٣٧

{فَتَقَبَّلَهَا} : أي تقبل اللّه من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر،

يقال : قبل ولأن الشيء إذا رَضَيَه يقبله قبولاً بالفتح مصدر،

مثل الزارع والزروع والقبول،

ولم يأت غير هذه الثلاثة،

والقياس الضم مثل الدخول والخروج،

قاله أبو عمر والكسائي والأئمّة،

وقال بعضهم : معنى التقبّل : التكفّل في التربية والقيام بشأنها.

وقال الحسن : قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل.

{رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} : ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له : المصدر على غير المصدر.

قال الفرّاء : مثل قولك تكلمت كلاماً.

قال الفطامي : وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه إتباعاً.

وقال آخر : وإن مشيتم تعاودنا عوادا،

ولم يقل : تعاودوا.

{وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} : ولم يقل : إنباتاً.

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يقول : سلك بها طريق السعداء {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} : يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد.

ابن جريج : أنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً حتى تمت امرأة بالغة تامة.

{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} : قال المفسرون : أخذتها أمّ مريم حين ولدتها،

فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد،

فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة،

فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار؛ لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم،

فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها؛ (لأن) عندي خالتها.

فقال له الأحبار : لا تفعل ذلك؛ فإنّها لو تركت وحقُّ الناس بها لتركت لأُمها التي ولدتها،

ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه،

فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جاري.

قال السدي : هو نهر الأردن،

فألقوا أقلامهم في الماء،

فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم (ورسبت) في النهر،

قاله ابن إسحاق وجماعة.

وقال السدي وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان الماء (فذهب بها الماء)،

فسهمهم وقرعهم زكريا،

وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها.

قال ابن إسحاق : فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها،

حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محراباً : أي غرفة في المسجد،

وجعل بابه إلى وسطها،

لا يرقى إليها إلاّ بسلّم مثل باب الكعبة،

فلا يصعد إليها غيره،

وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم.

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} : يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها،

فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّاً طريّاً. {قال يا مريم أنّى لكِ هذا} فإنّها كانت إذا رزقها اللّه شيئاً وسألت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

(أخبرنا عبداللّه بن حامد بإسناده عن جابر بن عبداللّه : أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أقام أيّاماً لم يُطعم طعاماً،

حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه،

فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً،

فأتى فاطمة رضي اللّه عنها فقال : (يا بنيّة هل عندكِ شيء آكلُ فإنّي جائع؟)

فقالت : لا واللّه بأبي أنتَ وأمّي،

فلمّا خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من عندها،

بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم،

فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت : لأوثرنّ بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على نفسي ومن عندي،

وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام،

فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فرجع إليها،

فقالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه قد أتانا اللّه بشيء فخبّأته لك،

قال : (فهلمّي به)،

فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً،

فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة اللّه،

فحمدت اللّه تعالى وصلّت على نبيّه،

فقال (عليه السلام) : (من أين لك هذا يا بنيّة؟)

قالت : هو من عنداللّه إنّ اللّه يزرق من يشاء بغير حساب،

فحمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل،

فإنّها كانت يرزقها اللّه رزقاً حسناً فسُئِلت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه إِنَّ اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ).

فبعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى علي رضي اللّه عنه،

ثم أكل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا.

قالت فاطمة : وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل اللّه فيها بركة وخيراً.

قال أهل التفسير : فلما رأى زكريا ذلك قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاماً على الكبر،

فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد إنقرضوا،

وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.

﴿ ٣٧