سورة المائدةمدنية، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله : {لا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللّه} نسختها آية السيف قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في خطبته يوم حجة الوداع قال : (يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) وهي إحدى عشر ألفاً وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية . عن عبد اللّه بن عمر قال : قرأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها. أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة المائدة أُعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{يا أيها} يا نداء أي إشارة، ها تنبيه {الَّذِينَ ءَامَنُوا} (نصب على البدل من : أيّها) {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يعني بالعهود . قال الزجّاج : العقود أو كل العهود. يقال : عاقدت فلاناً وعاهدت فلاناً، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شّداً قال الحطيئة : قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح : هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين. أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النبيين لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} . وقوله {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ تَكْتُمُونَهُ} وقال الآخرون : فهو عالم. قال قتادة : أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} . ابن عباس : هي عهود الأيمان و (الفراق)، غيره : هي العقود التي عقدها الناس بينهم، {أُحِلَّتْ لَكُم بهيمة الأنعام} اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي : هي الأنعام كلها وهي إسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} ثم بيّن ما هي، فقال {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام. وقال الشعبي : بهيمة الأنعام : الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذُبحت. وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى {أُحِلَّتْ لَكُم بهيمة الأنعام} قال ما في بطونها، قلت : إن خرج ميتاً آكله.قال : نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها. وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نُحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أُحلت لكم. وقال أبو سعيد الخدري : سألنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن الجنين، فقال : (ذكاته ذكاة أمّه). قال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة، سمّيت بذلك لأنها أُبهمت عن أن تميّز. {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يقول : عليكم في القرآن (لأنه حاكم) وهو قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} إلى قوله {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِازْلاَمِ ذَالِكُمْ فِسْقٌ} وقوله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} . {غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} قال الأخفش : هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه (معنى النهي). وقال الكسائي : هو حال من قوله {أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد} كما يقول : أُحل لكم الطعام غير معتدين فيه. معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلاّ ما كان منها وحشياً فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم محرمين. فذلك قوله تعالى {وَأَنتُمْ حُرُمٌ} قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراماً في الحركات وهما جميعاً جمع حرام، ويقال : رجل حرام وحُرم ومحرِم، وحلال وحِلّ ومحلّ {إِنَّ اللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (يحرم ما يريد على من يريد). ٢{يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه} الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال : إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال له : إلى ما تدعو الناس؟ فقال : (إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). فقال : حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم. وقد كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال لأصحابه : يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان، ثم خرج شريح من عنده، فلما خرج، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز : لقد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياماً وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خلج الساقين مسموح القدم فلما كان في العام القابل خرج حاجّاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) هذا الحطم خرج حاجّاً فحل بيننا وبينه، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (مه قد قلد الهدي). فقال لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وآله وسلم) : إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه عزّ وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تُحّلوا شعائر اللّه}. ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه تعالى عنها، (وقال الحسن دين اللّه كلّه) يدل عليه قوله {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَارَ اللّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} . عطية عن ابن عباس : هي أن تصيد وأنت محرم، يدل عليه قوله {فإذا حللتم فاصطادوا} . عطاء : شعائر حرمات اللّه اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذّي حرم اللّه. أبو عبيدة : هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي، والإشعار العلامة، ومنه (الحديث) : حين ذبح عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة، وهي على هذا القول فعيلة، بمعنى مفعّلة. قال الكميت : نقتلهم جيلا فجيلاً تراهم شعائر قربان بهم يتقرب ودليل هذا التأويل قوله : {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَارِ اللّه لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} وقيل : الشعائر المشاعر. وقال القتيبي : شعائر اللّه واحدتها شعيرة، وهي كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته. {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} بالقتال فيه فإنه محرم لقوله { يَسَْئلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} . وقال : النسّيء، وذلك أنهم كانوا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً، دليله قوله {إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ} {وَ الْهَدْىَ} وهو كل ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة. {وَلا الْقَلَادَ} قال أكثر المفسّرين هي الهدايا، والمراد به (المقلدات) وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم. وقال مطرف بن الشخيّر وعطاء : هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى اللّه عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية {وَلا ءَآمِّينَ} قاصدين {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} يعني الكعبة. وقرأ الأعمش : ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى {غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ} . {يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْ مِّن رَّبِّهِمْ} يعني الرزق بالتجارة {وَرِضْوَانًا} معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان، وهذا كقوله {وَانظُرْ إِلَى الهكَ} فلا يرضى اللّه تعالى عنهم حتى يسلموا. قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها. وقيل : إبتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر، يدل عليه قراءة حميد بن قيس {يبتغون فضلاً من ربّكم} على الخطاب للمؤمنين، وهذه الآية منسوخة بقوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقوله {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} . فلا يجوز أن يحجّ مشرك، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج. {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فَاصْطَادُوا} أمر إباحة وتخيير كقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُوا فِى الأرض وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّه} {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَ} . روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أقبل رجل مؤمن كان حليفاً لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لعن اللّه من قبل دخل الجاهلية (ما شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو) تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما). وقال الآخرون : نزلت في حجاج كفار العرب، وقوله {يَجْرِمَنَّكُمْ} ، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير : يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم، قال أبو عبيد : لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأُخرى مقبولة. واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم. قال أبو عبيد : يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني. قال الشاعر، وهو أبو أسماء بن الضرية : يا كرز إنك قد فتكت بفارس بطل إذا هاب الكماة مجرّب ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا والمؤرج : لا يدعونكم. الفرّاء : لأكسبنكم، يقال فلان جُرمه أهله أي كافيهم. وقال الهذلي يصف عقاباً : جرمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا وقال بعضهم وهو الأخفش : قوله {جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} : أي حق لهم النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت. قرأ أهل المدينة والشام، وعاصم والأعمش : بجزم النون الأول، وقرأ الآخرون بالفتح، وهما لغتان إلاّ أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين. فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها. {أَن صَدُّوكُمْ} قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر : إن صدّوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبد اللّه : أن يصدّوكم، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير، قال ابن جرير : لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم. {أَن تَعْتَدُوا} عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم. {وَتَعَاوَنُوا} أي ليعين بعضكم بعضاً، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها : متعاونة {عَلَى الْبِرِّ} وهو متابعة الأمر {وَالتَّقْوَى} وهو مجانبة الهوى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى اثْمِ وَالْعُدْوَانِ} يعني المعصية والظلم. عن واصب بن معبد صاحب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : جئت إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أسأله عن البر والإثم قال : (جئت إليّ تسألني عن البر والإثم)؟ فقلت : والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال : (البر ما انشرح به صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس). عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال : حدّثني أبي قال : سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري، قال : سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن البر والإثم فقال : (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس) {وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} . ٣{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح اللّه عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا : نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال. {وَالْدَّمُ} أُجْمِل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل : {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال. عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أُحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد). {وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه. {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ} ذبح {لِغَيْرِ اللّه} وذكر عليه غير اسم اللّه. قال أبو ميسرة : في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ. {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِازْلاَمِ} ، {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} ، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} . {تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} إلى قوله {ذُو انتِقَامٍ} {مَا جَعَلَ اللّه مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَآبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، والموقوذة : التي تضرب بالخشب حتّى تموت. قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه : قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك. قال الفرزدق : شغارة تقذ الفصيل برجلها طارة لقوادم الأبكار والمتردية : التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت. والنطيحة : التي تنطحها صاحبتها فتموت، و (هاء) التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول إستوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أُدخل الهاء ها هنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدرَ أهي صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا : رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وما أكل السبع غير (المعلم). وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة : وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان : وما أكل السبع بسكون الباء (وهي لغة لأهل نجد). قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب : من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع ملياً أو أكل منه أكلوا ما بقي {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} يعني إلاّ ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وإنهار الدم، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد : جري المذكيات غلاب. قال الشاعر : يفضله إذا اجتهدوا عليه تمام السن منه والذكاء ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول. ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام. وقال ابن عباس وعتبة بن عمير : إذا طرفت بعينها أو ظربت بذَنبِها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك. وعن زيد بن ثابت : أن ذئباً نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في أكله. أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). قال عاصم عن عكرمة : إن رجلاً أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها، فقال له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (تريد أن تميتها موفات قبل أن تذبحها). {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} قال بعضهم : فهو جمع واحدها نصاب، وقيل : هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق. وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف : النصب بجزم الصّاد. وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو : النصب بفتح النون وسكون الصّاد. وقرأ الجحدري : بفتح النون والصّاد (جعله) إسماً موحداً كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} واختلفوا في معنى النصب ها هنا. فقال مجاهد وقتادة وابن جريح : كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجراً وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة (من قبالهم) منها، قالوا : وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش. وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى : وذا النصب المنصوب لا تستكّنه لعاقبة واللّه ربك فاعبدا ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم : تقديره على إسم النصب. ابن زيد {وما ذبح على النصب وما أهلّ لغير اللّه به} هما واحدة. قطرب : معناه : ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام.قال اللّه تعالى {فَسَلَامٌ لَّكَ} أي عليك، وقال {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فعليها، {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا} معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الإستقسام بالأزلام، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح. قال الشاعر : فلئن جذيمة قتّلت سرواتها فنساؤها يضربن بالأزلام وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفراً أو غزواً أو تجارة أو تزويجاً أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحاً مكتوب على بعضها : نهاني ربي، وعلى بعضها : أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك. وقال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. أبو هشام عن زياد بن عبد اللّه عن محمد بن إسحاق قال : كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه : العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه : نعم، للأمر، إذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه : لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح (لا) لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه : منكم وقدح فيه : ملصق وقدح فيه : من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاماً أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتاً أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب فيضرب، فإن خرج عليه : منكم، كان وسيطاً منهم وإن خرج عليه : من غيركم، كان حليفاً، وإن خرج عليه : ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج : لا، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال اللّه عز وجل {ذَالِكُمْ فِسْقٌ} . قال مجاهد : هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها. قال سفيان بن وكيع : الشطرنج. رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة). {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّاراً، وفيه لغتان قال : الشعبي وائس يايس إياساً وإياسة. قال النضر بن شميل : {فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم} نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للّهجرة والنبي (صلى اللّه عليه وسلم) اقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. وقال طارق بن شهاب : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) فقال : آية (نقرؤها) لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيداً، قال : أية آية؟ قال : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ} ، قال عمر : قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقوفاً بعرفات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده. وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر (رضي اللّه عنه) فقال له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ما يبكيك يا عمر) قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال : (صدقت). وكانت هذه الآية نعي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وعاش بعدها أحد وثمانون يوماً أو نحوها. واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي : {الْيَوْمَ} وهو يوم نزول هذه الآية {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي. وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل : هو أن اللّه تعالى أعطى هذه الأُمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأُمم فزادهم. وقيل : إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة (.......) هو بايعك ثم فرّقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل : لم يكن إلاّ هذه الأُمة، وقيل : هو أن اللّه تعالى جمع بهذه الآية جميع (........) الولاية وأسبابها. قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال : سمعت العباس بن حمزة قال : سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء : الكتاب والرسول، والخلعة والولاية. قال : كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسراً وأخفّها أمراً وأغزرها علماً وأوفرها حكماً، ورسول اللّه جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاءً ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} حققت وعدي في قولي ولأُتم نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين. وقال الشعبي : نزلت هذ الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت (غيرهم). السّدي : أظهرتكم على العرب. {وَرَضِيتُ لَكُمُ اسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ} إجتهد {فِى مَخْمَصَةٍ} مجاعة يقال : هو خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخَمص والخُمص الجوع. قال الشاعر : يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهماً {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} . قال أبو عبيدة : غير متحرف مائل، قطرب : مائل، المبرّد : (زايغ) وقرأ النخعي : متجنف وهما بمعنى واحد يقال : تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد. قتادة : غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة : ما أكل فوق الشبع {فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه إضمار، تقديره : فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فإن اللّه غفور رحيم أي غفور له غفور كما يقول عبد اللّه : ضربت، فيريد ضربته. قال الشاعر : ثلاث كلّهنّ قتلت عمداً فأخزى اللّه رابعة تعود وقد فسر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المخمصة (بما رواه) (الأوزاعي) عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال : سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟ قال (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها). ٤{ يَسَْئلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. قال أبو رافع : جاء جبرئيل إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رداءه فخرج فقال : قد أذنا لك يا رسول اللّه، قال : أجل يا رسول اللّه ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. عن عبد اللّه بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب). رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : فأمرني أن لا أدع كلباً بالمدينة إلاّ قتلته وقلت حتى خفت العوالي (فأتيت) إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته، فأتيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته. وقال ابن عمر : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول رافعاً صوته : (اقتلوا الكلاب). قال : وكنا نلقى المرأة (تقدم من) المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بقتلها وحرم ثمنها. وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي). ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أُولاهنّ بالتراب نرجع إلى الحديث الأول. قال : فلما أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا : يا رسول اللّه ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية وأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه. وروى الحسن عن عبد اللّه بن معقل قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لولا أنّ الكلاب أُمّة من الأُمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلباً ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطاً). عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم). والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال : قيل لعبد اللّه بن المبارك : ما تقول في قول المصطفى (صلى اللّه عليه وسلم) (من اقتنى كلباً لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر). فقال حدّثني (الأصمعي) قال : قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد : ما بلغك في الكلب؟ قال : بلغني أن من أخذ كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط.فقال له : ولم ذلك؟ قال : هكذا جاء الحديث، قال : خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل. وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله. قال الثعلبي : أنشدني أبو الحسن الفارسي قال : أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحاً فأنشأ يقول : نزلنا بعمار فأشلى كلابه علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل فقلت لأصحابي أسر إليهم إذا اليوم أم يوم القيامة أطول قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل (الطائيين) وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قالا : يا رسول اللّه إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم اللّه الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت { يَسَْئلُونَكَ } يا محمد {مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} قل : {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني الذبائح التي أحلّها اللّه {وَمَا عَلَّمْتُم} يعني وصيد ما علمتم {مِّنَ الْجَوَارِحِ} . واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلاّ فلا يطعم، وهذا غير معمول به. وقال سائر العلماء : هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها. يقال : فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب {مُكَلِّبِينَ} منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين إلى هذه الحال أي في حال صيدكم (أصحاب) كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه على الصيد. قال الشاعر : باكره عند الصباح مكلّب أزلّ كسرحان القصيمة أغبر قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن : مكلبين بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضاً، ويجوز أن يكون من قولهم : أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل : وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لإنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح. {تُعَلِّمُونَهُنَّ} آداب الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّه} أي من العلم الذي علمكم اللّه، وقال السّدي : من بمعنى الكاف، أي كما علّمكم اللّه، وهو أن لا (يجثمن) ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهِ} عند إرسال البهم والجوارح. حكم الآية والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرّات فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالاً، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان : أحدهما : لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ اللّه عز وجل قال : {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاووس والشعبي وعطاء والسدّي. وقال ابن عباس : إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته، فاضربه ولا تأكل من صيده. يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن الصيد فقال : (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم اللّه عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبَك كلابٌ فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل). (وإذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه، فإن أدركته فكل، إلاّ أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل). والقول الثاني : أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وأبي هريرة، قال حميد بن عبد اللّه وسعد ابن أبي وقّاص : لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال : كل وإن لم يبق إلاّ نصفه أو ثلثيه فكل ميتة. وروى ذلك عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة. وروى أبو قلابة عن ثعلبة الخشني : أنه جاء إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : يا رسول اللّه إن أرضنا أرض صيد فأُرسل سهمي وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم اللّه (فكل)، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل). {وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ} ٥{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} يعني الذبائح {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد (صلى اللّه عليه وسلم) حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمّى أحدهم غير اللّه عند الذبح مثل قول النصارى : باسم المسيح، اختلفوا فيه. فقال ربيعة : سمعت ابن عمر يقول : لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون : باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه فإنه فسق}. والقول الثاني : إنّه يجوّز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمّي غير اللّه فإن هذا مستثنى من قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء. قال الشعبي وعطاء : في النصراني يذبح فيقول : باسم المسيح قالا : يحلّ. فإنّ اللّه عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون. وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، (والمربيات) لكنائسهم وما ذبح لها فقالا : هي حلال، وقرأ هذه الآية. وقال الحسن والحرث العكلي : ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل اللّه لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل اللّه لك (ما في) القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه. قال علي (رضي اللّه عنه) : (لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلاّ مسلم). قوله عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم : عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله : {فمن لم يستطع منكم طولاً} الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان. وقال آخرون : إنما عنى اللّه تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماءً كنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي. وقال الشعبي : إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها. وقال الحسن : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم : هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن. وقال بعضهم : هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس. السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال : من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا تحل لنا، ثم قرأ : {قَاتِلُوا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله {صَاغِرُونَ} . فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه. قال الحكم : فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله : {ولا تنكحوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} يقول : لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال : سأل رجل الحسن : أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال : ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر اللّه المسلمات : فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصاناً غير مسافحة. قال الرجل : وما المسافحة، قال : هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته {ومن يكفربالإيمان فقد حبط عمله} . قال قتادة : ذكر لنا ان رجالاً قالوا لما نزل قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} : كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مقاتل ابن حيّان : نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول : ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن (...) وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة، {وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فى الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} يعني من أهل النّار. وقال ابن عباس : ومن يكفر باللّه قال الحسن بن الفضل : إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل : بالمؤمنين به. قال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي بما أنزل على محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قال الثعلبي رحمه اللّه : وسمعت أبا القاسم الجهني قال : سمعت أبا الهيثم السنجري يقول : الباء صلة كقوله تعالى : {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللّه} {تَنبُتُ بِالدُّهْنِ} والمعنى ومن يكفر بالإيمان أي يجحده فقد حبط عمله. وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع : فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. ٦{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، أمر اللّه تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم : هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ومعنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال : أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال : إن ابن عباس قال : لا وضوء إلاّ من حدث. وقال الفضل بن المبشر : رأيت جابر بن عبد اللّه يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل : أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال : بل رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يصنع. وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس : هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس : هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال : ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن اللّه عز وجل يقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى} ...الآية. قال : ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال : هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط. وروى الأعمش عن عمارة قال : كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. وقال زيد بن أسلم والسّدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وقال بعضهم : أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهراً على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة : كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية {يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة}. عن أبي عفيف الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت : يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال : إنه كان كافياً وضوئي للصلاة كلها مالم أُحدث ولكني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات) ففي ذلك رغبت يا ابن أخي. وقال بعضهم : بل كان هذا أمراً من اللّه عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتماً وامتحاناً أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف. وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت : لعبيد اللّه بن عمر : أخبرني عن وضوء عبد اللّه لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال : حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أُمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأُمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث، وكان عبد اللّه يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ. وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلّى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر (رضي اللّه عنه) : إنك تفعل شيئاً لم تكن تفعله قال : (عمداً فعلته يا عمر). وقال بعضهم : هذا إعلام من اللّه تعالى لرسوله (صلى اللّه عليه وسلم) أن لا وضوء عليه إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال. وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن اللّه عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة. وروى عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد اللّه بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}. وحّد الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولاً، وما بين الأُذنين عرضاً، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن؛ فللشافعي هنا قولان : أحدهما : أنه لا يجب على المتوضىء غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني، واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يُحكم بِحُكم الرأس. وكذلك من الوجه. والثاني : أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر. ومن الحديث قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته. {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين. فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإلى ها هنا بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ} والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء : يجب غسلهما و (إلى) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وقوله {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} وقوله {مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه} . {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس. فقال مالك والمزني : مسح جميع الرأس في الوضوء واجب. وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} وقوله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . وقال أبو حنيفة : مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف : نصف الرأس، الشافعي : يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحاً أجزأه، واحتج بقوله {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما : مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي (اللسان) ماسحاً رأسه. فصار مؤدياً فرض الأمر. والثاني : إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة {فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس {فامسحوا برؤوسكم} فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل : مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه. قال عنترة : شربت بماء الدحرضين فأصبحت زوراء تنفر عن حياض الديلم ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس. {وَأَرْجُلَكُمْ} اختلف القرّاء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبداللّه بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب : (وأرجلكم) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه). وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال : قرأ عليّ الحسن والحسين فقرأا : وأرجلَكم بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال : وأرجلِكم بالنصب، وقال : هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وقراءة عبد اللّه وأصحابه. قال الأعمش : كان أصحاب عبد اللّه يقرؤن : وأرجلكم نصباً فيغسلون. وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها : وأرجلكم بالنصب وقال : عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلَكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث : أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضىء لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني. وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما : إن الأرجل معطوفة على الرؤس على الإتباع بالجواز لفظاً لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} . قال الشاعر : ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً والرمح لا يتقلد إنّما يحمل. وقال لبيد : وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها والنعام لا تطفل وإنما تفرخ. وقال بعضهم : أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار. كقوله : غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال : قبّلَ رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه. وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال اللّه تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} قال كثير من المفسرين : أراد به قلبك فطهر. قال همام بن الحرث : بال جرير بن عبد اللّه فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال : رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يفعله. قال الأعمش : كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال : الوضوء مسحتان وغسلتان. وقول أنس : روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده : إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال : إغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما. فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج، قال اللّه تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل. وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً. وقول عكرمة قال يونس : حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها. وقول قتادة قال : إفترض اللّه غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضىء يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول اللّه عز وجل : {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح. ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد اللّه بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فغسلوا أرجلهم. وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (لا يقبل اللّه صلاة إمرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله). وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال : أمرنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا. وقال ابن أبي ليلى : أجمع أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على وجوب غسل الرجلين. أبو يحيى عن عبد اللّه بن عمرو قال : مرّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) على قوم عراقيبهم تلوح فقال : (أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار). وقال حميد الطويل : رأى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أعمى يتوضأ فقال : (إغسل باطن قدميك) فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل). روى أبو قلابة أن عمر (رضي اللّه عنه) رأى رجلاً يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقالت عائشة رضي اللّه عنها : لإن تقطعا أحبّ إلّي من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين. وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال : هو الناتىء من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال : وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة. ودليلنا قوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذِكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رِجل كعبين ويدل عليه قوله (صلى اللّه عليه وسلم) للمحرم : (فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس (خفّين) وليقطعهما أسفل من الكعبين). فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتىء من ظهر القدم لكان إذا قُطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي (صلى اللّه عليه وسلم) لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه. ويدل عليه ما روي أيضاً عنه (صلى اللّه عليه وسلم) إنه مرّ في سوق مكّة يقول : (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا). وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه. فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل : حتى أُدمي، إذ رميت من ورائه. ويدل عليه ما روي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ اللّه بين قلوبكم)، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله (صلى اللّه عليه وسلم) (ويل للأعقاب والعراقيب من النار) أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين. وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم اللّه وجهه قال : بينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا : يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ من كان نبيّاً مرسلا وملكاً مقرّباً. فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (سلوني تفقهاً ولا تسألوني تعنّتاً) فقالوا : يا محمد أخبرنا لِمَ أمر اللّه بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر اللّه عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر اللّه عنه الخطيئة فافترضهنّ اللّه على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء). قالوا : صدقت، فأسلموا. فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعاً واحداً بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّه} . قال جابر بن عبد اللّه : خرجنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في الحج وذكر الحديث إلى أن قال : فخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى الصفا وقال : (إبدأوا بما بدأ اللّه به) فدّل هذا على شيئين : أحدهما : أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلاّ أن يقوم الدليل. واحتج أيضاً بقوله {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فالركوع قبل السجود، واحتج أيضاً بقوله (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يقبل اللّه صلاة امرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه). و (ثم) في كلام العرب للتعقيب. عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد اللّه بن زيد الأنصاري قال : أتستطيع أن تري كيف كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يتوضأ؟ فقال عبد اللّه : نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. وقال مالك : إن ترك الترتيب في الوضوء عامداً، أعاد وضوءه فإن تركه ناسياً لم يعد، وهو اختيار المزني. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه : الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهياً أو عامداً فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ} ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله {يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما} . ويحرم تقديم أحدهما على الآخر. وأما فضل الوضوء فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الطهور شطر الإيمان). وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال : كنت مع سلمان فأخذ غصناً من شجرة يابسة فحتّه ثم قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (من توضأ فأحسن الوضوء (ثمّ صلى الصلوات الخمس) تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق). وروى زر بن حبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال : قيل : يا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال : (هم غر محجلون من آثار الوضوء). وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول اللّه ما الوضوء حدّثني عنه؟ قال : (ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلاّ جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر اللّه إلاّ جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلاّ جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلاّ جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلاّ جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلّى وحَمِدَ اللّه وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه للّه إلاّ انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أُمه). وعن أنس بن مالك قال : خدمت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال : (يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك اللّه ويزاد في عمرك). وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال : خرج علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ونحن في مسجد المدينة فقال : (لقد رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أُمتي قد بُسِطَ عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك). {فإن كنتم جُنُباً فاطّهروا} فاغتسلوا. روى أبو ذر عن علي (عليه السلام) فقال : أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا : يا محمد لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه اللّه عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيراً وتطهيراً وشكراً لِما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه). قالوا : صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى اللّه له قصراً في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقناً أني ربهما، أُشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف (سنة) ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك). قالوا : صدقت، نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه. وعن أبي محمد الثقفي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال لي النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة). قلت : يا رسول اللّه كيف أبالغ؟ قال : (نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب). وقال عبد الرحمن بن حمزة : خرج علينا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال : (إني رأيت البارحة عجباً، رأيت رجلاً من أُمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة (فأخذ بيده) فأقعده إلى جنبي). {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} أي من الصعيد {مَا يُرِيدُ اللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم} بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم {مِّنْ حَرَجٍ} من ضيق {ولكن يريد أن يطهركم} من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فيما أباح اللّه لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} اللّه عليها. وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد اللّه بن داره مولى عثمان بن عفّان (رضي اللّه عنه) عن عمران مولى عثمان قال : مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال : لو لم أسمعه من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم به. سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلاّ غفر (اللّه) له ما بينه وبين الصلاة الأخرى). قال محمد بن كعب : فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته {إنّا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك} فعلمت أن اللّه لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه. ثم قرأت الآية التي في المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا} حتّى بلغ قوله {يريد اللّه ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم} فعرفت أنّ اللّه لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم. قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنه قال : (الطهور يكفر ما قبله (ثمّ) تصير الصلاة نافلة). ٧{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ} يعني النعم كلها {وَمِيثَاقَهُ} عهده {الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ} عاهدتم به أيها المؤمنون {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وذلك حين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد : من الميثاق الذي أخذ اللّه على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) {وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ} عليم ما في القلوب من خير وشر ٨{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط} أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا} ولا يحملنكم بغض قوم {على أن لا تعدلوا} أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال : {اعْدِلُوا} بين أوليائكم وأعدائكم {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} يعني إلى التقوى {وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه خَبِيرُ} عالم {بِمَا تَعْمَلُونَ} مجازيكم به ٩-١٠{وعد اللّه الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم} تقديرها : وقال لهم مغفرة، لأنّ الوعد قول، فلذلك جمع الكلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . ١١{يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم} بالدفع عنكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل {فكفّ إيديهم عنكم واتقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنين} . نزلت هذه الآية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا : إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، وهي صلاة الخوف. وقال الحسن : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) محاصراً بطن نخلة. فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً، قالوا : فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا : وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وهو متقلد سيفه، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : من يمنعك مني يا محمد؟ قال : اللّه، فتهدّده أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل اللّه هذه الآية. الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد اللّه : أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي (صلى اللّه عليه وسلم) سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسلّه ثمّ أقبل على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : من يمنعك منّي؟ قال : اللّه، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثاً : من يمنعك منّي؟ والنبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : اللّه، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. وقال مجاهد وعبد اللّه بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله : بعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلاّ ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم : عمرو بن أميّة الصيمري، فلم يرعهم إلاّ والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النفر : قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال : اللّه أكبر الحمد للّه ربّ العالمين. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة. إجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا : إنّكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا. فقال عمرو بن جحش بن كعب : أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك اللّه أيديهم وجاء جبرئيل (عليه السلام) وأخبره بذلك فخرج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ دعا علياً فقال : لا تبرح من مكّة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي (عليه السلام) حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. قال الثعلبي : وهذا القول أولى بالصواب لأنّ اللّه تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بنى إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنُهُمُ} الآية، وذلك أنّ اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم اللّه تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة. وقال : يا موسى إني قد كتبتها لكم داراً قراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك إثني عشر نقيباً من كلّ سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أُمروا، به فاختار موسى (عليه السلام) النقباء وهذه أسماؤهم : من سبط روبيل : شامل بن ران، ومن سبط شمعون : شاقاط بن (حوري)، ومن سبط يهودا : كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين : مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بيامين : قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون : مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف : جدي بن قامن، ومن سبط آهر : بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال : نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان : حملائل بن حمل، ومن سبط أشار : سابور بن ملكيا. فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا.بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجباريّن يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع. قال ابن عمر : كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. ويروى له أنه رأى نوحاً يوم الطوفان فقال : إحملني معك في سفينتك، فقال له : أُخرج يا عدو اللّه فإنّي لم أُؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه اللّه على يد موسى، وكان لموسى (عليه السلام) عسكر فرسخاً في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى (عليه السلام) وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلاّ كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله. قالوا : فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل مصر فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال : إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريباً من الأرض. فلمّا بغت بعث اللّه عز وجل عليها أسداً كالفيلة وذئباً كالإبل ونسوراً كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها. قالوا : فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة فانطلق بهم إلى امرأته وقال : أُنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها. وقال : ألا أطحنهم برجلي، فقالت إمرأته : لا بل خلِّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلاّ خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم إرتدّوا عن نبي اللّه ولكن اكتموا وأخبروا موسى (عليه السلام) وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم، ثم إنّهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلاّ رجلان منهم يوشع وكالب، ١٢فذلك قوله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بنى إسرائيل وَبَعَثْنَا مِنُهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا} . وقال اللّه لبني إسرئيل {إِنِّى مَعَكُمْ} ناصركم على عدّوكم. ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل : {لَ نْ أَقَمْتُمُ} يا معشر بني إسرائيل {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ بنى إسرائيل} أي ونصرتموهم ووقرتموهم. وأشعر أبو عبيدة : وكم من ماجد منهم كريم ومن ليث يعزّر في الندي ويروى : وكم من سيّد يُحصى نداه ومن ليثِ. {وَأَقْرَضْتُمُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا} ولم يقل أقراضاً، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} {كَفِّرَنَّ} لأستبرءنّ ولأمحوّنّ {عَنْكُمْ سيئاتكم وَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} أي أخطأ قصد السبيل وهو لكل شيء وسطه، ١٣ومنه قيل للظهر : سواء {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله. قال قتادة : نقضوه من وجوه : كذّبوا الرسل الذين جاؤا بعد موسى فقتلوا أنبياء اللّه ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه. قال سلمان : إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها. {لَعَنَّاهُمْ} قال ابن عباس : عذّبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل : بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} . قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسّية بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش : قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون : قاسية على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية. قال ابن عباس : قاسية يائسة، وقيل : غليظة لا تلين، وقيل : متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل : ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} قرأه العامّة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي : الكلام بالألف {ونسوا حضاً ممّا ذكّروا به} وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وبيان نعمته {وَلا تَزَالُ} يا محمد {تَطَّلِعُ عَلَى خَآنَةٍ مِّنْهُمْ} . وإختلفوا في الخائنة : قال المبرّد : هي مصدر، كالكاذبة، واللاّغية، وقيل : هي إسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل : هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل : راوية وعلامة ونسابة. قال الشاعر : حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغلّ الإصبع ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة. قال ابن عباس : خائنة أي معصية، وقيل : كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت {إلاّ قيلاً منهم} لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، (من) أهل الكتاب {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا منسوخ بآية السيف. ١٤{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} في التوحيد والنبوة {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا} بالعهد {بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة} ألا وهو الخصومات والجدال في الدين. قال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله {بَيْنَهُمُ} . فقال مجاهد وقتادة والسدّي وابن زيد : يعني بين اليهود والنصارى. وقال ابن زيد : كما تغري بين البهائم. وقال الربيع : هم النصارى وحدها، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّه بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من اللّه تعالى ١٥{يا أهل الكتاب لقد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} التوراة والإنجيل مثل صفة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وآية الرجم {وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} ويترك أخذكم بكثير ممّا تخفون {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللّه نُورٌ} يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} بيّن، ١٦وقيل : مبيّن وهو القرآن {يَهْدِى بِهِ اللّه} مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب : يهدي به اللّه بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة، وقرأ الآخرون بكسر الهاء إتباعاً. {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب {سُبُلَ السَّلَامِ} لطرف السلم وهو اللّه تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله {وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان {بِإِذْنِهِ} بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، ١٧{لقد كفر الذين قالوا إنّ اللّه هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من اللّه شيئا} أي من يطيق أن يدفع من أمر اللّه شيئاً فيرده إذا قضاء، وهو من قول القائل : ملكت على فلان أمره إذا ضلّ لا يقدر أن ينفّذ أمراً. الآية {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما} ولم يقل : وما بينهنّ لأنّ المعنى : وما بين هذين النوعين من الأشياء {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} . ١٨{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاؤُا اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} . قال السدّي : قالت اليهود : إنّ اللّه أوحى إلى إسرائيل أن ولداً من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاِ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} ، وأمّا النصارى، فإن فرقة منهم قالت : المسيح ابن اللّه. فأخرجهم الخبر عن الجماعة {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرّون إنّه معذبكم {بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم، ثم قال بالإحسان والإيتاء {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فضلاً {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} عدلاً. وقال السدّي : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ١٩ويميت من يشاء منكم على كفره فعذّبه {وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أعلام الهدى وشرائع الدين {عَلَى فَتْرَةٍ} إنقطاع {مِّنَ الرُّسُلِ} واختلفوا في قدر مدّة تلك الفترة. وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال : الفترة فيما بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) ستمائة سنة. معمّر عن قتادة قال : كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) خمسمائة وستون سنة. قال معمّر وقال الكلبي : خمسمائة وأربعون سنة، الضحّاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة {إن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير فقد جاءكم بشير ونذير واللّه على كل شيء قدير}. حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أربعة (كلّهم) يدلي على اللّه يوم القيامة بحجة وعذر، رجل مات فى الفترة ورجل أدرك (الفترة الأخيرة)، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه، فيبعث اللّه عزّ وجل إليهم ملكاً رسولاً فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم ناراً فيقول : إقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم برداً وسلاماً ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب). ٢٠{وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا} إختلفوا في معنى الملوك. فروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً). وقال ابن عباس ومجاهد والحسن والحكم : من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك. وقال أبو عبد الرحمن : قال : سمعت عبد اللّه بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقداء المهاجرين؟ فقال له عبد اللّه : ألك إمرأة تأوي إليها؟ قال : نعم. قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال : فأنت من الأغنياء، قال : إنّ لي خادماً ومالاً. قال : فأنت من الملوك. وروى أبو عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، ياابن جعشم يكفيك منها ما يسدّ جوعك ويواري عورتك فإن كان بيت يواريك فذاك، وإن كان دابة تركبها فبخ، فلق الخبز وماء البحر وما فوق ذلك حساب عليك). وقال الضحّاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك. وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم وأول من سخّر لهم الخدم من بني آدم. قال السدّي : يعني وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا فأخرجكم اللّه من الذّل {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ} يعني عالمي من غيركم. ٢١وقال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر والغمام {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة} إختلفوا في الأرض المقدسة ما هي. فقال مجاهد : هي الطور وما حوله.وقال الضحّاك : هي إيليا وبيت المقدس الحرام محرم مقداره، السماوات والأرض بيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض. عكرمة والسدّي وابن زيد : هي أريحا. الكلبي : دمشق وفلسطين وبعض الأردن. قتادة : هي الشام كلها. قال زيد بن ثابت : بينما نحن حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال : (طوبى للشام) قيل : يا رسول اللّه ولم ذاك ؟ قال : (إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم). نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد اللّه بن حواله قال : كنّا عند النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (واللّه لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح اللّه أرض فارس والرّوم وأرض حمْير وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة، جنداً بالشام، وجنداً بالعراق وجنداً باليمن). فقال ابن حوالة : يا رسول اللّه أن أدركني ذلك، قال : (إختار لك الشام فإنها صفوة اللّه من بلادكم وإليها (يجتبي) صفوته من عباده، يا أهل الإسلام فعليكم بالشام فإن صفوة اللّه من الأرض الشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليستق من غدره إن اللّه قد تكفّل لي بالشام وأهله). روى الأعمش عن عبد اللّه بن صبّار عن أبيه عن عبد اللّه بن مسعود قال : قسّم الخير عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق. وقسم الشّر عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام. ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ونزل خمس وسبعمائة من أصحاب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فيهم سبعون (صحابياً) {الَّتِى كَتَبَ اللّه لَكُمْ} يعني كتبه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن. وقال ابن إسحاق : ذهب اللّه لكم. السّدي : أمركم به يدعو لها، وقتادة : أمروا بها كما أمروا بالصلاة {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أعقابكم بخلاف اللّه {فَتَنقَلِبُوا} . قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام جبل لبنان فقيل له : أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريّتك من بعدك، قالوا : يعني بني إسرائيل، يا موسى إكتموا أمرهم لا تخبروا به أحداً من أهل العسكر فيفشيانه فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمّه إلاّ رجلين وفيا. فقال لهم موسى : وهما يوشع بن نون بن أفراثيتم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم ابنت عمران وهما من إيليا فعلمت جماعة بني إسرائيل ذلك، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا : يا ويلتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا اللّه لدينهم فيكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لأصحابه : تعالوا نجعل علينا رأساً وننصرف إلى مصر وذلك قوله عز وجل إخباراً عنهم : ٢٢{قالوا : يا موسى إنّ فيها قوماً جبّارين وإنّا لن ندخلها}. وقال قتادة : كانت لهم أجسام وخلق عجيب ليست لغيرهم {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} فلما قالوا ذلك وهمّوا بالإنصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون (عليهم السلام) ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر اللّه عز وجل عنهما في قوله ٢٣{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي يخافون اللّه. قرأ سعيد بن جبير يخافون بضم الياء وقال : كانا من الجبّارين فأسلما واتّبعا موسى {أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا} بالتوفيق والعصمة {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} يعني قرية الجبّارين {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لأنّ اللّه منجز وعده ولا ينساهم فكانت أجسامهم عظيمة قوية، وقلوبهم ضعيفة فلا يخشونهم {وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما ٢٤{قالوا : يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون} . روي أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ عن البيت : إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت.فقال المقداد بن الأسود : أما واللّه لا نقول لك ما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك، ولو تسنّمت جبلاً لعلوناه معك فسر بنا على بركة اللّه، فلما سمع أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بذلك وسرّه. قال ابن مسعود : لأن أكون صاحب هذا المسجد أحبّ إليّ مما عدل بي. فلمّا فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم بينهم ومخالفتهم أمر ربهم وهممتم بيوشع وكالب، ٢٥غضب موسى ودعا عليهم {قَالَ رَبِّ إِنِّى أَمْلِكُ إِلا نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ} أي فأفصل واقضِ. وقرأ عبيد بن عمير : فافرق بخفض الرّاء {بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} العاصين. وكانت عجلة عجلها موسى وظهر الغمام على باب قبة الزمر موضع مناجاته وأوحى اللّه تعالى إلى موسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالآيات لأهلكنّهم جميعاً ولاجعلنّ لك شعباً أشد وأكثر منهم، فقال موسى (عليه السلام) : إلهي لو إنّك قتلت هذا الشعب كلّهم كرجل واحد لقالت الأمم الذين سمعوا : إنمّا قتل هذا الشعب لإنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدسة فقتلهم في البرية، وإنّك طويل صبرك كثير نعمك وإنّك تغفر الذنوب وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم توبتهم، فقال اللّه لموسى : قد غفرت لهم بكلمتك ولكن بعد ما سميّتهم فاسقين ودعوت عليهم لأحرّمن عليهم دخول الأرض المقدسّة غير عبديّ يوشع وكالب ولأتيِّهنَّهم في هذه البرية أربعين سنة فكان كل يوم من الأيام الذي يحتسبوا فيها سنة وليلقين حتفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعلموا الخير والشر فإنهم يدخلون الأرض المقدسة فذلك قوله تعالى ٢٦{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الأرض} يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادّين حتّى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه، وكانوا ستمائة الف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا {إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا} فلمّا هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين. واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح، فقال القوم : إنمّا فتح أريحا موسى (عليه السلام) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى (عليه السلام) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء اللّه أن يقيم فيه ثم قبضه اللّه إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق، وهذا أصح الأقاويل، لإجماع العلماء أن عوج ابن عناق قتله موسى، واللّه أعلم. وقال الآخرون : إنّما قاتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلاّ بعد موت موسى، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا : مات موسى وهارون في التيه. قصة وفاة هارون (عليه السلام) قال السدّي : أوحى اللّه عز وجل إلى موسى : أني متوفي هارون، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت مبني فيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك بجنبه أعجبه وقال : يا موسى إنّي أحب أن أنام على هذا السرير، قال : فنم عليه، فقال : إنّي أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ، قال له موسى : لا، أنا أكفيك رب هذا البيت فنم، قال : يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعاً، فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال : يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون، قالوا : إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له، فقال موسى : ويحكم فإنّ أخي أُمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وقال عمرو بن ميمون : كان وفاة موسى وهارون في التيه، ومات هارون قبل موسى. فكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون ودفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا : ما فعل هارون؟ قال : مات، قالوا : كذبت ولكنك قتلته لمحبّتنا إياه، وكان محبباً في بني إسرائيل. فتضرع موسى إلى ربّه وشكى ما لقي من بني إسرائيل فأوحى اللّه عز وجل إليه أن انطلق بهم إلى قبر هارون حتى تخبرهم أنه مات موتاً ولم تقتله، وانطلق بهم إلى قبر هارون فنادى : يا هارون فخرج من قبره ينفض من رأسه فقال : أنا قتلتك؟ قال : لا واللّه ولكنّي متّ قال : فعد إلى مضجعك، وانصرفوا. وأما وفاة موسى (عليه السلام) فقال ابن إسحاق : كان صفي اللّه موسى قد كره الموت وأعظمة فلما كرهه أراد اللّه أن يحبِّب إليه الموت ويكرِّه إليه الحياة فالتقى يوشع بن نون وكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى : يا نبي اللّه ما أحدث اللّه ؟ فيقول له يوشع : يا نبي اللّه ألم أصحبك كذا وكذا سنة وهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث اللّه إليك حتّى تكون أنت الذي تهتدي به وتذكره ولا تذكر له شيئاً؟ فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحبّ الموت، ثم اختلفوا في صفة موته. فروى همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له : أجب ربك، قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى اللّه تعالى فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال : فرّد اللّه عينه وقال : إرجع إلى عبدي، فقل له : الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بعدد كل شعرة من ذلك سنة قال : ثم ماذا، قال : ثم تموت، قال : فألان من قريب قال : ياربّ أدنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر)، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (واللّه لو إني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور الطريق عند الكثيب الأحمر). قال الثعلبي : سمعت أبا سعيد بن حمدون قال : سمعت أبا حامد المقري قال : سمعت محمد ابن يحيى يقول : قد صحّ هذا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) معنى قصة ملك الموت وموسى لا يردّها إلاّ ضال. وفي حديث آخر : أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّ ملك الموت كان يأتي النّاس عياناً حتّى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فرجع ملك الموت، فجاء بعد ذلك خفية). وقال السّدي : في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (كان موسى (عليه السلام) يمشي وفتاه يوشع إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى. فقال : تقوم الساعة وأنا ملتزم لموسى نبي الللّه فأستلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل.وقالوا : أقتلت نبي اللّه؟ قال : لا واللّه ما قتلته ولكن استلّ منّي، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله، قال : فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام فدعا اللّه عز وجل فأتى كل رجل ممّن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه). وقال وهب : خرج موسى (عليه السلام) لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبراً لم ير شبيهاً قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم : يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر ؟ قالوا : نحفره واللّه لعبد كريم على ربّه، قال : إنّ لهذا العبد من اللّه لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعاً، فقالت الملائكة : يا صفي اللّه أتحب أن يكون لك؟ قال : وددت، قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفّسته قط، فنزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض اللّه روحه ثم سوّت عليه الملائكة. وقيل : إن ملك الموت أتاه فقال له : يا موسى أشربت الخمر؟ قال : لا، فاستكرهه فقبض روحه. وقيل : بل أتاه بتفاحة من الجنّة فشمها فقبض روحه. ويروى أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال : كيف وجدت الموت.قال كشاة تُسلخ وهي حيّة، وكان عمر موسى (عليه السلام) مائة وعشرون سنة، عشرين سنة منها في ملك إفريدون ومائة في ملك منوهر فلما انقضت الأربعون سنة مات. ولما مات موسى بعث اللّه تعالى إليهم يوشع نبياً فأخبرهم إنه نبي اللّه وأن اللّه أمرهم بقتال الجبّارين فصدقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان في السابع نفخ في القرون وضجّ الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبّارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت الغلبة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخل ليلة السبت فخشي أن يعجزوا فقال : اللّهم أردد الشمس عليّ فقال للشمس : إنّك في طاعة اللّه فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من أدعائه دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين ثمّ أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران ورماهم اللّه تعالى بأحجار مبرّد وكان من قبله البرد أكثر مما قبله بنو إسرائيل بالسيف، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار وتتّبع سائر ملوك الشام فاستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرق عمّاله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار. فأوحى اللّه تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت. فدخل بينهم بيده، فقال (صلى اللّه عليه وسلم) هلمّ لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان. معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (غزا نبي من الأنبياء فقال : لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح إمرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى ولا آخر قد بنى بناءاً له ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها.قال : فغزا فدنا للدير حين صلّى العصر أو قريباً من ذلك. فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور، اللّهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح اللّه عليه. قال من علمي أنها لم تُحبس لأحد قبله ولا بعده ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال : إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده.فقال : فيكم الغلول أنتم غللتم، قال : فأخرجوا مثل رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها) قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن اللّه تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا). قالوا : ثم مات يوشع (عليه السلام) ودفن في جبل أفرايم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة. وتدبّر أمر بني إسرائيل بعد وفاة موسى سبعاً وعشرين سنة. ٢٧{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ} خبر {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} وهما هابيل وقابيل، فهابيل في إسمه ثلاث لغات : هابيل وهابل وهابن. وقابيل في إسمه خمس لغات : قابيل وقابين وقابل وقبن وقابن {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} وكان سبب تقرّبهما القربان على ما ذكره أهل العلم بالقرآن. أن حوّاء كانت تلد لآدم (عليه السلام) توأماً في كل بطن غلاماً وجارية إلاّ شيثاً فإنها ولدته مفرداً وكان جميع ما ولدته حوّاء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبدالمغيث مغيت وتوأمته أمة المغيث ثم بارك اللّه في نسل آدم (عليه السلام) . قال ابن عباس : لم يمت آدم (عليه السلام) حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً بنوذ. ورأى آدم (عليه السلام) فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد. واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل، وموضع اختلافهما.فقال بعضهم : غشى آدم حوّاء بعد هبوطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن، ثم هابيل وتوأمته في بطن. وقال محمد بن إسحاق : عن بعض أهل الكتاب، العلم الأول إنّ آدم كان يغشى حوّاء في الجنّة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل وتوأمته فلم يجد عليها وحماً ولا وصباً ولا يجد عليها طلقاً حين ولدتهما ولم تر معهما دماً، لطهر الجنّة فلما هبط إلى الأرض واطمأنا بها تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوصب والوحم والطلق والدم. وكان آدم إذا شبّ أولاده تزوّج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر وتزوج بجارية هذا البطن غلام البطن الآخر وكان الرجل منهم يتزوّج أي أخواته يشاء إلاّ توأمته التي ولدت معه فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلاّ أخواتهم وأمهم حوّاء، فلما ولد قابيل وأقليما، ثم هابيل وتوأمته ليوذا في بطن، وكان بينهما سنتين في قول الكلبي وأدركوا أمر اللّه عز وجل آدم (عليه السلام) أن ينكح قابيل ليوذا أخت هابيل.ونكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل من أحسن الناس. فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال : هي أختي ولدت معي في بطن.وهي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها منه، لأنّها من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض.وأنا أحق بأختي فقال له أبوه : إنها لا تحلّ لك، فأبى أن يقبل ذلك منه وقال إنّ اللّه لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيه.فقال لهما آدم : فقرّبا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها. وقال معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه سلام اللّه عن آدم (عليه السلام) أكان زوّج ابنته من ابنه، فقال : معاذ اللّه واللّه لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وما كان دين آدم إلاّ دين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ اللّه تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتاً وسمّاها ليوذا فبغت وهي أوّل من بغت على وجه الأرض فسلّط اللّه عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل، ثم ولد له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر اللّه جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط اللّه تعالى حوراء إلى آدم (عليه السلام) في صورة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها نزلة، فلما نظر إليها قابيل ومقها، وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوّج نزلة من هابيل، ففعل ذلك، فقال قابيل له : ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه. فقال له آدم : يا بني إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء.فقال : لا ولكنّك آثرته عليّ بهواك. فقال له آدم : إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه. قالوا : وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها.وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع، فخرجا ليقرّبا وكان قابيل صاحب زرع وقرّب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه : ما أبالي أيقبل مني أم لا لأتزوج أختي أبداً، وكان هابيل راعياً صاحب ماشية فقرّب حملاً سميناً من بين غنمه ولبناً وزبداً وأضمر في نفسه الرضا للّه عز وجل. وقال إسماعيل بن رافع : بلغني أنّ هابيل أمنح له غنمه وكان في حملتها حمل فأحبه حتى لم يكن له مال أعظم له منه وكان يحمله على ظهره فلما أمر بالقربان قرّبه، قال : فوضعا قربانيهما على الجبل، ثم دعا آدم (عليه السلام) فنزلت نار من السماء وأكلت الحمل والزبد واللبن، ولم تأكل من قربان قابيل حبّاً، لأنه لم يكن زاكي القلب. وقُبل قربان هابيل لأنه كان زاكي القلب. فما زال يرتع في الجنة حتى فدى به ابن إبراهيم فذلك قوله عز وجل {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اخَرِ} فنزلوا عن الجبل وعرفوا وغضب قابيل لمّا ردّ اللّه قربانه وظهر فيه الحسد والبغي وكان يضمر ذلك من نفسه، إلى أن أتى آدم مكّة ليزور البيت فلمّا أراد أن يأتي مكّة قال للسماء : إحفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال ذلك للأرض فأبت، وللجبال فأبت، فقال : ذلك لقابيل فقبل منه وقال : نعم ترجع وترى ولدك كما يسرّك، فرجع آدم وقد قتل قابيل أخاه وفي ذلك قوله {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} يعني قابيل {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُو} حين حمل أمانة أبيه ثم خانه.قالوا : فلمّا غاب آدم أتى قابيل وهابيل وهو في غزة قال : لأقتلك.قال : ولم ؟ قال : لأن اللّه قبل قربانك، وردّ عليّ قرباني وتنكح أختي الحسناء، وأنكح أختك الدميمة وتحدث الناس إنّك خير منّي وأفضل ويفتخر ولدك على ولدي، ٢٨فقال له هابيل : وما ذنبي {قال إنّما يتقبل اللّه من المتقين لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف اللّه رب العالمين}. قال عبد اللّه بن عمر : أيم اللّه إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده. وقال مجاهد : كتب عليهم في ذلك الوقت، إذا أراد رجل قتل رجل أن يتركه ولا يمتنع منه ٢٩{إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} يعني بإثم قتلي إلى إثمك الذي عملته قبل قتلي، هذا قول عامة المفسرين. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَ ذلك جَزَآؤُا الظَّالِمِينَ} وفي هذا دليل على إنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد ٣٠{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} أي طاوعته وبايعته في {قَتْلَ أَخِيهِ} . وقال مجاهد : شجعت. قتادة : زيّنت. {فَقَتَلَهُ} . قال السدّي : فلما أراد قتل هابيل راغ الغلام في رؤوس الجبال.ثم أتاه يوماً من الأيام (وهو يرعى غنماً له وهو نائم) فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات. وقال ابن جريح : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس وأخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلّمه القتل، فوضع قابيل رأس أخيه بين حجرين. وكان لهابيل يوم قُتِل عشرون سنة فاختلفوا في مصرعه وموضع قتله. قال ابن عباس : على جبل نود، وقال بعضهم : عند عقبة حرّا. حكى محمد بن جرير، وقال جعفر الصادق : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. فلما قتله بالعراء لم يدر ما يصنع به، لأنه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعلقت به الطير والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله. ٣١{فَبَعَثَ اللّه} غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله عليه حتى مكّن له ثم ألقاه في الحفيرة وواراه. وقابيل ينظر إليه فلما رأى ذلك {قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} أي جيفته وفيه دليل على أن الميت كلّه عورة {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} على حمله لا على قتله، وقيل : على موت أخيه لا على ركوب الذنب. يدل عليه ما أخبر الأوزاعي عن المطلب بن عبد اللّه المخزومي قال : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء، فناداه اللّه : أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري، ما كنت عليه رقيباً، فقال اللّه عز وجل : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ فأين دمه إن كنت قتلته؟ ومنع اللّه عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعدها أبداً. مقاتل بن الضحّاك عن ابن عباس قال : لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة أشتال الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه : وأمرّ الماء واغبرّت الأرض. فقال آدم (عليه السلام) : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول، وهو أوّل من قال الشعر : تغيرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه الصبيح وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب على اللّه ورسوله ورمى آدم بالمآثم، إنّ محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) والأنبياء كلهم صلوات اللّه عليهم في النهي عن الشعر سواء، قال اللّه تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ} ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في إبنه هابيل، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض. قال آدم لابنه شيث : وهو أكبر ولده ووصيّه : يا بني إنّك وصيي، إحفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع، فقال إن هذا ليقوّم شعراً فرّد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وما زاد فيه ولا نقص حرفاً من ذلك قال : تغيّرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبرّ قبيح تغير كل ذي طعم ولون وقلّ بشاشة الوجه الصبيح وقابيل أذاق الموت هابي ل فواحزني لقد فقد المليح ومالي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنّه الضريح بقتل ابن النبي بغير جرم قلبي عند قلبه جريح أرى طول الحياة عليّ غمّاً وهل أنا من حياتي مستريح فجاورنا عدوّاً ليس يفنى عدوماً يموت فنستريح دع الشكوى فقد هلكا جميعاً بهالك ليس بالثمن الربيح وما يغني البكاء عن البواكي إذا ما المرء غيّب في الضريح فبكّ النفس منك ودع هواها فلست مخلداً بعد الذبيح فأجابه إبليس في جوف الليل شامتاً : تنحّ عن البلاد وساكنيها فتىً في الخلد ضاق بك الفسيح فكنت بها وزوجك في رخاء وقلبك من أذى الدنيا مريح فما انفكت مكايدي ومكري إلى أن فاتك الخلد الرّبيح فلولا رحمة الجبّار أضحى بكفك من جنان الخلدريح وقال سالم بن أبي الجعد : لما قتل هابيل مكث آدم (عليه السلام) مائة سنة لا أكثر. ثم أتى فقيل : حيّاك اللّه وبياك أي ضحّكك، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثاً وتفسيره : هبة اللّه، يعني إنه خلف من هابيل، وعلّمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة اللّه وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده، وأما قابيل فقيل له : إذهب طريداً شريداً فزعاً مرهوباً لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة اللّه ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت ناراً يكون لك ولعقبك فنصب ناراً وهو أوّل من نصب ناراً وعبدها. قالوا : كان لا يمرّ به أحداً من ولده إلاّ رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى : إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله. فقال ابن الأعمى : قتلت أباك. فرفع يده فلطم إبنه فمات قال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي. قال مجاهد : فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج، قالوا : واتّخذ أولاد قابيل آلات اللّهو من اليراع والطنبور، والمزامير، والعيدان، والطنابر، وانهمكوا في اللّهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوّفهم اللّه عز وجل بالطوفان أيام نوح (عليه السلام) وبقي نسل شيث. قال عبد اللّه بن عمر : إنا لنجد إبن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم. الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن مسروق بن عبد اللّه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تقتل نفس مسلمة ظلماً إلاّ كان على ابن آدم (الأوّل) كفل من دمه، لأنه أوّل من سنّ القتل). مسلم بن عبد اللّه عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال : سئل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن يوم الثلاثاء فقال : (يوم دم) قالوا : وكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال : (فيه حاضت حوّاء وقتل ابن آدم أخوه). وعن يحيى بن زهدم قال : حدّثني أبي عن أبيه عن أنس قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (امتن اللّه عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميماً، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حباً من الدنانير والدراهم. وبالموت بعد الكبر، فإن الرجل ليكبر حتى يمّل نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له). ٣٢{مِنْ أَجْلِ ذلك } يعني من جرّاء ذلك القاتل ووحشيّته، يقال : أجل فلان يأجل أجلاً، مثل أخذ يأخذ أخذاً. قال الشاعر : وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله {كَتَبْنَا عَلَى بنى إسرائيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ} قتله فساداً منه {أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض} يعني قوله إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله الآية {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} . مجاهد : اختلف الناس بينهما فقال ابن عباس : في رواية عكرمة وعطية : من قتل نبياً وإماماً عادلاً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن عمل على عضد نبي أو إمام عادل {فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . مجاهد : من قتل نفساً محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من الناس جميعاً. السدّي : من قتل فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول في الإثم ومن أحياها واستنقذها من هلكة من غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ. الحسن وابن زيد : فكأنما قتل الناس جميعاً يعني إنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي نوى بقلبه لو كان قتل الناس جميعاً ومن أحياها من عفا عمّن وجب له القصاص منه فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعاً. قتادة والضحّاك، عظم اللّه قتلها أو عظم وزرها فمعناها من أستحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما قتل الناس جميعاً لأنهم لا يسلمون منه. ومن أحياها فحرمها وتورع من قتلها فكأنما أحيا الناس جميعاً لسلامتهم منه. وقال سليمان بن علي الربعي : قلت للحسن : يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل، قال : إي و الذي لا إله غيره لإن دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا. {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذلك فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ} . روى محمد بن الفضل عن الزيات بن عمرو عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من سقى مؤمناً ماءً على (ظمأ) فكأنما أعتق سبعين رقبة، ومن سقى في غير موطنها فكأنما أحيا نفساً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). ٣٣{إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ} الآية. قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهجّ. قال : فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام. بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فانهدّوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنزل جبرئيل (عليه السلام) بالقضية فيهم. وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت، والواننا قد اصفرّت فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أُخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها) فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. وارتدّوا عن الإسلام فنودي في الناس : يا خيل اللّه اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارساً فخرجوا في طلبهم فجيء بهم. فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّ حتى ماتوا، ثم اختلفوا في حكم الآيتين. فقال بعضهم : هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز. وقال آخرون : حكمه ثابت إلاّ السمل والمثلة. قال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وتعليماً منه إيّاه عقوبتهم فقال : (إنما جزاؤهم هذا) أي المثلة. ولذلك ما قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خطيباً إلاّ نهى عن المثلة، واختلفوا في المحارب الذي يستحق هذا الحد. فقال بعضهم : واللص الذي يقطع الطريق والمكابر في الأمصار والذي يحمل السلاح على المسلمين ويقصدهم في أي موضع كان حتى كان بالغيلة. وهو الرجل يخدع الرجل والمرأة والصبي فيدخله بيتاً ويخونوا به فيقتله ويأخذ أمواله وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وعبد اللّه بن لهيعة والشافعي. وقال بعضهم : فهو قاطع الطريق، وأما المكابر فليس بالمحارب وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه {ويسعون في الأ رض فسادا} بالفساد أي بالزنا والقتل إهلاك الحرث والنسل {أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا} إختلفوا في حكم الآية. فقال قوم : الإمام فيهم بالخيار فأي شيء من هذه الأشياء شاء فعل. وهو قول الحسن وسعد بن المسيب والنخعي ومجاهد ورواية الوالبي عن ابن عباس. واحتجّوا بقوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وبقوله تعالى في كفّارة اليمين {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} الآية. وقال آخرون : هذا حكم مختلف باختلاف الجناية، فإن قتل قُتل، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، وإن أخاف السبيل ولم يقتل وأخذ المال نفي. وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والسدّي، والنخعي والربيع. ورواية العوفي عن ابن عباس. فاختلف العلماء في معنى النفي، فقال ابن عباس : هو حكم من أعجز فإذا أعجزك أن تدركه وخرج من لقيه، قتله. وقال آخرون : والمقبوض عليه ثم اختلفوا في معناه، فقال طائفة : هو أن ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها وهو قول سعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب الشافعي. وقال الآخرون والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال محمد بن الحسن : هو نفيه من بلده إلى غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نُفي إليه حتى يظهر توبته وهو المختار يدل عليه ما روى ابن وهب عن أبي صيعة عن يزيد بن أبي حبيب، أن حبان بن شريح كتب إلى عمر بن عبد العزيز : إن ناساً من القبط قامت عليهم البيّنة بأنهم حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فساداً وأن اللّه يقول {إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه} إلى قوله {مِّنْ خِلَافٍ} . وسكت عن النفي فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء اللّه فيهم فليكتب بذلك فلمّا قرأ عمر كتابه، قال : لقد إجترأ حبّان، ثم كتب : إنه بلغني كتابك وفهمت ولقد اجترأت حين كتبت بأوّل الآية وسكتّ عن آخرها تريد أن تجترىء للقتل والصلب فإنك عبد بني عقيل يعني الحجاج فإن اللّه يقول {أَوْ يُنفَوْا} آخر الآية، فإن كانت قامت عليهم البيّنة فاعقد في أعناقهم حديداً فأنفهم إلى شعب وبدا وأصل النفي الطرد. وقال أوس بن حجر : ينفون عن طرق الكرام كما ينفى المطارق ما يلي القردا أي ما يليه القرد وهو الصوف الرديء. ومنه قيل : الدراهم الرديئة نفاية ولما تطاير من الماء عن الدلو نفي. قال الراجز : كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي { ذلك } الذي ذكرتم من الحد لهم {خِزْىٌ} عذاب وهوان {فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} ٣٤ثم قال {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} . قال أكثر العلماء : إلاّ الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها اللّه في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة، هذا حكم المشركين والمحاربين. فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم. فقال بعضهم : سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حدّ اللّه ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي. وقال بعضهم : يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الاّ أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه وليّ دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام، على هذا قول مالك، والأوازعي والليث بن سعد. وقال بعضهم : إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل اللّه توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال. وهذا قول السدّي يدل عليه. وروى الشعبي أنّ حارثة بن يزيد خرج محارباً في عهد علي ابن أبي طالب (رضي اللّه عنه) فأخاف السبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبّله وضمّه إليه فلمّا صلّى علي (رضي اللّه عنه) الغداة أتاه سعيد بن قيس. فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال : ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول : كما قال اللّه عز وجل {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية. فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر، قال : نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أماناً منشوراً. فقال حارثة : ألا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدوٌ يعيبها لعمر أبيها إن همدان تتقي الا له ويقضي بالكتاب خطيبها قال الشعبي : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفّان (رضي اللّه عنه) بعد ما صلّى المكتوبة فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر عليّ، فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلاّ بخير فإن يك صادقاً فسبيله سبيل من صدق. وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه اللّه بذنوبه فقتله. وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمّة والعامّة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائباً وذلك أنّه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية {قل يا عبادي الذين أسرفوا} الآية فوقف عليه، فقال : يا عبد اللّه أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فصلّى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه، فقال : لا سبيل لكم عليّ جئت تائباً من قبل أن تقدروا عليَّ. فقال أبو هريرة : صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال : هذا عليّ جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه فترك، وخرج عليّ تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعاً. ٣٥{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} واطلبوا إليه القربة وهي (في الأصل ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به، يقال : وسل إليه وسيلة وتوسّل)، وجمعها وسائل. قال الشاعر : إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل قال عطاء : الوسيلة أفضل درجات الجنة. وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الوسيلة أفضل درجات الجنة). وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سلوا اللّه لي الوسيلة فإنها أفضل درجة في الجنة لا ينالها إلاّ عبد واحد وأرجوا أن أكون أنا هو). وروى سعيد بن طريف عن الأصمعي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : (في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد فالبيضاء واسمها الوسيلة لمحمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأهل بيته والصفراء لإبراهيم (عليه السلام) وأهل بيته). ٣٦{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} روى أنس عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبٌ تفتدى به فيقول : نعم، فيقال : قد سألت أيسر من ذلك). ٣٧{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} قرأه العامة بفتح الياء كقوله {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} قائم. وقرأ أبو واقدة، والجرّاح يخرجوا بضمّ الياء كقوله {ربنا أخرجنا منها وما هم بمخرجين} ٣٨{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية. نزلت في طعمة بن الأبرق سارق الدرع وقد مرّت قصته في سورة النساء. والسبب في وجه رفعهما. فقال بعضهم : هو رفع بالإبتداء، وخبره فيما بعد. وقال بعضهم : هو على معنى الجزاء، تقديره من سرق فاقطعوا أيديهما الآية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. ولو أراد سارقاً وزانياً بعينهما لكان وجه الكلام النصب. وقال الأخفش : هو الرفع على الخبر وابتداء مضمر كأنه قال : مما يقص عليك ويوحى إليك والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما. وقال أبو عبيدة : هو رفع على لغة (....) من رفع (....) فيقول : الصيد (غارمه)، والهلال فانظر إليه، يعني أمكنك الصيد غارمه، وطلع الهلال فانظر إليه. وقرأ عيسى بن عمرو : والسارق والسارقة منصوبين على إضمار إقطعوا السارق والسارقة. ودليل الرفع قراءة عبد اللّه، والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ومستثناً في هذا السارق الذي عناه اللّه عز وجل بقطع يده وفي القدر الذي يقطع به يد السارق. فقال قوم : يقطع إذا سرق عشر دراهم فصاعداً، ولا يقطع فيما دون ذلك. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه واحتجوا بما روى عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن قال : يقطع السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ديناراً أو عشرة دراهم. وروى أيّوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عشرة دراهم. وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : أدنى قيمة عن المجن هو ثمن المجن عشرة دراهم. قال سليمان بن يسار : لا يقطع الخمس إلاّ بالخمس. واستدل بما روى سفيان عن عبد اللّه أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قطع في قيمة خمسة دراهم. وروى سفيان عن عيسى عن الشعبي عن عبداللّه أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قطع في خمسة دراهم. وروى شعبة عن داود بن (فراهج) قال : سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري قالا : تقطع الكف في أربعة دراهم فصاعداً، ولا تقطع في ثلاثة دراهم فصاعداً. واحتج بما روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قطع سارقاً في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فقال : بعضهم يقطع في ربع دينار فصاعداً، وهو قول الأوزاعي، والشافعي وإسحاق الحنظلي وأبو ثور. واحتجوابما روى سفيان عن الزهري عن حمزة عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يقطع في ربع دينار فصاعداً). وروى أبو بكر بن محمد عن عمر عن عائشة قالت : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً). وقال بعضهم : يقطع سارق القليل والكثير، ولو سرق دانق، وهو قول ابن عباس، قال : لأن الآية عامّة ليس خاصّة. وقول الزبير : يروى أنه يقطع في درهم وحجّة هذا المذهب ما روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لعن اللّه السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده). وروى ثوبان أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أُتي بسارق سرق شملة قال : أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ قال : نعم. قال : إذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال : (ويحك تُب إلى اللّه). فقال : اللّهم تُب عليه، ثم اختلفوا في كيفيّة القطع : فقال عمرو بن دينار : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقطع اليد من الكوع وكان يقطع من المفصل وكان علي يقطع الكف من الأصابع والرجل من شطر القدم. فإذا قطع ثم عاد إلى السرقة فهل يقطع أم لا؟ قال أهل الكوفة : لا تقطع واحتجّوا بحديث عبد خير، قال : أتى علي سارق فقطع يده ثم أتى وقطع رجله ثم أتى فضربه وحبسه وقال : إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها. وقال أهل الحجاز : يقطع، وكان قد إحتجوا في ذلك بقوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} على الإجماع. ويروي حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحرث بن حاطب أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أُتي بلصّ فقال : (أُقتلوه) فقال : يا رسول اللّه إنما سرق، قال : (أُقتلوه) قالوا : يا رسول اللّه إنما سرق، قال : (إقطعوا يده). قال : ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضاً الخامسة فقال أبو بكر : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعوه إلى قبيلة من قريش ليقتلوه في عهد عبد اللّه بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال : أمّروني عليكم فأمّروا عليه فكان إذا ضرب ضربوا حتى قتلوه، ثم إذا قطع السارق فهل يغرم السرقة أم لا؟ فقال سفيان وأهل الكوفة : إذا قطع السارق فلا يغرم عليه إلاّ أن يعيد المسروق فيعيدها إلى صاحبها. وروى المسوّر بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا يغرم صاحب السرقة إذا أُقيم عليه الحد) قيل : هذا حديث مرسل أنس بن ثابت، وقال الزهري ومالك : إذا كان السارق موسراً غُرّم. وقال الشافعي : ثم يغرّم قيمة السرقة معسراً كان أو موسراً. {جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا} .نصب جزاء على الحال والقطع قاله الكسائي. وقال قطرب : على المصدر ومثله {نَكَا} أي عقوبة {مِّنَ اللّه وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ٣٩عن جعفر بن محمد قال : سمعت أبي يقول : ما سرق سارق سرقة إلاّ نقص من رزقه المكتوب له {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي سرقته، نظيره في سورة يوسف {كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} أي السارقين {وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّه يَتُوبُ عَلَيْهِ} هذا ما بينه وبين اللّه تعالى فأما القطع فواجب. يدل عليه ما روى يحيى بن عبداللّه عن أبي عبدالرحمن الحنبلي عن عبد اللّه بن عمرو : إنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فجاء بها الذين سرقتهم.فقالوا : يا رسول اللّه إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها : فنحن نفديها بخمس مائة دينار، فقال رسول اللّه : (إقطعوا يدها) فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة؟. قال : (نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك). فأنزل اللّه في سورة المائدة {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} الآية. معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كانت إمرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلمته وكلم أسامة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فيها فقال له النبي : (يا أسامة لا أزال تكلمني في حدّ من حدود اللّه) ثم قام النبي (صلى اللّه عليه وسلم) خطيباً فقال : (إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيه الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطّعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). قال : فقطع يد المخزومية، وكان الشعبي وعطاء يقولان : إذا ردّ السرقة قبل أن يقدر عليه لم يقطع لقوله {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} الآية ٤٠{ألم تعلم أن اللّه له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء}. قال السدّي والكلبي : يعذب من يشاء منهم من مات على كفره ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره. وقال الضحّاك : يعذب من يشاء على الصغير إذا قام عليه ويغفر لمن يشاء على الكبير إذا نزع عنه {وَاللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} . ٤١{يا أيّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا اللّه {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون نظيره، قوله {لمّا يدخل الإيمان في قلوبكم} {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يعني قوّالين به يعني بني قريضة {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ} يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وإسم المرأة بسرة وكانت خيبر حرباً لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وكان الزانيان محصنين، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا : إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه، فليسألوه، فبعثوا رهطاً منهم مستخفين. فقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير. فقال لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة والنضير : إذاً واللّه يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم إنطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (وهل ترضون قضائي في ذلك؟). قالوا : نعم، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل : إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ووصفه له، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له إبن صوريا) قال : فأي رجل فيكم؟ قالوا : هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه تعالى على موسى في التوراة، قال : أرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد اللّه بن صوريا، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أنت إبن صوريا؟) قال : نعم، قال : (فأنت أعلم اليهود؟)، قال : كذلك يزعمون، قال : (أتجعلونه بيني وبينكم؟) قالوا : نعم قد رضينا به إذ رضيت به، فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فإني أنشدك باللّه الذي لا إله إلاّ هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المنّ والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن). قال إبن صوريا : نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد؟ قال : (إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم).قال إبن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر اللّه)؟ قال : كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا إبن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقال : واللّه لا ترجمون حتى يرجم فلاناً إبن عم الملك. فقال : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم.قال اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل، ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال لهم : نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به، فأمر بهما النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فرجما عند باب مسجده، وقال : (أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه). قال عبد اللّه بن عمر : شهدت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لما أمر برجم (اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة) ونزلت {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : أنشدك باللّه وأُعيذك باللّه أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عنه فقال له ابن صوريا : أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ، قال : ما هي؟ قال : أخبرني عن نومك، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (تنام عيناي وقلبي يقظان) قال له : صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء، قال : (أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له) قال له : صدقت، فأخبرني ماللرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال : فأغمي على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) طويلاً ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل) قال له : صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال : يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال : جبرئيل. قال : صفه لي، فوصفه له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول اللّه حقّاً فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا : يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيل إمرأة. يفدوا بها الرجل، وبالرجل منهم الرجلين منّا، وبالعبد منهم الحرّ منّا، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم، فأنزل اللّه تعالى في الرجم والقصاص {يا أيّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالواآمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمّاعون} رفع الخبر بحرف الصفة يعني ومن الذين هادوا فهم سمّاعون، وإن شئت جعلته خبر إبتداء مضمر أي فهم سمّاعون للكذب، وقيل : اللام بمعنى إلى. كان أبو حاتم يقول : اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك. واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين {لَمْ يَأْتُوكَ} وهم أهل خيبر {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} جمع الكلمة {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي من بعد وضعه مواضعه كقوله {ولكن البرّ من اتقى اللّه} . وإنما ذكر الكتابة ردّاً إلى اللفظ وهو الكلم.وقرأ علي : يحرّفون الكلام من بعد مواضعه {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللّه فِتْنَتَهُ} كفره وضلالته. قال مجاهد : دليله قوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية. وقال الضحّاك : هلاكه، قتادة : عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّه شيئا أُولَاكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّه أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي بالهداية على القدرة {لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل، ولليهود الجزية والقتل والسبي، (...........) عن محمد (عليه السلام) وأصحابه وفيهم ما يكرهون {وَلَهُمْ فى الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} الخلود في النار. ٤٢{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فيه أربع لغات : السُحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة، واختار الكسائي : سَحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف. والسَحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به) وأصله ما أشدّ أشدّه، وقال اللّه تعالى {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} . قال الفرزدق : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلاّ مسحتاً أو مجلف قال : من تخلّف إذا استأصل الشجر سحت. وقال الفرّاء : أصله كلب الجوع، فيقال : رجل سحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يُلقى أبداً إلاّ جائعاً، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. ونزلت هذه الآية في حكام اليهود، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم. وروى أبو عقيل عن الحسن : في قوله : {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قال : تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة. وعنه في غير هذه الرواية. قال : كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها (بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه) ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب، وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقّاً فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئاً ليدرأ به عن نفسه فلا بأس. والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن. ومقاتل وقتادة والضحّاك والسدّي. وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء. قال مسلم بن صبيح : صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضباً شديداً، وقال : لو علمت إنّك تفعل هذا ما كلّمت في حاجتك، ولا أكلم لما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول : من يشفع شفاعة ليرد بها حقّاً أو ليدفع بها ظلماً فأهدي له فقيل فهو سحت، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنّا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم، قال : الأخذ على الحكم كفر. قال اللّه عز وجل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّه فَأُولَاكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم إنعزل في الوقت وإن لم يُعزل. وقال عمر وعلي وابن عباس رضي اللّه عنهم : السحت خمسة عشر : الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقايدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة. وعن جعفر بن كيسان قال : سمعت الحسن يقول : إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لعنة اللّه على الراشي والمرتشي). قال الأخفش : السحت كل كسب لا يحل. ثم قال {فإن جاؤك} يا محمد {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . خير اللّه سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك. واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم، مثل ما جعل اللّه لنبيه (صلى اللّه عليه وسلم) أم هو منسوخ ؟ فقال أكثر العلماء : هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة، فإن شاؤا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام. هو قوله : {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} هو جريان حكمنا عليهم. وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة. وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّه} وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي. وروى ذلك ابن عباس قال : لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى {يا أيّها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللّه} نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} وقوله {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نسختها {أن احكم بينهم بما أنزل اللّه} . فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلاّ إنهم لا يرون الرجم وقالوا : لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من ذلك ما كتموه. وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم. وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلاّ أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلماً مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} أي بالعدل {إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} العاملين. ٤٣-٤٤{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكماً ويرضون بمحمد {وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّه} وهو الرجم فلا يرضون بذلك. {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } إلى قوله {لِلَّذِينَ هَادُوا} فإن قيل : وهل فينا غير مسلم؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللّه} {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى} لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته. وقيل : لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر. وإنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء، يعرّض بأهل الكتاب. وهذا كقوله {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض} . وقال يزيد بن عمرو بن نفيل : أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذباً زلالاً. وقيل : معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه. كما روي إن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان يقول إذا أوى إلى فراشه : (أسلمت نفسي إليك). وقيل : معناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى (عليه السلام) وهو قوله تعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام. وقال الحسن والسدّي أراد محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} وقال : أم تحسدون الناس في الحياة {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَاحْبَارُ} يعني العلماء وهم ولد هارون (عليه السلام) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر. قال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم. فقال الكسائي وأبو عبيدة : هو من الحبر الذي يكتب به. وقال النضر بن شميل : سألت الخليل عنه، فقال : هو من الحبار وهو الأثر الحسن. فأنشد : لا تملأ الدلو وعرق فيها ألا ترى حبّار من يسقيها قال قطرب : هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره) (أي جماله وبهاؤه). وقال العباس لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يا ابن أخ فيم الجمال؟ قال : (في اللسان). وقال مصعب بن الزبير لإبنه : يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالاً وإن لم يكن عندك علم كان لك مالاً، {بما استحفضوا} استودعوا من كتاب اللّه {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} إنه كذلك {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} إلى قوله {الْكَافِرُونَ} واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها. فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين. يدلّ على صحة هذا التأويل. ما روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البرّاء بن عازب عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّه فَأُولَاكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والظالمون والفاسقون. قال : كلها في الكافرين. وقال النخعي والحسن : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىً لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة. عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر، وليس كمن يكفر باللّه واليوم (الآخر). عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. عكرمة : معناه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحداً به فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي، قال : سمعت أبا زكريا العنبري، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات، قال : إنها تقع على جميع ما أنزل اللّه لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اللّه فهو كافر ظالم فاسق. فأما من يحكم ببعض ما أنزل اللّه من التوحيد (وترك) الشرك ثم لم يحكم بهما (فبين) ما أنزل اللّه من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات. قالت الحكماء : هذا إذا ردّ بنص حكم اللّه عياناً عمداً، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا، وأجراها بعضهم على الظاهر. وقال ابن مسعود، والسدّي : من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم اللّه فهو كافر ٤٥{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي وأوحينا في بني إسرائيل في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يعني النفس القاتلة بالنفس المقتولة (ظلماً) {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} بقلعهما {وَانْفَ بِانْفِ} يجدع به {وَاذُنَ بِاذُنِ} يقطع به أذنيه. نافع : في جميع الفقهاء (وقرأ) الباقون {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} يقلع به وسائر الجوارح قياس على العين والأنف والأذن {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأما ما كان من هيضة لحم أو هيضة عظم ويعده ركن لا يحيط العلم به وقياس أو حكومة. واختلف الفقهاء في هذه الآية، فقرأ الكسائي : {وَالْعَيْنَ} رفعاً إلى آخره. واختار أبو عبيد لما روى ابن شهاب عن أنس أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قرأه {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} نصباً، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، كله رفع. وأما أبو جعفر وإبن كثير وإبن عامر وأبو عمرو فكانوا يرفعون الجروح وينصبون سائرها.وقتادة، أبو حاتم قالوا : لأن لهما نظائر في القرآن قوله {أَنَّ اللّه بَرِىءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} و{إِنَّ الأرض للّه يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ وَالسَّاعَةُ} . وقرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة ويعقوب (بالعطف) كلها نصباً ودليلهم قوله تعالى : {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وأن العين بالعين وأن الأنف بالأنف وأن الأذن بالأذن فإن الجروح قصاص. {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} إختلفوا في الهاء في قوله (به)، فقال قوم : هي كناية عن المجروح وولي القتيل، ومعناه فمن تصدّق به فهو كفّارة له، للمتصدق يعدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدّق. وهو قول عبد اللّه بن عباس والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد، دليل هذا القول لحجة ما روى الشعبي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من تصدّق عن جسده بشيء كفّر اللّه عنه بقدر ذلك من ذنوبه). وروى وكيع عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي السهر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية، فقال القريشي : إن هذا داق سني. قال معاوية : كلا أما تسترضيه، فلمّا ألحَّ عليه الأنصاري، قال معاوية : شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس. فقال أبو الدرداء : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (ما من مسلم يصاب بشيء عن جسده فيتصدّق به إلاّ رفعه اللّه به درجة وحطّ به عن خطيئة). فقال الأنصاري : أأنت سمعت بهذا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : نعم سمعته أُذناي ووعاه قلبي فعفى عنه. وروى عوف عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال : جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جاء به ولي المقتول، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أتعفو؟ قال : لا، قال : أتأخذ الدية؟ قال : لا، قال : القتل، قال : نعم (قال إذهب فذهب) فدعاه فقال : أتعفو؟ قال : لا، قال : أتأخذ الدية؟ قال : لا، قال : القتل، قال : نعم، قال : إذهب، فلما ذهب قال : أما لك أن عفوت فإنه يبوء بإثمك، وإثم صاحبك. قال : فعفى عنه فأرسله ورأيته وهو يجر شسعيه. وروى عمران عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : طعن رجل رجلاً على عهد معاوية، فأعطوه ديتين على أن يرضى.فلم يرضَ وأعطوه ثلاث ديات فلم يرض. وحدث رجل عن المسلمين عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنه قال : (من تصدّق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق). وعن عمر بن نبهان عن جابر بن عبد اللّه عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من أدى ديناً (خفياً) وعفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرّات قل هو اللّه أحد). قال أبو بكر : وإحداهن يا رسول اللّه؟ قال : وإحداهن. وقال آخرون : عني بذلك الجارح والقاتل، يعني إذا عفا المُجنى عليه عن الجاني فعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني لا يوآخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفّارة له كما إن العافي المتصدق فعلى اللّه تعالى، قال اللّه تعالى {من عفا وأصلح فأجره على اللّه} وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، وروي ذلك عن ابن عباس. والقول الأوّل أجود لأنّه ربما تصدّق من عليه ولم يتب الخارج من فعله فإنه كفّارة له والدليل عليه قراءة أُبي : فمن تصدّق به فهو كفّارة له. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّه فَأُولَاكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . ٤٦{وقفّينا على آثرهم} على آثار النبيين المسلمين للتوراة العالمين به {بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتينه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة للمتقين}. ٤٧{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللّه فِيهِ} قرأه العامة مجزوم اللام والميم على الأمر، وحمزة : بكسر اللام وفتح الميم أي ولكي يحكم أهل الانجيل. مقاتل بن حيّان : أمر اللّه تعالى الأحبار والربانيين أن يحكموا بما في التوراة وأمر القسّيسين والرهبانيين أن يحكموا بما في الإنجيل فكفروا وكذبوا بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه {ومن لم يحكم بم أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون} الخارجون من أمر اللّه، ٤٨وقال ابن زيد : الكاذبون. نظيره قوله {إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي الكتب {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي شاهداً. قاله السدّي والكسائي : وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، قال حسان : إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذووالألباب أي مصدق. وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة : مؤمناً وهي رواية أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس، الحسن : أميناً وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريح : القرآن أمين على ما قبله من الكتب فيما أخبر أهل الكتاب في كتابهم بأمر فإن كان في القرآن فصدّقوا وإلاّ فكذبّوا، المبرد : أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل : أرقت الماء وهرقت، ولمّا ينثر عن الرأس عند الدلك أبرية وهبرية ونهاة وهيهات. وأتاك وهياك فهو مبني آمن أمين كما بيطر ومبيطر من بيطار. قال النابغة : شكّ المبيطر إذ شفا من العضد وقال الضحّاك : ماضياً، عكرمة : دالاً عليه، إبن زيد مصدّقاً، الخليل : رقيباً وحافظاً، يقال : هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه. قلت : سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت المنصور بن محمد بن أحمد بن منصور البستي يقول : سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي يقول : تقول العرب : الطائر إذا جعل يطير حول وَكرهِ وخاف على فرخه صيانة له، هيمن الطائر مهيمن. وكذلك يقول للطائر إذا أرخى جناحيه فألبسهما بيضه وفرخه مهيمن. وكذلك جعل اختباؤه ومنه قيل : اللّه تعالى المهيمن كان معناه الرقيب الرحيم. قال : ورأيت في بعض الكتب إنها بلغة العجمانية فعرّبت، وقرأ عكرمة : هيمن ومهيمن. بقولهم الملوك {فَاحْكُم} يا محمد {بَيْنَهُمُ} بين أهل الكتاب، إذا ترافعوا إليك {بِمَآ أَنزَلَ اللّه} بالقرآن {ولا تتّبع أهوائهم عمّا جاءك من الحق لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}، أي سبيلاً وسنّة وجمع الشرعة الشرع وكل ما شرّعه فيه فهو شرعة وشريعة، ومنه شريعة الماء ومشرعته، ومنه شرائع الإسلام شروع أهلها فيها، ويقال : من شرع شرعاً إذا دخلوا في أمر وساروا به. والمنهاج والمنهج والنهج الطريق البين الواضح. قال الراجز : من يك في شك فهّلا ولج في طريق المهج قال المفسّرون : عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة جعل اللّه لكل أهل ملّة شريعة ومنهاجاً، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، والدين واحد والشرائع مختلفة {وَلَوْ شَآءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} كلّكم ملّة واحدة {وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليخبركم وهو أعلم وقد مضى معنى الإبتلاء {فيما آتاكم} من الكتب وبين لكم من (السنن) فبيّن المطيع من العاصي والمواظب من المخالف {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فبادروا بالطيّبات والأعمال الصالحات ٤٩{إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك}. قال ابن عباس : قال كعب بن لبيد وعبد اللّه بن صوريا وشاس بن قبيص بعضهم لبعض : إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنّا أعيان اليهود وأشرافهم وإنّا إن إتبعناك إتبعنا اليهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي إما عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأنزل اللّه فيهم هذه الآية {فَإِن تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن {فاعلم إنما يريد اللّه أن يصيبهم بعض ذنوبهم} أي فاعلم إن إعراضهم من أجل أن اللّه يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم أي شؤم عصيانهم. ٥٠{وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} يعني اليهود {لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون} قرأ ابن عامر بالتاء، وفي الباقون بالياء. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه حُكْمًا} الآية. ٥١{يا أيّها الذينآمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} إختلفوا في نزول هذه الآية، فإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين. فقال العوفي والزهري : لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أهربوا قبل أن يصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف : أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقتلونا. فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم، قويّة أنفسهم، شديدة شوكتهم كثيراً سلاحهم وإني أبرأ إلى اللّه وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود، ولا مولا لي إلاّ اللّه ورسوله، قال عبد اللّه بن أُبي : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا أبا الحباب ما نفست من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه) قال : قد قبلت فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية. قال السدّي : لما كانت وقعة أحد إشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدل عليهم الكفار. فقال رجل من المسلمين : أما أنا فألحق بدهلك اليهودي وأخذ منه أماناً فإني أخاف أن يدل علينا اليهود. وقال رجل آخر : أما أنا فالحق بفلان النصراني ببعض أهل الشام فأخذ منه أماناً وأنزل اللّه هذه الآية ينهاهما. وقال عكرمة : نزلت في أبي لبانة بن عبد المنذر حين قال للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} في العون والنصرة، ويدهم واحدة على المسلمين. {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} فيوافقهم على دينهم ويعينهم {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يقول ابن سيرين : عن رجل بيع داره من النصارى، ٥٢يتخذونها بيعة فتلا هذه الآية {فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} الآية، يعني عبد اللّه بن أُبي وصحبه من المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود ويصانعونهم ويناصحونهم {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي في موالاتهم {يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} دولة يعني أن يدور الدهر فنحتاج إلى نصرهم أيّانا فنحن نواليهم بذلك. قال الراجز : يرد عنك القدر المقدورا ودائرات الدهر أن تدورا {فَعَسَى اللّه أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ} أي القضاء وقيل : النصر. وقال السدّي : فتح مكّة. {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا} يعني هؤلاء المنافقين {عَلَى مَآ أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} وحينئذ ٥٣{وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا} إختلف القرّاء فيه : فقرأ أهل الكوفة : (ويقول) بالواو والرفع على الإستئناف وقرأ أهل البصرة : (ويقول) نصباً والواو عطفاً على (أن يأتي) وقرأ الباقون : رفع اللام وحذف الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام {أَهَ اؤُءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} الآية ٥٤{يا أيها الذين آمنوا من يرتد} وقرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التخفيف {مِنكُمْ عَن دِينِهِ} فيرجع إلى الكفر وهذا المجاز للقرآن وللمصطفى (صلى اللّه عليه وسلم) إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان عهده وكان على ما أخبره بعد مدّة، وأهل الردّة كانوا أحد عشر قوماً ثلاثة على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في آخر عمره وسبعة على عهد أبي بكر وواحد في عهد عمر. فأما الثلاثة الذين كانوا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فمنهم بنو مذحج ورئيسهم ذو الخمار عيهلة بن كعب القيسي فلقّب بالأسود وكان كاهناً مشعبذاً فتنبّأ باليمن وكان (عليه السلام) ولّى بأذان اليمن بجميع نواحيها وكان أوّل من أسلم من ملوك العجم وأول أمير لبلاد اليمن في الإسلام فمات، وولي رسول اللّه مكانه شهراً فقتل الأسود الكذّاب شهر بن بأذان وتزوج إمرأته لباد واستولى على بلاد اليمن وأخرج عمّال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) منها، وكتب عليه إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسّك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وكتب (عليه السلام) بمثل ذلك إلى حمير من سادات اليمن عامر ابن سهو، وذي رود وذي مران وذي الكلاع وذي ظلم ففعلوا ما أمرهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقاموا بحرب الأسود حتى أهلك اللّه الأسود على يدي فيروز الديلمي، وذلك أنه رماه وقتله على رأسه. قال ابن عمر : أتى الخبر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي. فقال (عليه السلام) : قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك، قيل : ومن هو؟ قال : فيروز : فاز فيروز فبشر أصحابه اليوم بهلاك الأسود وقبض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من أخذ وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد مخرج أسامة وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر، والفرقة الثانية : بنو حنيفة واليمامة، ونبيهم مسيلمة الكذّاب، وكان تنبأ في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في آخر ستة عشر وزعم أنه أشرك مع محمد في النبوة. فكتب إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعث بذلك رجلين من أصحابه الرجال بن شهب والحكم بن الطفيل وكان من سادات أهل اليمامة، فقال لهما رسول اللّه : (أتشهدان أن مسيلمة رسول اللّه؟ قالا : نعم، فقال : (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما). ثم أجاب : (من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب، أما بعد (إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)). ومرض رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وتوفي، وجعل مسيلمة يعلو أمره باليمامة يوماً بعد يوم، فبعث أبو بكر (رضي اللّه عنه) خالد بن الوليد إليه في جيش كثير حتى أهلكه اللّه على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب صعب شديد وكان وحشي : يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وقتلت شر الناس في الإسلام. والفرقة الثالثة : بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتدّ فادعى النبوة في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، وأول من قُتل بعد وفاته (عليه السلام) من أهل الردة، فعسكر واستكشف أمره فبعث إليه أبو بكر الصديق (رضي اللّه عنه) خالد بن الوليد فهزموهم بخالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة ومرّ على امرأته هارباً نحو الشام فلجأ إلى بني جفنة فأجاروه ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فهذه الثلاث الذين ارتدّت على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأما السبعة الذين ارتدّوا بعد وفاة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في خلافة أبي بكر (رضي اللّه عنه)، لما مات رسول اللّه (عليه السلام) شمتت اليهود والنصارى وأظهر النفاق من كان يخفيه وماج الناس وكثر القيل والقال. وارتدت العرب على أعقابها، فارتدت فزار ورأسوا عليهم عيينة بن عين بن بدر، وارتدت غطفان، وأمّروا عليهم قرّة بن سلمة القسري، وارتدت بنو سليم ورأسوا عليهم النجاخ ابن عبد ياليل، وارتدت بنو يربوع ورأسوا عليهم مالك بن نويرة. وارتدت طائفة أخرى من بني تميم ورأسوا إمرأة منهم يقال لها : سجاح بنت المنذر وادّعت النبوّة ثم إنها زوّجت نفسها من مسيلمة الكذّاب. وارتدت كندة ورأسوا على أنفسهم الأشعث بن قيس.وارتدت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين ورأسوا عليهم الحطم بن زيد فلقى اللّه أمر هؤلاء المرتدّين ونصر دينه على يدي أبي بكر (رضي اللّه عنه) وأما الذي كان على عهد عمر (رضي اللّه عنه) رأسهم الغاني وأصحابه، وأخبار أهل الردة مشهورة في التواريخ مسطورة يطول بذكرها الكتاب. {فَسَوْفَ يَأْتِى اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه، مجاهد : هم أهل اليمن، وقال غياض بن غنم الأشعري : لما نزلت هذه الآية أومى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى أبي موسى الأشعري فقال : هم قوم هذا. قال النبي عليه الصلاة والسلام : (أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوباً وأرق أفئدة الإيمان يماني والحكمة يمانية). الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة ألآف من كندة وبجيلة وثلاث آلاف من سائر الناس فجاهدوا في سبيل اللّه بالقادسية. السدّي : هم الأنصار، ويروى أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي فقال : هذا وذووه، ثم قال : (لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله من أبناء فارس). {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني أرقاء رحماء، كقوله {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} وقيل : هو من الذل، من قولهم دابّة ذلول بينة الذل يعني إنهم متواضعون كقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا} {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي أشداء غلظاء من قول العرب عز جانبه عزاً. وقرأ ابن مسعود : أذلة على المؤمنين غلظاً على الكفّار بالنصب على الحال. وقال عطاء : أذلة على المؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده.أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته، ونظير الآية {أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} {يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللّه وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئمٍ} . عبد اللّه بن حمدون نا أحمد بن محمد بن الحسين نا محمد بن يحيى نا أحمد بن شبيب، عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجلون عن الحوض فأقول ربّ أصحابي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم إرتدّوا على أدبارهم القهقرى). ٥٥{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ} الآية. أبو عبد اللّه الحسين عن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان عن شبر بن موسى الأسدي عن إسماعيل بن خليل الكوفي عن سلمة بن رجاء عن سلمة بن سابور قال : سمعت عطية العوفي يقول : قال ابن عباس : أسلم عبد اللّه بن أُبي بن سلول، ثم قال : بيني وبين قريظة والنضير حلف وأنا أخاف الدوائر، فارتد كافراً. وقال عبادة بن الصامت : أبرأ إلى اللّه عز وجل من حلف قريظة والنضير، وأتولى اللّه والرسول والذين آمنوا فأنزل اللّه تعالى. ٥٦{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} إلى قوله : {فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ، يعني عبد اللّه بن أُبي بن سلول إلى قوله : {إنما وليكم اللّه وسوله والذين آمنوا} يعني عبادة بن الصامت، وأصحاب رسول اللّه ثم قال : ولو كانوا يؤمنون باللّه ورسوله وما أُنزل إليه، ما اتخذوه أولياء، وقال بعض المفسّرين : لما أراد رسول اللّه أن يقتل يهود بني قينقاع حين نقضوا العهد، وكانوا حلفاً لعبد اللّه بن أبي سلول وسعد بن عبادة بن الصامت، فأما عبد اللّه بن أُبي فعظم ذلك عليه، وقال : ثلاثمائة دارع وأربعمائة منعوني من الأسود والأحمر أفأدعك تجدهم في غداة واحدة، وأما سعد وعبادة فقالا : إنا برآء إلى اللّه وإلى رسوله من حلفهم وعهدهم فأنزل اللّه هذه الآية. وقال جابر بن عبد اللّه : جاء عبد اللّه بن سلام إلى النبي (عليه السلام) فقال : يا رسول اللّه إن قومنا من قريظة والنضير، قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل وشكى ما يلقى من اليهود من الأذى.فنزلت الآية فقرأها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : رضينا باللّه ورسوله وبالمؤمنين أخوة على هذا التأويل أراد بقوله (راكعون) صلاة التطوع بالليل والنهار. قال ابن عباس، وقال السدي، وعتبة بن حكيم، وثابت بن عبد اللّه : إنما يعني بقوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ} الآية. علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) مرّ به سائل وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه. أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، أبو محمد عبد اللّه بن أحمد الشعراني، أبو علي أحمد بن علي بن زرين، المظفر بن الحسن الأنصاري، السدي بن علي العزاق، يحيى بن عبدالحميد الحماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عبادة بن الربعي، قال : بينا عبد اللّه بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بالعمامة فجعل ابن عباس لا يقول، قال رسول اللّه : إلاّ قال الرجل : قال رسول اللّه؟ فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت؟ قال : فكشف العمامة عن وجهه، وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جُندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بهاتين وإلاّ صمّتا ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا يقول : عليّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول اللّه يوماً من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللّهم اشهد إني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فلما فرغ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال : (اللّهم إن أخي موسى سألك،) فقال : {ربّ إشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري} الآية، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} اللّهم وأنا محمد نبيّك وصفيّك اللّهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أُشدد به ظهري). قال أبو ذر : فواللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند اللّه، فقال : يا محمد إقرأ، فقال : وما أقرأ؟ قال : إقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ} ، إلى {رَاكِعُونَ} . سمعت أبا منصور الجمشادي، سمعت محمد بن عبد اللّه الحافظ، سمعت أبا الحسن علي بن الحسن، سمعت أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي، سمعت محمد بن منصور الطوسي، سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب (عليه السلام). أبو عبد اللّه بن فنجويه، عمر بن الخطاب، إبراهيم بن سهلويه، محمد بن رجاء العباداني. حدّثني عمر بن أبي إبراهيم، حدّثني المبارك بن سعيد وعمار بن محمد عن سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} الآيتان الخبر. عن محمد بن عبد اللّه، أحمد بن محمد بن إسحاق البستي، حامد بن شعيب، شريح بن يونس، هشيم بن عبد الملك قال : سألت أبا جعفر عن قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض {ومن يتولى اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه} يعني أنصاري من اللّه. قال الراجز : وكيف أضوي وبلال حزبي أي ناصري. ٥٧-٥٨{هم الغالبون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً} الآية. قال الكلبي : كان منادي رسول اللّه إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، سجدوا لا سجدوا، على طريق الإستهزاء والضحك، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. قال السدي : نزلت في رجل من النصارى كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول اللّه، قال : أحرق اللّه الكاذب، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطاير منها شرارة في البيت فأحرق البيت وأحرق هو وأهله. وقال الآخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان كذبوا رسول اللّه والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا محمد لقد ابتدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فإن كنت تدّعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياءَ قبلك ولو كان في هذا الأمر خير لكان بادئ ما تركه الناس بعد الأنبياء والرسل قبلك فمن أين لك صياح كصياح البعير فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر، فأنزل اللّه هذه الآية. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللّه وَعَمِلَ صَالِحًا} . فأما بعد الأذان. قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، زياد بن أيوب وأبو بكر بن أبي النضير الأسدي، حجاج بن محمد قال : قال ابن جريح عن نافع عن ابن عمر أبو الحسين قال : أبو العباس السراج، محمد بن سهيل بن عسكر، أبو سعيد الحداد، خالد بن عبد اللّه الواسطي، عن عبد الرحمن بن (يحيى) عن الزهري عن سالم عن أبيه، وحديث عن الحسن بن شقيق، إسماعيل بن عبيد الخزاعي، محمد بن سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد اللّه بن زيد الأنصاري عن أبيه قال : كان المسلمون حيث قدموا المدينة يجتمعون فيجيبون الصلاة وليس ينادي بهن فتكلموا في ذلك فاستشار رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المسلمين فيما يجيبهم الصلاة. فقال بعضهم : يقلب راية فوق رأس المسجد عند الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك، وقيل : بل نؤجج ناراً، وقال بعضهم : بل قرن مثل قرن اليهود فكرهه من أجل اليهود وقيل : الناقوس فكرهه من أجل النصارى ولكن عليه قاموا وأمر بالناقوس حتى يجيب. قال عبد اللّه بن زيد : فرأيت تلك اللية رجلاً في المنام عليه ثوبان أخضران ويحمل ناقوساً فقلت يا عبد اللّه إتبع الناقوس قال : وما تصنع به؟ قلت : ندعو به الناس إلى الصلاة، قال : أفلا أدلّك على ما هو خير منه؟ قلت : بلى، قال : قل : اللّه أكبر، اللّه أكبر إلى آخر الأذان ثم إستأخر غير بعيد، وقال : إذا قامت الصلاة فقل : اللّه أكبر، اللّه أكبر فوصف له الإقامة فرادى، فلما استيقظت أتيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأخبرته بذلك فقال : إنها رؤيا حق إنشاء اللّه فاتلها على بلال فإنه أندى منك صوتاً، قال : فخرجنا إلى المسجد فجعلت ألقيها على بلال وهو يؤذن فسمع عمر في بيته فخرج يجر رداءه فقال : رأيت مثل الذي رأى ففرح النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : ذلك أثبت. وروى أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : أوّل من أذّن في السماء فسمعه عمر ابن الخطاب (رضي اللّه عنه). فأما فصل الأذان، فحدثنا أبو الحسن بن محمد بن القاسم الفارسي، عبد اللّه محمد بن إسحاق بن يحيى، أبو جعفر بن عبد اللّه بن الصياح، أبو عمر الدوري، أبو إبراهيم البرجماني عن سعيد بن سعيد عن نهشل أبي عبد اللّه القرشي عن الضّحاك عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ثلاثة لا يكترثون للحساب ولا يفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الأكبر : حامل القرآن يؤديه إلى اللّه بما فيه يقدم على ربّه سيّداً شريفاً، ومؤذن أذن سبع سنين يأخذ على أذانه طمعاً وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ومؤدي حقّ مولاه). أحمد بن محمد بن جعفر، أبو الحسن علي بن محمد القاضي، علي بن عبد العزيز أبي عمرو ابن عثمان حدثهم أبو ثميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أذّن سبع سنين محتسباً كتب له براءة من النار). أبو الحسن الفارسي، أبو العلاء أحمد بن محمد بن كثير، (.....) بن محمد، محمد ابن سلمة الواسطي، حميد بن سلمة الواسطي، حميد الطوسي، عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أذن سنة من نية صادقة لا يطلب عليه أجر دعي يوم القيامة ووقف على باب الجنة وقيل له : إشفع لمن شئت). أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد التمار، أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن دينار محمد ابن الحجاج بن عيسى، إبراهيم بن رستم، حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن ابن سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أذّن خمس صلوات إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أمّ أصحابه خمس صلوات إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه). أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، الحسن بن محمد بن جشم أبو الموجة، عبدان، عبدالوارث، ومرّة الحنفي، يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنه قال : (إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء فاستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم يردّ دعواه). أبو القاسم طاهر بن المعري، أبو محمد عبد اللّه بن أحمد المقري بالبصرة، عبد اللّه ابن أحمد الجصاص، يزيد بن عمر وأبو البر الغنوي، نائل بن نجيح، محمد بن الفضل عن سالم عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحّط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس فإذا مات لم يدوّد في قبره). أبو محمد بن عبد اللّه بن حامد الصفياني، محمد بن جعفر الطبري قال : حماد بن الحسن، صالح ابن سليمان صاحب القراطيس، عتاب بن عبد الحميد السدوسي عن مطر عن الحسن عن أبي الوقّاص أنه قال : سهام المؤذنين عند اللّه يوم القيامة كسهام المهاجرين. وقال عبد اللّه بن مسعود : لو كنت مؤذناً لما باليت ألاّ أحج ولا أعتمر ولا أجاهد، قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذناً لكمل أمري وما باليت أن لا أنتسب لقيام ليل ولا لصيام نهار.سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (اللّهم إغفر للمؤذنين، اللّهم إغفر للمؤذنين، اللّهم إغفر للمؤذنين). فقلت : يا رسول اللّه لقد تركنا ونحن خيار على الأذان بالسيوف. قال : (كلاّ يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها اللّه على النار لحوم المؤذنين). ٥٩{قل يا أهل الكتاب هل تنقمون} الآية. قال ابن عباس : أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) نفر من اليهود، أبو ياسر بن الخطاب ورافع بن أبي رافع وعازار وزيد بن خالد وأزاريل أبي واشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : (أؤمن باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلى قوله مسلمون)، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته قالوا : واللّه ما نعلم أهل دين أولى حظاً في الدنيا والآخرة ديناً ولا دنيا شرار دينكم.فأنزل اللّه هذه الآية ثم قال : قل يا محمد ٦٠{هَلْ أُنَبِّئُكُم} أخبركم {بِشَرٍّ مِّن ذلك } الذين ذكرت يعني قولهم لم نر أهل دين أولى حظاً في الدنيا والآخرة منكم فذكر الجواب بلفظ الإبتداء وإن لم يكن الإبتداء شراً كقوله تعالى للكفّار {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا} {مَثُوبَةً عِندَ اللّه} ثواباً وجزاءاً وهو نصب على التفسير كقوله أكثر منك مالاً وأعز نفراً وأصلها مثووبة على وزن مفعوله وقد جاءت مصادر على وزن المفعول نحو المفعول والميسور فأسقط عين الفعل استثقالا على الواو ونقلت حركتها إلى فاء الفعل وهي الثاء فصار مثوبة مثل معونة ومغوثة ومقولة {مَن لَّعَنَهُ اللّه} ويجوز أن يكون محل من خفضاً على البدل ومن قوله بشر أو على معنى لمن يلعنه اللّه ويجوز أن يكون رفعاً على إضمار هو. ويجوز أن يكون نصباً على إيقاع أُنبئكم عليه {وغضب اللّه عليه وجعل منهم القردة والخنازير} فالقردة : أصحاب السبت. والخنازير : كفّار أهل مائدة عيسى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إن المسخين كلاهما من أصحاب نقبائهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فيه عشر قراءات، وعبد الطاغوت بفتح الباء والعين والتاء على الفعل وهي قراءة العامة، وجعل منهم من عبد الطاغوت، وتصديقها قراءة إبن مسعود ومن عبد والطاغوت. وقرأ ابن وثاب وحمزة. عَبُدِ الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر الدال آباد العبد وهما لغتان عَبدْ وعَبُد مثل سبْع وسبُع وقرْد وقرُد. وأنشد حمزة في ذلك : كيف الصقيل القرد، بضم الراء ووجه آخر وهو إنه أراد الجمع أي خدم الطاغوت. فجمع العبد عباد ثم جمع العباد عبداً جمع الجمع مثل ثمار وثمر منهم استقبل الضمّتين المتواليتين فعرض من الأولى فتحه ولذلك في قراءة الأعمش وعبد الطاغوت بضم العين والتاء وكسر الدال. قال الشاعر : إنسب العبد إلى آبائه أسود الجلدة من قوم عبد وذكر عن أبي جعفر القاري : إنه قرأ وعبد الطاغوت على الفعل المجهول، وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على الواحد. قرأ أبو بردة الأسلمي : وعابد الطاغوت (باختلاف) على الواحد. وقرأ ابن عباس : وعبيد الطاغوت بالجمع، وقرأ أبو واقد الليثي : وعباد الطاغوت مثل كافر وكفار، وقرأ عون العقيلي وأبان بن ثعلب : وعبد الطاغوت مثل ركع وسجد. وقرأا بن عمير : واعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب {أُولَاكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ} فلما نزلت هذه الآية تنذّر اليهود وقالوا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وأُفحموا، وفيهم يقول الشاعر : فلعنة اللّه على اليهود إن اليهود إخوة القرود ٦١{وإذا جاؤكم قالوا آمنّا} الآية، فهؤلاء المنافقون قاله المفسرّون. وقال ابن زيد : هؤلاء الذين قالوا : {ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} الآية. وهذا التأويل أليق بظاهر التنزيل لأن هذه الآيات نزلت في اليهود ٦٢-٦٣{وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ} يعني من اليهود {يُسَارِعُونَ فِى اثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} إلى قوله {لَوْ يَنْهَ اهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَاحْبَارُ} يعني العلماء وقيل : الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود. وقرأ أبو واقد الليثي، وابن الجراح العقيلي : الربيون كقوله {مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} . {عَن قَوْلِهِمُ اثْمَ} وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ. الحسن بن أحمد بن محمد، وشعيب بن محمد بن شعيب عن إبراهيم بن عبد اللّه بن محمد بن عدي، (الأحمسي)، البخاري عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن جرير عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلاّ وأوشك اللّه أن يعمهم منه بعقاب). أبو عبد اللّه محمد، أحمد بن محمد بن يعقوب، عبد اللّه بن أسامة، أسيل بن زيد الجمال، يحيى بن سلمى بن مهنا عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان فيها نصيب، فأخذ رجل منهم فأساً فجعل يضرب في موضعه فقال أصحابه : أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا؟ فقال : هو مكاني فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرقوا وغرق). وقال مالك بن دينار : أوصى اللّه إلى الملائكة أن عذّبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها : يا رب إن فيهم عبدك العابد. فقال : أسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير غضباً لمحارمي وأوحى اللّه إلى يوشع بن نون : إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم.فقال : يا ربّ فهؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم. ٦٤{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ} . قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك وقتادة : إن اللّه كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه في محمد (عليه السلام) وكذبوا به كفى اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا : يد اللّه مغلولة لم يريدوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل. وقال أهل المعاني : إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم اللّه فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل. قال الشاعر : يداك يدا مجد فكف مفيد وكف إذا ما ضن بالمال ينفق ويقال للبخيل : جعد الأنامل، مقبوض الكف، كز الأصابع، مغلول اليدين، قال اللّه {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية. قال الشاعر : كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعداً أنامله كأنما وجهه يأكل منضوج وقال الحسن : معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلاّ بما (يقرّبه) قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل. وهو سبعة أيّام. وقال مجاهد والسدّي : هو أن اليهود قالوا إن اللّه لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول : يا بني إسرائيل، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك. والقول الأول أولى بالصواب لقوله {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} وقيل : هو استفهام تقديره : أيد اللّه مغلولة عنا؟ حيث قتّر المعيشة علينا قال اللّه {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات. وقال يمان بن رئاب : شدد وثقل عليهم الشرائع، بيانه قوله {وَاغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله {إِذِ اغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ} {وَلُعِنُوا} عذبوا {بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} إختلفوا في معنى يد اللّه سبحانه، فقال قوم : إن له يداً لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى. وقال الآخرون : يده قدرته لقوله {أُوْلِى الأيْدِى وَالأبْصَارِ} . وقيل : هو ملكه كما يقال لمملوك الرجل، هو ملك يمينه. قال اللّه تعالى {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} أي إنه يملك ذلك، وعلى هذين القولين يكون لفظه مشبه ومعناه واحد لقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} أراد به جنة واحدة. قاله الفرّاء : وأنشدني في بعضهم : ومنهم يدين قدمين مرتين قطعة بالألم لا بالسمينين أراد منهما واحداً وسمنة واحدة. قال وأنشد في آخر : يمشي مكبداً ولهزمين قد جعل الأرطا جنتين أراد لهزماً وجنة. وقيل : أراد بذلك نعمتاه. كما يقال : لفلان عندي يداً نعمة، وعلى هذا القول يكون بعضه تشبيه ومعناه جمع كقوله {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه تُحْصُوهَآ} . والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} . {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ} و{إن الإنسان لفي خسر} ونحوها، ويقول العرب : ما أكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، ويضع التشبيه أيضاً موضع الجمع كقوله {أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ} فأراد الجمع. قال امرؤ القيس : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل يدل عليه : وقوفاً بها صحبي على مطيّهم يقول بأنه أخذ الجمع. قال محمد بن مقاتل الرازي : أراد نعمتان مبسوطتان نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة، وهذه تأويلات مدخولة لأن اللّه عز وجل ذكر له خلق آدم بيده على طريق التخصيص والتفضيل لآدم على إبليس، ولو كان تأويل اليد ما ذكروا لما كان لهذا التخصيص والتفضيل لآدم معنى لأن إبليس أيضاً مخلوق بقدرة اللّه وفي ملك اللّه ونعمته. وقال أهل الحق : إنه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، قال الحسن : إن اللّه سبحانه يداه لا توصف، دليل هذا التأويل إن اللّه ذكر اليد مرّة بلفظ اليد فقال عز من قائل {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه} {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} {يَدُ اللّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ} . وقال (عليه السلام) : (يمين اللّه ملأن (لا يعيضن) نفقة فترد به) وقال عز وجل مرّة وقال {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وقال (عز وجل) : {وكلتا يديه يمين} وجمعه مرّة فقال {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَامًا} قوله {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} بإنكارهم ومخالفتهم وتركهم الإيمان {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ} يعني من اليهود والنصارى {كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ} يعني اليهود والنصارى أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فغضب اللّه عز وجل فبعث عليهم بخّت نصّر ثم أفسدوا فبعث اللّه عليهم وطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط اللّه عليهم المجوس ثمّ أفسدوا فسلّط اللّه عليهم المسلمين وكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم اللّه تعالى وكلما جمعوا أمرهم على حرب رسول اللّه وأوقدوا ناراً للحرب {أَطْفَأَهَا اللّه} وقهرهم ونصر نبيه ودينه {وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَادًا} الآية ٦٥{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} الآية ٦٦{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التوراة والإنجيل} يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ} أي القرآن. وقيل : كُتب بني إسرائيل {كَلُوا مِن فَوْقِهِمْ} يعني المطر {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} يعني النبات. وقال الفرّاء : إنما أراد به التوسعة كما يقال : فلان في خير من قرنه إلى قدمه، نظيره {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ} {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} يعني مؤمني أهل الكتاب. ابن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون رجلاً من النصارى وهم النجاشي وبحيرا وسلمان الفارسي وخير مولى قريش وأصحابهم. قال ابن عباس : هم العاملة غير العالية ولا الحافية {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} كعب بن الأشرف وأصحابه، وأهل الروم. {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} . ٦٧{يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} . إختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة وأخترطه ثم أتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وهو نائم، فقال : يا محمد من يمنعك مني؟ فقال : اللّه. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى إنفرد ساعة فأنزل اللّه الآية. وقال أنس : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يحرس، قال : وقالت عائشة : فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت : يا رسول اللّه ما شأنك؟ فقال : (ليت رجل صالح يحرسني الليلة) قالت : فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال : من هذا؟ قال : سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رأسه من قبة أديم وقال : (إنصرفوا أيها الناس فقد عصمني اللّه عز وجل). وروى الحسن مرسلاً إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لمّا بعثني اللّه برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت إن من الناس من يكذبني) وكان عتابه قريشاً واليهود والنصارى فأنزل اللّه الآية، قلت : ولما نزل قوله {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} سكت النبي (عليه السلام) عن عيب الهتهم فأنزل اللّه تعالى {يا أيها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} يعني معايب آلهتهم. وقيل : نزلت فى عيب اليهود وذلك إنه (عليه السلام) دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون : تريد أن نتّخذك عياناً كما اتخذت النصارى عياناً عيسى، فلما رأى النبي (عليه السلام) ذلك سكت فحرضه اللّه على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم. {الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ} الآية. قال الحسين بن الفضل : وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بلّغ ما أنزل إليك وبين قوله لستم على شيء فصل. فلما نزلت الآية قال (عليه السلام) : (لا يأتي من عندي ومن نصرني). وقيل : نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ومرّ في قصة.وقيل : بلغ ما أنزل إليك من أمر نسائك. وذلك أن رسول اللّه لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا فأنزل اللّه، وقيل : بلغ ما أنزل إليك في أمر زينب بنت جحش، وقيل : نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال اللّه {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} الآية وكرهه أيضاً بعض المؤمنين قال اللّه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} الآية، وكان (عليه السلام) يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل اللّه الآية. وقال أبو جعفر محمد بن علي : معناه : بلّغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ (عليه السلام) بيد علي، فقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه). أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد اللّه الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لما نزلنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال : (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم)؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه، قال : (ألست أولى بكل مؤمن من نفسه)؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه، قال : (هذا مولى من أنا مولاه اللّهم والِ من والاه وعاد من عاداه). قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. روى أبو محمد عبداللّه بن محمد القايني نا أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي نا : أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي نا علي بن محمد الدّهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالانا الحسن بن الحكم نا الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله {الرَّسُولُ بَلِّغْ} قال : نزلت في علي (رضي اللّه عنه) أمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يبلغ فيه فأخذ (عليه السلام) بيد علي، وقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه). وبلغ ما أنزل إليك في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال : هل بلّغت؟ {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل : رسالته، على واحدة، وهي قراءة أصحاب عبد اللّه. الباقون جمع. فإن قيل : فأي فائدة في قوله : {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ولا يقال : كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته. الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول : أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه. حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى اللّه إليه واحكم اللّه أن حرّم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ. كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّه وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ} الآية. فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض. وحاشى لرسول اللّه أن يكتم شيئاً مما أوحى اللّه. قالت العلماء : الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن (الأخدش) يحكي عن الحسن ابن الفضل أنّه قال : معنى الآية بلغ ما أنزل إليك في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدّة، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ، وقيل : بلغ مجاهداً محتسباً صابراً غير خائف، وقيل : بلغ ما أنزل إليك من ربك إلى جميع الناس (ولا تخاف). وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه. {وَاللّه يَعْصِمُكَ} يحفظك ويمنعك {مِنَ النَّاسِ} ووجه هذه الآية، وقد شجّ جبينه وكسُرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى، فالجواب أن معناها واللّه يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك، وقيل : نزلت هذه الآية بعد ما شجّ جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. وقيل : معناه واللّه يعصمك يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم. {إِنَّ اللّه لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} عن عبد اللّه الحسين بن محمد (الديلمي)، محمد ابن إسحاق السبتي، أبو عروة، عمرو بن هشام، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أُمامة قال : كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأساً وكان مشركاً وكان يرعى غنماً له ويقال له أقسم فخرج نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من بيت عائشة ذات يوم متوجهاً قِبَل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي اللّه أحد فقام إليه ركانه وقال : يا محمد أنت الذي تشتم الهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولو لا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع الهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمراً هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك عليّ وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال (عليه السلام) : قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة إلهه (اللات والعزى) أن أعنّي اليوم على محمد فأخذه النبي (عليه السلام) فصرعه وجلس على صدره. فقال ركانة : يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك، فقال ركانة : عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها. فقام النبي (عليه السلام) ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرّة فصرعه النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وجلس على كبده، فقال له ركانة : فلست أنت الذي فعلت فيّ هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة : عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني اللّه ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي اللّه الثالثة، فقال له ركانة : لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها. فقال له النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تُسلم تسلم فقال له ركانة : ألا تريني آية، فقال له نبي اللّه (عليه السلام) اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال : نعم، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي اللّه (عليه السلام) ، فقال لها : أقبلي بإذن اللّه فانشقت إثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وبين ركانة فقال له ركانة : أريتني عظيماً، فمرها فلترجع، فقال (عليه السلام) اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال : نعم، فأمرها النبي (عليه السلام) فرجعت بقضبانها وفروعها حتى إلتأمت فلما قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أسلم تسلم، فقال له ركانة : فما لي ألاّ أكون أما أنا فقد رأيت عظيماً، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم فيّ إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلاً ولا نهاراً فلك دونك فاختر غنمك، فقال (عليه السلام) : ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم، فانطلق رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) راجعاً فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قِبَل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي اللّه (عليه السلام) مقبلاً، فقالا : يا نبي اللّه كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيباً لك، فضحك إليهما النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (اليس اللّه يقول : {وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} إنه لم يكن يصل إليّ واللّه معي) وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا : يا رسول اللّه عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط، فقال (عليه السلام) : (إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة). ٦٨{قل يا أهل الكتاب لستم على شيء} من الدين {حَتَّى تُقِيمُوا التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} حيث أمرهم بالقرآن مع قيام الدلالة والحجة عليهم {فَلا تَأْسَ} فلا تحزن ٦٩{على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} كان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفاً على الذين قبل دخول أنّ فلا يحدث معنى كما تقول : زيد قائم، وأن زيداً قائم معناها واحد، وقرأ الحسن إن اللّه وملائكته برفع التاء {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ} الآية. ٧٠-٧١{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بنى إسرائيل} في التوحيد والنبوّة {وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلا} إلى قوله {وحسبوا أن لا تكون فتنة} وظنوا أن لا يكون ابتلاء واختبار. ورفع نونه بعض قرّاء العراق فمن نصب فعلى ترك المبالاة بلا ومن رفع فعلى معنى لا يكون {فَعَمُوا} ، عن الحسن : فلم يبصروه {وَصَمُّوا} عنه فلم يسمعونه وكان ذلك عقوبتهم {ثُمَّ تَابَ اللّه عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} بعد ذلك بخذلانهم أياً منهم في قتال {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} وهم كفار أهل الكتاب ٧٢{واللّه بصير بما يعملون لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم} يعني الملكانية {وقال المسيح يا بني إسرائيل} الآية. ٧٣-٧٤{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} هي النسطورية وذلك إنهم قالوا أباً وإبناً وروحاً قدسياً {وَمَا مِنْ اله إلا إله وَاحِدٌ} إلى قوله {لَيَمَسَّنَّ} لتصيبن {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} خص الكفر لعلمه أن بعضهم (لهم) {عذاب أليم أفلا يتوبون} الآية. ٧٥{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} إلى قوله {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} الآية، تصدق، وقال مقاتل : إنما سميت صديقة لأنها لما أتاها جبرئيل، وهي في منجم وقال لها : إنما أنا رسول ربك صدّقته {كَانَا يَأْكُ نِ الطَّعَامَ} في هذا المعنى هذا عبارة عن الحدث ومن أكل وأحدث لا يستحق أن يكون إلهاً {انظُرْ} يا محمد {كَيْفَ نُبَيِّنُ} إلى قوله {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (يرتدون) عن الحق ٧٦-٧٧{قُلْ أَتَعْبُدُونَ} الآية {قل يا أهل الكتاب} يعني النصارى {تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} لا تجاوزوا الحق إلى غيره {وَلا تَتَّبِعُوا} الآية. ٧٨{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بنى إسرائيل} أي عذبوا بالمسيح فقال {على لسان داود} . يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود : اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} يعني كفّار أصحاب المائدة لمّا لم يؤمنوا، قال عيسى : اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير { ذلك بِمَا عَصَوا} الآية ٧٩{كَانُوا يَتَنَاهَوْنَ} أي لا ينهي بعضهم بعضاً {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} الآية. الحسن بن محمد بن الحسين، موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه، عبد اللّه بن سنان، عبد العزيز بن الخطاب، خالد بن عبد اللّه، العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، الحسن بن محمد، أحمد بن محمد بن إسحاق، أبو علي الموصلي، وهب بن منبه، خالد عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيراً فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى اللّه ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنه على لسان داود وعيسى ابن مريم، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء ولتأطرنه على الحق إطراً أو ليضربن اللّه بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم). ٨٠{تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ} أي من اليهود، كعب بن الأشرف وأصحابه {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} منكر في منكر حين خرجوا إليها يعينون على محمد (عليه السلام) {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّه} عذاب اللّه ٨١{عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبي} محمد {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ} من القرآن {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني من لم يسلم. ٨٢{لَتَجِدَنَّ} يا محمد {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ} يهود أهل المدينة. أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين، أبو جعفر علي بن محمد بن أحمد الصفار الهمداني، أبو علي عبد اللّه بن علي بن الزبير النخعي، إسماعيل بن بهرام الأشجعي، عباد ابن العوّام عن يحيى بن عبد اللّه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ما خلا يهوديان بمسلم إلاّ همّا بقتله). {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} مشركي العرب {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه. قال المفسرون : أئتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب فلما رأى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال : (إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد). فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجاً وأراد به النجاشي وإسمه أصحمة وهو الحبشة عطية فإنما النجاشي إسم الملك كقوله قيصر وكسرى فخرج إليها سراً عشرون رجلاً وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مضعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم اللّه وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران، فلما انصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هجرته إلى المدينة وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول اللّه (عليه السلام) إلى النجاشي على يدي عمرو بن أمية الضمري يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها فمات زوجها وبعث إليه من عنده من المسلمين. فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية لها يقال لها أبرهة فزوجها حطيئة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إياها وأعطتها أوضاحاً لها سروراً بذلك وأمر بها أن يوكل من زوجها فوكلت خالد بن الوليد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه النجاشي فدعا النجاشي بأربعمائة دينار وأخذها إلى أم حبيبة على يدي أبرهة فلما جاءتها بها أعطتها منها خمسين ديناراً فقالت أبرهة : قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً فإن أرد الذي أخذت منك وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمداً رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرأه منّي السلام قالت : نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يراه عليها وعندها فلا ينكره، فقالت : أم حبيب : فخرجنا في سفينتين وبعث النجاشي معنا الملاحين حتى قدمنا الجار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة فوجدنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (لا أدري أنا بفتح خيبر أشد أم بقدوم جعفر) وأنزل اللّه تعالى {عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة} يعني أبا سفيان مودة بتزويج أم حبيبة (فقيل لأبي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ محمّداً قد نكح ابنتك قال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه). وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إبنه أرها بن أصحمة مع ستين رجلاً من الحبشة، وكتب إليه : يا رسول اللّه أشهد أنّك رسول اللّه صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للّه رب العالمين، وقد بعثت إليك أرها وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليكم يا رسول اللّه. فركبوا سفينة مع جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ورأى جعفر وأصحابه رسول اللّه في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم خيرة الحبشة الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام ومريد وأيمن فقرأ عليهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سورة يس إلى آخرها فبكوا. حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : جئتنا بما كان ينزل على عيسى (عليه السلام) فأنزل اللّه تعالى فيهم {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} إلى قوله {النَّصَارَى} يعني وفد النجاشي الذين غرقوا مع جعفر بن أبي طالب وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع. وقال مقاتل والكلبي : كانوا أربعين رجلاً إثنان وثلاثون في الحبشة وثمانية من أهل الشام. عطاء : كانوا ثمانين رجلاً أربعون رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب وإثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميّون من أهل الشام. وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من أهل الحق وكانوا لعيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث اللّه محمداً صدّقوه وآمنوا به فأثنى اللّه عليهم ذلك {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} ، أي علماء. قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم. وقال ورقة : بما خبرتنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا وقال عروة بن الزبير حرّفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غيّر ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس، وبقي قيس على الحق وعلى الإستقامة والإقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. عبد اللّه بن يوسف بن أحمد، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري، عبد اللّه بن محمد، يحيى بن الحمامي، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن (حامية) بن رئاب عن سلمان قال : قرأت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذلك بإن منهم قسيسين ورهباناً فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً والرهبان العبّاد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وأنشد في الواحد : لو كلمت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يسعى فنزل وأنشد في الجمع : رهبان مدين لو رأوك تنزلوا العصم من شعف العقول الغادر وهو من قول القائل : رهب اللّه أي خافه، يرهبه رهبة ورهباً ورهباناً {وَأَنَّهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق ٨٣{وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {تَرَىا أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} . أبو عثمان بن أبي بكر الزعفراني، شيخي، أبو جعفر بن أبي خالد عبدالرحمن بن عمر ابن يزيد، ابن أبي عدي، سعيد عن عمرو بن مرّة قال : قدم على أبي بكر الصديق وفد من اليمن. فقالوا : إقرأ علينا القرآن، فقرأ عليهم القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر : كذا كنا حتى قست القلوب، وكان أبو بكر لا يملك دمعة حين يقرأ القرآن {يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله {لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} ٨٤{وَمَا لَنَا نُؤْمِنُ بِاللّه} إلى قوله {الصَّالِحِينَ} أي في أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله {يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ} ٨٥-٨٦{فَأَثَابَهُمُ اللّه} جازاهم اللّه {بِمَا قَالُوا} إلى قوله {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا} على قولهم بالإخلاص بدليل قوله {وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا...} الآية. ٨٧{يا أيها الذين آمنوا لا تحرمّوا} الآية. قال المفسرون : جلس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوماً فذكّر الناس يوم القيامة ولم يزدهم على التخويف فرقّ الناس وبكوا فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر وعلي، وإبن مسعود، وعبد اللّه بن عمر وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويصوموا الليل ولا يناموا على فرشهم، ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسموح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض فيذهبوا ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأتى دار عثمان بن مظعون، فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكم بنت أبي أمية : أين الحولاء وكانت عطارة : أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت : يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه هو وأصحابه. فقال لهم : (ألم أنبأ إنكم إتفقتم على كذا وكذا)، قالوا : بلى يا رسول اللّه وما أردنا إلاّ الخير، فقال (عليه السلام) : إني لم أؤمر بذلك ثم قال : (إن لأنفسكم عليكم حقاً صوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ومن رغب عن سنتي فليس مني). ثم جمع الناس وخاطبهم ثم قال : (ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء واتخاد الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد إعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم باطلاً بإقدامهم في الديرات والصوامع فأنزل اللّه تعالى هذه الآية). وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال : ضاف عبد اللّه بن رواحة ضيفاً فانقلب ابن رواحة ولم يتعشّ فقال لزوجته : ما عشيتيه ؟ فقالت : كان الطعام قليلاً فانتظرتك، فقال : جستِ ضيفي من أجلي؟ طعامك عليّ حرام فقالت : وهو عليّ حرام إن لم تأكله. وقال الضيف : وهو حرام إن ذقته إن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة، قال : قرّبي طعامك كلوا بسم اللّه وجاء إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأخبره بذلك، فقال (عليه السلام) : أحسنت ونزلت هذه الآية. روى عكرمة عن ابن عباس : إن رجلاً أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، فقال : يا رسول اللّه إني صمت من اللحم فأشريت، وأخذتني شهوة فحرمت اللحم، فأنزل اللّه {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ اللّه لكم} يعني اللذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب، وما أحل اللّه لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة {وَلا تَعْتَدُوا} ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام. ٨٨وقيل : هو جبّ المذاكير وقطع آلة التناسل {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه حَلَا طَيِّبًا} قال عبد اللّه بن المبارك : الحلال ماأخذته من وجهه والطيب ما غذا ونما فأما الجوامد والطين والتراب، وما لا يغذي فمتروك إلاّ على جهة للتداوي {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} . روي عن عائشة وأبي موسى الأشعري أن النبي (عليه السلام) كان يأكل الفالوذج والدجاج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال : (إن المؤمن حلو يحب الحلاوة). وقال : (في بطن المؤمن زاوية لا يملأها إلاّ الحلواء). وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال : يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد : لا آكله فلا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال : يا هذا أتحب لباب البر مع سمن البقر؟ هل يعيبه مسلم. وجاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جار لا يأكل الفالوذ، قال : ولم؟ قال : يقول : لا يروي شكره. قال الحسن : ويشرب الماء البارد؟ قال : نعم، قال : جارك جاهل إن نعمة اللّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. قال ابن عباس : لما نزلت {تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللّه لَكُمْ} الآيتين، قالوا : يا رسول اللّه كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ ٨٩وكانوا حلفوا على ما عليه اتّفقوا فأنزل اللّه تعالى {يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} قرأ أهل الحجاز والبصرة {عَقَّدتُّمُ} مشدداً بمعنى وكّدتم، واختار أبو حاتم فقرأها أهل الكوفة بالتخفيف واختاره أبو عبيدة. (والتشديد التكرير مرّة بعد مرّة، ......) أمن أن يلزم من قرائتك. (الفراء) : أن لا يوجب الكفارة عليه في اليمين الواحدة متى يرددها مراراً وهذا خلاف الإجماع. وقرأ أهل الشام : عاقدتم بالألف، يكون من واحد مثل : جاياك اللّه ونحوها. وقرأ الأعمش بما {عقدت الأيمان} جعل الفعل الإتيان. ومعنى الآية ما قصدتم وتعمدتم وأردتم ونويتم كقوله {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} . {فَكَفَّارَتُهُ} أي كفّارة ما عقدتم من الأيمان إذا حلفتم {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} واختلفوا في قدرها. فقال الشافعي : مدّ وضوء النبي (عليه السلام) والمدّ رطل وثلث، وكذلك في جميع الكفارات، وهو قول ثابت وابن عباس وابن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن واحتجوا بها. أبو بكر الجورقي، أبو العباس بن منصور الفيروز آبادي، أحمد بن حفص حدّثني أبي حدّثني إبراهيم بن طهمان عن منصور بن المعتمر عن الزهري عن حمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : رجل أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إني وقعت على أهلي وذلك في رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، قال : ماأجدها، قال : (فصم شهرين متتابعين) قال : ما أطيقه، قال : (فأطعم ستين مسكيناً)، قال : ما أجد، قال : فأتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بكيل فيه خمسة عشر صاعاً من تمر، قال : (خذ هذا فأطعمه)، قال : والذي بعثك بالحق ما بين )لا بتيها أدلّ شيء هو منها ( فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (خذه في أطعمة أهلك) (.........) وخمسة عشر صاعاً إذا قسم على ستين مسكيناً خص كل مسكين له مد. وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة نصف صاع وإن أطعم من الشعير والتمر والزيت ونحوها فإنه يعطى صاعاً كاملاً لا يجزي أقل من ذلك، وقول عمر بن الخطاب وإبنه والنخعي والشعبي وإبن جبير ومجاهد والحكم والضحّاك واحتجوا بحديث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه أُتي بوسق صاعاً فأعطى رجلاً وجبت عليه كفّارة، وقال : (أعطه لستين مسكيناً). وقال علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ومحمد بن كعب : غداء وعشاء، وعند الشافعي لا يجوز أحد القيم في الزكوات والكفارات، وأجاز أبو حنيفة فاعتبر الشافعي النص. وأبو حنيفة المنفعة والمصلحة، وعند الشافعي لا يجوز أن يعطى أقل من عشرة مساكين وأبو حنيفة إن أعطى مسكيناً في عشرة أيام جاز، وقال الشافعي : لا يجوز أن يعطي الكفارة إلاّ حرّاً مسلماً محتاجاً ولا يجوز أن يعطى العبيد والكفار ولا الأغنياء. فقال أبو حنيفة : إن أعطى الكفارة أهل الذمة جاز فأما الزكاة فلا يجوز أن يعطى أهل الذمة بلا خلاف، ودليل الشافعي قوله {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ} والكافر من أسفه السفهاء قال اللّه {ألا إنهُم ْ هُمُ السُّفَهَآءُ} وحجة أبي حنيفة قوله {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية. (والأسير) لا يكون إلاّ من الكافرين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من خير قوت عيالكم فلو إنه يقتات الحنطة لم يخوله أن يعطى الشعير. وقرأ الصادق : أهاليكم {كِسْوَتُهُمْ} قرأه العامة : بكسر الكاف، وقرأ السلمي نصبه. وهما لغتان مثل إسوة وأسوة، ورِشوة ورَشوة. وقرأ ابن جبير أو كاسوتهم يعني كاسوة أهلك في الطعام والأسوة الميل والتمايل أي يطعمون المساكين كما يطعمون أهليكم، واختلف العلماء في الكسوة التي تجري في الكفارات وقال قوم : هي ثوب واحد مما يقع عليه إسم الكسوة أزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو كساء أو عمامة ونحوها. وهو قول ابن عباس والحكم والحسن ومجاهد وعطاء والباقر وإليه ذهب الشافعي. وقال آخرون : ثوب جامع لا تجزي فيها العمامة، وهو مذهب النخعي وأبي حنيفة وقال (مالك كل) ما يجوز فيه الصلاة. وقال ابن المسيب والضحّاك : لكل مسكين ثوبان، واحتجا بأن أبا موسى الأشعري كان بذمته كفارة فكسا عشرة مساكين لكل واحد ثوبين ظهرانياً ومعقداً من معقد البحرين. وقال شهر بن حوشب : ثوب ثمنه خمسة دراهم {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} . قال الشافعي : لا يجوز في كفارة واجبة إلاّ رقبة مؤمنة، مثل كفارة القتل واليمين والظهار والجماع في نهار رمضان. والسدي (والوصيفة) ووافقه أبو حنيفة في كفارة القتل وأجاز في غيرها الرقبة الكافرة، ودليل الشافعي أن اللّه عز وجل قاله في كفارة القتل {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فقيّد وأطلق في سائرها والمطلق محمول على المقيّد واحتج أيضاً بما روى : إن رجلاً جاء إلى النبي (عليه السلام) فقال : أوجبت يا رسول اللّه، فقال : إعتق رقبة فجاء برقبة أعجمية إلى النبي (عليه السلام)، فقال لها رسول اللّه : من ربك؟ ففهمها اللّه فأشارت إنه واحد، فقال : من أنا؟ فأشارت إلى السماء أي إنك رسول اللّه، فقال (عليه السلام) : (اعتقها فإنها مؤمنة) وأوجبت لفظة مطلقة (يحتمله). وروى أبو سلمة عن الشديد أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة فجاء رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ، وقال : إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة وعندي جارية نوبية سوداء أفأعتقها؟ قال : أدع بها فجيء بها، فقال : من ربك؟ قالت : اللّه، قال : من أنا، قالت : رسول اللّه، قال : أعتقها فإنها مؤمنة، واتبع أبو حنيفة ظاهر الآية. ويجوز في الكفارة من الرقاب الصغير والكبير والذكر والأنثى، وأما إذا كان معيوباً فاعلم أن العيب عيبان عيب يمنعه من العمل. فلا يجوز مثل الأعمى، والأشل والمقعد والمجنون المطبق والأخرس. فإن كان عيباً خفيفاً لا يمنعه من العمل فيجوز مثل الأجدع والمقطوع الخنصر ونحوها وهذا كما يقول في الكسوة. فإن كان الثوب لبيساً قد بلي وانقطع منه جل المنفعة لم يجز وإن لبس خفيفاً لم ينقطع منه جل المنفعة. والمكفّر بالخيار، مخير بين هذه الأشياء لأن اللّه ذكره بلفظ التخيير وهو أو {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} واختلف الفقهاء في صفة من لم يجد متى يجوز له الصيام. فقال أبو حنيفة : إذا كان عندهم (مائتا) درهم وعشرون مثقالاً أو أقل ما يجب فيه الزكاة لم يجز له الصيام، فإن كان أقل من ذلك فهو غير واجد وجاز له الصوم. وقال متأخرو الفقهاء : إذا كان له كفاية من المال يتصرف فيها لمعاشه. فإن فضل عن رأس ماله مقدار ما يكفر منه بالإطعام فليس له أن يصوم وإن لم يفضل عن رأس ماله مقدار ما يطعم فله أن يصوم. وقال الشافعي : إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام. وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام فليس له الصيام وإن لم يفضل له من الكفاية شيء. وهو قول ابن جبير والحسن قالا : إذا كان عنده درهمان وثلاثة فهو واحد وإن لم يجد شيئاً من هذا {فَصِيَامُ} أي فعليه أي فكفارته صيام {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} واختلفوا في كيفية الصيام. فللشافعي فيه قولان، أحدهما : إنها متتابعة وإن فرده لم يجز، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري واختيار المزني قياساً على الصوم في كفارة الظهار واعتباراً بقراءة عبد اللّه وأُبي، فصيام ثلاثة أيام متتابعان وهذا قول ابن عباس وقتادة. والقول الثاني : إنه بالخيار إن شاء تابع وإن يشأ فرق والمتابعة أحسن وأفضل وهو مذهب مالك. { ذلك } الذي ذكرت {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} قسمتم كقوله {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقوله {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} يعني (فأقصر وأحلق) فلا تحلفوا فإذا حلفتم فلا تحزنون { كذلك يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . ٩٠{يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر} وقد مرّ تفسيره، فإن جمعه تحريمها وسنذكر أخباراً في الوعيد الوارد في شربها واتخاذها وبيعها وباللّه التوفيق. عن الشيخ أبو عمرو أحمد بن أبي الفراني، الحاكم أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد اللّه المروزي حدثني عبد اللّه بن يحيى حدثني الحسين بن المبارك حدثني عتبة بن الوليد عن عبد اللّه ابن حبيب عن الزهري عن ابن المسيب عن عثمان بن عفان قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه لا يجمع الخمر والإيمان في إمرىء أبداً). أحمد بن أبي، عمران بن موسى، ومارود بن بطن، عثمان بن أبي شيبة، محمد بن أبي سلمى الأصفهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مدمن الخمر كعابد الوثن). أحمد بن أُبي، محمد بن يعقوب، الربيع بن سليمان، الشافعي مالك عن نافع عن إبن عمر إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة). أحمد بن أُبي، أبو عبد اللّه بن محمد بن موسى الرازي، الحرث بن أبي أسامة البغدادي، داود ابن المحسن الواسطي، ميسر بن عبد ربه عن أبي عائشة السعدي عن يزيد بن عمر بن عبد العزيز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس جميعاً قالا : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من شرب الخمر في الدنيا سقاه اللّه من سم الأساود وسم العقارب، من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها (تفسخ لحمه) ينادي به أهل الجمع ثم يؤمر به إلى النار إلا وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وكل فيها سواء في إثمها وحاد بها، ولا يقبل اللّه منه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة حتى يتوب فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقاً على اللّه يعاقبه فيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم ألا وكل مسكر خمر وكل خمر حرام). أحمد بن أُبي، أبو العباس الأصم، أحمد بن إسحاق الصنعاني، أبو نعيم، عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد اللّه الغافقي من أهل مصر عن ابن عمر أنه قال : أشهد أني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو يقول : (لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها). أحمد بن أُبي، أبو العباس الأصم، محمد بن إسحاق بن جعفر الصنعاني، نعيم بن ماد، عبد العزيز بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر ولا يموتن أحدكم وعليه دين فإنه ليس هناك دينار ولا درهم وإنما يقتسمون هناك الحسنات والسيئات واحد بيمينه وواحد بشماله). أبو بكر أحمد بن محمد القطان، محمد بن الحسين بن محمد الدهقان، عثمان بن سعيد الدارمي، الربيع بن الروح أبو توبة الحلبي، محمد بن الحرمي عن حكم بن عيينة عن محمد بن (المنكدر) عن علي ابن أبي طالب (رضي اللّه عنه) قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من شرب الخمر بعد أن حرمها اللّه على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن أئتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على اللّه عز وجل أن لا يخلف عليه). أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو العباس عبد اللّه بن محمد الجبّائي، أنشدنا رضوان ابن أحمد الصيدلاني شعراً : تركت النبيذ لأهل النبيذ وصرت حليفاً لما عابه شراباً يدنس عرض الفتى ويفتح للشر أبوابه {وَالْمَيْسِرُ وَانصَابُ} أي الأوثان، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها، واحدها : نصب بفتح النون وجزم الصاد، ونصب منهم النون مثقلاً ومخففاً {وَازْلَامُ} يعني القداح التي كانوا يقتسمون بها {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} تزينه {فَاجْتَنِبُوهُ} رد الكناية إلى الرجس ٩١{لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع} يلقي {بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} كما فعل الأنصاري الذي (شج) سعد بن أبي وقاص (بلحي) الجمل {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّه وَعَنِ الصلاةِ} كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} أي إنتهوا لفظه إستفهام ومعناه أمر كقوله {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} ٩٢{وَأَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} المحارم والملاهي {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} . عن ذلك {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} فإما التوفيق والخذلان، والثواب والعقاب فإلى اللّه سبحانه، فلما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة : يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فأنزل اللّه ٩٣{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} شربوا الخمر نظيره قوله {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّى} وفيما أكلوا من الميسر ذلك ذكر المنعم لأنه لفظ جامع {إِذَا مَا اتَّقَوا} الشهوات {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا} الخمر والميسر بعد تحريمهما {ثُمَّ اتَّقَوا} حرم اللّه عليهم كله {وَّأَحْسَنُوا وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . الحسين بن محمد بن فنجويه، عمر بن الخطاب، محمد بن إسحاق الممسوحي، أبو بكر ابن أبي شيبة، محمد بن بكر عن سعد بن عوف عن محمد بن حاطب قال : ذكر عثمان قال الحسن بن علي : هذا أمير المؤمنين يأتيكم خبركم فجاء علي فقال : إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللّه يحب المحسنين ٩٤{يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم اللّه بشيء من الصيد} الآية، نزلت عام الحديبية إبتلاهم اللّه بالصيد فكان الوحش يغشى رجالهم كثير وهم محرمون فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض اليهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت حرم فأتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسأله عن ذلك فأنزل اللّه {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم اللّه} ليختبرنكم اللّه {بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} وإنما بعض فقال بشيء لأنه إبتلاهم بصيد البرّ خاصة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} وهي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر من الصيد الوحش {وَرِمَاحُكُمْ} وهي الوحش وكبار الصيد {لِيَعْلَمَ اللّه} ليرى اللّه من يخافه بالغيب ولم يره {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فلا يصطاد في حال الإحرام {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ} أي صاده بعد تحريمه فاستحلّه ٩٥{فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} إختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد، قال : حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله فأما إذا قتله عمداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى اللّه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة. قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون : هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ وهو إختيار الشافعي وأكثر الفقهاء. وقال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وقال ابن عباس : إن قتله متعمداً مختاراً سئل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد؟ فإن قال : نعم لم يحكم عليه وقيل له : إذهب فينتقم اللّه منك. وإن قال : لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه فإن عاد وقتل الصيد محرماً بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً، وكذلك حكم رسول اللّه (عليه السلام) في وج وهو وادي بالطائف، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك. قوله : {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} نوّنها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء، كأنه فسّر الجزاء فقال : مثل ما قيل من النعم وأضافها الآخرون لاختلاف الإسمين {يَحْكُمُ بِهِ} أي بالجزاء {ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} أي فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة فإن قتل نعامة فعليه بدنة فإن قتل بقرة أو إبلاً أو حماراً فعليه بقرة وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال. وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبياً فعليه شاة، وفي الغزال والأرنب جمل، وفي الضب واليربوع سخلة، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة، واختلفوا في الجراد وروي عن عمر أنّه قال لكعب وقد قتل جرادتين : ما جعلت على نفسك، قال : درهماً قال : بخ، قال : درهم خير من مائة جرادة. وروي عن عمر أيضاً في الجرادة تمرة. قال ابن عباس : قبضة من طعام فإن أصاب فرخاً أو بيضاً أو شيئاً لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاماً، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وإليه ذهب الشافعي، وعليه جمهور أهل العلم، قال النخعي : يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة. وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجاً وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي (فابتدرناه) فابتدرته ورميته بحجر فأصاب حشاه فركب ردعه فمات فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) وكان حاجاً وكان جالساً وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن : ما ترى؟ فقال : عليه شاة قال : وأنا أرى ذلك. قال : إذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال : فلم (يفجأنا) إلاّ وعمر معه درّة فعلاني بالدرّة فقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال اللّه {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي (صوليه) عن عبد الملك بن عمير : أو كفارة طعام مساكين إذا لم يكن واجداً للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام. يقوّم الصيد المقتول دراهم ثم يقوّم الدراهم طعاماً فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوماً عند أبي حنيفة، وقال الشافعي : لكل مدّ وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظاً وهو قول مجاهد وعطاء، واختلفوا في تقويم الطعام. فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء : يقوّم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها. وقال الشعبي : يقوّم بسعر الأرض التي يكفر بها. قال جابر : سأل الشعبي عن محرم أصاب صيداً بخراسان. قال : يكفر بمكة بثمن مكة. واختلفوا في الإطعام أين يُطعم؟. فقال قوم : يُطعم بمكة فلا يجزي إلاّ بها، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي. فأما الهدي فلا يجوز إلاّ بمكة بلا خلاف. فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلاّ في قتله أو جرحه ولو دلّ على صيد كان مسيئاً جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئاً. واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حلّ أكله. أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الدينوري، أبو بكر البستي، أبو عبد الرحمن البستي، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة والكلب العقور). وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيّب عن عائشة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (خمس يقتلهن المحرم : الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور). {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} جزاء معصيته {عَفَا اللّه عَمَّا سَلَفَ} في الجاهلية {وَمَنْ عَادَ} في الإسلام {فَيَنتَقِمُ اللّه مِنْهُ} في الآخرة. وقال ابن عباس : يملأ ظهره سوطاً حتى يموت. السدي : عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه اللّه بالنار. ٩٦{وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} على المحرم والحلال.وهو على ثلاثة أوجه : الحيتان وأجناسها وكلها حلال، والثاني : الضفادع وأجناسها وكلها حرام. والثاني فيه قولان، أحدهما : حلال، والثاني : حرام، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال بعضهم : كل ماكان مثاله في البر فهو حلال في البحر وما كان مثاله (جزاء ما) في البر فهو حرام في البحر. فأراد بالبحر جميع المياه لقوله {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} {وَطَعَامُهُ} قال بعضهم : هو ما مات في الماء فقذفه الماء إلى الساحل ميتاً وهو قول أبي بكر وعمر وإبنه وأبي هريرة وابن عباس، وقال بعضهم : هو المليح منه، وهو قول ابن جبير وعكرمة والنخعي وابن المسيب وقتادة {مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} يعني المارة. {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} لا يجوز للمحرم أكل الصيد إذا صاد هو وصيد له بأمره فأما إذا صاده حلال بغير أمره ولا له فيجوز له بلا خلاف. فأما إذا قتله المحرم فهل يجوز أكله أم لا؟ قال الشافعي : يجوز لأنه ذكاة مسلم، وعند أبي حنيفة لا يجوز فأحلّه محل ذكاة المجوس، ودليل الشافعي، أبو عبد اللّه (الفنجوي)، أبو بكر السني، النامي، محمود بن عبد اللّه، أبو داود، سعيد عن عثمان بن عبد اللّه موهب سمعت عبداللّه بن أبي قتادة حدث عن أبيه إنهم كانوا في مسير لهم في بعضهم ليس بمحرم، قال : فرأيت حماراً وحشياً، فركبت فرسي وأخذت الرمح واستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطاً من بعضهم فشددت على الحمار وأخذته فأكلوا منه فأشفقوا فسئل عن ذلك النبي (عليه السلام) فقال : هل محرم عنيتم؟ قالوا : لا، قال : فكلوا. وبإسناده عن النسائي قال : (حدّثنا)، قتيبة بن سعيد عن يعقوب وهو ابن عبد الرحمن بن عمرو عن المطلب عن جابر سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو صيد لكم). {وَاتَّقُوا اللّه الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . ٩٧{جَعَلَ اللّه الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} .الآية. قال ابن عباس : كانوا يتغادرون ويتقاتلون فأنزل اللّه {جَعَلَ اللّه الْكَعْبَةَ} . قال مجاهد : سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة. وقال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البنيان. قال أهل اللغة : أصلها من الخروج والإرتفاع وسمّي الكعب كعباً لخروجه من جانبي القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها : قد تكعبت، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض، وثباتها على الموضع الرفيع، وسميت البيت الحرام لأن اللّه حرّمه وعظم حرمته. وفي الحديث : (مكتوب في أسفل المقام : إني أنا اللّه ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفاً من جاءني زائراً لهذا البيت عارفاً بحقه مذعناً لي بالربوبية حرّمت جسده على النار). {قِيَامًا لِّلنَّاسِ} أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحاً لمعاشهم ومعادهم لما يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات. فقال إبن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس {وَالْهَدْىَ وَالْقَلَادَ ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَعْلَمُ} الآية. إعتُرض على هذه الآية وقيل : كيف يليق أول الآية بآخرها؟ فالجواب أن مجاز الآية إن اللّه يعلم صلاح الناس كما يعلم {مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض} الآية ٩٨-١٠٠{اعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} الآيتين {قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} يعني الحلال والحرام. {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} نزلت في شرح بن صبيعة وحجاج بكر بن وائل {فَاتَّقُوا اللّه} ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين. وقد مضت القصة في أول السورة {يا أولي الألباب} الآية ١٠١{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء} الآية، إختلفوا في نزولها، فروى الزهري وقتادة عن أنس وأبو صالح عن أبي هريرة قالا : سأل الناس رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى ألحّوا بالمسألة فقام مغضباً خطيباً وقال : سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا لآتيته لكم، فأشفق أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن يكون بين يدي أمر قد مضى، قال أنس : فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلاّ وجدت رجلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي، فقام إليه رجل من قريش من بني تميم يقال له عبد اللّه بن حذافة : وكان يطعن في نسبه وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال : يا نبي اللّه من أبي؟ قال : أبو حذافة بن قيس). قال الزهري : فقالت أم عبد اللّه بن حذافة : ما رأيت ولداً بأعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد فارقت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤس الناس. فقال : واللّه لو ألحقني بعبد أسود للحقته، فقام إليه رجل آخر فقال : يا رسول اللّه أين أنا؟ قال : في النار. فقام عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) وقبل رجل رسول اللّه وقال : رضينا باللّه ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً، إنا يا رسول اللّه حديثو عهد بالجاهلية والشرك فاعف عنا عفى اللّه عنك فسكن غضبه وقال : (أما والذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة والنار أنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر). وقال ابن عباس : كانوا قوم يسألون رسول اللّه (عليه السلام) إمتحاناً بأمره، واستهزاءً به، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول الآخر : أين أنا؟ ويقول الآخر إذا خلت ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال علي وأبو أمامة الباهلي : خطب بنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (إن اللّه كتب عليكم الحج). فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال : أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً، فقال (عليه السلام) : (ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، واللّه لو قلت نعم لوجبت، ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه). وقال مجاهد : نزلت هذه الآية حين قالوا لرسول اللّه عن البحيرة والسائبة ألا ترى يقول بعد ذلك ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة الآية {وَإِن تَسْ َلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ} تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالاً لكم ١٠٢{عفا اللّه عنها واللّه غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم} كما سألت ثمود صالحاً الناقة، وقوم عيسى المائدة {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} فأهلكوا. روى مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن اللّه فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ١٠٣{مَا جَعَلَ اللّه} ما أنزل اللّه ولا من اللّه ولا أمر به نظيره قوله {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} أي أنزلناه، {مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَآبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} . وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأكتم بن الجون : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا بك منه، وذلك إنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، ونحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيت في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه) فقال أكثم : تخشَ أن يضرني شبهه يا رسول اللّه، قال : (لا أنت مؤمن وهو كافر). قال : وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع إنها في الإبل يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف كما فعل بأُمها وهي البحيرة بنت السائبة. وقال ابن عباس : على إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس، فإن كان ذكراًنحروه، فأكله الرجال والنساء جميعاً وإن كانت أنثى شقوا أُذنها فتلك البحيرة ولا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها إسم اللّه إن ذُكيّت ولا يحمل عليها وحرّمت على النساء لا يذقن من ألبانها ولا ينتفعن بها وكانت لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت، وإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها. وقيل : هو إنهم كانوا إذا ولد السقب بحروا أذنها وقالوا : اللّهم إن عاش ففتي وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه. وأما السائبة فكان الرجل يسيب من ماله فيجيء به إلى السدنة فيدفعه إليهم فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها ولحمانها إلاّ النساء فإنهم كانوا لا يعطونهن منها شيئاً حتى يموت فإذا مات أكلها الرجال والنساة جميعاً. وقال علقمة : هي العبد (يسيب) على أن لا يكون له ولاء ولا عقل، وله ميراث. فقال (عليه السلام) : (إنما الولاء لمن أعتق). وإنما أخرجها بلفظ الفاعلة وهي بمعنى المفعولة وهي المسيبة والمخلاة على مذهب قوله (ماء دافق وعيشة) راضية، وأما الوصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان البطن السابع ذكراً ذبحوه وأهدوه للآلهة، وإن كانت أنثى إستحيوها، فإن كانت ذكراً أو أنثى إستحيوا الذكر من أجل الأنثى. وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه، وأما الحامي فهو الفحل إذا ركب ولد فيلده قبل حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا رعي إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء قال اللّه {ولكن الذين يفترون} يختلقون {عَلَى اللّه الْكَذِبَ} في قولهم : واللّه أمرنا بها ١٠٤{وأكثرهم لا يعقلون وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول} في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا من الذين} قال اللّه تعالى {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ يَعْلَمُونَ شيئا وَلا يَهْتَدُونَ} نظيرها في سورة البقرة ولقمن. ١٠٥{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر. وقال ضمرة بن ربيعة : تلا الحسن هذه الآية، وقال : الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقال بعضهم : معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة اللّه {يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية : إذا أمرتم ونهيتم. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال : قال أبو بكر الصديق (رضي اللّه عنه) على المنبر : إنكم تقرؤن هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ماهي وإني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} فيقول أحدكم : عليّ نفسي، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو (ليستعملن) عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم). يدل عليه حديث أبي هريرة قال : قلنا : يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ إنتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبداً. فقال (عليه السلام) : (فمروا بالمعروف فإن لم (يقبلوا به) كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله). وقيل : معنى الآية : عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. قال شقيق بن عقد : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ألا فليبلغ الشاهد الغائب) فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم. وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}، فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال : إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. قال أبو أميّة السمعاني : سمعت أبا ثعلبة (الخشني) عن هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}. فقال أبو ثعلبة : سألت عنها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت ديناً موثراً وشحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل). قالوا : يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملاً منهم؟ قال : (لا بل كأجر خمسين عاملاً منكم). وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في أهل الأهواء. وقال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه، {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} الآية. وقال الضحّاك : عليكم أنفسكم إذا إختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط. وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية). فلما قرأ عليهم كتاب رسول اللّه عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك : منافقو أهل مكة وقالوا : عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟ فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب {إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ} . وقال ابن عباس : نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا : سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل اللّه {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من آبائكم إذا إهتديتم} وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك. ثم قال {إِلَى اللّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} الضال والمهتدي {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . ١٠٦{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجاراً من المدينة إلى الشام، عدي بن فدي، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً مهاجراً واختلفوا في كنية أبيه. فقال الكلبي : بديل بن أبي مازنة. وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة : هو ابن أبي مارية، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتاباً فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك، فلما إشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا (فوجدوا) الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميماً وعدياً. فقالوا : هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه؟ قالا : لا، قالوا : فهل خسر تجارة؟ قالا : لا، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا : لا. قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة. قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلاّ من حكم، فرفعوها إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه تعالى {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية إثنان}. قال أهل الكوفة : معناه ليشهد إثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر. قال أهل البصرة : معناه شهادة بينكم شهادة إثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الإثنان مقامهما كقوله {وسئل القرية} أي أهل القرية ما (بقي) أهل وأقام القرية مقامه فنصبها. وقال بعضهم : معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد إثنان {ذَوَا عَدْلٍ} أمانة وعقل {مِّنكُمْ} يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم. قاله جميع المفسرين إلاّ عكرمة وعبيد فإنهما قالا : معناه من حيّ الموصي. واختلفوا في صفة الإثنين، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون : هما الوصيان أراد اللّه تأكيد الأمر فجعل الوصي إثنين دليل هذا التأويل أنه عقَّبه بقوله : {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاةِ فَيُقْسِمَانِ} ولا يلزم الشاهد يمين، ولأن الآية نزلت في الوصيين، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك : شهدت فلان أي حضرت، قال اللّه تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} الآية، فقال : {وليشهد عذابهما طائفة من المسلمين} . {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ملّتكم وهو قول إبن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا : إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين. قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلماً يشهده على وصيته فليشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلاّ في سفرة ولا يجوز في سفر إلاّ في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين. وعن الشعبي : إن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد، الذي كان في عهد رسول اللّه فأحلفهما وأمضى شهادتهما. قال آخرون : معناه من غير حيكم وعشيرتكم. وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا : لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر. {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} سرتم وسافرتم في الأرض {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم (يأمنان الإرتياب بحق) الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما، أي تستوقفونهما {مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ} وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله {أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من الكفار فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي. فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة : من بعد صلاة العصر. وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر {فَيُقْسِمَانِ بِاللّه} فيحلفان {إِنِ ارْتَبْتُمْ} شككتم {نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا} يقول لا نحلف باللّه كاذبين على عرض نأخذ عليه (لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده) {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّه} قرأ الشعبي لا نكتم شهادة اللّه بالتنوين، اللّه بخفض الهاء على الإتصال أراد اللّه على القسم. وروي عن أبي جعفر (شهادة اللّه) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم إبتدأ يميناً فقال : اللّه أي واللّه (..........) (يعقب) بتنوين الشهادة، (اللّه) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الإستفهام حرفاً من حروف القسم، فروي عن بعضهم شهادة منونة، اللّه بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة اللّه أما إن فعلنا ذلك {إِنَّآ إِذًا لَّمِنَ اثِمِينَ} فلما نزلت الآية على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) صلاة العصر ودعا بعدي وتميم، فاستحلفا عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء اللّه أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء. فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم. قال الآخرون : لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك. فقالا : إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا وقالوا : ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه؟ قالا : لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به (فكتمناكموه) لذلك فرفعوهما لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه ١٠٧{فَإِنْ عُثِرَ} أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله : عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه. قال الأعمش : بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا يعنى بقوله : عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفياً كقولهم في أمثالهم : عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة. {عَلَى أَنَّهُمَا} يعني الوصيين {اسْتَحَقَّآ إِثْمًا} أي استوجبا إثماً بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما {فَآخَرَانِ} من أولياء الميت {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني مقام الوصيين {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ} . قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأُبي بن كعب أي وجب عليهم الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال : {اوْلَيَانِ} رجع إلى قوله : فآخران الأوليان ولم يرتفع بالإستحقاق. وقرأ الباقون : بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، إستحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله : {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . وقال صخر الغي : متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث {اوْلَيَانِ} بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين. وقرأ الحسن : الأولون، وقرأ الآخرون الأوليان على لغت الآخرين وإنما جاز ذلك، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى. {فَيُقْسِمَانِ بِاللّه لَشَهَادَتُنَآ} أي واللّه لشهادتنا {أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَات} في قصة اللعان أراد الأيمان، وهذا كقول القائل : أشهد باللّه وله أقسم {وَمَا اعْتَدَيْنَآ} في يميننا {إِنَّآ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا باللّه بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : صدق اللّه عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى اللّه وأستغفره. وإنما إنتقل اليمين إلى الأوليان، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي. روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم الداري، قال : بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذباً وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة فذلك قوله ١٠٨{ ذلك أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ} أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق. {وَاتَّقُوا اللّه وَاسْمَعُوا} الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم : هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون : هي محكمة وهي الصواب ١٠٩{يَوْمِ} أي إذكروا واحذروا يوم {يَجْمَعُ اللّه الرُّسُلَ} وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} لهم {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي {قَالُوا} أي فيقولون {عِلْمَ لَنَآ} قال ابن عباس : لا علم لنا إلاّ علم أنت أعلم به منا. وقال ابن جريح : معنى قوله {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا : لا علم لنا. الحسن ومجاهد، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يحتسبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.
١١٠قوله {إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم} يعني حين قال اللّه يا عيسى بن مريم، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحداً، فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف، وتقدير الكلام يا عيسى يابن مريم. نظيره قوله : يا حكم بن المنذر بن الجارود أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود ذلك في حكم الرفع والنصب، وليس بن المنذر عن النصب {اذْكُرْ نِعْمَتِى} قال الحسن : ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه لا تُحْصُوهَآ} أراد نعم اللّه لأن العدد لا ينفع على الواحد {عَلَيْكَ} يا عيسى {وَعَلَى وَالِدَتِكَ} مريم، ثم ذكر النعم {إِذْ أَيَّدتُّكَ} قويّتك وأعنتك {بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني جبرئيل {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ} صبياً {وكهلا} نبياً {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} قال ابن عباس : أرسله اللّه وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللّه إليه. {وإذا علمتك الكتاب} يعني الخط {وَالْحِكْمَةَ} يعني العلم والقيم {وَ التوراة والإنجيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} وتجعل وتصوّر وتقدر إلى قوله {فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المصورين من الطين {كَهَيَْةِ الطَّيْرِ} كصورة الطير. {بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى} حياً يطير بإذني {وَتُبْرِئُ} تصح وتشفي {اكْمَهَ وَابْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} من قبورهم أحياء {بِإِذْنِى} فأحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعت وصرفت {بنى إسرائيل} يعني اليهود {عَنكَ} حين همّوا بقتلك {إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ} يعني الدلالات والمعجزات التي ذكرتها {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَآ } ما هذا {إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعني ما جاءتهم من البينات ومن قال ساحر بالألف فإنه راجع إلى عيسى (عليه السلام) . محمد بن عبد اللّه بن حمدون، مكي بن عبدان، أبو الأزهر عن أسباط عن مجاهد بن عبد اللّه ابن عمير قال : لما قال اللّه لعيسى {اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ} كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ولم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أدركه الليل بات. ١١١{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّ نَ} أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم الوحي. والوحي على أقسام، وحي بمعنى إرسال جبرئيل إلى الرسول، ووحي بمعنى الإلهام كالإيحاء إلى أم موسى والنحل ووحي بمعنى الأحلام في حال اليقضة في المنام. قال أبو عبيدة : أوحى لها : أي إليها، وقال الشاعر : ومن لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثبت يعني أمرت (وإلى) صلة يقال : أوحى ووحى. قال اللّه {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} . قال العجاج : أوحى لها القرار فاستقرّت. أي أمرها بالقرار فقرت. والحواريون خواص أصحاب عيسى. قال الحسن : كانوا قصارين. وقال مجاهد : كانوا صيادين. وقال السدي : كانوا ملاحين. وقال قتادة : الحواريون الوزراء. وقال عكرمة : هم الأصفياء. وكانوا إثني عشر رجلاً، بطرس ويعقوب ويحنس واندرواسى وخيلبس وأبرثلما ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوسيس، وفتاتيا، وتودوس، {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّ نَ} عيسى {قَالُوا} حين لقيتهم ورفقتهم ١١٢{آمنا واشهد بأننا مسلمون إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل}. قرأ علي وعائشة وابن عباس وابن جبير ومجاهد : هل تستطيع بالتاء، ربك بنصب الباء، وهو اختيار الكسائي وأبي عبيد على معنى هل تستطيع أن تدعو ربّك كقوله {وَسْلِ الْقَرْيَةَ} وقالوا : لأن الحواريين لم يكونوا شاكّين في قدرة اللّه تعالى. وقرأ الباقون بالياء قيل : يستطيع ربك برفع الباء فقالوا : إنهم لم يشكوا في قدرة اللّه تعالى وإنما معناه هل ينزل أم لا كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنّه يستطيع وإنّما يريد هل يفعل أم لا، وأجراه بعضهم على الظاهر، فقالوا : غلط قوم وكانوا مشوا، فقال لهم عيسى عند الغلط استعظاماً لقولهم : هل يستطيع ربك {اتَّقُوا اللّه إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي أن تشكوا في قدرة اللّه تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين والمائدة هي الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعلة إذا أعطاه وأطعمه، كقولهم : ماد يميد، وغار يغير، وامتاد إفتعل ومنه قول روبة : تهدى رؤس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد أي المستعطي. قال رؤبة : والمائدة هي المطعمة المعطية الآكلين الطعام وسمي الطعام أيضاً مائدة على الخوان لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء، وللشحم ثرى. وقال أهل الكوفة : سميت مائدة لأنها تميد الآكلون أي تميل ومنه قوله {وَأَلْقَى فِى الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} . قال الشاعر : وأقلقني قتل الكناني بعده وكادت بي الأرض الفضاء تميد فقال أهل البصرة : هي فاعلة بمعنى المفعول أي تميد بالآكلين إليها، كقوله عيشة راضية أي مرضية، قال عيسى مجيباً لهم {اتَّقُوا اللّه إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فلا تشكوا في قدرته. وقيل : إتقوا اللّه أن تسألوه شيئاً لم يسأله الأمم قبلكم ١١٣{قَالُوا} إنما سألنا لأنا {نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} نستيقن قدرته {وَتَطْمَ نَّ} تسكن {قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} بإنك رسول اللّه. {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} للّه بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة، وقيل : ونكون عليها من الشاهدين لك عند بني اسرائيل، إذا رجعنا إليهم، ١١٤قال عيسى عند ذلك {اللّهمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ} حال ردّ إلى الإستقبال أي كائنة وذلك كقوله {فهب لي من لدنك ولياً يرثني} يعني يصدقني في قراءة من رفع. وقرأ عبد اللّه والأعمش : تكن لنا بالجزم على جواب الدعاء. {عِيدًا وَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} أي عائداً من علينا وحجة وبرهاناً والعيد إسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل : أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة. ويقال : لطيف الخيال عيد. قال الشاعر : يا عيد مالك من شوق وإيراق ومرّ طيف على الأهوال طراق فقال آخر : إعتاد قلبك من جبينك عود شق عناك فأنت عنه تذود وأنشد الفراء : فوا كبدي من لاعج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها وأصله عود بالواو ولأنه من عاد يعود إذا رجع فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها مثل النيران والميقات والميعاد. قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان : نصلي فيه. وقال الخليل بن أحمد : العيد كل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنصاري : سمي العيد عيداً للعود من الترح إلى الفرح فهو يوم سرور للخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين لا يطالبون ولا يعاقبون ولا تصطاد فيه الوحوش والطيور ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب، وقيل : سمي عيداً لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إختلاف ملابسهم وأحوالهم وأفعالهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يظلم ومنهم من يرحم، وقيل : سمي بذلك لأنه يوم شريف فاضل تشبيهاً بالعيد وهو فحل نجيب كريم ومشهور في العرب وينسبون إليه فيقال : إبل عيدية. قال الراعي : عيد به طويت على زفراتها طي القناطر قد نزلن نزولا وقوله {لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا} يعني قبل زماننا ولمن يجيء بعدنا. وقرأ زيد بن ثابت : لأولنا وآخرنا على الجميع. وقال ابن عباس : يعني نأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. {وَءَايَةً مِّنكَ} دلالة وحجة {وارزقنا وأنت خير الرازقين قال اللّه} مجيباً لعيسى ١١٥-١١٦{إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} يعني المائدة. وقرأ أهل الشام والمدينة، وقتادة وعاصم : منزلها في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله ونزلناه تنزيلاً. وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله : أنزل علينا {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد اللّه بن عمران : أشد الناس عذاباً يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. وإختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا ؟ فقال مجاهد : ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه اللّه. وقال الحسن : واللّه ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} الآية إستغفروا وقالوا : لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل، والصواب إنها نزلت لقوله : {إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} ولا يقع في خبره الخلف، وتواترت. الأخبار عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها، قال كعب : نزلت يوم الأحد، لذلك اتخذه النصارى عيداً. وإختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها. فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (نزلت المائدة خبزاً ولحماً وذلك أنهم سألوا عيسى طعاماً يأكلون منه لا ينفد، قال، فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم، قال : فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا). وقال إسحاق بن عبد اللّه : إن بعضهم سرق منها، وقال لعلها لا تنزل أبداً فرفعت ومسخوا قردة وخنازير. وقال ابن عباس : إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوماً ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوماً فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاماً ولأصبحنا من وجعنا، فادع لنا اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء فنزل الملائكة بمائدة يحملونها، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل إختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلاّ اللحم. وقال ابن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلاّ الخبز واللحم. قال عطاء : نزل عليها كل شيء إلاّ السمك واللحم. قال العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء. وقال عمار وقتادة : كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه : أنزل اللّه أقرصة من شعير وحيتاناً، فقيل لوهب : ما كان ذلك يغني عنهم، قال : لا شيء ولكن اللّه أضعف لهم البركة، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل. وقال الكلبي ومقاتل : إستجاب اللّه لعيسى (عليه السلام) فقال إني منزلها عليكم كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلاً، ولعنة لمن بعدهم، قالوا : قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين، فقال : هل لكم طعام؟ قال : نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة، فقال : عليّ بها فقطعهن عيسى قطعاً صغاراً، ثم قال : اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقاً كل رفقة عشرة، ثم قام عيسى ودعا اللّه فاستجاب اللّه له ونزل فيها البركة فصار خبزاً صحاحاً وسمكاً صحاحاً، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال : كلوا بسم اللّه فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء اللّه وفضل خمس الذيل، والناس خمسة آلاف ونيف. وقال الناس جميعاً : نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى (عليه السلام) فأنزل اللّه خبزاً وسمكاً وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم : ويحكم إنما سحر أعينكم. فمن أراد به الخير بثَّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا إمرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ. وقال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلاّ اللحم. وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل. فقال يمان بن رئاب : كانوا يأكلون منها ما شاؤا. وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال : واللّه ما اتبع عيسى (عليه السلام) شيئاً من المآذي قط ولا انتهر شيئاً ولا قهقه ضحكاً ولا ذبّ ذباباً عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه. ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفاً وبكى، وقال : اللّهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية وارزقنا عليها طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين فنزل اللّه سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها (وهي تجيء مرتفعة) حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال : اللّهم إجعلني من الشاكرين، اللّهم إجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه، فقال عيسى : أيكم أحسنكم عملاً فيكشف عنها ويذكر إسم اللّه ويأكل منها؟ فقال شمعون رئيس الحواريين : أنت بذلك أولى منا، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيراً ثم كشف المنديل عنها وقال : بسم اللّه خير الرازقين، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلاً من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد. فقال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله اللّه بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة. وقال محمد بن كعب : تعلم ما أريد فلا أعلم ما تريد. وقال عبد العزيز بن يحيى : تعلم سرّي ولا أعلم سرّك لأن السرّ هو موضعه الأنفس. قال الزجاج : يعلم جميع ما أعلم ولا أعلم ما يعلم من النفس عبارة عن حملة الشيء وحقيقته وذاته ولا أنه {إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون ١١٧{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّه} وحّدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئاً {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} أقمت فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} قبضتني إليك. قال الحسن : الوفاة في كتاب اللّه على ثلاثة أوجه، وفاة الموت وذلك قوله {اللّه يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يعني وجعل نقصان أجلها وفاة النوم، وذلك قوله {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّ اكُم بِالَّيْلِ} يعني ينيمكم، ووفاة بالرفع كقوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} . ١١٨{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وقرأ الحسن : فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم {فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وقال السدي : إن تعذبهم وتميتهم بنصرانيتهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك الرب العزيز الحكيم في الملك والنقمة، الحكيم في قضائك. ١١٩-١٢٠قال اللّه {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} في الآخرة. قال قتادة : متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص اللّه عليكم وعدو اللّه إبليس وهو قوله {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ} الأمر فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه صدقه يومئذ، وأما عيسى فكان صادقاً في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه. وقال عطاء : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء، ويوم رفع على خبر هذا، ونصبه نافع على الحرف يعني إنما تكون هذه الأشياء في يوم ينفع الصادقين صدقهم، وقرأ الحسن : هذا يوم بالتنوين، ثم بيّن لهم ثوابها فقال {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رَّضِىَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلك الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فازوا بالجنة ونجوا مما خافوا، ثم عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان بأن معه إلها فقال {للّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ} . |
﴿ ٠ ﴾