١٨٠

{وَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَ اهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} .

من قرأ بالياء جعل هو (ابتداء) وجعل الاسم مضمراً وجعل الخير خيراً بحسبان تقديره : ولا تحسبن الباخلون البخل خيراً لهم،

فاكتفا بذكر (يبخلون) من البخل كما تقول في الكلام : قد قدم زيد فسررت به،

وأنت تريد سررت بقدومه.

قال الشاعر :

إذا نهي السفيه جرى إليه

وخالف والسفيه إلى خلاف

أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله : {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} هو ابتداء والحق خبر كان،

وقوله : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} .

ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل،

كما ذكرنا في آية الاملاء،

قال اللّه تعالى : {بَلْ هُوَ} يعني البخل {شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

قال المبرد : السين في قوله : {سَيُطَوَّقُونَ} سين الوعيد وتأويلها : سوف يطوقون،

واختلفوا في معنى الآية :

فقال قوم : معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه،

تقول : أنا مالك،

فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل،

وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي (وائِل) وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي،

ويدل عليه ما روى أبو وائل عن عبد اللّه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلاّ جُعل له شجاع في عنقه يوم القيامة) ثم قرأ علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مصداق من كتاب اللّه تعالى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

وعن رجل من بني قيس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل اللّه إيّاه فيبخل به عنه إلاّ أخرج اللّه له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه) ثم تلا {وَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الآية.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلاّ مثله اللّه شجاعاً أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلاّ استعاذ منه حتى دنا من صاحبه،

فإذا دنا من صاحبه أعوذ باللّه منك،

قال : لمَ تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله اللّه جهنّم)

وتصديق ذلك في القرآن {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .

فقال إبراهيم النخعي : معناه يُجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار.

مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة.

المؤرّخ : يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق،

يقال : طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة.

عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مانع الزكاة يوم القيامة في النار).

هشام بن عروة عن أبيه قال : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تخالط الصدقة مالا إلاّ أهلكته).

عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما حبس قوم الزكاة إلاّ حبس اللّه عنهم القطر).

وعن الحسن البصري قال : كان أعرابي صاحب ماشية،

وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه،

فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه،

فلما انتبه قال : واللّه لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيراً. قال : وكان بعد ذلك يقسم.

قال الثعلبي : أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد اللّه قال : أنشدنا العلائي قال : أنشدني المهدي بن سابق :

يا مانع المال كم تضمن به

أتطمع باللّه في الخلود معه

هل حمل المال ميت معه

أما تراه لغيره جمعه

ابن سعيد عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ونبوته،

وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم اللّه،

يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَ اهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ} الآية،

ومعنى قوله : {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى : {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ،

{وللّه ميراث السماوات والأرض} يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم،

نظيره قوله : {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} .

{وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء،

الباقون : بالتاء.

﴿ ١٨٠