سورة النساءمدنية، وهي ستة عشر ألف وثلاثين حرفاً، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعين كلمة ومائة، وست وسبعين آية عن أبي أُمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ورث ميراثاً، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرراً وبرئ من الشرك وكان في مشيئة اللّه من الذين يتجاوز عنهم). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة} يعني آدم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر {وَبَثَّ} نشر وأظهر {مِنْهُمَا رِجَا كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللّه الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ} تسألون به، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفاً كقوله : {وَ تَعَاوَنُوا} ونحوها، {والأرحام} . قرأة العامة : نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها. وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة : بالخفض على معنى وبالأرحام، كما يقال : سألتك باللّه والرحمن، ونشدتك باللّه والرحمن، والقراءة الأولى أصح وأفصح، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى، إلاّ أن يعيدوا الخافض فيقولون : مررت به وبزيد، أو ينصبون. كقول الشاعر : يا قوم مالي وأبي ذويب إلاّ أنه جائز مع قوله، وقد ورد في الشعر. قال الشاعر : فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا اذهب فمالك والأيام من عجب وأنشد الفراء لبعض الأنصار : نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف وقرأ عبد اللّه بن يزيد المقبري : (والأرحام) رفعاً على الابتداء، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله {تَسَآءَلُونَ بِهِ} ثم ابتدأ كما يقال : زيد ينبغي أن يكرم، ويحتمل أن يكون إغراء، لأن العرب من يرفع المغري. وأنشد الفراء : أين قوماً منهم عمير وأشباه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قال أخو النجدة السلاح السلاح {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي حافظاً، ٢قيل : بمعنى فاعل {وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية. قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه فترافع إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال : أطعنا اللّه وأطعنا الرسول، نعوذ باللّه من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من يوق شح نفسه ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره) يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ثبت الأجر وبقي الوزر). فقالوا : يا رسول اللّه قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر؟ وهو بقي في سبيل اللّه. فقال : (يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء). وقوله تعالى : {الْيَتَامَى} فلا يتم بعد البلوغ، ولكنه من باب الاستعارة، كقوله : {وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} ولا سحرة مع السجود، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود، وقوله : {وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي من كانوا يتامى إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً، نظيره : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، {وَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم، نظيره قوله : {لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته : فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك : كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول : درهم بدرهم، فذلك تبدلهم فنهاهم اللّه تعالى عنها. عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. وقال ابن زيد : (وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان) لا يورثوهن شيئاً فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث. مجاهد وباذان : لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي مع أموالكم، كقوله : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه} . وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري : يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر أي مع غنن. {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} أي إثماً عظيماً، وفيه ثلاث لغات : قرأه العامة : حُوباً بالضم، وهي لغة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأهل الحجاز، يدل عليه ما روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال : قلت لابن سيرين كيف يُقرأ هذا الحرف : إنه كان حوباً أو حَوباً؟ فقال : إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن طلاق أم أيوب حُوب). وقرأ الحسن : (حَوباً) بفتح الحاء وهي لغة تميم. (وقال مقاتل : لغة الحبش). وقرأ أُبي بن كعب : (حاباً) على المصدر، مثل القال، ويجوز أن يكون اسماً مثل الراد والنار، ويقال للذنب حُوب وحَوب وحاب وللأذناب، كذلك يكون مصدراً واسماً، فقال : حاب يحوب حُوباً وحوباً وحاباً وحباية إذا أثم. قال أبو معاذ : نزلنا منزلا قريباً من مدينة، فرمى رجل غطاية صغيرة (فقيل له) : يا حاج لا تقتلها فتصيب حوباً إنها لا تؤذي، ومنه قيل للقاتل حائب، حكاه الفراء عن بني أسد. وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه : وإن مهاجرين تكنفاه غداتئذ لقد خطئا وحابا وقال آخر : عض على شبدعه الأريب فظل لا يلحي ولا يحوب وقال آخر : وابن ابنها منا ومنكم وبعلها خزيمة والأرحام وعثاء حوبها أي شديد إثمها. وقال آخر : فلا تبكوا عليَّ ولا تحنوا بقول الإثم إن الإثم حوب ٣{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى} الآية، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها : فقال بعضهم : معناها وإن خفتم ألاّ تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن اللّه لكم. وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال : قلت لها ما قول اللّه تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى} فقالت : يابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلاّ أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء. قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها : لا أدخل في رباعي أحداً كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فعاب اللّه عزّ وجلّ ذلك وأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية. عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه، مَالَ على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : امسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس، ومعنى رواية عطية عنه. وقال بعضهم : كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاؤا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل اللّه {وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} الآية، وأنزل أيضاً هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى} يقول : كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز، فما لكم تراقبون اللّه عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن أيضاً : تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم، فأنزل اللّه هذه الآية، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد، فعليكم العدل فيهن، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألاّ تقسطوا، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع، لتعدلوا، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فيهن فواحدة. قال ابن عباس : قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى. مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيماناً وتصديقاً، فكذلك تحرجوا عن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً، ثم بيّن لهم عدداً محصوراً وكانوا يتزوجون ما شاؤا من غير عدد، فأنزل اللّه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا} أي أن لا تعدلوا. وقرأها إبراهيم النخعي : (تَقسطوا) بفتح التاء وهو من العدل أيضاً. قال الزجاج : قسط واقسط واحد، إلاّ أن الأفصح اقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغواً صحّ الكلام، واليتامى جمع لذكران الأيتام. {فَانكِحُوا مَا} . قرأ إبراهيم بن أبي عيلة : (مَن) لأن ما لما لا يعقل ومَن لما يعقل، ومن قرأ (ما) فله وجهان : أحدهما : أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره : فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء، وهذا كما تقول : خذ من رفيقي ما أردت والإخوان، تجعل (ما) بمعنى (من)، والعرب يعقب ما من ومن ما. قال اللّه تعالى {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَ اهَا} وأخواتها، وقال : {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ} الآية. وحكى أبو عمرو بن العلاء : أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : (سبحان ما يسبّح له الرعد)، وقال اللّه : {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} . {طَابَ} حل {لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} . وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش (طاب) : بالإمالة وفي مصحف أُبيّ : (طيب) بالياء، وهذا دليل الإمالة. {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، فلذلك لا يصرفن، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع، وأحاد وثناء وثلاث ورباع، وأحد وثنى وثلث وربع، مثل عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلاّ بيتاً جاء عن الكميت : فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشاراً يعني طعنت عشرة. قالوا : وهاهنا بمعنى (لو للتحقيق) كقوله {إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا للّه مَثْنَى وَفُرَادَى} وقوله {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وهذا إجماع الأمة، وخصائص النبي (صلى اللّه عليه وسلم) غير مشتركة. الكلبي عن خميصة بنت الشمردل : أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر، قال : فلما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول اللّه قد أنزل اللّه عليك تحريم تزوج الحرائر إلاّ أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة، قال : (فطلّق أربعاً وأمسك أربعاً). قال : فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي، فيقول للتي طلق أنشدك اللّه والمحبة قال : فطلقت أربعاً وأمسكت أربعاً. {فَإِنْ خِفْتُمْ} خشيتم، وقيل : علمتم {أَلا تَعْدِلُوا} بين الأربع {فَوَاحِدَةً} . قرأ العامة : بنصب. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر : (فواحدةٌ) بالرفع، أي فليكفيكم واحدة، أي واحدة كافية، كقوله عزّ وجلّ : {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} . {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني الجواري والسراري، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن، وذكر الإيمان بيان تقديره {أَوْ مَا مَلَكَتْ} . وقال بعض أهل المعاني : (أو ما ملكت أيمانكم) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة، واحتج بقوله (صلى اللّه عليه وسلم) (لا نذر في معصية اللّه ولا فيما لا يملك ابن آدم). { ذلك أَدْنَى} أقرب {أَلا تَعُولُوا} . عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله عزّ وجلّ : { ذلك أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} قال : (ألاّ تجوروا). وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضاً عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله عزّ وجلّ : { ذلك أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} أن لا تميلوا، وأكثر المفسرين على هذا. قال مقاتل : هو لغة جرهم، يقال : ميزان عائل، أي مائل. وكتب عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : أني لست بميزان لا أعول. وأنشد عكرمة لأبي طالب : بميزان صدق لا يغل شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل وقال مجاهد : ذلك أدنى ألاّ تضلوا. وقال الفراء والأصم : أن لا تجاوزوا ما فرض اللّه عليكم، وأصل العول المجاوزة، ومنه عول الفرائض. وقال الشافعي : أن لا تكثر عيالكم وما قال هذا أحد غيره وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله. قال أبو حاتم : كان (الشافعي) أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة. قال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير. وأنشد : وإنّ الموت يأخذ كل حيّ بلاشك وإن أمشى وعالا أي كثرت ماشيته وعياله. قال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحناً. وقرأ طلحة بن مصرف : ألاّ تعيلوا، وهو قوة قول الشافعي. وقرأ بعضهم : ألاّ تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا. قال الشاعر : ولا يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل وقرأ طاووس : لا تعيلوا من العلة. روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل). ٤{وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . قال الكلبي وجماعة من العلماء : هذا خطاب للأولياء، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيراً، وان كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئاً غير ذلك البعير، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها. قال بعض النساء في زوجها : لا تأخذ الحلوان من بناتها تقول : لا يفعل ما يفعله غيره، فنهاهم اللّه عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله. قال الحضرمي : كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا شغار في الإسلام). وقال آخرون : الخطاب للأزواج أُمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه، لأن اللّه تعالى خاطب الناكحين فيما قبله، وهذا أصل خطابهم. والصَدُقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع، وهي لغة أهل الحجاز وتميم. يقول صُدقة بضم الصاد وجزم الدال، فإذا جمعوا قالوا : صُدقات بضم الصاد وسكون الدال، وصُدُقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات، وظلمات نظيرها المثلات، لغة تميم مثلة ومثلات ومَثُلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز. {نِحْلَةً} قال قتادة : فريضة واجبة، ابن جريح وابن زيد : فريضة مسمّاة. قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة مسماة معلومة، الكلبي : عطية وهبة، أبو عبيدة : عن طيب نفس، الزجاج : تديناً، وفيه لغتان : نِحلة ونَحلة، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر. روى مرثد بن عبد اللّه عن عقبة بن عامر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج). وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقى اللّه عزّ وجلّ سارقاً، ومن أصدق امرأة صداقاً وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى اللّه عزّ وجلّ زانياً). {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها، فخرجت النفس مفسرة، ولذلك وحَدَّ النفس، كما يقال : ضاق به ذرعاً وقرَّ به عيناً، قال اللّه تعالى : {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} . وقال بعض نحاة الكوفة : لفظها واحد ومعناها جمع، والعرب تفعل ذلك كثيراً. قال الشاعر : بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب وقال آخر : في حلقكم عظم وقد شجينا وقال بعض نحاة البصرة : إذا ما دنا الليل المضى بذي الهوى والهوى مصدر، والمصادر لا تجمع {فَكُلُوهُ} أي خذوه واقبلوه {هنيئا مريئا} قال الحضرمي : إن أُناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته، فقال اللّه : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً أي سائغاً طيباً، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب، معناه فكلوه هنيئاً شافياً معافياً، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة، والمصدر منهما هنؤ يقال : هنأني ومرأني بغير ألف فيها، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني بالألف وقيل الهنى الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء، والمرىء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي، يقول : لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة، يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه سأل عن هذه الآية {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} قال : (إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم اللّه تعالى به في الآخرة). روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال : (هنيئاً) لا إثم فيه (مريئاً) لاداء فيه في الآخرة. وروى شعبة عن علي قال : إذا ابتلى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلاً، فليشربه بماء السماء فيجمع اللّه له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك. ٥{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا} الآية. اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال قوم : هم النساء. قال الحضرمي : عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. مجاهد : نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجاً أو كن أو بنات أو أُمهات. جويبر عن الضحاك : النساء من أسفه السفهاء، يدل على صحة هذا التأويل ما روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألا إنما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثاً ألا وإن السفهاء النساء إلاّ امرأة أطاعت قيّمها). أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال : جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : بأبي وأمي أنت يا رسول اللّه قُل فينا خيراً مرة واحدة، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ. قال : (أي شيء قلت لكُنّ؟) قالت : سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص. فقال : (وكفى نقصاناً أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنَّ، أما يكفي إحداكنَّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل اللّه، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل اللّه، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير). قالت السوداء : يا له فضلاً لولا ما تبعه من الشرط. وروى عاصم عن مورق قال : مرّت امرأة بعبد اللّه بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر : {ولاتؤتوا السفهاء أموالكم}. وقال معاوية بن قرة : عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات، إن أطعت المرأة أهلكتك. وقال آخرون : هم الأولاد، وهي رواية عطية عن ابن عباس. قال الزهري وأبو مالك وابن يقول : لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد اللّه فيفسده، وقال بعضهم : هم النساء والصبيان. قال الحسن : هي امرأتك السفيهة وأبنك السفيه. قتادة : أمر اللّه بهذا المال أن يُخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره، قال اللّه تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} . عبيد عن الضحاك : ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أرباباً. ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك اللّه تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. الكلبي : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد، فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله ليفسده. وقال السدي : لا تُعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم. وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مال اليتيم يكون عندك، يقول : لا تؤته إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ، فإن قيل على هذا القول : كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال : (أموالكم) وهي أموال السفهاء؟ قيل : إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله اللّه أموالا للناس كقوله : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه} وقوله : {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ردّها إلى الجنس، أي الجنس الذي هو جنسكم. وقال محمد بن جرير : إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره. روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال : ثلاثة يدعون اللّه فلا يستجيب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه، ورجل أعطى سفيهاً ماله وقد قال اللّه {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} أي الجهال بموضع الحق. {أَمْوَالَكُمُ الَّتِى} . قرأ الحسن والنخعي : اللاتي، وهما بمعنى واحد. وأنشد : من اللواتي والتي واللاتي زعمن أني كبرت لذاتي فجمع بين ثلاث لغات. قال الفراء : العرب تقول في جمع النساء : اللاتي، أكثر مما تقولون : التي، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء : التي، أكثر ممّا يقولون : اللاتي، وهما جائزان. {جَعَلَ اللّه لَكُمْ قِيَامًا} قرأ ابن عمر (قَواما) بالواو وفتح القاف كالدوام، وقرأ عيسى بن عمر (قِواما) بكسر القاف على الفعل، لأن الأصل الواو. وقال الكسائي : هما لغتان ومعناهما واحد، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول : القوام بالكسر الملاك، والقوام بالفتح امتداد القامة. وقرأ الأعرج ونافع : (قِيّما) بكسر القاف. الباقون : (قياماً) وأصله قواماً فانقلب الواو ياءً، لانكسار ما قبلها، مثل صيام ونيام، وهن جميعاً ملاك الأمر وما يقوم به الإنسان، يقال : فلان قوام أهل بيته، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به. وقال الضحاك : به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وهي فكاك الرقاب من النار. وقال بعضهم : أموالكم التي تقومون بها قياماً. {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} أي أطعموهم {وَاكْسُوهُمْ} لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته، والرزق من اللّه عزّ وجلّ عطية غير محدودة، ومن الناس الاجراء الموظف بوقت محدود، يقال : رزق فلان عياله كذا وكذا، أي أجرى عليهم، وإنما قال : فيها، ولم يقل : منها، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقاً، كأنه أوجب عليهم ذلك. {وَقُولُوا لَهُمْ قولا معروفا} عدة جميلة. وقال عطاء : (قولا معروفاً) إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً. الضحاك : ردوا عليهم رداً جميلا. وقيل : هو الدعاء. قال ابن زيد : إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قولا معروفاً، قل له عافانا اللّه وإيّاك بارك اللّه فيك. وقال المفضل : قولا ليناً تطيب به أنفسهم، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر ٦{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتاً وهو صغير، فأتى عمُ ثابت إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله، فأنزل اللّه تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} أي مبلغ الرجال والنساء {فَإِنْ ءَانَسْتُم} أبصرتم، قال اللّه : {مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ} . قال الشاعر : آنست نبأة وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء وفي مصحف عبد اللّه : فإن أحسنتم بمعنى أحسستم، فحذف إحدى السينين كقولهم : {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} . قال الشاعر : خلا إن العتاق من المطايا أحسن به فهنّ إليه شوس {مِّنْهُمْ رُشْدًا} . قرأه العامة : بضم الراء وجزم الشين. وقرأ السلمي وعيسى : بفتح الراء والشين، وهما لغتان. قال المفسرون : يعني عقلا وصلاحاً وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه. قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخاً، حتى يؤنس منه رشده. قال الضحاك : لا يُعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله. ذكر حكم الآية : اعلم أن اللّه تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين : البلوغ والرشد، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء. ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون غلاماً أو جارية، فإن كان غلاماً رُدَّ النظر في نفقة الدار إليه شهراً أو إعطائه شيئاً نزراً يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه، وإن كان جارية رُدَّ إليها ما يُرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته، فإن رشدا وإلاّ بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء، والتي يشترك فيها الرجال والنساء : فالاحتلام وهو إنزال المني، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ، سواء كان من جُماع أو احتلام أو غيرهما، والدليل عليه قوله : {وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَ ْذِنُوا} وقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : (خذ من كل حالم ديناراً أوعدله من المعافر). واختلف العلماء فيه، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه. وقال أبو حنيفة : إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة، وعنه في الغلام روايتان : أحدهما : تسع عشرة سنة، وهي الأشهر وعليها النظر. وروى اللؤلؤي عنه : ثمان عشرة سنة. وقال مالك وداود : لا يبلغ بالسن ثم اختلفا، فقال داود : لا يبلغ بالسن مالم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة، وقال مالك : بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته. والدليل على أن جدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد اللّه بن عمر قال : عرضت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عام أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني اللّه في المقاتلة. والإنبات وهو أن ينبت : في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج. وللشافعي في الإنبات قولان : أحدهما : أنه بلوغ، والثاني : دلالة البلوغ. وقال أبو حنيفة : لا يتعلق بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه. والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حكّمه في بني قريظة قال : فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة). قال عطية : فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية. وأما ما يختص به النساء : فالحيض والحبل، يدل عليه ما روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (لا يقبل صلاة حائض إلاّ بخمار) فجعلها مكلفة بالحيض، وهذا القول في حدّ البلوغ. فأما الرشد : فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي : هو أن يكون صالحاً في دينه مُصلحاً في ماله، والصلاح في الدين أن يكون متجنباً للفواحش التي يفسق بها، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها. وإصلاح المال : أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبناً فاحشاً، فالرشد شيئان : جواز الشهادة وإصلاح، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إذا بلغ عاقلا مصلحاً لماله، زال الحجر عنه بكل حال، سواء كان فاسداً في دينه أو صالحاً فيه. فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين. ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسداً لماله : فقال أبو يوسف ومحمد : لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلاّ النكاح والعتق، ويبقى تحت الحجر أبداً إلى أن يظهر رشده. وقال أبو حنيفة : إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه، فإن كان مفسداً لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال، سواء كان مفسداً له أو غير مفسد. وقيل : إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطاً لماله، فقال : وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يُحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يُحمل لولده بأثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جداً. قال : وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّاً، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج. وقال مالك : إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة، فالحجر باق عليها، وتمنع من مالها حتى تتزوج، وإذا تزوجت يسلّم مالها، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه، واطلاق في الغلام. والذي يدل على فساد هذا المذهب ما روي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال : (تصدقن ولو من حليكنَّ) فكنَّ تتصدقنَّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها، فأمرهنَّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنَّ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه، فهذا القول في الحجر على الصغير، وبيان حكم قوله : {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، فأما قوله : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية. حكم الكلام في الحجر على السفيه فاختلف العلماء فيه : فقال أبو حنيفة ونفر : لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً. وهو مذهب النخعي، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس : أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه. فاستدعاه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال له : (لا تبع) فقال : لا أصبر عن البيع، فقال له : (إذا بايعت فقل لا خلابه ولك الخيار ثلاثاً). فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل، ثبت أنه لا يجوز. قال الشافعي : إن كان مفسداً لماله ودينه أو كان مفسداً لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين : أحدهما : يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شُريح. والثاني : لا يحجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد اللّه بن جعفر، ومن التابعين شُريح وبه قال من الفقهاء : مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة، ما روى هشام بن عروة عن أبيه : أنّ عبد اللّه بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال : إني اشتريت وأن علياً يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليَّ. فقال الزبير : أنا شريكك في البيع، فقال : عليَّ عثمان. وقال علي : إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه. وقال الزبير : أنا شريكه في البيع، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير. فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر، لأن عبد اللّه بن جعفر خاف من الحجر، والزبير احتال له فيما يمنعه منه، وعليّ سأل ذلك عثمان، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه. {وَلا تَأْكُلُوهَآ} يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها {إِسْرَافًا} والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه، يقال : مررت بكم فسرقتكم، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم. قال جرير : أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم منَ ولا سرف أي خطأ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء {وَبِدَارًا} مبادرة {أَن يَكْبَرُوا} أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم، فقال عز من قائل : {وَمَن كَانَ غَنِيًّا} عن مال اليتيم {فَلْيَسْتَعْفِفْ} عن مال اليتيم، فلا يجوز له قليلا ولا كثيراً، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله، قال اللّه تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ يَجِدُونَ نِكَاحًا} . {وَمَن كَانَ فَقِيرًا} محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} واختلف العلماء فيه : فقال بعضهم : المعروف القرض، نظيره قوله : {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} يعني القرض، ومعنى الآية : تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه. وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. قال مجاهد : ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى، ودليل هذا التأويل ما روى إسرابيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال : قال عمر بن الخطاب : ألا إني أنزلت نفسي من مال اللّه بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت. وقال الشعبي : لا تأكله إلاّ أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة. وقال آخرون : (بالمعروف) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف : فقال عطاء وعكرمة والسدي : يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل، ولا يكتسي منه. وقال النخعي : لا يلبس الحلل ولا الكتان، ولكن ما سدَّ الجوعة ووارى العورة. وقال بعضهم : هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا، فإن أكله فلابد من أن يرده، وهذا قول الحسن وجماعة. قال قتادة : كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها. وقال الضحاك : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئاً. وروى بكر بن عبد اللّه بن الأشج عن القاسم بن محمد قال : حضرت ابن عباس، فجاءه رجل فقال : يابن عباس إن لي أيتاماً ولهم ماشية، فهل عليَّ جُناح في رسلها وما يحل لي منها؟ فقال : إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط لها يوم وردها، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب. قال بعضهم : المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه (وخدمته) وعمله وأُجرته، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من اللّه تعالى له وبه. قالت به عائشة وجماعة من العلماء، وقال محمد بن كعب القرظي {من كان غنياً فليستعفف} : عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئاً وأجره على اللّه {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يتقرم بتقرم البهيمة، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لابد له منه والتقرم : الالتقاط من نبات الأرض وبقلها، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه إن في حجري يتيماً أفأضربه؟ فقال : (ممّا كنت ضارباً منه ولدك) قال : يا رسول اللّه أفآكل من ماله؟ قال : (بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقياً مالك بماله). وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به، قال اللّه تعالى : {مَتَاعُ بِالْمَعْرُوفِ} . {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} هذا أدب من اللّه تعالى، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة {وَكَفَى بِاللّه حَسِيبًا} محاسباً ومجازياً وشاهداً. ٧{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ} الآية، وذلك أن أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امرأة يقال لها : أم كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصيّاه واختلف في اسميهما فقال الكلبي وقتادة : عرفطة، وقال غيره : سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً، وإنما كانوا يورثون الرجال الكبار، فكانوا يقولون : لا نعطي إلاّ من قاتل على ظهر الخيل وجاز القسمة قال : فجاءت أم كحة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو في مسجد الفضيح فقالت : يا رسول اللّه إن أوس بن ثابت مات وترك عليَّ بنات له ثلاثاً وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسناً وهو عند سويد وعرفجة، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئاً وهنّ في حجري، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس. فدعاهما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالا : يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدواً. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث اللّه لي فيهن) فانصرفوا فأنزل اللّه تعالى ههذه الآية. {لِّلرِّجَالِ} يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه نصيب وحظ وسهم ممّا ترك الوالدان والأقربون من الميراث، والأناث لهن حصّة من الميراث. {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} المال {أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} حظاً معلوماً واجباً، نظيرها فيما قال : {تَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل : لك عليَّ حق حقاً واجباً، وعندي درهم هبة مقبوضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة : هو نصب على الخروج، الكسائي : على القطع، الأخفش : جعل ذلك نصيباً فأثبت لهم في الميراث حقاً، ولم يبيّن كم هو.{ فأرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى سويد وعرفجة : (لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئاً، فإن اللّه تعالى جعل لبناته نصيباً ممّا ترك ولم يبين كم هو، حتى ننظر ما ينزل اللّه عزّ وجلّ فيهن)، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {يُوصِيكُمُ اللّه فِى أَوْلَادِكُمْ} إلى قوله { ذلك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فلما نزلت أرسل رسول اللّه إلى سويد وعرفجة : (أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال). ٨{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} يعني قسمة المواريث {أُوْلُوا الْقُرْبَى} الذين لا يرثون {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} أي فارضوهم من المال قبل القسمة، واختلف العلماء في حكم هذه الآية : فقال قوم : هي منسوخة. وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك : كانت هذه قبل آية المواريث، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون واليتامى والمساكين، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس. وقال آخرون : هي محكمة، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس. وقال مجاهد : واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم. قتادة عن الحسن : ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا. وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة : أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله، قاله الحسن. وقال التابعون : كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب، والشيء الذي يستحي من قسمته، فإن كان بعض الورثة طفلا، فاختلفوا : فقال ابن عباس والسدي وغيرهما : إذا حضر القسمة هؤلاء، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته، وإن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانت صغاراً اعتذروا إليهم، فيقول الولي والوصي : إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم، وهذا هو القول المعروف. وقال سعيد بن جبير : هذه الآية ممّا يتهاون به الناس، هما وليان : وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف. وقال بعضهم : ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانوا كباراً تولوا إعطاهم، وإن كانوا صغاراً تولى إعطاء ذلك وليّهم. روى محمد بن سيرين : أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاماً لأهل هذه الآية، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} وقوله : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} . وقال بعضهم : هذا على الندب والاستحباب لا على الحَتم والايجاب، وهو أول الأقاويل بالصواب. وقال ابن زيد وغيره : هذا في الوصية لا في الميراث، كان الرجل إذا أوصى قال : فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى اللّه في هذه الآية. وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر : أخبرا أن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّةٌ، قالا : فلم يترك في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلاّ أعطاهم من مال أبيه، وتلا هذه الآية {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} . قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية. ٩{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} الآية. قال أكثر المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته : أُنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً، فقدّم لنفسك اعتق وتصدق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئاً، فنهاهم اللّه عزّ وجلّ من ذلك وأمرهم أن يأمروه أن يُبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته، كما لو كان هذا الميت هو الموصي، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة. وقال مقسم الحضرمي : الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته : اتق اللّه وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم. وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، فليقل وليفعل خيراً وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وهي رواية عطية عن ابن عباس. وقال الشعري : كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعاً لما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبداً قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب اللّه لها أن تخرج من صلب رجل إلاّ وهي خارجة شئنا أو أبينا، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك اللّه منه، وإن تركت ولداً من بعدك حفظهم اللّه فيك؟ قلت : بلى فتلا هذه الآية، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّه وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} والسديد العدل والصواب من القول ١٠{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية. قال مقاتل بن حيان : نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل اللّه عزّ وجلّ فيه {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} حراماً بغير حق {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا} أخبر عن ماله وأخبر عن حاله، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء : هذا كذا لما يؤدى إليه، مثل قولهم : هذا الموت، أي يؤدي إليه. وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في الشارب من أواني الذهب والفضة (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم). وقال (عليه السلام) : (البحر نار في نار) أي عاقبتها كذلك، وذكر البطون تأكيداً كما يقال : نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} وقوداً. قرأه العامة بفتح الياء، أي يدخلون، تصديقها إلاّ من هو صال الجحيم، وقوله : {يَصْلَ اهَآ إِلا اشْقَى} . وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر : بضم الياء، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره، قوله : {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وقوله : {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} . وقرأ حميد بن قيس : (وسيُصلّون) بضم الياء وتشديد اللام، من التصلية، لكثرة الفعل، أي مرّة بعد مرّة، دليله قوله : {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} وكل صواب، يقال : صَلَيت الشيء إذا شويته. وفي الحديث : أتى بشاة مصلية، فاصليته ألقيته في النار، وصليته مرّة بعد مرّة، وصُلِيت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار. قال الشاعر : وقد تصليت حرَّ حربهم كما تصلّى المقرور من قرس. وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم. وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (رأيت ليلة أُسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل أحديهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، ثم يخرج من أسافلهم، فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً). ١١{يُوصِيكُمُ اللّه} . فصل في بسط الآية اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال، فأبطل اللّه عزّ وجلّ ذلك بقوله : {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال اللّه : {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني الحلفاء {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم صارت بعد الهجرة، قال اللّه تعالى : {والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين : بالسبب والنسب، فأما السبب فهو النكاح والولاء، وهذا علم عريض لذلك. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي). ولا يمكن معرفة ذلك إلاّ بمعرفة الورثة والسهام، وقد أفردت فيه قولا وجيزاً جامعاً كما يليق بشرط الكتاب واللّه الموفق للصواب. اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه، فما فضل يقسّم بين الورثة، والورثة على ثلاثة أقسام : منهم من يرث بالفرض، ومنهم من يرث بالتعصيب، ومنهم من يرث بهما جميعاً، فصاحب الفرض : من له سهم معلوم ونصيب مقدّر، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات، وصاحب التعصيب : من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروماً إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء، مثل الأخ والعم ونحوهما، والذي يرث بالوجهين : هو الأب مع البنت وبنت الابن، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر، عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق، ومن النساء سبع : البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة، الأبوان والولدان والزوجان. والعلة في ذلك : أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة، والذين لا يرثون بحال ستة : العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين، والسهام المحدودة في كتاب اللّه عزّ وجلّ ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس. والنصف فرض خمسة : بنت الصلب، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. والربع فرض اثنين : الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. والثمن فرض واحد : الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن. والثلثان فرض كل اثنين فصاعداً ممّن فرضه النصف. والثلث فرض ثلاثة : الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان، والأُخرى امرأة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، وهو في الحقيقة سدس جميع المال، والزوجة وهو ربع جميع المال، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم واناثهم سواء، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيراً له من الثلث. والسدس فرض سبعة : بنت الابن مع بنت الصلب، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم، والواحد من ولد الأم، والأم إذا كان للبنت ولداً، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن (....) مع الابن وابن الابن، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا (...) أخواتهم للذكر مثل حضّ الأُنثيين، ثم الأب وله ثلاثة أحوال : حال ينفرد بالتعصيب، وهو مع عدم الولد وولد الابن، وحال ينفرد بالفرض، وهو مع الابن أو ابن الابن، وحال يجمع له الفرض والتعصيب، وهو مع البنت وابنة الابن، ثم الجد إن لم يكن له أخوة، وإن كان له أخوة قاسمهم، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، والواحدة منهن عصبة مع البنات، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب، دون الأناث، ثم بنو الأخوة للأب والأم، ثم بنو الأخوة للأب، ثم الأعمام للأب والأم، ثم الأعمام للاب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم أعمام الأب كذلك، ثم أعمام الجد، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود، ثم مولى العتق، ثم عصبته على هذا الترتيب، فهذه جملة من هذا العلم. رجعنا إلى تفسير الآية، اختلف المفسرون في سبب نزولها : فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول : مرضت فعادني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأبو بكر (رضي اللّه عنه) وهما يتمشيان، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت، فقلت : يا رسول اللّه كيف أمضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت فيَّ آية المواريث. وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : يا رسول اللّه إن هاتين ابنتا سعد، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ارجعي فلعل اللّه سيقضي في ذلك) فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت، فنزل على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {يُوصِيكُمُ اللّه فِى أَوْلَادِكُمْ} إلى آخرها. فدعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عمّهما وقال : (أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك) ، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة وقد مضت القصة. وقال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً، فشكت ذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه آية المواريث. وقال ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ اللّه ذلك، وأنزل آية المواريث، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث) وقوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللّه} أي يعهد إليكم ويفرض عليكم {فِى أَوْلَادِكُمْ} أي في أمر أولادكم إذا متم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين فَإِن كُنَّ نِسَآءً} يعني المتروكات {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} فصاعداً يعني البنات {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} و (فوق) صلة، كقوله عزّ وجلّ : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ اعْنَاقِ} . {وَإِن كَانَتْ} يعني البنت {وَاحِدَةً} . قرأه العامة : نصب على خبر كان، ورفعهما أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة، وحينئذ لا خبر له. {فَلَهَا النِّصْفُ} ثم قال : {وَبَوَيْهِ} يعني لأبوي الميت، كناية عن غير المذكور {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو ولدان، والأب هاهنا صاحب فرض {فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَمِّهِ الثُّلُثُ} قرأ أهل الكوفة : (فلأمه) بكسر الهمزة، وقرأ الباقون : بالضم على الأصل. {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} اثنين كانا أو أكثر ذكراناً أو أناثاً {فَمِّهِ السُّدُسُ} هذا قول عامة الفقهاء، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة، وكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب، اتبع ظاهر اللفظ. وروى : أن ابن عباس دخل على عثمان فقال : لِمَ صار الأخوان يردان الأم إلى السدس، وإنما قال اللّه عزّ وجلّ : {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان : هل أستطيع نقض أمرٌ قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار. وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية، لأن الجمع ضمُّ شيء إلى شيء، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له، قال اللّه تعالى : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} . وتقول العرب : ضربت من زيد وعمرو رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما. وأنشد الأخفش : لما أتتنا المرأتان بالخبر أن الأمر فينا قد شهر قال الثعلبي : وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي : ويُحيى بالسلام غني قوم ويبخل بالسلام على الفقير أليس الموت بينهما سواء إذا ماتوا وصاروا في القبور {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : (يوصَى) بفتح الصاد، الباقون : بالكسر وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا، قال الأخفش : وتصديق الكسر يوصين ويواصون. {وَأَبْنَآؤُكُمْ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً} . قال مجاهد : في الدنيا، وقرأ بعضهم : (أيهما أقرب لكم نفعاً) أي رفع بالابتداء، ولم يعمل فيه ال (ما) قبله، لأنه استفهام و (أقرب) خبره و (نفعاً) نصب على التمييز، كأنه يقول : لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه. وقال ابن عباس : أطوعكم للّه من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن اللّه عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع اللّه إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما. قال الحسن : لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا. ١٢{فريضة من اللّه إن اللّه كان عليماً حكيماً ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع ممّا تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن} يعني وللزوجات {الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ الأمر أَةٌ} نظم الآية : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة، وهو نصب على المصدر، وقيل : على الحال، وقيل : على خبر ما لم يسمّ فاعله، تقديرها : وإن كان رجل يورث ماله كلالة. وقرأ الحسن وعيسى : (يورِث) بكسر الراء (جعلا) فعلا له. واختلفوا في الكلالة : فقال الضحاك والسدي : هو الموروث. سعيد بن جبير : هم الورثة. النضر بن شميل : هو المال. واختلفوا أيضاً في معناه وحكمه : فروى أنس عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه سئل عن الكلالة، فقرأ آخر سورة النساء، فردَّ عليه السائل فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (لست بزائدك حتى أُزاد). وروى شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت الشعبي يقول : إن أبا بكر (رضي اللّه عنه) قال في الكلالة : أقضي فيها قضاءاً وأن كان صواباً فمن اللّه وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني، واللّه بريء منه : هو ما دون الوالد والولد، يقول : كل وارث دونهما كلالة قال : فلما كان عمر (رضي اللّه عنه) بعده قال : إني لأستحي من اللّه أن أُخالف أبا بكر : هو ما خلا الوالد والولد. وقال طاوس : هو ما دون الولد. والحكم : هو ما دون الأب. عطية : هم الأُخوة للأُم. عبيد بن عمير : هم الأخوة للأب. وقيل : هم الأخوة والأخوات. قال جابر بن عبد اللّه : قلت يا رسول اللّه إنما يرثان أُختان لي فكيف بالميراث؟ فنزلت : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ} . وقال الأخفش : كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة. وقال أهل اللغة : هو من نكللّه النسب إذا أحاط به كالإكليل. قال أمرؤ القيس : أصاح ترى برقاً أريك وميضه كلمع اليدين في حبّي مكلل فسمّوا كلالة، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه. قال الفرزدق : ورثتم قناة الملك غير كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم وقال بعضهم : وإن أبا المرؤ أحمى وله ومولى الكلالة لا يغضب {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} ولم يقل : (ولهما) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعاً، يقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز، قال اللّه عزّ وجلّ : {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} ونظائرها، وأراد بهذا الأخ والأُخت من الأمر، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من الأم {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ} بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} .! قال علي (عليه السلام) : إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول اللّه بالدين قبل الوصية. وهذا قول عامة الفقهاء، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب {غَيْرَ مُضَآرٍّ} مدخل الضرر على الورثة. قال الحسن : هو أن توصي بدين ليس عليه {وَصِيَّةً مِّنَ اللّه} . وقرأ الأعمش : (غير مضار وصية من اللّه) على الإضافة. {وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . قال قتادة : إن اللّه عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت. وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة ١٣{تِلْكَ حُدُودُ اللّه} إلى قوله : ١٥{وَالَّاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} يعني الزنا، وفي مصحف عبد اللّه الفاحشة {مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ} يعني من المسلمين {فَإِن شَهِدُوا} عليها بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فأحبسوهن {فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّه لَهُنَّ سبيلا} وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت؛ وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزلت قوله : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} . فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (خذوا عني خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام). فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكماً وهو الإستشهاد ١٦{وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} يعني الرجل والمرأة، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث، والهاء راجعة إلى الفاحشة. قال المفسرون : فهما البكران يزنيان {فَآذُوهُمَا} قال عطاء وقتادة والسدي : يعني عيّروهما وعنفوهما باللسان : أما خفت اللّه أما استحيت اللّه حين أتيت الزنا، وأشباهه. مجاهد : سبّوهما واشتموهما. ابن عباس : هو باللسان واليد كأن (يوذي) بالتعيير والضرب بالنعال. {فَإِن تَابَا} من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ} ولا تؤذوهما، وإنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة. روى عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني : إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال أحدهما : يا رسول اللّه اقض بيننا بكتاب اللّه. وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول اللّه أقضِ بيننا بكتاب اللّه وائذن لي في أن أتكلم؟ فقال : (تكلم). فقال : إن ابني كان عسيفاً على هذا قال مالك : والعسيف الأجير فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه مائة شاة وبجارية، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللّه، أما غنمك وجاريتك فردَّ عليك، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاماً). وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي إمرأة الرجل فان اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها. روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير : أن عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرَّب مروان في إمارته. وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد اللّه : أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فاعترف عنده بالزنا : فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنك مجنون؟) قال : لا، قال : (أحصنت؟) قال : نعم، فأمر به النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فرجم بالمصلّى، فلما أذاقته الحجارة فرَّ، وأدرك فرجمه حتى مات. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فيه خيراً ولم يصل عليه. سليمان بن بريدة عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه طهّرني، قال : (ويحك إرجع فاستغفر اللّه وتب إليه) قال : فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ممَّ أطهرك؟) قال : من الزنا، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنك مجنون؟) وأخبر أنه ليس به جنون، فقال : (أَشَرِبَ خمراً)، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أزنيت أنت؟) قال : نعم فأمر به النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فرجم، وجاء النبي فقال : (استغفروا لماعز بن مالك)، فقالوا : أيغفر اللّه لماعز بن مالك؟ فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها). وروى الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب اللّه، فيضلوا بترك فريضة أنزلها اللّه، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الإعتراف، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ورجمنا بعده. ١٧{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه} قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها اللّه، فتكون على بمعنى عند، أقامه مقام صفة. قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : (على) هاهنا بمعنى (من) يقول : إنما التوبة من اللّه للذين يعملون السوء بجهالة، اختلفوا في معنى الجهالة : فقال مجاهد والضحاك : هي العمد. وقال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته. وقال سائر المفسرين : يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قتادة : اجتمع أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فرأوا أنّ كل شيء عُصيَ به ربّه فهو جهالة، عمداً كان أو غيره. وقال الزجاج : معنى قوله : {بِجَهَالَةٍ} اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، نظيرها في الأنعام {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَا بِجَهَالَةٍ} ، {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها. قال السدي والكلبي : القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت. عكرمة وابن زيد : ما قبل الموت فهو قريب. أبو مجلن والضحاك : قبل معاينة ملك الموت. أبو موسى الأشعري : هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة. زيد بن أسلم عن عبد الرحمن (السلماني) قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال أحدهم : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم). قال الثاني : وأنا سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم). قال الثالث : وأنا سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة). فقال الرابع : وأنا سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن اللّه عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه). خالد بن (سعدان) عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه) ثم قال : (إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه) ثم قال : (إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة تاب اللّه عليه) ثم قال : (إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه) ثم قال : (إن الساعة لكثير، من تاب قبل موته قبل أن يُغرغر بها تاب اللّه عليه). المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أُفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال اللّه عزّ وجلّ : وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر). وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الربّ تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي). قال الثعلبي : وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت محمد بن عبد الجبار يقول : يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته : ما أسرع ما جئت. ١٨{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيَِّئاتِ} يعني المعاصي {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} ووقع في النزع {قَالَ إِنِّى تُبْتُ الَْانَ} فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ} موضع (الذين) خفض يعني ولا الذين يتوبون {وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَاكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أي هيّئنا، والاسم منه العتاد. قال عدي بن الرقاع : تأتيه أسلاب الأعزة عنوة قسراً ويجمع للحروب عتادها وقال للفرس المعد للحرب : عتّد وعتد. وقال الشاعر الجعفي : حملوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي ١٩{يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها} أي على كره منهن. قال المفسرون : كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق، إلاّ بالصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئاً، وإن شاء عضلها ومنعها من الازواج فطوّل عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورتث من الميت، أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبهُ فهي أحق بنفسها، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له : (حصن). وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، فقالت : يا رسول اللّه إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر اللّه) قالت : فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة، فأتين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو في مسجد الفضيح فقلن : يا رسول اللّه ما نحن إلاّ كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل اللّه تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم} الآية. وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب : بضم الكاف هاهنا وفي التوبة. والباقون : بالفتح. قال الكسائي : هما لغتان. وقال الفراء : الكره والإكراه، والكره المشقة، فما أُكره عليه فهو كَره بالفتح، وما كان من قبل نفسه وهو كُره بضم الكاف. {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} كفعل أهل الجاهلية. و عن الضحاك : نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها لأجل مالها، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها. وقال ابن عباس : هذا في الرجل تكون لهُ المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى اللّه عزّ وجلّ عن ذلك، ثم قال : {إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} فحينئذ يحل لكم أضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، واختلفوا في الفاحشة : فقال بعضهم : هي الزنا. قال الحسن : إن زنت حلَّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة : هي النشوز. جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد اللّه أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) خطب الناس فقال : (اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف). وقوله {مُّبَيِّنَةٍ} بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير، الباقون : بالكسر. {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . قال الحسن : رجع إلى أول الكلام يعني {وأتوا النساء صدقاتهم نحلة وعاشروهن بالمعروف} . وقال بعضهم : هو أن يصنع بها كما يصنع له. {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شيئا وَيَجْعَلَ اللّه فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} وهو ولد صالح أو يعطفه اللّه عليها بعد ذلك، كذا قاله المفسرون. مكحول الأزدي قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل يستخير اللّه فيختار له، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. ٢٠{وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} ما لم يكن من قبلها نشوز ولا اتيان فاحشة {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} وهو المال الكثير، وقد مرَّ تفسيره {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيًْا} أي من القنطار شيئاً {أَتَأْخُذُونَهُ} استفهام نهي وتوبيخ {بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} انتصابها من وجهين : أحدهما بنزع الخافض، والثاني بالإضمار، تقديره : تصيبون في أخذه بهتاناً وإثماً مبيناً، ٢١ثم قال : {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} على معنى الاستعظام، كقوله : {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه} {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} . قال المفسرون : أراد المجامعة، ولكن اللّه كريم يكني بما شاء عمّا شاء، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة. {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} . قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي : هو قولهم عند العقد : زوجتكها على ما أخذ اللّه للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. مجاهد : هو كلمة النكاح التي يُستحل بها الفروج وهي كقوله : نكحته. الشعبي وعكرمة والربيع : هو قوله : أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه. فصل فيما ورد من الأخبار في الرخصفي مغالاة المهر لقوله : {وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} عن عطاء الخراساني : قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إنها صغيرة، فقال عمر : إني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلاّ نسبي وصهري) فلذلك رغبت فيها. فقال علي (رضي اللّه عنه) : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه، فجاءته فقالت : إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال : رضيتها. قال : فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم. وعن ابن سيرين : إن الحسن (رضي اللّه عنه) تزوج بامرأة، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم. وروى مرشد بن عبد اللّه البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (خير النكاح أيسرهُ) وقال (صلى اللّه عليه وسلم) لرجل : (أترضى أن أُزوجك فلانة؟) قال : نعم، قال للمرأة : (أترضين أن أزوجك فلاناً؟) قالت : نعم، فزوج أحدهما بصاحبه، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف. وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) وأن رسول اللّه زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار. وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم. حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم. وعن غيلان بن جرير أن مطرفاً تزوج امرأة على عشرة ألف أواق. فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر عن ابن سيرين قال : حدثنا أبو العجفا السلمي، قال : سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد اللّه واثنى عليه وقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند اللّه كان أولاكم به النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يُبقي لها عداوة في نفسه، فيقول : كانت لك حلق القربة أو عرق القربة. عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من يُمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها). قال عروة : وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها. سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : كان صداقنا مُذ كان فينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عشرة أواق وهو أربعة دراهم. ثابت البناني عن أنس : أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال : (ما هذا؟) فقال : يا رسول اللّه تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (بارك اللّه لك أولم ولو بشاة). يقال : هي خمسة دراهم. وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جاءته امرأة فقالت : يا رسول اللّه إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياماً طويلا، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (هل عندك من شيء تصدقها إياه؟) قال : ما عندي إلاّ إزاري هذا. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً) فقال : ما أجد شيئاً. فقال : (التمس ولو خاتماً من حديد)، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (هل معك من القرآن شيء؟) قال : نعم، سورة كذا و سورة كذا، لسور سمّاها، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (زوجتك بما معك من القرآن). وعن عبد اللّه بن عامر عن أبيه : أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أرضيت مالك بهاتين النعلين؟) قال : نعم فأجازه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) . وعن أبي حدرد الأسلمي قال : أتيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) استعينه في مهر امرأة فقال : (كم تصدقها؟) قلت : مائتي درهم. فقال : (لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم). مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أعطى في صداق ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل). وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تزوج بامرأة على عشرة دراهم. أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال : كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد اللّه الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين. وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من استحل بدرهم فقد استحل) قال وكيع : في النكاح. وعن عبد اللّه بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرَّ جارية له فكرهها، فقال له رجل : هبها لي، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب، فقال : إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ولو أصدقها سوطاً لحلت. المغيرة عن إبراهيم قال : السنة في الصداق الرطل من الورق، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان، ويحبون أن يكون عشرين درهماً. ٢٢{وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ}
وروى حنان عن الكلبي قال : كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو بمكّة، لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا، فقال لهم أبو جهل : بئس القوم أنتم والوفد لقومكم. فردّوا عليه : {وما لنا لا نؤمن باللّه وماجاءنا من الحق}، فجعل اللّه سبحانه لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه أجرين اثنين، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا : نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد، فأنزل اللّه سبحانه : {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الآية. أخبرنا أبو عبد اللّه بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من كانت له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، وأعتقها وتزوّجها فله أجران، وعبد أدّى حقّ اللّه وحقّ مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) فله أجران). وقال قتادة : حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية. وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل، فلمّا خرج من العرب كفروا، فأنزل اللّه سبحانه {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم {} صلة {أن لا يقدرون} يعني أنّهم لا يقدرون، كقوله : {أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا} وأنشد الفرّاء : إنّي كفيتك ما تو ثق إنْ نجوت إلى الصباحْ وسلمت من عرض الجنو ن من الغدوّ إلى الرواحْ إن تهبطنّ بلاد قو مي يرتعون من الطلاحْ أي : إنّك تهبطن. {عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللّه} الآية. أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرمي قال : حدّثنا الحسن بن السكن البغدادي، قال : حدّثنا أبو زيد النحوي، عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عطيّة، عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه عزّ وجلّ قسّم الأجر وقسّم العمل، فقيل لليهود : اعملوا، فعملوا إلى نصف النهار، فقيل : لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى : اعملوا، فعملوا من نصف النهار إلى العصر، فقيل : لكم قيراط. وقيل للمسلمين : اعملوا، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك، فأنزل اللّه سبحانه : {لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللّه وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ). السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية فقلت : أين تريد؟ فقال : أرسلني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله. ٢٣{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} هي جمع أم، والأم في الأصل أمهه على وزن فعلة، مثل قبرة وحمرة فسقطت الهاء في (التوحيد وعادت) في الجمع كقولهم : شاه ومياه. قال الشاعر : أمهتي خندف والروس أبي وقيل : أصل الأم أمة، وأنشدوا : تقبلتها عن أمة لك طالما تثوب إليها في النوائب أجمعا فيكون الجمع حينئذ أمهات. ومثاله في الكلام عمّة وعمّات. وقال الراعي : كانت نجائب منذر ومحرق أُماتهن وطرقهن فحيلا فحرم اللّه تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة : سبعاً بنسب وسبعاً بسبب، فأما النسب قوله : {أُمَّهَاتُكُمْ} فهي أمهات النسبة {وَبَنَاتُكُمْ} جمع البنت {وَأَخَوَاتُكُمْ} جمع الأخت {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} جمع العمّة والخالة {وَبَنَاتُ اخِ وَبَنَاتُ اخْتِ} . وأما السبب فقوله : {وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّاتِى أَرْضَعْنَكُمْ} وهي أمهات الحرمة كقوله تعالى : {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ثم قال : {وَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} . وقرأ عبد اللّه : (واللاي) بغير تاء كقوله : {وَالَّائى يَ سْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} . قال الشاعر : من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البرئ المغفلا عروة عن عائشة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ما حرمته الولادة حرمه الرضاع). ومالك بن أنس عن عبد اللّه بن أبي بكر عن عميرة عن عائشة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كرم اللّه وجهه قال : قلت يا رسول اللّه مالك تنوق في قريش وتدعنا قال : (وعندك أحد؟) قلت : نعم بنت حمزة، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة). وهب بن كيسان عن عروة عن عائشة : أن أبا القعيس وهو أفلح إستأذن على عائشة بعد آية الحجاب، فأبت : أن تأذن له فذكر ذلك للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (إئذني له فإنّه عمك) فقالت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، قال : (إنه عمك فليلج عليك). وإنما يحرم الرضاع بشرطين إثنين أحدهما : أن يكون خمس رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهي ممّا يقرأ من القرآن. وروى عبد اللّه بن الحرث عن أم الفضل : أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سُئل عن الرضاع فقال : (لا تحرم الاملاجة ولا الأملاجتان). قال قتادة : المصة والمصتان. والشرط الثاني : أن يكون من الحولين، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم، وكان أبو حنيفة يرى ذلك بعد الحولين ستة أشهر. ومالك : بعد الحولين شهراً، والدليل على أن ما بعد الحولين من الرضاع بقوله : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وليس بعد الكمال والتمام شيء، وقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لا رضاع بعد الحولين، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم). {وَأُمَّهَاتُ نِسَآكُمْ} أم المرأة حرام دخل بها أو لم يدخل، وهو قول أكثر الفقهاء، وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيها حتى قالوا : لو وطأها أو قبّلها أو لامسها بالشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا إنما يحرم بالنكاح الصحيح، والحرام لا يحرم الحلال، وكان ابن عباس يقرأ (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ويحلف باللّه ما نزل إلاّ هكذا ويقول : هي بمنزلة الربائب، فلما كانت الربائب لا يحرمن بالعقد على أمهاتهن دون الوطىء، كذلك أمهات النساء لا يحرمن بالعقد على بناتهن دون الوطىء، وهو قول علي وزيد وجابر وابن عمر وابن الزبير قالوا : نكاح أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن حلال، والقول الأول هو الأصح. قال ابن جريح : قلت لعطاء : الرجل ينكح المرأة ثم يراها ولا يجامعها حتى يطلقها، أيحل له أُمّها؟ قال : لا ، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له : كان ابن عباس يقرأ : (وامهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال : لا. و روى عمرو بن المسيب عن أبيه عن جدّه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل، بها ثم طلقها فإن شاء تزوج بالبنت). {وَرَبَابُكُمُ} جمع الربيبة وهي ابنت المرأة، قيل لها : ربيبة، لتربيته إياها، فعيلة بمعنى مفعولة {الَّاتِى فِى حُجُورِكُم} أي في ضمانكم وتربيتكم، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان يلي تربيته، ويقال : امرأة طيبة الحجر إذا لم تُربّ ولداً إلاّ طيب الولد. قال الكميت : الكرمات (نسبة) في قريش (وسواهم) والطيبات الحجورا ومنه قيل للحظر حجر، والأصل فيه الناحية، يقال : فلان يأكل في حجره ويريض حجره. {مِّن نِّسَآِكُمُ الَّاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ} أي جامعتموهن {فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. روى الزهري عن عروة : أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول اللّه انكح أختي قالت : فقال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أو تحبين ذلك؟) قلت : نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي. فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ ذلك لا يحلّ لي). فقلت : واللّه يا رسول اللّه إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال : (بنت أم سلمة؟) فقلت : نعم، قال : (واللّه إنها لو تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن). {وَحَلَاِلُ أَبْنَآِكُمُ} يعني أزواج أبنائكم، والذكر حليل، وجمعه أحلّه وأحلاّء، مثل عزيز وأعزة وأعزّاء، وإنما سمّي بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه، يقال : حلّ وهو حليل، مثل صحّ وهو صحيح، وقيل : سمّي بذلك لأن كل واحد منهما يحلّ حيث يحلّ صاحبه من الحلول وهو النزول، وقيل : لأن كلّ واحد منهما يحل إزار صاحبه، من الحل وهو ضد العقد. قال الشاعر : يدافع قوماً على مجدهم دفاع الحليلة عنها الحليلا يدافعه يومها تارة ويمكنه رجلها أن يشولا {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} دون من تبنيتموهم. قال عطاء : نزلت في محمد (صلى اللّه عليه وسلم) حين نكح امرأة زيد بن حارثة. {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ اخْتَيْنِ} حرّتين كانتا بالعقد أو أمتين بالوطئ {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} . قال عطاء والسدي : يعني إلاّ ما كان من يعقوب (عليه السلام)، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراجيل أُم يوسف وكانتا أُختين. ٢٤{إن اللّه كان غفوراً رحيماً والمحصنات من النساء} الآية. قال عمرو بن مرّة : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين يُسأل عن هذه الآية {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ} فلم يقل فيها شيئاً، فقال سعيد : كان لا يعلمها. وقال مجاهد : لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربتُ إليه أكباد الإبل، قوله تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ} . قال المفسرون : هذه السابعة من النساء اللواتي حُرّمن بالسبب. قرأه العامة : (والمحصَنات) بفتح الصاد، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن. قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الإستبراء. فقال أبو سعيد الخدري : بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم حنين جيشاً إلى أوطاس، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقرأ علقمة : (والمحصِنات) بكسر الصاد، ودليله قول عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) وعبيدة وأبي العالية والسدي، قالوا : والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها : والعفائف من النساء عليكم حرام إلاّ ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن، وقيل : معناه الحرائر. قال الباقر ويمان : معناه والمحصنات من النساء عليكم حرام ما فوق الأربع، إلاّ ما ملكت إيمانكم فإنه لا عدد عليكم فيهن. وقال ابن جريح : سألنا عطاء عنها فقال : معنى قوله : {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أن تكون لك أَمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت. {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ} نصب على المصدر، أي كتب اللّه عليكم كتاباً، وقيل : نصب على الإغراء، أي الزموا واتقوا كتاب اللّه عليكم. وقرأ ابن السميقع : {كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ} أي أوجب، وهذه أربعة عشر امرأة، محرمات بالكتاب. فأما الستّة : فقد حرّمت امرأتين، وهو ما روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها). {وَأُحِلَّ لَكُم} قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : (وأُحل لكم) بضم الألف. الباقون : بالنصب، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، فمن رفع فلقوله : {حُرِّمَتْ} ، ومن نصب، فللقرب من ذكر اللّه في قوله : {كِتَابَ اللّه} . {مَّا وَرَآءَ} ما سوى {ذَالِكُمْ} الذي ذكرت من المحرمات {أَن تَبْتَغُوا} بدل من (ما) فمن رفع أحلّ ف (إن) عنده في محل الرفع، ومن نصب ف (إن) عنده في محل النصب. قال الكسائي والفراء : موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض، يعني : لأن تبتغوا وتطلبوا. {بِأَمْوَالِكُم} أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن {مُّحْصِنِينَ} مُتعففين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} زانين، وأصله من سفح المذي والمني {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} اختلف في معنى الآية : فقال مجاهد والحسن : يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ} أي مهورهن، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا. وقال آخرون : هو نكاح المتعة، ثم اختُلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة؟ فقال ابن عباس : هي محكمة ورخّص في المتعة، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث. قال حبيب بن أبي ثابت : أعطاني ابن عباس مصحفاً فقال : هذا على قراءة أُبي، فرأيت في المصحف (فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى). وروى داود عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فقال : أما تقرأ سورة النساء؟ قلت : بلى، قال : فما تقرأ : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى)؟ قلت : لا أقرأها هكذا. قال ابن عباس : واللّه لهكذا أنزلها اللّه، ثلاث مرّات. وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى). وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير : أنه قرأها : (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى). وروى شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية : {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} أمنسوخة هي؟ قال : لا. قال الحكم : قال علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه : لولا أن عمر نهى عن المتعة مازنا إلاّ شقي. أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال : نزلت هذه الآية (المتعة) في كتاب اللّه، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وتمتعنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ولم ينهنا عنه، وقال رجل بعد برأيه ما شاء قال الثعلبي : قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلاّ عمران بن الحصين وعبد اللّه بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت، وفي قول ابن عباس. يقول الشاعر : أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الاطراف ناعمة تكون مثواك حتى مرجع الناس وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام. وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال : كنّا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في عمرته فشكونا إليه العزبة، فقال : (يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء) ثم صبحت غاديا على رسول اللّه فإذا هو يقول : (يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالإستمتاع من هذه النساء إلاّ أن اللّه حرّم ذلك إلى يوم القيامة). وقال خصيف : سألت الحسن عن نكاح المتعة، فقال : إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم نهى اللّه عزّ وجلّ عنه ورسوله (صلى اللّه عليه وسلم) وقال الكلبي : كان هذا في بدء الإسلام، أحلّها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بثلاثة أيام ثم حرّمها، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها، ثم قال : زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر، فإن شاءت فعلت ذلك، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات. وروى الزهري عن الحسن وعبد اللّه ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن علياً قال لابن عباس : نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية. وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد اللّه القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر (رضي اللّه عنه) نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال : إنما أحل اللّه ذلك على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) والنساء يومئذ قليل، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها. وعن سالم بن عبد اللّه بن عمر عن عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) أنه صعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عنها لا أجد رجلا ينكحها إلاّ رجمته بالحجارة. وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث). وقال ابن أبي مليكة : سألت عائشة عن المتعة فقالت : بيني وبينهم كتاب اللّه {والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} . وعن عائشة : واللّه ما نجد في كتاب اللّه إلاّ النكاح والاستسراء. وقال ابن عمر : المتعة سفاح. عطاء : المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن جبير يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول : سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت (...) يقول : الشافعي يقول : لا أعلم في الإسلام شيئاً أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حُرّم غير المتعة. {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ} أي مهورهن، سمّيَ المهر أجراً، لأنه ثمن البضع وأجر إلاّ ستمتاع ألا تراهُ يتأكد بالخلوة والدخول. واختلفوا في حدّه، فأكثره لا غاية له، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة : لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب، لأن اللّه عزّ وجلّ قال : {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر. وعند الشافعي : لا حدّ له، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام، وكذلك كل عمل أوجب أجراً قليلا كان أو كثيراً، والسورة من كتاب اللّه عزّ وجلّ أو آية لقوله : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ} . وعن سلمة بن وردان قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رجلا من أصحابه، فقال : (يا فلان هل تزوجت؟) قال : لا، وليس عندي ما أتزوج، قال : (أليس معك {قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ} ؟) قال : بلى، قال : (ربع القرآن) قال : (أليس معك {إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللّه} ؟) قال : بلى، قال : (ربع القرآن) قال : (أليس معك {قل يا أيها الكافرون} ؟) قال : بلى، قال : (ربع القرآن)، قال : (أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ} ؟) قال : بلى، قال : (ربع القرآن) قال : (أليس معك آية الكرسي؟) قال : بلى، قال : (ربع القرآن)، قال : (تزوج تزوج تزوج). وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل. {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها، {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . ٢٥{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا} فضلا وسعة. المسيب بن شريك عن عمران بن جرير عن النزال بن سبرة عن ابن عباس قال : من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحُرّم عليه نكاح الإماء. {أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} الحرائر، وقرأ الكسائي : (المحصِنات) بكسر الصاد، كل القرآن إلاّ في أول هذه السورة، الباقون : بالفتح. {المؤمنات فممّا ملكت أيمانكم} إلى قوله {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} سادتهن {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ} مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ} من غير ضمار {مُحْصَنَاتٍ} عفائف {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} زانيات {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أحباب يزنون بهن في السر. {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قرأ أهل الكوفة : بفتح الألف، على معنى حفظن فروجهن، وقرأ الآخرون : بالضم، على معنى أنهنّ أُحصنّ بأزواجهنّ {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} يعني الزنا {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ} الحراير إذا زنين {مِنَ الْعَذَابِ} يعني الحدّ، نظيره : {ويدرأ عنها العذاب} وهو خمسون جلدة وتغريب نصف سنة على الصحيح من مذهب الشافعي، ويحتاج أن يغرّب الزاني إلى موضع يقصر إليه الصلاة، وللسيد إقامة الحدّ بالزنا على عبده وأمته. سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت الرابعة فليبعها ولو بضفير أو حبل). { ذلك } يعني نكاح الإماء عند عدم الطول {لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ} يعني الإثم والضرر بغلبة الشهوة {وَأَن تَصْبِرُوا} عن نكاح الإماء متعففين {خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . عن يونس بن مرداس وكان خادماً لأنس قال : كنت بين أنس وأبي هريرة، فقال أنس : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (من أحبّ أن يلقى اللّه طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر). فقال أبو هريرة : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت). ٢٦{يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي أن يبيّن، (اللام) بمعنى أن، والعرب تعاقب بين لام كي وبين أن فتضع إحداهما مكان الأُخرى كقوله : {وَأُمِرْتُ عْدِلَ بَيْنَكُمُ} وقوله : {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم قال في موضع آخر : {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقال : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِ ُوا نُورَ اللّه} ، ثم قال في موضع آخر : {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِ ُوا نُورَ اللّه} . وقال الشاعر : أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل يريد أن أنسى، ومعنى الآية : يريد اللّه أن يبيّن شرائع دينكم ومصالح أمركم. الحسن : يعلمكم ما تأتون وما تذرون. عطاء : يبيّن لكم ما يقربكم منه. الكلبي : ليبيّن لكم أن الصبر من نكاح الإماء خير لكم. {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ} شرايع {الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} في تحريم الأمهات والبنات والأخوات، كما ذكر في الآيتين. هكذا حرّمها على من كان قبلكم من الأمم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبيّن لكم، قاله الكلبي. وقال محمد بن جرير : يعني يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها في هذه الآية {وَاللّه عَلِيمٌ} بما يصلح عباده من أمر دينهم ودنياهم {حَكِيمٌ} في تدبيره فيهم ٢٧{وَاللّه يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إن وقع تقصير منكم في أمره {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا} عن الحق {مَيْ عَظِيمًا} بإتيانكم ما حرّم عليكم، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات من هم : فقال السدي : هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم : هم اليهود، وذلك أنهم ينكحون بنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرّمهما اللّه قالوا : إنكم تحلّون بنات الخالة والعمّة، والخالة والعمّة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت كما تنكحون بنات الخالة والعمّة، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. مجاهد : هم الزناة، يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون. ابن زيد : هم جميع أهل الكتاب في دينهم. ٢٨{يُرِيدُ اللّه أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} في نكاح الأمة، إذا لم تجدوا طول الجرة وفي كل أحكام الشرع {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} في كل شيء. طاوس والكلبي وأكثر المفسرين : يعني في أمر الجماع لا يصبر على النساء ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء. قال سعيد بن المسيب : ما آيس الشيطان من بني آدم إلاّ أتاه من قِبل النساء، وقد أتى عليَّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. مالك بن شرحبيل قال : قال عبادة بن الصامت : ألا ترونني لا أقوم إلاّ رفدا ولا آكل إلاّ ما لوق لي وقد مات صاحبي منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحكيه عليّ أنه لا سمع له ولا بصر. قال الحسن : هو أن خلقه من ماء مهين بيانه قول اللّه : {الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ} . ابن كيسان : (خلق الإنسان ضعيفاً) يستميله هواه وشهوته ويستطيشه خوفه وحزنه. قال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت : {يُرِيدُ اللّه لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} ، {وَاللّه يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ، {يُرِيدُ اللّه أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ} {إِن تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سيئاتكم} ، {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك } ، {إِنَّ اللّه يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} {ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه}، {مَّا يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ} . ٢٩قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة. وقال ابن عباس : هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيت أخذته وإلاّ رددته ورددت معه درهماً، ثم قال : {إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً} يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع، لأن التجارة ليست بباطل. قرأ أهل الكوفة : (تجارة) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ الباقون : بالرفع وهو اختيار أبي حاتم، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره : إلاّ أن تكون الأموال تجارة. كقول الشاعر : إذا كان طاعناً بينهم وعناقاً ومن رفع فعلى معنى الا أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له. كقول الشاعر : فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ثم وصف التجارة فقال : {عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} يرضى كل واحد منهما بما في يديه. قال أكثر المفسرين : هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه، كقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). وقال (صلى اللّه عليه وسلم) (البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلماً). وروى حكيم بن حزام عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما). وابتاع عمر بن جرير فرساً ثم خير صاحبه بعد البيع، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : هذا البيع عن تراض. {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} يعني إخوانكم، أي لا يقتل بعضكم بعضاً. قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول : سأل الفضل بن عياض عن قوله : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} قال : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها. {إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} . عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال : لما بعثه رسول اللّه عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذكرت ذلك له فقال : (يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟). قلت : نعم يا رسول اللّه إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول اللّه تعالى : {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فتيمّمت ثم صليت، فضحك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ولم يقل شيئاً. وعن الحسن : أن الحرث بن عبد اللّه خلا بالنفر من أصحابه وقال : إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة مل كف من دم مسلم أهراقه، فأني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى : بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة). سماك عن جابر بن سمرة : أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حماد بن زيد عن عاصم الأسدي : ذكر بأن مسروقاً بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال : يا أيها الناس أنصتوا، ثم قال : أرأيتم لو أنّ منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال : إن اللّه ينهاكم عمّا أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا : نعم. قال : فواللّه لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم} الآية ثم انساب في الناس فذهب. ٣٠{وَمَن يَفْعَلْ ذلك } الذي ذكرت من المحرمات {عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} ندخله في الآخرة ناراً {وَكَانَ ذلك عَلَى اللّه يَسِيرًا} هيّناً ٣١{إِن تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} الآية. اختلفوا في الكبائر التي جعل اللّه اجتنابها تكفيراً للصغائر. فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد اللّه بن مسعود قال : قلت : يا رسول اللّه أي الذنب أعظم؟ قال : (أن تجعل للّه ندّاً وهو خلقك) قال : قلت : ثم ماذا؟ قال : (أن تزني بحليلة جارك) هذا الحديث من قول اللّه : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} الآية. صالح بن حيان عن أبي بُريدة عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أكبر الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري). الشعبي عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (الكبائر الإشراك باللّه، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وقول الزور أو قال شهادة الزور). سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللّه بن عمرو قال : من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أُمّه فيسب أُمّه. أبو الطفيل عن ابن مسعود قال : الكبائر أربع : الإشراك باللّه، والأياس من روح اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه. عكرمة عن عمار قال : حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال : سألت ابن عمر عن الكبائر، فقال : هي تسع قلت ما هن؟ قال : الإشراك باللّه تعالى، وقتل المؤمن متعمداً، وعقوق الوالدين المسلمين، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والسحر، وإستحلال الميتة قبلكم أحياءً وأمواتاً. وقال جعفر الصادق : الكبائر ثلاث : تركك ملتك، وتبديلك سنّتك، وقتالك أهل صفقتك. وقال فرقد المسيحي : قرأت في التوراة : أُمهات الخطايا ثلاث وهي : أول ذنب عصى اللّه به الكبر، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة، والحرص، وكان ذلك لآدم (عليه السلام)، والحسد، وكان لقابيل حين قتل هابيل. عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الكبائر أولهنّ : الإشراك باللّه، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والإنقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع). سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا سأله عن الكبائر السبع، قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلاّ أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال : الكبائر عشرون : الشرك باللّه عزّ وجلّ، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، والقنوط من رحمة اللّه، والأمن من مكر اللّه، واليأس من روح اللّه، والسحر، والزنا والربا، والسرقة، وأكل مال اليتيم، وترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشهادة الزور، وقتل الولد خشية أن يأكل معك، والحسد، والكبر، والبهتان، والحرص، والحيف في الوصية، وتحقير المسلمين. السدي عن ابن مالك قال : ذكروا الكبائر عند عبد اللّه فقال عبد اللّه : افتحوا سورة النساء، وكل شيء نهى اللّه عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة، ثم قال : مصداق ذلك {إِن تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} الآية. وقال ابن سيرين : ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال : كل ما نهى اللّه عنه فهو كبيرة، حتى الطرفة وهي النظرة. سعيد بن جبير عنه : كل شيء عصى اللّه فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئاً منها فليستغفر، فإن اللّه لا يخلد في النار من هذه الأمة إلاّ راجعاً عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذباً بقدر. علي بن أبي طلحة عنه : كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه اللّه إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة. الحسن : الموجبات للحدود. الضحاك : ما وعد اللّه تعالى عليه حدّاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة. الحسين بن الفضل : ما سمّاه اللّه في كتابه القرآن كبيراً أو عظيماً، نحو قوله : {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ، {إن قتلهم كان خطأ كبيراً} ، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} ، {إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللّه عَظِيمًا} . مالك بن معول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشيّنة. وكيع : كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه. أحمد بن عاصم الأنطاكي : الكبائر ذنوب العمد، والسيئات الخطأ، والنسيان، والإكراه، وحديث النفس، المرفوعة من هذه الأمة. سفيان الثوري : الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما بينك وبين اللّه تعالى، لأن اللّه كريم يغفره، واحتجّ بقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أُمّة محمد إن اللّه عزّ وجلّ يقول : أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي). المحاربي : الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم. السدي : الكبائر ما نهى اللّه عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها، وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه). وقال قوم : الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها، والصغيرة ما نهى اللّه عنه شرعاً وسمعاً. وقال : كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة. وقيل : الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة. وقال بعضهم : الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته. وقال أنس بن مالك : إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعّدها على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من الكبائر. وقال بعضهم : الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه، وما دون الشرك فهو من السيئات، قال اللّه تعالى : {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} . فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عددالكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة أحدها : الإشراك باللّه لقوله تعالى : {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ حَرَّمَ اللّه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} . الثاني : الأياس من روح اللّه لقوله : {وَلا تَايَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّه} الآية. والثالث : القنوط من رحمة اللّه لقوله : {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّآلُّونَ} . والرابع : الأمن من مكر اللّه لقوله : {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . والخامس : عقوق الوالدين لقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إلا إياه وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} . والسادس : قتل النفس التي حرّم اللّه لقوله : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} . والسابع : قذف المحصنة لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} الآية. والثامن : الفرار من الزحف لقوله : {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً} الآية. التاسع : أكل الربا لقوله : {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواا} الآية. والعاشر : السحر لقوله : {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} الآية. والحادي عشر : الزنا : {وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا} . والثاني عشر : اليمين الكاذبة لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} . والثالث عشر : منع الزكاة لقوله : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآيتين. والرابع عشر : الغلول لقوله : {ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة} . والخامس عشر : شهادة الزور لقوله : {وَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} الآية. والسادس عشر : الميسر وهو القمار لقوله : {الميسر والأنصاب والأزلام} . والسابع عشر : شرب الخمر لقوله : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية. والثامن عشر : ترك الصلاة متعمداً لقوله : {حَافِظُوا عَلَى الصلاتِ} الآية. والتاسع عشر : قطيعة الرحم لقوله {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} وقوله : {وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم اللّه} . والعشرون : الحيف من الوصية لقوله : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} الآية. والحادي والعشرون : أكل مال اليتيم لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية. والثاني والعشرون : التغرب بعد الهجرة لقوله : {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّه شيئا} . والثالث والعشرون : استحلال الحرم لقوله : {تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللّه} ، وقوله : {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد} . والرابع والعشرون : الإرتداد لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} الآية. والخامس والعشرون : نقض العهد لقوله : {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّه مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} . فذلك قوله تعالى : {إِن تَجْتَنِبُوا كبائر} . وقرأ ابن مسعود : كبر ما تنهون عنه، على الواحد، وفيه معنى مع {نُكَفِّرْ عَنكُمْ سيئاتكم} من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج، كما قال (صلى اللّه عليه وسلم) (الصلاة الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر). {وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَ كَرِيمًا} وهي الجنة. وقرأ عاصم وأهل المدينة : (مدخلا) بفتح الميم وهو موضع الدخول. وقرأ الباقون : بالضم على المصدر، معنى الأدخال. وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جلس على المنبر ثم قال : (والذي نفسي بيده) ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزناً ليمين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم قال : (ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلاّ فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق) ثم تلا {إِن تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} الآية. ٣٢{وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية. يقال : جاءت وافدة النساء إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : يا رسول اللّه أليس اللّه ربّ الرجال والنساء وأنت رسول اللّه إليهم جميعاً، فما بالنا يذكر اللّه الرجال ولا يذكر النساء؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا للّه فينا حاجة؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية، وقوله : {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وقيل : لمّا جعل اللّه للذكر مثل حظ الأُنثيين في الميراث، قالت النساء : نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا، فنزّل اللّه هذه الآية. وقال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول اللّه يغزوا الرجال ولا نغزوا، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزوا ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة والسدي : لما نزل قوله : {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثَيَيْنِ} ، قال الرجال : إنا لنرجوا أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء : إنا لنرجوا أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل اللّه {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا} من الثواب والعقاب {وَلِلنِّسَآءِ} كذلك، قاله قتادة، وقال أيضاً : هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشراً. وقال ابن عباس : للرجال نصيب ممّا اكتسبوا من الميراث، وللنساء نصيب منه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حظ الأنثيين} ، والإكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز، فنهى اللّه تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد. قال الضحاك : لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد، ألم يسمع الذين قالوا : {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} إلى أن قال {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِامْسِ} حين خسف بداره وأمواله يقولون : {لَوْ أَن مَّنَّ اللّه عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} . وقال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل : اللّهم ارزقني مثله، وهو كذلك في التوراة، وذلك قوله في القرآن : {وَسَْلُوا اللّه مِن فَضْلِهِ} . قرأ ابن كثير وخلف والكسائي : (وَسلوا اللّه) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين. الباقون : بالهمزة. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سلوا اللّه من فضله فإنه يحبّ أن يُسأل وأن من أفضل العبادة إنتظار الفرج). أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من لم يسأل اللّه عزّ وجلّ من فضله غضب عليه). هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : سلوا ربّكم حتى الشبع من لم يُيسّره اللّه لم يتيسّر. وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلاّ ليعطي. ٣٣{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي، أي عصبة يرثونه {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأقربون} من ميراثهم له، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون، وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي، أي قرابة من الذين تركهم، ثم فسّر الموالي فقال : {الْوَالِدَانِ والأقربون} أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى : من تركة الوالدان والأقربون، وعلى هذا القول هم الوارثون {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ} في محل الرفع بالإبتداء، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين. وقرأ أهل الكوفة : عقدت خفيفة بغير ألف أراد عقدت لهم {أَيْمَانُكُمْ} وقرأت أم سعد بنت سعد بن الربيع : (عقّدت) بالتشديد يعني وثقته وأكدته، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، فيأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ويتحالفون عليه، فلذلك ذكر الأيمان. قتادة وغيره : أراد بالذين عاقدت إيمانكم الحلفاء، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمُك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي وحربك وسلمي وسلمك وترثني وارثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه لذلك قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} أي وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله : {وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه} . وقال إبراهيم ومجاهد : أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد، ولا ميراث، وعلى هذا القول تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، ولقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم). ولقوله (عليه السلام) في خطبته يوم فتح مكة : (ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلاّ شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام). وروى عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، قال : (شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه)، وقال ابن عباس وابن زيد : نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من المهاجرين والأنصار حين أتوا إلى المدينة، وكانوا يتوارثون تلك المؤاخاة، ثم نسخ اللّه ذلك بالفرائض. وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، ومنهم زيد مولى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، فأُمروا في الإسلام (أن) يوصوا إليهم عند الموت بوصية، وردّ الميراث إلى ذوي الرحم، وأبى اللّه أن يجعله يجعل للمدّعى ميراثاً ممّن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكن جعل اللّه لهم نصيباً في الوصية، فذلك قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا} . {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} وقال أبو روق : نزل قوله : {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} الآية في أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن، وكان كافراً، أن لا ينفعه ولا يورثه شيئاً من ماله، فلمّا أسلم عبد الرحمن أُمر أن يؤتى نصيبه من المال. ٣٤{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} الآية قال مقاتل : نزلت هذه الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وهما من الأنصار وذلك أنها نشزت فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : أفرشته كريمتي ولطمها، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لتقتصَّ من زوجها)، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ليرجعوا، هذا جبرئيل)، وأُنزلت هذه الآية، وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أردنا أمراً وأراد اللّه أمراً، فالذي أراد اللّه خير) ، ورُفع القصاص. وقال الكلبي : نزلت في أسعد بن الربيع وامرأته بنت محمد بن مسلم، وذكر نحوها أبو روق : نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أُبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فأتت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) تستعدي، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} أي مسلّطون على تأديب النساء {بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} فليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس، فلو شجّ رجل امرأته، أو جرحها لم يكن عليه قود، وكان عليه العقل إلاّ التي يقتلها فيُقتل بها، قاله الزهري وجماعة من العلماء، وقال بعضهم : ليس بين الزوج والمرأة قصاص إلاّ في النفس والجرح. والقوّامون : البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ {بِمَا فَضَّلَ اللّه بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} قيل : بزيادة العقل، وقيل : بزيادة الدّين واليقين، وقيل : بقوة العبادة، وقيل : بالشهادة، قال اللّه : {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} ، قال القرظي : بالتصرّف والتجارات، وقيل : بالجهاد، قال اللّه : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَا} ، وقال للنساء : {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} ، الربيع : الجمعة والجماعات، قال الحسن : بالإنفاق عليهنّ، قال اللّه تعالى : {وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . وقال بعضهم : يمكن للرجل أن ينكح أربع نسوة، ولا يحلّ للمرأة غير زوج واحد، وقيل : هو إنّ الطلاق إلى الرجال وليس إليهنّ منه شيء، وقيل : بالدّية، وقيل : بالنبوّة، وقيل : الخلافة والإمارة، إسماعيل بن عياش (.........) عن بعض أشياخه رفعه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج). فقيل : يا رسول اللّه، وإن كان لها مال؟ قال : (وإن كان لها مال، الرجال قوّامون على النساء). سعيد (عن أبي سعيد المقبري) عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها، ثم تلا (صلى اللّه عليه وسلم) {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ} ). {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} مطيعات {حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} يعني لغيب أزواجهنّ إذا غابوا، وقيل : سرّهم {بِمَا حَفِظَ اللّه} أي بحفظ اللّه لهنّ، وقرأ أبو جعفر بفتح الهاء، ومعناه : بحفظ من اللّه في الطاعة، وهذا كقوله عليه السلام : (احفظ اللّه يحفظك)، و {مَآ} على القراءتين (مصدريّة)، كقوله : {بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى} ، أي يغفر لي ربّي. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى} عصيانهن، وأصله من الحركة {فَعِظُوهُنَّ} ، فإنْ نزعن عن ذلك وإلاّ {وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ} ، وقيل : ولّوهنّ ظهوركم في المضاجع، فإن نزعن وإلاّ {وَاضْرِبُوهُنَّ} ضرباً غير مبرح ولا شائن. ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (علّق السوط حيث يراه أهل البيت). هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سبيلا} أي لا (تطلبوا) عليهنّ بالذنوب، قال ابن عينه : لا تكلفوهن الحبّ. ٣٥{إنّ اللّه كان عليّاً كبيراً وان خفتم شقاق بينهما} أي خلافاً بين الزوجين، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ} يتوسطون، {إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحًا} يعني الزوجين وقيل : الحكمين، {يُوَفِّقِ اللّه بَيْنَهُمَآ} بالصلاح والإلفة، {إِنَّ اللّه كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} . وعن عبيدة السلماني قال : جاء رجل وامرأة علياً (عليه السلام)، مع كل واحد منهما قيام من النّاس، فقال عليٌّ : (ما شأن هذين؟). قالوا : وقع بينهما شقاق. قال عليٌّ : {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ} . قال : فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فقال عليٌ للحكمين : (هل تدريان ما عليكما؟ إنّ عليكما إنْ رأيتما أن يُجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن يُفرّقا فرقتما)، قالت المرأة : رضيت بكتاب اللّه بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل : أمّا الفرقة فلا، قال عليٌ : (كذبت واللّه، لا تنقلب منّي حتى تقرّ بما أقرّت به). ٣٦{وَاعْبُدُوا اللّه} وحّدوا اللّه وأطيعوه، قالت الحكماء : العبودية ترك العصيان، وملازمة الذلّ والانكسار، وقيل : العبودية أربعة أشياء : الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرّضا بالموجود، والصبر على المفقود. {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} برّاً بهما وعطفاً عليهما. وقرأ ابن جني : (إحسانٌ) بالرفع، أي وجب الإحسان بهما، {وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قسوة قلبه، فقال : (إن أردت أن يلين قلبك فاطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم وأطعمه). {وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى} : قرأ العامة بالخفض عطفاً على الكلام الأول، وقرأ ابن أبي عبلة : {وَالْجَارِ} وما يليه نصباً. و {الجار ذي القربى} ذو القرابة {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} البعيد الذي بينك وبينه قرابة، وقال الضحاك : هو الغريب من قوم آخرين، وقرأ الأعمش والفضل : (والجار الجنب) بفتح الجيم وسكون النون، وهما لغتان : رجل جَنْب وجُنُب وجانب وأجنب وأجنبيّ، إذا لم يكن قريباً، وجمعها أجانب، وقال الاّعشى : أتيت حريثاً زائراً عن جنابة فكان حريث في عطائي جامدا أي عن غربة من غير قربة، ومنه يقال : اجتنب فلان فلاناً، إذا بعد منه، ومنه قيل للمجنب : جنب لاعتزاله الصّلاة، وبُعده من المسجد حتى يغتسل، وقال نوف البكالي : الجار الجُنب هو الكافر، {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} يعني الرفيق في السفر، قال ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر وعكرمة وقتادة، عن سعيد بن معروف بن رافع، عن أبيه، عن جدِّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (التمسوا الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق). وقال بعضهم : الجار الجُنب هو الجار اللاصق داره بدارك، فهو إلى جنبك، وقال علي وعبد اللّه وابن أبي ليلى والنخعي : هو المرأة تكون معه إلى جنبه. ابن زيد وابن جريح : هو الذي يلزمك ويصحبك رجاء برّك ورفدك. وقال ابن عباس : إنّي لاستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يُرى عليه أثر من برّي. وقال المهلّب : إذا غدا عليكم الرجل وراح، فكفى به مسألة وتذكرة بنفسه. وقد قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ خير الأصحاب عند اللّه عز وجلّ خيرهم لصاحبه، خير الجيران عند اللّه خيرهم لجاره). عثمان بن عطا، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه، فأيّما رجل أغلق أبوابه دون جاره، فخافه على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن). قالوا : يا رسول اللّه، وما حق الجار؟ قال : (إن دعاك أجبته، وإن أصابته فاقة عُدت عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عُدته، وإن أصابه مصيبة عزّيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعلُ عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه، ولا تؤذه بقتار قِدرك إلاّ أن يُغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهدِ له منها، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً، ولا يخرج ولدك منها فيغيظ ولده). ثم قال (صلى اللّه عليه وسلم) (الجيران ثلاثة : فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقّان، ومنهم من له حق واحد؛ فأما صاحب الثلاثة الحقوق : فالمسلم الجار ذو الرحم، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، وأمّا صاحب الحقّين : فالمسلم الجار له حق الإسلام وحق الجار، وأمّا صاحب الحق الواحد، فالمشرك الجار، له حق الجوار، وإن كان مشركاً). أبو هشام القطان، عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه، ومن حارب جاره فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب اللّه عزّ وجلّ). {وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني المماليك، عن أبي أُمامة أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) دفع إلى أبي ذّر غلاماً، فقال : (يا أبا ذّر أطعمه مما تأكل واكسُه مما تلبس)، قال : لم يكن له سوى ثوب واحد فجعله نصفين، فراحَ إلى نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (ما شأن ثوبك هذا؟)، فقال : إن الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أُطعمه مما آكل واكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلاّ هذا الثوب فناصفته، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أُشير عليك بأن تعتقه)، ثم قال رسول اللّه : (ما فعل فتاك؟) قال : ليس لي فتًى فقد أعتقته، قال : (آجرك اللّه يا أبا ذّر). الأعمش عن عتيق عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الغنم بركة، والإبل عزّ لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والعبد أخوك فإن عجز فأعنه). وعن عليِّ (رضي اللّه عنه) قال : (كان آخر كلام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الصلاة واتقوا اللّه فيما ملكت أيمانكم). {إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَا فَخُورًا} . ٣٧{الَّذِينَ} في محل النصب ردّاً على {مَّنْ} وقيل : (المختال الفخور)، {يَبْخَلُونَ} البخل في كلام العرب : منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه، وفي الشرع : منع الواجب، وفيه أربع لغات : البخل بفتح الباء والخاء وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار. والبَخْل بفتح الباء وسكون الخاء وهي قراءة قتادة وعبد اللّه بن سراقة، وأيّوب السجستاني، والبُخُل بضم الباء والخاء وهي قراءة عيسى بن عمرو. والبُخْل بضم الباء وجزم الخاء وهي قراءة الباقين، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية، وفي الحديد مثله. وكلُّها لغات، ونظيره في الكلام : (أرض جَرز، وجُرُز، وجُرْز). واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم : نزلت في اليهود؛ كتموا صفة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ولم يبيّنوها للنّاس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة. يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} ، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء. قال ابن عباس وابن زيد : نزلت في كردم بن زيد وأُسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم وينصحونهم، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم؛ فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا ندري ما يكون، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} إلى قوله : {مِن فَضْلِهِ} يعني المال. وقال يمان : يعني يبخلون بالصدقة. الفضل بن فضالة، عن أبي رجاء قال : خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد، فقال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ اللّه عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة، أحبَّ أن يُرى أثر نعمته عليه). ٣٨{وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً والذين ينفقون} إلى الأخير، محل الذين نصب عطفاً على قوله : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفاً على قوله : {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} نزلت في اليهود، وقال السدي : في المنافقين، وقيل : في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} صاحباً وخليلا، وهو فعيل من الاقتران، قال عدي بن زيد : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي {فَسَآءَ قَرِينًا} فبئس الشيطان قريناً، وقد نصب على التمييز، وقيل : على الحال، وقيل : على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما نقول : نعم رجلا، عبد اللّه، تقديره : نعم الرجل عبد اللّه، فلمّا حذف الألف واللام نصب، كقوله {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} ، و{سَآءَ مَثَلا} ، و {ساءت مرتفقاً} ، و{سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا} ، {وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقًا} ، و {كَبُرَ مَقْتًا} ، قال المفسرون : {فَسَآءَ قَرِينًا} أي يقول : {يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} . ٣٩-٤٠{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} وما الذي عليهم {لو آمنوا باللّه واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم اللّه وكان اللّه بهم عليماً إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّة} إلى آخر الآية، وماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم اللّه؟ فإنّ اللّه لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من خلقه من ثواب عمله شيئاً مثقال ذرّة مثلا، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول : إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّة، فكيف بأكثر منها؟ والمراد من الكلام : لا يظلم قليلا، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم، ولا يبين ضرره في المظلوم. وقيل : (...) ، ودليله من التأويل قوله تعالى : {إِنَّ اللّه يَظْلِمُ النَّاسَ شيئا} في الدنيا. واختلفوا في الذرّة، فقال ابن عباس : هي النملة الحميراء الصغيرة، لا تكاد تبين في رأي العين. وقال يزيد بن هارون : وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزاً حتى علاه الذرّة يستره، فلم يزد على وزن الخبز شيئاً. ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد اللّه أنّه قرأ : (إنّ اللّه لا يظلم مثقال نملة). يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، قال : أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها، ثم نفخ فيها، ثم قال : كلُّ واحدة من هؤلاء ذرّة، وقال بعضهم : أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة. وقيل : هي الخردلة. وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها، روى أنس أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّ اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة). قتادة : كان بعض أهل العلم يقول : لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبُّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعاً. عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النار)، قال : (يقولون : ربّنا إخواننا كانوا يُصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، فأدخلتهم النار؟ فيقول اللّه عزّ وجلّ : اذهبوا وأخرجوا من عرفتم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبه، فيخرجونهم فيقولون : ربّنا أخرجْنا من أَمرتَنا، ثم يقول تعالى : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرّة). وقال أبو سعيد : فمن لم لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية {إِنَّ اللّه يَظْلِمُ} . قال : (فيقولون : ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبقَ في النار أحد فيه خير). قال : (ثم يقول اللّه عزّ وجلّ : شُفعت الملائكة، وشُفعت الأنبياء، وشُفعت المؤمنون، وبقي أرحم الراحمين)، قال : (فيقبض قبضة من النار أو قال : (قبضتين) ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيراً قط، قد احترقوا حتى صاروا حمماً، قال : فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون وأجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم : (عتقاء اللّه عزّ وجلّ)، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا). قال : (فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين). قال : (فيقول : ان لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون : ربّنا وما أفضل من ذلك؟) قال : (فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً). وقال آخرون : هذا في الخبر عن ابن (...) عن عبد اللّه بن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأوّلين والآخرين، ثم نادى مناد من عند اللّه : ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ. قال : فيفرح واللّه المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه، وإن كان صغيراً، ومصداق ذلك في كتاب اللّه تعالى : {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون} ، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد : الأولين والآخرين، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق، فليأتِ إلى جنبه ثمّ يقال له : آتِ هؤلاء حقوقهم. فيقول : من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه تعالى لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة، قالت الملائكة : ربّنا أنت أعلم بذلك منهم، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة : ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة، ومصداق ذلك في كتاب اللّه {إِنَّ اللّه يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} . وإن كان العبد شقيًّا، فتقول الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول عزّ وجلّ : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكاً إلى النار. فمعنى الآية على هذا التأويل : لا يظلم، مثقال ذرّة للخصم على الخصم، بل يثيبه عليها ويضاعفها له، وذلك قوله {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} قراءة العامة {حَسَنَةٍ} بالنصب على معنى : وان يكن زنةُ الذرّة. وقرأها أهل الحجاز رفعاً، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة، وقال المبرّد : معناه وإن تك حسنة باقية يضاعفها. وقرأ الحسن : (نضاعفها) بالنون الباقون : بالياء، وهو الصحيح؛ لقوله : {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يُضعّفها. الباقون : يُضْعِفها وهما لغتان معناهما التكثير. وقال أبو عبيده : يضاعفها معناه يجعلها أضعافاً كثيرة، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين. {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} أي من عنده، قال الكسائي : في (لدن) أربع لغات لدن، ولدى ولدُ ولدُنْ. ولمّا أضافوها إلى انفسهم شدّدوا النون. {أَجْرًا عَظِيمًا} وهو الجنّة. عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن اللّه يعطيه ألفي ألف حسنة)، ثم تلا : {إِنَّ اللّه يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ، إلى {أَجْرًا عَظِيمًا}. وقال : (إذا قال اللّه : أجراً عظيماً، فمن بعد يدري قدره؟). ٤١{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيدٍ} يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد حق منها، يشهد عليهم بما عملوا، {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {عَلَى هؤلاء شَهِيدًا} ؟ نظيره في البقرة والنحل والحج. عاصم عن زر عن عبد اللّه قال : قال لي النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (اقرأ). فقرأت سورة النساء، حتى إذا بلغت، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيدٍ} دمعت عينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، وقال : (حسبنا). ٤٢{يَوْمَذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ} قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين، على معنى : تتسوّى فأُدغمت التاء بالسين، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء وتخفيف السين، على حذف تاء تفعل، كقوله : {تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} ، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، قالوا : سُوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً، وقال قتادة وعبيدة : يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها، وعادوا إليها كما خرجوا منها، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم، ابن كيسان : ودوّا أنهم لم يبعثوا طرّاً، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم. الكلبي : يقول اللّه عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع : كنّ تراباً فتسوّى بها الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع، بيانه قوله عزّ وجلّ : {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً). قال الثعلبي : وحكي أُستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية : يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية، بيانه : يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه} الآية. {وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا} ؟ : قال عطاء : ودّوا لو تسوّى بهم الأرض، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ولا نعته، وقال آخرون : بل هو كلام مستأنف، يعني ويكتمون اللّه حديثاً؛ لأنّ ما عملوا لا يخفى على اللّه عزّ وجلّ، ولا يقدرون على كتمانه، الكلبي وجماعة : لا يكتمون اللّه حديثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم. سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس، فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن، أهو شك فيه؟ قال : لا، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك، فقال : اسمع، اللّه عزّ وجلّ يقول : {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، وقال : {لا يكتمون اللّه حديثاً} فقد كتموا، فقال ابن عباس : أمّا قولهم {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم لما رأوا يومَ القيامة أنّ اللّه يغفر لأهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنشهد فجحد المشركون، فقالوا : {وَاللّه رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلا يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا} . الحسن : إنّها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الاّ همساً، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون، ويقولون : {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وما كنّا نعمل من سوء، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله عزّ وجلّ {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ} ، وفي موضع آخر يسألون الرحمة، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم، وجوارحهم تتكلم، وهو قوله تعالى {وَ يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثًا} . ٤٣{يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) انوا يشربون الخمرة، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يُصلّون، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} نشاوى من الخمر، جمع سكران، وقرأ النخعي : (جُنباً) وهما لغتان. {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وتقرؤون في صلاتكم، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة. سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم : {تَقْرَبُوا الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} ، قال : لم يعنِ سكر الخمر، إنّما يعني سكر النوم. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه). هشام بن عروة أيضاً عن أبيه عن عائشة، قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا نعس الرجل وهو يصلّي، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري). همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدرِ ما يقول، فليضطجع). وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال : هو الحاقن، دليله قوله (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يصلينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين). {وَلا جُنُبًا} نصب على الحال، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب، وقرأ إبراهيم النخعي : (جُنْباً) بسكون النون، يقال : رجل جنب، ورجلان وامرأتان جُنب، ورجال ونساء جُنب، والفعل منه أجنب يجنب، وأصل الجنابة البُعد، فقيل له : جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر، ثم استثنى فقال : {إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ} واختلفوا في معناها، فقال : بعضهم : الاّ إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير. وقال الآخرون : معناه إلاّ مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد، فيجنب، أو يكون الماء فيه، أو يكون طريقه عليه، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يُقيم، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله {صلاتٌ} اي موضع الصلوات، وهذا قول عبد اللّه وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي، يدلّ عليه ماروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فيصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّاً للماء إلاّ في المسجد، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية. وأصل العبور : القطع يقال : عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما. {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىا} جمع مريض. إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألا إنّ مسجدي حرام على كلِّ حائض من النساء، وعلى كلِّ جُنب من الرجال إلاّ على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام). وأراد به مرضاً يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح، أو كسر قد وضع عليه الجبائر، فإنّه رخّص له في التيمّم، هذا قول جماعة من الفقهاء، إلاّ ما ذهب (إليه) عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء، واحتّجا بقوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا} ، وهذا واجد الماء. وهذا غلط، لما روى عطاء عن جابر قال : خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسلَ، فمات، فلمّا قدمنا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أُخبر بذلك، فقال : (قتلوه قتلهم اللّه، هلاّ سألوا إذا لم يعلموا، فإنّما شفاء العىّ السّؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده). {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} طويلا كان أو قصيراً، فله التيمّم عند عدم الماء، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يُعدم فيه الماء (عادة)، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأساً، أو في قرية فانقطع ماؤها، ففيه ثلاث مذاهب : ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي. {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآطِ} قرأ الزّهري : (من الغيط)، والغيط والغوط والغائط كلُّها بمعنًى واحد، وهي الخبت المطمئن من الأرض، وقال مجاهد : هو الوادي، الحسن : الغور من الأودية، وتصوّب. المؤرّخ : قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها، وجمعها غيطان، والفعل منه (غاط يغوط)، مثل (عاد يعود). وتغوّط يتغوّط، إذا أتى الغائط، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحدث بالغائط مثل العذرة والحدث، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ} قرأ حمزة والكسائي وخلف : (لمستم) بغير ألف هاهنا، وفي المائدة وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم. واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة، فقال قوم : المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقال سعيد بن جبير : ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع، وقال ناس من العرب : هو الجماع، فأتيت ابن عباس فذكرت له، فقال : من أيّ الفريقين كنت؟ قلت : من الموالي. قال : غُلب فريق الموالي، إنّ اللمس والمسّ والمباشرةَ الجماعُ، لكنّ اللّه يكنّي عمّا يشاء بما يشاء، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع؛ لأنّ اللمس يوصَل إليه، كما يقال للسّحاب : سماء، وللمطر : سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر، وبالمطر يوصل إلى الكلأ، قال الشاعر : إذا سقط السّماء بأرض قوم رعيناه وإنْ كانوا غضابا وقال الآخرون : هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم. واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب، فقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي : إن كان للمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، فأجراه مجرى مسّ الفرج. وقال مالك والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه : إذا كان اللمسّ للشهوة نقض، وإنْ كان لغير شهوة لم ينقض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنْ كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلاّ لم تنقض، والملامسة الفاحشة : ما تحدث الإفساد. وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال، وبه قال من الصحابة ابن عباس، ومن التابعين الحسن البصري، وإليه ذهب محمد بن الحسين. وعن الثوري روايتان : إحداهمها هذا، والثانية مثل (قول مالك بدليل الشافعي من الآية) أنّ الملامسة باليد ما روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه نهى عن بيع الملامسة، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد، وأنشد الشافعي : لمست بكفي كفّه طلب الغنى ولم أدر أن الجود من كفّه يُعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى أفدت وأعداني فأنفقت ما عندي روى الزهري عن سالم عن أبيه قال : جسها بيده من الملامسة، ويدل عليه ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ أنّ رجلا سأل النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلاّ الجماع، فقال : (يتوضّأ وضوءاً حسناً) ، فثبت أنّ اللمسّ ينقض الوضوء. احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها، بما روى مالك عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت : كنت أنام بين يدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلىّ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت : إن كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله. وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت : فقدت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ات ليلة، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول : (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك). وفي بعض الاخبار : فلما فرغ من صلاته قال لي : (يا عائشة أتاكِ شيطانكِ؟) ، قالوا : فلمسته عايشة وهو في الصلاة فمضى فيها. ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء. روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان يُقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ. وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه : لمس ينقض الوضوء قولا واحداً، ولمس لا ينقض الوضوء، ولمس مختلف فيه، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة (....) متعمداً حية كانت أو ميتة، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة، أو امرأة كبيرة، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها، (وفيه) قولان : أحدهما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد (....)، والثاني لا ينقض لانّه لا تدخل للشهوة فيهن، يدلّ عليه ما روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها. وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن حائل، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقاً أو رقيقاً، هذا قول الجمهور. وقال مالك : ينقضها إن كان رقيقاً ولا ينقضها إن كان صفيقاً، وقال الليث وربيعة : ينقضها سواء كان صفيقاً أو رقيقاً، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية {أَوْ لَامَسْتُمُ} فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل، وعليه إنّه لو حلف ألاّ يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث. فهذا كلّه حكم اللامس، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا؟ فعلى قولين للشافعي : أحدهما : أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ. والثاني : لا ينتقض لخبر عائشة : (فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) واللّه أعلم. قوله تعالى : {فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا} اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأُمة لما روى ربّعي بن خمّاش، عن حذيفة قال قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فُضّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، جُعلت الأرض لنا مسجداً، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء). وأما بدء التيمّم فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كنّا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالأبواء، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء، فصلّ، فأخبرت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأمر بالتماسه فالتُمس، فلم يوجد، فأناخ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فباتوا ليلتهم تلك، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء، فأتى الناس أبا بكر، فقالوا : ألا ترى إلى عائشة حبست رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على غير ماء؟ فجاء أبو بكر، ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني، وقال : ما شاء اللّه وقال : قبّحها اللّه من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك إلاّ أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان واضعاً رأسه على فخذي، فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى أصبح على غير ماء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ آية التيمّم. قالت : فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته، فقال أُسيد بن حضير : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم اللّه خيراً، فواللّه ما نزل بكِ أمر قط تكرهينه إلاّ جُعل لكِ وللمسلمين فيه خيرٌ. فأباح اللّه تعالى التيمّم لخمس شرائط : أحدها : دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمّم إلاّ بعد دخول وقت الصّلاة، وقد يجمع بالتيمم بين صلاتي فرض، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، قالوا : لأنها طهارة ضرورة، فقسناها على المستحاضة، ولأنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا). وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليَ رضى اللّه عنه قال : (تيمّموا لكلِّ صلاة). وروي ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس قال : بل تتيمم لكلِّ صلاة وإن لم تحدث. وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمساً من الفرايض والنوافل، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا بقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج). والشرط الثاني من الشرايط المبيحة للتيمم : طلب الماء، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإنْ لم يجد طلب من أصحابه، فإنْ لم يجد عندهم طلبَ يميناً وشمالا ووراء وأمام، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر، فإنْ رأى إنساناً قادماً فليتعرّف منه، فإنْ تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة : طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب، فان تيمم قبله أجزأه، لأنه لو كان شرطاً فيه لكان شرطاً في النافلة لعدم الماء، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضاً للفريضة دونه، دليلها قوله تعالى : {فلم تجدوا ماءاً فتيمموا صعيداً طيبا}، ولا يقال : لم يجز إلاّ لمن طلب الماء، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيتاً فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن. والشرط الثالث : إعوازه بعد طلبه، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه. والشرط الرابع : العذر من مرض أو سفر لقوله : {وَإِن كُنتُم مَّرْضَىا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} . والمرض على ثلاثة أضرب : مرض لا يضرّ استعمال الماء معه، فلا يجوز التيمم معه، وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّمَ، وأعاد إذا قدر على غسل الدم، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء، والمتعيّن فيه أوجه : الأول : أنه يجوز التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني : أنه لا يجوز فإنْ كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم، ولا يجزيه أحدهما دون الآخر، وقال أبو حنيفة : إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء، ولم يُجزِهِ معه التيمم ولا دونه، وإن كان أكثر بدنه جريحاً يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع. قال : (ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها)، وكذلك لو وجد الجُنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه، ولا الجُنب لأغساله، وللشافعي فيه قولان : أحدهما : أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني. والقول الثاني : يلزمه استعمال القدر الذي وجده، والتيمم كما حُدّثته، وإن كان جُنباً غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين، وإن كان محدثاً غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها. وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلاّ على وضوء كالخفين، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقياً ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلاّها بالمسح على الجبائر أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : عليه الإعادة. والثاني : لا إعادة عليه، وهو اختيار المزني، والدليل عليه ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزماً انكسر إحدى زنديه فأمره النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يمسح على الجبائر، قال الشافعي : إن صح حديث عليّ قلت به، وهذا مما استخير اللّه فيه. وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر؛ فإن لم يخشَ تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها، وإن خاف على ذلك لم ينزعها، ولكنه يغسل ما يقدر عليه، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها. وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر، طالت أو قصرت؛ لأنّ اللّه تعالى لم يفرّق بينهما، دليله ما أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر : إنّه أقبل من الجُرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يُعد الصلاة، والجرف قريب من المدينة. والشرط الخامس : النية المكنونة. وقوله تعالى : {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} عنى : اقصدوا تراباً طيباً، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب : قال أبو حنيفة : يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها، وإن لم يعلق بيده منها شيء، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق، بل وحتّى الغبار، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه، لإنّه ليس من جنس الأرض. قال مالك : يجوز بالأرض وبكلِّ ما اتّصل فيها، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر، فقال : لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه. وقال الأوزاعي والثوري : يجوز بالأرض وبكلِّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه، واحتجوا بما روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول : أقبلت أنا وعبد اللّه بن يسار مولى ميمونة، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم : أقبل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه. وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا؛ لأن اللّه عزّ وجلّ قال : {وتيمّموا صعيداً طيّبا} فالصعيد اسم التراب، والطيب اسم لما ينبت، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب، والدليل عليه قوله تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} ، ولقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (جُعلتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً)، فخصّ التراب ذلك، واللّه أعلم. {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} وقد مضى الكلام في الممسوح به، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب : فقال الزهري : تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب، واحتجّ بما روى عبد اللّه ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها، فاحتبسوا في طلبه يوماً، قال : فنزلت آية التيمم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا أيديهم، ولم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ثم بطون أيديهم إلى الآباط. وقال ابن سيرين : ثلاث ضربات : ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للمرفقين، وبه قال من الصحابة عبد اللّه بن عمر وجابر بن عبد اللّه، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث، رضي اللّه عنهم، واحتجوا بما روى الأعرج عن أبي الصمّة أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تيمّم فمسح وجهه وذراعيه. وروى أبو أُمامة وابن عمر أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (التيمّم ضربتان : ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين). وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال : قال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ارجل بنا يا أسلع). فقلت : أنا جُنب. فسكت، إلى مكة فنزلت آية التيمّم، فقال : (يكفيك هذا). فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه؛ ظاهرهما وباطنهما.وقال عليٌّ كرم اللّه وجهه : (هو ضربتان : ضربة للوجه وضربة للكفين). وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول سعيد بن المسيّب، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقول اللّه تعالى : {وَأَيْدِيكُمْ} ، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع، وقد قال اللّه تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فاحتجوا بما روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال في التيمم : (ضربة للوجه والكفين، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث). فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلاّ ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن مسعود أنهما قالا : لا يحقّ للجُنب التيمّم، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل، وقال مفسرّاً قوله عزّ وجلّ : {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ} أراد اللمس باليد دون الجماع. وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي أنّ رجلا سأل عمر عن جُنب لا يجد الماء، فقال : لا يصلّي حتى يجد الماء، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر حين بعثنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب، فأتيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فذكرت ذلك له، فقال : (قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا). وضرب بيده على الأرض فمسح وجهه وبدنه؟ فقال : اتّقِ اللّه يا عمار، فقال : إن شئت لم أذكره أبداً. وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي، قال : كنت عند عمر رضي اللّه عنه، فسأله إعرابي فقال : إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء، فقال : أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل؟ فقال : بلى. قال : فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فذكرت ذلك له فضحك، وقال : (كان يجزيك هكذا). وبسط عمّار كفيه، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأُخرى فمسح بهما وجهه، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير، فقال عمر : اتّقِ اللّه يا عمار. فقال : يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبداً، قال : لا بل نولّيك (ما تولّيت). وروى الأعمش عن شقيق قال : كنت جالساً مع عبد اللّه وأبي موسى، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن، الرجل جُنب فلا يجد الماء أُيصلّي؟ فقال : لا. فقال : أما تذكر قول عمار لعمر : بعثنا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب، فأتيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فذكرت ذلك له، فقال : (كان يكفيه هكذا). وضرب بيديه الأرض فسمح وجهه ويديه؟ فقال : لم أر عمر قنع بذلك، قال : فما يصنع بهذه الآية {فلم تجدوا ماءاً فتيمّموا صعيداً طيبا}؟ فقال : أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد، قال الأعمش : فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلاّ حباً له، قال : يدلّ علي أن صلاة الجُنب بالتيمّم جايز، ما روى ابن عوف عن أبي رجاء، قال : سمعت عمران بن حصين يقول : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رأى رجلا معتزلا لم يصلِّ في القوم، فقال : (يا فلان، ما منعك أن تصلّي مع القوم؟). فقال : يا رسول اللّه أصابتني جنابة ولا ماء، قال : (عليك بالصعيد فإنّه يكفيك). وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال : صلّيت خلف النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وكان رجل جُنب، فأمره النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يتيمّم ويصلّي، فلمّا وجد الماء أمره النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد. عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين). ٤٤قوله عزّ وجلّ : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} يعني يهود المدينة، وقال ابن عباس : نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلّم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لويا لسانيهما وعاباه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ} مختصر تقديره : ويشترون الضّلالة بالهدى {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا} يا معشر المؤمنين، وقرأ الحسن تُضَلّوا، {السَّبِيلَ} أي عن السبيل. ٤٥{وَاللّه أَعْلَمُ بِأَعْدَآكُمْ} منكم، فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم، ويجوز أن يكون {أَعْلَمُ} بمعنى عليم (كقوله تعالى : {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، {وَكَفَى بِاللّه وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّه نَصِيرًا * مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ} ، فإنّ شئت جعلتها متصلة بقوله ٤٦{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا}، وإنّ شئت جعلتها منقطعة عنها مستأنفة، ويكون المعنى : من الذين هادوا مَن يحرّفون، كقوله : {وَمَا مِنَّآ إِلا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} اي من له مقام معلوم، وقال ذو الرمّة : فظلوا ومنهم دمعُهُ سابق له وآخر يذري دمعة العين بالمهل يريد : ومنهم من دمعه. {يُحَرِّفُونَ} يغيّرون، {الْكَلِمَ} وقال علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) : (الكلام عن مواضعه، يعني صفة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ، وآية الرجم)، وقال ابن عباس : كان اليهود يأتون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ويسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنّهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه. {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي غير مقبول منك، وقيل : هو مثل قولهم : اسمع لا سمعت. {وَرَاعِنَا} : وارعنا، وقد مضت القصة في سورة البقرة، {لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا} قدحاً {فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا} مكان راعنا {لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ} أصوب وأعدل، ٤٧{ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا يا أيها الذين أُوتوا الكتاب} خاصة باليهود، {بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا} يعني القرآن، {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} قال ابن عباس : كلّم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد اللّه بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم : (يا معشر اليهود اتقوا اللّه وأسلموا، فواللّه إنّكم تعلمون أنّ الذي جئتكم به لحقّ) ، فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد وأنكروا وأصرّوا على الكفر، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {يا أيّها الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقاً لما معكم}. {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ} قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء بضمّها، وهما لغتان، قال ابن عباس : يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة. قتادة والضحاك : نعميها، ذَكر الوجه والمراد به العين {نردّها على أدبارها} أي نحوّل وجوهها إلى ظهورها، ونجعل أبصارها من جهة أقفائها، وهذه رواية عطية عن ابن عباس. الفرّاء : الوجوه منابت للشعر كوجوه القردة، لأنّ منابت شعور الآدميين في أدبار وجوههم. القتيبي : نمحو آثارها وملامحها من عين وحاجب وأنف وفم، فنردّها على أدبارها أي كالأقفاء. فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس وجوههم إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟ فالجواب أن نقول : جعل بعضهم هذا الوعيد باقياً منتظراً، فقال : لابد من طمس وجوه اليهود أي بالمسخ قبل الساعة، وهذا قول المبرّد، وقال بعضهم : كان هذا وعيداً بشرط، فلمّا أسلم عبد اللّه بن سلام وأصحابه رفع الباقين، وقيل : لمّا أُنزلت هذه الآية، أتى عبد اللّه بن سلام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال : يا رسول اللّه ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وقال النخعي : قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب : يا ربّ أسلمت، يا ربّ أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية. وقال سعيد بن جبير : الطمس أن يرتدّوا كفاراً فلا يهتدوا أبداً. الحسن ومجاهد : من قبل أن نُعميَ قوماً عن الصراط وعن بصائر الهدى، فنردّها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءاً، وهو الشام. وأصل الطمس : المحو والإفساد والتحويل، ومنه يقال : رسم طاسم، وطامس أي دارس، والريح تطمس الأثر أي تمحوه وتعفوه. {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ} فنجعلهم قردة وخنازير {وكان أمر اللّه مفعولا إنّ اللّه لا يغفر أن يُشرك به} الآية، قال الكلبي : نزلت في المشركين : وحشي بن حرب وأصحابه، وقال : إنّه لما قَتل حمزة، وكان قد جُعل له على قتله أن يعتق، ولم يوفَ له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على صنيعه هو أصحابه، فكتبوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلاّ أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} ، وقد دعونا مع اللّه إلهاً آخر، وقتلنا النفس التي حرّم اللّه، وزنينا، ولولا هذه الآية لاتبعناك، فنزلت {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ} الآيتين فبعث بهما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرأوها كتبوا إليه : هذا شرط شديد نخاف ألاّ نعمل عملا صالحاً فلا نكون من (أهل) هذه الآية {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} فبعث بها إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه : إنا نخاف ألاّ نكون من أهل مشيئته، فنزلت : {ياعباد الذين أسرفوا على أنفسهم...} ، فبعث بها إليهم فلما قرؤوها دخل هو أصحابه في الإسلام، ورجعوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقبل منهم، ثم قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لوحشي : (أخبرني كيف قتلت حمزة؟)، فلما أخبره قال : (ويحك غيّب وجهك عنّي) ، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات. ٤٨وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في اليهود {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} فمشيئته لأهل التوحيد. أبو مجلز، عن ابن عمر : نزلت في المؤمنين، وذلك أنّه لمّا نزلت {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الآية قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل، فقال : والشرك باللّه؟ فسكت ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثاً، فنزلت : {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، فأُثبتت هذه في الزمر وهذه في النساء. المسيب بن شريك، عن مطرف بن الشخير قال : قال ابن عمر : كنّا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا أنّه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ، فأمسكنا عن الشهادات. عن جابر بن عبد اللّه أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تزال) المغفرة تحل بالعبد ما لم يرفع الحجاب). قيل : يا رسول اللّه، وما (وقوع) الحجاب؟ قال : (الإشراك باللّه) ثم قرأ : {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية. مسروق عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من لقي اللّه لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة ولم يضرّه معه خطيئة، كما لو لقيه وهو يشرك به شيئاً دخل النار ولم تنفعه حسنة). وعن عليّ (رضي اللّه عنه) عنه قال : (ما في القرآن أرجى إليّ من هذه الآية {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ). ٤٩{ومن يشرك باللّه فقد افترى إثماً عظيماً ألم تر إلى الذين يُزكّون أنفسهم} الآية، قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) منهم عدي بن عمرو والنعمان ابن أوفى وصهيب بن زيد، فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال : (لا)، فقالوا : واللّه ما نحن إلاّ كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، وما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، فكفّرهم اللّه تعالى، وأنزلت هذه الآية. الحسن والضحاك وقتادة وسفيان والسّديّ : نزلت في اليهود والنصارى ممن قالوا : {نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} وقالوا : {لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً ونصارى}. مجاهد وعكرمة : هو أنّهم كانوا يقدّمون أطفالهم في الصّلاة يزعمون أنهم لا ذنب لهم، فتلك التزكية. عطية عن ابن عباس : هو أنّ اليهود قالوا : إنّ آباءنا وأبناءنا تُوفوا، فهم سيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال عبد اللّه : هو تزكية بعضهم لبعض، وعن طارق ابن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، فيقول : واللّه إنّك لذيت لذيت، فلعله لا يخلو منه شيء، فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد اللّه : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم} . {بَلِ اللّه يُزَكِّى} أي يطهّر من الذنوب {مَن يَشَآءُ} (...) لذلك {ولا يظلمون فتيلا} وهو ما يكون في شق النواة، وقيل : هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ فيكون فعيلا بمعنى مفعول قال الشاعر : يجمع الجيش ذا الالوف فيغزو ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا ٥٠{انظُرْ} يا محمد {كَيفَ يَفْتَرُونَ} يحيكون على اللّه الكذب في تفسيرهم كتابه ٥١{وكفى به إثماً مبيناً ألم تر إلى الذين أوتُوا نصيباً من الكتاب} قرأ السلميّ : (ألم تره) في كلّ القرآن، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته، كقول الشاعر : من يهدِه اللّه يهتدْ لا مضل له ومن أضل فما يهديه من هادي {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} اختلفوا فيهما، فقال عكرمة : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون اللّه. أبو عبيدة : هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان، يدل عليه قوله : {أَنِ اعْبُدُوا اللّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله : {الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} . عطية عن ابن عباس : الجبت : الأصنام، والطاغوت : تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس، وقيل : الجبت : الأوثان، والطاغوت : شياطين الأصنام، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس. أبو عمرو الشّعبي ومجاهد : الجبت : السحر، والطاغوت : الشيطان. زيد بن أرقم : الجبت : الساحر، ويقال له : الجبس، قلبت سينه تاء، والطاغوت : الشيطان، يدلّ عليه قوله : {الذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت} . قال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطّاغوت : الساحر، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس. سعيد بن جبير وأبو العالية، الجبت : شاعر بلسان الحبشة، والطّاغوت : الكاهن. عكرمة : كان أبو هريرة كاهناً في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم، فنزلت هذه الآية. الضحاك والكلبي ومقاتل : الجبت : حيي بن أخطب، والطاغوت : كعب بن الأشرف ودليله قوله : {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} . حكى أبو القاسم الحسين، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس، والطاغوت أولياؤه، عن قطر بن قيصيه، عن مخارق عن أبيه، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الطرق والطيرة والعيافة من الجبت، والجبت كلّ ما حرّم اللّه، والطّاغوت هو ما يُطغي الإنسان). {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سبيلا} قال المفسّرون : خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة : إنّكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب ونحن أُمية، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم، وإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل ذلك، فذلك قوله : {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنَّ على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب الى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب : اعرضوا عليَّ دينكم، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال كعب : أنتم واللّه أهدى سبيلا ممّا عليه محمد، فأنزل اللّه الآية {إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} : يعني كعباً وأصحابه، يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني الصنمين {يقولون للذين كفروا} أبي سفيان وأصحابه : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا؛ محمد وأصحابه سبيلا أي ديناً. ٥٢-٥٣{أُولَاكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّه وَمَن يَلْعَنِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} . {أَمْ لَهُمْ} يعني ألهمْ، والميم صلة {نَصِيبٌ} حظ {مِّنَ الْمُلْكِ} وهذا على وجه الإنكار، يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم من الملك {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ} محمداً وأصحابه {نَقِيرًا} من حسدهم وبخلهم وبغضهم. رفع قوله (يؤتون) (.........). وفي قراءة عبداللّه : فإذاً لا يؤتوا الناس بالنصب (.........). واختلفوا في النقير، فقال ابن عباس : هو النقطة في ظهر النواة، ومنها : (.......) مجاهد : حبّة النواة التي وسطها. الضحّاك : يعني النواة الأبيض الذي يكون وسطها. أبو العالية : هو نقر الرجل الشيء بطرف إصبعه، كما يُنقر الدرهم وقال : سألت ابن عباس عنه فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعها وقال : هذا هو النقير. ٥٤{أَمْ يَحْسُدُونَ} يعني اليهود {النَّاسُ} : قال قتادة : يعني العرب حسدوهم على النبّوة وبما أكرمهم اللّه تعالى به محمد (صلى اللّه عليه وسلم) عن محمد بن كعب القرظي قال : سمعت علياً (عليه السلام) على المنبر في قوله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَ اهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ} قال : هو رسول اللّه وأبو بكر وعمر (عليهم السلام). وقال آخرون : المراد بالناس هنا يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، حسدوه على ما أحل اللّه له من النساء؛ وذلك ما روى علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي في قوله {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَ اهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ} يعني بالناس في هذه الآية نبيّ اللّه، قالت اليهود : انظروا إلى هذا النبي، واللّه ما يشبع من طعام، لا واللّه ماله همّ إلاّ النساء، لو كان نبي لشغله أمر النبوة عن النساء، فحسدوه على كثرة نسائه وعيّروه بذلك فقالوا : لو كان نبيّاً ما رغب في كثرة النساء، فأكذبهم اللّه تعالى فقال : {فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، يعني بالحكمة النبوّة. {وآتيانهم ملكاً عظيما} فأخبرهم بما كان لداود وسليمان من النساء، فوبّخهم لذلك، فأقرت اليهود لنبي اللّه (عليه السلام) أنّه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، ثلثمائة مهرية وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟ وكان يومئذ تسع نسوة عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسكتوا. ٥٥قال اللّه تعالى : {فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ} يعني بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) يعني عبداللّه بن سلام وأصحابه {وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ} أعرض عنه فلم يؤمن به {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} وقوداً. قال السدي : (الآيتان) راجعتان الى إبراهيم (عليه السلام)؛ وذلك أنه زرع ذات سنة وزرع الناس، فهلكت زروع الناس وزكا زرع إبراهيم، واحتاج الناس إليه، وكانوا يأتون إبراهيم (عليه السلام) يسألونه، فقال لهم : من آمن باللّه أعطيته، ومن أبى منعته، فمن آمن به أتاه الزرع ومن أبى لم يعطهِ. عن عمرو بن ميمون الأودي قال : لمّا تعجل موسى (عليه السلام) إلى ربّه عزَّ وجل، مرّ برجل غبطه لقربه من العرش، فسأل عنه، فقال : يا ربّ من هذا؟ فقيل له : لن يخبرك اسمه، وسيخبرك بعمله، كان لا يمشي بالنميمة، ولا يحسد الناس على ما آتاهم اللّه من فضله، وكان لا يعقّ والديه. أبو زياد عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب). وعن يوسف بن الحسين الرازي قال : سمعت ذا النون يقول : الحسود لا يسود. الأصمعي قال : قال سفيان لمغني : إنَّ اللّه يقول : (الحاسد عدوّ نعمتي غير راض بقسمتي بين عبادي). قال الثعلبي : وأنشدت لمنصور الفقيه في معناه : آلا قل لمن كان لي حاسداً أتدري على من أسأت الأدبْ أسأت على اللّه في فعله إذا أنت لم ترضَ لي ما ذهبْ جزاؤك منه الزيادات لي وأن لا تنال الذي تطلب ٥٦{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} ندخلهم ناراً، وقرأ حميد بن قيس : نصليهم بفتح النون : أي نسوّيهم، وقيل : معناه نَصليهم. فنصب ناراً على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. {كلّما نضجت بدّلناهم جلوداً غيرها} غير الجلود المحترقة. قال ابن عبّاس : يُبدّلون جلوداً بيضاً كأصناف القراطيس. نافع عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قال عمر : أعدْها، فأعادها، قال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها : بدّلت في ساعة مائة مرّة؟، قال عمر : هكذا سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول. هشام عن الحسن في قوله تعالى : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} قال : تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرّة كلّما أكلتهم فأنضجتهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا. المسيّب عن الأعمش عن مجاهد قال : ما بين جلده ولحمه ودمه دود فأجلدت كجلدة حمر الوحش. الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً وضرسهُ مثل أُحد). فإن قيل : كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا : إنّ المعاصي والألم واقع على نفس. الإنسان لا الجلد، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب) الجلود (قوله : {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ، لم يقل ليذوق العذاب. وقيل : معناه : يبدّل جلوداً هي تلك الجلود المحترقة، وذلك أنّ غير على ضربين : غير تضاد، وغير تناف، وغير تبديل، فغير تضاد مثل قولك : للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتماً غيره فيكسره ويصوغ لك خاتماً، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد. وهذا كعهدك بأخٍ لك صحيحاً ثم تراه بعد ذلك سقيماً مدنفاً فتقول : فكيف أنت؟ فيقول : أنا على غير ما عهدت، فهو هو، ولكن حالهُ تغيّرت، ونظير هذا قوله تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} وهي تلك الأرض بعينها إلاّ أنها قد بُدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها، وأنشد : فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول : سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت جابر بن زيد يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : سمعت إسرائيل يقول : سمعت الشعبي يقول : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة ذمَّت دهرها وذلك (أنها) أَنشدت بيتي لبيد : ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتلذّذون مجانة ومذلّة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فقالت : رحم اللّه لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا. فقال له ابن عباس : لئن ذمّت (عائشة) دهرها لقد ذمت عاد دهرها، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعدما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحاً عليه مكتوب : وليس لي أحناطي بذي اللوى لوى الرمل من قبل النفوس معاد بلاد بها كنا ونحن من أهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد البلاد باقية كما هي إلاّ أن أحوالها وأحوال أهلِها تنكرت وتغيرت. وقالت الحكماء : كما إن الجلد يلي قبل البعث فأنشىء كذلك تبدل (ورجع). وقال : (السدّيّ) : إنما تبدل الجلود جلوداً غيرها من لحم الكافر، يعيد الجلد لحماً ويخرج من اللحم جلداً آخر لم يبدّل بجلد لم يعمل خطيئة. وقيل : أراد بالجلود سرابيلهم من قطران سمّيت بها للزومها جلودِهم على (المجاورة) كما يقال للشيء (الخاص) بالانسان هو جلدة مابين (عضمه) ووجهه فكلما احترقت السرابيل عذّب. قال الشاعر : كسا اللؤم تيماً خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر فكنّى عن جلودهم بالسرابيل. قال عبد العزيز بن يحيى : إن اللّه تعالى أبدل أهل النار جلوداً لاتألم ويكون (رماده) عذاب عليهم فكلّما أُحرق جلدهم أبدلهم اللّه تعالى جلداً غيره. يكون هذا عذاباً عليهم كما قال : {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} فتكون السرابيل تؤلمهم ولا يألم. ٥٧{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله {ظِلا ظَلِيلا} . كثيف لا يسخنه الشمس. ٥٨{إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة، فلما دخل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) مكة يوم الفتح، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المفتاح، فقيل : إنّه مع عثمان، فطلب منه علي (رضي اللّه عنه) فأجاب : لو علمت إنه رسول اللّه لم أمنعه المفتاح، فلوى عليّ بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) يده، فأخذ منه المفتاح وفتح الباب، ودخل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) علياً أن يردّ المفتاح إلى عثمان، فأوعز إليه ففعل ذلك علي (رضي اللّه عنه). فقال له عثمان : يا علي (كرهت) وآذيت ثم جئت ترفق، فقال له : بما أنزل اللّه تعالى في شأنك؟ وقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان : أشهد أن لا اله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمداً رسول اللّه، وأسلم، فجاء جبرائيل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنه مادام هذا البيت أول لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وهو اليوم في أيديهم. {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّه نِعِمَّا} أي نعم الشيء أي {يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّه كَانَ سَمِيعَا بَصِيرًا} ٥٩{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللّه وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُم}. اختلفوا فيهم، فقال عكرمة : أولي الأمر منكم أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما، ويدلّ عليه ما روى مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض أما في السماء جبرئيل وميكائيل، وفي الأرض أبو بكر وعمر) وهما عندي بمنزلة الرأس من الجسد ومثلهما في الدنيا بالرأفة فمثل أبي بكر كمثل ابراهيم وعيسى، قال إبراهيم : {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} . وقال عيسى : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية. ومثل عمر كمثل موسى ونوح قال موسى : {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} . وقال نوح : {رَّبِّ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} . وقال أبو بكر (الورّاق) : هُم الخلفاء الراشدون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليهم السلام)، ويدلّ عليه ما روى (هشيم) عن ابن بشير عن أبي (الزبير عن) جابر بن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : (الخلافة بعدي في أُمتي في أربع في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي). وروي سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : لما بنى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المسجد، جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال : هؤلاء ولاة الأمر من بعدي. عطاء : هم المهاجرون والأنصار والتابعون بالإحسان، دليل قوله تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأولون مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَانصَارِ} الآية. بكر بن عبد اللّه المزني : هم أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يدلّ عليه قول النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم). وعن الحسن : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (مثل أصحابي في الناس مثل الملح في الطعام فلما ذهب فسد الطعام). جابر بن عبد اللّه والحسن والضحاك ومجاهد والمبارك بن فضالة واسماعيل بن أبي خالد : هم الفقهاء والعلماء أهل الدين والفضل الذين يعلّمون الناس معالم دينهم ويأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر، وأوجب اللّه طاعتهم على العباد. هذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو دليل هذا التأويل. قوله تعالى : {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى امْرِ مِنْهُمْ} الآية. فقال أبو الاسود الدؤلي : ليس شيء أعزّ من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. إبن كيسان : أُولو العقل والرأي الذين (يهتمّون) بامور الناس. قال ابن عباس : أساس الدين بني على العقل وفرضت الفرائض على العقل، وربُّنا يُعرف بالعقل ويتوسل إليه بالعقل، والعاقل أقرب إلى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل، ولمثقال ذرّة من (بر) العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام. وعن إسماعيل بن عبد الملك قال : قال : (الثوري) أوحى اللّه تعالى إلى نبي من الأنبياء : إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً. ميمون بن مهران ومقاتل والسدي (والشعبي) : أمراء السرايا. (سعيد بن جبير) عن ابن عباس قال : بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب وكان معه عمار بن ياسر فسار خالد حتى إذا دنا من القوم عرّس لكي ينصحهم فأتاهم (النذير) وهربوا غير رجل كان قد أسلم فأمر أصحابه تهيّأوا للمسير فثم انطلق حتى اتى عسكر خالد فدخل على عمار فقال : يا أبا اليقظان إني مسلم وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت كلامي ونافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي. فقال : أقم فإنّ ذلك نافعك، فانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام، فاصبح خالد وقام على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل فأخذه وأخذ ماله فأتاه عمار فقال : خلِّ سبيل الرجل فإنه مسلم وقد كنت آمنته وأمرته بالمقام. فقال خالد : إنك تجير عليَّ وأنا الأمير، فقال : نعم. أجير عليك وأنا الأمير، وكان في ذلك منهما كلام، فانصرفوا إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأخبروه خبر الرجل فآمنه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأجاز أمان عمار ونهاه بعد ذلك على أمير بغير إذنه. قال : فاستبّ عمار وخالد أمام النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأغلظ عمار لخالد وغضب خالد وقال : يا رسول اللّه اتدع هذا العبد يسبني فواللّه لولا أنت ما سبّني عمار. وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا خالد كف عن عمار فإنه من يسبّ عماراً يسبّه اللّه ومن يبغض عماراً يبغضه اللّه) ، فقام عمار وتبعه خالد فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه. وأنزل اللّه هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر. وقال أبو هريرة وابن زيد : هم الأمراء والسلاطين لما أُمروا بأداء الأمانة في الرعيّة، لقوله : {إِنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تؤدوا الأمانات إِلَىا أَهْلِهَا} (أمرت الرعية) بحسن الطاعة لهم. وقال عليّ كرم اللّه وجهه : (حق على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك حق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا). قال الشافعي (رضي اللّه عنه) : إن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف أمارة وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الأمارة، فلما دانت لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأُمروا أن يطيعوا أولي الأمر. وقال عكرمة : أمهات الأولاد أحرار بالقرآن. قيل له : أي القرآن قال : اعتقهن عمر بن الخطاب. ألم تسمع قول اللّه تعالى {وَأُوْلِى الأمْرِ مِنكُمْ} وأن عمر من أولي الأمر وأنه قال : اعتقها ولدها وإن كان سقطاً. عبد الرحمن بن الاعرج وهمام بن منبه وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصاني فقد عصى اللّه ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني). وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن بني اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء فإذا مات نبي قام نبي وانه ليس بعدي نبي). فقال رجل : فما يكون بعدك؟ قال يكون خلفاء (ويكثر). قالوا : وكيف نصنع؟ قال : (أدوا) بيعة الأول فالأول، وأدّوا إليهم مالهم فإن اللّه سائلهم عن الذي لكم). علقمة بن وائل عن أبيه قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ورجل يسأله : أرايت إن كان علينا أُمراء يمنعوننا حقّنا ويسألوننا حقّهم، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إسمعوا وأطيعوا فإنّ عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم). وعن أبي إمامة قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : في حجة الوداع : (وهو على (الجدعاء) يعني ناقته فدعا في الركاب يتطاول). قال : ليسمع الناس فقال : ألا تسمعون؟ يطول بها صوته فقال قائل من طوائف الناس : ما تعهد إلينا يا رسول اللّه؟ فقال : (إعبدوا ربكم وصلّوا خَمْسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا أُولي الأمر تدخلوا جنة ربكم). مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبّنّ أحداً من أصحابي). هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم). {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} اختلفتم {فِى شَىْءٍ} من أمر دينكم اختلاف الآراء فيتعاطى كلّ واحد مايرى خلاف رأي صاحبه وأصله من النزع كان المتنازعين يتحازبان ويتحالفان، ومنه قال : مناوأة : منازعة. قال الأعشى : نازعتم قضب الريحان متكئاً وقهوة مرّة راووقها خضل {فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه} يعني إلى كتاب اللّه والرسول مادام حيّاً، فإذا مات فإلى سنّته، وقوله : { ذلك خَيْرٌ} أي ذلك الردّ خير لكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} جزاء وعاقبة، والتأويل ما يؤول للأمر. أبو المليح الهذلي عن معقل بن يسار قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إعملوا بالقرآن، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا به ولا تكفروا بشيء منه، وما اشتبه عليكم، فردّوه إلى اللّه وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم، وآمنوا به وآمنوا بالتوراة والانجيل والزبور وما أنزل إليكم من ربكم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه شافع مشفّع وكامل مصدّق وله بكلّ حرف نور يوم القيامة). ٦٠{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا} الآية. قال الحسن : انطلق رجل يحاكم آخر إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : الآخر لابل إنطلق إلى وثن بيت فلان (فأنزل) اللّه هذه الآية. قال الشعبي : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى محمّد، وقال المنافق : لا، فجعل اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنّه علم أنهم لايقبلون الرشوة ولا يجورون في الحكم، وجعل المنافق يدعو إلى اليهود لأنّه علم أنّهم يقبلون الرشوة ويميلون في الحكم فاختلفا. ثم اتّفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بسر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال : إنطلق بنا إلى محمّد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه اللّه الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلاّ إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلمّا رأى المنافق ذلك أتى معه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فاختصما إليه، فقضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال : انطلق بنا إلى عمر (رضي اللّه عنه) فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمّد فقضى لي عليه فلم يرضَ بقضائه وزعم أنه يخاصم إليكم وأنه تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم. فقال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد وقال. هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء اللّه وقضاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية. وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق. وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا وأبى بعضهم وكانت قريضة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريضة رجلاً من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق تمر وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة لم يقتل به وأعطى ديته ستّين وسقاً من تمر وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج. فلما جاء اللّه بالإسلام وهاجر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المدينة. قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة فاختصموا في ذلك. فقالت بنو النضير : قد كنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا، وعلى أن ديتكم ستون وسقاً والوسق ستون صاعاً وديتنا مئة وسق فنحن نعطيكم ذلك. وقالت الخزرج : هذا شيء كنتم قلتموه في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد وليس لكم علينا فضل، وقالت بنو النضير : لا بل نحن على ما كنا. فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ومالك بن خزيمة، وقال المسلمون من الفريقين : لا بل إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم. فقال : أعظموا اللقمة يعني الرشوة فقالوا : لك عشرة أوسق قال : لا. بل مائة وسق ديتي فاني أخاف إن نصرت النضيري قتلتني قريظة أو أنصر قريظة قتلتني النضير، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية وأنزل قوله : {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى} وقوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية فدعا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كاهن) اسلم ( إلى الإسلام فأتى وانصرف فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لإبنيه : (أدركا أباكما فإنّه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبداً) فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، فأمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) منادياً ينادي ذلك الكاهن أسلم قد أسلم، فذلك قوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} يعني الصنم، وقيل : الكاهن، وقيل : كعب بن الأشرف، وقيل : حيي بن أخطب. ٦١{وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} إلى قوله : {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} إعراضاً فكل الفعل بمصدره كقوله : {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله : {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ} يعني فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني عقوبة صدودهم، هذا وعيد وتهديد وتم الكلام. ثم أبتدأ الخبر عن فعلهم يعني يتحاكمون إلى الطاغوت وهم يكفرون باللّه ومعنى قوله {ثُمَّ جَآءُوكَ} أي يحيوك. وقيل : أراد بالمصيبة قتل صاحبهم وذلك أنّ عمر (رضي اللّه عنه) لما قتل المنافق جاءوا قومه يطلبون الدية ويحلفون (إن أردنا) ما أردنا بكون إن بمعنى إذ وبمعنى ما، أي ما أردنا بالترافع إلى عمر. {إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . قال الكلبي : إلاّ إحساناً في القول وتوفيقاً صواباً. ابن كيسان : حقاً وعدلاً نظيرها {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى} {أُولَاكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في الملأ {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} وقيل : فأعرض عنهم وعظهم باللسان ولاتعاقبهم، وقيل : توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا من الشرك أعرض عنهم وعظهم يعني في الملأ. {وَقُلْ لَهُمْ... قَوْلا بَلِيغا} في السر والملأ، وقيل : هذا منسوخ بآية القتال. {وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} إلى قوله : {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} إعراضاً فكل الفعل بمصدره كقوله : {وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} وقوله : {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ٦٢{فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ} يعني فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يعني عقوبة صدودهم، هذا وعيد وتهديد وتم الكلام. ثم أبتدأ الخبر عن فعلهم يعني يتحاكمون إلى الطاغوت وهم يكفرون باللّه ومعنى قوله {ثُمَّ جَآءُوكَ} أي يحيوك. وقيل : أراد بالمصيبة قتل صاحبهم وذلك أنّ عمر (رضي اللّه عنه) لما قتل المنافق جاءوا قومه يطلبون الدية ويحلفون (إن أردنا) ما أردنا بكون إن بمعنى إذ وبمعنى ما، أي ما أردنا بالترافع إلى عمر. {إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} . قال الكلبي : إلاّ إحساناً في القول وتوفيقاً صواباً. ابن كيسان : حقاً وعدلاً نظيرها {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى} ٦٣{أُولَاكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّه مَا فِى قُلُوبِهِمْ} من النفاق {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في الملأ {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} وقيل : فأعرض عنهم وعظهم باللسان ولاتعاقبهم، وقيل : توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا من الشرك أعرض عنهم وعظهم يعني في الملأ. {وَقُلْ لَهُمْ... قَوْلا بَلِيغا} في السر والملأ، وقيل : هذا منسوخ بآية القتال. ٦٤{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بالتحاكم إلى الطاغوت {جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيما}. روى الصادق عن علي (عليهما السلام) قال : قدم علينا أمرؤ عندما دفنّا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال : يا رسول اللّه قلت فسمعنا قولك ووعيت من اللّه فوعينا عنك وكان فيما أنزل اللّه عليك {وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيما} فقد ظلمت نفسي فجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك. ٦٥{فَلا وَرَبِّكَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية. نزلت في الزبير بن العوام وخصمه، واختلف في اسمه، فقال الصالحي : ثعلبة بن الحاطب، وقال الآخرون : حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في شراج من الخزة كانا يستقيان به النخل فقال (صلى اللّه عليه وسلم) إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الرجل، فقال : يا رسول اللّه أكان ابن عمتك؟ فتغيّر وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أرسل يازبير ثم احبَسْ الماء حتى ترجع الجدد فاستوف حقك ثم أرسل إلى جارك. وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أشار إلى الزبير بالسقي له ولخصمه فلما احفظ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) استوعب الزبير حقه في صريح الحكم. ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال : لمن كان القضاء بالسقاية؟ فقال : قضى لابن عمته، ولوى شِدْقَه. ففطن به يهودي كان مع المقداد، فقال : قاتل اللّه فلولا يشهدون أنه رسول اللّه ثم يتهمونه كانوا أقضى منهم، وأيمُ اللّه لقد أذنبنا ذنباً مرة واحدة في حياة موسى (عليه السلام) فدعانا موسى إلى التوبة منه، وقال : فاقتلوا أنفسكم ففعلنا مع ذلك فقتلنا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما واللّه إن اللّه ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل اللّه تعالى في شأن حاطب ابن أبي بلتعة، وليِّهِ شِدْقه {فلا وربك لايؤمنون} الآية. وقال مجاهد والشعبي : نزلت في قصة بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر (رضي اللّه عنه) وقد مضت القصة. قوله {فَلا} يعني ليس الأمر كما يزعمون انهم مؤمنون ثم لايرضون بحكمك ويصدون عنك ثم استأنف القسم فقال {وربك لايؤمنون} ويجوز أن يكون لأصله كقولهم وهم ممن يحكموك أي يجعلوك حكماً {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي اختلف واختلط من أُمورهم والتبس عليهم حكمه، ومنه الشجر لا ختلاف أعضائه وقل يعطي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر : نفسي فداؤك والرماح شواهر والقوم في ضنك للقاء قيام {ثُمَّ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} أي ضيقاً وشكاً {مِّمَّا قَضَيْتَ} ومنه قيل للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج وحرجة وجمعها حراج. وقال الضحاك : أي إثماً يأتون بإنكارهم لما قضيت {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي يخضعوا وينقادوا إليك إنقياداً ٦٦{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} فرضنا وأوجبنا {عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} ما أمرنا بني اسرائيل. {أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم} كما أمرناهم بالخروج من مصر {مَّا فَعَلُوهُ} أرجع الهاء إلى فعل القتل والخروج لأن الفعل وإن اختلفت أجناسه فمعناه واحد {إِلا قليل مِّنْهُمْ} وهذه الآية نزلت في قول ثابت بن قيس وكان هو من القليل الذي استثنى اللّه عز وجل ورفع القليل على ضمير الفاعل بأنهم فعلوه وقلّ على التكرار تقديره : ما فعلوه، تم الكلام. ثم قال : إلاّ أنه فعله قليل منهم. كقول عمر بن معدي كرب : فكلُّ أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلاّ الفرقدان وقرأ أُبي بن كعب وعيسى بن عمر وابن أبي اسحاق وابن عامر (قليلاً) بالنصب، وكذا هو في مصاحف أهل الشام على (النصب) وقيل : فيه اضمار تقديره إلاّ أن يكون قليلاً منهم. قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار وابن مسعود وناس صحبوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهم القليل : واللّه لو أمرنا لفعلنا، فالحمد للّه الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (إن من أُمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي). قال اللّه تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} تحقيقاً وتصديقاً لإيمانهم. ٦٧{وَإِذًا تَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيمًا} ثواباً. ٦٨-٦٩{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللّه وَالرَّسُولَ} نزلت هذه الآية في ثوبان مولى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وكان شديد الحب لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه (ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن) وقلّ لحمه، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا ثوبان ما غيّر لونك؟) ؟ فقال : يا رسول اللّه مابي مرض، ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، وتوجّست وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني وإن ادخلت الجنة، كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (والذي نفسي بيده لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين). وقال قتادة ومسروق بن الأجدع : أنّ أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قالوا : ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنا لا نراك إلاّ في الدنيا فأما في الآخرة فإنك ترفع فوقنا بفضلك فلا نراك، فأنزل اللّه تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّه} في الفرائض {وَالرَّسُولِ} في السنن {فَأُولَاكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ} وهم أفاضل أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {وَالشُّهَدَآءِ} وهم الذين استشهدوا في سبيل اللّه {وَالصَّالِحِينَ} من صلحاء أمة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قال عكرمة : النبيون : محمّد، والصديقون : أبو بكر الصديق، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم، والصالحون سائر أصحابه. {وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقًا} يعني دوماً في الجنة كما يقول : نعم الرفقا هم. والعرب تضع الولي في معنى الجمع كثيراً، كقوله : نحن منكم قبلاً أي اطياداً، ويولون الدبر أي الأدبار ويقولون ينظرون من طرف خفي. وقوله ورفيقاً نصب على خبر ٧٠{ ذلك الْفَضْلُ} (احسان) {مِنَ اللّه وَكَفَى بِاللّه عَلِيمًا} يعني بالآخرة وثوابها. وقيل : بمن أطاع رسول اللّه وأحبه، وفي هذه الآية دلالة على خلافة أبي بكر الصديق (رضي اللّه عنه) وذلك أن اللّه تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم، وهم النبيون فجعل الروضة الأعلى للنبيين فلم يجز أن يتقدمهم فيها أحد وثنى بذكر الصديقين فلا يجوز ان يتقدمهم أحد غير النبيين ولأن يكون من النبي صديق سرهم، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقاً كما أجمعوا على تسمية محمد رسول اللّه ولم يجز أن يكونوا غالطين في تسميتهم محمد الرسول كذلك لايجوز أن يكونون غالطين في تسمية أبي بكر صديقاً فإذا صح انه صديق وأنه ثاني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلم يجز أن يتقدّمه بعده أحد واللّه أعلم، وفي قوله {الْفَضْلُ مِنَ اللّه} دليل على أنّهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل اللّه خلافاً، لما قالت المعتزلة ان العبد إنما ينال ذلك بفعله فلما احسن اللّه على عباده بما آتاهم من فضله فكان لايجوز أن يثني على نفسه بمالم يفعله، فثبت ذلك على بطلان قولهم ثم علّمهم مباشرة الحروب، ٧١فقال : {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم} من عدوكم أي عدتكم وآلاتكم من السلاح {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والحِذر والحَذر واحد، كالمِثل والمَثل، والعِدل والعَدل، والشِبه والشَبه، {فَانفِرُوا} أي اخرجوا {ثُبَاتٍ} أي سرايا كسرية بعد سرية وجماعة بعد جماعة، والثبات الجماعات في تفرقه واحدها ثبة {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} أي مجتمعين كلّكم مع سلم واستدل أهل القدر بهذه الآية. بقوله {خُذُوا حِذْرَكُمْ} قالوا : لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى. فيقال لهم : الإئتمار لأمر اللّه والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية اللّه عز وجل لأن المعصية تزل، فائتمروا وانتهوا عمّا نهوا عنه. وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئاً، وهذا كقول النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : (إعقلها وتوكّل). والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك، أن اللّه تعالى أثنى على أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بقوله حاكياً عنهم {لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللّه لَنَا} وأمر بذلك رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني. ٧٢{وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} . قال بعضهم : نزلت هذه الآية في المؤمنين لأن اللّه خاطبهم بقوله {وَإِنَّ مِنكُمْ} وقد فرق اللّه بين المؤمنين والمنافقين بقوله {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ} . وقال : أكثر أهل التفسير : إنّها نزلت في المنافقين وإنما جمع منهم في الخطاب من جهة الجنس والسبب ومن جهة الإيمان من {لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} أي ليثاقلن ويتخلفنّ عن الجهاد والغزو. وقيل : معناه ليصدّقن غيره، وهو عبد اللّه بن أُبيّ المنافق وإنما دخلت (اللام) في (من) لمكان (من) كما تقول : إنّ فيها لأخاك فاللام في ليبطئن لام القسم وهي صلة لمن على اعتماد شبه باليمين كما يقال هذا الذي ليقومن وأرى رجلاً ليفعلن. {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} أي قتل وهزيمة {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَىَّ} عهد {إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} أي حاضراً في تلك الغزاة فيصيبني مثل ما أصابهم، يقول اللّه {كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة} أي معرفة. وقال معقل بن حيان : معناه كأن ليس من أهل دينكم وان نظم الآية وقوله كأن لم يكن متصل بقوله {فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ} ٧٣{وَلَ نْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللّه} أي فتح وغنيمة {لَيَقُولَنَّ} هذا المنافق قول نادم حاسد : ياليتني كنت معهم في تلك الغزاة {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي آخذ نصيباً وافراً من الغنيمة. وقوله (فأفوز) نصب على نحو التمني بالفاء، وفي (التمني) معنى يسرني أن افعل مافعل كأنه متشوق لذلك النصيب، كما يقول : وددت ان أقوم فمنعني أُناس ثم نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أُحدْ. ٧٤{فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا بالآخرة} أي انهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة ومعنى يشرون يشترون، يقال شريت الشيء أي اشتريت، وحينئذ يكون حكم الآية : آمنوا ثم قاتلوا، لأنه لايجوز ان يكون الكافر مأموراً بشيء مقدم على الإيمان. وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في المؤمنين المخلفين ومعناه (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه الَّذِينَ يبتغون الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ). ثم قال : {وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ} أو من يستشهد أو يعذب أو يظفر {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في كلا الوجهين {أَجْرًا عَظِيمًا} يعني الجنة ثم خصَّ المؤمنين على السعي في تخليص المستضعفين مثل ٧٥{وَمَا لَكُمْ تُقَاتِلُونَ} أي تجاهدون {فِى سَبِيلِ اللّه} يعني في طاعة اللّه {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} في موضع الخفض. قال الكلبي : عن أبي صالح عن ابن عباس ومعناه عن المستضعفين وكانوا بمكة يلقون من المشركين أذى كثيراً وكانوا يدعون ويقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها أي التي من صفتها إن أهلها ظالمون مشركون وإنّما خفض الظالم لأنه نعت الأهل فلما عاد الأهل إلى القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها كقوله : مررت بالرجل الواسعة داره، ومررت برجل حسنة عينه. {وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} يمنعنا من المشركين فأجاب اللّه دعاءهم. فلما فتح رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مكة جعل اللّه لهم النبي ولياً فاستعمل عليها عتّاب بن أُسيد. فجعله اللّه لهم نصيراً وكان ينصف للضعيف من الشديد فنصرهم اللّه به وأعانهم وكانوا أعز بها من الظلمة قبل ذلك. وفي هذه الأُية دليل على إبطال قول من زعم أنّ العبد لايستفيد بالدعاء معنى لأن اللّه تعالى حكى عنهم إنّهم دعوه وأجابهم وآتاهم ماسألوه ولولا أنّه أجابهم إلى دعائهم لما كان لذكر دعائهم معنى، واللّه اعلم. ٧٦{الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللّه} أي طاعته {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} أي في طاعة الشيطان {فَقَاتِلُوا} أيها المؤمنين {أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ} أي حزبه وجنده {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} ومكره وصنيعه ومكر من اتّبعه {كَانَ ضَعِيفًا} كما خذلهم يوم بدر. ٧٧{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} . قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجهني وسعد بن أبي وقاص الزهري وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ويقولون يا رسول اللّه أئذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم آذونا فيقول لهم : (كفّوا أيديكم (عنهم) فإني لم أُومَر بقتالهم). فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم اللّه بقتال المشركين وأمرهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المسير إلى بدر فلما عرفوا إنه القتال كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل اللّه تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} بمكة عن القتال {وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وَآ تُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَال} بالمدينة أي فرض {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} يعني مشركي مكة {كَخَشْيَةِ اللّه أَوْ أَشَدَّ} أي أكبر {خَشْيَةً} . وقيل : وأشد خشية كقوله آية {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} لَمِ فرضت علينا القتال {لَوْ أَخَّرْتَنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} يعني الموت ألا تركتنا إلى أن نموت بآجالنا. واختلفوا في قوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} فقال قوم : نزلت في المنافقين لأن قوله {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} أي لِمَ فرضت، لايليق بالمؤمنين، وكذلك الخشية من غير اللّه. وقال بعضهم : بل نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان منهم الكامل الذي لايخرجه إيمانه من غلبة الطبع عليه. ومنهم من ينقص عن تلك الحالة فينفّر نفسه عمّا يؤمر به فيما يلحقه فيه الشدة. وقيل : نزلت في قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن، وتخلفوا عن الجهاد. ويدلّ عليه إن اللّه لايتعبد الكافر والمنافق بالشرائع بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع فلما نافقوا نبّه اللّه على أحوالهم. وقد قال اللّه مخبراً عن المنافقين {إنَّهُم آمَنُوا ثُمّ كَفَروا} . {قُلِ} يا محمّد لهم {مَتَاعُ الدُّنْيَا} أي منفعتها والاستمتاع بها {قَلِيلٌ وَاخِرَةُ} يعني وثواب الآخرة {خَيْرٍ} أفضل {لِّمَنِ اتَّقَى} الشرك باللّه ونبوة الرسول {ولا يظلمون فتيلا} . قال ابن عباس وعلي بن الحكم : الفتيل الشق الذي في بطن النواة. ٧٨{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ} أي ينزل بكم {الْمَوْتُ} نزلت في قول المنافقين لما أُصيب أهل أحد، {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فردَّ اللّه عليهم بقوله : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . قتادة : في قصور محصنة، عكرمة : مجصّصة مشيّدة مُزيّنة، القتيبي : مطولة. الضحاك عن ابن عباس البروج : الحصون والآطام والقلاع. وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر، وذلك أنّ اللّه حكى عن الكفار أنهم قالوا : {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} وقال : {قَدْ أَنْعَمَ اللّه عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} ردَّ على الفريقين بقوله : {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} فعرّفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلابد من زوال الروح، ومفارقتها الأجسام. فإن كان ذلك بالقتل، وإلاّ فبالموت. خلافاً لما قالت المعتزلة من أن هذا المقتول لو لم يقتله هذا القاتل لعاش، فوافق قولهم هذا الكفار، فردَّ اللّه عليهم جميعاً {إن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} الآية. نزلت في المنافقين واليهود، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه، فأنزل اللّه تعالى {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني اليهود والمنافقين، أي خصب (وريف) ورخص في السعر {يَقُولُوا هذه مِنْ عِندِ اللّه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني الجدب وغلاء السعر وقحط المطر {يَقُولُوا هذه مِنْ عِندِكَ} أي من قوم محمد واصحابه. وقال بعضهم : معناه إن تصبهم حسنة يعني الظفر والغنيمة، يقولوا هذه من عند اللّه فإن تصبهم سيئة يعني بالقتل والهزيمة، يقولوا هذه من جندك، نزلت الذي حملتنا عليه يا محمد {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللّه} أي الحسنة والسيئة كلها من عند اللّه. ثم عيّرهم بالجهل. فقال : {مَا لِهَؤُلاءِ القَوْمِ} يعني المنافقين واليهود {يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} أي ليسوا يفقهون قولاً إلاّ التكذيب بالنعمة. قال الفراء : قوله فما لهؤلاء القوم كذبوا في الكلام، حتى توهّموا إن اللام متصلة بها، وإنهما حرف واحد، ففصلوا اللام في هؤلاء في بعض المصاحف، ووصلوها في بعضها والاتصال بالقراءة، ولايجوز الوقوف على اللام لأنّها لام خافضة. ٧٩{مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي من خير ونعمة {فَمِنَ اللّه وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} أي بلية وأمر تكرهه {فَمِن نَّفْسِكَ} أي، من عندك وأنا الذي قدرتهما عليك، الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) والمراد به غيره، نظيره. قوله {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من خدش بعود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو اللّه عنه أكثر). وروى الهروي عن سفيان بن سعيد عمن سمع الضحاك بن مزاحم يقول : ماحفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلاّ بذنب، ثم قرأ {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} قال : فنسيان القرآن أعظم المصائب. وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبله، وتقديره : فما لهؤلاء القوم لم يكونوا يفقهون حديثاً حتى يقولوا : ما أصابك من حسنة فمن اللّه وما أصابك من سيّئة فمن نفسك؟ وتعلق أهل القدر بهذه الآية وقالوا : نفى اللّه السيئة عن نفسه بقوله {وَما أصَابَكَ مِنْ مُصِيبَة فَمِنْ نَفْسِك} ونسبها إلى العبد، فيقال لهم : إن ما حكى اللّه تعالى لنبيه من قول المنافقين، إنهم قالوا إذا أصابتهم حسنة، هذه من عند اللّه، فإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك، لم يرد به حسنات الكسب، ولا سيئاته، لأن الذي منك فعل غيرك بك لا فعلك، ولذلك نسب إلى غيرك. كما قال {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} وكل هذه سبب من الأسباب لامن الكسب ألا ترى إنه نسبها إلى غيرك، ولم يذكر بذلك ثواباً ولا عقاباً، فلما ذكر حسنات العمل والكسب وسيآتهما نسبهما إليك وذكر فيها الثواب والعقاب. كقوله {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَىا إِلا مِثْلَهَا} وكان ما حكى اللّه عن المنافقين من قولهم في الحسنات والسيئات لم يكن حسنات الكسب ولا سيئاته، ثم عطف عليه قوله {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه} إلى نفسك فلم يكن بقوله {فَمِن نَّفْسِكَ} مثبتاً لما قد نفاه، ولا نافياً لما قد أثبته، لأن ذلك لايجوز على الحكيم جل جلاله، لكن من السبب الذي استحق هذه المصيبة، وكان ذلك من كسبه، ومنه قوله {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} فجعل هذه المصيبة جزاءً للفعل فإذا أوقع الجزاء لم يوقعه إلاّ على ما نسبه إلى العباد، كقوله {جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقوله {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} ليس فيه دليل على إنه لايريد السيئة ولا يفعلها ولكن ما كان جزاءً، فنسبته إلى العبد على (طريق) الجزاء. {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} يامحمد {رَسُولا وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} على إنك رسول صادق. وقيل فيك {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} على أن الحسنة والسيئة كلها من اللّه ٨٠{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه} وذلك أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان يقول : (من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن أحبّني (أحبّه اللّه)) ، فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلاّ أن نتّخذه رباً، كما في حديث النصارى لعيسى، فأنزل اللّه تعالى {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ} فيما أمر به فقد أطاع اللّه {وَمَن تَوَلَّى} عنه {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي حافظاً ورقيباً. وقال القتيبي : محاسباً، فنسخ اللّه تعالى هذه الآية الشريفة، وأمره بقتال من خالف اللّه ورسوله ٨١{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني المنافقين وذلك إنهم كانوا يقولون لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّا آمنّا بك فمرنا من أمرك طاعةً، وهم يكفرون به في السر، وقوله (طاعة) مرفوعة على معنى منّا طاعة وأمرك طاعة وكذلك قوله (لا تقسموا طاعة) مرفوعة أي قولوا، سمعاً وطاعة، وكذلك قوله {فأولى لهم طاعة وقول معروف} وليست مرتفعة إليهم بل مني مرتفعة على الوجه الذي ذكرت. {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ} أي خرجوا {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ} أي زوّر وموّه وقيل هنا. فقال قتادة والكلبي : بيّت أي غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ويكون السبب معنى التبديل. قال الشاعر : بيّت قولي عبد المليك قاتله اللّه عبداً كفوراً وقال القتيبي وأبو عبيدة : (بيّت طائفة منهم) أي قالوا وقدروا ليلاً غير الذي أعطوك نهاراً، وكل شيء قدرّ بليل من شر فهو تبييت. قال عبيدة بن الهمام : أتوني فلم أَرض ما بيّتوا وكانوا أتوني بشيء نكر لأنكح أيّمهم منذراً وهل ينكح العبد حر بحر وقال النمر بن تولب : هبت لتعذلني بليل أسمعي سفهاً تبيتك الملامة فاهجعي وقال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش : يقول العرب للشيء إذا قدر قد بيّت، يشبهونه تقدير بيوت (الشعر). {وَاللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أي ما يغيرون ويزورون ويقدرون. الضحاك عن ابن عباس : يعني ما تسرّون من النفاق {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} يا محمد فلا تعاقبهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه وَكَفَى بِاللّه وكيلا} أي كفيلاً، وثقةً، وناصراً بالانتقام لك منهم، فنسخ اللّه تعالى قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بقوله : {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ} بالسيف {وَالْمُنَافِقِينَ} بالكلام الغليظ. فإن قيل : ما وجه الحكمة في (أعدائه) ذكر مهلهم. ثم قال (بيت طائفة منهم) فصرف الخطاب من (جلهم) إلى بعضهم. يقال : إذ إنما عَبر عن حال من علم اللّه وبقي على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه صفح عن ذكرهم، وقد قيل : إنه غير عن حال من أحوالهم قد تستّر في أمره، فأما من سمع وسكت فإنه لم يذكرهم، وفي قوله {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه} دليل على إبطال قول من زعم أنّ السنّة تعرُض على الكتاب لم يعمل بها وذلك إن كل ما نص اللّه عز وجل، عليه فإنّما صار فرضاً بالكتاب، فإذا عدم النص من الكتاب، وورد به السنّة فوجب إتباعها، ومن خالفها فقد خالف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ومن خالف رسول اللّه فقد خالف اللّه، لأن في طاعة الرسول طاعة اللّه، فمن زعم أنه لم يقبل خبره إلاّ بعد أن يعرض على كتاب اللّه، فقد أبطل كلّ حكم ورد عنه ما لم ينصّ عليه الكتاب. وأما قوله {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} ففيه دليل على أنّ من لم يعتقد الطاعة فليس بمطيع على الحقيقة، وذلك أن اللّه تعالى لمّا تحقّق طاعتهم فيما أظهروه، فقال : ويقولون ذلك لأنّه لو كان للطاعة حقيقة إلاّ بالاعتقاد لحكم لهم بها (فثبت) أنه لا يكون المطيع مطيعاً، إلاّ باعتقاد الطاعة مع وجودها. ٨٢{أفلا يتدبرون الْقُرْءَانَ} يعني أفلا يتفكّرون في القرآن، فيرون بعضه يشبه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً، وإن أحداً من الخلائق لم يكن يقدر عليه فسيعلمون بذلك إنه من عند اللّه إذ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّه لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} أي تفاوتاً وتناقضاً {كَثِيرًا} هذا قول ابن عباس. وقال بعضهم : ولو كان هو من عند غير اللّه لوجدوا فيه أي في الإخبار عما غاب عنهم. ما كان وما يكون إختلافاً كثيراً، يعني تفاوتاً بيناً. إذا الغيب لايعلمه إلاّ اللّه فيعلم بذلك أنه كلام اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه صادق، وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الإخلاق من كل الجهات ولو كان مخلوقاً لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت. ٨٣{وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ امْنِ أَوِ الْخَوْفِ} الآية، وذلك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غُلبوا بادر المنافقون إلى الاستفسار عن حال السرايا فيفشون ويحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه {وَإِذَا جَآءَهُمْ} يعني المنافقين، {أَمْرٌ مِّنَ امْنِ} (كظفر المسلمين وقتل عدوّهم) {أَوِ الْخَوْفِ} كالهزيمة والقتل. {أَذَاعُوا بِهِ} أي أشاعوه وأفشوه {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى امْرِ مِنْهُمْ} أي وإن لم يحدّثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي (صلى اللّه عليه وسلم) هو الذي يحدّث به ويفشيه، وأولي الأمر أهل الرأي من الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي اللّه عنهم. {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ} . الكلبي عن أبي صالح وابن عباس، وعلي بن الحكم عن الضحاك : يستنبطونه أي يتّبعونه. وقال عكرمة : يحرصون عليه ويسألون عنه، وقال ابن عبيدة والقتيبي : يخرجونه، ويقال : استنبط إستنبطه الماء إذا أخرجه. (جويبر) عن الضحاك عن ابن عباس في قوله {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ امْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} إنّ المنافقين كانوا إذا أمُروا بالقتال لم يطيعوا اللّه فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا عنها، وإن أفضى الرسول إليهم سراً أذاعوا به إلى العدوّ ليلاً بتكتّم، فأنزل اللّه تعالى ردّاً عليهم {وَلَوْ رَدُّوهُ} يعني آمورهم في الحلال والحرام (إلى الرسول) في التصديق به والقبول (وإلى أولي الأمر منهم) يعني حملة الفقه والحكمة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} يعني الذين يفحصون عن العلم. ثم قال {وَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} أي معناه لاتّبعتم الشيطان كلّكم. قال الضحاك : هم أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) يأمرهم بأمر من أمور الشيطان. قال ابن عباس : فضل اللّه الإسلام ورحمته القرآن (لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليل) يعني بالقليل الذي امتحن اللّه قلوبهم يعني على هذا القول يكون قوله {إِلا قَلِيلا} مستثنى من قوله {تَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} . وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير معناه : لعلمه الذين يستنبطونه إلاّ قليلاً. وقال بعضهم : معناه : إذا أذاعوا به قليلاً لم يذع ولم يفش، وهكذا قال الكلبي : واختار الفرّاء أيضاً هذا القول. وقال : لأنّ علم اللّه فاعتبر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض لذلك أُستحسن الاستثناء من الإذاعة، وفي هذه الآية دليل ممن يحبون القول بالإجتهاد عند عدم النص. قال اللّه تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى امْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} فالعلم محيط بالاستنباط، ليس تلاوة. وإذا كان إدراكه بالاستنباط، فقد دل بذلك على أن من العلم مايدرك بالتلاوة والرواية وهو النص. ومنه ما يدرك منه ومن المعنى، وحقيقة الاعتبار والاستنباط من القياس للحكم بالمعاني المودعة في النصوص غير الحكم بالنصوص ٨٤{فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} وذلك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أُحد وكان من هربهم ما كان، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس : اخرجوا إلى العدو. فكرهوا ذلك كراهه شديدة أو بعضهم، فأنزل اللّه تعالى {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} أي لاتدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك. وقيل : معناه لاتلزم فعل غيرك ولاتؤخذ به ولم يرد بالتكليف الأمر لأنه يقتضي على هذا القول ألا يكون غيره مأموراً بالقتال. والفاء في قوله (فقاتل) جواب عن قوله {وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّه فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فقاتل {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} على القتال أي حثَّهم على الجهاد ورغّبهم فيه، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا معه إلى القتال، فخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر، فكفّ بهم اللّه تعالى بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ولم يكن له أن يُوافق، فانصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أصحابه. وذلك قوله {عَسَى اللّه} أي لعل اللّه {أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي قتال المشركين وصولتهم حين ولّيتم وهي من اللّه واجب، حيث كان، وقد جاء في كلام العرب بمعنى اليقين. قال ابن مقبل : ظنّي أنهم كعسى، وهم بنتوفة يتنازعون جوائز الأمثال {وَاللّه أَشَدُّ بَأْسًا} أي أشد صولة وأعظم سلطاناً وأقدر على مايريد {وَأَشَدُّ تَنكِي} أو عقوبة. فإن قيل : إذا كان من قولكم : إن عسى من اللّه واجب فقد قال اللّه {عَسَى اللّه أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ونحن نراهم في بأس وشدة، فأين ذلك الوعد؟ فيقال لهم : قد قيل : إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى، والحديبية بقوله {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} الآية، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص. وقيل : أراد به المدة التي أمر اللّه فيها القتال لزوال الكفر بقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للّه} فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا، وهو الوقت. حتى ينزل فيه (المهدي) فيكون حكماً قسطاً ويظهر الإسلام على الدين كله. وقيل : إن ذلك في القوم قذف اللّه في قلوبهم الرعب وأخرجهم من ديارهم وأموالهم بغير قتال من المؤمنين لهم وهذا بأس قد كفّه اللّه عن المؤمنين. وقد قيل : إنه أراد به اليهود والنصارى وهم يعطون الجزية وتركوا المحاربة، وقد كف بأسهم عن المؤمنين إذا صاروا يؤدّون الجزية صاغرين. ٨٥{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} أي يحسن القول في الناس ويسعى في إصلاح ذات البين {يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ} أي حظ {مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} فيسيء القول في الناس ويمشي بينهم بالنميمة والغيبة. {يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} . قال ابن عباس وقتادة : الكفل الوزر والإثم، وقال الفراء وأبو عبيدة : الحظ والنصيب، مأخوذ من قولهم : اكتفلت البعير إذا (أدرت) على سنامه أو موضع من ظهره كساءً وركبت عليه. وقيل له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كلّه وإنما شغل شيئاً من الظهر. وقال مجاهد : شفاعة حسنة وشفاعة سيئة شفاعة الناس وهم البعض. {وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا} مقتدراً. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : مقيتاً أي مقتدراً مجازياً بالحسنة حسنة يقال : أقات أي اقتدر. قال الشاعر : وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتاً وأنشد النضر بن (شميل) : ولا تجزع وكن ذا حفيظه فأني عليَّ ما ثناه لمقيت المبرد : قتّ الشيء أقوته وأقيته أي كففته أمر قوته، ومجاهد : شاهداً، وقال قتادة : حافظاً، والمقيت للشيء الحافظ له. وقال الشاعر، في غير هذا المعنى : ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها منشورة ودعيت إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت إنّي على الحساب مقيت أي موقوف عليه وقال الفرّاء : المقيت المقتدر أن يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث : وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ويقيت، ثم نزل في قوم بخلوا برد السلام ٨٦{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} على المسلمين أي زيدوا عليها كقول القائل : السلام عليكم فيقول : وعليكم السلام ورحمة اللّه ونحوها، ومن قال لأخيه المسلم : السلام عليكم كتب له بها عشر حسنات، فإن قال : السلام عليكم ورحمة اللّه كتبت له عشرون حسنة، فإن قال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن ردّ من الأجر. قال ابن عباس : ومن يسلم عشر مرات فله من الأجر عتق رقبة وكذلك لمن ردَّ السلام عشر مرات {أَوْ رُدُّوهَآ} بمثلها على أهل الكتاب وأهل الشرك فإن كان من أهل دينه فليزد عليه بأحسن منها، وإن كان من غير أهل دينه فليقل وعليكم لايزيد على ذلك. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم). {إِنَّ اللّه كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيبًا} من رد السلام مثله أو بأحسن منه حسيباً أي حاسباً مجازياً. وقال مجاهد : حافظاً. أبو عبيدة : كافياً مقتدراً، يقال حسبي كذا أي كفاني. وأعلم إن بكل موضع وجُد ذكرٌ كان موصولاً باللّه فإن ذلك صلح للماضي، والخبر هو المستدل، فإذا كان لغير اللّه فإنه يكون على خلاف هذا المعنى. ثم نزل في الذين أنكروا البعث ٨٧{اللّه لا اله إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَيْبَ فِيهِ} لاشك فيه، واللام في قوله ليجمعنكم لام القسم ومعناه، واللّه الذي لا اله إلاّ هو أعلم منكم في الموت وفي أحيائكم إلى يوم القيامة. وسمّيت القيامة قيامة، لأن الناس يقومون من قبورهم. قال اللّه تعالى {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعًا} وقيل : سميت قيامة لقيامهم إلى الحساب. قال اللّه تعالى : {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه حَدِيثًا} أي قولاً ووعداً ٨٨{فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية. نزلت هذه الآية في ناس من قريش، قدموا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم لبعض : كيف نخرج؟ قالوا : نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا : خرجنا نتنزّه، وإن غفل عنّا مضينا، فخرجوا بهيئة المتنزهين، حتى باعدوا من المدينة. ثم كتبوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق باللّه وبرسوله، ولكنا (اجتوينا) المدينة، واشتقنا إلى أرضنا. ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم، على الشام، فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم : ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، وظاهروا على عدوّنا، فنقتلهم ونأخذ مالهم وقالت طائفة منهم : كيف تقتلون قوماً على دينكم، إن لم يذروا ديارهم، وكان هذا بين يدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو ساكت لاينهى واحداً من الفريقين، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها، فبين اللّه تعالى للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) شأنهم. وقال زيد بن ثابت : نزلت في ناس رجعوا يوم أحد عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وكان أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فيهم فرقتين فرقة تقول : نقتلهم، وفرقة تقول : لانقتلهم، فنزلت فيهم هذه الآية وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي النار خبث الفضة) يعني المدينة. وقال قتادة : ذكرهما أنهما كانا رجلين من قريش بمكة تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لقيهما ناس من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مقبلين إلى مكة فقال بعضهم : إنّ دماءهما وأموالهما حلال، وقال بعضهم : لا، (جلَّ ذلك منا) فأنزل اللّه تعالى {فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ} الآية. وقال عكرمة : هم ناس ممن قد صبوا ليأخذوا أموالاً من أموال المشركين فانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقال مجاهد : هم قوم خرجوا مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى المدينة ثمّ ارتدّوا بعد ذلك واستأذنوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ليأتوا بضائع لهم يتاجرون فيها، فخاف المسلمون منهم فقائل يقول : هم منافقون، وقائل يقول : هم مؤمنون، فبيّن اللّه تعالى نفاقهم. وقال الضحاك : هم قوم أظهروا الإسلام بمكة فلما هاجر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لم يهاجروا فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت هذه الآية (فمالكم) يامعشر المؤمنين (في المنافقين فئتين) أي صرتم في المنافقين فئتين فمحلّ ومحرّم، ونصب فئتين على خبر صار، وقال بعضهم : نصب على إلاّ. {وَاللّه أَرْكَسَهُم} أي أهلكهم، ولكنهم تركوهم بكفرهم وضلالتهم بأعمالهم غير الزاكية يقال : أركست الشيء ركسته أي نكسته ورددته، وفي قراءة عبداللّه : وإني واللّه أنكسهم، وقال ابن رواحة : أركسوا في فتنة مظلمة كسواد الليل يتلوها فتن {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا} أي ترشدوا إلى الهدى {مَنْ أَضَلَّ اللّه} وقيل : معناه : أيقولون أنّ هؤلاء يهتدون واللّه قد أضلّهم {وَمَن يُضْلِلِ اللّه} عن الهدى {فَلَن تَجِدَ لَهُ سبيلا} أي ديناً وطريقاً إلى الهدى ٨٩{وَدُّوا} أي تمنّوا {لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَآءً} شركاء في ذلك مثلهم كفاراً، ثمّ أمرهم بالبراءة منهم فقال {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللّه} الثانية معكم. قال عكرمة : هي هجرة أخرى وبيعة اخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه : أما هجرة المؤمنين أوّل الإسلام فمضى في قوله {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} وقوله {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه} ، وأما هجرة (المؤمنين) فهي الخروج في سبيل اللّه مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صابراً محتسباً. قال اللّه {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللّه} ، وأما هجرة المؤمنين فهي أن يهجروا ما نهى اللّه عنه كما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {فَإِن تَوَلَّوْا} عن التوحيد والهجرة {فَخُذُوهُمْ} يقول اسروهم {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} يعني في الحل والحرم {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} يعني ما ينافي العون والنصرة، وقوله {لَوْ تُدْهِنُ} لم يرد به جواباً التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب بما أراد به الفسق على من نزل {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} وودّوا لو تكونون سواء مثل قوله تعالى : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} أي ودّوا لو تدهن وودّوا لو تكفرون، ومثله {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ} أي ودّوا لو تغفلون وودّوا لو تميلون، ثم إستثنى طائفة منهم فقال ٩٠{إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْم} أي يتصلون بقوم وينتسبون اليهم يقال : إتصل أي انتسب، وفي قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه) أي من إدعى بدعوى الجاهلية. قال الأعشى : إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغم أي إذا انتسب. ويقال : يصلون من الوصول أي يلحقون إليهم إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي عهد وهم (الأسلميون) وذلك إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعنيه ولا يعين عليه حتى أتى ويرى، ومن وصل إلى هلال من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل الذي لهلال. الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينهم وبينكم ميثاق. بني بكر بن زيد مناة وكانوا في الصلح والهدنة وقوله {أوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي ضاقت صدروهم عن قتالكم، وهم بنو مدلج جاءوا المؤمنين {أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} يعني من آمن منهم، ويجوز أن يكون معناه إنهم لايقاتلوكم ولايقاتلون قومهم فعلم المؤمنون لا عليكم ولا عليهم ولا لكم. وقال بعضهم : وبمعنى الواو. كانه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقت صدورهم عن قتالكم، والقتال معكم، وهم قوم هلال الأسلميون وبني بكر بن زيد (مناة) وقوله {أوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} أي قد حصرت، كقول العرب أي ذهب (نظره) يريدون قد ذهب. قال الفراء : سمع الكسائي بعضهم يقول : أصبحت فنظرت إلى ذات (البساتين). {وَلَوْ شَآءَ اللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} يعني سلط اللّه المشركين على المؤمنين عقوبة ونقمة. {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} عند القتال، ويقال يوم فتح مكة فهم يقاتلوكم مع قومهم {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي المسالمة والمصالحة {فَمَا جَعَلَ اللّه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سبيلا} أي حجة في قتالهم، وعلى دينهم فأمر اللّه رسوله بالكف عن هؤلاء ٩١{سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ} غيرهم. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : هم أسد وغطفان (قدموا) المدينة، وكانوا قد تكلموا بالإسلام، وأقروا بالتوحيد ديناً وهم غير مسلمون. وكان الرجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت؟ فيقول : هذا الرد بهذا العقرب والخنفساء. وإذا لقوا محمداً وأصحابه قالوا : إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمن في الفريقين جميعاً، فذلك قوله {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} ولا تعرضوا لهم {وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} ولا تعرضوا لهم يرضونكم ويرضونهم. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : التوحيد، الذين كانوا بهذه الصفة {كُلّما رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} يعني إذا دَعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه ودعوا عليه. ثم بيّن لرسوله (صلى اللّه عليه وسلم) أمرهم فقال {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} أي فإن لم يكفّوا عن قتالكم ويعتزلوكم حتى تسيروا (......) {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي المقاد والصلح {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَاكُمْ} أي أهل هذه الهدنة {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} أي عهداً وحجة بيّنة في قتالهم. ٩٢{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَأ} الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بمكة قبل أن يهاجر رسول اللّه إلى المدينة وأسلم معه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه، فخرج هارباً من مكة إلى المدينة، ثم قدمها فكان أطماً من آطامها فتحصن فيه، فجزعت لذلك امه جزعاً شديداً، حين بلغها إسلامه، وخروجه إلى المدينة، فقالت : لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه، واللّه لايظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة، فأتوا بالمدينة، فاتوا عياشاً وهو في الأطم (يعني الجبل) فقالا له : إنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حَلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها. ذلك عهد اللّه علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له خرج اليهم ثم حلفوا باللّه، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة، فلما دخل قالت : واللّه لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه متروكاً موثقاً في الشمس ماشاء اللّه ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد، فقال له : ياعياش هذا الذي كنت عليه، فواللّه لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله، وقال : واللّه لا ألقاك خالياً أبداً إلاّ قتلتك، ثم أن حارثاً بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالمدينة وكان عياش يؤمئذ حاضراً، ولم يشعر باسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس : أي شيء (صنعت) إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه قد كان أمري وأمر الحرث ماقد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزل عليه قوله تعالى {مَا كَانَ لِمُؤْمِن} أي لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً وليس معنى قوله {وَمَا كَانَ} على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله {مَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه} . ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمناً قتل مؤمناً قط لأنّ ما نفى اللّه لم يجز وجوده. كقوله تعالى {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَآ} ولايقدر العباد على إنبات شجرها البتة. وقوله تعالى {إلاّ خطأ} عندنا ليس من الأول للمعنى. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} البتة إلاّ أن المؤمن قد يخطىء في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده. قال أبو عبيدة : العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير، أي ليس مؤمناً على حال، إلاّ أن يقتل مخطئاً فإن قتله مؤمناً فعليه، كذا وكذا، ومثله قوله {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَارَ اثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ} واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلاّ أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها. ومثله قول جرير : من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ على الأرض إلاّ ذيل برد مرجّل فكأنه قال : لم يطأ على الأرض إلاّ أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض. وقال أبو خراش الهذلي : أمست سقام خلاء لا أنيس به إلاّ السباع ومرّ الريح بالغرف الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر : وبلدة ليس بها أنيس إلاّ اليعافير وإلاّ العيس يقول : إلاّ أن يكون بها اليعافير والعيس. وقال بعضهم : إلاّ ههنا معنى لكن فكأنه قال {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَأ} ولا عمداً إلاّ بحال. لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله {تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَةً} معناه لكن تجارة عن تراض منكم. وقوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} أي فعليه تحرير أي إعتاق {رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} . قال المفسرون : المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه {إِلا أَن يَصَّدَّقُوا} أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية. {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين اللّه عهد، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل. وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال : كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له) فنزلت هذه الآية {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وليست له دية، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمناً من قوم كانوا حرباً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وبين قومه عهد ثم قال {وَإِن كَانَ مِن قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} أي عهد فأصبتم رجلاً منهم {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىا أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} على الفاعل {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لا تفرق بين صيامه {تَوْبَةً مِّنَ اللّه} وجعل اللّه ذلك توبة لقاتل الخطأ {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا} بمن قتله خطئاً {حَكِيمًا} فيمن حكم عليه. والدية في الخطأ، مائة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل. فقال الشافعي في القديم : على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم. وأما (اسنان) المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردَّ إلى الدية ليربطون خلفه، (......) حقّه، وثلاثون جذعة. ٩٣{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار وكان مسلماً فأتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فذكر له ذلك فأرسل معه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رجلاً من بني فهر، فقال له : أيت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم : إن رسول اللّه يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : سمعاً وطاعة للّه ولرسوله واللّه ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي ديته قال : فأعطوه مائة من الإبل ثم إنصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غَرَّهُ الشيطان قال : فوسوس إليه، فقال : أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفساً مكان نفس ومعك الدية. قال : فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة كافراً، فجعل يقول في شعره : قتلت به فهراً وحملت عقله سراة بني النجار، أرباب فارع وأدركت ثاري واضطجعت موسّداً وكنت إلى الأوثان، أوّل راجع قول فيه {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} بكفره، وارتداده عن الإسلام. حكم هذه الآية فقالت الخوارج والمعتزلة : إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمناً وهذا الوعيد لاحق به. وقالت المرجئة : إنّها نزلت في كافر قتل مؤمناً، فأما المؤمن إذا قتل مؤمناً فإنه لايدخل النار. وقالت طائفة من أصحاب الحديث، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً وواعد عليه مالبث إلاّ أن يتوب أو يستغفر. وقالت طائفة منهم : كل مؤمن قتل مؤمناً فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبه لمن قتل مؤمناً متعمداً. وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً فإنه لايكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان، إلاّ إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة. فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلاً ممن قتله وذلك كفارة له، فإن كان تائباً من ذلك ولم يكن منقاداً ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له. وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا (قود) فأمره إلى اللّه إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء اللّه لايخلف وعداً وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلاً، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفاً تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. والدليل على أن المؤمن لايصير بقتله المؤمن كافراً ولا خارجاً من الإيمان أنّ اللّه تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمناً بقوله {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى} . والقصاص لايكون إلاّ في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ} فلم يرد به إلاّ أخوة الإيمان، والكافر لايكون أخاً للمؤمن. ثم قال { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذاباً أليماً بقوله {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ولم يرد مع مثلها الغضب، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب ناراً، والعذاب قد يكون ناراً وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله {يُعَذِّبْهُمُ اللّه بِأَيْدِيكُمْ} يعني القتل والأسر، والدليل عليه قوله {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ} مخاطباً المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال اللّه {وَإِن طَآفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ، والدليل عليه أيضاً ما روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا باللّه شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرم اللّه إلاّ بالحق وعلى مافي القرآن ممن فعل من ذلك شيئاً، فكان عليه أجراً فهو كفارة له، ومن كفر باللّه فأمره إلى اللّه عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولو كان القاتل خارجاً عن الإسلام. لم يكن لقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) معنى، وروي أنّ مؤمناً قتل مؤمناً متعمّداً على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلم يأمر القاتل بالايمان من فعله ولو كان (كافراً) أو خارجاً عن الإيمان. لأمره أولاً بالإيمان. وقال : لطالب الدم أتعفو؟ قال : لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال : لا، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر، ولو كان ذلك كفراً لبينهُ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأن بكفر كان قد حَرُمَ بها أهله عليه، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح، الشفيق، المبعوث بالتأديب والتعليم. وقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنه قال : (ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال : لا اله إلاّ اللّه لا نكفره بذنب (ولا نخرجه من الإسلام بعمل)، والجهاد ماض منذ بعثني اللّه إلى أن تقوم الساعة، والإيمان بالأقدار). ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافراً بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضاً الشرك اضافة، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى اللّه شركاء، ولو جاز أن يكون كافراً من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمناً من لم يأت بالإيمان (......). وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية. وقيل : إن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً يدخل في النار مؤبداً لأنّ اللّه تعالى قال : {خَالِدًا فِيهَا} . يقال لهم : إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً متعمداً. وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين (لها) على أنّا لو سلمّنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً متعمداً، فإنا نقول لهم : لِمَ قلتم إن الخلود هو التأبيد، خبرونا عن قول اللّه {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فما معنى الخلد ههنا في النار، يقولون : إنه المراد به التأبيد في الدنيا. والدنيا تزول وتفنى. ومثله قوله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن} وكذلك قوله {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟ فإن قالوا : لا ولابد منه، فيقال لهم : قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد، فكذلك يقول العرب : لأُودعنَّ فلاناً في السجن، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟ وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا : إن اللّه لما قال : {وَغَضِبَ اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} دَلَّ على كفره لأن اللّه لا يغضب إلاّ على من كان كافراً أو خارجاً من الإيمان. قلنا : إن هذه الآية لاتوجب عليه الغضب لأن معناه {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ان يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر اللّه من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجباً كقوله {إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} وكم محارب للّه ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} . ولم يقل : أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها. ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذاً لقوله {وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} معنى، فكذلك ههنا. ولو كان ذلك على معنى الوجوب. كان لقوله {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى اله مِّن دُونِهِ فَ ذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ووجدنا في لغة العرب. إنه إذا قال القائل : جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذباً، وإذا قال : أجزيه، ولم يفعل كان كاذباً، فعلم أن منهما فرضاً واضحاً يدل على صحة هذا التأويل. ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس. قوله {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له. وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال : فهو جزاؤه إن جازاه فهو جزاؤه. روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله تعالى : {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} قال : جزاؤه إن جازاه (قال : فليس) قوله {وغضب عليه ولعنه} من الأفعال الماضية. ومتى قلتم أن المراد منه : فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم : قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل. وهو قوله {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} . {وَحَشَرْنَاهُمْ} {وَقَالَ قَرِينُهُ} كل ذلك يكون مستقبلاً، وقد يرد بلفظ المستقبل، والمراد به الماضي كقوله {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا بِاللّه الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . بمعنى إلاّ ان آمنوا، ومثله كثير، وقد قيل في تأويل هذه الآية : إن هذا الوعيد {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} مستحلاً لقتله، وأما قوله : من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة. وذلك يغفر اللّه لهم الذنوب. وأمر بالتوبة منها فقال {وَتُوبُوا إِلَى اللّه جَمِيعًا} ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان اللّه قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى.. قال اللّه {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} إلى قوله {وَعَمِلَ صَالِحًا} وقال إخوة يوسف {اقْتُلُوا يُوسُفَ} ثم قال {وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} يعني بالتوبة وسُئل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال : نعم، فإن قيل : فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل : تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنباً ولم يستغفر اللّه منه ويدل على هذا ما حدّث : خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال : سمعت أم (الدرداء) تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (كل ذنب عسى اللّه أن يغفر إلاّ من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً). قال خالد بن دهقان : فقال هاني بن كلثوم : سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من قتل مؤمناً ثم اغتبط بقتله لم يقبل اللّه منه صرفاً ولا عدلاً). قال خالد : سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اغتبط بقتله، قال : هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر اللّه منه أبداً. سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا أعلم للقاتل توبة إلاّ أن يستغفر اللّه. وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا عَلَى بنى إسرائيل} إلى قوله {جَمِيعًا} . هات يا أبا سعيد، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل. فقال : إي واللّه الذي لا اله إلاّ هو ما جعل دماء بني اسرائيل أكرم من دمائنا، فإن قيل : فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} قال : ما (نسخها) شيء. وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي (بزة) أنه سأل سعيد : هل لمن قتل مؤمناً من توبة؟ فقال : لا، فنزلت عليه الآية {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} إلى قوله {إِلا مَن تَابَ} . قال سعيد : فقرأها عليّ ابن عباس (كما قرأتها) عليّ فقال : هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال : لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} إلى قوله {إِلا مَن تَابَ} عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال : إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر. نقول ومن اللّه التوفيق : إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل، وقوله : إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليماً سبيل الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لايقع في الأخبار، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعاً (خبر أنّ). فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولاً فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص. وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان. وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أُنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء واللّه أعلم. وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه (رادّ) لكتاب اللّه تعالى لأن اللّه تعالى قال {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} ، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفوراً أي ما يكون صاحبه معذوراً ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها. فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة، وصحة قولنا، فهذا حكم الآية. ٩٤{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه} الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد (بن ذبيان) يقال له : مرداش بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنهُ كان على دين المسلمين. فلما راى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فكبّر فنزل وهو يقول : لا اله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه السلام عليكم فتغشاه أُسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأخبروه الخبر فوجد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من ذلك وجداً شديداً. وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (قتلتموه إرادة ما معه) ثم قرأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هذه الآية على اسامة بن زيد فقال : يا رسول اللّه استغفر لي وقال : (فكيف بلا اله إلاّ اللّه) قالها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثلاث مرات. قال أُسامة : فما رآني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ ثم إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) استغفر لي بعد، ثلاث مرات. فقال : إعتق رقبة. وبمثله قال قتادة، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) معه غنم فسلّم عليهم فقالوا : ما سلم عليكم إلاّ متعوّذاً، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه}. وروى المبارك عن الحسن أنّ أُناساً من المسلمين لقوا أُناساً من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال : فشدَّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال : إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه. قال : وكان واللّه قليلاً نزراً. قال : فرفع ذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال : يا رسول اللّه إنما قالها متعوذاً، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فهلاّ شققت عن قلبه؟). قال : لِمَ يا رسول اللّه؟ قال : (لتنظر صادقاً كان أو كاذباً) قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول اللّه؟ قال : (إنما ينبىء عنه لسانه) قال : فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً فلما رأى أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب، قال : فأنزل اللّه {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه} الآية. قال الحسن : أما ذاك ما كان أن تكون الأرض (تحبس) من هو شر منه ولكن وعظاً لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله. {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّه} أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين {فَتَبَيَّنُوا} يعني المؤمن من الكافر، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىا إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضاً. قال : ابن سيرين : إنما قال : (إليكم) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها، ويقال : العرض ماسوى الدراهم والدنانير {فَعِندَ اللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني ثواباً كثيراً لمن ترك قتل المؤمن { كذلك كُنتُم مِّن قَبْلُ} تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا اله إلاّ اللّه قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها، فنهاهم أن يخيفوا أحداً بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم {فَمَنَّ اللّه عَلَيْكُمْ} بالهجرة {فَتَبَيَّنُوا} أن تقتلوا مؤمناً {إِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخير والشر {خَبِيرًا} . روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىا إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} ، قال : حرّم اللّه على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا اله إلاّ اللّه : لست مؤمناً، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله (وهو مؤمن). زعم ابن (سيرين) هو القول بهذه الآية. وقالوا لما قال اللّه {وَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىا إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلاّ قولهم فلولا أن الإيمان هو القول، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذاً؟ فقتلوه واللّه تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر. وقد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلاّ اللّه) وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط). ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايماناً منهم. وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (هلا شققت عن قلبه) فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأنّ حقيقة التصديق بالقول، ولكن ليس للعبد حكم إلاّ على ما سمعه منه فقط، وفي هذه الآية ردٌّ على أهل القدر وهو أنّ اللّه تعالى أخبر أنه منَّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ اللّه لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان باللّه إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عاند غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني. ٩٥{لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لما ذكر اللّه فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد اللّه بن أم مكتوم وعبد اللّه بن جحش الأسدي وليس الأزدي وهما عميان فقال : يا رسول اللّه ذكر اللّه فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ماترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل {غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم. وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لما نزلت هذه الآية {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّه} قال ابن أم مكتوم : اللّهم أنزل عذري، فنزلت (غير أولي الضرر) فوضعت بينهم وكان بَعد ذلك يغزو ويقول إدفعوا إليّ اللواء ويقول : أقيموني بين الصفين فإني لا (استطيع) أن أفرّ. معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال : كنت جالساً عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فعرض ابن أم مكتوم قال : فبقيت فخذ رسول اللّه على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه {غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} وبقية الآية {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} عن الغزو أو الجهاد، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر، والضرر مصدر، يقال : رجل ضرير من الضرر. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أولي. الضرر. {وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غيرهم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين، ونُصِبَ على الاستثناء {فَضَّلَ اللّه الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي فضيلة {وَكُ} يعني المجاهد والقاعد {وَعَدَ اللّه الْحُسْنَى} ومن يجاهد (الجنّة، وزاد) من فضل المجاهدين فقال ٩٦{وَفَضَّلَ اللّه المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً دَرَجَات مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَحِيما} قال : كان يقال : الإسلام درجة، والهجرة في سبيل اللّه درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن (محيريز) في هذه الآية : هي سبعون درجة مابين كل درجتين عدد (حضر الفرس الجواد المضمر) سبعين خريفاً. ٩٧{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} الآية. نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس. ورأوا قلة المؤمنين قالوا : غرّ هؤلاء دينهم، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم، فذكر اللّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} أي يقبض أرواحهم ملك الموت. وقوله {تَوَفَّاهُمُ} إن نَصَبْتَ جعلته ماضياً فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى {تَتَوَفَّاهُمُ} وأراد بالملائكة ملك الموت لأن اللّه تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد اللّه وقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ} علم أن المراد بقوله (توفاهم الملائكة) ملك الموت واللّه أعلم. فإن قيل : فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل : قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل (انا نحن) ولا عليك إن اللّه واحد. ومثله في القرآن كثير وقوله (ظالمي) ظالمي أنفسهم بالشرك، والنفاق، ونصب ظالمي على الحال من (توفاهم الملائكة) في حال تحملهم أي شركهم {قَالُوا} يعني الملائكة. {فِيمَ كُنتُمْ} أي فيماذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه : فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} أي مقهورين عاجزين {فِى الأرض} يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين {قَالُوا} يعني الملائكة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه} يعني أرض المدينة {وَاسِعَةً} أي آمنة {فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة. وروى سليمان بن عمرو عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّه وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأُخرج منها. وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد (صلى اللّه عليه وسلم) . فأكذبهم اللّه عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال {فَأُولَاكَ مَأْوَ اهُمْ} أي منزلهم {جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيرًا} أي بئس المصير إلى جهنم. ثم استثنى أهل مكة منهم فقال : ٩٨{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ} يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي (صلى اللّه عليه وسلم) ويتجهزون للحوق به {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ} والمستضعفين نصب على الاستثناء من مأواهم {يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} لا يقدرون على حيلة ولاقوة ولانفقة للخروج منها {وَلا يَهْتَدُونَ سبيلا} لا يعرفون طريقاً إلى الخروج منها وقال : إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً وكنت غلاماً صغيراً ٩٩{فَأُولَاكَ} الذين هم بهذه الصفة {عَسَى اللّه أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي يتجاوز {وَكَانَ اللّه عَفُوًّا غَفُورًا} وفي هذه الآية دليل على إمكان قول مَنْ قال إن الإيمان هو الأقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أظمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم ١٠٠{وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللّه} أي في طاعة اللّه {يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} . مجاهد : مراغماً كثيراً : أي متزحزحاً على كره. علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس، وعليّ بن الحكم عن الضحاك : المراغم : السهول من الأرض إلى الأرض. أما السعة فسعة من الرزق، وبه قال مقاتل بن حيان. وقال أبو عبيدة : المراغم والمهاجر واحد، يقال : راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب، والمُذهب في الأرض. قال النابغة الجعدي : كطود يلاذ بأركانه عزيز المراغم والمهرب وقال الشاعر : إلى بلد غير داني المحل بعيد المراغم والمضطرب قال القيسي : فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغماً أي مغاضباً لهم ومهاجراً أي مقاطعاً عن دينهم، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه. وقيل : إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب. فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير (وضيئاً) يقال له : جندع فقال : واللّه ما أنا ممن استثنى اللّه وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، واللّه لا أبقى الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال : هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيداً فأتى خبره أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : لو وافى المدينة لكان مهاجراً، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل اللّه تعالى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} قبل بلوغه إلى مهاجره {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ} أي وجب ثوابه {عَلَى اللّه} بإيجابه ذلك على نفسه {وَكَانَ اللّه غَفُورًا} كان منه في حال الشرك {رَّحِيمًا} بما كان منه في الإسلام. ١٠١{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} أي هاجرتم فيها {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي حرج وإثم {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ} أي علمتم {أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في الصلاة {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} مجاهراً بعداوته وقال : (....) عدوا بمعنى أعداء واللّه أعلم. قوله {إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} . تمام الكلام ههنا. ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال : (فإن خفتم ان يفتنكم الذين كفروا) يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} الآية. هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أُخرى عن يوسف وهو قوله { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها {لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} . وفي التفسير : أنَّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل (عليه السلام) ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف {وما أُبرئ نفسي} ومثل قوله تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} وقال : {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلاً بأول الكلام كان معناه (....). قال : وحَمْل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى مافصلت قوله تعالى {أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} متصلاً بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السُنّة ناسخة الكتاب، قيل : على زيادة معنى مع إستقامة نظمها أولى من حملها على غيرها. حكم الآية اختلف أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أُبيح له القصر تخفيفاً عنه وإليه ذهب الشافعي، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بعسفان في غزوة بني لحيان. ١٠٢{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ} الآية. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا : إن المشركين لما رأوا أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه (قاموا إلى) صلاة الظهر يصلّون جميعاً ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يؤمهم ندموا على تركهم إلاّ كانوا كبراً عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم. فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف فإن اللّه يقول {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} مقيماً يعني شهيداً معهم {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} إلى آخر الآية قال : فعلمه جبرئيل صلاة أُخرى. فلما قام النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعاً، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه، فصلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم، وكانت لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين. كيفية صلاة الخوف اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف. فقال الشافعي : إذا صلى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائماً وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو، ويأتي الطائفة الأُخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالساً وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأُخرى منه. واحتج بقول اللّه تعالى. {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ} الآية. فاحتج أيضاً بأن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فعل ذلك يوم ذات الرقاع. وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ} قال : هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بأزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائماً فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام، فهكذا صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم ذات الرقاع. ويدل على صحة هذا التأويل أيضاً حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال : فإذا صلى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف اولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة. قال الشافعي : فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائماً وأتموا لأنفسهم فحسن، وإن ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم (فجائز) ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها ما بقي عليه ثم يثبت جالساً حتى يقضي مابقي عليها ثم يسلم بهم. قال : وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالساً في الثانية أوقائماً في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى. قال : وإن كان العدو قليلاً من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لايسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلى بهم الإمام جميعاً وركع وسجد بهم جميعاً إلاّ صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا. وإذا ركع ركع بهم جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلاّ صفاً أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعاً معاً وقال : وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني. ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس، وهذا نحو صلاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم عُسفان. روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصلاةِ} قال قوم : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم، وأثقالهم وأنزل اللّه تعالى {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعاً ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين. قام النبي (صلى اللّه عليه وسلم) والصف الأقل ثم كبَّر بهم وركعوا بهم جميعاً فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعاً كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين، وتشهد، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف. عطاء عن جابر قال : صلينا مع الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبَّر وكبَّرنا معه جميعاً ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو. وكلما قضى رسول اللّه السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم ركع وركعنا جميعاً. ثم رفع رأسه فاستوى قائماً فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الاولى، فلما قضى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وسلموا جميعاً، كما نصنع وسلم هؤلاء بأقرانهم. قال الشافعي : ولو صلى بالخلف (....). فإذا صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يُسلم جائز وهكذا صلاة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ببطن المحل. وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد اللّه أخبره إنه صلى مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صلاة الخوف فصلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بأحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول اللّه أربع ركعات وصلى كل طائفة ركعتين. قال المزني : وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له (صلى اللّه عليه وسلم) فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف. وقال أبو حنيفة : السنٌّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين، فيصلّي بفرقة ركعة، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلَّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون. وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى. وأتمّت صلاتها، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف. وهو ما روى ابن شهاب عن سالم بن عبد اللّه أن عبد اللّه بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فَصَفَّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو، فركع (بهم) رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ركعة وسجدتين، (سجد) مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ففعل مثل ذلك، ثم سلم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة (وسجدتين). قال نافع عن ابن عمر : فإن كان خوفاً أشد من ذلك، فليصلوا قياماً وركباناً حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة. وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد اللّه بن عتبة عن ابن عباس قال : صلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صلاة الخوف بذي قرد فصف صفاً يوازي العدو. وقال : فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلم فيهم جميعاً ثم إنصرف وكان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) صلى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة. حديث أبي هريرة في صلاة الخوف وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة : هل صليت مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة : نعم، فقال مروان : متى؟ قال : عام غزوة نجد، قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وكبّر الذين معه، والذين يقاتلون العدو جميعاً. ثم ركع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم، وقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قائم كما هو. ثم قاموا فركع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ركعة أخرى وركعوا معه وسجد، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا، وسجدوا ورسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قاعد كما هو فثم سلم وسلموا جميعاً، فصلى رسول اللّه ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان. واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) دون خلاف في هذا بين العلماء إلاّ ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا : لايصلي صلاة الخوف بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء اللّه. {ولا جناح عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} نزلت هذه الآية في رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خاصة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) غزا محارباً وبني أنمار (فهزمهم اللّه وأحرزوا الذراري والمال) فنزل رسول اللّه والمسلمون معه ولايرون من العدو واحداً فوضع الناس اسلحتهم وأمتعتهم من ناحية (وخرج رسول اللّه) فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي، (والسماء ترش) فحال الوادي بين رسول اللّه وبين أصحابه وجلس رسول اللّه وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي، ثم الحضرمي، فقال أصحابه : يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من إصحابه. قال : قتلني اللّه إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال : يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) (اللّه) ثم دعا : اللّهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت. ثم أهوى بالسيف على رسول اللّه ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه، فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأخذه ثم قال : (من يعصمك الآن يا غويرث) قال : لا أحد. قال : إشهد أن لا اله إلاّ اللّه وأني عبده ورسوله، فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليه، فأعطاه رسول اللّه سيفه فقال غويرث : للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) لأنت خير مني. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه). فقالوا : ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائماً على رأسه ما منعك منه؟ قال : واللّه إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يدّي فسبقني فأخذه وقال : يا غويرث من يمنعك مني الآن، فقلت : لا ثم قال : اشهد أن لا اله إلاّ اللّه وإني رسول اللّه وأعطيك سيفك فقلت : لا، ولكني أُعطيك موثقاً أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فردّ السيف إليّ. قال : وسكن الوادي فقطعه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وأقرأهم هذه الآية {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لاضرر {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} من عدوكم {إِنَّ اللّه أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} يهانون فيه. قال الزجاج : الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد ثمّ قال {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم، والأذى مقصور، يقال : أذى يأذي أذىً، مثل فرع يفرع فرعاً ١٠٣{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ} يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها {فَاذْكُرُوا اللّه} يعني فصلوا للّه {قِيَامًا} للصحيح {وَقُعُودًا} للسقيم {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس، ويقال : معناه فاذكروا اللّه بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم {فَإِذَا قَضَيْتُمُ} أي أتموا الصلاة أربعاً {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاةَ فَاذْكُرُوا اللّه قِيَامًا وَقُعُودًا} أي واجباً مفروضاً في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب اللّه عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى {فإذا الرسل أُقّتت} ووقتت مخففة. ١٠٤{وَلا تَهِنُوا فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ} لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان واصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران. {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} أي تتوجعون وتشتكون من الجراح {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي يتوجعون ويشتكون من الجراح {كَمَا تَأْلَمونَ} وانتم مع ذلك امنون {وَتَرْجُونَ مِنَ اللّه} الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم اللّه وإظهار دينكم على سائر الأديان. {مَا لا يَرْجُونَ} وقيل : (تفسر) الآية : وترجون من اللّه ما لا يرجون أي تخافون من عذاب اللّه ما لا يخافون. قال الفراء : لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد، كقول اللّه تعالى {قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللّه} أي لا يخافون أيام اللّه وكذلك قوله تعالى : {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للّه وَقَارًا} أي لاتخافون للّه عظمة، وهي لغة حجازية. قال الشاعر : لا ترتجي حين تلاقي الذائذا أسبعة لاقت معاً أم واحداً وقال الهذلي : يصف (معتار) العسل ذا النوب وهي النحل. ويروى في بيت نوب عوامل إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل. قال : ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولاخفتك وأنت تريد رجوتك. ١٠٥{إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وكان الدقيق يُنشَر من خرق في الحراب، حتى إنتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد ابن السمين، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده، وحلف لهم واللّه ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع، بلى واللّه لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق منتشراً فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي : دفعها لي طعمة بن البرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة : أيطلبوا بنا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يُرى معذوراً فأتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إنك إنْ لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرئ اليهودي فهمّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فأنزل اللّه تعالى يعاتبه {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} الآيات. وفي رواية أُخرى عن ابن عباس قال : إن طعمة سرق درعاً من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخاله فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة (فأخذه) وحمله إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فهم رسول اللّه أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. علي بن الضحاك : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعاً فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة، فأنزل اللّه تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} الآية. وقال مقاتل : إن زيد السمين أودع درعاً عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب، فأشرف على السطح، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال : أرى درعاً في دار أبي هلال، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فَشكوا وقالوا : إنهم قد فضحونا وسرقونا، فعاتبهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عز وجل {إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي بالأمر والنهي والفصل {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّه} أي ماعلمك اللّه وأوحى إليك {وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} أي معيناً ١٠٦{وَاسْتَغْفِرِ اللّه} ابن عباس قال : واستغفر اللّه مما هممت به من قطع يد زيد. الكلبي : واستغفر اللّه يا محمد من همك باليهودي أن تضربهِ. مقاتل : واستغفر اللّه من جدالك الذي جادلت عن طعمة {إِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} . ١٠٧{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي {إِنَّ اللّه لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا} يعني خائناً في الدرع {أَثِيمًا} في رميه اليهودي وقوله {وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} . قد قيل فيه : إن الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) والمراد به غيره، كقوله {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} والنبي لايشك ممّا أنزل اللّه، فإن قيل : قد أمر بالاستغفار (قلنا) هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم. واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه : يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه ١٠٨{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} أي يستترون ويستحيون من الناس {وَلا يَسْتَخْفُونَ} أي يستترون ولا يستحيون {مِنَ اللّه وَهُوَ مَعَهُمْ} يعني علمه. {إِذْ يُبَيِّتُونَ} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني يقولون، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين : يولعون {مَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} يعني بأن اليهودي سرقه {وَكَانَ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} يعني قد احاط اللّه بأعمالهم الحسنة. وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية، استدلوا منها على إن اللّه بكل مكان قالوا لمّا قال {وَهُوَ مَعَهُمْ} ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وهو معهم إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال {مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا} ولم يرد قوله انه في السماء يَعني غير الذات لأن القول : أنّ زيداً في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لايكون إلاّ بالذات، وقال تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب) وقال : {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأرض} فأخبر أنه (يرفع) الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يدبر الأمر من السماء وإليه يصعد الكلم الطيب، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال ١٠٩{ها أنْتُمْ هؤُلاءِ} أي يا هؤلاء للتنبيه {جَادَلْتُمْ} أي خاصمتم عن (أبي) طعمة، ومتى سافر أبي بن كعب {عَنْهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا} والمطلب به في اللغة بشدة (المخاصمة) وهو من الجدل وهو (شدّة الفتل وفيه : رجل مجدول الخلق، وفيه : الأجدل للصقر) لأنّه من أشدّ الطيور قوّة. {فَمَن يُجَادِلُ اللّه عَنْهُمْ} أي عن طعمة {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لما أخذه اللّه بعذابه وأدخله النار {أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكيلا} كفيلاً. ١١٠ثم استأنف وقال {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا} يعني يسرق الدرع {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} برميه البريء في السرقة، يقال : ومن يعمل سوءاً أي شركاً أو يظلم نفسه يعني بما دون الشرك {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه} أي يتوب إلى اللّه {يَجِدِ اللّه غَفُورًا} متجاوزاً {رَّحِيمًا} به حين قبل توبته ١١١{وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا} يعني يمنه بالباطل {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} يقول فإنما يضرُ به نفسه ولا يُؤخذ غير الاثم بإثم الإثم {وَكَانَ اللّه عَلِيمًا} بسارق الدرع {حَكِيمًا} حكم القطع على طعمة في السرقة ١١٢{وَمَن يَكْسِبْ خطيئة} أي بيمينه الكاذبة، {أَوْ إِثْمًا} بسرقته الدرع، وبرميه اليهودي {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بريئا} أي يقذف بما جناه من مأمنه {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل. وقال الزجاج : البهتان الكذب الذي يتخير من (عظمه). {وَإِثْمًا مُّبِينًا} ذنباً بيناً. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (ومن يكسب خطيئة أو إثماً) عبد اللّه بن أبي بن سلول (ثم يرم به بريئاً) يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك، وقوله (ثم يرم به) ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفراً، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال اللّه تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد ١١٣{وَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ} بالنبوة {وَرَحْمَتُهُ} نصرك بالوحي {لَهَمَّت} يقول لقد همّت يعني أضمرت {طَآئِفَةٌ} يعني جماعة {مِّنْهُمْ} يعني طعمة {أَن يُضِلُّوكَ} أي يخطؤك {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} يقول ومايخطؤن إلاّ أنفسهم {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ} وكان ضره على من شهد بغير حق {وَأَنزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} قبل الوحي {وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ} منّ اللّه عليك {عَظِيمًا} بالنبوة. هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، ثم قال : {وَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} يعني به الإسلام والقرآن {لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} يعني من ثقيف {أَن يُضِلُّوكَ} وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناماً بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه اللّه بمنّه وأخبره بنعمته عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه، فقال {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} يعني وفد ثقيف {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ} يعني لايستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك اللّه لها أهلاً ثم قال {وَأَنزَلَ اللّه عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني الاحكام وعلمك مالم تكن تعلم من الشرائع وكان فضل اللّه أي منّ اللّه عليك بالإيمان عظيماً. ١١٤{لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَ اهُمْ} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي حثّ عليها {أَوْ مَعْرُوفٍ} يعينه بفرض أسباب {أَوْ إِصْلَاح بَيْنَ النَّاسِ} يعني بين طعمة واليهودي {وَمَن يَفْعَلْ ذلك } القرض بمنح أو هدية {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللّه} أي طلب رضاه {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} يعني جنة. وعن ابن سيرين : معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة، والانسان سراً كان أو ظاهراً، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه. قال الشاعر : فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه سيرضيكما منها سنام وغار به ويقال : نجوت فلاناً إذا استنكهته. قال الشاعر : نجوت مجالداً فوجدت منه كريح الكلب مات حديث عهد ونجوت وتر واستنجيته إذا أخلصه. قال الشاعر : فتبازت فتبازخت لها كجلسة الأعسر يستنجي الوتر وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض. قال الشاعر : كمن بنجوته كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح فمعنى {لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَ اهُمْ} يعني ما دوّن منهم من الكلام (إلاّ من أمر بصدقة) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع، فوجه الخفض على قولك : لاخير في كثير من نجواهم إلاّ فيمن أمر بصدقة. والنجوى ههنا الرجال المتناجون كما قال : ولاهم نجوى. وقال قائلون : النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلاً ويكون قوله إلاّ استنثاء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهراً. قال النابغة : إلاّ الأواري لأيّا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة. وقال الشاعر : وبلدة ليس بها أنيس إلاّ اليعافير وإلاّ العيس ١١٥{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} نزلت في طعمة بن الأبرق أيضاً وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة فأنزل اللّه فيه {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي يخالف (من بعد ما تبين له الهدى) أي التوحيد بحدوده {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الاوثان {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا} فلم ينتهِ طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج : كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ (يتفل)، فقال بعضهم : دعوه فإنه لجأ إليكم، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فراراً منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الاحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيساً فيه دنانير فأمسكوا به فأخذ وأُلقي في البحر، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنماً لهم إلى إن مات، فأنزل اللّه فيه {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} فنزل فيه {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} : نزلت هذه الآية في نفر من قريش، قدموا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول اللّه ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الاوثان، فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية {ومن يشاقق الرسول) أي يفارق الرسول، ويعاديه ويحاربه (من بعد ما تبين له الهدى} يعني من بعد ماوضح له إن محمد عبده ورسوله {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي غير طريق المسلمين {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهي لا تملك ضراً ولانفعاً ولا ينجيهم من عذاب اللّه ونصله جهنم بعبادة الأصنام. {وَسَآءَتْ مَصِيرًا} يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة. ١١٦الضحاك عن ابن عباس : قوله تعالى {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} قال : إن شيخاً من الاعراب جاء إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يانبي اللّه أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلاّ إني لم اشرك باللّه شيئاً منذ عرفته، وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جرأة على اللّه ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين، إني أعجز اللّه هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند اللّه؟ فأنزل اللّه عز وجل {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّه فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالا بَعِيدًا} يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله. واعلم أن في قوله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} دليل على قوة حجة الاجماع وفي قوله : {إن اللّه لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ} دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال : {إنّ اللّه لايَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحَتم على نفسه بأن لايغفر الشرك. لو كان الكبيرة كفراً لكان قوله {إِنَّ اللّه يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} مستوعباً فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم، وقد بيّن اللّه تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَّرِيدًا} وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة (بين الشرك والإيمان) إذ اللّه تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضداً للإيمان. وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا : إن المؤمن لايعذّب، وإن كان مرتكباً للذنوب. لأن اللّه أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتماً، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما (علّقه) في الشرك، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل. ١١٧ثم نزلت في أهل مكة {إن يدعون إلاّ إناثا} من دونه كقوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُو نِي أسْتَجِبْ لَكُمْ} أي اعبدوني أستجب، لكم يدلّ عليه قوله بعده {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} من دونه، أي من دون اللّه وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسَدنة والكهَنة يكلمهم فذلك قوله {وَإِن يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَّرِيدًا} وكان المشركون يدعون اصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين. ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس : إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب. وأصله وثن وقرئت إنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة : إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً يعني أمواتاً لاروح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها. وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين، فإن يدعون وما تعبدون إلاّ شيطاناً مريداً والمريد المارد فقيل : بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال : مرد الرجل يمرد مروداً ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب : حدثنا ممرد أي مملس. ويقال : شجرة مردا إذا يتناثر ورقها، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد، أي أملس موضع اللحية. فالمراد : الخارج من الطاعة المتملّص منها. ١١٨{لَّعَنَهُ اللّه وَقَالَ} يعني إبليس {تَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} يعني حظاً معلوماً فما اطاع فيه إبليس فهو مفروضه. قال الفراء ما جعل عليه سبيل، وهو كالمفروض، في بعض التفسير وكل ألف اللّه عز وجل وسائرهم لإبليس. وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه يقال معناها بالفراض والفرض، والفرض الجز الذي يكون في الشباك يشد فيه الخيط، والفريض في القوس الجز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة في سائر ما افترض اللّه عز وجل. ما أمر به العباد وجعله أمراً حتماً عليهم قاطعاً وقوله {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يعني لهن قطعة من المال. وقد فرضت للرجل أي جعلت له قطعة من المال. قول الشاعر : إذ أكلت سمكاً وفرضاً ذهبت طولا وذهبت عرضاً فالفرض ههنا التمر، وقد سمي التمر فرضاً لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة. ١١٩ثم قال إبليس {وَضِلَّنَّهُمْ} (بمعنى هؤلاء) {وَمَنِّيَنَّهُمْ} أنّه لا جنة، ولا نار، ولابعث. وقال بعضهم : ولأمنينّهم أي أُلقي في قلوبهم (الهيمنة) {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَام} أي يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة {وَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه} . قال ابن عباس عن الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير : يعني دين اللّه نظير قوله تعالى : {تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه} أي لدين اللّه. وقال عكرمة وقوم من المفسرين : معناه : فلنغيرنّ خلق اللّه (بالخضاب) والوشم وقطع الآذان وفقء العيون. قال أهل المعاني : معنى قوله (فليغيرن خلق اللّه) إن اللّه خلق الانعام لتركبوها وتأكلوها فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق اللّه {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا} أي ربّاً {مِّن دُونِ اللّه} فيطيعوه {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} ١٢٠يعدهم إلا يلقون خيراً {وَيُمَنِّيهِمْ} الفقر ألاّ ينفقون في خير ولايصلون رحماً، فقال يمينهم ان لابعث ولاجنة ولانار {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} أي باطلاً ١٢١{أُولَاكَ مَأْوَ اهُمْ جَهَنَّمُ} يعني مصيرهم جهنم {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي منعاً قال عوف : بلغني من المؤمن بكيده من الشيطان بأكثر من مضر لو أبدلهم اللّه له لمات، وإن قيل خبرونا عن قول إبليس {تَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} كيف علم ذلك؟ يقال : قد قيل في هذا أجوبة، منها : إن قالوا إنّ اللّه تبارك وتعالى كان خاطبه بقوله {مْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فعلم إبليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه. ومنها : ان قالوا إنه لما وسوس لآدم نال منه ما نال، طمع في ولده ولم ينل من آدم جميع ما يتمناه من الغواية فكذلك طمع في بعض ولده وأيس من جميعهم. ومنها ان قالوا ان ابليس قد عاين الجنة والنار وعلم ان اللّه خلقهما لأن يسكنهما من الناس والشياطين، فعلى هذا التأويل قال {تَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} وإن قيل : لخبرونا عن إضلال الشيطان هل إليه نجح فعله وانفاذ أمره أم لا؟ يقال له : معنى إضلاله الدعاء إلى الضلالة والتزين له ولو كانت الضلالة إليه لأضل الخلق جميعاً ولذلك مَنّ به أباهم ١٢٢{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أي من تحت الغرف والمساكن {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَعْدَ اللّه حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّه قِي} أي وهذا ١٢٣{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . قال قتادة والضحاك : إن المسلمين وأهل الكتاب تناظروا، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابكم، ونحن أولى باللّه منكم، فقال المسلمون : نحن أولى باللّه منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا (يفي) على الكتب التي كانت قبله فأنزل اللّه تعالى {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} الآية. وقال مجاهد : قالت قريش : لا نبعث ولانحاسب. وقال أهل الكتاب {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاِ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} فأنزل اللّه {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . وإسم ليس مضمر المعنى ليس ثواب اللّه بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} لاينفعه يمينه {وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لمّا نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين مشقّة شديدة، وقالوا : يا رسول اللّه وأيّنا لم يعمل سوءاً غيرك وكيف الجزاء؟ فقال : (منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات، ومن يجازي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلب إحداه عشراه. وأما ما كان جزاءه في الآخرة فإنه يؤخر إلى يوم القيامة فيقابل بين حسناته وسيئاته، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة، فيعطى كل ذي عمل فضله). وروى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير عن أبي بكر الصديق قال : يا رسول اللّه كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أية آية؟) فقال يقول اللّه {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال : ما عَلِمنا جزينا فقال له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (قد هلك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تغبْ ألست يصبك القرف) قال : بلى، قال : (فهو ما يجزون به). وعن عبد اللّه بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق (رضي اللّه عنه) قال : كنت عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنزلت هذه الآية في سورة النساء {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أبا بكر ألا اقرئك آية نزلت عليَّ؟) قلت : بلى يا رسول اللّه، قال : (فاقرأنيها فلا أعلم أني وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطّيت لها) فقال : (مالك يا أبا بكر). فقلت : بأبي أنت وأمّي، وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أما أنت يا أبابكر وأصحابك المؤمنون فتُجزون ذلك في الدنيا حتى تلقوا اللّه وليس لكم ذنوب). وأما الآخرون فتجمع ذنوبهم حتى يجزوا يوم القيامة. وقال عطاء : لما نزلت {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . (قال أبو بكر : يا رسول اللّه ما أشدّ هذه الآية قال : (يا أبا بكر إنّك تمرض، وإنّك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك)، وقال عطاء) : قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر يا رسول اللّه، قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّما هي المصيبات في الدنيا). وروى عبد اللّه بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت : إني لأعلم أي آية من كتاب اللّه نزلت ببعض من يعمل سوءاً يجز به. قال : إن المؤمن يجازى بأسوء عمله في الدنيا ثم ذكر أشياء منه المرض والنصب وكان آخرون يذكر نصبه إليك كله كل يجازي بعمله، يا عائشة ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب قالت : فقلت : أليس يقول اللّه تعالى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال : ما ذلك (العرض) إنه من نوقش في العذاب عذِب فقال بيده : على المصيبة كان ينكث. وروى ابن ميثم بن يزيد عن عبد اللّه بن الأرقم قال عن أبي هريرة يقول : لما نزلت {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} بكينا وحزنّا وقلنا : يا رسول اللّه ما أبقت هذه الآية من شيء، قال : (أما المذنب فمن يده إنها لكم انزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا إلاّ أنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلاّ كفَّر اللّه به خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه). وقال الحسن : في قوله تعالى {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال : هو الكافر، لايجزي اللّه المؤمن يوم القيامة، ولكن المؤمن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته. ثم قرأ {لِيُكَفِّرَ اللّه عَنْهُمْ} الآية، وقرأ أيضاً، {وَهَلْ نُجَازِي إلاَّ الكَفُورَ} . قال الثعلبي : وقلت : لولا السيئة لأُتيَ (الجزاء) في الكفار. لقوله في سياق الآية {وَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} ومن لم يكن له في القيامة نصير ولا ولي كان كافراً فإن اللّه عز وجل قد ضمن بنصرة المؤمنين في الدارين بقوله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية.! ولكن الخطاب متى ورد مجملاً وبيّن الرسول (ذلك على) لسانه إذ البيان إليه قال اللّه تعالى {ليُبيِّنَ للنّاسِ} وأنزل إليهم ثم بين اللّه تعالى فضل المؤمنين على مخالفيهم فقال {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَاكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} الآية يعني تكون في ظهر النواة. عن مسروق قال : لما نزلت هذ الآية {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء حتى نزلت ١٢٤{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ونزل فيهم أيضاً ١٢٥{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} (قد علم ربّنا) {مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني أخلص للّه عمله، وقيل : فوّض أمره إلى اللّه، وقيل : مفلح {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي موحد {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} يعني دين إبراهيم {حَنِيفًا} مسلماً مخلصاً. قال ابن عباس : ومن دين إبراهيم الكعبة والصلاة ويطوفون بها وحولها والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمرات وحلق الرأس والموقفان، وسائر المناسك فمن صلى نحو القبلة وأقرّ بهذه الصفة فقد اتبع ابراهيم (عليه السلام) {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللّه إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} صفياً وخليلا من (قولهم) : أبا الضيفان يضيف من مرّ بهِ من الناس، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة. قال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا مادخل على الناس من الشدة، فرجع رُسُلُ إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة، فقالوا : لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، قال : فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم (عليه السلام) وساره نائمة، فأعلموا ذلك، واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة، وقد ارتفع النهار، فقالت : سبحان اللّه ما جاء الغلمان فقالوا لها : بلى قالت : فما جاءوا بشيء، قالوا : بلى، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا، قال : فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال : ياسارة من أين هذا الطعام؟ قالت : من عند خليلك المصري؟ قال : هذا من عند خليلي اللّه، لا من عند خليلي المصري. قال : فيومئذ إتخذه اللّه خليلاً مصافياً. وقال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل فجائز أن يكون سمي خليل اللّه بانه الذي أحبه واصطفاه بالجنة تامة. وجائز أن يسمّى خليل اللّه أي فقير إلى اللّه لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلاّ إلى اللّه مخلصاً في ذلك. قال اللّه {أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّه} لإن معنى الخليل في اللغة. قد قيل : هو الفقير. قال زهير يمدح حرم بن سنان : فإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غايب مالي ولا حرم والخلة : الصداقة، والخلة : (الحاجة)، فإذا جعلنا اشتقاق الخليل من الخلة فهو الإخلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه، وإن جعلنا من الخلة فهو أصل الصداقة ومعناهما جميعاً واحد لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه. والخلل : كل فرجة يقع في شيء، والخلال الذي يتخلل به، وإنما سمي خلالاً لأنه منع به الخلل من الأسنان، والخل : الطريق في الرمل، معناه إنه إنفرجت فيه فرجة، فصارت طريقاً في الأرض والخلّ الذي يؤكل إنما سمي خلا لأنه أخل منه طعم الحلاوة ١٢٦{وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا} أي لبساطة عمله لجميع الاشياء. ١٢٧{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ} . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في بنات أم كحه وميراثهن من أُمّهن، وقد مضت هذه القصة في أول السورة. معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال : كان الرجل بالجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرّم اللّه تعالى ذلك ونهى عنه وأنزل هذه الآية. مجاهد والضحاك وقتادة وإبراهيم : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئاً، وكانت المرأة تكون دميمة في الجاهلية، دميمة ولها مال فيكره وليّها أن يتزوجها من أجل دمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره من أجل مالها، وكان وليّها لايتزوجها ويحبسها عنده حتى تموت، ويرثها. سعيد بن جبير : كان وليّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال، رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال لم ينكحها ولم ينكّحها فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وعن عبد اللّه بن عبيدة قال : جاءت امرأة من الأنصار يقال لها خولة بنت حكيم إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقالت : يا رسول إن أخي توفّي وترك بنات وليس عندهن من الحُسن مايرغب فيهن الرجال ولا يقسم لهن من ميراث إبيهنّ شيئاً فنزلت فيها. {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي يستخبرونك في النساء {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ} يخبركم {فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى} أي والذي يقرأ {عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ} أي في القرآن، وموضع مارفع معناه {قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ} ويفتيكم أيضاً فيهن، ويجوز أن يكون في موضع الخفض، فيكون معناه قل اللّه يفتيكم فيهن وفيما يتلى بينكم، وهو بعيد لأن الظاهر لا يعطف على المضمر، وجه الرفع أبين لأن مايتلى في الكتاب ويتلى بين ما سألوه عنه معنى، قل اللّه يفتيكم فيهن في كتابه يفتيكم فيهن وهو قوله {وَآ تُوا اليَتَامَى أمْوَالَهُم} الآية وقوله {فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّاتِى تُؤْتُونَهُنَّ} أي لاتعطونهن {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} يعني فرض لهن من الميراث {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي وترغبون عن نكاحهن لملكهن، وقيل : ترغبون في نكاحهن لمالهن {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} يعني الصغار من الصبيان وهو في موضع الخفض والمعنى : قل اللّه يفتيكم فيهن والمستضعفين {وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي بالعدل {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِهِ عَلِيمًا} . وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب إنّ آخر آية كانت (ويستفتونك في النساء قل اللّه يفتيكم فيهن) وآخر سورة براءة ١٢٨{وَإِنِ امرأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} نزلت في عمرة ويقال خويلة بنت محمد بن سلمة في زوجها رافع بن الرفيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلمّا أدبرت وعلاها يعني تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وحفا ابنه محمد بن سلمة وأتت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فشكت إليه، فنزلت فيها هذه الآية هذا قول : الكلبي وجماعة المفسرين، وقال سعيد بن جبير : كان رجل وله إمرأة قد كبرت وكان له منها أولاد فأراد أن يطلقها، ويتزوج غيرها فقالت لاتطلقني ودعني أقوم على ولدي وأقسم لي في كل شهرين إن شئت أو أكثر وإن شئت فلا تقسم لي، فقال : إن كان يمنع ذلك فهو أحبّ إليّ، فأتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فذكر له ذلك، فقال : قد سمع اللّه ما تقول فإن شاء أجابك فأنزل اللّه عز وجل {وإن خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً} أي علمت من زوجها نشوزاً يعني بغضاً. قال الكلبي : يعني ترك مجامعتها ومضاجعتها أو إعراضاً عن مساكنتها، وعن مجالستها وعن محادثتها {فلا جناح عَلَيْهِمَآ} يعني على الزوج والمرأة {أَن يُصْلِحَا} أي يستصلحا {بَيْنَهُمَا صُلْحًا} أي في القسمة والنفقة وهو أن يقول لها : إنك امرأة دميمة وقد دخلت في العنّ وأريد أن أتزوج عليك امرأة شابّة جميلة، فيؤثرها في القسمة عليها لشبابها، فإن رضيت بهذا فأقيمي، وإن كرهت خلّيت سبيلك، فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولايعسر عليّ ذلك، وإن لم ترض (أُعطيتْ) حقّها، فالواجب على الزوج أن يوفّيها حقّها من المقام والنفقة أو يسرّحها بإحسان ولايحبسها على الخسف، وإن يقام عليها وفّاها حقّها مع كراهيته صحبتها، فهو المحسن الذي مدحه اللّه وأخبره انه عالم بصنيعه ومجازيه على فعله ولايجبر الرجل على وطء واحدة لأنه هو الزوج وهو حظه وإذا تركه لم يجبر عليه وليس هو كالمقام والنفقة. وقوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} يعني إقامتها بعد تخييره إياها ومصالحتها على شيء معلوم في المقام والنفقة، وهكذا فعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مع زوجته ومكثت معه وذلك أنها كانت امرأة كبيرة فأراد النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يسرحها فطلبت إليه أن لا يفعل وقالت : إنّي أُحبّ أن أُبعث في نسائك يوم القيامة، ألا فإنّ يومي وليلتي لعائشة. وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : في قوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قال : المرأة تكون عند الرجل فتكون صغيرة أو كبيرة أو لايحبّها زوجها، فيصطلحان على صلح. وقال سعيد بن جبير : فهو أن يتراضيا على شيء معلوم في نفسه وماله. قال الضحاك : الصلح أن ينقصها من حقها إذا تزوج أشبّ منها وأعجب إليه. وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها الشابة، فيقول للمرأة الكبيرة : أُعطيك من زماني نصيباً على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار وترضى الأخرى بما أصطلحا عليه فإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما على القسمة. وروى إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس : في قوله تعالى {فلا جناح عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . قال : المرأة الكبيرة الدميمة تكون عند الرجل يريد طلاقها والإستبدال بها (فصالحها) هذه على بعض حقها من القسمة والنفقة، فذلك جائز بعد ما رضيت، فإن أنكرت بعد الصلح، فذلك لها، ولها حقّها، أمسك أو طلق. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي المرأة تكون عند الرجل وله إمرأة غيرها أحبّ إليه منها فيؤثرها عليها، فأمر اللّه تعالى إذا كان ذلك أن يقول لها : يا هذه إن شئت أن تقيمي على ماترين من هذه فآويك وأنفق عليك فأقيمي، وأن كرهت خليت سبيلك، فإن هي رضيت أن تقيم بعد ان خيَّرها فلا جناح عليه وهو قوله (والصلح خير) وهو التخيير. وروى إسرائيل عن سماك بن حرب عن خلد بن عرعرة قال : سأل رجل علياً عن قوله عز وجل {وَإِنِ الأمر أَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتفتدي منه تكره فرقته، وإن أعطته من ماله فهو حل له أو أعطته من أثاثها فهو حل له {وَأُحْضِرَتِ انفُسُ الشُّحَّ} يقول : شحت المرأة نصيبها من زوجها وشح الرجل نصيبه من الأخرى. قال ابن عباس : والشح هو في الشيء يحرص عليه {وَإِن تُحْسِنُوا} يعني تصلحوا بينهما بالسوية {وَتَتَّقُوا} الجور والميل. وقيل : هذا الخطاب للزوج يهني : وإن تحسنوا بالإقامة عليها، مع كراهتكم لصحبتهما وتتّقوا ظلمها {فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} فيخبركم بأعمالكم. ١٢٩{وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ} يقول : لن تقدروا ان تسوّوا بينهن في الحب {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على العدل {فَلا تَمِيلُوا} إلى الشابة الجميلة التي تحبّونها {كُلَّ الْمَيْلِ} في النفقة والقسمة والإقبال عليها (وتدّعوا الأخرى كالمعلّقة) أي كالمنوطة لا أيمّاً ولا ذات متاع. قتادة والكلبي : كالمعلقة كالمحبوسة وهي في امرأة أُبيّ بن كعب كأنها مسجونة. وقال مجاهد : لن تستطيعوا العدل بينهن فلا يتعمدوا (ذلك). وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللّهم أما قلبي فلا أملك وأما ماسوى ذلك فأرجو أن أعدل. {وَإِن تُصْلِحُوا} بالعدل في القسمة بينهن {وَتَتَّقُوا} الجور {فَإِنَّ اللّه كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} بما قلت إلى التي تحبّها بقلبك بعد العدل في القسمة ١٣٠{وَإِن يَتَفَرَّقَا} يعني عن المرأة بالطلاق {يُغْنِ اللّه كُلا مِّن سَعَتِهِ} أي من النفقة يعني المرأة بزوج والزوج بإمرأة. {وَكَانَ اللّه وَاسِعًا} لهما في النكاح {حَكِيمًا} يمكن للزوج إمساكاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان. حكم الآية علم أن اللّه عز وجل الرأفة بالعباد وعلمه بأحوالهم فنبّههم على نحو وجب عليهم من حقوق النساء ونهاهم عن الميل في افعالهم إذا لم يكن لهم سبيل إلى التسوية بينهن في المحبة ومتى جمع العبد من الفعل لمال عنه إلى واحدة بعينها دون غيرها كان ذلك جوراً، وقد روي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان يقسم ويقول : (اللّهم هذا قسمي فيما أملك وليس أحكم (فيما لا يملك)). يعني به قلبه، وكان يطوف به على نسائه في مرضه حتى حلّلته (نساءه) فأقام عند عائشة، وعماد القسم الليل، لأنه يسكن فيه قال اللّه تعالى : {وَلَهُ مَا سَكَنَ باللَّيلِ} فمتى كان عند الرجل حرائر مسلمات وذمّيات فهو في القسم سواء ويقسم للحرّة ليلتين، وللأمة ليلة إذا خلى المولى بينه وبينها في ليلتها ويومها، وللأمة أن تحللّه من قسمها دون المولى لأنه حقها في خاصة نفسها ولايجامع المرأة في غير يومها، ولا لرجل أن يدخل في الليل على التي لم يقسم لها، ولابأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها، فإن ثقلت فلا بأس أن يقيم حتى تخف أو تموت ثمّ يوفي من بقي من نسائه مثل مابقي عندها، وإن أراد أن يقسم بين ليلتين ليلتين أو ثلاثاً كان له ذلك. ذكر إستدلال من إستدل من هذه الآية على تكليف ما لايطاق قالوا : قال اللّه عز وجل {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فلا تميلوا كُلَّ الْمَيْلِ} فأمرهم اللّه عز وجل أن يعدلوا، وأخبر أنهم لايستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بمالا يستطيعون وكلفهم مالا يطيقون. إن قال قائل : هل كلف اللّه الكفار مالا يطيقون؟ قيل له : إن أردت أنه كلفهم مالا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة، فلا، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم (في الأرض) ودفع عنهم العلل والآفات، وإن أردت أنه كلّفهم مالا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه، فقد كلفهم ذلك. فإن قالوا : أفيقدر الكافر لايتشاغل للكفر؟ قيل لهم : إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم : يقدر ان يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولاً بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الانسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه كما قالوا فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله، نضير قولهم : فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء، إذا أُورد عليه، وكذلك يقولون : الطعام مشبع، والماء مروي، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أُكل. والماء يروي إذا شرب. والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل : قم معي في حال كذا، والجواب : لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل، وقد قال اللّه تعالى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني القبول لاستثقالهم إيّاه، ومن المشتبه من (قال : ) وهل يقدر الكافر على الإيمان؟ يقول : إن ارادهُ كان قادراً عليه، فإذا قال له : فيقدر أن يريده؟ قال : إن كره الكفر، وإذا قيل له : هل يقدر على الكفر؟ قال : يقدر على ذلك إن أراد الإيمان، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب. ١٣١{وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض} لها مالكاً. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام {وَإِيَّاكُمْ} يا أهل القرآن في كتابكم {أَنِ اتَّقُوا اللّه} أي وحّدوا اللّه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئاً {وَإِن تَكْفُرُوا} بما أوصاكم اللّه به {فَإِنَّ للّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض} يعنى فإن للّه ملائكة هم أطوع له منكم {وَكَانَ اللّه غَنِيًّا} عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في ايديهم. وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى. والغنى هو القدرة على مايريد، والغنيّ القادر على مايريد، ثم ينظر فإن كان قادراً على (وصف) الحاجة عليه وَسَمْنَاهُ بذلك، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به، والفقر العجز عن ذلك وعدمه. وإلى هذا ذهب (المعتزلة). وقال الجبائي : إن معنى الوصف للّه بإنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار، ولايجوز عليه اللذات والسرور والآلام، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير، واللّه اعلم. ١٣٢{وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَفَى بِاللّه وكيلا} . الضحاك عن ابن عباس : يعني دافعاً مجيراً. عكرمة عن ابن عباس : يعني شهيداً ١٣٣{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} فيميتكم يعني الكفار {إِن يَشَأْ} يعنى بغيركم خيراً منكم وأطوع {وَكَانَ اللّه عَلَى ذلك قَدِيرًا} أي مستطيعاً على ذلك. القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولايموت ويعود للعجز معها. قالت المعتزلة : القادر هو الذي يجوز منه الفعل، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفاً للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه. ١٣٤{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّه ثَوَابُ الدُّنْيَا والآخرة} . يقول : من كان يريد بعمله الذي فرضه اللّه (بقدرته) عرضاً من الدنيا ولايريد به اللّه أثابه اللّه عليه ما أحب اللّه من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب اللّه، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير اللّه، ومن أراد بعمله الذي افترضه اللّه عز وجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه اللّه عليه من عرض الدنيا ما أحب اللّه ودفع عنه ما أحب اللّه وجزاه في الآخرة الجنة بعمله. وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملاً إلاّ صار في قلبه صورتان). فإن كانت الأولى للّه فلا يهده الآخرة ١٣٥{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للّه} الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل. قال ابن عباس : معناه : كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت {وَلَوْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَ الأقربين} في الرحم فأقيموها عليهم للّه تعالى، ولا تحابوا غنياً لغناه، ولا ترحموا فقيراً لفقره فذلك قوله تعالى {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللّه أَوْلَى بِهِمَا} منكم فهو يتولى ذلك منهم {وَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا} يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا. قال الفراء : ويقال معناه : لاتتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال : لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك. ويقال : فلا تتبعوا الهوى فراراً من إقامة الشهادة {وَإِن تَلْوُا} باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق {أوْ تُعْرِضُوا عنها} فتكتمونها ولاتقيمونها عند الحكام {فَإِنَّ اللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من إقامتها وكتمانها {خَبِيرًا} ويقال : معناه : وإن تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال : لويت حقّه أي دافعته وبطلته. وقال ابن عباس : هذه الآية في (القاضي) وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين. وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عند نزول هذه الآية : (من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليقم شهادته على ما كانت، ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجحد حقّاً هو عليه، وليؤدّه عفواً، ولا يلجئه إلى سلطان (ليأخذ) بها حقه، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم). مسألة في اللغة قال أهل المعاني : معنى القسط العدل، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطاً إذا عدل وقسط يقسط قسوطاً إذ جار. قال اللّه تعالى : {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال تعالى : {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} . ويقال : قسط البعير يقسط قسطاً إذا يبست يده، ويد قسطاً أي يابسة، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل، وكان معنى قسط أي (خيار) أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة. ١٣٦{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِه} الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس بن كعب وسلام ابن اخت عبد اللّه بن سلام، وسلامة بن أخيه ويامين ابن يامين، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب. أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا : يا رسول اللّه إنا نؤمن بك وبكتابك، وبموسى والتوراة، وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال لهم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (بل آمنوا باللّه ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله) فقالوا : لا نفعل، فأنزل اللّه تعالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِه} {وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني القرآن {وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزَلَ مِن قَبْلُ} يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المتقدمة {وَمَن يَكْفُرْ بِاللّه} إلى قوله {ضَلَّ ضَلَالا بَعِيدًا} يعني خطأ خطأً بعيداً، فلما نزلت هذه الآية، قالوا : يا رسول اللّه فإنّا نؤمن باللّه ورسوله وبالقرآن وبكلّ رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لانفرق بين أحد منهم كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون فدخلوا في الإسلام. وقال الضحاك : هي في اليهود والنصارى، ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن. وقيل : إنه ورد في اليهود خاصة، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في وجه النهار آمنوا في آخر النهار، وذلك قوله تعالى {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} الآية. وقال (أبو العالية) وجمع من المفسرين : هذه الآية خطاب للمؤمنين وتأويله : يا أيها الذين آمنوا آمنوا أي أقيموا واثبتوا على الإيمان، وكقوله لنبيه (صلى اللّه عليه وسلم) (فإعلم إنه لا اله إلاّ اللّه) أي اثبت على ما أنت عليه وكقوله {وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ومعناه : وعد اللّه الذين آمنوا على الإيمان من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الذين هم في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً، ويقال في الكلام للقائم : قم، وللقاعد : أُقعد، والمراد منه الاستدامة. ويقال : أنها خطاب للمنافقين الذين أصروا التكذيب ومعناها : يا أيها الذين آمنوا في الملأ آمنوا في الخلاء، وقال آخرون : المراد منه الكفار يعني : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا باللّه، ومعناه : إن كان لابد للإيمان يعني فالإيمان باللّه تعالى ورسله والكتب أحق وأولى من الإيمان بما لا يضر ولاينفع ولا ينفق ولا يرزق ولايحيي ولا يميت، واللّه أعلم. ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، ١٣٧فقال : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بموسى {ثُمَّ كَفَرُوا} بموسى {ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} بعد عزير بالمسيح وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى بن مريم {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} بمحمد وبما جاء به. قتادة : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمنت النصارى بالانجيل ثم كفرت وكفرهم هو (تكذيبهم) إياه، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقال مجاهد : ثم ازدادوا كفراً أي ماتوا عليه {لَّمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ} ما أقاموا على ذلك ولا ليهدهم {سبيلا} سبيل هدى. وقال ابن عباس : يدخل في هذه الآية كل منافق كانوا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال نحو ذكر ما في هذه الآية من الكلام على أهل القدر. يقال لأهل القدر : خبرونا عن الكفار هل هداهم اللّه عز وجل إلى الإسلام؟ فإن قالوا : نعم. قيل كيف يجوز أن يقال إن اللّه هداهم وقد قال اللّه تعالى {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سبيلا} ؟ قيل : ومعناه إنه لايهديهم إلى طريق الجنة يقال لهم كيف يهديه إلى طريق الجنة وقد هداه عندك لأن من أصلك إن العبد إنما يدخل الجنة فمعناه أنه يدخل الجنّة لفعله ويدخل النار بفعله، وقد هداه إلى طريق الجنة بهدايته إلى الإسلام فكيف يصح هذا التأويل على أصلك؟ واعلم أنهم إذا ألزمهم الشيء، فقالوا في التأويل، فإذا فحصت عن تأويلهم بان لك فساد قولهم. واعلم إن اللّه عز وجل قد بيّن لك إنه لايهديهم سبيلاً ليعلم العبد إنما يقال هُدي باللّه عز وجل ويحرم الهدى بإراده اللّه عز وجل ثم لايكون لهم عاذر بنفي الهدى عنهم، ولا مزيلاً للحجة ١٣٨{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} نبّئهم يا محمّد {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . قال الزجاج : بشّر أي اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب الأليم، والعرب تقول : تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي تضع الضرب موضع التحية (والسيف موضع العتاب). وقال الشاعر : وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجمع ١٣٩ثم وصف المنافقين فقال {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ} أنصاراً وبطانة {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ} يعني الرفد والمعونة والظهور على محمّد وأصحابه. وقال الزجاج : العزة يعني المنعة والشدة والغلبة مأخوذ من قولهم : أرض عزاز أي صلبة لايفيد عليها شيء ويقال : إستعز على المريض إشتد وجعه، وقولهم يعز عليّ أي يشتد، وقولهم إذا عز الشيء لم يوجد فتأويله قد اشتد وجود وصف إن وجد {فَإِنَّ الْعِزَّةَ للّه جَمِيعًا} أي القدرة للّه جميعاً وهو سيد الأرباب. ثم قال ١٤٠{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} يا معشر المسلمين بمكة {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا} يعني القرآن {يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فلا تقعدوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي يأخذوا في حديث غير الإستهزاء بمحمد وأصحابه والقرآن. وذلك إن المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيستهزئون بالقرآن ويكذبون به ويحرفونه عن مواضعه فنهى اللّه تعالى المسلمين عن مجالستهم ومخالطتهم، والذي نزل في الكتاب قوله تعالى {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية. الضحاك عن ابن عباس : ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة. الكلبي عن أبي صالح : صح هذا القول بقوله عز وجل وما على الذين يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من شيء ولكن ذكرى أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن لعلهم يتقون الاستهزاء بمحمّد والقرآن {إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ} إذا قعدتم عندهم فأنتم إذاً مثلهم {إِنَّ اللّه جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا} ١٤١{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّه} يعني النصر والغنيمة {قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} على دينكم فأعطونا من الغنيمة {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني دولة وظهوراً على المسلمين {قَالُوا} يعني المنافقين {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نخبركم بعزيمة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه ونطلعكم على سرّهم. وقال أهل اللغة : ألم نستحوذ عليكم ويغلب عليكم قال : إستحوذ أي غلب. وفي الحديث كان عمر أحوذنا أي غالب أمرنا في الحق. وقال العجّاج : يحوذهن وله حوذى. (كما يحوذ الفئة) الكميّ. الكميّ. أي يغلب عليها ويجمعها، ويروى بالزاي فيهما. وقال النحويون : استحوذ خرج على الأصل، فمن قال : حاذ يحوذ لم يقل إلاّ استحاذ يستحذ وإن كان أحوذ يحوذ كما قال بعضهم : أحوذت (وأطّيبت) بمعنى أحذتُ وأطبت. قال إستحوذ إستخرجه على الأصل {وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} ونمنعكم منازلة المؤمنين {فَاللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق ثم يفصل بينهم {وَلَن يَجْعَلَ اللّه لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سبيلا} . عكرمة والضحاك عن ابن عباس يعني حجة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : ولن يجعل اللّه الكافرين على المؤمنين يعني أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) سبيلاً يعني ظهوراً عليهم. وقال علي (رضي اللّه عنه) : ولن يجعل اللّه الكافرين على المؤمنين في الآخرة، وفي هذه الآية دليل على أن المنافق ليس بمؤمن وليس الإيمان هو الإقرار فقط، اذ لو كان الإيمان هو الإقرار لكانوا بذلك هم مؤمنين. وفيه دليل أيضاً على صحة نبوة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لأن القوم كانوا كاتمين اعتقادهم فأظهر اللّه عز وجل رسوله على اعتقادهم وكان ذلك حجة له عليهم إذ علموا إنه لايطلع على ضمائر القلوب إلا البارىء جل وعز. ١٤٢{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه} قد مرّ تفسيره. {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي يجازيهم جزاء خداعهم، وذلك أنهم على الصراط يعطون نوراً كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا على الصراط (يسلبهم ذلك النور) ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم فينادون المؤمنين {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} فيناديهم الملائكة على الصراط {ارجعوا ورائكم فالتمسوا نوراً} وقد علموا أنهم لايستطيعون الرجوع (فيشفق) المؤمنون حينئذ من نورهم أن يطفىء فيقولون : {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} {وَإِذَا قَامُوا} يعني (تهيّأوا) {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّه} يعني متثاقلين، يعني لايريدون بها (وجه) اللّه فإن رآهم أحد صلّوا وإلاّ انصرفوا ولم يصلّوا {يُرَاؤُونَ النَّاس} يعني المؤمنين بالصلاة {وَلا يَذْكُرُونَ اللّه إِلا قَلِيلا} ابن عباس والحسن : إنما قال ذلك لأنهم يصلونها رياء وسمعة ولو كانوا يريدون بذلك وجه اللّه عز وجل لكان ذلك كثيراً. قتادة : إنما قلّ ذكر المنافقين لأن اللّه عز وجل لم يقبله وكما ذكر اللّه قليل وكلما قبل اللّه كثير ١٤٣{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان {لا إلى هولاء ولا إلى هؤلاء} ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين، فليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. (القاسم بن طهمان) عن قتادة : ماهم بمؤمنين مخلصين ولا بمشركين مصرحين بالشرك {وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَلَن تَجِدَ لَهُ سبيلا} أي طريقاً إلى الهدى. وذكر لنا ان نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك وناداه المؤمن هلمَّ إلي فأن عندي الهدى وكفى له ما عنده، فما زال المنافق يتردد منهما حتّى أتى على أذى فعرفه فإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. وروى عبد اللّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّما مثل المنافق مثل الشاة العايرة من الغنمين يبدي إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لايدري أيهما يتبع). ثم ذكر المؤمنين ونهاهم عن الإتيان بما أتى المنافقون. ١٤٤فقال تعالى {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا للّه عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِينا} ثم ذكر منازل المنافقين فقال : ١٤٥{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ اسْفَلِ مِنَ النَّارِ} يعني في أسفل برج من النار، والدُرك والدَرك لغتان مثل الطُعن والطَعن والنُهَر والنَهر واليُبس واليَبس. قال عبد اللّه بن مسعود : الدرك الأسفل من النار توابيت مقفلة في النار تطبق عليهم {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (عوناً). عن عوف عن أبي المغيرة القواس عن عبد اللّه بن عمر قال : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون. قال الثعلبي : وتصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى فأما أصحاب المائدة فقوله عز وجل {فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَابًا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} ، وأما آل فرعون فقوله تعالى : {أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، وأما المنافقون فقوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ اسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . ١٤٦{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} من النفاق {وَأَصْلَحُوا} عملهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللّه} أي وثقوا باللّه {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للّه فَأُولَاكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} على دينهم. قال الفراء : مع المؤمنين تفسيره من المؤمنين. قال القتيبي : حاد عن كلامهم غيظاً عليهم فقال (فأولئك مع المؤمنين)، ولم يقل فأولئك هم المؤمنون {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّه الْمُؤْمِنِينَ} في الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} وهي الجنة وإنما حذفت الياء من : يؤتي في الخط كما حذف في اللفظ لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في اللّه وكذلك قوله {يوم ينادي المناد} حذفت الياء في (الخط) لهذه العلة وكذلك {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} {يوم يدع الداع} قالوا : والياء هذه حذفت لالتقاء الساكنين. وأما قوله {مَا كُنَّا نَبْغِ} حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت لثقل الياء، وقد قيل حذفت الياء من المناد والدّاع لأنك تقول : داع ومناد حذفت اللام بها كما حذفت قبل دخول الألف واللام. وأما قوله تعالى {وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فحذفت الياء لأنها مابين آية ورؤس الآية يجوز فيها الحذف ١٤٧{مَّا يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ} نعماه {وَءَامَنتُمْ} به وفي الآية تقديم، وتأخير، تقديرها ما يفعل اللّه بعذابكم ان آمنتم وشكرتم لأن الشكر لاينفع مع عدم الإيمان باللّه واللّه تعالى عرف خلقه بفضله على ان تعذيبه عباده لايزيد في ملكه. وتركه عقوبتهم على افعالهم، لاينقص من سلطانه {وَكَانَ اللّه شَاكِرًا} للقليل من اعمالكم {عَلِيمًا} بإضعافها لكم إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف. قال أهل اللغة : أصل الشكر إظهار النعمة والتحدث بها. قال اللّه تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وذكر بعض أهل اللغة إن الشكر مأخوذ من قول العرب لغة شكور إذا كان يظهر سمنها على القليل من العلف فكان اللّه تعالى سمّى نفسه شاكراً إلا أنه يرضى من عباده بالقليل من العبادة، بعد رتبة التوحيد. وقال بعض المعتزلة : إن الوصف للّه بأنه شكور وشاكر على جهة المجاز لأن الشكر في الحقيقة هو الاعتراف بنعم المنعم فلما كان القديم تعالى ذكره مجازياً للمطيعين على طاعتهم سمي مجازاته إياهم عليها شكراً على التوسعة، وليس الحمد عنده هو الشكر لأن الحمد ضد (الذم) والشكر ضد الكفر، فيقال له : إن لم يجز أن يكون الباري تعالى شاكراً على الحقيقة لما ذكرته لم يجز أن يكون مثيباً، لأن المثيب من كافى غيره على نعمة (قدمت) إليه ابتداءً، (وإلاّ لم يجزيه) أن يكون شاكراً في الحقيقة، والشكر من اللّه تعالى الثواب. ومن العباد الطاعة وحقيقة مقابلة الطاعة بغيرها، فإذا قابلت أوامر اللّه بطاعتك فقد شكرته وإذا قابلك اللّه طاعتك بثوابه فقد شكرك عليها. ١٤٨{لا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} يعني القول القبيح {إِلا مَن ظُلِمَ} فقد اذن للمظلوم ان ينتصر بالدعاء على ظالمه {وَكَانَ اللّه سَمِيعَا} لدعاء المظلوم {عَلِيمًا} بعقاب الظالم، نظير قوله {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَاكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} مجاهد : هذا في الضيف النازل إذا لم يضيف ومنع حقه أو اساءوا قراه فقد رخص اللّه له أن يذكر منه ماصنع به، وزعم أن ضيفاً نزل بقوم فأساءوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. والضيافة ثلاثة أيام ومافوق ذلك فهو صدقة. وقوله (من ظلم) من في محل النصب لأنه استثناء ليس من الأول، وإن شئت جعلت من رفعاً فيكون المعنى {لا يُحِبُّ اللّه الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَ} فيكون من بدلاً من معنى أحد والمعنى لايحب اللّه أن يجهر أحد بالسوء من القول إلاّ المظلوم، وقرئ إلاّ مَنْ ظلم بفتح الظاء واللام على معنى إن الظالم يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداءً، ويكون المعنى لكن الظلم الجهر بذلك ظلماً ومحل من في {مَن ظُلِمَ} النصب لأنه استثناء من الأول، وفيه وجه آخر : وهو أن يكون إلاّ من ظلم على معنى لكن الظالم جهروا له بالسوء من القول وهو بعد استثناءه من الأول، وموضعه نصب وهو وجه حسن. ١٤٩{إِن تُبْدُوا خَيْرًا} يعني حسنة فتعمل بها كتبت له عشر وإن همّ بها ولم يعمل بها كتبت له حسنة واحدة {أَوْ تُخْفُوهُ} وقيل الخير ماصفى المال ومعناه ان تبدوا الصدقة والمعروف أو تصدّقوا بسرّ {أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ} عن ظلم {فَإِنَّ اللّه كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} يعني فإنّ اللّه عز وجل أولى أن يتجاوز عنكم يوم القيامة عن الذنوب العظام. ١٥٠{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ} الآية نزلت في اليهود وذلك إنهم آمنوا بموسى وعزير والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمّد والقرآن وذلك قوله {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللّه وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلك سبيلا} أي ديناً من اليهودية والإسلام، ١٥١-١٥٢قال اللّه تعالى : {أُولَاكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ} كلهم {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} يعني بين الرسل وهم المؤمنون، قالوا : {لانفرق بين أحد من رسله} كما علمهم اللّه، فقال {قولوا آمنا إلى قوله لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} {أُولَاكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} بايمانهم باللّه وكتبه ورسله {وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَّحِيمًا} كما كان منهم في الشرك. ١٥٣{يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ} الآية، وذلك إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا قالا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إن كنت نبياً حقاً فأتنا بكتاب من السماء فما أتى به موسى فأنزل اللّه عز وجل {يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ} {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلك } يعني السبعين الذين خرج بهم موسى (عليه السلام) إلى الجبل {فَقَالُوا أَرِنَا اللّه جَهْرَةً} عياناً {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذلك } ولم نستأصلهم {يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن} الآية. ١٥٤يعني الآيات التسع {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} قتادة : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل : إيليا، وقيل : أريحا، وقيل : هي لهم قربة. {وَقُلْنَا لَهُمْ تَعْدُوا فِى السَّبْتِ} أي لاتظلموا باصطيادكم الحيتان فيها {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} يعني العهد الذي أخذ اللّه عليهم في الصيد ١٥٥{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم ميثاقهم كقوله {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّه} ، و {عَمَّا قَلِيلٍ} و {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} أي فبرحمة وعن قليل، وبجند ما هنالك. {وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللّه وَقَتْلِهِمُ الأنبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ بَلْ طَبَعَ اللّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} تقدير الآية، فنقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتالهم وقولهم طبع اللّه على قلوبهم ولعنهم {فلا يؤمنون} بمعنى من ممن كذب الرسل إلاّ من طبع اللّه على قلبه وإن من طبع اللّه على قلبه، فلا يؤمن أبداً، ثم قال تعالى {إِلا قَلِيلا} يعني عبد اللّه بن سلام، وقيل معناه : فلا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً ١٥٦{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} حين رموها بالزنا ١٥٧{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه} الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّ عيسى (عليه السلام) استقبل رهطاً من اليهود وقالوا : الفاجر بن الفاجرة والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأُمّه فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم، وقال : اللّهم أنت ربي وأنا عبدك من روح نفخت ولم أُتَّهم من تلقاء نفسي (اللّهم فالعن من سبّني وسبَّ أُمّي) فاستجاب اللّه دعاءه ومسخ الذين سبوّه وسبّوا أُمّه خنازير، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته آنفاً فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى فاجتمعوا عليه وجعلوا يسألونه فقال لهم : كفرتم وان اللّه يبغضكم، فغضبوا من مقالته غضباً شديداً وثاروا إليه ليقتلوه فبعث اللّه تعالى جبرئيل، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها فظنوا إنه يقاتله فيها وألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى، فلما خرج ظن إنه عيسى فقتلوه وصلبوه. مقاتل : إن اليهود وكّلوا بعيسى رقيب عليه يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل، فجاء الملك فأخذ ضبعيه ورفعه إلى السماء فألقى اللّه تعالى على الرقيب شبه عيسى، فلما رأوه ظنوا انه عيسى فقتلوه وصلبوه، وكان يقول : أنا لست بعيسى، أنا فلان بن فلان، فلم يصدّقوه فقتلوه. وقال السدّيّ : إنهم حبسوا عيسى مرّتين في بيت فدخل عليهم رجل منهم وألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء من كوّة في البيت فدخلوا عليه وقتلوه بعيسى. قتاده : ذكر لنا إن نبي اللّه عيسى بن مريم قال لأصحابه : أيّكم يقذف عليه شبهي فإنّه مقتول فقال رجل من القوم : أنا يا نبيّ اللّه فشبّه الرجل ومنع اللّه تعالى عيسى ورفعه إليه فلما رفعه اللّه إليه كساه الريش وألبسه النور وحطّ عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة يدور حول العرش وكان إنسياً ملكياً سمائياً أرضياً. وهب بن منبه : أوحى اللّه تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ثم رفعه اللّه إليه وهو (أربع) وثلاثين سنة وكانت نبوته (ثلاثة سنين). قوله تعالى {وَقَوْلِهِمْ} يعني اليهود {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّه} فكذبهم اللّه تعالى {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} . الكلبي : إختلافهم فيه فاليهود قالت : نحن قتلناه وصلبناه. وقالت طائفة من النصارى : بل نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم : ماقتلوه هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه اللّه إليه (ونحن ننظر إليه) وقال الذين لمّا قتل ططيانوس : ألم تروا إنه قتل وصلب فهذا إختلافهم وشكهم. قال محمد بن مروان : ويقال أنّ اللّه وضع في شبه من عيسى على وجه ططيانوس ولم يلق عليه شبه جسده وخلقه، فلما قتلوه نظروا إليه، فقالوا : إن الوجه وجه عيسى وإنّما هو ططيانوس، وقد قيل إن الذي شبَّه لعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي وكان يقال له إيشوع بن مدين. قال السدي : اختلافهم فيه أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، قال اللّه تعالى {مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا} أي ما قتلوا عيسى يقيناً ١٥٨{بَل رَّفَعَهُ اللّه إِلَيْهِ} . قال الفراء والقتيبي : والهاء في قوله {إِلَيهِ} إلى العلم يعني : وما قتلوا العلم يقيناً كما يقال قتلته عِلْماً وقتلته يقيناً للرأي والحديث. وقال المقنع الكندي : كذلك نخبر عنها الغانيات (....) فلكم يقيناً ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وما قتلوه يقيناً يعني ما قتلوه ظنهم يقيناً {وَكَانَ اللّه عَزِيزًا} أي قوياً بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة {حَكِيمًا} حكم عليهم) باللعنة والغضب). ١٥٩{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال الأستاذ الإمام : معناه ومامن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به وتلا قوله تعالى {وما منا إلاّ وله مقام معلوم} أي ومامنا أحد إلاّ له مقام معلوم. وقوله {وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا} المعنى : ومامنكم أحد إلاّ واردها. قال الشاعر : لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم المعنى : ما في قومها أحد يفضلها، ثمّ حذف. عن قتادة والربيع بن انس وابو مالك وابن زيد : هما راجعتان إلى عيسى، المعنى فإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الأنبياء إخوة لعلاّت أُمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك اللّه في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة للّه تعالى ويهلك اللّه في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأُسود مع الإبل، والنمور مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضاً ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وإقرأوا إن شئتم (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته) عيسى بن مريم) رددها أبو هريرة ثلاث مرات. عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي : الهاء في قوله تعالى (به) راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنَنَّ بعيسى قبل موته إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ ايمانه، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا : لايبقى يهودي ولاصاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت. قيل لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهواء، فقال : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال : يتلجلج بها لسانه. يدل على صحة هذا التأويل، قراءة أُبيّ : قبل موتهم. الكلبي : خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية. {فإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به} فقال شهر : خرج العطاء والحجاج يؤمئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة، فلما رآني الحجاج قال لي : ياشهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة، فقلت : أصلح اللّه الأمير أما ماذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيراً، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته، فقال : لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه، فقلت : إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه، قال : فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج، قال لي : هلم، فرجعت فقال : آية من كتاب اللّه تعالى ماقرأتها قط إلاّ اختلج في نفسي منها شيء، قلت : أصلح اللّه الأمير، ماهي؟ فقرأ هذه الآية {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} فإني لأُوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء، فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالت : ياعدوّ اللّه أتاك عيسى ابن مريم عبداً نبياً فكذبت به، فيقول : إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لاينفعه إيمانه، ويؤتى بالنصراني فيقولون له : ياعدو اللّه أتاك عيسى عبد نبي فقلت : إنه اللّه وابن اللّه، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. قال شهر : فنظر إليّ الحجاج وقال : من حدثك بهذا الحديث؟ فقلت : محمد بن الحنفية، قال : وكان متكئاً فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال : أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها. قال الكلبي : فقلت : يا شهر ما الذي أردت أن تقول : حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ماجاء من قبلهم، قال : أردت أن أُغيظه. وقال بعضهم : الهاء في (به) راجعة إلى محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وفي (موته) راجعة إلى الكتابي. وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال : لايموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقيل الهاء في (به) راجعة إلى اللّه تعالى، وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننّ به قبل أن يموت عند المعاينة ولاينفعه إيمانه في وقت البأس {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ} عيسى {عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرَّ له بالعبودية على نفسه، نظير قوله {وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم} وهو نبي شاهد على أُمّته، قال اللّه تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيدٍ} الآية، وقال تعالى {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} . ١٦٠{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا} وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم : إنا قتلنا المسيح. ونظم الآية {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا} وبصدهم أي صرفهم انفسهم وغيرهم عن سبيل اللّه عن دين اللّه صداً كبيراً ١٦١{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَواا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها، وقالوا هذه من عند اللّه، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، كقوله تعالى {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئاً من الطيبات التي كانت حلالاً لهم، يدلّ عليه قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} و {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} . نكتة قال لهم : {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} وقال لنا : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} ، وقال : {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلَا طَيِّبًا} فلم يحرّم علينا شيئاً بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجوا أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال اللّه تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} لأنه جمع بينهما في الذكر. نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب، فقال {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال : ١٦٢{لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ} يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون، في العلم {لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ} . واختلفوا في وجه انتصابه. فقالت عائشة وأبان بن عثمان : هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} وقوله تعالى : {إِنْ هذانِ لَسَاحِرَانِ} وقال بعض النحويين : هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ} وقيل : نصب على فعل، تقديره : اعني المقيمين، على معنى : أذكر النازلين وهم الطيبون. وقال قوم : موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم : معناه : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقيل معناه : يؤمنون بما أُنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، وقال بعضهم : يؤمنون بما أُنزل إليك من الكتاب والمقيمين الصلاة. ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل : هم الملائكة، وقيل : هم الأنبياء، وقيل : هم المؤمنون، وقيل : مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون. ١٦٣قوله تعالى {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل اللّه تعالى قوله {يَسْ َلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ} إلى قوله تعالى : {وَكَانَ اللّه عَزِيزًا حَكِيمًا} . لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم؛ غضبوا وقالوا : ما أنزل اللّه على بشر من شيء وأنزل {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ} جعله اللّه تعالى ثاني المصطفى (صلى اللّه عليه وسلم) في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} والثاني في الوحي، فقال : {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ} فإن قيل : ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه؟ يقال : لأنه كان أبو البشر قال اللّه تعالى {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} وقيل : لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك. وقيل : لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمراً. وقيل : إنه كبير الأنبياء، وجعل معجزته في نفسه لأنه عُمِّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر. وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً إعلاناً وإسراراً وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد إبنه فيقول له : يابني إحذر هذا فإنه ساحر كذاب. قال اللّه تعالى {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} وقال من عتق عنه (......) يوم القيامة بعد محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقيل لأن مقامه الشكر قال اللّه تعالى {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} فكما (......) القرآن فكذلك نوح (عليه السلام) صدر (......) وقال أول من يُدَعى إلى الجنة الحمّادون للّه على كل حال. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَاسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش وحمزة {زَبُورًا} بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال : قد كتبنا صحفاً من بعده أي مكتوبة، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبوراً، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني اسرائيل فيقومون خلفه. ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس، الأعظم فالأعظم في (فلاة) عظيمة ويقوم (الناس) لهذا الجن الأعظم فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّاً لما سمعن منه، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لايحصيهم إلاّ اللّه عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك، فقيل له : ذاك انس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال : قال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك، لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود) قلت : أما واللّه يا رسول اللّه لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته (تحبيراً). وكان عمر (رضي اللّه عنه) إذا رآه قال : ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده. وعن أبي عثمان (النهدي) وكان قد أدرك الجاهلية، قال : ما سمعت (طنبوراً ولا صنجاً) ولا مزماراً أحسن من صوت أبي موسى وإن كان لَيَؤُمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته حيث نزع حرف الصفة فالمعنى : كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل. وقيل معناه وقصصنا عليك رسلاً نصب بعائد الذكر، ١٦٤وفي قراءة {وَرُسُ قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أُنزلت من بعد الأنعام {وَرُسُ لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيمًا} ١٦٥{رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} سمّى اللّه تعالى النبيين بهذين الإسمين، فقال : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم، فقال (مبشرين ومنذرين) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الإسمين، فقال : {إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّه وَرَسُولِه} {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ} فيقول : ما أرسلت إلينا رسولاً فنتبع وما أنزلت علينا كتاباً. وقال في آية أخرى {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} . قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما أحد أغير من اللّه تعالى). ولذلك {حرم ربّي الفواحش ماظهر منها وما بطن} وما (أحسن) إليه المدح من اللّه تعالى ولذلك مدح نفسه جل جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من اللّه تعالى لذلك ارسل الرسل، ١٦٦وأنزل الكتب {لَّاكِنِ اللّه يَشْهَدُ} الآية. اعلم أن اللّه تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد، فقال : {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ إله إِلا هُوَ} والثاني على العدل {وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّه} وقال تعالى {قُلْ كَفَى بِاللّه بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} وقال : {قُلِ اللّه شَهِيدُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} وقال : {فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} والثالث على اعمال العباد فقال : {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّه جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} الآية وقال : {إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} أي تفيضون فيه وقال : {وَاللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} ، والرابع على جميع الأشياء فقال {أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد} والخامس على كذب المنافقين قال تعالى : {وَاللّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّه يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل {قُلِ اللّه شَهِيدُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي شهيد على القرآن {لَّاكِنِ اللّه يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} الآية. وقال ابن عباس : إن رؤساء مكة أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : يا محمد أخبرنا أولاً عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لايعرفونك، ودخل على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جماعة من اليهود فقال لهم : (إني واللّه أعلم أنكم تعرفون أني رسول اللّه). فقالوا : نعلم، فأنزل اللّه تعالى إن كذبوك وجحدوك لكن اللّه يشهد {بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَاكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا} . ١٦٧-١٦٨{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ} يعني اليهود الذين علم اللّه تعالى منهم إنهم لايؤمنون {لَمْ يَكُنِ اللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يعني دين الإسلام ١٦٩-١٧١{إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} يعني اليهودية {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَكَانَ ذلك عَلَى اللّه يَسِيرًا} إلى قوله تعالى {يَا أهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا} الآية نزلت في النسطورية والماريعقوبية والملكانية والمرقوسية وهم نصارى نجران وذلك إن الماريعقوبية قالوا لعيسى : هو اللّه، وقالت النسطورية : هو ابن اللّه، وقالت المرقوسية : هو روح اللّه، فأنزل اللّه تعالى {يا أهل الكتاب} يعني يا أهل الانجيل وهم النصارى {لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} أي لا تتشددوا في دينكم فتفتروا عليّ بالكذب، وأصل الغلو مجاوزة الحد في كل شيء، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها يغلو بها غلواً وغلاء. خالد المخزومي : خمصانة فلق موشحها رؤد الشباب غلا بها عِظَم {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلا الْحَقَّ} لا تقولوا أن للّه شركاء أو ابناً، ثم بين حال عيسى وصفته فقال {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} وهو الممسوح المطهر من الذنوب والأدناس التي تكون في الناس كما يمسح للشيء من الاذى الذي يكون فيه فيطهر، عيسى ابن مريم لا ابن اللّه بل رسول اللّه (وعبده قال : {إنّي عبداللّه آتاني الكتاب وجعلني نبّياً} ) ردَّ بهذا على اليهود والنصارى جميعاً {وَكَلِمَتُهُ} يعني قوله : كن، فكان بشراً من غير أب وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} الآية وقيل : هي بشارة اللّه مريم بعيسى ورسالته إليها على لسان جبرئيل وذلك قوله تعالى {إذ قالت الملائكة يامريم إن اللّه يبشرك بغلام اسمه المسيح} وقال تعالى مصدّقاً بكلمة من اللّه {أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ} يعني أعلمها وأخبرها بها كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة {وَرُوحٌ مِّنْهُ} الآية. قال بعضهم : معناه ونفخة منه وذلك أن جبرئيل نفخ في درع مريم فحملت بإذن اللّه، فقال : {وَرُوحٌ مِّنْهُ} لأنه بأمره كان المسيح وربما لأنه ريح يخرج من الروح، قال ذو الرمة يصف شرر النار التي تسقط من القداحة : فقلت له ارمها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدراً واجعل لها قوتاً بقدر. يدل عليه قوله تعالى {وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الآية هذا معنى قول عذرتها. وقال أبو عبيدة : إنّه كان إنساناً بإحياء اللّه عز وجل إياه، يدل عليه قول السدّي {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي مخلوق من عنده، وقيل : معناه ورحمة من اللّه تعالى، عيسى رحمة لمن شهد وآمن به، يدل عليه قوله في المجادلة {وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} أي قوّاهم برحمة منه، فدلّ الروح بالوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وأوحى إلى مريم بالمسيح وأوحى أنه ابن مريم يدلّ عليه (قوله تعالى : {بِرُوحٍ مِّنْهُ} ) يعني بالوحي، وقال في حم المؤمن : {يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} . وقال : {وَ كذلك أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} أي وحينا، وقيل : إهدنا بروح جبرئيل فقال : {وكلمة ألقاها إلى مريم} وألقى إليها أيضاً روح منه وهو جبرائيل. يدل عليه قوله في النحل {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} نظيره في الشعراء قال : {انزله الروح الأمين} وقال {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} وقال {يُنَزِّلُ الْمَلَاكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} يعني جبرئيل، وقال {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا} الروح الوحي يعني من الإضافة إليه على التخصيص كقوله لآدم (عليه السلام) {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} . قال الثعلبي : وسمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول : كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق اللّه وجهاً وأكملهم أدباً وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني (فيأبى) فقال له ذات يوم : مالك لاتؤمن؟ قال : لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟ قال : قوله {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، (فغمّ) قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل : قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال : يا أمير المؤمنين قد علم اللّه في سابق علمه أن مثل هذا (الحدث) يسألني في مجلسك، وإنه لم يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت للّه عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها ان شاء اللّه، فدخل بيتاً مظلماً، وأغلق عليه بابه (وانشغل) في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية {وسخر لكم مافي السماوات وما في الأرض جميعاً منه} فصاح بأعلى صوته : إفتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال : إن كان قوله (وروح منه) توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضاً منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب (النظائر في القرآن) وهو كتاب لايوازيه في بابه كتاب. {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ} قال أبو عبيدة : معناه ولاتقولوا هم ثلاثة. وقال الزجاج : ولاتقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك أنهم قالوا : أب وابن وروح القدس، {انتَهُوا} عن كفركم {خَيْرًا لَّكُمْ} إلى قوله ١٧٢{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للّه} وذلك إن وفد نجران قالوا : يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى. قال : وأي شي أقول؟ قال : تقول أنه عبد اللّه ورسوله، فقال لهم : إنه ليس بعار لعيسى إن يكون عبداً للّه. قالوا : بلى، فنزلت {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للّه} الآية. لم يأنف ولم يتعظّم ولم (يختتم) وأصله الأنفة، والتجنب وأصله في اللغة من قولهم نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك. قال الشاعر : فباتوا فلولا ما تذكر عنهم من الحلف لم ينكف لعينيك تدمع {وَلا الْمَلَاكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} هم حملة العرش لايأبون ان يكونوا عبيداً للّه، لأن من الكفار من اتخذ الملائكة آلهة فلذلك ذكرهم ثم أوعدهم فقال {وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} المستكبر والمقر ١٧٣{فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} في (التضعيف) ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا} عن عبادته {وَاسْتَكْبَرُوا} عن السجود {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} ثم قال (اللّه ولي الذين آمنوا). ١٧٤-١٧٦قوله تعالى {يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُم} يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) إلى قوله تعالى {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ} . روى محمد بن المنكدر وابو الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال : مرضت فأتاني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يعودني هو وأبو بكر فلما غشياني فوجدني قد أغمي عليّ فتوضّأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم صَبّ عليّ من وضوئه فأفقت، فقلت : يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي وكان لي سبع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ قال : فلم يجبني شيئاً ثمّ خرج وتركني ثم رجع إليّ وقال : (يا جابر إني لا أراك ميّتاً من وجعك هذا وإن اللّه عز وجل، قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين) ، وقرأ هذه الآية {يَسْتَفْتُونَكَ} إلى آخرها. وكان جابر يقول : نزلت هذه الآية فيَّ. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه إن لي أُختاً فما لي (وما لها). فنزلت هذه الآية وابتدأ بالرجل، فيقال : إنه مات قبل أُخته. سعيد عن قتادة قال : قال بعضهم على الكلالة فقالوا يا نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية {يَسْتَفْتُونَكَ} أي يستخبرونك ويسألونك (قل اللّه يفتيكم في الكلالة). قال الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما في الكلالة وقال أبو بكر : هو ما عدا الولد، وقال عمر : هو ما عدا الوالد. ثم قال عمر : إني لأستحي من اللّه أن أُخالف أبا بكر. وقال عمر (رضي اللّه عنه) : لأن يكون النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بينهنّ لكان أحب إلينا من الدنيا وما فيها، الكلالة والخلافة وأبواب الربا. وقال محمد بن سيرين : نزلت هذه الآية والنبي (صلى اللّه عليه وسلم) في مسيره إلى حجة الوداع، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان (وإلى جنبه عمر) فبلغها النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى حذيفة وبلغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة : واللّه إنك لأحمق أن ظننت أنّ إمارتك تحملني أن أُحدّثك فيها ما لم أُحدّثك يومئذ لما لقّانيها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (واللّه، لا أزيدك عليها شيئاً أبداً) فقال عمر : لم أرد هذا رحمك اللّه، ثم قال عمر : من كنت بيّنتها له فإنها لم تبين لي وما شهدك أفهمتها له فإني لم أفهمها. وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ثم قال : لأقضينّ في الكلالة قضاءً تحدّث به النساء في خدورها فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرّقوا، فقالوا : لو أراد اللّه أن يتم هذا الأمر لأتمّه. وقال أبو الخير : سأل رجل عتبة عن الكلالة، فقال : ألا تعجبون من هذا، يسألني عن الكلالة (ما شغل) أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) شيء مثل ما شغلت بهم الكلالة. وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال : واللّه إني ما أدع بعدي شيئاً هو أهم من الكلالة، قد سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن الناس فيّ وقال : تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء، وقيل لها : آية الصيف لأنها نزلت في الصيف. وقال أبو بكر (رضي اللّه عنه) في خطبته : ألا إن الآية التي أنزلها اللّه في سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية في الزوج والزوجة والأُخوة منهم، والآية التي ختم بها سورة النساء من ذكر بعضهم. |
﴿ ٠ ﴾