٣٩

{فَنَادَتْهُ الْمَلَاكَةُ} : قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : فناديه بالياء،

وأبو عمارة وأبو عبيدة،

وقرأ الباقون : بالتّاء وأخياره أبو حاتم : فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إنْ شئت أنَّثت وإن شئت ذكَّرت،

إلاّ أنّ من قرأ بالتاء؛ فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله : {قَالَتِ اعْرَابُ ءَامَنَّا} ،

ومَن ذكّر خلها.

روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم،

قال : كان عبد اللّه يُذكّر الملائكة في القرآن،

قال أبو عبيدة : إنمايرى (أن) اللّه اختار ذلك خلافاً على المشركين في قولهم : الملائكة بنات اللّه فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم.

وروى الشعبي أن ابن مسعود قال : إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءاً وذكّروا القرآن.

وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة ههنا : جبريل وحده؛ وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان،

وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول،

فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول،

إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل : يا زكريا {أَنَّ اللّه يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} فذلك قوله : {فَنَادَتْهُ الْمَلَاكَةُ} : يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة {واذ قالت الملائكة يا مريم} : يعني جبريل وحده،

وقوله في النحل : {يُنَزِّلُ الْمَلَاكَةَ} : يعني جبريل ما يروح بالوحي؛ لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل (عليه السلام)،

يأت عليه قوله ابن مسعود،

فناداه جبريل {وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} : وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : ركب فلان في السفن،

وإنما ركب سفينة واحدة،

وخرج على بغال البريد،

وإنما على بغل واحد،

وسمعت هذا الخبر من الناس،

وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} : يعني نعيم بن مسعود. {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة.

وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع؛ لاجتماع أصحابه معه،

فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يُبعث إلاَّ ومعه جمع منهم فهي على هذا.

{وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} : يعني في المسجد،

نظيره قوله : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} : أي المسجد،

وقوله : {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} : أي المسجد،

وهو مفعال من الحرب،

قيل : سمي بهذا؛ لأنّه تحارب فيه الشيطان،

كما قيل : مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل،

وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن،

وفخّمه الآخرون.

{إِنَّ اللّه} قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة : بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت : إن اللّه؛ لأن النداء قول.

وقرأ الباقون : بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال : فنادته الملائكة أن اللّه يُبشرك.

وقرأ عبد اللّه : {وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ} يا زكريا إن اللّه {يُبَشِّرُكِ} : اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة : موضعين ههنا وفي التوبة {يُبَشِّرُهُمْ} ومريم وفي الحجر {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} ،

و {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} وفي سبحان والكهف {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ،

وفي مريم موضعين : {يا زكريا إنا نبشرك} وو{لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} ،

وفي حم عسق : { ذلك الَّذِى يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ} فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة،

وهو قوله : {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها : حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها.

وقرأ يحيى بن رثاب والكسائي خمسة منها مخففة،

موضعين ههنا وفي سبحان والكهف وعسق.

وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفاً واحداً وهو قوله : في {حم، عسق ذلك} النبي {الَّذِى يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ} .

وقرأها كلها حميد بن قيس : بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها.

الباقون : بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده،

فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يُبشر،

قال الشاعر :

يا أُمّ عمرو أبشري بالبشرى

موتُ ذريع وجراد عظلي

ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر،

وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر :

نشرت عوالي إذ رأيتُ حيفة

ماسك من الحجّاج تعلى كتابها

وقال الفرّاء :

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى

غبراً أكفهم بقاع ممحل

فأعنهم وأبشر بما بشروا به

وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل

روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي،

قال : من قرأ يبشرهم مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشّرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور،

يسرّهم،

وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه : إن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال لرجل : إن اللّه يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاماً.

ومن قرأ بالتشديد من بشر يُبشر بشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحهم. قال جرير :

يا بشر حق لوجهك التبشير

هلا غضبت لنا وأنت أمير

ودليل التشديد : إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله : {فبشر عبادي الذين} ،

{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} ،

{قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} .

{يَحْيَى} : هو اسم لا يجري لمعرفته،

والمزايد في أوله مثل : يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم؛ لأجل الياء وفخّمه الآخرون،

وجمعُهُ (يحيون) مثل موسون وعسون،

واختلفوا فيه لِمَ سُمي (يحيى).

قال ابن عباس : لأن اللّه أحيا به عقر أُمه. قتادة : لأن اللّه أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم : لأن اللّه أحيا قلبه بالنبوة.

الحسن بن الفضل : لأن اللّه أحياه بالطاعة حتى لم يعصِ ولم يهم بمعصية.

ما روى عن ابن عباس،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ما من أحد إلاَّ ويلقى اللّه عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلاَّ يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها.

قال الثعلبي : (سمعت) الاستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول : سُمي بذلك؛ لأنه أُستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من هوان الدنيا على اللّه إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة).

قال الثعلبي : وسمعت أبا منصور (الجمشاذي) يقول : عن عمر بن عبيد اللّه المقدسي : أوحى اللّه إلى إبراهيم الخليل : أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها : أني مخرج منكما عبداً لا يموت بمعصيتي اسمه حيى فهبي له من اسمك حرفاً،

فوهبت له أول حرف من إسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة.

{مُصَدِّقَا بِكَلِمَةٍ} : نصب على الحال {مِنَ اللّه} : يعني عيسى (عليه السلام) سُمي كلمة؛ لأن اللّه قال له : كن من غير أب فكان،

فوقع عليه اسم الكلمة؛ لأنه كان بها،

ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه،

وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر،

وكانا ابني خالة،

ثم قُتل يحيى قبل أن يرفع عيسى (عليهما السلام).

وقال أبو عبيدة وعبدالعزيز بن يحيى : بكلمة من اللّه وآياته،

يقول : أنشدني كلمة فلان : أي قصيدته.

{وَسَيِّدًا} : من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود،

وهو الرئيس الذي يتَّبع ويُنتهى إلى قوله.

قال المفضل : أراد سيداً في الدين.

شريك عن أبي روق عن الضحاك قال : السيد الحسن الخلق.

وروى شريك بإسناده أيضاً عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل.

سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم. قتادة : سيد في العلم والصوم،

سعيد بن جبير : الحليم،

الضحّاك : التقي،

عكرمة : الذي لا يغضب،

مجاهد : الكريم على اللّه،

ابن زيد : الشريف الكبير،

سفيان الثوري : الذي لا يحسد.

روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال : الحسود لا يسود.

قال الخليل بن أحمد : مطاعاً.

الزجّاج : هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه.

أحمد بن عاصم : السيد القانع بما قسم له.

أبو بكر الورّاق : الراضي بقضاء اللّه تعالى.

محمد بن علي الترمذي : المتوكل على اللّه.

أبو زيد البسطامي : هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره،

لم يُحدث نفسه بدار الدنيا،

وقيل : هو السخي.

روى ابن الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من سيدكم يا بني سلمة؟

قالوا : جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال : وأيُّ داء أدوى من البخل،

بل سيدكم عمرو بن جموح.

روى عبد اللّه بن عباس : إنه كان قاعداً مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فجاءه بضعة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر،

فسلموا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وعلى القوم،

ثم قالوا : مَن السيد منكم؟

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،

فعرفوا أنه رسول اللّه،

فقالوا : فما في أمتك سيد،

قال : بلى رجلٌ أعطى مالاً حلالا ورُزِقَ سماحةً،

وأدنى الفقراء وقلتْ شكايتهُ.

وروى أن أسد بن عبد اللّه قال لرجل من بني شيبان : بلغني أن السودد فيكم رخيص. فقال : أما نحن فلا نسود إلاَّ من يعطينا رحله،

ويفرش لنا عرضه،

ويعطينا ماله. فقال : واللّه إن السودد فيكم لغال.

{وَحَصُورًا} : أصله من الحصر وهو الحبس،

يُقال : حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته،

وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منهُ،

وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها،

ومنه احصار العدو. قال اللّه تعالى : {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} : أي محبساً. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسهُ ولا يظره حُصر.

قال جرير :

ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا

حصراً بسركِ يا أميم ضنيناً

فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ،

فهو على هذا القول : مفعول بمعنى فاعل يعني : أنه يحصر نفسه عن الشهوات.

وقال سعيد بن المسيب والضحّاك : هو العنّين الذي لا ماء له،

ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة،

قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (كل ابن آدم يلقى اللّه بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصورا).

{وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} : ثم أهوى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : (كان ذكره مثل هذه القذاة).

وقال المبرد : الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل،

وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل :

وشاربُ مربح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسوار

فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة

﴿ ٣٩