابهه،
ومقدّمه ومؤخّره،
وحلاله وحرامه.
الضحاك : القرآن والحكم فيه. وقال : في القرآن
مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة،
وألف
(آية) حلال وحرام،
ولا يسع المؤمنين تركهن حتّى
يتعلّموهن فيعلموهن،
ولا تكونوا كأهل النهروان
تأوّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنّما نزلت في أهل الكتاب،
جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء
وشهدوا عليناً بالضلال وانتهبوا الأموال.
فعليكم بعلم القرآن فإنّه مَنْ
علم فيما أنزل لم يختلف في شيء منه نفع وأنتفع به. مجاهد : أما أنّها ليست
بالنبوّة ولكنّها القرآن والعلم والفقه.
وروى ابن أبي نجيح : الإصابة في
القول والفعل. ابن زيد : العقل. ابن المقفّع : كلّ قول أو فعل شهد العقل بصحّته.
إبراهيم : الفهم. عطاء : المعرفة باللّه عزّ وجلّ. ربيع : خشية اللّه. سهل بن عبد
اللّه التستري : الحكمة : السنة.
وقال بعض أهل الاشارة : العلم
الرباني.
وقيل : إشارة
بلا علّة،
وقيل : إشهاد الحق تعالى على جميع الأحوال.
أبو عثمان : هو النور المفرّق
بين الإلهام والوسواس.
وقيل : تجريد السرّ لورود الإلهام. القاسم : أن يحكم عليك خاطر
الحق ولا تحكم عليك شهوتك.
بندار بن الحسين وقد سئل عن
قوله تعالى
{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ} . فقال : سرعة الجواب مع إصابة الصواب. وقال أهل اللغة : كلّ فضل جرّك
من قول أو فعل وهي أحكام الشيء المفضّل.
(........) الحكمة الرد إلى
الصواب،
وحكمة الدابة من ذلك لأنّها
تردّها إلى القصد.
منصور بن عبد اللّه
قال : سمعت
الكتابي يقول : إنّ اللّه بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه،
فأنزل الكتب لتنبيه قلوبهم
وأنزل الحكمة لسكون أرواحهم،
والرسول داع إلى اللّه،
والكتاب داع إلى أحكامه،
والحكمة مشيرة إلى فضله.
{وَمَن يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ} قرأ الربيع بن خيثم : تولي الحكمة ومَنْ تؤت الحكمة بالتاء
فيها.
وقرأ يعقوب
{وَمَن يُؤْتَ} بكسر التاء أراد مَنْ يؤته اللّه. وقرأ الباقون
{وَمَن يُؤْتَ} بفتح التاء
على الفعل المجهول.
و{مِّنْ} في محل الرفع على
اسم مالم يسمَ فاعله،
والحكمة خبرها. الحسن بن دينار
عن الحسن في
قوله :
{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} هو الورع في دين اللّه عزّ وجلّ.
{فَقَدْ أُوتِىَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ} يتعظ
{إِلَّا أُوْلُوا الْبَابِ} ذوي العقول،
واللب من العقل ما صفا من دواعي
الهوى.
٢٧٠
{وَمَآ أَنفَقْتُم
مِّن نَّفَقَةٍ} فيما فرض اللّه عليكم
{أونذرتم مَنْ نذر} أوما أوجبتموه أنتم على أنفسكم فوفّيتم به.
والنذر نذران : نذرٌ في الطاعة،
ونذر في المعصية. فإذا كان للّه
فالوفاء به واجب وفي تركه الكفّارة،
وما كان للشيطان فلا وفاء ولا
كفارة.
{فَإِنَّ اللّه
يَعْلَمُهُ} ويحفظه حتّى يجازيكم به. وإنّما قال
{يَعْلَمْهُ} ولم يقل يعلمها؛ لأنّه ردّه إلى الآخر منها كقوله
{وَمَن يَكْسِبْ خطيئة أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ
بِهِ بريئا} . قاله الأخفش،
وإن شئت حملته على ما،
كقوله تعالى :
{ما أنزل
عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} ولم يقل بها.
{وَمَا
لِلظَّالِمِينَ} الواضعين النفقة والنذر في غير
موضعها بالرياء والمعصية
{مِنْ
أَنصَارٍ} أعوان يدفعون عذاب اللّه عزّ وجلّ عنهم،
والأنصار : جمع نصير،
مثل شريف وأشراف وحبيب وأحباب.
٢٧١
{إِن تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ} وذلك أنهم
قالوا : يارسول
اللّه صدقة السر أفضل أم صدقة العلانيّة؟
فأنزل اللّه تعالى :
{إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ}
أي تظهروها وتعلنوها
{فَنِعِمَّا
هِىَ}
أي نعمت الخصلة هي. و{مَّآ} في محل الرفع و{هِىَ} لفظ في محل النصب كما تقول : نِعم الرجل رجلاً،
فإذا عرفت رفعت فقلت : نعم
الرجل زيد.
فأصله نعم ما فوصلت وادغمت،
وكان الحسن يقرأها فنعم ما
مفصولة على الأصل،
وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع غير
ورش وعاصم برواية أبي بكر. وأبو عمرو وأبو بحرية : فنِعمّا بكسر النون وجزم العين
ومثله في سورة النساء،
واختاره أبو عبيدة ذكر أنّها
لغة النبي
(صلى اللّه عليه وسلم) قال لعمر بن العاص :
(نعمّا
بالمال الصالح للرجل الصالح) هكذا روي في
الحديث.
وقرأ ابن عامر ويحيى بن ثابت
والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون والعين فيهما.
وقرأ طلحة وابن كثير ويعقوب
وأيوب بكسر النون والعين واختاره أبو حاتم،
وهي لغات صحيحة،
ونعَم ونِعم لغتان جيدتان،
ومن كسر النون والعين اتبع
الكسرة الكسرة لئلا يلتقي ساكنان : سكون العين وسكون الادغام.
{وَإِن تُخْفُوهَا} تسرّوها
{وَتُؤْتُوهَا} تعطوها
{الْفُقَرَآءَ} في السر
{فَهُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ} وأفضل،
وكلٌّ مقبول إذا كانت النيّة
صادقة ولكن صدقة السر أفضل.
وفي الحديث :
(صدقة السر تطفي غضب الرب وتطفي الخطيئة كما يطفيء
الماء النار،
وتدفع سبعين باباً
من البلاء). حفص بن عاصم عن أبي هريرة
قال : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه
: الإمام العدل،
وشاب نشأ في عبادة
اللّه عزّ وجلّ،
ورجل قلبه معلّق
بالمساجد،
ورجلان تحابا في
اللّه فاجتمعا عليه وتفرّقا عليه،
ورجل دعته امرأة ذات
منصب وجمال إلى نفسها فقال : إنّي أخاف اللّه تعالى،
ورجل تصدّق بصدقة
فأخفاها حتّى لم تعلم يمينه ما ينفق شماله،
ورجل ذكر اللّه
خالياً ففاضت عيناه).
{وَيُكَفِّرُ عَنكُم} شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ ويكفّر بالياء والرفع على
معنى يكفّر اللّه. وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ويعقوب : بالنون ورفع الراء على
الاستئناف،
أي نحن نكفّر على التعظيم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والأعمش
وحمزة والكسائي وأيوب وأبو حاتم : بالنون والجزم معاً على الفاء التي في
قوله
{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن موضعها جزم الجزاء.
{مِّن سَيَِّاتِكُمْ} أدخل
{مِّنْ} للتبعيض،
وعلّته : المشيئة ليكون العباد
فيها على وجل ولا يتّكوا. وقال نحاة البصرة : معناه : الاسقاط،
تقديره : ونكفّر عنكم سيئاتكم.
{وَاللّه بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال أهل هذه المعاني : هذه
الآية في صدقة
التطوّع لإجماع العلماء ان الزكاة المفروضة أعلانها أفضل كالصلاة المكتوبة.
فالجماعة أفضل من أفرادها وكذلك سائر الفرائض لمعنيين : أحدهما ليقتدي به الناس.
والثاني إزالة التهمة لئلاّ يسيء الناس به الظن ولا رياء في الغرض،
فأمّا النوافل والفضائل
فإخفاؤها أفضل لبعدها من الرياء والآفات،
يدل عليه ما روى عمّار الذهبي
عن أبي جعفر أنّه قال في
قوله
{إِن
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِىَ}
قال :
يعني الزكاة
المفروضة،
{وَإِن تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}
يعني التطوّع.
وعن معد بن سويد الكلبي يرفعه :
إنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) سُئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء بها فقال :
(هي بمنزلة الصدقة
{نعما هي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} ). كثير بن مرّة عن
عقبة بن عامر عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(المسرّ بالقرآن كالمسر بالصدقة والجاهر بالقرآن
كالجاهر بالصدقة).
وروى علي بن طلحة عن ابن عباس
في هذه
قال : جعل اللّه
عزّ وجلّ صدقة التطوّع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً،
وصدقة الفريضة تفضل علانيتها
بخمسة وعشرين ضعفاً،
وكذلك جميع الفرائض والنوافل.
٢٧٢
{ليس عليك هداهم}
قال الكلبي : اعتمر رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر،
فجاءتها أُمّها قتيلة وجدّتها
تسألانها وهما مشركتان،
فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتّى
أستأمر رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) فإنّكما لستما على ديني،
فاستأمرته في ذلك فأنزل اللّه
تعالى هذه
الآية،
فأمرها رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بعد نزول هذه
الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما.
قال الكلبي : ولها وجه آخر وذلك
إنّ ناساً من المسلمين كانت لهم رضاع في اليهود وكانوا يُنفقونهم قبل أن يسلموا
فلما أسلموا كرهوا أن يُنفقونهم وأرادوهم أن يُسلموا،
فأستأمروا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت هذه
الآية فأعطوهم بعد نزولها.
وقال سعيد بن جبير : كانوا
يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة،
فلما كثر فقراء المسلمين قال
رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(لا تتصدّقوا إلاّ على أهل دينكم). فأنزل اللّه :
{لَّيْسَ
عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في
الإسلام حاجة منهم إليها.
{وَلَاكِنَّ اللّه
يَهْدِى مَن يَشَآءُ} وأراد بالهدى : التوفيق
والتعريف؛ لأنّه كان على رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) هدى البيان والدعوة.
وعن عمر بن عبد العزيز
قال : بلغني أن
عمر بن الخطاب رأى رجلاً من أهل الذمّة يسأل على أبواب المسلمين فقال : ما أنصفناك
يأخذوا منك الجزية ما دمت شاباً ثم ضيّعناك اليوم،
فأمر أن تجرى علية قوته من بيت
المال.
{وَمَا تُنفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ فَنفُسِكُمْ} شرط وجزاء،
والخير هاهنا المال
{وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} شرط كالأوّل لذلك حذف النون منها
(في الموضعين).
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه،
كأن معناه : يؤدّى إليكم،
فكذلك أدخل إلى
{وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تُظلمون من ثواب أعمالكم شيئاً.
وأعلم إنّ هذه
الآية في صدقة
التطوّع،
أباح اللّه أن يتصدّق المسلم
على المسلم والذمّي،
فأمّا صدقة الفرض فلا يجوز إلاّ
للمسلمين،
وهما أهل السهمين الذين ذكرهم
اللّه تعالى في سورة التوبة،
ثم دلّهم على خير الصدقات وأفضل
النفقات،
فقال اللّه تعالى :
٢٧٣
{لِلْفُقَرَآءِ} واختلف العلماء في موضع هذا اللام،
فقال بعضهم : هو مردود على موضع اللام من
قوله
{فَنفُسِكُمْ} كأنّه
قال : وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنّما تُنفقون لأنفسكم ثوابها
راجع إليكم،
فلمّا اعترض الكلام
قوله
{نفُسِكُم} وأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيها،
تركت أعادتها في
قوله للفقراء إذ
كان معنى الكلام مفهوما.
وقال بعضهم : خبر محذوف تقديره : للفقراء
{الَّذِينَ} صفتهم كذا،
حق واجب،
وهم فقراء المهاجرين وكانوا
نحواً من أربعمائة رجل ليس لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر جعلوا أنفسهم في المسجد
يتعلّمون القرآن بالليل ويرضخون بالنهار
(...) وكانوا يخرجون في كل سريه يبعثها رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(فخرج) يوماً على
أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم فثبَّت قلوبهم فقال :
(أبشروا يا أصحاب الصفّة،
فمن بقي من أمّتي
على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنّهم من رفقائي).
وروي إنّ عمر بن الخطاب ح أرسل
إلى سعيد بن عامر بألف درهم فجاء كئيباً حزيناً فقالت له امرأته : حدث أمر،
قال : أشدّ من ذلك،
ثم
قال : أريني درعَكِ
الخلق فشقّه وجعله صُرراً ثم قام يصلّي ويبكي إلى الغداة،
فلما أصبح قام بالطريق فجعل
(ينفق كل) صرّة حتى أتى على آخرها،
ثم
قال : سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(يجيء فقراء
المهاجرين يوم القيامة للحساب فيقولون هل أعطيتمونا شيئاً فتحاسبوننا عليه فيدخلون
الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام،
حتّى إنّ الرجل من
الأغنياء ليدخل في غمارهم فيؤخذ فيستخرج،
فأراد عمر أن يجعلني
ذلك الرجل وما يسرّني إنّي كنت ذلك الرجل وإن لي الدنيا وما فيها).
{أُحْصِرُوا فِى
سَبِيلِ اللّه}
أي حبسوا ومنعوا في طاعة اللّه
{يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا} سيراً
{فِي الأرض} وتصرّفا فيها للتجارة وطلب المعيشة،
نظيره
قوله تعالى :
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ} .
قال الشاعر :
قليل المال يصلحه فيبقى
ولا يبقى الكثير مع الفساد
وحفظ المال أيسر من بغاه
(وضرب) في البلاد بغير زاد
قال قتادة : معناه : حبسوا
أنفسهم في سبيل اللّه عزّ وجلّ للغزو والعبادة فلا يستطيعون ضرباً في الأرض ولا
يتفرّغون إلى طلب المعاش. وقال ابن زيد : من كثرة ماجاهدوا لا يستطيعون ضرباً في
الأرض،
فصارت الأرض كلّها حرباً عليهم
لا يتوجّهون جهة إلاّ ولهم فيها عدو.
وقال سعيد : هؤلاء قوم أصابتهم
جراحات مع رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فصاروا زمنى فأحصرهم المرض
والزمانة عن الضرب في الأرض،
واختاره الكسائي،
قال : أحصروا من المرض،
فلو أراد الحبس لقال : حصروا،
وإنّما الإحصار من الخوف أو
المرض،
والحصر الحبس في غيرهما.
{يَحْسَبُهُمُ} قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش وحمزة وعاصم يحسب وبابه
بفتح السين في جميع القرآن.
والباقون بالكسر. واختاره أبو
عبيد وأبو حاتم
وقيل إنّها لغة النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
عن عاصم بن لقبط بن صبرة عن
أبيه وافد بني المشفق
قال : قدمت على رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) أنا وصاحب لي فذكر حديثاً فقال
(صلى اللّه عليه وسلم) للراعي :
(أذبح لنا شاة)،
ثم
قال :
(لا تحسبن أنا أنّما ذبحناها من أجلكم ولم يقل
يحسبن أنا إنما ذبحناها لك ،
ولكن لنا مائة من
الغنم فإذا زادت شاة ذبحنا شاة لا نريد أن تزيد على المائة).
{الْجَاهِلُ} بأمرهم وحالهم
{أَغْنِيَآءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ} من تعففهم عن السؤال،
والتعفف :
(التفعل) من العفّة وهو الترك،
يقال : عفّ عن الشيء إذا
كفّ عنه،
وعفيف إذا تكلّف في الإمساك.
قال رؤبة :
فعفّ عن إسرارها بعد الغسق
وقال محمد بن الفضل : يمنعهم
علوّ همّتهم رفع جوابهم إلى مولاهم.
{تَعْرِفُهُم
بِسِيمَاهُمْ} قرأ حمزة والكسائي بالإمالة. الباقون بالتفخيم،
والسيما والسيميا : العلاّمة
التي يعرف بها الشيء،
وأصلها من السِّمة،
واختلفوا في السيميا التي
يعرفون بها.
فقال مجاهد : هو التخشّع
والتواضع. الربيع والسدي : أثر الجهد من الحاجة والفقر. الضحاك : صفرة ألوانهم من
الجوع والضر،
ابن زيد : رثاثة ثيابهم فالجوع
خفي على الناس،
يمان : النحول والسكينة. الثوري
: فرحهم بفقرهم واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم،
(المرتضى) : غيرتهم على فقرهم وملازمتهم إياه. أبو عثمان : إيثار ما
يملكون مع الحاجّة إليه.
قال بعضهم : تطيب قلوبهم وبشاشة وجوههم وحسن حالهم ونور اسرارهم وجولان
أرواحهم في ملكوت ربّهم.
{يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِى} قال عطاء :
يعني إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء،
فإذا كان عنده عشاء لم يسأل
غداء. وقال أهل المعاني : لا يسألون الناس إلحافاً ولا غير إلحاف لأنّه قال من
التعفف،
والتعفف ترك السؤال أصلاً وقال
أيضاً :
{تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} ولو كانت المسألة من شأنهم لما كان
(للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى معرفتهم بالعلامة والدلالة حاجة،
إذ السؤال يغني عن حالهم وهذا
كما قلت في الكلام : قال ما رأيت مثل هذا الرجل،
ولعلّك لم ترَ مثله قليلاً ولا
كثيراً،
قال اللّه عزّ وجلّ
{فَقَلِي
مَّا يُؤْمِنُونَ} وهم كانوا لا يؤمنون قليلاً
ولا كثيراً.
وأنشد الزجاج :
على لا حب لا يهتدى لمنارة
إذا ساقه العود النباطي جرجرا
معناه : ليس له منار فيهتدي له.
كذلك معنى
الآية : ليس لهم
سؤال فيقع فيه،
الحاف،
والإلحاف : الإلحاح واللجاج في
السؤال،
وهو مأخوذ من لحف الحبل وهو
خشونته،
كأنّه استعمل الخشونة في الطلب.
روى هشام عن ابن سيرين عن أبي
هريرة
قال : سمعت رسول
اللّ (صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(مَنْ سأل وله
أربعون درهما فقد ألحف).
قال هشام : قال الحسن : صاحب
الخمسين درهما
(غني) عطاء بن
يسار عن أبي هريرة أن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة
والتمرتان،
إنّما المسكين
المتعفّف). اقرأوا إن شئتم
{يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِى} .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه عزّ وجلّ يحب أن يرى أثر النعمة على
عبده،
ويكره البؤس
والتبأوس،
ويحب الحليم
المتعفّف من عباده ويبغض الفاحش البذي السائل اللحف).
وعن قبيصة بن مخارق
قال : أتيت
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) استعنته في حمالة فقال :
(أقم
عندنا حتى تأتينا الصدقة فإما أن نحملها وإما أن نعينك فيها،
وأعلم إنّ المسألة
لا تحل إلاّ لثلاثة : لرجل يحمل حمالة عن قوم فسأل فيها حتّى يؤديها ثم يمسك،
ورجل أصابته حاجة
فأذهبت ماله فسأل حتّى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ثم يُمسك،
ورجل أصابته فاقة
حتى شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فسأل حتّى يصيب سداداً أو قواماً من عيش ثم
يمسك،
فما سوى ذلك من
المسائل سحت يأكله صاحبه يا قبيصة سحتاً).
وروى قتادة عن هلال بن حصن عن
أبي سعيد الخدري
قال : أعوزنا مرّة فقيل لي : لو أتيت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فسألته،
فأنطلقت إليه معتفياً،
فقال أوّل ما واجهني به :
(من استعفف عفّه اللّه ومَنْ استغنى أغناه اللّه
ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئاً نجده).
قال : فرجعت إلى نفسي فقلت : ألا استعفف فعفّني اللّه،
فرجعت فما سألت نبي اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) شيئاً بعد ذلك من حاجة حتّى مالت علينا الدنيا فغرقتنا إلاّ مَنْ عصمه
اللّه محمد
(صلى اللّه عليه وسلم) إنّ اللّه عزّ وجلّ كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ونهى
عن عقوق الأمّهات ووأد البنات وعن منع وهات.
وقال
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الأيدي ثلاثة : فيد اللّه العليا،
ويد المعطي الوسطى
ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة. ومَنْ سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم
القيامة كدوحاً أو خموشاً أو خدوشاً في وجهه). قيل : وما غناه يا رسول اللّه؟
قال :
(خمسون
درهما أو عدّها من الذهب).
{وَمَا تُنفِقُوا
مِنْ خَيْرٍ} قال
{فَإِنَّ
اللّه بِهِ عَلِيمٌ} وعليه يجازيه.
٢٧٤
{الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً }
الآية. مجاهد عن ابن عباس
قال : كان عند عليّ بن
أبي طالب كرّم اللّه وجهه أربعة دراهم لا يملك غيرها،
فتصدق بدرهم سرّاً،
ودرهم علانيّة،
ودرهم ليلاً ودرهم نهاراً،
فنزلت
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
الآية.
وعن يزيد بن روان
قال : ما نزل في
أحد من القرآن ما نزل في علي بن أبي طالب ح. أبو صالح عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يسبق الدرهم مائة ألف)
قالوا : يارسول
اللّه وكيف يسبق الدرهم مائة ألف؟
قال :
(رجل له
درهمان فأخذ أحدهما وتصدّق به،
ورجل (...) فأخرج من غرضها
مائة ألف فتصدّق بها).
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن
عباس،
قال : لما أنزل اللّه عزّ وجلّ
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللّه}
الآية،
بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير
كثيرة إلى أصحاب الصفة حتى أغناهم،
وبعث عليّ بن أبي طالب ح في جوف
الليل بوسق من تمر والوسق ستون صاعاً وكان أحب الصدقتين إلى اللّه عزّوجل صدقة
عليّ ح فأنزل اللّه فيهما
{الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ}
الآية،
فعنى بالنهار علانية صدقة عبد
الرحمن بن عوف وبالليل سرّاً صدقة عليّ ح.
وقال أبو امامة وأبو الدرداء
ومكحول والأوزاعي ورباح بن يزيد : هم الذين يمتطون الخيل في سبيل اللّه يُنفقون
عليها بالليل والنهار سرّاً وعلانية،
نزلت فيمن لم يرتبط الخيل تخيلا
ولا افتخاراً،
يدلّ عليه ما روى سعيد بن سنان
عن يزيد بن عبد اللّه بن غريب عن أبيه عن جدّه عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً }
قال :
(نزلت في أصحاب الخيل). قال غريب : والجن لا يقرب بيتاً فيه عتيق من الخيل،
ويروى أنه أشار إلى بعض خيل
كانت في الخيانة فأشار إلى عتاق تلك الخيل فقال : هؤلاء الذين
يُنفقون أموالهم بالليل والنهار.
الآية.
وعن حبس بن عبد اللّه الصنعاني
أنّه
قال : حدّث ابن
عباس في هذه
الآية :
{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ
وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } فقال : في علف
الخيل. وعن أبي سريح عمّن حدّثه عن أبي الفقيه أنّه
قال : مَنْ حبس فرساً
كان ستره من النار،
(وسقطت منه حسنة)،
وكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس
سمين تلا هذه
الآية،
وإذا مرّ بفرس أعجف سكت.
شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد
قالت : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(من أرتبط فرساً في سبيل اللّه فأنفق عليه احتساباً،
كان شبعه وجوعه
وريّه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة).
عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن
مكحول
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(المنفق في سبيل اللّه على فرسه كالباسط كفّيه
بالصدقة).
{فَلَهُمْ
أَجْرُهُمْ} قال الأخفش
(...) : إنّه جعل الخبر
بالفاء إذا كان الاسم الذي وصل به
(...)،
لأنّه في معنى من وجواب من
بالفاء في الجزاء،
ومعنى
الآية : مَنْ أنفق فله
أجره.
٢٧٥
{عند ربّهم ولا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. الذين يأكلون الربا} ومعنى الربا : الزيادة على أصل المال في غير بيع يقال : ربى الشيء
إذا زاد،
وأربى عليه و
(عامل) عليه إذا
زاد عليه في الربا. قال عمر ح : لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاّ مثل بمثل،
ولا تبيعوا الورق بالورق إلاّ
مثل بمثل،
ولا تبيعوا الذهب بالذهب أحدهما
غائب والآخر حاضر،
وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا
تنظره إلاّ يداً بيد هات وهذا أني أخاف عليكم الربا.
قالوا : وقياس كتابته بالياء لكسرة أوّله،
وقد كتبوه في القرآن بالواو.
قال الفراء : إنّما كتبوه كذلك لأنّ أهل الحجاز تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة
ولغتهم الربوا،
فعلّموهم صورة الحرف على لغتهم
فأخذوه كذلك عنهم. وكذلك قرأها الضحاك
(الربوا) بالواو.
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة
مكان كسرة الراء. وقرأ الباقون بالتفخيم بفتحة الباء،
قالوا : اليوم فانت فيه
(بالخيار
إن شئت) كتبته على مافي المصحف موافقة له،
وإن شئت بالياء وإن شئت بالألف.
ومعنى
قوله
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواا}
(يأكلونه) حق الأكل لأنّه معظم الأمر.
والربا في أربعة أشياء : الذهب،
والفضّة،
والمأكول،
والمشروب. فلا يجوز بيع بعضها
ببعض إلاّ مثلاً بمثل ويداً بيد،
وإذا اختلف الصنفان جاز التفاضل
في النقد وحرّم في النسيئة،
ولا يجوز صاع بر بصاعين لا
نقداً ولا نسيئة لأنّهما جنس واحد،
وكذلك الذهب بالذهب مثقال
باثنين لا نقداً ولا نسيّة،
وكذلك الفضّة بالفضّة،
وكذلك صاع بر بصاعين شعير وصاع
شعير بصاعين بر نقدا ولا يجوز نسيئة. ويجوز مثقال بعشرين درهماً أو أقل أو أكثر
نقداً ولا يجوز نسيئة،
وجماع ما شايع الناس عليه ثلاثة
أشياء :
أحدهما : ما يعتدي به ممّا كان مأكولاً أو مشروباً.
والثاني : ما كان ثمناً
للأشياء وقيمة للمتلفات وهو الذهب والفضّة فهذان فيهما الربا فلا يجوز بيع شيء
متفاضلاً نقداً ونسيئة،
والصنف الثالث : ما عدا هذين
مما لا يؤكل ولا يشرب ولا يكون ثمناً،
فلا ربا فيه فيجوز بيع بعضه
ببعض متفاضلاً نقداً ونسيئة. فهذا جملة القول فيما فيه الربا على مذهب
الشافعي.
وقال مالك : كلّ ثمن أو يقتات
أو ما يصلح به القوت فهو الذي فيه الربا.
وقال أهل العراق : كلّ مكيل أو
موزون فيه الربا. وقال أهل الحجاز ما روي محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد
اللّه بن عبك قالا : جمع المنزل بين عبادة بن الصاحب ومعاوية،
فقال عبادة : نهانا رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر
بالتمر،
وقال
أحدهما : والملح بالملح،
وقال الآخر : إلاّ مثلاً بمثل
ويداً بيد،
وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق
والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر ويداً بيد كيف شئنا. قال
أحدهما : فمن ناد أو ازداد فقد أربى.
قوله تعالى :
{يَقُومُونَ}
يعني يوم القيامة من قبورهم
{إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ}
أي يصرعه ويخبطه
{الشَّيْطَانِ} وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط،
التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها
الأرض. قال زهير :
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطي يعمر فيهرم
{مِنَ الْمَسِّ} الجنون. يقال : مسّ الرجل وألِس فهو ممسوس ومالوس،
إذا كان مجنوناً،
وأصله مسّ الشيطان إياه. ومعنى
الآية : إنّ آكل
الربا يبعثه اللّه يوم القيامة مجنوناً
(
) وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان. قاله
قتادة.
أبو هارون العبدي عن أبي سعيد
الخدري عن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) في قصّة الإسراء،
قال :
(فانطلق
بي جبرائيل إلى رجال كثير كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدّين على سابلة آل
فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوّاً وعشيّاً.
قال : فيقبلون مثل
الإبل المنهومة يخبطون الحجارة (لا يسمعون ولا يعقلون) فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون،
ثم يقوم أحدهم فتميل بطنه فيصرع
فلا يستطيعون أن يبرحوا حتّى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم
في البرزخ بين الدنيا والآخرة).
قال :
(وآل
فرعون يقولون اللّهمّ لا تقم الساعة أبداً قال : ويوم يقال لهم :
{ادخلوا آل فرعون أشدّ العداب} قال : قلت : يا جبرائيل مَنْ هؤلاء؟
قال : الذين يأكلون
الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ).
حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد
عن أبي الصلت عن أبي هريرة إنّ رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) لما أُسريَ به رأى في السماء رجالاً بطونهم كالبيوت فيها الحيّات تُرى
خارج بطونهم فقلت : مَنْ هولاء يا جبرائيل؟
قال : هؤلاء أكلة الربا
{
ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواا}
أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هكذا واستحلالهم
إياه.
وذلك إنّ أهل الجاهليّة كان
أحدهم إذا أجلّ ماله على غريمه فطالبه بذلك يقول الغريم لصاحب الحقّ : زدني في
الأجل وامهلني حتّى أزيدك في مالك فيفعلان ويقولان : سواء علينا الزيادة في أوّل
البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير. فكذّبهم اللّه تعالى فقال :
{وأحلّ البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة} تذكير وتخويف. قال السدي : أمّا الموعظة فالقرآن،
وإنّما ذكر الفعل لأنّ الموعظة
والوعظ واحد.
وقرأ الحسن : فمن جاءته موعظة كقوله
{يا أيّها الناس قد جاءتكم موعظة من ربّكم} .
{مِّنْ رَّبِّهِ
فَانتَهَى} من أكل الربا
{فَلَهُ
مَا سَلَفَ}
أي ما مضى من ذنبه قبل النهي فهو مغفور له
{وَأَمْرُهُ إِلَى اللّه}
يعني النهي إن
شاء عصمه حتّى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتّى يعود،
وقيل : وأمره إلى اللّه فيما يأمره وينهاه ويحلّ له ويحرّم عليه
وليس إليه من أمر نفسه شيء. وفيه يقول محمود الورّاق :
إلى اللّه كلّ الأمر في كلّ
خلقه
وليس إلى المخلوق شيء من الأمر
{وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم والموعظة إلى أكل الربا مستحلاًّ له
{ فأولئك أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ} أبو سلمة عن أبي هريرة
قال : قال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الربا سبعون باباً أهونها عند اللّه كالذي ينكح
أمّه).
وعن عبد الرحمن بن عبداللّه بن
مسعود عن عبد اللّه بن مسعود
قال : لعن رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) آكل الربا ومؤكله وكاتبه
وشاهده.
الحسن عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إذا أرد اللّه بقرية هلاكاً أظهر فيهم الربا).
٢٧٦
{يَمْحَقُ اللّه}
أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته وإن كان كثيراً كما يمحق القمر.
وعن عبد اللّه بن مسعود رفعه إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(إنّ الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلّة).
وروي جويبر عن الضحاك عن ابن
عباس :
{يَمْحَقُ اللّه}
يعني لا يقبل
منه صدقة ولا جهاد ولا حجّاً ولا صلة.
{ويزكي الصدقات}
أي يزيدها ويكثرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف الأجر والثواب
في العقبى وإن كانت قليلة،
قال عزّ من قائل :
{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} .
القاسم بن محمد
قال : سمعت أبا
هريرة يقول : قال رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه عزّ وجلّ يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلاّ الطيّب
ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم مهره أو (فصيله) حتّى أن اللقمة لتصير مثل أحد) وتصديق ذلك في كتاب اللّه عزّ وجلّ :
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه هُوَ يَقْبَلُ
التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} .
{يَمْحَقُ اللّه
الِرّبَواا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ} قال يحيى
بن معاد : لا أعرف حبّة تزن جبال الدنيا إلاّ الحبّة من الصدقة
{وَاللّه لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} بتحريم الربا مستحل له
{أَثِيمٍ}
(متماد في الإثم).
٢٧٧-٢٧٨
{إنّ الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا} قال عطاء وعكرمة : نزلت هذه
الآية في العبّاس بن عبد
المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر،
فلما حضر الجداد قال لهما صاحب
التمر : لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا
النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا،
فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة،
فبلغ ذلك إلى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) فنهاهما وأنزل اللّه هذه
الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.
وقال السدي : نزلت في العبّاس
عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني
عمرو بن عمير ناس من ثقيف ولهما أموال عظيمة في الربا،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية فقال
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا
أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب،
وكلّ دم من دم
الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب كان مُرضعاً في
بني ليث قتله هذيل).
وقال مقاتلان : أنزلت في أربعة
أخوة : من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة،
وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف
الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون،
فلما ظهر النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) على الطائف وصالح ثقيفاً أسلم هولاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني
المغيرة،
فقالت بنو المغيرة : واللّه ما
نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه اللّه ورسوله عن المؤمنين،
فما يجعلنا أشقى الناس بهذا،
فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن
أبي العيص بن أميّة. وكان عامل رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) على مكّة وقال :
(أبعثك
على أهل اللّه) فكتب عتّاب إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) بقصّة الفريقين وكان ذلك مالاً عظيماً فأنزل اللّه تعالى :
{يا أيُّها الذين آمنوا أتقوا اللّه وذروا ما بقي
من الربا} وذر لفظ تهديد،
وقرأ الحسن مابقى بالألف وهي
لغة طي،
ويقول للحجارية : جاراة،
وللناصية : ناصاة.
قال الشاعر منهم :
لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا
على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
{إِن كُنتُمْ} إذا كنتم
{مُّؤْمِنِينَ} كقوله :
{وَأَنتُمُ
الأعلون إِن كُنتُم}
٢٧٩
{فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُوا} فإنّ لم تذروا ما بقي من الربا
{فَأْذَنُوا} قرأ الأعمش وعاصم
وحمزة رواية أبي بكر
{فَأْذَنُوا} ممدوداً على وزن آمنوا وقرأ الباقون
{فَأْذَنُوا} مقصوراً مفتوح الذال،
وهي قرأة علي وأختيار أبي عبيد
وأبي حاتم.
فمن قصر معناه : فاعلموا أنتم
واسمعوا،
يقال : أذن الشيء يأذن
أذناً وأذانة إذا سمعه وعلمه.
قال
اللّه :
{وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . ومن مدّ معناه :
فاعلموا غيركم.
قال اللّه تعالى :
{قَالُوا
ءَاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} .
وأصل الكلمة من الأذن
أي أقعوه في الأذان.
{بِحَرْبٍ مِّنَ
اللّه وَرَسُولِهِ} سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال : يقال يوم
القيامة لا تأكل الربا : خذ سلاحك للحرب. وروى الوالبي عنه
قال : مَنْ كان
مقيماً على الربا لا ينزع عنه،
فحقّ على إمام المسلمين أن
يستتيبه فإنّ نزع وإلاّ ضرب عنقه.
وقال أهل المعاني : حرب اللّه
النار وحرب رسوله السيف
{فَإِن
لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللّه} بطلب الزيادة
{وَلا
تُظْلَمُونَ} النقصان عن رأس المال. وروى آبان والمفضّل عن عاصم بضم التاء
الأولى وفتح الثانية. قال أهل المعاني أنّها شرط التوبة لأنّهم أن لم يتوبوا كفروا
بردّ حكم اللّه واستحلال ما حرّم اللّه فيصير مالهم فيأً للمسلمين. فلما نزلت هذه
الآيات قالت بنو عمرو
(بن
عمير لبني المغيرة : ) بل نتوب إلى اللّه
فإنّه ليس لنا يدان بحرب اللّه وحرب رسوله فرضوا برأس المال وسلّموا لأمر اللّه
فشكى بنو المغيرة العسرة وقالوا : أخرونا إلى أن ندرك الغلات،
فأبوا أن يؤخروا فأنزل اللّه :
٢٨٠
{وَإِن كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ} رفع الكلام بإسم كان ولم يأتِ لها بخبر وذلك جائز في النكرة.
يقول العرب : إنّ كان رجلٌ صالح فأكرمه،
وقيل : كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر.
وقرأ أُبي وابن مسعود وابن عباس
: إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة. وقرأ آبان بن
عثمان : ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة. وقرأ الأّعمش : وإن كان معسر وهو دليل قراءة
العامّة.
والعسرة : الفقر والضيق
والشدّة. وقرأ أبو جعفر : عسرة بضم السين،
وهما لغتان.
{فَنَظِرَةٌ} أمر في صيغة الخبر،
والفاء فيه لجواب الشرط تقديره
: فعليه نظرة،
أي
قال : واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صواباً كقوله فضرب
الرقاب،
والنظرة : الإنظار.
وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة :
فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء
أي منتظرة. وقرأ عطاء بن أبي رباح : فنظرة ساكنة الضاء وهي مصدر
يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعاً.
{إِلَى مَيْسَرَةٍ} قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص :
{مَيْسَرَةٍ} بضم السين والتنوين. وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد اللّه
بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو
عمرو ويعقوب وأيوب :
{مَيْسَرَةٍ} بالتنوين وفتح السين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها
اللغة السائرة. وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي :
(ميسرة) بضم السين مضافاً
هو مثله روى زيد عن يعقوب،
وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن
عبد اللّه أنّه كان يقرأها : فناظروه إلى ميسورة،
وكلّها لغات معناها اليسار
والغنى والسعة.
{وَأَن تَصَدَّقُوا} رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها
{خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقرأ عاصم : تصدّقوا بتخفيف الصاد. الباقون بتشديده.
ذكر حكم
الآية
أمر اللّه تعالى بانظار المعسر
فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن أعساره،
فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته
بماله إلى أن يظهر يساره،
فإذا ظهر يساره كان عليه توفير
الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق
(تخلف) وكلّ حق لزم الإنسان عوضاً عن مال حصل في يده مثل قرض أو
ابتياع سلعة،
فإذا ادّعى الإعسار لزمته
البيّنة على الإعسار؛ لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده،
وكلّ حق لزمه من غير حصول مال
في يده كالمهر والضمان،
فإذا أدّعى الإعسار لزم ربّ
المال أمامه البيّنة على كونه موسراً لأن الأصل في الناس الفقر،
وإذا لم يعلم له حالة استغناء
كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره.
وقال الحسن : إذا
قال : أنا معدم،
فالقول
قوله مع يمينه
وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان.
وكان
أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين
أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ،
فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه.
ودليل مَنْ
قال : لا يحبس،
حديث أبي سعيد الخدري
قال : أصيب رجل
في ثمار فكثر دينه،
فقال رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاّ ذلك).
وكان أبو هريرة على قضاء
المدينة فأتاه رجل بغريم فقال : أريد أن تحبسه.
قال : هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك؟
قال : لا،
قال : فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك؟
قال : لا،
قال : فما تريد،
قال : أريد أن تحبسه،
قال :
(لكنّي
ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين).
سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال : قال رسول
اللّه( (صلى اللّه عليه وسلم) ) :
(مَنْ مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض
ونون الماء وكتب اللّه عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنباً يغفر له
فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ).
أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الظلم مطل الغنى فإذا اتبع أحدكم على ملىء
فليتبع).
في فضل إنظار المعسر
زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي
هريرة : إنّ رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(مَنْ أنظر معسراً أو وضع له،
أظلّه اللّه في ضلّ
عرشه يوم لا ضلّ إلاّ ضلّه)،
وعن ابن عمر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مَنْ أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر
على المعسر).
ربعي بن خراش عن حذيفة بن
اليمان
قال : أتى اللّه
عزّ وجلّ بعبده يوم القيامة فقال
أي ربّ ما عملت لك خيراً قط أُريدك به إلاّ إنّك رزقتني مالاً
فكنت أتوسّع على المعسر. وأنظر المعسر،
فيقول اللّه عزّ وجلّ : أنا أحق
بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي.
قال : فقال أبو مسعود الانصاري : فاشهد على رسول اللّه أنّه سمعه
منه.
الأعمش عن أبي داود عن بريدة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مَنْ أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة) ثم قال بعد ذلك :
(مَنْ
أنظر معسراً كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة)
قال : فقلت :
يارسول اللّه قلت : مَنْ أنظر معسراً فله بكلّ يوم صدقة،
ثم قلت : من أنظر معسراً كان له
بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة.
قال :
(إن
قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل،
وقولي بكل يوم مثل
الذي أنظره صدقة بعد الأجل) وعن سعيد بن أبي
سعيد عن أخيه عن أبيه : أن جابر بن عبد اللّه خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا
(حقّي)،
فقالوا : لا فتنحّى فلم
يلبث أن خرج مستحيياً منه فقال : ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي؟
قال : العسرة،
قال :
قال
اللّه :
{فإن كان
ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} ،
فأخرج كتابه فمحاه.
فصل في الدَّين
جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد
اللّه بن جعفر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه
مالم يكن فيما يكره اللّه عزّ وجلّ)
قال : فكان عبد
اللّه بن جعفر يقول لخازنه : أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلاّ
واللّه عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
عطاء بن يسّار عن أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مَنْ أدان ديناً وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق).
عثمان بن عبد اللّه عن عبد
اللّه بن أبي قتادة عن أبيه : إنّ رجلاً أتى به النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ليصلّي عليه،
فقال :
(صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً) قال أبو قتادة : فأنا أكفل به،
قال :
(بالوفاء)،
قال بالوفاء فصلّى عليه وكان
عليه ثمانية عشر درهماً أو سبعة عشر درهما.
وعن أبي سعيد الخدري
قال : سمعت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(أعوذ باللّه من
الكفر والدين) فقال رجل : يارسول اللّه يعدل الدين بالكفر؟
قال :
(نعم).
وعن عائشة قالت : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(الدين راية اللّه في الأرض،
فإذا أراد أن يذلّ
عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه). وعن الأعرج عن
أبي هريرة
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(ما من خطيئة أعظم عند اللّه بعد الكبائر من أن
يموت الرجل وعليه أموال الناس ديناً في عنقه لا يوجد لها قضاء).
يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب
عن أنس بن مالك : إنّ رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار).
٢٨١
{وَاتَّقُوا يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه} قرأ أبو بحرية
وابو عمرو وسلام ويعقوب :
{تُرْجَعُونَ} بفتح التاء واعتبروا بقراءة أُبيّ
(فاتقوا يوماً تصيرون فيه إلى اللّه).
وقرأ الآخرون بضمّ التاء
إعتباراً بقراءة عبد اللّه.
(واتقوا
يوماً تُردّون فيه إلى اللّه).
{ثُمَّ تُوَفَّى
كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في
قوله تعالى :
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللّه}
قال : هذه آخر آية نزلت على رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) قال جبرائيل : ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة.
سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن
عباس
قال :
(هذه) آخر آية
نزلت على رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم)
فصل في تفصيل آخر ما نزل من
القرآن
قال المفسّرون : لمّا نزلت هذه
الآية
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} قال رسول اللّه(
(صلى اللّه عليه وسلم) ) :
(ليتني أعلم متّى يكون ذلك) فأنزل اللّه تعالى سورة النصر،
فكان رسول اللّه( (صلى اللّه عليه وسلم) ) بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها :
(سبحان اللّه وبحمده أستغفر اللّه وأتوب إليه) فقيل : إنّك لم تكن تقوله يا رسول اللّه قبل
هذا،
قال :
(إنّها
نفسي نعيت إلي) ثمّ بكى بكاء شديداً فقيل : يا رسول اللّه أو تبكي من الموت
وقد عفا اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر،
قال :
(فأين
هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال) فعاش رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) ستة أشهر ثم لما خرج رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ} إلى آخرها فسمّى آية الصيف. ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
الآية فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً،
ثم نزلت عليه آيات الربا،
ثم نزلت بعدها
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
اللّه} وهي آخر آية نزلت من السماء،
فعاش رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) بعدها أحدا وعشرين يوماً.
قال ابن جريج : تسع ليال. سعيد
بن جبير ومقاتل : سبع ليال ثم مات يوم الأثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل
حين زاغت الشمس سنة أحدى عشرة من الهجرة وأحدى من مُلك أردشير شيرون بن أبرويز بن
هرمز بن نوشروان.
٢٨٢
{الَّذِينَ ءَامَنُوا
إِذَا تَدَايَنتُم} قال ابن عباس : لمّا حرّم
اللّه الربا،
أباح السلم،
فقال :
{الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم}
أي داين بعضكم بعضاً،
والدين ما كان مؤجّلاً والعين
ما كان حاضراً،
يقال : دان فلاناً يدينه،
إذا أعطاه الدين فهو دائن،
والمعطا مدين ومديون.
قوله
{إِذَا تَدَايَنتُم} يدخل فيه الدين والنسيئة والسلم وما كان مؤجّلاً من الحقوق.
فإنّما
قال : والمداينة
لا تكون إلاّ بدين لأنّ المداينة قد
(تكون) مجازاة وتكون معاطاة فأبان ذلك وقيّده بقوله
{بِدَيْنٍ} .
وقيل : هو بمعنى التأكيد كقوله :
{ولا طائر يطير بِجَنَاحَيْهِ}
وقوله :
{فَسَجَدَ
الْمَلَاكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} .
{إِلَى أَجَلٍ
مُّسَمًّى}
أي وقت معلوم
{فَاكْتُبُوهُ}
أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعاً كان أو قرضاً لئلاّ يقع فيه
جحود ولا نسيان ولا تدافع.
واختلفوا في هذا الكتابة،
هل هي واجبة أم لا؟
فقال بعضهم : فرض واجب،
قال ابن جريج : مَنْ أدان
فليكتب،
ومَنْ باع فليُشهِد. وهذا القول
اختيار محمد بن جرير الطبري،
يدلّ عليه ما روى الشعبي عن أبي
بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(ثلاثة يدعون اللّه فلا يُستجاب لهم :
رجل كانت عنده امرأة
سيئة الخلق فلم يطلّقها. ورجل كان له دين فلم يشهد،
ورجل أعطى سفيهاً
مالاً،
وقد قال اللّه تعالى
:
{وَ تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} ).
قال قوم : هو أمر استحباب
وتخيير فإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس.
كقوله :
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} .
وقوله :
{فَإِذَا
قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُوا فِى الأرض} . هو اختيار الفراء.
وقال آخرون : كان كتاب الدين والإشهاد والرهن فرضاً ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :
{أَمَانَتَهُ} وهو قول الشعبي.
ثم بيّن كيفيّة الكتابة فقال
عزّ مَنْ قائل :
{وَلْيَكْتُب
بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ} وقرأ الحسن وليكتب
بكسر اللام،
وهذه اللام،
لام الأمر ولا يؤمر بها غير
الغائب،
وهي إذا كانت مفردة فليس فيها
إلاّ الحركة،
فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو
ثم،
فأكثر العرب على تسكينها طلباً
للخفّة ومنهم مَنْ يكسرها على الأصل.
ومعنى
الآية : وليكتب كتاب
الدين بيع البائع والمشتري والطالب والمطلوب كاتب بالعدل
أي بالحق والإنصاف
فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره ولا يكتب به شيئاً يبطل به
حقّاً لأحدهما لا يعلمه هو.
{وَ يَأْبَ} ولا يمتنع
{كَاتِبٌ
أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّه فَلْيَكْتُبْ} وذلك إنّ الكتّاب كانوا قليلاً على عهد رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
واختلف العلماء في وجوب الكتابة
على الكاتب والشهادة على الشاهد،
فقال مجاهد والربيع : واجب على
الكاتب أن يكتب إذ أمر. وقال الحسن : ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب
غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع،
فإذا كان كذلك فهو فريضة،
وإن قدر على كاتب غيره فهو في
سعة إذا قام به غيره.
وقال الضحاك : كانت هذه عزيمة
واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها
قوله :
{وَ
يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَ شَهِيدٌ} . السدي : هو واجب
عليه في حال فراغه.
{وَلْيُمْلِلِ
الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ} . المديون
والمطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه،
والإملال والاملاء لغتان
فصيحتان جاء بهما القرآن.
قال اللّه تعالى :
{فَهِىَ
تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا} .
أصل الإملال : إعادة الشيء مرّة
بعد مرّة والإلحاح عليه.
قال
الشاعر :
ألاّ يا ديار الحيّ بالسبعان
أملّ عليها بالبلى الملوان
ثم خوّفه فقال :
{وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ وَ يَبْخَسْ مِنْهُ
شيئا} .
أي لا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئاً،
يقال : بخسه حقّه وبخسه
إذا أنقصه ونظائرها في القرآن كثيرة.
{فَإِن كَانَ الَّذِى
عَلَيْهِ الْحَقُّ} .
يعني وإن كان المطلوب
الذي عليه المال
{سَفِيهًا} . جاهلاً بالمال. قاله مجاهد،
وقال الضحاك والسدي : طفلاً
صغيراً
{أَوْ ضَعِيفًا} . أو شيخاً كبيراً. السدي وابن زيد :
يعني عاجزاً أحمق
{أَوْ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} . لخرس أو عيّ أو غيبة أو عجمة أو زمانةِ أو حبس لا يمكنه
حضور الكتاب أو جهل ماله عليه
{فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ} .
أي قيّمه ووارثه.
ابن عبّاس والربيع ومقاتل :
يعني فليملل
وليّ الحق وصاحب الدين لأنّه أعلم بدينه
{بِالْعَدْلِ} بالصدق والحق
والإنصاف
{وَاسْتَشْهِدُوا} . هذا السين للسؤال والطلب
{شَهِيدَيْنِ} . شاهدين
{مِّن
رِّجَالِكُمْ} .
يعني الأحرار البالغين دون العبيد والصبيان ودون أحرار الكفّار.
وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي
حنيفة وسفيان وأكثر الفقهاء.
وأجاز شريح وابن سيرين بشهادة
العبد وهو قول أنس بن مالك. وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه.
{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} .
يعني فإنّ لم يكن الشاهدان رجلين
{فَرَجُلٌ وامرأتان} . أو فليشهد رجل وامرتان.
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة
النساء جائزة مع الرجال في الأموال،
واختلفوا في غير الأموال. وكان
مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد لا يجزونها إلاّ في الأموال. وكان
أبو حنيفة وسفيان وأصحابهما يجيزون شهادتين مع الرجل في كلّ شيء ما عدا الحدود
والقصاص.
{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ} .
يعني مَنْ كان مرضيّاً في ديانته وأمانته وكفائته.
قال عمر بن الخطّاب ح : مَنْ
أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً فأجبناه عليه ومَنْ أظهر لنا شرّاً ظننا به شرّاً
وأبغضناه عليه،
وإذا حمد الرجل جاره وقرائبه
ورفيقه فلا تشكّوا في صلاحه.
وقال إبراهيم النخعي : العدل :
مَنْ لم يظهر منه ريبة. وقال الشعبي : العدل : مَنْ لم يطعن عليه في بطن ولا فرج.
وقال الحسن : هو مَنْ لم يعلم
له خزية. وقال النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على
أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت يعني الخادم لهم (ولا
الظنين في ولاء ولا قرابة)).
وجملة القول فيمن تقبل شهادته :
أن تجتمع فيه عشر خصال : يكون حرّاً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به ولا
يجز بشهادته إلى نفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه مضرّة ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط
ولا يترك المروءة ولا يكون عنده لين
(ولا) يشهد عليه عبده،
فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال كان
مقبول القول جائز الشهادة.
وتقبل شهادة النساء على
الإنفراد لا رجل معهن في أربع مواضع : عيوب النساء وهو ما يكون عيباً في موضع هي
عورة منها في الحرّة في جميع بدنها إلاّ وجهها وكفّيها،
ومن الأمة مابين سرّتها إلى
ركبتها وفي الرضاع،
وفي الولادة،
وفي الاستهلال.
ولا خلاف في ذلك كلّه إلاّ في
الرضاع. وان أبا حنيفة ذهب إلى أنّ شهادة النساء على الإنفراد لا تقبل فيه حتّى
يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
وأمّا صفة الشهادة فروى طاووس
عن ابن عباس
قال : سُئل رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) عن الشهادة فقال :
(ترى
الشمس)؟
قال : نعم،
قال :
(على
مثلها فاشهد أو دع) وعن عبد الصمد بن علي بن عبد
اللّه بن عباس عن أبيه عن جدّه أن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(أكرموا الشهود فإنّ اللّه عزّ وجلّ يستخرج بهم
الحقوق ويدفع بهم الظلم).
خارجة بن نور عن عبد الرحمن بن
عبيد
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(مَنْ حبس ذِكْرُ حَقَ بعدما تقبض مافيه ثلاثا
فعليه قيراط من الأثم).
{أَن تَضِلَّ
أَحَدُهُمَآ فَتُذَكِّرَ إِحْدَ اهُمَا اخْرَى} . قراء الأعمش وحمزة :
(أن) بكسر الألف
(فتذكر) رفعاً،
ومعناه الجزاء والابتداء،
وموضع
(تضل) جزم للجزاء إلاّ
أنّه لا يتبيّن في التضعيف
(فتذكّر) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ.
وقرأة العامّة بنصب الألف،
فالفاء على الإتصال بالكلام
الأوّل وموضع
(أن) نصب بنزع
حرف الصفة
يعني لأنّ،
و
(تضل) محلّه نصب بأن
(فتذكّر) مسوّق عليه. ومعنى
الآية : فرجل وامرأتان كي تذكّر إحداهما الاخرى إنّ ضلّت.
وهذا من المقدّم والمؤخّر،
كقولك : إنّه ليعجبني أن يسأل
فيعطى،
يعني : يعجبني أن تعطي السائل إذا سأل؛ لأن العطاء تعجّب لا
السؤال.
قال اللّه :
{وَلَوْ أَن تُصِبْهُمْ مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا}
الآية.
ومعناه : لولا أن يقولوا إذا
أصابتهم مصيبة : هلاّ أرسلت إلينا رسولاً.
ومعنى
قوله
(أن تضلّ) :
أي تنسى،
كقوله :
{لا يَضِلُّ رَبِّى وَ يَنسَى} .
وقوله :
{قَالَ
فَعَلْتُهَآ إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ} و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا} وذهاب قول العرب : ضلّ الماء في اللبن،
وقال اللّه :
{وَقَالُوا ضَلَلْنَا فِى الأرض} وقرأ عاصم الجحدري : أن تضلّ أحداهما بضمّ التاء وفتح الضاد
على المجهول،
وقرأ زيد بن أسلم : فتذكّر من
المذاكرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب
وأبو حاتم وقتيبة : فتذكر خفيفه،
وقرأ الباقون مشدداً.
وذكّر وأذكر بمعنى واحد كما يقال : نزّل وأنزل
وكرّمَ وأكرم،
وهما معها الذكر الذي هو
(ضد) النسيان
قال الشاعر :
تذكرنيه الشمس عند طلوعها
وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
قال أبو عبيد : حُدثت عن سفيان
بن عينية أنّه
قال : هو من
الذكر،
يعني أنّها إذا شهدت مع أُخرى صارت شهادتهما كشهادة الذَكَر.
قلت : هذا القول لا يعجبني
لأنّه معطوف على النسيان واللّه أعلم.
{وَلا يَأْبَ
الشُّهَدَآءُ إِذَا} .
قال بعضهم : هذا في محمل
الشهادة وهو أمر إيجاب.
قال قتادة والربيع : كان الرجل
يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتّبعه أحد منهم،
فأنزل اللّه تعالى هذه
الآية.
وقال الشعبي : هو مخيّر في
تحمّل الشهادة إذا وجد غيره،
فإن شاء شهد وإن شاء لم يشهد،
فإذا لم يوجد غيره فترك إلاّ ما
فرض عليه.
وقال بعضهم : هذا أمر ندب وهو مخيّر في جميع الأحوال إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. وهو
قول عطاء وعطيّة.
وقال أبو بحريّة : قلت للحسن :
أُدعى إلى الشهادة وأنا كاره،
قال : فلا تجب ولا تشهد إن شئت. وقال مغيرة : قلت لإبراهيم : إنّي
أُدعى إلى الشهادة وإنّي أخاف أن أنسى،
قال : فلا تشهد أن تحب.
وقال بعضهم : هذا في إقامة الشهادة وأدائها،
ومعنى
الآية : ولايأب الشهداء
إذا مادعوا لإقامة الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. وهو قول مجاهد وعطاء
وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي،
وروى سفيان عن جابر عن عامر قال
الشاهد بالخيار مالم يشهد. وقال الحسن والسدي هذه
الآية في الأمرين جميعاً
في التحمّل والاقامة إذا كان فارغاً.
{وَ يَأْبَ} . ولا تملّوا يقال
: سئمت أسأم سأماً وسأمة،
قال زهير :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أباً لك يسأم
وقال لبيد :
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
وأن في محلّ النصب من وجهين :
إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً وأُوقعت السآمة عليه،
تقديره : ولا تسأموا كتابته،
وإن شئت نصبت بنزع حروف الصفة،
تقديره : ولا تسأموا من أن
تكتبوه،
والهاء راجع إلى الحق.
وقرأ السلمي : ولا يسأموا
بالياء.
{صَغِيرًا} . كان الحقّ
{أَوْ
كَبِيرًا} . قليلاً كان المال أو كثيراً،
وانتصاب الصغير والكبير من
وجهين : أحدهما على الحال والقطع من الهاء،
والثاني أن تجعله خبراً لكان
وأضمر،
يعني : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً كان الحق أو كبيراً.
{إِلَى أَجَلِهِ} . إلى محلّ الحق
{ذالِكُمْ} . الكتاب
{أَقْسَطُ} . أعدل
{عِندَ
اللّه} . لأنّه أمر به،
واتباع أمره أعدل من تركه
{وَأَقْوَمُ} . وأصوب
{لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَدْنَى} . وأحرى وأقرب إلى
{أَلا تَرْتَابُوا} . تشكّوا في الشهادة ومبلغ الحق والأجل إذا كان مكتوباً،
نظير
قوله :
{ ذلك أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى
وَجْهِهَآ} وهو أفعل من الدنو،
ثم استثنى فقال :
{إِلا أَن تَكُونَ
تِجَارَةً حَاضِرَةً} . قرأها عاصم بالنصب على خبر
كان وأضمر الاسم،
مجازه : إلاّ أن تكون التجارة
تجارة،
والمبايعة تجارة. وأنشد الفراء
:
للّه قومي
أي قوم بحرة
إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوماً. وأنشد أيضاً :
أعينيّ هل تبكيان عفاقاً
إذا كان طعناً بينهم وعناقاً
أراد إذا كان الأمر.
وقرأ الباقون بالرفع على وجهين
:
أحدهما : أن يكون معنى الكون الوقوع،
أراد : إلاّ أن تقع تجارة،
وحينئذ لا خبر له.
والثاني : أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل،
وهو
قوله تعالى :
{تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} تقديره : إلاّ أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم،
ومعنى
الآية : إلاّ أن تكون
تجارة حاضرة يداً بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل ولا نسيئة.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} .
يعني التجارة
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} . قال الضحاك : هو عزم من اللّه عزّ وجلّ،
والاشهاد واجب في صغير الحق
وكبيره نقده ونسأه ولو على باقة بقل وهو أختيار محمد بن جرير.
وقال أبو سعيد الخدري : الأمر
فيه إلى الامانة.
قال اللّه فإن أمن بعضكم بعضاً. وقال الآخرون : هو أمر ندب إن شاء أشهد
وإن لم يشاء لم يشهد ثم
قال :
{وَلا يُضَآرَّ
كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} . هو نهي الغائب،
وأصله يُضارر فأُدغمت الراء في
الراء ونصبت لحق التضعيف لإجتماع الساكنين،
والفتح أخفّ الحركات فحركت
إليه.
وأما تفسير
الآية،
فأجراها بعضهم على الفعل
المعروف،
وقال : أصله يضارر بكسر
الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد،
معناه : ولا
(يضار) كاتب فيكتب
مالم يملل عليه يزيد أو ينقص أو يُحرّف،
ولا شهيد فيشهد مالم يشهد عليه
أو يمتنع من إقامة الشهادة،
وهذا قول طاووس والحسن وقتادة
وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين وقالوا : أصله لا
يضار.
ومعنى
الآية : هو أن الرجل
يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمّة فيقولان : إنا مشغولان فاطلب غيرنا،
فيقول الذي يدعوه : إن اللّه أمر
كما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ويلحّ عليهما ويشغلهما عن حاجتهما فنهى اللّه
عزّ وجلّ
(عن مُضارتهما) وأمر أن يطالب غيرهما.
وقال الربيع بن أنس : لما نزلت
هذه
الآية
{وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ
اللّه فَلْيَكْتُبْ}
{وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا} . كان أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له : أكتب،
فيقول : إنّي مشغول،
أو لي حاجة فانطلق إلى غيري،
فيُلزمه ويقول : إنّك قد أُمرت
بالكتابة،
فلا يدعه فيضاره بذلك وهو يجد
غيره. وكذلك يفعل مع الشاهد،
فأنزل اللّه تعالى :
{وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} .
ودليل هذا التأويل قراءة عمر
وأُبيّ وابن مسعود ومجاهد : ولا يضارر كاتب ولا شهيد باظهار التضعيف على وجه مالم
يمنع
(ولا يضار).
وقرأ أبو جعفر : ولا يضار،
مجزوماً مخفّفاً القى راء واحدة
اصلاً،
وقرأ الحسن ولا يضارّ بكسر الراء
مشدّداً.
{وَإِن تَفْعَلُوا} . ما نهيتكم عنه من الضراء
{فَإِنَّهُ فُسُوقُ بِكُمْ} . خروج عن الأمر
{وَاتَّقُوا
اللّه وَيُعَلِّمُكُمُ اللّه وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
٢٨٣
{وَإِن كُنتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} .
قرأ ابن عباس وأبو العالية
ومجاهد : كتاباً،
وقالوا : ربّما وجد الكاتب
ولم يجد المداد ولا الصحيفة،
وقالوا : لم تكن
(قبيلة) من العرب
إلاّ كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القلم والدواة.
وقرأ الضحاك : كُتّاباً على جمع
الكاتب. وقرأ الباقون : كاتباً على الواحد وهو الأنسب مع المصحف.
{فَرِهَانٌ
مَّقْبُوضَةٌ} . قرأ ابن عباس وإبراهيم وزر بن حبيش ومجاهد وابن كثير وأبو
عمرو : فرهن بضم الراء والهاء. وقرأ عكرمة والمنهال وعبد الوارث : فرُهن بضم الراء
وجزم الهاء،
وقرأ الباقون : فرهان وهو جمع
الرهن،
ذلك
(نحو) فعل وفعال،
وحبل وحبال وكبش وكباش،
وكعب وكعّاب.
والرهن جمع الرهان : جمع الجمع،
قاله الفراء والكسائي. وقال
غيرهما وأبو عبيدة : هو جمع الرهن.
قالوا
: ولم نجد فعلاً يجمع على فُعَل إلاّ ثمانية أحرف : خَلق
وخُلق،
وسَقف وسُقف،
وقَلب وقُلب،
(وجَد وجُد بمعنى
الحظ،
وثط وثُط،
وورد ووُرد،)
ونَسر ونُسر. ورَهن ورهن.
قال الأخطل وعمرو بن أبي عوف :
(...) به حتّى يغادره العقبان والنسُر.
وأنشد الفراء :
حتّى إذا بلّت حلاقيم الحلق
أهوى لأدنى فقرة على شفق
وقال أبو عمرو : وإنّما قرأنا
(فرُهُن) ليكون قرفاً
(بينها
وبين) رهان الخيل،
وأنشد لقعنب ابن أم الصاحب :
بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلّقت عندها من قلبك الرهن
أي وحب لها.
والتخفيف والتثقيل في الرهن
لغتان مثل كُتبّ وكتب ورسلّ ورسل.
ومعنى
الآية : وإن كنتم على
سفر ولم تجدوا كاتباً الآن للكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهوناً ليكون وثيقة لكم
بأموالكم. وأجمعوا : إن الرهن لا يصح إلاّ بالقبض،
وقال مجاهد : ليس الرهن إلاّ في
السفر عند عدم الكاتب. وأجاز غيره في جميع الأحوال. ورهن رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) درعه عند يهوديّ.
{فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُم بَعْضًا} . مدني. حرف أُبيّ،
{فَإِنْ أَمِنَ} .
يعني : فإن كان الذي عليه الحق أميناً عند صاحب الحق فلم يرتهن
منه شيئاً لثقته وحسن ظنّه
{فَلْيُؤَدِّ
الَّذِى اؤْتُمِنَ} . أفتعل من الأمانة،
وهي الثقة كتبت همزتها واواً
لاضمام ماقبلها
{أَمَانَتَهُ
وَلْيَتَّقِ اللّه رَبَّهُ} . في أداء الحق.
ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال :
{وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} . إذا دُعيتم إلى إقامتها،
وقرأ السلمي : ولا يكتموا
بالياء ومثله يعملون.
ثم ذكر وعيد كتمان الشهادة فقال
عزّ مَنْ قائل :
{وَمَن يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ} . فاجر قلبه وهو
ابتداء وخبر. وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة : فإنّه أثم قلبه على وزن أفعل
أي جعل قلبه أثماً.
{وَاللّه بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . من بيان الشهادة وكتمانها.
روى مكحول عن أبي بردة عن أبيه عن النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(مَنْ كتم الشهادة إذا دُعي،
كان كمن شهد بالزور).
٢٨٤
{للّه مافي السماوات
وما في الأرض} .
الآية. اختلف العلماء في هذه
الآية،
فقال قوم : هي خاصة. ثم اختلفوا
في وجه خصوصهاً،
فقال بعضهم : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها
يعني :
{وإن تبدوا مافي أنفسكم} . أيّها الشهود من كتمان الشهادة
{أَوْ تُخْفُوهُ} . الكتمان
{يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه} . وهو قول الشعبي وعكرمة ورواية مجاهد ومقسم عن ابن عباس،
يدلّ عليه
قوله فيما قبله
:
{وَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} .
وقال بعضهم : نزلت هذه
الآية فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين.
يعني : وإن تعلنوا ما
في أنفسكم من ولاية الكفّار أو تستروه يُحاسبكم اللّه. وهو قول مقاتل والواقدي.
يدلّ عليه
قوله في آل
عمران :
({قُلْ
إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} . من ولاية الكفّار
{يَعْلَمْهُ اللّه}
) يدلّ عليه ماقبله.
وقال آخرون : هذه
الآية عامّة. ثم اختلفوا في وجه عمومها،
فقال بعضهم : هي منسوخة.
روت الرواية بألفاظ مختلفة.
قال : لمّا نزلت
هذه
الآية جاء أبو
بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فجثوا على الركب وقالوا : يارسول اللّه واللّه ما نزلت آية أشد علينا من هذه
الآية وإنّا لا
نسر أن يكون لأحدنا الدنيا وما فيها وإنّا لمأخوذون ما نحدّث به أنفسنا هلكنا
واللّه،
فقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(هكذا نزلت).
قالوا : هكلنا
وكُلّفنا من العمل ما لا نطيق.
قال :
(فلعلّكم
تقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام سمعنا وعصينا،
بل قولوا : سمعنا
وأطعنا).
واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك
حولا،
فأنزل اللّه عزّ وجلّ الفرج
والراحة بقوله تعالى :
{يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} . فنسخت
الآية ماقبلها. فقال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(إنّ اللّه عزّ وجلّ قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به
أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلّموا به). وهذا قول
ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء،
ومن التابعين وأتباعهم محمد بن
سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة.
قال سعيد بن مرجانة : بينما نحن
جلوس عند عبد اللّه بن عمر إذ تلا هذه
الآية
{وإن
تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به اللّه}.
فقال ابن عمر : إن أخذنا اللّه
بها لنهلكن،
ثم بكا حتى سُمع. قال ابن
مرجانة : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : يغفر اللّه لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت
مثل ما وجد فأنزل اللّه
{يُكَلِّفُ
اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} . وكانت الوسوسة
ممّا لا طاقة للمسلمين بها،
فصار الأمر إلى القول والفعل به
فنسخت تلك
الآية.
وقال بعضهم : هذه
الآية محكمة غير منسوخة،
لأن النسخ والأخبار غير جائز
إلاّ في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط. ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل
المعاني : قد اثبت اللّه عزّ وجلّ للقلب كسبا فقال :
{بما كسبت قلوبهم} . وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله،
(فلا تظنّ) اللّه عزّ وجلّ بتارك عبداً يوم القيامة أسرّ أمراً أو أعلنه
من حركة في جوارحه أو
(همسة) في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبرهُ به،
ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب
مَنْ شاء بما يشاء.
معنى
الآية : وإن تظهروا مافي
أنفسكم من
(المعاصي) فتعملوه
أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه،
ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب مَنْ
يشاء.
وهذا معنى قول الحسن،
والربيع،
وقيس بن أبي حازم،
ورواية الضحاك عن ابن عباس،
يدلّ عليه
قوله تعالى :
{ولا تقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد
كلّ أولئك كان عنه مسؤولاً} .
وقال آخرون : معنى
الآية إن اللّه تعالى يُحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم
وأخفوه،
ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته
إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها،
بما يحدث في الدنيا من النوائب
والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها،
وهذا قول عائشة،
روي بأنّها سُئلت عن هذه
الآية فقالت : ما
سألت عنها أحد فقد سألت رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) فقال :
(يا عائشة هذه معاتبة اللّه العبد بما يصيبه من
الحمّى والنكبة حتّى الشوكة والبضاعة يضعها في (جيبه) فيفقدها فيفرغ لها فيجدها في جيبه،
حتّى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه
كما يخرج التبر الأحمر من الكيس).
يدلّ عليه
قوله
{مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
يعني في الدنيا.
وقال مجاهد : في رواية منصور
وابن أبي جريج
قال :
{وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه}.
يعني من اليقين والشك.
وقال جعفر بن محمد :
{وإن تبدوا مافي أنفسكم} .
يعني الإسلام
{أَوْ تُخْفُوهُ} .
يعني الإيمان.
وقال بعضهم :
{وَإِن
تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ} .
يعني مافي
قلوبكم ممّا عرفتم وعقدتم عليه
{أَوْ
تُخْفُوهُ} . فلا تبدوه وأنتم مجمعون وعازمون عليه،
يحاسبكم به اللّه،
فأمّا ما حدّثتم به أنفسكم ممّا
لم تعزموا عليه فإن ذلك ممّا لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها ولا يؤاخذ به. ودليل
هذا التأويل
قوله :
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِى
أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} .
وعن عبد بن المبارك
قال : قلت لسفيان
: ليؤاخذ العبد بالهمّة،
قال : إذا كان عزما أخذ بها. وعن عمرو بن جرير
قال : خرجت وأنا
شاب لأمر هممت به،
فمررت بأبي طالب القاص والناس
مجتمعون عليه وكان أوّل شيء تكلّم به أن
قال : أيّها الهامّ
بالمعصية علمت أن خالق الهمّة مطّلع على همّتك،
قال : فخررت واللّه مغشيّاً عليّ،
فما أفقت إلاّ عن توبة.
وعن إسماعيل بن أبي خالد
قال : أصابت بني
اسرائيل مجاعة فمرّ رجل على رمل فقال :
(وددت) أن هذا الرمل دقيق لي فأطعمه بني إسرائيل،
فأُعطي على نيّته.
وعن عبد اللّه بن زيد بن أسلم
عن أبيه
قال : كان رجل
يطوف على العلماء،
يقول : مَنْ يدلّني على عمل لا
أزال منه عاملاً للّه عزّ وجلّ فإنّي أحب أن لا تأتي عليّ ساعة من الليل والنهار
إلاّ وأنا عامل،
فقيل له : قد وجدت حاجتك فأعمل
الخير ما استطعت،
فإذا فترت أو تركته فهمّ بعمله
إنّ الهامّ بعمل الخير كعامله. وهذا
يعني قول النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(نيّة المؤمن خير من عمله) لأن العمل ينقطع والنيّة لا تنقطع.
وقال محمد بن علي : معنى
الآية :
{وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ} . من الأعمال الظاهرة
{أَوْ تُخْفُوهُ} من الأحوال
الباطنة،
يحاسبكم به اللّه العابد على
أفعاله والعارف على أحواله.
وقال بعضهم : إنّ اللّه يقول يوم القيامة :
(يوم) تُبلى السرائر
وتخرج الضمائر،
وأن كتّابي لم يكتبوا من
أعمالكم إلاّ ما ظهر منها،
وأنا مطّلع على سرائركم مالم
يعلموه ولم يكتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه لتعلموا أنّه لا يعزب عنّي
مثقال ذرة من أعمالكم ثم أغفر لمَنْ شئت وأُعذّب مَنْ شئت.
فأمّا المؤمنون فيخبرهم بذلك
ويغفر لهم ولا يؤاخذهم بذلك إظهاراً لفضله،
وأمّا الكافرون فيخبرهم بها
ويعاقبهم عليها إظهاراً لعدله.
فمعنى
الآية : وإن تبدوا ما في
أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه ممّا أضمرتم وأسررتم وأردتم،
يُحاسبكم به اللّه ويخبركم
ويعرّفكم إياه،
فيغفر للمؤمنين ويعذّب
الكافرين. وهذا معنى قول الضحاك والربيع ورواية العوفي والوالبي عن ابن عباس،
يدلّ عليه
قوله :
{يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه} . ولم يقل : يؤاخذكم،
والمحاسبة غير المعاقبة،
والحساب ثابت والعقاب ساقط،
وممّا يُويّد هذا حديث النجوى
وهو ما روى قتادة عن صفوان بن محرز
قال
: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمرو اذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر
ما سمعت رسول اللّه
(صلى اللّه عليه
وسلم) يقول في النجوى،
فقال : سمعت نبيّ اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) يقول :
(يدنو المؤمن من
ربّه حتّى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول : هل أذنبت ببعض كذا،
فيقول : ربّ أعرف،
فيوقفه على ذنوبه
ذنباً ذنباً،
فيقول اللّه : أنا
الذي سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم لم يُطلع على ذلك مَلَكاً
مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً.
وأمّا الكفّار
والمنافقون فينادون على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذّبوا على ربّهم ألا لعنة اللّه
على الظالمين).
الأعمش عن معرور بن سويد عن أبي
ذر
قال : قال رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
(يُؤتى الرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه
صغار ذنوبه،
فيعرض عليه،
فيقال : عملت كذا
وكذا يوم كذا وكذا وهو يقرّ ولا ينكر ويخبأ عنه كبار ذنوبه وهو منها مشفق فيقول :
اعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة،
فيقول : إنّ لي
ذنوباً ما أراها هاهنا).
قال : قال أبو ذر : فلقد رأيت النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) ضحك حتّى بدت نواجذه.
وقال الحسين بن مسلم : يحاسب
اللّه عزّ وجلّ المؤمنين يوم القيامة بالمنّة والفضل،
والكافرين بالحجّة والعدل.
{فَيَغْفِرُ لِمَن
يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} . رفعهما أبو جعفر
وابن عامر وابن محيصن والحسن وعاصم ويعقوب وأختاره أبو حاتم،
ونصبها ابن عباس،
وجزمها الباقون فالجزم على
النسق والرفع على الإبتداء
أي فهو يغفر،
والنصب على الصرف،
وقيل : على إضمار
(أن) الخفيفة.
وروى طاووس عن ابن عباس :
{فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} . الذنب العظيم
{وَيُعَذِّبُ
مَن يَشَآءُ} . على الذنب الصغير
{يُسْ َلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْ َلُونَ} .
٢٨٥
{واللّه على كلّ شيء
قدير آمن الرسولُ بما أُنزل إليه من ربّه}.
الآية. روى طلحة
بن مصرف عن مرّة عن عبد اللّه
قال : لمّا أسرى رسول اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم) انتهى به إلى سدرة المنتهى،
فأعطى لنا الصلوات الخمس،
وخواتيم سورة البقرة،
وغفر لمن لا يشرك
(باللّه) من أمّته شيئاً إلاّ المقحمات.
وعن علقمة بن قيس عن عقبة بن
عمرو
قال : سمعت رسول
اللّه
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(أنزل اللّه عزّ وجلّ آيتين من كنوز العرش كتبهما
الرحمن عزّ وجلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من (يقولها) بعد العشاء الآخرة مرّتين أجزأتا عنه قيام الليل :
{الرَّسُولُ بِمَآ} . إلى آخر السورة).
وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث
الهمداني عن النعمان بن بشير عن النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(إن اللّه تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات
والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين فختم بهما سورة البقرة،
فلا يقرآن في دار
فيقربها شيطان ثلاث ليال).
وروى عبد الرحمن عند ابن زيد عن
ابن مسعود عن النبيّ
(صلى اللّه عليه
وسلم)
قال :
(مَنْ
قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفياه).
موسى بن حذيفة عن ابن المنكدر
قال : حدّثنا
حديثاً رفعه إلى النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
قال :
(في آخر سورة البقرة آيات أنهنّ قرآن وأنّهن دعاء
وأنّهن يرضين الرحمن) وفي الحديث : أنّه قيل للنبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) إن بيت ثابت بن أويس بن شمّاس يزهر الليلة كالمصابيح،
قال :
(لعلّه
يقرأ سورة البقرة)،
فسئل ثابت فقال : قرأت سورة
البقرة.
{آمن الرسولُ بما
أُنزل من ربّه} ،
قيل : إن هذه
الآية نزلت حين
شقّ على أصحاب رسول اللّه
(صلى
اللّه عليه وسلم) ما يوعدهم اللّه عزّ وجلّ به
من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم،
فشكوا ذلك إلى النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) فقال :
(لعلّكم تقولون سمعنا وعصينا كما قالت بنو
اسرائيل؟)
فقالوا : بل نقول سمعنا
وأطعنا،
فأنزل اللّه عزّ وجلّ ثناءً
عليهم وإخباراً عنهم :
{الرَّسُولُ
بِمَآ}
أي صدّق
{بِمَآ
أُنزِلَ إِلَيْهِ} . من ربّه قال قتادة : لمّا
أنزلت
{الرَّسُولُ بِمَآ} ،
قال النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
(وحق له أن يؤمن).
{وَالْمُؤْمِنُونَ} . وفي قراءة عليّ وعبد اللّه : وآمن المؤمنون
{كُلٌّ ءَامَنَ بِاللّه} . وحّد الفعل على لفظ كلّ،
المعنى : كلّ واحد منهم آمن،
فلو
قال : آمنوا،
لجاز لأن
(كلّ) قد تجيء في
الجمع والتوحيد،
فالتوحيد
قوله عزّ وجلّ :
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَ تَهُ وَتَسْبِيحَهُ} والجمع
قوله
{كُلٌّ
إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}
{وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} .
{وَمَلَاكَتِهِ
وَكُتُبِهِ}
(قرأ) ابن عباس وعكرمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف و{كِتَابَهُ} . على الواحد بالألف. وقرأ الباقون :
(كتبه) بالجمع،
وهو ظاهر كقوله :
{وَمَلا كَتِهِ وَرُسُلِهِ} .
والتوحيد وجهان : أحداهما :
إنّهم أرادوا القرآن خاصّة،
والآخر : إنّهم أرادوا جميع
الكتب. يقول العرب : كثر اللبن وكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس،
يريدون الألبان والدراهم
والدنانيير. يدلّ عليه
قوله :
{فَبَعَثَ
اللّه النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} .
{وَرُسُلِهِ} . جمع رسول.
وقرأ الحسن وابن سلمة بسكون
السين لكثرة الحركات،
وكذلك روى العباس عن ابن عمرو،
وروى عن نافع
{وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} . مخفّفين،
الباقون بالاشباع فيها على
الأصل.
{نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} . نؤمن ببعض ونكفر
ببعض كما فعلت اليهود والنصارى،
وفي مصحف عبد اللّه لا نفرّقن.
قرأ جرير بن عبد اللّه وسعيد بن
جبير وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويحيى بن يعمر والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب :
لا يفرّق بالياء على معنى لا نفرّق الكلّ،
فيجوز أن يكون خبراً عن الرسول.
وقرأ الباقون بالنون على إضمار
القول تقديره : وقالوا لا نفرّق
كقوله
تعالى :
{والملائكة
يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم}
وقوله :
{وأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم}
يعني فيقال لهم : أكفرتم.
وقوله تعالى :
{ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربّهم
ربّنا أبصرنا وسمعنا}
أي يقولون : ربّنا.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ
مَا نَعْبُدُهُمْ}
أي يقولون : ما
نعبدهم.
وما يقتضي شيئين فصاعداً،
وإنّما قال
(بين أحد) ولم يقل آحاد لأن الآحد يكون للواحد والجميع.
قال اللّه
{فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . وقال النبيّ
(صلى
اللّه عليه وسلم)
(ما أحلّت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم).
قال رؤبة :
ماذا
(أمور) الناس ديكت دوكاً
لا يرهبون أحداً رواكاً
{وَقَالُوا
سَمِعْنَا} . قولك
{وَأَطَعْنَا} . أمرك خلاف قول اليهود. وروى حكيم بن جابر أن جبرائيل ج أتى
النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم) حين نزلت
{الرَّسُولُ بِمَآ} . فقال : إن اللّه عزّ وجلّ قد منَّ عليك وعلى أمّتك فاسأل تعطى،
فسأل رسول اللّه عزّ وجلّ فقال : غفرانك.
{غُفْرَانَكَ} . وهو نصب على المصدر
أي أغفر غفرانك،
مثل قولنا : سبحانك
أي نسبّحك سبحانك.
وقيل معناه : نسألك غفرانك.
٢٨٦
{ربّنا وإليك المصير
لا يُكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} . ظاهر
الآية قضاء
الحوائج،
وفيها إضمار السؤال والحاجة،
كأنّه قال لهم : تكلّفنا إلاّ
وسعنا،
فأجاب اللّه فقال :
{يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} .
والوسع : اسم لما يسع الإنسان
وما
(يشقّ) عليه.
وقيل :
(يشق) ويجهد.
وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة
الشامي :
{يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} . بفتح الواو وكسر السين على الفعل،
يريد : إلاّ وسعها أمره،
أو أراد إلاّ ما وسعها فحذف
(ما).
واختلفوا في تأويله،
فقال ابن عطاء والسدي وأكثر
المفسّرين : أراد به حديث النفس،
وذلك أنّ اللّه تعالى لمّا أنزل
:
{وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به
اللّه}. جاء المؤمنون
(عامة) وقالوا : يارسول اللّه هذا لنتوب من عمل الجوارح،
فكيف نتوب من الوسوسة وكيف
نمتنع من حديث النفس؟
فأنزل اللّه :
{يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} .
أي طاقتها،
وكان حديث النفس مما لم يطيقوا.
قال ابن عباس في رواية آخرى :
(...) المؤمنون خاصّة وسّع اللّه عليهم أمر دينهم. ولم يكلّفهم
إلاّ ماهم له مستطيعون،
فقال :
{يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ} ،
وقال :
{ما جعل عليكم في الدين من حرج} ،
وقال :
{فَاتَّقُوا اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم
الحبيبي يقول : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن نافع السجري بهراة
قال : سمعت أبا
يزيد حاتم بن محبوب الشامي
قال : سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول : سُئل سفيان بن
عيينة عن
قوله تعالى :
{يُكَلِّفُ اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} .
فقال : إلاّ يسرها لا
عسرها،
ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها
طاقتها لبلغ المجهود منها.
قال الثعلبي : وهذا قول حسن
لأنّ الوسع ما دون الطاقة،
فقال بعض أهل الكلام :
يعني إلاّ ما
يسعها ويحل لها،
كقول القائل : ما يسعك هذا
الأمر؟
أي ما يحلّ اللّه لك؟
فبيّن اللّه تعالى أن ما كلّف
عباده فقد وسعه لهم واللّه أعلم.
{لها ماكسبت}.
أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح،
لها أجره وثوابه
{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} . من الشرّ بالعمل السيء عليها وزره.
{رَبَّنَا
تُؤَاخِذْنَآ} . لا تعاقبنا.
قال أهل المعاني : وإنّما خرج على
لفظ المفاعلة وهو فعل واحد؛ لأنّ المسيء قد أمكر وَطَرَق السبيل إليها وكأنّه أعان
عليه مَنْ يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه
{إِن نَّسِينَآ} . جعله
بعضهم من النسيان الذي هو السهو.
قال الكلبي : كانت نبو إسرائيل
إذا نسوا شيئاً ممّا أُمروا به وأخطأوا،
عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم
شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب،
فأمر اللّه تعالى نبيّه
والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك.
وقال بعضهم : هو من النسيان الذي هو الترك والإغفال.
قال اللّه تعالى :
{نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ} . والأوّل أجود.
{أَوْ أَخْطَأْنَا} . جعله بعضهم من القصد والعمد،
يقال : خطيء فلان إذا
تعمّد يخطأ خطأً وخطأ.
قال اللّه :
{إن
قتلهم كان خطأً كبيراً} . وأنشد
(أمية بن أبي الصلت) :
عبادك يخطئون وأنت ربٌّ
يكفّيك المنايا والحتوم
وجعله الآخرون من الخطأ الذي هو
الجهل والسهو وهو الأصح؛ لأن ما كان عمداً من الذنب غير معفو عنه،
بل هو في مشيئة اللّه تعالى
مالم يكن كفراً.
قال عطاء :
{إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} .
يعني إن جهلنا أو تعمّدنا له.
وقال ابن زيد : إن نسينا شيئاً
ممّا أفترضته علينا،
أو أخطأنا شيئاً ممّا حرّمته
علينا.
وقال الزهري : سمع عمر رجلاً
يقول : اللّهمّ
(اغفر) لي خطاياي،
فقال : إن الخطايا مغفور
ولكن قل : اللّهمّ أغفر لي عمدي.
قال النبطي : وحدّثنا ابن
فنجويه
قال : حدّثنا عبد
اللّه بن محمد بن شنبة
قال : حدّثنا عبد اللّه بن المصفّى السكري
قال : حدّثنا
محمد بن المصلّى المحمدي،
قال : حدّثنا الوليد
قال
: حدّثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ
(صلى اللّه عليه وسلم)
قال :
(رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه).
{رَبَّنَا وَلا
تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} .
قال بعضهم :
يعني عهداً
وعقداً وميثاقاً لا نطيق ذلك ولا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقصه
{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} .
يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم،
هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة
والضحاك والربيع ومقاتل والسدي والكلبي وابن جريج والفراء،
ورواية عطيّة وعلي بن أبي طلحة
عن ابن عباس،
يدلّ عليه
قوله :
{وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى}
أي عهدي.
وقال بعضهم : الأصر : الثقل،
أي لا تشقق علينا ولا تشدد ولا تغلظ الأصر علينا كما شددت على
مَنْ كان قبلنا من اليهود،
وذلك أن اللّه تعالى فرض عليهم
خمسين صلاة،
وأمرهم بأداء ربح أموالهم في
الزكاة،
ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها،
ومن أصاب منهم ذنباً أصبح وذنبه
مكتوب على بابه،
ونحوها من الأثقال
(والأغلال) التي كانت عليهم. وهذا معنى قول عثمان بن عطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة
والمؤرخ والقتيبي وابن الأنباري يدلّ عليه
قوله :
{ويضع عنهم إصرهم والأثقال التي كانت عليهم} .
وقال ابن زيد : معناه : لا تحمل
علينا ذنباً ليس فيه توبة ولا كفّارة وإلاّ يفعل في هذه كلّها العقد والأحكام،
ويقال للشيء الذي تعقد به
الأشياء : الأصر،
ويقال : بينه وبين فلان
أصرة رحم،
وما تأصرني،
أي ما
(يعطفني
عليه عهد ولا قرابة).
وقال : أنشدني أبو القاسم
السدوسي،
قال : أنشدني السميع بن محمد الهاشمي،
قال : أنشدنا أبو الحسن العبسي،
قال : أنشدنا العباس بن محمد الدوري
الشافعي :
إذا لم تكن لأمرىء نعمةٌ
لدي ولا بيننا آصره
(ولا لي) في ودّه حاصل
ولا نفع في الدنيا ولا الآخرة
وأفنيت عمري على بابه
فتلك إذاً صفقة خاسرة
{ربّنا ولا تحمّلنا
مالا طاقة لنا به}.
أي لا تكلّفنا من
الأعمال مالا نطيق،
هذا قول قتادة والضحاك والسدي
وابن زيد.
وقال بعضهم : هو حديث النفس والوسوسة. وعن أبي ثوبان عن أبيه عن مكحول في
قوله تعالى :
{ولا تحمّلنا مالا طاقة لنا به}. قال
(...) وعن أبي القاسم عن
مالك الشامي أن أبا إدريس الحولاني كان يأتي أصحابه ويقول : اللّهمّ أعذني و
(...) جرف إلى جهنم.
سفيان الثوري عن منصور عن
إبراهيم في
قوله تعالى
{ولا تحملنا مالا طاقة لنا به}.
قال : المشقة.
وعن أبي القاسم عبد اللّه بن
يحيى بن عبيد
قال : سمعت أبا
القاسم عبد اللّه بن أحمد
قال : سمعت محمد بن عبدالوهاب
{ولا تحمّلنا مالا طاقة لنا به}.
قال :
يعني العشق. قال
خباب : حضرت مجلس ذي النون المصري في فسطاطه،
فتكلّم ذلك اليوم في محبّة
اللّه فمات أحد عشر نفساً في المجلس،
فصاح لا يحل من المزيد بر فقال : يا أبا
القيس ذكرت محبة اللّه فاذكر محبّة المخلوقين،
فتأوّه ذو النون تأوّها شديداً
ومدّ يده إلى وجهه ووقف منتصباً وقال له : خلقت قلوبهم واستعبرت عيونهم وتألّفوا
السهاد،
وفارقوا الرقاد فليلهم طويل
نومهم وقليل أحزانهم لا تعد وهمومهم لا تعقد،
أمورهم عسيرة ودموعهم غزيرة
باكية عيونهم قريحة جفونهم.
(عاداهم) الرفاق والأهل والجيران. وقال يحيى : لو تركت العقوبة بيداي
يوم القيامة ما عذّبت العشّاق؛ لأن ذنوبهم اضطراراً لا اختياراً.
قال ابن جريج : هو مسخ القردة
والخنازير،
وقال بعضهم : هو شماتة الأعداء. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب
بن منبّه
قال : قيل لأيّوب
ج : ما كان أشق عليك في طول بلائك؟
قال : شماتة الأعداء. وأنشد ابن الأعرابي :
كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى
فتهون غير شماتة الحُسّاد
إنّ المصائب تنقضي أيامها
وشماتة الأعداء بالمرصاد
وقيل : هو القطيعة والفرقة نعوذ باللّه منها.
وقيل : قطع
الأوصال أيسر من قطع الوصال،
وقال النظّام : لو كان للبين
صورة لما
(راع) الذنوب
ولهدّ الجبال ولجمر الغضا أقل من
(...) ولو عذّب اللّه
سبحانه أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى
(حرّ العذاب).
{وَاعْفُ عَنَّا} .
أي تجاوز واصفح عن تقصيرنا وذنوبنا.
{وَاغْفِرْ لَنَا} . واستر
علينا ذنوبنا وتجاوز عنها ولا
(تعاقبنا)
{وَارْحَمْنَآ} . فإنا لا ننال العمل لطاعتك ولا ترك معصيتك إلاّ برحمتك،
وقيل : واعف عنّا من المسخ،
واغفر لنا عن السيئات،
وارحمنا من القذف.
وقيل : واعف
عنّا،
من الأفعال،
واغفر لنا من الأقوال،
وأرحمنا من العقود والأضمان.
وقيل : واعف
عنّا الصغائر،
وأغفر لنا الكبائر،
وأرحمنا بتثقيل الميزان مع
إفلاسنا.
وقيل : وأعف
عنّا في سكرات الموت،
وأغفر لنا في ظلمة القبر،
وارحمنا في ظلمة القبر.
{أَنتَ مَوْلَانَا} .
أي ناصرنا وحافظنا ووليّنا ووال بنا
{فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
عطاء عن سعيد عن ابن عباس في
قول اللّه تعالى :
{الرَّسُولُ بِمَآ} . إلى
قوله :
{وَإِلَيْكَ
الْمَصِيرُ} .
قال : قد غفرت لكم
{يُكَلِّفُ
اللّه نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} .
قال : لا أواخذكم
{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا} .
قال : لا أحمل عليكم.
{ولا
تحمّلنا مالا طاقة لنا به}.
قال : لا
أُحمّلكم
{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ
أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
قال : قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين.
وروى سفيان عن أبي إسحاق عن رجل
عن معاذ بن جبل أنّه كان إذا ختم البقرة
قال : آمين.
يتلوه سورة آل عمران.
والحمد للّه ربّ العالمين وصلّى
اللّه على محمد خير الأوّلين والآخرين وعلى آله الطيّبين الطاهرين أجمعين وسلّم.
قال مسروق : نعم كنز الصعلوك
سورة البقرة وآل عمران يقرأهما من آخر الليل.
وقال وهب بن منّبه : من قراء
ليلة الجمعة سورة البقرة وآل عمران كان له نور مابين عجيباً إلى غريباً وعجيباً
الأرض السابعة وغريباً العرش.
وقال مسروق : مَنْ قرأ سورة
البقرة في ليلة توّج بها.
وفي الحديث السورة التي يذكر
فيها البقرة فسطاط القرآن.
سؤال : فإنّ قيل : أيجوز أن
يحمّل اللّه أحداً مالا يطيق؟.
قال الزجاج : قيل له : إن أردت
ماليس في قدرته،
فهو محال،
وإن أردت ما يثقل عليه،
فللّه تعالى أن يفعل من ذلك ما
شاء لأن الذي كلّفه بني اسرائيل من قتل أنفسهم ثقل عليهم. وهذا كقولك : ما أُطيق
كلام فلان،
فليس المعنى ليس في قدرتك ولكن
معناه أن يثقل عليك.
فإن قيل : هل يجوز على العادل
أن يكلّف فوق الوسع؟.
قيل : قد أخبر عن سعته ورحمته
وعطفه على خلقه كما نفى الظلم عن نفسه،
وإن كان لا يتوهّم منه الظلم
بحال.
وقال قوم : لو كلّف فوق الوسع لكان له؛ لأن الخلق خلقه والأمر أمره،
ولكنّه أخبر أنّه لا يفعله
والسلام. |
﴿ ٠ ﴾