٢٤٣

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} الآية،

قال أكثر المفسّرين : كانت قرية يقال لها داوردان قِبلَ واسط وقع بها الطاعون،

فخرجت طائفة هاربين من الطاعون،

وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية،

وسلم الذين خرجوا،

فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين،

فقال الذين بقوا : أصحابنا كانوا أحزم منا،

لو صنعنا كما صنعوا لبقينا،

ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ إلى أرض نأوي بها،

فوقع الطاعون من قابل؛ فهرب عامّة أهلها فخرجوا حتى نزلوا وادياً أفيح،

فلمّا نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة والحياة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعاً.

وعن الأصمعي قال : لما وقع الطاعون بالبصرة خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده وخلفه عبد حبشي يسوق حماره،

فطفق العبد يرتجز وهو يقول :

لن نسبق اللّه على حمار

ولا على ذي منعة مُطار

قد يصبح اللّه أمام الساري

فرجع الرجل بعياله لمّا سمع قوله،

وروى عبد الرحمن بن عوف عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه،

وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه).

وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي : إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم،

فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلّوا،

وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء،

فأرسل اللّه تعالى عليهم الموت،

فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم خرجوا {مِّن دِيَارِهِمْ} فراراً من الموت،

فلمّا رأى الملك ذلك قال : اللّهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك،

فلمّا خرجوا قال لهم اللّه : موتوا،

عقوبة لهم،

فماتوا جميعاً،

وماتت دوابهم كموت رجل واحد،

فأتى عليهم ثمانية أيام حتى انتفخوا وأروّحت أجسادهم،

فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها.

واختلفوا في مبلغ عددهم،

فقال عطاء الخراساني : كانوا ثلاثة آلاف،

ابن عباس ووهب : أربعة آلاف،

مقاتل والكلبي : ثمانية آلاف،

أبو روق : عشرة آلاف،

أبو مالك : ثلاثون ألفاً،

الواقدي بضعة ومائتين ألفاً،

ابن جريج : أربعين ألفاً،

عطاء بن أبي رياح : سبعين ألفاً،

الضحّاك : كانوا عدداً كبيراً،

وأَولى الأقاويل بالصواب قول من قال : زادوا على عشرة آلاف،

وذلك أنّ اللّه تعالى قال {وَهُمْ أُلُوفٌ} وما دون العشرة لا يقال ألوف،

إنّما يقال : ثلاثة آلاف فصاعداً إلى عشرة آلاف،

فمن الألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف،

مثل يوم وأيام،

ووقت وأوقات،

وألف على وزن أفعل.

(وقيل : ) كانوا ثلاثة آلاف (وكيسة) اليمان أعجمي من بني الفداحم.

قالوا : فأتى على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطّعت أوصالهم،

فمرّ عليهم نبي يقال له حزقيل بن بوري ثارم أحد خلفاء بني إسرائيل بعد موسىج،

وذلك بأنّ القيّم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسىج يوشع بن نون،

ثم كالب بن يوفنا،

ثم حزقيل،

وكان يقال له ابن العجوز وذلك أنّ أمه كانت عجوزاً فسألت اللّه تعالى الولد،

وقد كبرت وعقمت فوهبه اللّه لها فلذلك قيل له : ابن العجوز.

قال الحسن ومقاتل : هو ذو الكفل لأنّه تكفل سبعين نبيّاً وأنجاهم من القتل،

وقال لهم : اذهبوا فإني إنْ قُتلت كان خيراً من أن تقتلوا جميعاً،

فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين،

قال : إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم،

ومنع اللّه ذا الكفل من اليهود،

فلمّا مرّ حزقيل على أُولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجباً منهم،

فأوحى اللّه إليه : يا حزقيل تريد أن أريك آية،

فأريك كيف أحيي الموتى؟

قال : نعم،

فأحياهم اللّه. هذا قول السدي وجماعة من المفسّرين.

وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء : بل دعا حزقيل ربّه أن يحييهم،

فقال : ياربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمّروا بلادك وعبدوك،

فقال اللّه : أتحب أن أفعل؟

قال : نعم،

فأحياهم.

وقال عطاء ومقاتل والكلبي : بل هم كانوا قوم حزقيل أحياهم اللّه تعالى بعد ثمانية أيام،

وذلك أنّهم لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى وبكى وقال : ياربّ كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدّسونك ويهللونك ويكبّرونك؛ فبقيت وحيداً لا قوم لي،

فأوحى اللّه إليه : إني قد جعلت حياتهم إليك،

فقال حزقيل : احيوا بأمر اللّه،

فعاشوا.

وقال : وثمّت أصابهم بلاء وشدّة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا : ما لبثنا،

متنا واسترحنا مما نحن فيه؛ فأوحى اللّه تعالى إلى حزقيل : إن قومك قد صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا واستراحوا وأي راحة لهم في الموت،

أيظنون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت،

فانطلقْ إلى جبّانة كذا فإن فيها قوماً أمواتاً،

فأتاهم فقال اللّه : يا حزقيل قم فنادهم،

وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرّقت،

فنادى حزقيل : أيتها العظام إنّ اللّه يأمركِ أن تكتسي باللحم،

فاكتست جميعاً باللحم،

وبعد اللحم جلداً ودماً وعصباً وعروقاً وكانت أجساداً،

ثم نادى أيّتها الأرواح إنّ اللّه يأمرك أن تعودي في أجسادك،

فقاموا جميعاً وعليهم ثيابهم التي ماتوا فيها،

وكبّروا تكبيرة واحدة.

وروى المنصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أُحيوا : سبحانك ربّنا وبحمدك،

لا إله إلاّ أنت،

فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم اللّه،

وتناسلوا وعاشوا دهراً يعرفون أنهم كانوا موتى،

سحنة الموت على وجوههم،

لا يلبسون ثوباً إلاّ عاد دسماً مثل الكفن حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت عليهم.

قال ابن عباس : فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح.

قال قتادة : مقتهم اللّه تعالى على فرارهم من الموت،

فأماتهم (عقربة) ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها،

ولو كان آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم،

فذلك قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا} ألمْ ترَ أي ألمْ تُخبر،

ألمْ تعلم بإعلامي إيّاك وهو رؤية القلب لا رؤية العين؛ فصار تصديق أخبار اللّه عزّ وجلّ كالنظر إليه عياناً.

وقال أهل المعاني : هو تعجب وتعظيم يقول : هل رأيت مثلهم كما تقول : ألمْ ترَ إلى ما يصنع فلان؟

وكلّ لم في القرآن من قوله {أَلَمْ تَرَ} ولم يعاينه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فهذا وجهه ومعناه،

وقرأها كلّها أبو عبد الرحمن السلمي {أَلَمْ تَرَ} بسكون الراء وهي لغة قسم من العرب لمّا حذفوا الياء للجزم توهّموا أن الراء آخر الكلمة فسكّنوها،

وأنشد الفراء :

قالت سليمى سرْ لنا دقيقا

إلى الذين خرجوا من ديارهم {وَهُمْ} واو الحال {أُلُوفٌ} جمع ألف،

وقال ابن زيد : مؤتلف قلوبهم جعله جمع ألف مثل جالس وجلوس وقاعد وقعود {حَذَرَ الْمَوْتِ} أي من خوف الموت {فَقَالَ لَهُمُ اللّه مُوتُوا} أمر تحويل كقوله {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} .

{ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} من بعد موتهم {إِنَّ اللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} إلى {يَشْكُرُونَ} ثم حثّهم على الجهاد فقال : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّه} طاعة اللّه،

﴿ ٢٤٣