سورة الأعرافوهي مائتان وست آيات روى أبو أمامة عن أُبي بن كعب عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (مَنْ قرأ سورة الأعراف جعل اللّه بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم له شفيعاً يوم القيامة). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{المص} روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : {المص} قسم أقسم اللّه عزّ وجلّ، وقال عطاء بن أبي رباح : هو من ثناء اللّه سبحانه على نفسه، أبو صالح عن ابن عباس : اسم من أسماء اللّه تعالى، أبو الضحى عن ابن عباس : أنا اللّه أفصل وقال وهي هجاء موضوع، قتادة : اسم من أسماء القرآن. وقيل : اسم السورة، مجاهد : فواتح افتتح اللّه بها كتابه، الشعبي : فواتح السور من أسماء اللّه تعالى إذا وصلها كانت اسماً. وقال أبو روق : أنا اللّه الصادق، سعيد بن جبير : أنا اللّه أصدق، محمد بن كعب : إلاّ أن افتتاح اسمه أحد أول آخر، واللام افتتاح اسمه لطيف، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات. ورأيت في بعض التفاسير معنى {المص} : {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وقيل : هي حروف هجاء مقطّعة، وقيل : هي حساب الجمل، وقيل : هي حروف اسم اللّه الأعظم، وقيل : هي حروف تحوي معاني كثيرة، وقيل : اللّه بها خلقه على مراده كلّه من ذلك، وموضعه رفع بالأبتداء وكتاب خبره كأنّه قال : (المص) حروف ٢{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} ، وقيل : كتاب خبر ابتدأ في هذا كتاب. وقيل رفع على التقديم والتأخير، يعني أُنزل كتاب إليك وهو القرآن {فَلا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} قال أبو العالية : ضيق، وقال مجاهد : تَنك، وقال الضحاك : إثمّ، وقال مقاتل : فلا يكن في قلبك شك في القرآن. إنّه من اللّه، وقيل : معناه لا اطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي عظة لهم وموعظة، وموضعه رفع مردود على الكتاب. وقيل : هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى لتنذر في موضع خفض، والمعنى الإنذار والذكرى، وأمّا ذكرى فمصدر فيه ألف التأنيث (بمنزلة) دعوت دعوى ورجعت رجعى إلاّ أنّه اسم في موضع المصدر. ٣{اتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} أي قل لهم : اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء. قرأ العامّة بالعين من الاتباع، وروى عاصم الجحدري عن أبي (الشيخ) ومالك بن دينار (ولا تبتغوا) بالغين المعجمة أي لا تطلبوا {قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} ٤{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} بالعذاب وموضع (كم) الرفع بالابتداء وخبره في (أهكلناها) وإن شئت نصبته برجوع الهاء، {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتًا} ليلا (كما يأتِ بالعساكر) {أوهم قائلون} يعني نهاراً في وقت (القائلة) وقائلون نائمون ظهيرة، ومعنى الآية : (أو هم قائلون) يعني : إن من هذه القرى ما أُهلكت ليلا ومنها ما أُهلكت نهاراً وإنّما حذفوها (لاستثقالهم) نسقاً على نسق، هذا قول الفراء، وجعل (الزجاج) بمعنى أو (التحيّر) والإباحة تقديره : جاءهم بأسنا مرّة ليلا ومرّة نهاراً {فَمَا كَانَ دَعْوَ اهُمْ} أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ} قال الشاعر : وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي بدعواك من مذل بها فتهون مذل رجله إذا خدرت {إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ} عذابنا إلاّ أن قالوا {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقرّوا على أنفسهم. روى ابن مسعود عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم. قال : قلت : كيف يكون ذلك؟ ٥فقرأ هذه الآية : {ما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا} الآية. ٦{فَلَنَسْ َلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} يعني الأُمم عن إجابتهم الرسل {وَلَنَسْ َلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عن تبليغ الأُمم ٧{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} قال ابن عباس : ينطق لهم كتاب أعمالهم يدلّ عليه قوله {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} الآية. {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} عن الرسل فيما يُلقون وعن الأُمم فيما أجابوا ٨{وَالْوَزْنُ يومئذ} يعني (السؤال) {الْحَقِّ} قال مجاهد : والقضاء يومئذ العدل، وقال آخرون : أراد به دون (وزن الأعمال) وذلك أن اللّه عزّ وجلّ ينصب الميزان له (يدان وكفّان) يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرّة ميزان الحسنات لنجاة مَنْ يريد نجاته. ويخفّف مرّة ميزان الحسنات علامة هلاك مَنْ يُريد هلاكه. فإن قيل : ما الحكمة في وزن أعمال العباد واللّه هو العالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء : أحدهما : امتحان اللّه تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا، والثاني : جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى. والثالث : تعريف اللّه عزّ وجلّ للعباد ما عند اللّه من جزاء على خير وشر، والرابع : إلقائه الحجّة عليه. ونظيره قوله {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ} الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني واللّه أعلم. {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال مجاهد : حسناته ٩{فأُولئك هم المفلحون ومَنْ خفّت موازينه} إلى قوله تعالى {يَظْلِمُونَ} يجحدون قال حذيفة : صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول اللّه تعالى (يا جبرائيل زن بينهم فردَّ بعضهم على بعض) قال : وليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال. قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئاته فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله : {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَاكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا أنصرفوا إليها من أهل (الجنّة) إذا أنصرفوا إلى منازلهم. وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر : إلحق بعملك. فإن قيل : كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الاعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة. يدلّ عليه حديث عبد اللّه بن عمر، وقال : يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلاًّ كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يُخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً عبده ورسوله (صلى اللّه عليه وسلم) يوضع في الكفّة الأُخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه، ونظير هذه الآية قوله {ونضع الموازين بالقسط ليوم القيامة} . فإنّ قيل : لِما جمعه وهو ميزان واحد. قيل : يجوز أن يكون (أعظم) جميعاً ومعناه واحد كقوله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} {ويا أيّها الرسل} وقال الأعشي : ووجه نقي اللون صاف يزيّنه مع الجيد لبّات لها ومعاصم أراد لبّة ومعصماً. وقيل : أراد به الأعمال الموزونة. وقيل : الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به. وقيل : جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلاّ باجتماعهما. وقيل : الموازين أصله : ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة، وباللّه التوفيق. ١٠{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرض} ملّكناكم في الأرض ووطّأنا لكم وجعلنّاها لكم قراراً {وجعلنا لكم فيه معايش} يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز {قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ} فيما صنعت إليكم. ١١{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} قال ابن عباس : خلقنا أصلكم وأباكم آدم {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في أرحام أُمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي : أمّا خلقناكم فآدم وأمّا صوّرناكم فذرّيّته. قال مجاهد : خلقنا آدم ثمّ صوّرناكم في ظهر آدم. وقال عكرمة : خلقناكم في أصلاب الرجال وصورناكم في أرحام النساء قال عطاء : خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام. وقال يمان : خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه، فإن قيل : ما وجه قوله {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَاكَةِ اسْجُدُوا لآ دَمَ} وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي. كقول القائل : قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلاّ بعد القيام. قلنا : قال قوم : على التقديم والتأخير، قال يونس : الخلق والتصوير واحد (......) إلينا، كما نقول : قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم، قال الأخفش : ثمّ بمعنى الواو ومجازه : قلنا، كقول الشاعر : سألت ربيعة من خيرها أباً ثم آُماً فقالت لمّه أراد أباً وأُمّا. {فَسَجَدُوا} يعني الملائكة {إلا إبليس لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} لآدم فقال اللّه لإبليس حين امتنع من السجود لآدم ١٢{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} قال بعضهم : لا زائدة (وإن صلة) تقدير الكلام : ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال اللّه عزّ وجلّ : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . قال الشاعر : ويلحينني في اللّهو أن لا أحبه وللّهو داع دائب غير غافل أراد : أن أُحبُّة. وقال آخر : فما ألوم البيض أن لا تسخروا لما رأيتي الشمط القفندرا وقال آخر : أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله أراد : أبى جوده البخل. سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال : كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره : من قال لك لا تسجد. قال بعضهم : معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال : أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد. {إِذْ أَمَرْتُكَ} قال إبليس مجيباً له {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} لأنّك {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس : أوّل مَنْ قاس إبليس. فأخطأ القياس فمَنْ قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس. وقال ابن سيرين : أوّل مَنْ (قاس) إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس. وقالت الحكماء : أخطأ عدو اللّه حين فضّل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه : أحدها : إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحُلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي (سبقت) له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والاصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق. والثاني : إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها. والثالث : إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وفي النار تراباً. والرابع : إن النار سبب العذاب وهي عذاب اللّه لإعدائه وليس التراب سبباً للعذاب. والخامس : إنّ الطين (يُسقى) من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. ١٣فقال اللّه له : {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} أي من الجنّة، وقيل : من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلاّ لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها (مَنْ يخرج) منها {فَمَا يَكُونُ لَكَ} فليس لك أن {تَتَكَبَّرَ فِيهَا} في الجنّة، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء (متكبر) ولا بخلاف أمر اللّه عزّ وجلّ {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك ١٤{قَالَ أَنظِرْنِى} أخرّني واجلني وأمهلني ولا تمتني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، ١٥{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} المؤخّرين. ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم ١٦{قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى} . اختلفوا في ما قال : فبعضهم قال : هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال {قْعُدَنَّ لَهُمْ} فقيل : هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن، وقيل : هو ما المصدر في موضع القسم تقديره : بإغوائك إياي لأقعدن كقوله {بِمَا غَفَرَ لِى} يعني بغفران ربّي. وقوله أغويتني أضللتني عن الهدى. وقيل : أهلكتني، من قول العرب غوى الفصيل (يعني) غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر : معطفة الأثناء ليس فصيلها برازئها دراً ولا ميّت غوى وحكى عن بعض قبائل طي أنها تقول : أصبح فلان غاوياً أي مريضاً غاراً، وقال محمد بن جرير : أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتّى يحسنه عنده غاراً له. قال الثعلبي : وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد اللّه محمد بن محمد (الراوساني) قال : حدثنا عليّ بن سلمة قال : حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال : كنت (عند) طاووس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاووس : (يقوم أو يقام) فقام الرجل فقال لطاووس : تقول هذا الرجل فقيه، فقال إبليس : أفقه منه بقول إبليس ربِ بما أغويتني ويقول : هذا أنا أغوي نفسي. {قْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} يعني لأجلسنّ (لبني آدم) على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أوعجلتم أمر ربّكم يعني عن أمر ربّكم. وروي عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه كان يقول : (إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فعصاه فأسلم ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجر ثمّ قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال : أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد). وعن عون بن عبد اللّه {قْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} قال : طريق مكّة ١٧{ثُمَّ تِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الآية قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : (ثم لآتينّهم) من بين أيديهم يقول (أشككهم) في آخرتهم {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (أن يُقيم في كتابهم) {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} اشتبه عليهم أمر دينهم {وَعَن شَمَآلِهِمْ} (أُشهّي) لهم المعاصي. روى عطيّة عن ابن عباس قال : أما بين أيديهم فمن قِبل دنياهم وأمّا من خلفهم (فإنّه) آخرتهم وأمّا من إيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم. وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة اللّه. وقال الحكم والسدّي {تِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} : يعني الدنيا أدعوهم إليها وأُرغبهم فيها وأُزينها لهم. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبَل الآخرة أُشككهم و (أثبطهم) فيها. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الحق أصدهم عنه (أبتلكم) فيه، وعن شمائلهم من قِبل الباطل أُخففه عليهم وأُزينه لهم وأُرغبهم فيه. وقال مجاهد : من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون، قال ابن جريج : معنى قوله : من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون. وقال الكلبي : {ثُمَّ تِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قِبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من قِبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقّاً (وأُخوفهم الضيعة) على ذرّيتهم. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قِبل دينهم (فأُبيّن) لكلّ قوم ما كانوا (يعبدون) وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه {وَعَن شَمَآلِهِمْ} من قِبل الشهوات واللذات فأُزيّنها لهم. وقال شقيق بن إبراهيم : ما من صباح إلاّ وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول : لا تحزن فإنّ اللّه غفور رحيم، ويقول {ذلك لمن تاب وآمَنْ وعمل صالحاً ثمّ اهتدى} . وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول {وما من دابة على الأرض إلاّ على اللّه رزقها} . وأما من قِبَل يميني فيأتيني من قبل (الثناء) فأقول والعاقبة للمتقين. وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قال اللّه عزّ وجلّ لإبليس ١٨{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} أي معيباً والذيم والذأم أشد العيب، وهو أبلغ من الذم، يقال : ذمّه يذمّه ذمّاً فهو مذموم (وذائمه يذائمه) ذأماً (فهو مذؤوم وذامه) بذمة ذيماً، مثل سار يسير، فهو مذيم والمدحور (المقصي) يقال : دَحَره يدحره دحراً إذا أبعده وطرده. قال ابن عباس : مذؤوم عنه {مذؤوماً مدحوراً} يعني غير مطروداً إذ قال الربيع ومجاهد : مذؤوماً (ممقوتاً) وروى عطيّة : مذؤوماً مقوتاً، أبو العالية : مذؤوماً (مزرياً) به. وقال الكلبي : مذؤوماً ملوماً مدحوراً مقصياً من الجنّة ومن كل خير، وقال عطاء : مذؤوماً ملعوناً. وقال الكسائي : المذؤوم المقبوح. وقال النضير بن شميل : المذؤوم (المحبوس) وقال أبان عن ثعلب والمبرّد : المذؤوم المعيب. قال الأعشى : وقد قالت قبيلة إذ رأتني وإذ لا تعدم الحسناء ذأماً وقال أُميّة بن أبي الصلب : قال لإبليس رب العباد أخرج (رجس الدنيا) مذؤماً {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} من بني آدم {مْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} منك ومن ذريتك وكفار ذرية آدم {أَجْمَعِينَ} . ١٩-٢٠{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة فكلا منها حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس} يعني إليهما ومعناه فحدث إليهما {الشيطان ليبدي لهما ما وُري عنهما من سوءاتهما} يعني ليظهر لهما ما غطى وستر عنهما من عوراتهما، وقال وهب : كان عليهما نور لا يرى سوءاتهما ثمّ بين الوسوسة {وقال مانهاكما} ياآدم وحواء {عَنْ هذه الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ} يعني إلاّ أن تكونا وكراهيّة أن يكونا من الملائكة يعملان الخير والشر. وقرأ ابن عباس والضحاك ويحيى بن أبي معين : ملكين بكسر اللام من الملك أخذوها من قوله {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} . {تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} من الباقين الذين لا يموتون ٢١{وَقَاسَمَهُمَآ} أي أقسم وحلف لهما، وقاسم من المفاعلة أي يختصّ الواحد مثل المعافاة المعاقبة والمناولة. قال خالد بن زهير : وقاسمهما باللّه جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها قال قتادة : حلف لهما باللّه عزّ وجلّ حتّى خدعهما وقد يخدع المؤمن باللّه فقال : إني خُلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما، وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا باللّه خدعنا. وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (المؤمن غر كريم، والفاجر خبُّ لئيم. (وحدّثنا) أبو القاسم الحبيبي في بعضها. قال : أنشدنا أبو الحسن المظفّر بن محمد بن غالب قال : أنشدنا نفطويه : إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجرباً لا يخدع ٢٢{إنّي لكما من الناصحين فدلّهما بغرور} يعني فخدعهما يقال : ما زال فلان يدلي لفلان يعرّفُة، يعني مازال يخطّئه ويكلّمه بزخرف القول الباطل، وقال مقاتل : فزين لهما الباطل. وقال الحسن بن الفضل : يعني تعلقهما بغرور، يقال : تدلي بنفسه ودلى غيره. ولا يكون التدلّي إلاّ من علو إلى أسفل، وقيل أصله دللّهما فأبدل من إحدى اللامات ياء، كقوله : (تمطّى) و (دسّاها)، وقال أبو عبيدة : دلّيهما أخذ لهما وكلاهما من تدلين الدلو إذا أرسلتها في البئر لتملأها {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ} أكلا منها ووصل إلى بطنيهما {بَدَتِ} ظهرت {لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} عوراتهما وتهافت عنهما لباسهما حتّى أبصر كل واحد منهما ما ورى عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. قال قتادة : كان لباس آدم وحوّاء في الجنّة ظفر أكله فلما واقعا الذنب كشط عنهما وبدت سوءاتهما فأستحيا {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} (يوقعان) ويشدان (ويمزّقان ويصلاّن) {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} وهو ورق التين حتّى صار بهيئة الثوب ومنه خصف النعل. وروى أُبي بن كعب : عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (كان آدم رجلاً (طوّالا) كأنّه نخلة (سحوق) كثير شعر الرأس فلمّا وقع في الخطيئة بدت له سوءاته وكان لا يراها فانطلق هارباً في الجنّة فعرضت له شجرة من شجر الجنّة فَحَسِبَهُ بشر. فقال : أرسلني، قالت : لست بمرسلتك، فناداه ربّه يا آدم أمنّي تفر، قال : لا يا رب ولكنّي أستحيي منك). وقال ابن عباس وقتادة : قال اللّه عزّ وجلّ لآدم : ألم يكن لك فيما أبحته ومنحته لك من الجنّة (مندوحة) من الشجرة، قال : على عهدي ولكن ما ظننت أن أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً، قال : فبعزّتي لأُهبطنّك إلى الأرض ثمّ لا تنال العيش (إلاّ نكداً) فاهبطا من الجنّة، فكانا يأكلان رغداً إلى غير رغد من طعام وشراب، تعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثمّ سقى حتّى إذا بلغ حصد ثمّ طحنه ثمّ عجنه ثمّ خبزه ثمّ أكل ثمّ بلعه حتّى بلغ منه ما شاء اللّه أن بلغ {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا} الآية، قال محمد بن قيس : ناداه ربّه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال : يارب أطعمتني حواء، قال : لحواء لم أطعمتيه قالت : أخبرتني الحيّة، قال للحيّة : لِمَ أمرتيها؟ قالت : أمرني (إبليس) فقال اللّه عزّ وجلّ : أمّا إنّكِ ياحوّاء فكما أدميت الشجرة (فسأُدميكِ)، وأمّا أنتِ ياحيّة فاقطع قوائمك فتمشين جهتيّ الماء على وجهك وسيندفع رأسك من لقيك، وأمّا أنتَ يا إبليس فملعون مدحور. ٢٣{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} ضررناها بالمعصية {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الهالكين ٢٤{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ٢٥{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} يعني في الأرض {وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} . ٢٦{يَابَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} أي خلقنا لكم، وقيل : نزّلنا أسبابه وآلاته لأنه (المثبّت) بما يقول. وقيل : (على الحكم) كبقيّة صنعته وذلك أن قريشاً كانوا يطوفون بالبيت عراة وقوله {لِبَاسًا} وهو ما يُلبس من الثياب {يُوَارِى} يستر {سَوْءَاتِكُمْ} عوراتكم واحدها سوءة، وهي فعلة من السوء سمّيت سوأة لأنّه يسوء صاحبها إنكشافها من جسده {وَرِيشًا} يعني مالاً في قول ابن عباس والضحاك والسدي، فقال : الريش : الرجل إذا (تموك) وقال ابن زيد : الريش الجمال. وقيل : هو اللباس. وحكي أبو عمرو أنّ العرب تقول : أعطاني فلان ريشة أي كسوة وجهازة. وقرأ عثمان بن عفان والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة : ورياشاً بالألف وهو جمع ريش مثل ذئب وذياب وبير وبيار وقَدِحَ وقداح. قال قطرب : الريش والرياش واحد، كقولك دبغ ودباغ ولبس ولباس وحل وحلال وحرم وحرام، ويجوز أن يكون مصدراً من قول القائل : راشه إليه بريشه رياشاً. والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب و الفراش وغيرها. وقال ابن عباس : الرياش اللباس والعيش والنعيم. وقال الأخفش : الرياش الخصبة والمعايش. {ولباس التقوى خير} قرأ أهل المدينة والشام. والكسائي ولباس التقوى بالنصب عطفاً على الريش. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء وخبره (خير). وجعلوا ذلك صلة في الكلام، وكذلك قرأ ابن مسعود وأُبي بن كعب : ولباس التقوى خير. واختلفوا في لباس التقوى ماهو (هل) يدلّ على لباس التقوى (الدرع) والساعدان. والساقان. والآلات التي يتّقى بها في الحرب مع العدو. وقال قتادة والسدي وابن جريج : لباس التقوى هو الإيمان. وقال معبد الجهني : هو الحياة. وأنشدني أبو القاسم (السدوسي) قال : أنشدني أبو عرابة الدوسي في معناه إني كأني أرى من لا حيالة ولا أمانة وسط الناس عُرياناً. عطيّة عن ابن عباس : هو العمل الصالح وروى الذبال بن عمرو عن ابن عباس قال : هو السمت الحسن في الوجه. وقال الحسن : رأيت عثمان بن عفان (رضي اللّه عنه) على منبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عليه قميص قوهي محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام، ثمّ قال : أيها الناس اتقوا اللّه في هذه السرائر، فإني سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (والذي نفس محمد بيده ماعمل أحدٌ قط سراً إلاّ ألبسه اللّه رداءه علانية إن خيراً فخير وإن شراً فشر) ثمّ تلا هذه الآية {وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذلك خَيْرٌ} قال : السمت الحسن. وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى خشية اللّه، ابن زيد : ستر للعورة يتقي اللّه فيواري عورته { ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ ءَايَاتِ اللّه} قال وهب بن منبه : الإيمان عريان لباسه التقوى وزينته الحياء وفاله (الفقه) وجماله العفّة، ٢٧وثمره العمل الصالح. {يَابَنِى ءَادَمَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} لا يعلّمنّكم ولا يستزلّنكم فتبدي برأيكم للناس في الطواف بطاعتكم. {كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ} {أَنَّهُ} يعني الشيطان {يَرَ اكُم} يابني آدم {هُوَ وَقَبِيلُهُ} خيله وجنوده وهم الجن والشياطين. قال ابن زيد : نسله {مِنْ حَيْثُ تَرَوْنَهُمْ} قال مجاهد : قال إبليس : جعل لنا أربعاً : نرى ولا يُرى ونخرج من تحت الثرى. ويعود شيخنا فتى. قال مالك بن دينار : إن عدواً (يراك) ولا تراه لشديد (المؤنة) إلاّ مَنْ عصم اللّه. وسمعت أبا القاسم (الحبيبي) قال : سمعت أبي قال : سمعت عليّ بن محمد الورّاق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : الشيطان قديم وأنت حديث والشيطان ليّن وأنت ناعم الناحية والشيطان يراك وأنت لا تراه والشيطان لا ينساك وأنت لا تزال تنساه ومن نفسك له عون وليس لك منه عون. وقيل : صدر ابن آدم مسكن له ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنه لا يقاومه إلاّ بعون اللّه. ومنه يقول : ولا أراه من حيث يراني. وعندما أنساه لا ينساني فسيدي إن لم (تغث) يسبيني كما سبا آدم من جنانك. قال ذو النون المصري : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فإنّ اللّه يراه من حيث لا يرى اللّه فاستعن باللّه عليه فإنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً. {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ} أعواناً وقرناء {للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة} وفاحشتهم أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عُراة الرجال (بالنهار والنساء بالليل). ويقولون : نطوف كما ولدتنا أُمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي اقترفنا فيها الذنوب. وكانت المرأة تضع على قُبُلها النسعة أو الشيء وتقول : اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدى منه فلا أُحلّه ٢٨وفي الآية إضمار ومعناه {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} ونُهوا عنها {قالوا وجدنا عليه آباءنا} قيل : من أين أخذوا آباؤكم قالوا : {اللّه أمرنا بها قل إن اللّه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللّه ما لا تعلمون} ٢٩{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} قال ابن عباس : بلا إله إلاّ اللّه، وقال الضحاك : التوحيد، وقال مجاهد والسدي : بالعدل {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال مجاهد والسدي وابن زيد : يعني وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك : إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيه ولا تقولن : أحب أن أُصلي في مسجدي، وإذا لم يكن عند مسجد (فليأت) أيّ مسجد فليصلِّ فيه. وقال الربيع : معناه واجعلوا سجودكم للّه سبحانه وتعالى خالصاً دون ما سواه من الآلهة والأنداد {وَادْعُوهُ} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الطاعة والعبادة {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (تبعث كل نفس على ما كانت عليه). قال ابن عباس : إن اللّه سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً كما قال {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} ثمّ يعيده يوم القيامة كما بدأ خلقهم كافراً ومؤمناً، فيبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً. وقال جابر : يبعثون على ما ماتوا عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه. وقال أبو العالية : عادوا إلى علمه فيهم. قال محمد بن كعب : من ابتدأ خلقه على الشقوة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل بإعمال أهل السعادة، كما أنّ إبليس عمل أعمال أهل السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل أهل الشقاوة، كما أنّ السحرة عملت أعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدأ عليه خلقهم. وقال سعيد بن جبير : معناه كما كتب عليكم يكونون نضير قوله {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} . قال قتادة : خلقكم من التراب وإلى التراب تعودون نضير قوله {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ} . وقال الربيع ابن أنس : كما بدأكم عرياناً تعودون لهم عرياناً. نضيره قوله : {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . وقال السدي : كما خلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون تخرجون من بطون أُمهاتكم، قال الحسن ومجاهد : كما بدأكم فخلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال. كذلك تعودون يوم القيامة، نضيره قوله {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} . روي سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال (يُحشر الناس حُفاة عُراة وأوّل من يُكسى إبراهيم عليه السلام) ثمّ قرأ {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} . ٣٠{فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء أرباباً من دون اللّه يحسبون أنهم مهتدون} . ٣١{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} قال المفسّرون : كانت بنو عامر في الجاهلية يطوفون في البيت عُراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا قدموا مسجد منى طرح أحدهم ثيابه في رحله وإن طاف وهي عليه ضُرب (وانبزعت) منه فأنزل اللّه تعالى : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} يعني الثياب. وقال مجاهد : ما تواري به عورتك (للصلاة والطواف) وقال عطيّة وأبو روق وأبو رزين : المشط. وسمعت أبو القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم (الجهني) يحكي عن السنوخي القاضي : {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يعني : رفع الأيدي في مواقيت الصلاة. وروى علي عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في الخبر، قول جبرائيل (عليه السلام) للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة برفع الأيدي فيها في ثلاث مواضع إذا تحرمت (للصلاة) : إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع). {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} قال الكلبي : كانت بنو عامر لا يأكلون من الطعام إلاّ قوتاً ولا يأكلون دسماً في أيام حجّهم يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون : يا رسول اللّه نحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل اللّه تعالى {وَكُلُوا} يعني اللحم والدسم {وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} يعني الحرام. قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك سرف ومخيلة، وقال مجاهد : الإسراف ما قصرت به عن حق اللّه. وقال : لو أنفقت مثل أُحُد في طاعة اللّه لم يكن سرفاً ولو أنفقت درهماً أو مداً في معصية اللّه كان إسرافاً. وقال الكلبي : ولا تُسرفوا يعني لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ اللّه لكم {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} المتجاوزين من فعل الحرام في الطعام والشراب، وبلغني أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان، قال عليّ : قد جمع اللّه الطب كله في نصف آية من كتابنا قال : وما هي؟ قال : قوله تعالى {كلوا واشربو ولا تُسرفوا إنّه لا يُحبُ المسرفين} فقال النصراني : ولا يؤثر (عن رسولكم) شيء في الطب؟ فقال عليّ : جمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الطب فيّ (ألفاظ يسيرة) قال : وما هي؟ قال : قوله : (المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء وأعطِ كل بدن ما عودته ). فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّاً. ٣٢{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} يعني الثياب {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} قال ابن زيد : كان قوم إذا حجّوا أو اعتمروا حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها لبنها وسمنها ولحمها وشحمها، فأنزل اللّه تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الآية. قال ابن عباس وقتادة : يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصايا والحوامي. {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ} قال ابن عباس : إنّ المؤمنين يشاركون المشركين في الطيّبات من الدنيا فأكلوا من طيّبات طعامهم وأُلبسوا من جياد ثيابهم وانكحن الزوج الخ... كما هم، ثم يخلص اللّه الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء ومجاز الآية : قل هي للذين آمنوا مشتركة في الحياة الدنيا وخاصة في يوم القيامة. وقراءة ابن عباس وقتادة ونافع : خالصة بالرفع يعنون قل هي خالصة. وقرأ الباقون : بالنصب على القطع لأن الكلام قد تمّ دونه { كذلك نُفَصِّلُ ايَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ٣٣{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} يعني الطواف عُراة {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} طواف الرجال بالنهار {وَمَا بَطَنَ} طواف النساء بالليل. وقيل : هي الزنا و (المخالة). وقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (ليس أحد أحب إليه من المدح من اللّه سبحانه من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من اللّه من أجل ذلك حرم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وليس أحد أحب إليه العذر من اللّه عزّ وجلّ من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل. {وَاثْمَ} يعني الذنب والمعصية. وقال الحسن : الإثم الخمر. وقال الشاعر : شربت الإثم ظل عقلي كذلك الأثمّ يذهب بالعقول وقال الآخر : نشرب الإثم بالصواع جهاراً ونرى السكر بيننا مستعارا {وَالْبَغْىَ} وهو الظلم {بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة وبرهاناً {وأن تقولوا على اللّه مالا تعلمون} تحريم الملابس والمأكل ٣٤{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} مدّة وأجل، وقيل : وقت حلول العقاب وأوّل العذاب. {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وإذا أنقطع أجلهم، وقرأ ابن سيرين آجالهم {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} لا يتأخّرون {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} لا يتقدّمون ٣٥{يَابَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} شرط معناه : إن أتاكم (عجزاً به) فمن بقى، وقيل فأطيعوه وقال : مقاتل : أراد بقوله يابني آدم لا تشركوا بالرب، وبالرسل محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وحده. {يقصون عليكم آياتي فمن اتّقى اللّه وأصلح} عمله ٣٦{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها} عن الإيمان بمحمد والقرآن {أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . ٣٧{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته أُولَاكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ} حظّهم بما كتبوا لهم في اللوح المحفوظ. وقال الحسن والسدي وأبو صلاح : ما كسب لهم من العذاب. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطيّة : ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة. وروى بكر الطويل عن مجاهد في هذه الآية قال : قوم يعملون أعمالا لابد من أن يعملوها ولم يعملوها بعد. قال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني أعمالهم وما كتب عليهم من خير أو شر، فمن عمل خيراً أُجزي به ومن عمل شراً أُجزي به. مجاهد عن ابن عباس قال : هو ما وعدو من خير وشر. عطيّة عن ابن عباس أنّه قال : ينالهم ماكتب لهم وقد كتب لمن يفتري على اللّه أن وجهه مسود، يدل عليه (قوله تعالى)، {وجوههم يومئذ مسودة} . قال الربيع والقرظي وابن زيد : يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت و (تم خرابها) {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} تعبدون من دون اللّه {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أنشغلوا بأنفسهم {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} أقروا {أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} قالوا : (شهدنا) على أنفسنا (بتبليغ الرسل) وغرّتهم الحياة الدنيا وشهدوا وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ٣٨{قل أدخلوا} يقول اللّه عزّ وجلّ لهم يوم القيامة ادخلوا {فِى أُمَمٍ} يعني مع جماعات {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَانسِ فِى النَّارِ} يعني كفار الأُمم الماضية {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنّه عنى بها الأُمّة فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، وكذلك النصارى النصارى والمجوس المجوس ويلعن الأتباع القادة يقولون : لعنكم اللّه أنتم غررتمونا يقول اللّه عزّ وجلّ {حتّى إذا أدركوا فيها} أي تلاحقوا {جَمِيعًا} قرأ الأعمش : حتّى إذا تداركوا، على الأصل، وقرأ النخعي : حتّى إذا أدركوا، مثقلة الدال من غير ألف أراد فنقلوا من الدرك. {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} قال مقاتل : يعني أُخراهم دخولاً للنار وهم الأتباع، {ولَاهُمْ} دخولاً وهم القادة. قال ابن عباس : (أُخراهم) يعني آخر الأُمم، (لأولاهم) يعني أوّل الأُمم، وقال السدي : أُخراهم يعني الذين كانوا في آخر الزمان. (لأولاهم) يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} عن الهدى. يعني الفساد {فَأَتَ اهُمُ} أي فأعطاهم {عَذَابًا ضِعْفًا فِى النَّارِ} أي مضعفاً من النار {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} من العذاب {وَلَاكِن لا تَعْلَمُونَ} حتّى يحل بكم ٣٩{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ خْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} لأنّكم كفرتم كما كفر به ونحن وأنتم في الكفر شرع سواء وفي العذاب أيضاً ٤٠{فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح} قرئ بالياء والياء والتشديد والتخفيف جميعاً {لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} يعني لا أرواحهم وأعمالهم لأنّها خبيثة فلا يصعد بل تهوى بها إلى (سجن) تحت الصخرة التي تحت الأرضين. روى أبو هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : إن الميت ليحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة، وأبشري بروح من اللّه وريحان ورب غير غضبان فيقولون ذلك حتّى تخرج ثمّ تعرج بها إلى السماء فينفتح لها فيقال : من هذا (فيقال : فلان) فيقولون : مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال : ذلك لها حتّى يعرج بها إلى السماء السابعة. وإذ كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتّى يخرج، ثمّ يعرج بها إلى السماء فتفتح لها فيقال : من هذا فيقولون فلان، فيقولون : لا مرحباً بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فيُرسل من السماء والأرض فيصير إلى القبر. {وَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} يعني يدخل البعير في ثقب الإبرة (وهذا مثل والسمّ) وهو الإبرة. وقرأ عكرمة و سعيد بن جبير : الجمل بضم الجيم وبتشديد الميم. وهو حبل السفينة ويقال لها الفلس قال عكرمة : هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل ٤١{وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم مهادٌ} فراش من نار {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} وهي جمع غاشية وذلك ما غشاهم وغطاهم وقال القرظي ومجاهد : هي اللحف {وَ كذلك نَجْزِى الظَّالِمِينَ} قال البراء : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يكسي الكافر لوحين من نار في قبره)، فذلك قوله {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} . ٤٢{والذين آمنوا وعموا الصالحات لا نكلّف نفساً إلاّ وسعها} أي طاقتها ومايسعها ويحلّ لها فلا تخرج منه ولا تضيق عليه ٤٣{أُولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون ونزعنا} وأخرجنا وأذهبنا {مَا فِى صُدُورِهِم} قلوبهم {مِّنْ غِلٍّ} وحقد وعداوة كان من بعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إخواناً على سرر متقابلين لا (يحسد) بعضهم بعض على شيء خص اللّه به بعضهم وفضلهم به، روى الحسن بن عليّ (رضي اللّه عنه) قال : فينا واللّه أهل البيت نزلت {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} . وقال عليّ كرّم اللّه وجهه أيضاً : (إنّي لا أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال اللّه {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم} الآية. وقال السدي : في هذه الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأُخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبداً. وروى الجزائري عن أبي نضرة قال : تحتبس أهل الجنّة حتّى تقتص بعضهم من بعض حتى يدخلوا الجنّة حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحداً علاقة ظفر ظلمها إياه وتحبس أهل النار دون النار حتّى تقتص لبعضهم من بعض يدخلون النار حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحداً بعلاقة ظفر ظلمها أياه {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِى هَدَ انَا لِ هذا} وفقنا وأرشدنا إلى هذا يعني طريق الجنّة وقال سفيان الثوري : معناه الحمد للّه الذي هدانا لعمل هذا ثوابه {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْ أَنْ هَدَ انَا اللّه} قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كل أهل النار يرى منزلة مَنْ بالجنّة فيقولون : لو هدانا اللّه نكون (من المؤمنين) وكل أهل الجنّة ترى منزلة من بالنار ويقولون : لولا أنّه هدانا اللّه فهذا شكرهم قال : وليس (هناك) من كافر ولا مؤمن إلاّ وله في الجنّة أو النار منزل (فإذا) دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار فدخلوا منازلهم رفعت الجنّة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة اللّه، ثمّ يقال : يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنّة منازلهم، ونودوا أن صحوا ولا تسقموا وأخلدوا فلا تموتوا وأنعموا ولا تيأسوا وشبّوا فلا تهرموا. ٤٤{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثواب {حَقًّا} صدقاً {فهل وجدتم ما وعدكم ربّكم} من العذاب {حَقًّا} (هذا قول محمد بن جرير) {قَالُوا نَعَمْ} قال الكسائي (نعم) بكسر العين وتجوز بإسكانها وهما لغتان {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ} فنادى مناد منهم {أَن لَّعْنَةُ اللّه عَلَى الظَّالِمِينَ} الكافرين ٤٥{الَّذِينَ يَصُدُّونَ} يصرفون {عَن سَبِيلِ اللّه} دين اللّه {ويبتغونها عوجاً} يطلبونها زيغاً وميلاً ٤٦{وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب} يعني بين الجنّة والنار حجاب حاجز وهو السور الذي ذكر اللّه عزّ وجلّ في قوله {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} . {وَعَلَى اعْرَافِ} يعني على ذلك الحجاب. والأعراف سور بين الجنّة والنار وهي جمع عرف وهو كلّ تل مرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ماسواه من جسده.لا وقال الشماخ : وظلت بأعراف تعالى كأنها رماح نحاها وجهة الريح راكز ويروى : بأعراف قفالاً، أي قفالى أي قفلى بعضهم بعضاً، بمشغرة نصف حمير، وشبّه (قوامها) بالرماح نحاها قصد بها وجهة الريح، أي جهة الريح، وقوله : بأعراف أي نشوز من الأرض. وقال آخر : كل كناز لحمها نياف كالعلم الموفي على الأعراف يعني كل كناز نياف لحمها والكناز الصلب. قال السدي : سمي أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال الحسين بن الفضل : هو الصراط، واختلفوا في الرجال الذين أخبر اللّه عنهم أنهم على الأعراف من هم وما السبب الذي من أجله صاروا هناك؟ فقال حذيفة وابن عباس : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم في سيّئاتهم وقصرت بهم سيّئاتهم عن الجنّة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتّى يقضي اللّه فيهم ما يشاء ثمّ يدخلهم الجنّة بفضل رحمته وهم آخر مَنْ يدخل الجنّة قد عرفوا أهل الجنّة وأهل النار، فإذا أراد اللّه أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه من الذهب مكلّلا باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتّى يصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بهم فأتى بهم فقال اللّه لهم : تمنوا ماشئتم فيتمنون متى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفاً فيدخلون الجنّة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنّة. قال ابن مسعود : يحاسب اللّه عزّ وجلّ الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيّئاته بواحدة دخل الجنّة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثمّ قرأ : {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفحلون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} ، ثمّ قال : الميزان يخفف بمثقال حبّة (فيرجح). ومَنْ استوت حسناته وسيّئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ولم ينزع منهم النور الذي كان في أيديهم. وروى يحيى بن (شبل) أنّ رجلا من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنّه سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن أصحاب الأعراف فقال : (هم رجال غزوا في سبيل اللّه عصاة لآبائهم فقتلوا فاعفوا من النار لقتلهم في سبيل اللّه وحبسوا عن الجنّة بمعصية أبائهم فهم آخر من (يدخل) الجنّة). قال شرحبيل بن سعيد : هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، وقال مجاهد : هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقال (التميمي) وأبو مجلن : هم ملائكة يعرفون أهل الجنّة وأهل النار فقيل لأبي مجلن يقول اللّه : {وَعَلَى اعْرَافِ رِجَالٌ} وتزعم أنت أنهم ملائكة، فقال : إنهم ذكور ليسوا بإناث، قال ابن عباس : هم رجال كانت لهم ذنوب كثيرة، وكان حبسهم أمر اللّه يقومون على الأعراف {يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَ اهُمْ} وروى (صالح مولى الكوفة) أنّ ابن عباس قال : أصحاب الأعراف أولاد الزنا. وقال أبو العالية : هم قوم يطمعون أن يدخلوا الجنّة وما جعل (اللّه) ذلك الطمع فيهم إلاّ كرامة يريدها بهم. وقال عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال : هم قوم رضي عنهم آبائهم دون أُمهاتهم أو أُمهاتهم دون آبائهم فلم يدخلهم اللّه الجنّة، لأن آباءهم وأُمهاتهم غير راضين عنهم ولم يدخلهم النار لرضا آبائهم أو أمهاتهم عنهم فيحبسون على الأعراف إلى أن يقضي اللّه عزّ وجلّ بين الخلق ثمّ يدخلهم الجنّة، وقال عبد العزيز بن يحيى (الكناني) : هم الذين ماتوا (بالفقر) ولم يبدلوا دينهم، وفي تفسير المنجوني : إنهم أولاد المشركين. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت محمد بن محمد بن الأشعب يحكي عن بعضهم أنهم أُناس عملوا للّه عزّ وجلّ ولكنهم راؤوا في أعمالهم فلا يدخلون النار لأنّهم عملوا أعمالهم للّه ولا يدخلون الجنّة لأنّهم طلبوا الثواب من غير اللّه فيوقفون على الأعراف إلى أن يقضي اللّه بين الخلق قوله : {يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَ اهُمْ} . وروى جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ {وَعَلَى اعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلَّا بِسِيمَ اهُمْ} قال : (الأعراف موضع عال (من) الصراط عليه العباس وحمزة، وعليّ بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يَعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغظيهم سواد الوجوه). وقوله : (يعرفون كلا بسيماهم) يعني يعرفون أهل الجنّة ببياض وجوههم ونظرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة عيونهم. {ونادوا أصحاب الجنّة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهو يطمعون} يعني أهل الأعراف. قال سعيد بن جبير : واللّه ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم لأن اللّه تعالى (.....)، ويود المنافقون وهم على الصراط لو بقي أحدهم ولم (.........). ٤٧{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ} (وجوه) أهل النار {أَصْحَابِ النَّارِ} وحيالهم تعوذوا باللّه {قَالُوا رَبَّنَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين في النار ٤٨{وَنَادَى أَصْحَابُ اعْرَافِ رِجَا} كانوا عظماء أهل النار جبّارين {يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَ اهُمْ قَالُوا مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} في الدنيا من المال و (الأولاد) {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان. وقال الكلبي : إنهم ينادون وهم على السور يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان. ثمّ ينظرون إلى الجنّة فيرون فيها الضعفاء والفقراء والمساكين ممن كانوا يستهزؤن بهم مثل سلمان وصهيب ووخبّاب وأتباعهم فينادون ٤٩{أَهَ اؤُءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} حلفتم وأنتم في الدنيا {لا ينالهم اللّه برحمته} يعني الجنّة ثمّ يقال لأصحاب الأعراف {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} . وقال مقاتل أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة بل يدخلون النار معهم. فقالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الصراط هؤلاء الذين يعني أصحاب الأعراف الذين أقسمتم يا أهل النار لا (يُكلّمهم) اللّه برحمة، ثمّ قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنّة. ٥٠{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا} (صبّوا) وأوسعوا {عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه} من طعام الجنّة {قَالُوا إِنَّ اللّه حَرَّمَهُمَا} يعني الماء والطعام {عَلَى الْكَافِرِينَ} قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس : أي الصدقة أفضل قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أفضل الصدقة الماء ألا رأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنّة قالوا أفيضوا علينا من الماء). ٥١{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الرديئة الدنيئة التي كانوا يفعلونها في جاهليتهم، والدين كل ما أطيع به والتزم من حق أو باطل، وقال أبو روق : دينهم أو عقيدتهم {وَغَرَّتْهُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَ اهُمْ} نتركهم في النار {كما نسوا لقاء يومهم هذا وماكانوا بآياتنا يجحدون}. ٥٢{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ} من القرآن {فَصَّلْنَاهُ} بيّناه {عَلَى عِلْم} منّا بذلك {هُدًى وَرَحْمَةً} نصبها على القطع ٥٣{لقوم يؤمنون هل ينظرون} ينتظرون {إِلا تَأْوِيلَهُ} أي ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار. قال قتادة : تأويله ثوابه. وقال مجاهد : جزاؤه. وقال السدي : عاقبة. وقال ابن زيد : حقيقته {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا} اليوم {مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ أَوْ نُرَدُّ} إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ} قال اللّه تعالى {قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ} زال وبطل ٥٤{عنهم ما كانوا يفترون إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} قال سعيد بن جبير : قدّر اللّه على مَنْ في السماوات والأرض في لمحة ولحظة وإنما خلقهن في ستة أيام تتنظيماً لخلقه بالرفق والتثبيت في الاسم {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال الكلبي ومقاتل : يعني استقر وقال أبو عبيد (فصعد) وقال بعضهم : استولى وغلب. وقيل : ملك وغلب، وكلّها تأويلات مدخولة لا يخفى (بعدها) وأمّا الصحيح والصواب فهو ماقاله الفراء وجماعة من أهل المعاني (إن أول ما) خلق العرش وعهد إلى خلقه يدل عليه قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ} أي إلى خلق السماء. وقال أهل الحق من المتكلمين : أحدث اللّه فعلا سماه استواء، وهو كالإتيان والمجيء والنزول (وهي) صفات أفعاله. روى الحسن عن أم سلمة في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والنزول به إيمان والجحود به كفر. عن محمد بن شجاع البلخي قال : سئل مالك بن أنس عن قول اللّه تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ قال : الكيف مجهول والاستواء غير معقول والإيمان واجب فالسؤال عنه بدعة. وروى محمد بن شعيب بن شابور عن أبيه أن رجلاً سأل (الأوزاعي) في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال : هو على العرش كما وصف نفسه، وإني لأراك رجلا ضالاً. وبلغني أن رجلاً سأل إسحاق بن الهيثم الحنظلي فقال : كيف استوى على العرش أقائم هو أم قاعد؟ فقال : يا هذا إنما يقعد من يمل القيام ويقوم من يمل القعود وغير هذا أولى لك ألاّ تسأل عنه. والعرش في اللغة السرير. وقال آخرون : هو ما علا وأظل، ومنه عرش الكرم، وقيل : العرش الملك. قال زهير : تداركتما الاحلاف قد ثل عرشها وذبيان قد زلت بأقدامها النعل {يَغْشَى} (يطمس) {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّه الَّذِى} مسرعاً {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات} أي مذلّلات {بِأَمْرِهِ} وقرأ أهل الشام بالرفع على الابتداء والخبر {ألا له الْخَلْقُ وَامْرُ} سمعت أبا القاسم (الحبيبي) يقول : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن نافع التاجر بهرات الشجري يقول : سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول : سمعت عبد الجبار ابن العلاء العطّار يقول : سألت سفيان بن عيينة عن قوله {ألا له الْخَلْقُ وَامْرُ} فقال : فرق اللّه بين الخلق والأمر ومَنْ جمع بينهما فقد كفر. وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَنْ لم يحمد اللّه على (ما عمل من) عمل صالح وحمد نفسه فقد قلّ شكره وحبط عمله، ومَنْ زعم أن اللّه جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل اللّه على أنبيائه لقوله تعالى {ألا له الْخَلْقُ وَامْرُ} ). وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، أنشدنا أبو المثنّى معاذ بن المثنى العنبري عن أبيه محمود بن الحسن الورّاق قال : إن للّه كل الأمر في كل خلقه ليس إلى المخلوق شي من الأمر {تَبَارَكَ اللّه} قال الضحاك : تبارك تعظم، الخليل ابن أحمد : تبارك تمجد، القتيبي : تفاعل من البركة، الحسين بن الفضيل : تبارك في ذاته وبارك فيمن شاء من خلقه ٥٥{ربّ العالمين أُدعوا ربّكم تضرّعاً} تذلّلا واستكانة {وَخُفْيَةً} سرّاً. وروى عاصم الأحول عن ابن عثمان الهندي عن أبي موسى قال : كان النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في غزاء فأ شرفوا على واد فجعل (ناس) يكبّرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (أيُّها الناس أربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصم ولا (غائباً) إنّكم تدعون سميعاً قريباً إنّه معكم). وقال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ثمّ قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وماشعر به جاره فالرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلّي الصلاة الطويلة في بيت وعنده الدور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدورن أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبداً. ولقد كان المسلمون (يجتهدون) في الدعاء ولا يسمع لهم صوتاً كأن كان إلا همساً بينهم وبين دينهم، وذلك أن اللّه تعالى يقول : (أُدعوا ربكم تضرعاً وخفية) وإن اللّه ذكر عبداً صالحاً ورضى فعله فقال عزّ مَنْ قائل : (فنادى ربّه نداءاً خفياً). {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء، قال أبو مجلن : هم الذين يسألون منازل الأنبياء، وقال عطيّة العوفي : هم الذين يدعونه فيما لا يحل على المؤمنين فيقولون : اللّهمّ أخزهم اللّهمّ ألعنهم، قال ابن جريج : من (الاعتداء) رفع الصوت والنداء بالدعاء والصفح وكانوا يؤمرون بالتضرّع والاستكانة ٥٦{ولا تفسدوا فِى الأرض} بالشرك والمعصية والدعاء إلى غير عبادة اللّه {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} بعد (اصلاح) اللّه إيّاها يبعث الرسل، والأمر بالحلال والنهي عن المنكر والحرام وكل أرض قبل أن يبعث لها نبي فاسدة حتّى يبعث الرسل إليها فيصلح الأرض بالطاعة. وقال عطيّة : معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك اللّه المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} قال الكلبي : خوفاً منه ومن عذابه وطمعاً فيما عنده من مغفرته وثوابه، الربيع بن أنس : {خَوْفًا وَطَمَعًا} كقوله {رَغَبًا وَرَهَبًا} . وقيل : خوف العاقبة وطمع الرحمة، ابن جريج : خوف العدل وطمع الفضل. عطاء : خوفاً من النيران وطمعاً في الجنان. ذو النون المصري : خوفاً من الفراق وطمعاً في التلاق {إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} وكان حقه قربته. واختلف النحاة فيه وأكثروا وأنا ذاكر نصوص ما قالوا. قال سعيد بن جبير : الرحمة هاهنا الثواب. وقال الأخفش : هي المطر فيكون القريب نعتاً للمعنى دون اللفظ كقوله تعالى {وإذا حضر القسمة أُولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} ولم يقل : منها، لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال. وقال {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} والصواع مذكّر لأنّه أراد به القسمة، والميراث (كالمنشريّة) والسقاية. وقال الخليل بن أحمد : القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع (يذكر ويؤنث) يقول الشاعر : كفى حُزناً أنّي مقيم ببلدةً أخلاّئي عنها نازحون بعيد وقال آخر : كانوا بعيداً فكنت آملهم حتّى إذا ما تقربواهجروا وقال آخر : فالدار منّي غير نازحة لكن نفسي ما كادت مواتاتي (وقال سيبويه) : لمّا أضاف المؤنث إلى المذكّر. أخرجه على مخرج المذكر، وقال الكسائي : إن رحمة اللّه قريب مكانها قريب كقوله : {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} أي أتيانها قريب. قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر وحق المصادر التذكير كقوله : {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} وقال الشاعر : إنّ السماحة والمرؤة ضيمنا قبراً بمروَ على الطريق الواضح ولم يقل : ضمنتا لأنّها مصدر. وقال أبو عمر بن العلاء : القريب في اللغة على ضربين قريب قرب (مقربه أبوابه) كقول العرب : هذه المرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وهذه المرأة قريب منك إذا كانت بمعنى المسافة والمكان. قال أمرؤ القيس : له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكر وقال أبو عبيدة : القريب والبعيد يكونان للتأنيث والتذكير واحتج بقول عروة بن الورد : خشيته لا عفراء منك قريبة فتدنوه ولا عفراء منك بعيد وقال أبو عبيدة : القريب والبعيد إذا كانا اسمين استوى فيهما المذكر والمؤنث وان بنيتهما على قَرُبت وبعدت فهي قريبة وبعيدة. ٥٧{وهو الذي يرسل الرياح بشراً} قرأ عاصم بُشراً بالباء المضمومة والشين المجزومة يعني أنّها تبشّر بالمطر يدلّ عليه قوله : {الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} . وروى عنه بُشُراً بضم الباء والشين على جمع البشير مثل نذير و (نذار). وهي قراءة ابن عباس. وقرأ غيره من أهل الكوفة نشراً بفتح النون وجزم الشين وهو الريح الطيبة اللينة. قال أمرؤ القيس : كان المدام وصوب الغمام وريح الخزامي ونشر القطر وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش، واختاره أبو عبيد لقوله : {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} وقرأ أهل الحجاز والبصرة نشراً بضم النون والشين واختاره أبو حاتم فقال : هي جمع نشور مثل صبور وصابر، وشكور وشاكر. وهي الرياح التي تهب من كل ناحية وتجيء من كل (وجه) وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن عامر نشراً بضم النون وجزم الشين على التخفيف. وقرأ مسروق (نشراً) بفتحتين أراد منشوراً (كالمقبض) والقبض {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} يعني قدّام المطر {حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ} حملت {سَحَابًا ثِقَا} المطر {سُقْنَاهُ} رد الكناية إلى لفظ السحاب {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} يعني إلى بلد. وقيل : معناه (لأجل) بلد لا نبات له {فأنزلنا فيها} أي السحاب وقيل : بالبلد {الْمَآءَ} يعني المطر، وقال أبو بكر بن عيّاش : لا تقطر من السماء قطرة حتّى يعمل فيها أربع : رياح الصبا تهيّجه والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور تفرّقة { كذلك نُخْرِجُ الْموْتَى} أحياء قال أبو هريرة وابن عباس : إذا مات الناس كلّهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاماً (يسقى) الرجال من ماء تحت العرش يُدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أُمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء حتّى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثمّ يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون {يا ويلنا مَنْ بعثنا من مرقدنا} فيناديهم المنادي {هذا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} . ٥٨{والبلد الطيّب يخرج نباتة بإذن ربّه} هذا مثل ضربه اللّه المؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب الزاكي يخرج نباته ريعة بإذن اللّه، فمثل الكافر كمثل الأرض الصبخة الخبيثة التي لا يُخرج نباتها (وغلّتها) {إِلا نَكِدًا} (أي عسيراً قليلاً بعناء) ومشقّة وقرأ أبو جعفر : (نكداً) بفتح الكاف أي النكد { كذلك نُصَرِّفُ الآيَاتِ} بينهما {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} . ٥٩{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وهو نوح بن ملك بن متوشلح بن اخنوخ، وهو إدريس بن مهلائيل بن يزد بن قيثان ابن انوش بن شيث بن آدم عليهم السلام، وهو أول نبي بعد إدريس وكان نجاراً بعثه اللّه عزّ وجلّ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة فقال لهم : {يا قوم اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره} قرأ محمد بن السميقع (غيره) بالنصب. قال الفراء : بعض بني (أسد وقضاعة أجاز نصب (غير) في كل موضع يحسن فيه (إلا)) تمّ الكلام قبلها أو لم يتم فيقولون : ما جاءني مشرك وما أتاني أحد غيرك. فأنشد الفضل : لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت حمامة في ذات أو قال وقال الزجاج : قد يكون النصب من وجهين : أحدهما الاستثناء من غير (جنسه). والثاني الحال من قوله {اعْبُدُوا اللّه} لأن (غيره) نكرة، وإن أضيف إلى المعارف. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي : {مالكم من إله غيره} بكسر الراء على نعت الإله، واختاره أبو عبيد ليكون كلاماً واحداً. وقرأ الباقون (غيره) بالرفع على وجهين : أحدهما : التقديم وإن كان مؤخّراً في اللفظ تقديره : مالكم غيره من إله غيره. والثاني أن يجعله نعت التأويل الاله لأن المعنى مالكم إله غيره {إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تؤمنوا ٦٠{عذاب يوم عظيم قال الملأ من قومه} يعني الأشراف والسادة، وقال الفراء : هم الرجال ليست فيهم امرأة {إِنَّا لَنَرَ اكَ فِي ضَلَالٍ} خطال وزوال عن الحق {مُّبِينٌ} يعني ظاهر ٦١{قال نوح ياقوم ليس بيّ ضلالة} ولم يقل : ليست لأن معنى الضلالة الضال، وقد يكون على معنى تقديم الفعل ٦٢{ولكنّي رسول من ربّ العالمين أُبلّغكم} قرأ أبو عمرو : وأُبلّغكم خفيفة في جميع القرآن لقوله : (لقد أبلغتكم رسالات ربّي)، وليعلموا أن قد أبلغوا رسالات ربهم. ولأن جميع كتب الأنبياء نزلت دفعة واحدة (منها) القرآن، وقرأ الباقون : أُبلّغكم بالتشديد واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لأنّها أجزل اللغتين، قال اللّه : {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} . {وَأَنصَحُ لَكُمْ} يقال (بتخفيفه) ونصحت له وشكرته وشكرت له {وأعلم من اللّه مالا تعلمون} من عقابه لا يرد عن القوم المجرمين ٦٣{أوعجبتم } الألف للإستفهام دخلت على واو العطف كأنه قال : إن أضعتم كذا وكذا {أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} يعني نبوّة الرسالة، وقيل : (معجزة وبيان). {عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ} عذاب اللّه إن لم يؤمنوا {وَلِتَتَّقُوا} (ولكي يتّقوا) اللّه {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكي تُرحموا ٦٤{فَكَذَّبُوهُ} يعني نوحاً {فَأَنجَيْنَاهُ} من الطوفان {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال ابن إسحاق : يعني بنيه الثلاثة، سام وحام ويافث وأزواجهم وستة أناس ممن كان آمن به وحملهم في الفلك وهو السفينة. وقال الكلبي : كانوا ثمانين إنساناً أربعون ذكوراً وأربعون امرأة {فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ} عن الحق جاهلين بأمر اللّه، وقال الضحاك : (عمينَ) كفّاراً. وقال الحسين بن الفضل : (عمين) في البصائر يقال : رجل عَمٍ عن الحق وأعمى في البصر. وقيل : العمي والأعمى واحد كالخضر والأخضر. وقال مقاتل : عموا عن نزول العذاب بهم وهو الحرث. ٦٥{وَإِلَى عَادٍ} يعني وأرسلنا إلى عاد فلذلك نصب {أَخَاهُمْ} وهو علاء بن عوص بن آدم ابن سام بن نوح وهو عاد الأولى {أَخَاهُمْ} في النسب لا في الدين {هُودٍ} وهو هود بن عبد اللّه بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وقال ابن إسحاق : هود بن (شالخ) بن أرفخشد بن سام بن نوح {قَالَ} لهم {ياقوم اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره أفلا تتّقون} اللّه فتوحدونه وتعبدونه ٦٦{قَالَ الملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَ اكَ فِي سَفَاهَةٍ} جهالة وضلالة (بتركك ديننا) {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} إنّك رسول اللّه إلينا وأن العذاب نازل بنا ٦٧-٦٨{قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين أُبلغكم رسالات ربّي وأنا لكم ناصح} أدعوكم إلى التوبة {أَمِينٌ} قال الضحاك : أمين على الرسالة، وقال الكلبي : قد كنت فيكم قبل ذلك (اليوم أميناً) ٦٩{أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم} يعني نفسه {لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} يعني أهلكهم (بشركاء منهم) {وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَصْطَةً} أي طولا وشدّة وقوّة. قال مقاتل : طول كل رجل أثنا عشر ذراعاً، ابن عباس : تمثّل ذراعاً وقال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعاً. أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعاً. ابن عباس : ثمانون، وهب : كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم {فَاذْكُرُوا ءَاءَ اللّه} نعم اللّه واحدها (إلْ وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأني) ٧٠{لعلّكم تُفلحون قالوا أجئتنا لنعبد اللّه وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} يعني العذاب ٧١{إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قال : قد وقع وجب ونزل {عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} أي عذاب (والسين مبدأ من الزاي) وغضب {أتجادلونني في أسماء سمّيتموها} وضعتموها على الأصنام (.....) يعبد ناراً {أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ} قبلكم {مَّآ أَنزَلَ اللّه بِهَا مِن سُلْطَانٍ} حجّة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب. ٧٢{إنّي معكم من المنتظرين فأنجيناه} يعني هوداً عند نزول العذاب. {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا} أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} وكانت قصّة عاد وهلاكهم على ماذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسّرين : إن عاداً كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج (ودمما وبيرين) ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلّها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم اللّه عزّ وجلّ وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون اللّه صنم يقال له : صنا، وصنم يقال له : صمود، وصنم يقال لها : الهبار. فبعث اللّه عزّ وجلّ إليهم هوداً نبيّاً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً وأمرهم أن يوحدوا اللّه ولا يشركوا معه إلهاً غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس (ولم) يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك. فأبوا عليه وكذّبوه وقالوا : مَنْ أشد منّا قوّة، وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر اللّه تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك اللّه المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك. وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى اللّه الفرج وطلبتهم إلى اللّه عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من اللّه عزّ وجلّ. وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سُمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له : معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت (الخبيري) رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد (وجمدوا) قال : جهزوا وفداً إلى (أن يستسقوا) لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير. وكان مسلماً يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة : ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ (عدّة فعدّهم) سبعين رجلاً فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجاً من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهراً، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال : هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي واللّه ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضِيق منّي ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم (جدباً) وعطشاً، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينيتيه الجرادتين فقالتا : اصنع شعراً نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك (يحرّكهم). فقال معاوية بن بكر : لعل اللّه يسقينا غماماً ألا يا قيل ويحك قم فهينم قد أمسوا لا يبينون كلاما فيسقي أرض عاد ان عاداً به الشيخ الكبير ولا الغلاما من العطش الشديد فليس نرجو فقد أمست نساؤهم عيامىً وقد كانت نسائهم بخير ولا يخشى لعادي سهاماً وإن الوحش يأتيهم جهاراً نهاركم وليلكم إلتماما وأنتم ههنا فيما أشتهيتم قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما فقبح وفدكم من وفد فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض : إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير : إنكم واللّه ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن (الخيبري) خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود (عليه السلام) : ذوي كرم وأُمك من ثمود أبا سعد فإنّك من قبيل ولسنا فاعلين لما تريد. فإنا لا نطيعك ما بقينا ورمل والصداء مع الصمود. أتأمرنا لنترك دين رفد ذوي رأي ونتبع دين هود ونترك دين آباء كرام ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخاً كبيراً : (احبسا) عنّا مرثداً بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا. ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال : لا أدعو اللّه عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له، فلما أنتهى إليهم قام يدعو اللّه وهم قد اجتمعوا يدعون اللّه ويقول : اللّهم أعطني سؤلي وحدي ولاتدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد : اللّهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان (قد تخلف) عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال : اللّهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل اللّه عزّ وجلّ طول العمر. فعمّر عمر سبعة أنسر. وقال : قيل بن عنز : (يا إلهنا) إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنّا قد هلكنا. وقال : اللّهمّ إنّي لم (أجىء) لمريض فأُداويه ولا لأسير فأُناديه، اللّهم اسق عاداً ما كنت تسقيه فأنشأ اللّه عزّ وجلّ له (سحائب) ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء : يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل : اخترتُ السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رماداً رمدداً، لا تبقى من عاد أحداً، لا والداً ولا ولدا، إلا جعلتهم همداً، إلا بني اللوذية المهدا. وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد. ونادى اللّه عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل : (فيها من النقمة) من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} يقول اللّه تعالى : {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيء بأمر ربّها} . وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها : مهدر، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت. فلما أفاقت قالوا : ماذا رأيت؟ قالت : رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها {سخّرها اللّه عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} أي دائمة فلم يدع من عاد أحداً إلاّ هلك. فاعتزل هود (عليه السلام) ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلاّ ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له : فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال : فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر : صدق ورب مكّة. وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل : بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلاّ أنّه لا سبيل إلى الخلود ولابد من الموت فقال مهد : اللّهم أعطني (برّاً وصدقاً) فأعطي ذلك. وقال لقمان : أعطني يارب عمراً، فقيل له : اختر لنفسك بقاء سبع بعراتسمر من أظب عفر في جبل وَعَر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع، وكان كل نسر يعيش مئتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه. وأما قيل : فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له : أنّه الهلاك فقال : لا أُبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك. عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : أوحى اللّه إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال (الخزان) يارب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى اللّه إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم (فرجعت) فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة. عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أُمامة الباهلي قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يبيت قوم من هذه الأُمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردةً وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون : لقد خسف الليلة (ببنيّ) فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عاداً بشربهم الخمور وأكلهم الربا وإتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام). وفي الخبر : أنّه أُرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم، قال السدي : بعث اللّه إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى (الإبل) والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها (بادروا) إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت، فلمّا أهلكهم اللّه أرسل عليهم طيراً سوداً فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلاّ مكيال إلاّ يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها. وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة : سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثباً أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال : نعم يا أمير المؤمنين، واللّه إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال : ولكنّي قد حُدّثت عنه، فقال الحضرمي : (وما شأنه) يا أمير المؤمنين؟ قال : فيه قبر هود صلوات اللّه عليه . عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيّاً وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة. وفي رواية أُخرى : وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون اللّه فيها حتّى يموتوا. ٧٣{وَإِلَى ثَمُودَ} قرأ يحيى بن وثاب : إلى هود بالصرف والتنوين. والباقون بغير الصرف وإنّما يعني : وإلى بني ثمود، وهو ثمود بن (عاد) بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو (جديس) وأراد ههنا القبيلة. قال أبو عمرو بن العلا : سُمّيت ثمود لقلّة مائها والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى {أَخَاهُمْ صَالِحًا} وهو صالح بن (عبيد) بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود {قال يا قوم اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره قد جاءتكم بيّنة من ربّكم} حجّة ودلالة من ربّكم على صدقي {هذه نَاقَةُ اللّه لَكُمْ} أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال : بيت اللّه. وقيل : أُضيفت إلى اللّه لأنّها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأُنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي {ءَايَةً} نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} العشب {فِى أَرْضِ اللّه ولا تمسوها بِسُوءٍ} ولا تصيبوها (بعقر) ٧٤{فيأخذكم عذاب أليم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم} أسكنكم وأنزلكم {فِى الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ} قرأ الحسن (وتنحتون) بفتح الحاء وهي لغة {مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} وكانوا ينقبون في الجبال البيوت ٧٥-٧٦{فاذكروا آلاء اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين قال الملأ الذين استكبروا من قومه} يعني الأشراف والقادة الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} يعني الأتباع {لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون ٧٧{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} نحروها {وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا} يعني العذاب {إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي من الصادقين ٧٨{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت. قال اللّه : {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} . قال الشاعر : وظلّت جمال القوم بالقوم ترجفُ ولمّا رأيت الحج قد آن وقته وقال الأخطل : كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه أما تريني (حناتي) الشيب من {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار. وقيل : أراد به الديار فوحد كقوله تعالى : {إن الإنسان لفي خُسر} ومعنى {جَاثِمِينَ} جامدين (مبتلين) صرعى هلكوا، وأصل الجاثمّ البارك على الركبة. قال جرير : مطايا القدر كالحدأ الجثوم عرفت المنتأى وعرفت منها ٧٩{فَتَوَلَّى} أعرض صالح عنهم وقال : {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تُحبّون الناصحين} وكانت قصّة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا : إن عاداً لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا، حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من (المدر) فينهدم والرجل منهم حي. فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتاً فنحتوهاوجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على اللّه وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير اللّه، فبعث اللّه إليهم صالحاً وكانوا فيها عرباً كان صالح من أوسطهم نسباً وأفضلهم موضعاً. فبعثه اللّه تعالى إليهم شابّاً فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلاّ قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالحٌ بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقاً لقوله، قال : أي آية تريدون؟ قالوا : نُريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا. فقال لهم صالح : نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود : يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها : الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل، فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتومنن به، قالوا : نعم. فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلاّ اللّه عزّ وجلّ عظماً وهم ينظرون ثمّ (نتجت) ثقباً مثلها في العظم.فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويُصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أُولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود : إلى دين النبيّ دعوا شهاباً وكانت عصبة من آل عمرو فهمَّ بأن يجيب ولو (أجابا) عزيز ثمود كلّهم جميعاً وما عدلوا بصاحبهم ذوءاباً لأصبح صالح فينا عزيزاً تولّوا بعد رشدهم ذئاباً ولكن الغواة من آل حجر فلما خرجت الناقة قال صالح (عليه السلام) : {هذه ناقة اللّه لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} ، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتاً فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرةً ماء فيها ثم ترفع رأسها (فتفسح) يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملأوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من (غير) الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها. قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً، حتّى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ماشاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة (وكانت) الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه. والمواشي تنفر منها إذا رأتها (تشتو) في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون (الجناب) وحسمى، كل ذلك ترعى مع واد الحجر. فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربّهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها. وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنّى أُم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر، وكانت عجوزاً مسنّة وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أُخرى يقال لها : صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له : وادي المحيا الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح (عليه السلام) وأعظمهم به كفراً، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له : صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها فأنفقه على مَنْ أسلم له من أصحاب صالح حتّى رق المال فاطلعت على ذلك (من) إسلام صدوف وحاسبته على ذلك.لا فأظهر لها دينه فدعاها إلى اللّه وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي (هي) منه وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها : ردي عليَّ ولدي، فقالت : حتّى أُنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني (جندع) بن عبيد، فقال لها صنيم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين. فقالت : لا أُنافرك إلاّ إلى مَنْ دعوتك إليه. فقالت بنو مرداس : واللّه لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم. ثم إنّ صدوف وعنيزة تحيّلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له (الحبّاب) لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك (فأبى) عليها فدعت ابن عم لها يقال له : مصدح بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وجهاً وأكثرهم مالاً فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح وذكره رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه) واسم أُمّه قدير. وكان رجلا أحمراً أزرقاً قصيراً يزعمون أنّه كان لزنية من رجل يقال له : صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت : أعطيك أيَّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزاً منيعاً في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزير من أهل حجر (ودعيت) بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة. وقال السدي وغيره : أوحى اللّه تعالى إلى صالح (عليه السلام) أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك. فقالوا : ماكنّا لنفعل ذلك. فقال صالح : إنّه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا : لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلاّ قتلناه. قال : فولد لهم تسعة في ذلك الشهر. فدعوا أبناءهم ثمّ ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتاً سريعاً، وكان إذا مرّ بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح، لأنّه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا باللّه لنبيتنّه وأهله قالوا : نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى (سفرنا) فنأتي الغار فنكون فيه حتّى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار فكنّا فيه ثمّ رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنّا لصادقون يصدّقوننا يعلمون إنّا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح (صلى اللّه عليه وسلم) لا ينام معهم في القرية. وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل. فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلمّا دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من (الجبل) سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممّن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد اللّه أما رضي صالح (بأن) أمرهم بقتل أولادهم حتّى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق : إنّما كان تقاسم التسعة على قتل صالح (صلى اللّه عليه وسلم) بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب. ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا : هلّم فلنقتل صالحاً وإن كان صادقاً عجّلنا قتله، وإن كان كاذباً قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلمّا أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رُضخوا بالحجارة فقالوا لصالح : أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح. وقالوا لهم : واللّه لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أنّ العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقاً لم تزيدوا ربّكم إلاّ غضباً وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك. قال السدي وغيره : فكان شر مولود يعني قدار وكان يشبَّ في اليوم شباب غيره في الجمعة. ويشبّ في الشهر شباب غيره في السنة فلمّا كبر جلس مع أُناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة. فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدّتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنّا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيراً لنا، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم؟ قالوا : نعم. وقال كعب : كان سبب عقرهم الناقة أنّ امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلمّا أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدّار بن سالف ولامرأة أُخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا : إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما : إن الملكة حزينة لأجل الناقة و لأجل صالح فنحن لا نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلمّا أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا : يكون من وراء عقرهما. وقال ابن إسحاق وغيره : فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرّت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرّت لقدار ثمّ دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثمّ طعن في لبّتها فنحرها. وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلمّا رأى سقبها ذلك انطلق حتّى أتى جبلا منيعاً يقال له صور، وقيل : اسمه قارة، وأتى صالح فقال له : أدرك الناقة قد عُقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يانبي اللّه إنّما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال صالح (عليه السلام) : أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يُرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى اللّه عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول في السماء حتّى لا تناله الطير. وجاءَ صالح (عليه السلام) فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغا رغوة ثم رغا أُخرى ثم رغا أُخرى. فقال صالح (عليه السلام) : لكل رغاة أجل يومكم تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. وقال ابن إسحاق : أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه داب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثمّ جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أُمّه. فقال لهم صالح : انتهكتم حرمة اللّه تعالى فأبشروا بعذاب اللّه ونقمته، فقالوا له وهم يهزأون به : ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكان يسمّون الأيام فيهم الأحد الأوّل والأثنين أُميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار. وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح (عليه السلام) حين قالوا ذلك : تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار ووجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هارباً حتّى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال له : بنو غنم، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له : نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه، وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه. فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي اللّه إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال : نعم، فدلّهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك، فقال : نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل اللّه عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل، فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة كأنّما خُضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب. فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طُليت بالنار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب. فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح (عليه السلام) من بين أظهرهم ومَنْ أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم (الإنطاع) ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مّرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب. فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل (شيء) له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ هلك كما قال اللّه تعالى : {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} إلاّ جارية منهم مقعدة يقال لها : ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح (عليه السلام) فأطلق اللّه عزّ وجلّ لها رجلها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط حتّى أنت قزح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما (عاينت) من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ أستسقت من الماء فسُقيت فلمّا شربت ماتت. وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال : لمّا أُمر النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : (لا يدخلن أحدّكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلاّ أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم). ثمّ قال : (أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث اللّه عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوماً فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك اللّه مَنْ (تحت) أديم السماء منهم إلاّ رجلاً واحداً كان في حرم اللّه). قيل : من هو؟ قال : (أبو رغال). فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه (فدفن ههنا) ودُفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثمّ قبع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي. قال أهل العلم : توفي صالح (عليه السلام) بمكّة وهو ابن ثمان وخمسين (سنة فلبث) في قومه عشرين سنة. عن الضحاك بن مزاحم قال : قال رسول اللّه (عليه السلام) : (يا عليّ أتدري مَنْ أشقى الأوّلين؟) قال : قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (عاقر الناقة). قال : (أتدري مَنْ أشقى الآخرين؟) قال : اللّه ورسوله أعلم. قال : (قاتلك). ٨٠{وَلُوطًا} يعني وأرسلنا لوطاً وقيل معناه : واذكر لوطاً. وهو لوط بن (هاران) بن تارخ أخي إبراهيم (عليه السلام) {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} وهم أهل سدوم، وذلك أنّ لوطاً شخص من أرض بابل مع عمّه إبراهيم (عليه السلام) مؤمناً به مهاجراً معه إلى الشام فنزل إبراهيم (عليه السلام) فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطاً الأردن فأرسل اللّه إلى أهل سدوم فقال لهم : {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} يعني إتيان الذكران {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} قال عمرو بن دينار : ما كان يزني ذكر على ذكر في الدنيا حتّى كان قوم لوط ٨١{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} (في أدبارهم) {شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ} يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} مشركون (تبدّلون) الحلال إلى الحرام. قال محمد بن إسحاق : كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ قال : إن (عضلتم) بهم كلهم أنجوتكم منهم فأبوا، فلما ألحّ الناس عليهم فعبدوهم فأصابوا غلماناً صباحاً فأخبثوا وأستحكم فيهم ذلك. وقال الحسن : كانوا لا ينكحون (إلاّ الرجال) وقال الكلبي : أوّل مَنْ عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثّل لهم إبليس في صورة شاب ثمّ دعا (في) دبره فنُكح في دبره ثمّ عتوا بذلك العمل فأكثر فيهم ذلك فعجّت الأرض إلى ربّها فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها فسمع العرش فعجّ إلى ربّه فأمر اللّه السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم ٨٢{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} إذا قال لهم ذلك {إِلا أَن قَالُوا} قال بعضهم لبعض {أَخْرِجُوهُم} لوطاً وأهل دينه {مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزّهون ويتحرّجون عن أتيان أدبار الرجال وأدبار النساء ٨٣{فَأَنْجَيْنَاهُ } يعني لوطاً {وَأَهْلَهُ} المؤمنين به، وقيل : وأهله بنتاه : نعوذا وديثا. {إِلا الأمر أَتَهُ} فاعلة فإنّها {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} يعني الباقين في العذاب وقيل : معناه : كانت من الباقين والمعمّرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهراً طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس. فهلكت مع مَنْ هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب. وإنّما قال : (الغابرين) ولم يقل : الغابرات لأنه أراد أنّها ممّن بقى مع الرجال فلمّا ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل : الغابرين. وقيل : له غبر يغبر غبوراً، وغبر إذا بقي. قال الشاعر : وأبي الذي فتح البلادبسيفه فأذلّها لبني أبان الغابر يعني الباقي. وقال أبو ذؤيب : وغبرت بعدهم بعيش ناصب وإدخال أنّي لاحق مستتبع ٨٤{فأمطرنا عليهم مطراً} يعني حجارة من سجّيل {فانطر كيف كان عاقبة المجرمين} وسنذكر القصّة بتمامها في موضعها إن شاء اللّه. وروى أبو اليمان بن الحكم بن نافع الحمّصي عن صفوان بن عمر قال : كتب عبد الملك ابن مروان إلى ابن حبيب قاضي حمص سأله كم (عقوبة) اللوطي فكتب أن عليه أن يُرمى بالحجارة كما رجُم قوم لوط فإن اللّه تعالى قال : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا} وقال : {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} فقبل عبد الملك ذلك منه وأستحسنه. وروى عكرمة عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل والمفعول به). وقال محمد بن المنكدر : كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر أنّه وجد رجلا في بعض قوافل العرب يُنكح كما تُنكح المرأة فشاور أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأشهدهم في ذلك عليه، فاجتمع عليهم على أن يُحرقوه فأحرقوه. ٨٥{وَإِلَى مَدْيَنَ} يعني وأرسلنا إلى بني مدين بن إبراهيم خليل اللّه وهم أصحاب الأيكة. وقال قتادة : أرسل مرّتين إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} قال قتادة : هو شعيب بن (نويب) وقال عطاء : هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأُمّه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى. ويقال : إنّه خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر يكفرون باللّه وبخس المكيال والميزان فقال لهم {ياقوم اعبدوا اللّه مالكم من إله غيره قد جاءتكم بيّنة من ربّكم} (يعني يجي) شعيب {فَأَوْفُوا} فأتمّوا {الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ولا تبخسوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ} ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوها (إياهم) {ولا تفسدوا فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} كانت الأرض قبل أن يُبعث إليها شعيباً رسولا يُعمل فيها بالمعاصي ويُستحلّ فيها المحارم ويُسفك فيها الدماء بغير حقّها فذلك فسادها، فلمّا بُعث إليها شعيباً ودعاهم إلى اللّه صلحت الأرض وكلّ نبيّ بُعث إلى قومه فهو يدعوهم لإصلاحهم الذي ذكرت لكم وأمرتكم به. ٨٦{خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مصدّقين بما أقول {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ} (يعني) في هذا الطريق كقوله : {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . {تُوعَدُونَ} تُهددون {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه} دين اللّه {مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} زيغاً وذلك أنّهم كانوا يجلسون على الطرق فيُخبرون مَنْ قصد شعيباً ليُؤمن به إنّ شعيباً كذّاب. فلا يفتنّنك عن (ذلك) وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوّفونهم. قال السدي وأبو روق : كانوا (جبّارين). قال عبد الرحمن بن زيد : كانوا يقطعون الطريق. وقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (رأيت ليلة أُسري بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلاّ شقّته ولا شيء إلاّ خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل؟ قال : هذا مثل أقوام من أُمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثمّ تلا : {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} . {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} (فكثّر بينكم) {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} يعني آخر قوم لوط ٨٧-٨٨{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ} إلى قوله تعالى {قَالَ الملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ} يعني الروءساء الذين تعالوا عن الإيمان به {لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملتنا} لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه وتدعون دينكم. قال شعيب : {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} لذلك يعني ولو كنّا كارهين لذلك تجبروننا عليه فأُدخلت الف الاستفهام على ولو ٨٩{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّه كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّه مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} نرجع إليها بعد إذ أنقذنا اللّه منها {إِلا أَن يَشَآءَ اللّه رَبُّنَا} تقول إلاّ أن يكون سبق لنا في علم اللّه ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء اللّه فينا (وينفذ) حكمه وعلمه علينا {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن {عَلَى اللّه تَوَكَّلْنَا} فيما تتوعدوننا به. واختلف العلماء في معنى قوله {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} وقوله {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ} فقال بعضهم : معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل (إلاّ) إن يشاء اللّه ربّنا فيضلنا بعد إذ هدانا. وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري بها يقول : إنّ عدنا في ملّتكم أي صرنا، لا أن نعود، يكون ابتداء ورجوعاً. قال أُميّة بن أبي الصلت : تلك المكارم لا قعبان من لبن شيباً بماء فعادا بعد أبوالا أي صار الآن اللبن، كأن لم تكن قط بولا. وسمعت (الحسين بن الحبيبي) قال : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه : إذ نجّانا اللّه منها في سابق علمه وعند اللوح والقلم. وقال بعضهم : كان شعيب ومَنْ آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثمّ أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} حسبوا أنّهم على ملّتهم (قيل : من هو معه) على أصحاب شعيب دون شعيب لأنّهم كانوا كفّاراً ثمّ آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه، لأن شعيباً لم يكن كافراً قط وإنّما ناوله الخطاب في أصناف مَنْ فارق دينهم إليه. ورأيت في بعض التفاسير أن الملّة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوّته فلمّا (نُبّئ) فارقهم. ثمّ دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} أي اقض. وقال (المؤرخ) : افصل. وقال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها : تعال أفاتحك أي أقاضيك . وقال الفراء : أهل عمان يسمّون القاضي الفاتح والفتّاح. وذكر غيره أنّه لغة مهاد. فأنشد لبعضهم : ألا أبلغ بني عصُم رسولا بأنّي عن فتاحتكم غنيّ ٩٠أي حكمكم. {وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} يعني الحاكمين {وَقَالَ الملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَ نِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} وتركتم دينكم {إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} قال ابن عباس : مغبونون. قال عطاء : جاهلون. قال الضحاك : فجرة. ٩١{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} قال الكلبي : الزلزلة. قال ابن عباس : وغيره من المفسّرين : فتح اللّه عليهم باباً من أبواب جهنم فأرسل عليهم ريحاً وحرّاً شديداً، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فبعث اللّه عزّ وجلّ سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح بطيبها وظل السحابة فتنادوا عليكم بها فخرجوا إلى البريّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها اللّه عليهم ناراً ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجرّاد المعلّى وصاروا رماداً وهو عذاب يوم الظلّة، وذلك قوله : {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميّتين قال أبو العالية : ديارهم منازلهم، وقال محمد بن مروان : كل شيء في القرآن (دارهم) فهو (مرغمهم) وكلّ شيء (درياهم) فهو عساكرهم. قال ابن إسحاق : بلغني أن رجلاً من أهل مدين يُقال له عمر بن (جلهاء) لمّا رأى الظلّة فيها الغضب. قال : يا قوم إن شُعيباً مُرسلٌ فذروا عنكم سُميراً أو عمران بن شداد إني أرى غيمة ياقوم طلعت دعو بصوت على صمانة الوادي، فإنّكم إن تروا فيها ضحاة غد إلاّ الرقيم يمشي بين أنجاد وسُميراً وعمران : كاهناهم راعيين، والرقيم كلباً لهما. قال أبو عبد اللّه البجلي : أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت : أسماء ملوك وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب. فقالت أخت كلمون تبكيه : كلمون هدَّ ركني هلكه وسط المحله سيّد القوم أتاه الحتف ناراً وسط ظلة. جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة. ٩٢{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا، وأصله من قولهم غنيّة بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد : وغنيت ستاً قبل مجرى داهس لو كان للنفس اللجوج خلود وقال حاتم : غنينا زماناً للتصعلك والغنى فكلا سقانا بكأسيهما الدهر {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} لا المؤمنون كما زعموا ٩٣{فَتَوَلَّى} أعرض {عَنْهُمْ} شعيب (بن شامخ) من أظهرهم حين أتاهم العذاب {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربّي ونصحتُ لكم فكيف آسى} (أحزن) {عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} حين يُعذّبون، يقال : آسيتم آسي أسىً. قال الشاعر : آسيت على زيد ولم أدر ما فعل والأسى الحزن (والأسى) الصبر. ٩٤{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ} فيه اضمار واختصار يعني فكذبّوه {إِلا أَخَذْنَآ} عاقبنا {أَهْلِهَآ} حين لم يُؤمنوا {بِالْبَأْسَآءِ} يعني بالبؤس الشدّة وضيق العيش {وَالضَّرَّآءِ} تعني أضر وهو الحال. وقيل : المرض والزمناء قال : السدي البأساء يعني الفقر والجوع {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} لكي يتضرعوا (فينيبوا) ويتوبوا ٩٥{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} وهي البأساء والجواب والجوع {الْحَسَنَةَ} يعني النعمة والسعة والرخاء والخصب {حَتَّى عَفَوا} أي كثروا وأثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، قال ابن عباس : (عفوا) يعني (جهدوا)، وقال ابن زيد : يعني كثروا كما يكثر النبات والريش. قال قتادة : (حتّى عفوا) : سروا بذلك، وقال مقاتل بن حيان : (عفوا) حتى كثروا وتركوا ولم يستكثروا وأصله من الكثرة. وقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى). وقال الشاعر : يقول من بعد أُولاك أولات أتوا زماناً ليس عندهم بعيد وقال آخر : ولكنا نعض السيف منها بأسوق عافيات الشحم كوم {وَقَالُوا} من جهلهم وغفلتهم {قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ} فنحن مثلنا فقال اللّه تعالى {فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً} (فجأة عِبرة لمن بعدهم). {وَهُمْ يَشْعُرُونَ} بنزول العذاب ٩٦{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا} يعني وحدوا اللّه وأطاعوه {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ} يعني المطر {والأرض} يعني النبات، وأصل البركة المواضبة على الشيء تقول : برك فلان على فلان إذا (أجابه، وبركات الأرض أي) تابعنا عليهم بالمطر والنبات والخصب ورفعنا الحرث والقحط {وَلَاكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم} فجعلنا لهم العقوبات {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة. ٩٧{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} الذين كفروا وكذّبوا {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ} آمنون. ٩٨{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى} نهاراً {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لاهون. ٩٩{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللّه فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ومعني (مكر) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم. قال قتادة : مكر اللّه استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم، وقال عطيّة : يعني أخذه وعذابه، وحكى (الشبلي) أنه سئل عن مكر اللّه فأجاب بقول محبتك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبقَ حبك لي حراكاً ومقبح من موالد ليفع ل سنتي ويفعله فيحسن فقال السائل : اسأله عن آية من كتاب اللّه ويجيبني من الشعر فعلم الشبلي أنه لم يفطن لما قال، فقال : يا هذا (....) إياهم على ما هم فيه. ١٠٠{أَوَلَمْ يَهْدِ} قرأ أبو عبد الرحمن وقتادة ويعقوب في رواية زيد (نهد) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على (التفريد) {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ} يستخلفون في {الأرض} بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا بسيرتهم (....) ربّهم {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُم} أهلكناهم {بِذُنُوبِهِمْ} بما أهلكنا من قبلهم {وَنَطْبَعُ} نختم {عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ يَسْمَعُونَ} الهدى ولا يقبلون الموعظة ١٠١{تِلْكَ الْقُرَى} هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا} نخبرك أخبارها {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} (بالآيات والعلامات والدلالات) {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ} اختلف في تأويله. قال أُبي بن كعب : معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجئ الرسل بما سبق في علم اللّه أنّهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم. وقال ابن عباس والسدي : يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتّى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب. وقال مجاهد : معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله {ولو ردّوا لعادوا لم نهو عنه} وقال يمان بن رئاب : هذا معنى أنّ كلّ نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأُمم الكفار بل كذّبوا كما كذب نظير قوله {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به}. وقيل : معناه : {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فما كانوا ليؤمنوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بما كذبوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله {قد سألها قوم من قبلكم فأصبحوا بها كافرين} {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِايَاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} . { كذلك يَطْبَعُ اللّه عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك ١٠٢{وَمَا وَجَدْنَا كْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} يعني وفاء بالعهد، والعهد الوصية {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} أي ما وجدنا أكثرهم إلاّ فاسقين ناقضين العهد. ١٠٣{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} أي من بعد قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب {مُّوسَى بِآيَاتِنَآ } بحجّتنا وأدلّتنا {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} فجحدوا وكفروا {بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وكيف فعلنا بهم ١٠٤{وَقَالَ مُوسَىا} لمّا دخل على فرعون واسمه قابوس في قول أهل الكتاب. قال وهب : كان اسمه الوليد بن مصعب بن الربان وكان من القبط وعَمّرَ أكثر من أربعمائة عام وقال موسى : {يا فرعون إني رسول من رب العالمين} إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى : ١٠٥{حَقِيقٌ عَلَىا أَن أَقُولَ عَلَى اللّه إِلا الْحَقَّ} يعني أنا (خليق) بأن لا أقول على اللّه إلاّ الحق، فعلى بمعنى الباء، كما يقال : رميت بالقوس على القوس وجاءني على حال حسنة وبحالة حسنة يدل عليه، (قول الفراء) والأعمش : حقيق بأن لا أقول. وقال أبو عبيدة : معناه حريص على أن لا أقول على اللّه إلاّ الحق، وقرأ شيبة ونافع : حقيق على تشديد الياء يعني حق واجب عليَّ ترك القول على اللّه عزّ وجلّ إلاّ الحق. {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} يعني العصا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول : إنّه تعريض يقول : لحقيق مصرف الخطاب و{حَقِيقٌ} (فعيل) من الحق يكون بمعنى القائل {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بنى إسرائيل} أي اطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة. قال وهب : وكان سبب استعباد فرعون بني إسرائيل أنّ فرعون حاجّ (موسى) وكان (أشد من) فرعون يوسف (........) في يوسف (وانقرضت) الأسباط عليهم فرعون فاستعبدهم فأنقذهم اللّه بموسى. قال : وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخل موسى رسولاً أربعمائة عام ١٠٦-١٠٨{قَالَ} فرعون مجيباً لموسى {إن كنت جئت بآية فأتِ بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه} من يده {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} . قال ابن عباس والسدي : كانت (عظيمة ذكراً) من الحيات، إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين وقد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها ذراعاً واضع لحية الأسفل في الأرض الأعلى على سور القصر، حتى رأى بعض من كان خارج مدينة مصر رأسها. ثمّ توجهت نحو فرعون لتبتلعه فوثب فرعون من سريره وهرب منها فأحدث ولم يكن حدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا وحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت. ثمّ قال له فرعون : هل معك آية أُخرى، قال : نعم، فأدخل يده في جيبه ثمّ نزعها فأخرجهابيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس، وكان موسى أدم ثمّ أدخلها جيبه فصارت يداً كما كانت. ١٠٩{قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخداعه إيّاهم حتّى تخيّل إليهم العصا حيّة والأدم أبيض (يري الشيء) بخلاف ما هو به، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحراً والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنّه يري الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب وساحرة العيون من الموامي ترقص في نواشزها الأروم ١١٠{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} (من القبط) {مِّنْ أَرْضِكُم} مصر {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله {الآن حصص الحق} {أنا راودته عن نفسه وإنّه من الصادقين ذلك ليعلم أنّي لم أخنه بالغيب} هذا من كلام يوسف ولم يذكر ١١١{قَالُوا أَرْجِهْ} أحبسه {وَأَخَاهُ} هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما، وقال عطاء : احبسه وهذا أعجب إليّ لأنّه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد. {وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآنِ حَاشِرِينَ} يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا (حزّ به أمر) أرسل. ١١٢{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامّة كل ساحر. والفرق بين الساحر والسحّار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم. وقال المؤرخ : الساحر من سحره في وقت دون وقت، والسحار من قديم السحر. قال : فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر. قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي : قال فرعون لمّا رأى من سلطان اللّه في العصا ما رأى : إنا لا نغالب موسى إلاّ بمَنْ هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلّمونهم السحر كما يعلّم الصبيان الكتابة في المكتب فعلّموهم سحراً كثيراً وواعد فرعون موسى موعداً، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت؟ قال : قد علمتهم سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلاّ أن يكون أمر من السماء فإنّه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون الشرطي في (مملكته) فلم يترك في سلطانه ساحراً إلاّ أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون. فقال مقاتل : كان السحرة اثنين وسبعين ساحراً اثنان فيهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل. وقال الكلبي : كانوا سبعين ساحراً غير رئيسهم وكان الذين يعلّمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب : كانوا اثني عشر ألفاً. قال السدي : كانوا بضعة وثلاثين. عكرمة : سبعين ألفاً، ابن المنكدر : ثمانين ألفاً فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم، وقاله ابن جريج، ١١٣فلمّا أجتمع السحرة {قَالُوا} لفرعون {إِنَّ لَنَا جْرًا} أي جعلاً وثواباً. ١١٤{إنّ كنّا نحن الغالبين قال} فرعون {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} في المنزلة عندي. قال الكلبي : أوّل مَنْ يدخل عليّ وآخر مَنْ يخرج ١١٥{قَالُوا} يعني السحرة. {يا موسى إمّا أن تُلقي وأمّا أن نكون نحن الملقين} بعصيّنا (وحبالنا). ١١٦{قَالَ} موسى {أَلْقُوْا فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} أي أرعبوهم وأفزعوهم {وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وذلك أنّهم ألقوا حبالاً وعظاماً وخشباً طوالاً فإذا هي حيّات كالجبال قد ملأت الوادي (يأكل) بعضهم بعضاً. ١١٧{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ} تبتلع، ومَنْ قرأ تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير : تلقم من لقم يلقم. {مَا يَأْفِكُونَ} يُكذّبون، وقيل : يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله : ١١٨{فَوَقَعَ الْحَقُّ} أي ظهر. قال النضير بن شميل : فوقع الحق أي فزعهم وصدّعهم (كوقع الميقعة) {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من السحر ١١٩{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} وبطل ما كانوا يعملون {وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} ذليلين ومقهورين. ١٢٠{وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} للّه حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحراً، وقيل : ألهمهم اللّه ذلك، وقال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا ١٢١{قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فقال فرعون : إياي تعنون فقالوا ١٢٢{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} . قال عطاء : فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأُمّهما (دلّينا) على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا : إن الملك وجه إلينا رسولاً أن نقدم عليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما (عزّ ومنعة) وقد ضاق الملك ذرعاً من عزّهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما (شيء) تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما : انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلاّها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل. قال موسى للساحر الأكبر : تؤمن بيّ إن غلبتك فقال لآتينَ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأؤمنن بك وفرعون ينظر ١٢٣{قَالَ} لهم فرعون حين آمنوا {ءَامَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ} صنيع وخديعة {مَّكَرْتُمُوهُ} صنعتموه أنتم وموسى {فِى الْمَدِينَةِ} في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع. {لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا} بسحركم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أفعل بكم. ١٢٤{لأُقطّعن أيديكم من خلاف} وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير : أوّل مَنْ قطع من خلاف فرعون {ثُمَّ صَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} على شاطئ نهر مصر ١٢٥{قَالُوا} يعني السحرة لفرعون {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون في الآخرة ١٢٦{وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} قرأ العامّة بكسر القاف. وقرأ الحسن وابن (المحيصن) بفتح القاف وهما لغتان نقَم ينقَم ونقم ينقِم. قال الشاعر : وما نقموا من بني أميّة إلا أنّهم يحلمون إن غضبوا وقال الضحاك وغيره : يعني وما يطعن علينا. قال عطاء : ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروهاً تعذّبنا عليه {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَن ْ ءَامَنَّا بِآيَاتِ} ثمّ (فزعوا) إلى اللّه عز وجل فقالوا {رَبَّنَآ أَفْرِغْ} اصبب {عَلَيْنَا صَبْرًا} أُصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفاراً {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وآخره شهداء بررة. ١٢٧{وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ} أتدع {مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا} كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك {فِى الأرض} في أرض مصر {وَيَذَرَكَ} يعني وليذرك. وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنّه قرأ ويذرك بالرفع والنون، (أخبروا) عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حياً فيصرفهم عنّا. وقرأ الحسن (ويذرك) بالرفع على تقدير المبتدأ، أي وهو يذرك، فلا نعبدك ولا نعبدها. قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، ولذلك أخرج السامري لهم عجلاً. وروى عمرو عن الحسين قال : كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه. وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : كان فرعون يصنع لقومه أصناماً صغاراً ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم : أنا رب هذه الأصنام، وذلك قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى} . قال أبو عبيد : وبلغني عن الحسن أنه قيل له : هل كان فرعون يعبد شيئاً؟ قال : نعم كان يعبد تيساً. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد اللّه (الشعبي) والضحاك وابن أبي إسحاق : إلهتك بكسر الألف أي (إلهك) فلا يعبدك كما تعبد. قالوا : لأن فرعون كان يُعبد ولا يَعبد. وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها. قال (عيينة) بن (شهاب) : تروحنا من الأعيان عصراً فأمحلنا الآلهة أن تؤوبا بمعنى الشمس {قَالَ} يعني فرعون سنقتل أبنائهم بالتشديد على التكثير. وقرأ أهل الحجاز بالتخفيف {وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} غالبون. قال ابن عباس : كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنّه يولد مولود يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتّى أتاهم موسى (عليه السلام) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) فعند ذلك ١٢٨{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّه وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرض للّه} يعني أرض مصر {يُورِثُهَا} يُعطيها {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} وقرأ الحسن يورثها بالتشديد والاختيار والتخفيف لقوله تعالى وأورثنا الأرض {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} يعني النصر والظفر، وقيل : السعادة والشهادة، وقيل : الجنّة. وروى عكرمة عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة اتّبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل ١٢٩{قَالُوا} يعني قوم موسى {أُوذِينَا} بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير. {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} بالرسالة {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل. قال وهب : كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد (.......) أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله. وطائفة أُخرى قد (قرحوا) من ثقل الحجارة وسير (الليل) له، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس، قيل : وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهراً، وأما النساء فيقرن اختان وينسجنه فقال موسى (عليه السلام) لهم {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فرعون {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض} ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} يعني مصر والشام {الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ (.....). ١٣٧-١٤١(.......) فأورثهم ذلك بمهلك أهلها من العمالقة والفراعنة. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} يعني تمت كلمة اللّه وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض. وذلك قوله عز وعلى {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الأرض} إلى قوله {ما كانوا يخلدون} . وقيل : معناه (رحبت) نعمة ربّك الحسنى {عَلَى بنى إسرائيل} يعني أنهم مجزون الحسنى يوم القيامة {بِمَا صَبَرُوا} على دينهم {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا (فدمرنا) {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} في أرض مصر من المغارات {وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} . قال الحسن : وما كانوا يعرشون من الثمار والأعشاب. وقال مجاهد : يعني يبنون البيوت، والقصور ومساكن وكان (غنيّهم) غير معروش. وقرأ ابن عامر وابن عباس : بضم الراء وهما لغتان فصيحتان عرش يعرش. وقرأ إبراهيم بن أبي علية : يعرشون بالتشديد على الكسرة ١٣٨{وَجَاوَزْنَا} قطعنا {بِبنى إسرائيل الْبَحْرَ} بعد الآيات التي رأوها والعير التي عاينوها. قال الكلبي : عبر بهم موسى يوم عاشوا بعد هلاك فرعون وقومه وصام يومئذ شكراً للّه عزّ وجلّ {فَاتُوا} فمرّوا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ} يصلّون، قرأ حمزة والكسائي يعكفون بكسر الكاف والباقون بالضم وهما لغتان {عَلَى أَصْنَامٍ} أوثان {لَهُمْ} أوثان لهم كانوا يعبدونها من دون اللّه عزّ وجلّ. قال ابن جريج : كانت تماثيل بقر وذلك أوّل (شأن) العجل. قال قتادة : كانوا أُولئك القوم من لخم وكانوا هؤلاء بالرمة، وقيل : كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم فقالت بنو إسرائيل له عندما رأوا ذلك {قالوا ياموسى اجعل لنا إلهاً} تمثالاً نعبده {كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ} موسى {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} عظمة اللّه ونعمته وحرمته. وروى معمر عن الزهري عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قبل حنين فمررنا بشجرة خضراء عظيمة فقلنا : يا رسول اللّه اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط. فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (اللّه أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والذي نفسي بيده (لتركبنّ سنن) مَنْ كان قبلكم). وروي عنه (عليه السلام) أنه قال : (لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أُمّتي أخذ الاُمم قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما قالت فارس والروم). ١٣٩{إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ} مهلك ومفسد ومخسر {مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ} مضمحل زائل ١٤٠{ما كانوا يعملون قال أغير اللّه أبغيكم} أطلب وأبغي لكم فحذف حرف الصفة لقوله (واختار موسى قومه) {الها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} على أهل زمانكم ١٤١{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم} قرأ أهل المدينة أنجيناكم، وقرأ أهل الشام وإذ أنجاكم وكذلك في مصاحفهم بغير نون. {مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} . قرأ نافع : (يقتلون) خفيفة من القتل على القليل، وقرأ الباقون التشديد على الكثير من القتل {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَالِكُم بَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} . ١٤٢{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ذا القعدة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذي الحجّة {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقال عند انطلاقه لأخيه هارون {اخْلُفْنِى} كن خليفتي {فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ} وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة اللّه {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ولا تسلك طريق العاصين ولا تكن مرناً للظالمين، وذلك أن موسى وعد بني إسرائيل وهم بمصر إذا أهلك اللّه عدوّهم واستنقذهم من أيديهم أتاهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلما فعل اللّه ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره اللّه عز وجل صوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوق فمه فتسوك بعود (ضرنوب) فقالت له الملائكة : كنّا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقال أبو العالية : إنّه أكل من لحاء الشجرة فأمره اللّه عزّ وجلّ بصوم عشرة أيام من ذي الحجّة. وقال : أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ١٤٣فكان فتنتهم في العشر التي زادها اللّه عز وجل {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها. قال المفسّرون : إنّ موسى (عليه السلام) تطهّر وطهّر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} وناجاه وأدناه حتّى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق (إلى رؤيته) وطمع فيها {قال ربّي أرني أنظر إليك} قال ابن عباس : أعطني أنظر إليك {قَالَ} اللّه تعالى {لَن تَرَانِى} وليس بشراً (لا) يطيق النظر إليّ في الدنيا، من نظر إليّ مات، فقال له : سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك (فلئن) أنظر إليك وأموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك فقال اللّه تعالى {وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} فهو أعظم جبل بمدين يُقال له : زبير فلمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى منها اللّه لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلمّا رأى اللّه تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصّه بالتجلّي. قال السدي : لمّا كلّم اللّه موسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتّى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال : إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال اللّه تعالى : لن تراني (......) تعلّقت (......) الرؤية بهذه الآية، ولا دليل لهم فيها لأنّ (لن) ههنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود {لن يتمنوه أبداً بما قدمت} يعني الموت ثمّ حكى عنهم أنهم يقولون لمالك {يا مالك ليقض علينا ربّك} . و {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يعني الموت، وقال سبحانه {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ} يعني الجنّة {حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقد يدخل الجنّة مَنْ لا يُنفق ممّا (علمت) فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى. قال عبد العزيز بن يحيى : قوله {لَن تَرَانِى} جواب قول موسى (أرني أنظر إليك) ولا تقع على الآخرة، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إليك في الآخرة إنما سأله الرؤية في الدنيا فأُجيب عما سأل ولا حجّة فيه لمَنْ أنكر الرؤية. وقيل : معنى {لَن تَرَانِى} أي لا تقدر أن تراني، وقيل : معناه لن تراني بعين فانية وإنما تراني بعين باقية، وقيل : لن تراني قبل محمد وأُمته وإنما تراني بعد محمد وأُمته، وقيل : معناه لن تراني بالسؤال والدعاء وإنما تراني بالنوال والعطاء إنّه لو أعطاه إياه بسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده. وقيل : معناه لن تراني بالعين التي رأيت بها عدوي وذلك أنّ الشيطان تراءى له فوسوس إليه، فقال اللّه تعالى : ياموسى أما تعلم أنّ رؤية الخبيث واللّه لا يجتمعان في حال واحد ومكان واحد وزمان واحد. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول : لو كان سؤال موسى مستحيلاً لما أقدم عليه نبي اللّه موسى (عليه السلام) مع علمه ومعرفته باللّه عن اسمه كما لم تجز أن يسأله لنفسه صاحبة ولا ولداً. وقال اللّه عزّ وجلّ : {وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} واستقراره بكونه وثباته. قال المتكلّمون من أهل الشام : لما علق اللّه (الرؤية باستقراره) دلّ على جواز الرؤية لأن استقراره غير محال فدلّ على أن ما (علق) عليه من كون الرؤية غير محال أيضاً ألا ترى أن دخول الكفار الجنّة لما كان مستحيلاً علقه بشيء مستحيل. وهو قوله {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ} . وقال أهل الحكمة والاشارة : إن الكليم لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة يقول لأخيه هارون : {اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى} فلما سأل الرؤية جعل اللّه تعالى بينه وبينها واسطة وهو الجبل لقوله تعالى {لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} فقال : وكأنّه يقول إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت أيضاً لأنه لم ترونني دون استقرار الجبل {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} . قال وهب : لما سأل موسى الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى فأمر اللّه ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى أربعة فراسخ من كل ناحية فمرت به ملائكة سماء الدنيا كثير، إن البقر تتبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كأصوات الرعد الشديد، ثمّ أمر اللّه ملائكة سماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه مثل الأسد لهم لجبّ بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعر كل شعرة في رأسه وجسده. ثمّ قال : ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟ فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثمّ هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح بالتقديس كجلب الجيش العظيم ولهب النار. ثمّ هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم. ثمّ هبطت عليهم ملائكة السماء الخامسة سبعة ألوان فلم يستطيع أن يتبعهم طرفه ولم يرَ مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفاً واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له حبر الملائكة ورأسهم : يا بن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثمّ أمر اللّه تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي أراد أن يراني فاعترفوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءاً من الشمس ولباسهم كلهيب النار، إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم : سبوح قدوس رب العزّة أبداً لا يموت، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول : رب اذكرني ولا تنسَ عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت أُحرقت وإن مكثت متّ، فقال له رأس الملائكة ورئيسهم : قد أوشكت ياابن عمران أن يمتلىء جوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي جلست. ثمّ أمر اللّه تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة وقال : أروه، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعاً فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه {وَخَرَّ} العبد الضعيف {مُوسَى صَعِقًا} على وجهه ليس معه روحه فقلب اللّه الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كالمعدة كهيئة القبّة لئلاّ يحترق موسى، فأرسل اللّه تعالى إليه روح الحياة فقام موسى يسبح اللّه تعالى ويقول : آمنت بأنك ربّي وصدقت بأنه لا يراك أحد فيحيا. ومن نظر الى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد للّه لا شريك لك رب العالمين. وقال السدي : حفّت حول الجبل بالملائكة وحفّت حول الملائكة بنار وحفّ حول النار بالملائكة وحفّ حول الملائكة بنار ثمّ تجلّى ربّك للجبل. وقال ابن عباس : ظهر نور ربّه للجبل جبل زبير، وقال الضحاك (أخرج) اللّه تعالى له من نور الحجب مثل منخر الثور. وقال عبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار : ما تجلّى من عظمة اللّه للجبل إلاّ مثل سمّ الخياط، يعني صار دكّاً. وقال السدي : ما تجلّى منه إلاّ قدر الخنصر. يدلّ عليه ما روى عن ثابت عن أنس عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه قرأ هذه الآية فقال : هكذا، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل. وقال سفيان : ساخ الجبل في الأرض حتّى وقع في البحر فهو يذهب معه. وقال أبو بكر الهذلي : انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة. وقال عطيّة العوفي : جعله دكّاً أي رملاً هائلاً، وقال الكلبي : جعله دكاً أي كسراً جبالاً صغيراً. قال الحسن : جعله دكّاً أي ذاهباً أصلاً. وقال مسروق : صار صغيراً (كالرابية). الحسن : أوحى اللّه تعالى إلى الجبل هل تطيق رؤيتي فغار الجبل وساخ في الأرض وموسى ينظر حتّى ذهب أجمع. وقال قطرب : فلمّا تجلّى ربّه أي : أمر ربّه للجبل كقوله. {وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا} . وقال المبرد : معناه فلمّا تجلّى ربّه آية للجبل جعله فعلاً متعدّياً (كالتخلّص والتبدّل والتوعد). وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن اللّه تعالى أظهر من (وراء) سبعين ألف حجاب ضوءاً قدر الدرهم فجعل الجبل دكاً. وقال أبو بكر : فَعَذُب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض. وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس. وخرت الأصنام لوجهها {جَعَلَهُ دَكًّا} مستوياً بالأرض. وقال ابن عباس : جعله تراباً. عن معونة بن قرّة عن أنس بن مالك قال : قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله : {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} : (طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة : أحد وورقان، ورضوى. ووقع ثلاثة بمكّة ثور وثبيرة وحراء). واختلفت القراءة في هذا الحرف، وقرأ عاصم {دَكًّا} بالقصر والتنوين. والتي في الكهف بالمد، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير (دكاء) ممدودة غير مجراه في التنوين. وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة. وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكاً. والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات، لقولهم : كلام رقيق وركيك، ويجوز أن يكون معناه : دكه اللّه دكاً أي فتّه اللّه أغباراً لقوله {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكًّا} وقوله {وَحُمِلَتِ الأرض وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} . قال حميد : يدك أركان الجبال هزمه تخطر بالبيض الرقاق بهمه ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام. وحينئذ يكون معناه : جعله أيضاً دكاء، أي مستوية لا شيء فيها، لأن الجبل مذكر، هذا قول أهل الكوفة. وقال نحاة البصرة : معناه فجعله مثل دكّاً وحذف مثل فأجرى مجرى {وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} قال الأخفش : من مدّ قال في الجمع : دكاوات، وذلك مثل حمراوات وحمرة، ومن قال : أرض دك، قال في الجمع : دكوك، {وَخَرَّ} أي وقع {مُوسَى صَعِقًا} قال ابن عباس : فغشي عليه، وقال قتادة : ميّتاً. وقال الكلبي : خرّ موسى صعقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة (يوم النحر). وقال الواقدي : لما خرَّ موسى صعقاً قالت ملائكة السماوات : ما لابن عمران وسؤاله الرؤية؟ وفي بعض الكتب أنّ ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون : يابن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربّ العزّة. {فَلَمَّآ أَفَاقَ} من صعقته وعقله عرف أنّه قد فعل أمراً لا (ينبغي فعله) {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} من سؤالي الرؤية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} بأنك لا تُرى في الدنيا (قال السدي) ومجاهد : وأنا أوّل مَنْ آمن بك من بني إسرائيل. وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا القاسم النصر آبادي يحكي عن الجنيد (أنه قال : ) جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعقله نيتي، فأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا تُرى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية (......). قال ابن عباس : لمّا سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه : ما تبتغي؟ قال : جئت أبتغي الهدي. قال قد وجدته يا موسى، فقال موسى : يارب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : أي عبادك أقصى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهُدى ويرد سنن ردىء. وقال عبد اللّه بن مسعود : لمّا قرب اللّه موسى بطور سيناء رأى عبداً في ظلّ العرش جالساً فقال : (ما هذا)، قال : هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم اللّه من فضله وبرّ بوالديه ولا يمشي بالنميمة. فقال موسى : يارب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي. فقال : قد كفيت ذلك يا موسى، قال : يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به؟ قال : تذكرني ولا تنساني، قال : أي عبادك خير عملاً؟ قال : مَنْ لا يُكذّب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه (وهو ذو خلق حسن)، قال : فأي عبادك شر عملاً؟ قال : فاجر في خلق سيء (جيفة ليل) بطال النهار. ١٤٤{قَالَ يَامُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} أعطيتك {وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} للّه سبحانه على نعمه. أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أحمد بن حمدون الفراتي. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن بكير الرازي، حدثنا الحسن بن عليّ بن يحيى بن سلام الإمام، حدثنا أحمد بن حسان بن موسى البلخي. حدثنا أبو عاصم إسماعيل بن عطاء بن قيس (الأموي) عن أبي حازم المدني عن عبد اللّه بن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لما أعطى اللّه تعالى موسى الألواح فنظر فيه قال : يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرمها أحداً قبلي قال : يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، بجد ومحافظة وموت على حب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قال موسى : يا رب ومن محمد؟ قال : أحمد النبي الذي أُثبت اسمه على عرشي من قبل أن أخلق السماوات بألفي عام، إنّه نبيي وصفيي وحبيبي وخيرتي من خلقي وهو أحب إلي من جميع خلقي وجميع ملائكتي. قال موسى : يا رب إن كان محمد أحب إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمته أكرم عليك من أمتي؟ قال : يا موسى إنّ فضل أُمة محمد على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال : يا رب ليتني رأيتهم، قال : يا موسى إنّك لن تراهم، لو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك، قال : يا رب فإني أُريد أن أسمع كلامهم، قال اللّه تعالى : يا أُمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا وأرحام أُمهاتنا لبيك اللّهم لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك. قال اللّه تعالى : يا أُمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق حسابي قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني. من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً عبدي ورسولي دخل الجنّة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله عزّ وجلّ). {وما كنت بجانب الطور إذ ناديناه وما كنت بجانب الغربي} إلى قوله {الشَّاهِدِينَ} . قال الثعلبي : وأخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عليّ بن نصير المزكى، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا رشد بن سعيد عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري عن أبيه أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي قال : ما يبكيك؟ قال : ذكرت بعض الأُمور. فقال له كعب : أنشدك اللّه لئن أخبرتك ما أبكاك تصدقني؟ قال : نعم. قال : أنشدك اللّه تجد في (الكتاب) المنزل أنّ موسى (عليه السلام) نظر في التوراة فقال : إني أجد أُمة خير أُمم أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون باللّه والرسول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتّى يقاتلوا الأعور الدجال، فقال موسى : ربّ اجعلهم أُمّتي، قال : هم أُمّة محمد يا موسى، قال الحبر : نعم. قال : أنشدك اللّه تجد في كتاب اللّه المنزل أنّ موسى نظر في التوراة فقال : رب إني أجد أُمةً يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل فلا يجد عبداً مملوكاً ولا أمةً إلاّ اشتراه ثمّ أعتقه من تلك الصدقات فما فضل حفر له بئر عميقة القعر فألقاه فيها ثمّ دفنه كيلا يرجعوا فيه، وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم. قال موسى : اجعلهم أُمّتي؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى. قال الحبر : نعم. قال كعب : أنشدك اللّه تجد في كتاب اللّه المنزل أنّ موسى (عليه السلام) نظر في التوراة، فقال : إني أجد أُمة إذا أشرف أحدهم على نشر كبر اللّه وإذا هبط وادياً حمد اللّه، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا، يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غير محجلون من آثار الوضوء، فاجعلهم أُمتي؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى، قال الحبر : نعم. قال كعب : أنشدك اللّه تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : ربِ إني أجد أُمةً إذا همَّ أحدهم بحسنة لم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإن عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فإذا هَمّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة مثلها. قال : اجعلهم أُمتي؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى، قال الحبر : نعم. قال كعب : أنشدك اللّه تجد في كتاب اللّه المنزل أن موسى نظر في التوراة وقال : ربِ إنّي أجد أُمّة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيناهم، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم أحداً إلاّ مرحوماً. اجعلهم أُمّتي؟ قال : هي أُمة أحمد يا موسى، قال الحبر : نعم. قال كعب : أنشدك اللّه تجد في كتاب اللّه المنزل أنّ موسى نظر في التوراة قال : ربِ إنّي أجد في التوراة أُمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة، يصفون في صلواتهم صفوف الملائكة أصواتهم (في مساجدهم) كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحداً أبدٌ إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء الشجر، قال موسى : فاجعلهم أُمتي؟ قال : هي أمة أحمد ياموسى. قال الحبر : نعم. فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى اللّه تبارك وتعالى محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) قال : يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى اللّه عزّ وجلّ ثلاث آيات يرضيه بها هي {يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس} الى قوله {دَارَ الْفَاسِقِينَ} {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال : فرضى موسى كل الرضا. ١٤٥قوله تعالى {وَكَتَبْنَا لَهُ} يعني لموسى {فِى الْوَاحِ} . قال الربيع بن أنس : كانت ألواح موسى (عليه السلام) من برد، وقال ابن جريج : كانت من زمرّد أمر اللّه تعالى جبرئيل حتّى جاء بها من عدن يكتبها بالقلم الذي كتب به (الذكر فاستمد) من بحر النور فكتب له الألواح. وقال الكلبي : كانت الألواح زبرجداً خضراء وياقوتة حمراء كتب اللّه فيها ثماني عشرة آية من بني إسرائيل وهي عشر آيات في التوراة. قال وهب : أمره اللّه تعالى بقطع الألواح من صخرة صماء ليّنها اللّه له فقطعها بيده ثمّ شقها بإصابعه وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر، وكان ذلك أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة على طول موسى (عليه السلام) . وقال مقاتل وكعب {وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الألْوَاحِ} كنقش الخاتم وكتب فيها : إني أنا اللّه الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئاً من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإنّ كل ذلك خلقي ولا تقطعوا السبل ولا تحلفوا باسمي كاذباً فإن مَنْ حلف باسمي كاذباً فلا أُزكّيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقّوا الوالدين. وقال الربيع بن أنس : نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة لم يقرأها إلاّ أربعة نفر : موسى يوشع وعزير وعيسى (عليهم السلام)، وقال : هذه الآية ألف آية يعني قوله {وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِي} وتبياناً {لِّكُلِّ شَىْءٍ} من الأمر والنهي الحلال والحرام والحدود والأحكام. {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} قال مقاتل : بجد ومواظبة. قال الضحاك : بطاعة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} قال ابن عباس في رواية الكلبي : بأحسن ما أُمروا (في) الأرض فيحلوا حلالها ويحرموا حرامها، وكان موسى أشد عداوة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به. وقال ابن كيسان وابن جرير : أحسنها الفرائض لأنه قد كان فيها أمر ونهي، فأمرهم اللّه تعالى أن يعملوا بما أمرهم به ويتركوا ما نهاهم عنه فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه. وقيل : معناه أخذوا بها وأحسن عمله. وقال قطرب : يأخذوا بأحسنها أي بحسنها و (كلّها حسن) كقوله {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} وقال الحسين بن الفضل : معنى قوله (أحسنها) أن يتخيل للكلمة معنيين أو ثلاثة فيصرفوا إلى الشبهة بالحق. وقيل : كان فيها فرائض لا مبرّك لها وفضائل مندوباً إليها والأفضل أن يجمع بين الفرائض و (الفضائل). {سأُريكم دار الفاسقين} قال أهل المعاني : هذا كقول القائل لمن يخاطبه سأُريك غداً إلى بصير (فيه قال) مَنْ يخالف أمري على وجه الوعيد والتهديد. وقال مجاهد : {سأُريكم دار الفاسقين} قال : مصيرهم في الآخرة. قال الحسن : جهنم، وقال قتادة وغيره : سأُدخلكم النار فأُريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة. وقال عطيّة العوفي : معناه سأُريكم دار فرعون وقومه وهي مصر يدلّ عليه. قرأ ابن عباس وقسامة بن زهير : سأُورّثكم دار الفاسقين. وقال الكلبي : دار الفاسقين ما مرّوا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا. وقال ابن كيسان : ساريكم دار الفاسقين ما يصير قرارهم في (الأرض). وقال ابن زيد : يعني سنن الأوّلين، وقيل : الدار الهلاك وجمعه أدوار. وذلك أن اللّه تعالى لمّا أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين. وقال يمان : يعني مسكن فرعون. ١٤٦{سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ} قال قوم : حكم الآية لأهل مصر خاصة يعني بقوله {ءَايَاتِىَ} يعني الآيات التسع التي أعطاها اللّه سبحانه موسى (عليه السلام) . وقال آخرون : هي عامة، وقال ابن جريج وابن زيد : يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والبحور والشجر والنبات وغيرها أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، وقال الفراء أي الغرباني : إنّي أمنع قلوبهم عن التفكر في أمري. وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا سعيد محمد بن نافع السجزي بهراة يقول : سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال : سمعتُ عبد الجبار بن العلاء العطار قال : سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن هذه الآية : أُحرمهم فَهْم القرآن. سمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال : سمعت العباس بن حمزة قال : سمعت ذا النون المصري يقول : أبى اللّه أن يكرّم قلوب الظالمين مكتوب حكمة القرآن {وَإِن يَرَوْا} يعني هؤلاء المتكبّرين. قرأ مالك بن دينار فإن يروا بضم الياء أي يفعل بهم {سَبِيلَ الرُّشْدِ} طريق الهدي والسداد {يَتَّخِذُوهُ} لأنفسهم {سبيلا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ} يعني الضلال والهلاك {يَتَّخِذُوهُ سبيلا} وقرأ مجاهد وحميد وطلحة والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي : الرشد، بفتح الراء والشين وهما لغتان كالسَقَم والسُقم والحَزَن والحُزن والبَخَل البُخل، وكان أبو عمرو يفرق بينهما فيقول : الرشد بالضم والصلاح في الأمر كقوله : {فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا} والرشد بفتح بفتحتين الاستقامة في الدين، وقرأ أبو عبد الرحمن الرشاد بالألف وهو مصدر كالعفاف والصلاح. { ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} لاهين ساهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها ١٤٧{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ} ورؤية القيامة، وقيل : العالية في الآخرة {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ} في العقبى {إِلا مَا كَانُوا} أي جزاء ما كانوا {يَعْمَلُونَ} في الدنيا. ١٤٨{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ} أي من بعد انطلاقه إلى الجبل {مِنْ حُلِيِّهِمْ} التي استعاروها من قوم فرعون. وكانت بنو إسرائيل في القبط بمنزلة أهل الجزية في الإسلام، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فزامن ذلك عيدهم فاستعادوا الحلي للقبط فلما أخرجهم اللّه من مصر وغرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها عجلاً وهو ولد البقر {عِجْ جَسَدًا} مجسّد لا روح فيه. وقال وهب : جسداً لحماً ودماً {لَّهُ خُوَارٌ} وهو صوت البقر خار خورة واحدة ثمّ لم تعد. وقال وهب : كان يسمع منه الخوار إلاّ أنّه لا يتحرك. وقرأ عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : خوار بالجيم والهمز وهو الصوت أيضاً واختلفت القراء في قوله (حليهم)، فقرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام وتخفيف الياء على الواحد. وقرأ حمزة والكسائي : حليّهم بكسر الحاء وتشديد الياء، الباقون بضم الحاء وهما لغتان مثل (صلى) وجثى وبكى (وعثى) يجوز فيها الكسر والضم {أَلَمْ يَرَوْا} يعني الذين عبدوا العجل من دون اللّه {أَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سبيلا} قال اللّه {اتَّخَذُوهُ} عبدوه واتخذوه إلهاً {وَكَانُوا ظَالِمِينَ} كافرين ١٤٩{وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ} أي ندموا على عبادة العجل وهذا من فصيحات القرآن. والعرب تقول لكل نادم أو عاجز عن شيء : سقط في يديه وأسقط، وهما لغتان وأصله من (الاستئسار) وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه، والمرمي فيه مسقوط في يد الساقط. {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَ ن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} يتب علينا ربنا {وَيَغْفِرْ لَنَا} ويتجاوز عنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} بالعقوبة ١٥٠{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} قال أبو الدرداء : الأسف منزلة وراء الغضب أشد منه، وقال ابن عباس والسدي : (رجع حزيناً من صنيع قومه) قال الحسن بن غضبان : حزيناً {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} أي بئس الفعل فعلتم بعد ذهابي، يقال : منه خلفه بخير أو شر إذا ألاه في أهله أو قومه بعد شخوصه عليهم خيراً أو شراً. {أَعَجِلْتُمْ} أسبقتم {أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْوَاحَ} غضباً على قومه حين عبدوا العجل، وقال قتادة : إنّما ألقاها حين سمع من فضائل أُمّة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وفي الألواح : قال : يا رب اجعلني من أُمّة محمد قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يرحم اللّه أخي موسى ما المخبر كالمعاين لقد أخبره اللّه بفتنة قومه فعرف أنّ ما أخبره اللّه حق وأنه على ذلك لمتمسّك بمّا في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وألقى الألواح). قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع فلمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع منها ستة أسباع وبقي سبع وكان فيها رُقع موسى وفيما بقي الهدى والرحمة {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي لحيته وذقنه {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} وكان هرون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب {قَالَ} هرون عند ذلك يا {ابْنَ أُمَّ} قرأ (أهل) الكوفة بكسر الميم هاهنا وفي طه أراد يا بن أُمي فحذف ياء الإضافة، لأنه مبنى النداء على الحذف وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الاضافة كقوله {يَاعِبَادِ} يدل عليه، قراءة ابن السميقع : يابن أُمي بإثبات الياء على الأصل، وقرأ الباقون بفتح الميم فهما على معنى يابن اُماه جعل أصله إسماً واحداً وبناه على الفتح كقولهم : حضرموت وخمسة عشر ونحوهما. {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى} باتخاذهم العجل {وَكَادُوا} يعني همّوا وقاربوا {يَقْتُلُونَنِى فَلا تُشْمِتْ} بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء قرأه العامّة وقرأ مالك بن دينار فلا تشمت {بِىَ الأعْدَآءَ} بفتح التاء والميم الأعداء رفع {وَلا تَجْعَلْنِى} في (موعدتك) عليّ وعقوبتك لي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني أصحاب العجل ١٥١{قَالَ} موسى لمّا تبيّن له عذر أخيه {رَبِّ اغْفِرْ لِى} ما صنعت إلي {وَخِى وَأَدْخِلْنَا} جميعاً أنا وأخي ١٥٢{في رحمتك وأنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربّهم} في الآخرة {وذِلّة في الحياوة الدنُيا} قال أبو العالية : هو ما أُمروا به من قتل أنفسهم. وقال عطيّة العوفي : أراد سينالهم أولادهم (الكبير) كابراً على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) غضب وذُلّة في الحياة الدنيا، وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليتهم متخذي العجل ورضاهم به، وقال ابن عباس : هو الجزية. {وَ كذلك نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ} الكاذبين قال أبو قلابة : هي واللّه جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة، قال يذله اللّه عزّ وجلّ. وسمعت أبا عمرو الفراتي سمعت أبا سعيد بكر بن أبي عثمان الخيري سمعت السراج سمعت سوار بن عبد اللّه الغزّي سمعت أبي يقول : قال مالك بن أنس : ما من مبتدع إلاّ (وتجد فوق) رأسه ذلّة ثمّ قرأ {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الآية يعني المبتدعين. ١٥٣-١٥٤{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّ َئاتِ ثُمَّ تَابُوا} إلى قوله {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى} يعني سكن عن موسى {الْغَضَبُ} يدلّ عليه قراءة معاوية بن مغيرة : ولمّا سكن، بالنون. قال أبو النجم : وهمت الأفعى بأن تسيحا وسكت المكاء أن يصيحا وأصله الكف عن الشيء، ومنه الساكت عن الكلام. {أَخَذَ الْوَاحَ} التي ألقاها وذهب منها ستة أسباعها {وَفِى نُسْخَتِهَا} أي فما نسخ منها. قال عطاء : يعني فيما بقي منها، ولم يذهب من الحدود و (الأحكام) شيء فقال ابن عباس : وعمرو بن دينار : صام موسى أربعين يوماً فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأُعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر (ولم يفقد منها شيئاً) {هُدًى وَرَحْمَةً} . قال ابن عباس : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (يخلفون) وقال الراجز : يصنع الجزع فيها أو استحيوا ١٥٥للماء في أجوافها خريراً أي من أصل الجزع {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي من قومه فلمّا نزع حرف الصفة نصب كقول الفرزدق : ومنّا الذي أُختير الرجال سماحة وبراً إذا هبّ الرياح (الزعازع) وقال آخر : اخترتك للناس إذ رثت خلائقهم واعتل مَنْ كان يُرجى عنده السؤل أي من الناس، واختلفوا في سبب اختيار موسى السبعين. وقال السدي : أمر اللّه أن سيأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعد موعداً، واختار موسى من قومه {سَبْعِينَ رَجُلا} ثمّ ذهب إليه ليعتذر فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة وإنّك قد كلّمته فأرناه فأخذتهم الصاعقة فماتوا. وقال ابن إسحاق : اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. وقال مجاهد : اختارهم لتمام الموعد. وقال وهب : قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) : إن طائفة يزعمون أنّ اللّه لا يكلمك ولو كلمك فأقمت لكلامه ألم ترَ أنّ طائفة منّا سألوه النظر إليه فماتوا فلا تسأله أن (ينزل) طائفة منّا حتّى يكلمك فيسمعوا كلامه فيؤمنوا وتذهب التهمة، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن اختر من خيارهم سبعين رجلاً، ثمّ ارتق بهم إلى الجبل أنت وهرون. واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون يقول كما أمر اللّه تعالى واختار سبعين رجلاً. روى المنهال عن الربيع بن حبيب قال : سمعنا أبا سعيد الرقاشي وقرأ هذه الآية قال : كان السبعون ابناً ما عدا عشرين. ولم يتجاوز الأربعين. وذلك أن ابن عشرين قد ذهب (جماله) وصباه وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يعد من عقله شيءٌ. وقال الآخرون : كانوا شيوخاً. قال الكلبي : اختار موسى سبعين رجلاً لينطلقوا إلى الجبل فلم يصب إلاّ ستين شيخاً وأوحى اللّه تعالى إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختار وأصبحوا شيوخاً فاختار من كل سبط ستّة رهط فصاروا اثنين وسبعين. فقال موسى : إنّما أمرت سبعين رجلاً فاستخلف منكم رجلان فتشاجروا على ذلك. فقال : إن لِمن قعد مثل أجر من خرج، فقعد رجلان أحدهما كالب بن (يوقيا) والآخر يوشع بن نون. فأمر موسى السبعين أن تصوموا وتطهروا، وتطهّروا ثيابكم ثمّ خرج بهم إلى طورسيناء لميقات ربّه وكان لا يأتيه إلاّ بإذن منه وذلك قوله تعالى : {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَاتِنَا} {فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} اختلفوا في كيفية هذه الرجفة وسبب أخذها إياهم. فقال ابن إسحاق والسدي : إنّهم لمّا أتوا ذلك المكان قالوا لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربّنا فقال : أفعل، فلمّا دنا موسى (عليه السلام) من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتّى يغشي الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم : ادنوا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وهو عمود فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره فيها : افعل لا تفعل فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا : يا موسى لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً. وقال ابن عباس : إن السبعين الذين قالوا : لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر اللّه موسى أن يختار من قومه سبعين رجلاً فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا أن قالوا : اللّهم أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدنا، فكره اللّه ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة. قال عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه : إنّما أخذتهم الرجفة من أجل دعواهم على موسى قبل هارون، وذلك أن موسى وهارون وشبر وشبير (عليهم السلام) انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفّاه اللّه فلمّا مات دفنه موسى فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون؟ قال : توفّاه اللّه، فقالوا : بل أنت قتلته (عمداً) على خُلُقه وَليِنْهِ، قال : فاختاروا من شئتم، فاختاروا سبعين رجلاً وذهب بهم، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى : يا هارون أقتلتَ أم تُوفّيت؟ فقال هارون : ما قتلني أحد. ولكن اللّه توفاني إليه. فقالوا : ياموسى لن تقصّ بعد اليوم فأخذتهم الرجفة وصعقوا وماتوا، وقال موسى : يارب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، يقولون : أنت قتلتهم فأحياهم اللّه وجعلهم أنبياء كلّهم. وقال ابن عباس : إنّما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل، وقال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب : أخذتهم الرجفة لأنّهم لم (يزايلوا) قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر. وقال وهب : لم تكن تلك الرجفة موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أخذتهم الرجفة وخلقوا فرجفوا حتّى كادت أن تبيّن مفاصلهم وتنقص ظهورهم فلمّا رأى ذلك موسى (عليه السلام) رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له ولداً على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربّه فكشف اللّه عنهم تلك الرجفة والرعدة فسكنوا واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم فذلك قوله {قَالَ} يعني موسى {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاىَ} بقتل القبطي {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} يعني عبدة العجل. وظن موسى أنّه عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل. وقال السدي : أوحى اللّه إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل وكان موسى لا يعلم ذلك فقال موسى : يارب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت أخيارهم وليس معي رجلٌ واحدٌ فما الذي يصدقوني به ويأمنونني عليه بعد هذا، فأحياهم اللّه، وقال (المبرّد) : قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا استعلام واستعطاف أي لا تهلكنا قد علم موسى أن اللّه أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره ولكنّه كقول عيسى : {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية. {إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ} أي اختيارك. قال سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع : محنتك، وقال ابن عباس : عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عن من تشاء {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا} ناصرنا ومولانا وحافظنا ١٥٦{فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا} أي حقق (ووفقنا للأعمال الصالحة) يقال : (كتب) اللّه عليك السلامة {فِى هذه الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} يعني الأعمال الصالحة {وَفِي الآخِرَةِ} يعني المغفرة والجنّة {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} قرأ أبو رجزة السعدي : وكان مصححاً من القراء شاعراً هدنا بكسر الهاء يقال : هاد يهيد ويهود إذا رجع وتحرك (فأدلّه الميل) قال الشاعر : قد علمت سلمى (رجلاً) أني من الناس لها هايد {قَالَ} اللّه تعالى : {عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ} من خلقي وقال الحسن وابن السميقع : مَنْ أشاء (......) من الإشاءة {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ} عمّت {كُلِّ شَىْءٍ} قال الحسن وقتادة : إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتّقين خاصة. وقال عطيّة العوفي : وسعت كل شيء ولكن لا يجيب إلاّ الذين يتقون، وذلك أنّ الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة اللّه للمؤمن يعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمسير في كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه، قال أبو روق : ورحمتي وسعت كل شيء يعني الرحمة التي قسمها بين الخلائق يعطفه بها بعضهم على بعض، وقال ابن زيد : (ورحمتي وسعت كل شيء) هو التوبة، وقال آخرون : لفظه عام ومعناه خاص لهذه الأُمّة. وقال ابن عباس وقتادة وابن (جرير) وأبو بكر الهذلي : لما نزلت هذه الآية {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ} قال إبليس : أنا من ذلك الشيء ونزعها اللّه من إبليس فقال {وَاكْتُبْ لَنَا فِى هذه الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا} فقالت اليهود والنصارى نحن نتّقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها اللّه منهم وجعلها لهذه الأُمة. ١٥٧{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأمِّىَّ} الآية قال نوف البكالي الحميري : لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقات ربه قال اللّه تعالى لموسى أجعل لكم في الأرض مسجداً وطهوراً تصلّون حيث أدركتكم الصلاة إلاّ عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه فقالوا : لا نريد أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلاّ نظراً، فقال اللّه {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله {الْمُفْلِحُونَ} فجعلها اللّه لهذه الأمة، فقال موسى : رب اجعلني نبيهم، فقال : نبيهم منهم، قال : رب اجعلني منهم، قال : إنك لن تدركهم، فقال موسى : يارب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل اللّه تعالى {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ} أنفسهم {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فرضي موسى، قال نوف : إلا تحمدون ربّاً حفظ غيّكم وأجزل لكم سهمكم وجعل وفادة بني إسرائيل لكم. واختلف العلماء في معنى الأُمّي. فقال ابن عباس : هو منكم كان أميّاً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحاسب قال اللّه تعالى {وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} وقال (صلى اللّه عليه وسلم) (إنا أُمة أُميّة لا نكتب ولا نحاسب). وقيل : هو منسوب إلى أُمّته كأن أصله أُمتي فسقطت التاء من النسبة كما سقطت من اليكي والمدى. وقيل : منسوب إلى أُم القرى وهي مكّة أُم القرى {الَّذِى يَجِدُونَهُ} أي صفته ونبوّته ونعته وأمره {مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَانجِيلِ} قال عطاء بن يسار : لقيت عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول اللّه في التوراة فقال : أجل واللّه إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. {يا أيُّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً} وحرزاً للأُميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالاسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتّى يقيم الملّة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلاّ اللّه فيفتح به قلوباً غلفاً وآذناً صُماً وأعيناً عمياً. قال عطاء : ثمّ لقي كعباً فسأله عن ذلك فما اختلفا حرفاً إلاّ أن كعباً قال : بلغته قلوباً غلوفياً وآذاناً صموياً وأعيناً عموميّاً. وروى كعب في صفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : مولده مكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون اللّه على كل حال وفي كل منزلة، يُوَضِئون أطرافهم و (ويتورّون) إلى (الجهاد) وفيهم وعاة الشمس ويصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القول مثل صفهم في الصلاة ثمّ قرأ {إنّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً} . وقال الواقدي : حدّثني عثمان بن الضحاك عن يزيد بن (الهادي) عن ثعلبة بن مالك أن عمر بن الخطاب أنه سأل أبا مالك عن صفة النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في التوراة وكان من علماء اليهود، فقال : صفته في كتاب بني هرون الذي لم يغير ولم يبدّل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في (عينيه) حمرة وبين كتفية خاتم النبوّة مثل زر الحجلة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي مَن لقي مِن الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة. مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل (وسبخة) وهو أُمّي لا يكتب بيده، هو بجهاد، يحمد اللّه على كل شدة ورخاء، سلطانه الشام، صاحبه من الملائكة جبرئيل يلقى من قومه أذىً شديداً. ويحبّونه حبّاً شديداً ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر (الجرين)، يكون له وقعات في يثرب، منها له ومنها عليه، ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه. {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} أي بالايمان {وَيَنْهَ اهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} يعني الشرك، وقيل : المعروف والشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة. وقال عطاء : يأمرهم بالمعروف وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ينهاهم عن المنكر عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} يعني الحلالات التي كانت أهل الجاهلية تحرمها : البحائر السوائب والوصائل والحوامي {ويحرّم الخبائث} يعني لحم الخنزير والدم والميتة والربا وغيرها من المحرمات. {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني : جهدهم الذي كان يأخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة. وقال ابن زيد وقتادة : يعني الشدائد الذي كان عليهم في الدين {وَاغْلَالَ} يعني الأثقال {الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (بما أُمروا) به من قتل الأنفس في التوراة وقطع الأبهاء، شبّه ذلك بالأغلال كما قال الشاعر : فليس لعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئاً واستراح العواذل فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطّي إلى المحذورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب {والذين آمنوا به وعزّروه} أعانوه ووقّروه {وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ} يعني القرآن ١٥٨{أُولئك هم المفلحون قل يا أيّها الناس إنّي رسول اللّه إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض} إلى قوله تعالى : {بِاللّه وَكَلِمَاتِهِ} . قال قتادة : وآياته. وقال مقاتل والسدي : يعني عيسى ابن مريم ١٥٩{واتبعوه لعلكم تهتدون ومن قوم موسى} يعني بني إسرائيل {أُمَّةٍ} جماعة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} أي يرشدون إلى الحق، وقيل : خلفاء يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي ينصفون من أنفسهم ويحمدون. وقال السدي : هم قوم بينكم وبينهم (قوم) من سهل. وقال ابن جريج : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم ممّا صنعوا واعتذروا وسألوا اللّه أن يفرق بينهم (وبينه) ففتح اللّه عليم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصف حتّى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حقاً مسلمون يستقبلون قبلتنا. قال الكلبي والربيع والضحاك وعطاء : هم قوم من قبل المغرب خلف الصين على نهر من الرمل يسمى نهر أودق وليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصبحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منّا أحدٌ ولا منهم إلينا أحدٌ وهم على الحق وذكر عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) أن جبرئيل (ذهب إليهم ليلة) أُسري به فكلّمهم فقال لهم جبرئيل : هل تعرفون مَنْ تُكلّمون؟ قالوا : لا. قال : هذا محمدٌ النبيّ فآمنوا به، وقالوا : يا رسول اللّه إنّ موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منّي السلام. فردّ محمد (صلى اللّه عليه وسلم) على موسى : فعليه السلام، ثمّ أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم يكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يُقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا وأن يتركوا السبت. ١٦٠-١٦٢{وَقَطَّعْنَاهُمُ} يعني بني إسرائيل {اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم : وقطعناهم بالتخفيف وأراد بالأسباط القبائل والفرق ولذلك أنشأ العدد والأسباط جمع مذكر. قال الشاعر : وإن قريشاً كلّها عشر أبطن وأنت بريءٌ من قبائلها العشر فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة فلذلك كان (البطن) مذكر وإنما قال : (أسباطاً أُمماً) بالجمع ولا يقال : أتاني اثنا عشر رجالاً، لأنه أراد الأعداد والجموع فأقام كل عدد مقام واحد، وقيل : معناه وقطعناهم أسباطاً أمماً اثني عشر. {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَ اهُ قَوْمُهُ} في التيه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} قال عطاء : كان الحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين لا يُخالطهم سواه {فَانبَجَسَتْ} أخصبت وانفجرت. قال أهل التفسير : انبجست وانفجرت واحد، وكان أبو عمرو بن العلاء يفرق بينهما فيقول انبجست عرفت وانفجرت (سالت). قال عطاء : كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى (عليه السلام) مثل ثدي المرأة فيعرق أوّلاً ثمّ يسيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} من كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} لا يدخل سبط على غيره في شربه وكل سبط من أب واحد. {وضلّلنا عليهم الغمام} في التيه يقيهم من الشمس {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} إلى قوله : {يغفر لكم خطاياكم} وقرأ أهل المدينة يغفر (بياء) مضمومة وخطاياكم بالرفع، وقرأ ابن (عامر) بتاء مضمومه. ١٦٣{وَسْ َلْهُمْ} واسأل يامحمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال تقرير وتوبيخ {عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أي بقربه وعلى شاطئه، واختلفوا فيها فروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي قرية يقال لها ايلديس مدين والطور. وروى عليّ بن أبي طلحة عنه فقال : هي قرية على شاطئ البحر من مصر والمدينة يقال لها : ايله وقال ابن زيد : هي قرية يقال لها : مقنى بين مدين وعينونا، وقيل : هي الطبريّة {إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ} أي يتجاوزون أمر اللّه وقرأ أبو نهيك إذ تعدون بضم الياء وكسر العين بتثقيل الدال من الأعداد يريد (يهيبون) الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع : في الاسبات، على جمع السبت {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} قرأ ابن عبد العزيز يوم إسباتهم شرعاً الى (شراع) ظاهرة على الماء كثيرة، وقال الضحاك : متتابعة {وَيَوْمَ يَسْبِتُونَ} أي لا يفعلون السبت. يقال سبت يسبت سبتاً وسبوتاً إذا أعظم السبت. وقرأ الحسن : يُسبتون بضم الياء أي يدخلون في السبت كما يقال أجمعنا وأشهرنا أي دخلنا في الجمعة والشهر {تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم} نختبرهم {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن سمعت إبراهيم بن (محارب) بن إبراهيم سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن الفضل هل تجد في كتاب اللّه الحلال لا (يأتيك) إلاّ قوتاً والحرام يأتيك جزفاً جزفاً؟ قال : نعم، في قصّة داود وتأويله : {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ يَسْبِتُونَ تَأْتِيهِمْ} . قال عكرمة : جئت ابن عباس يوماً فإذا هو يبكي ووضع المصحف في حجرة فقلت : مايُبكيك جعلني اللّه فداك. قال : هؤلاء الورقات فإذا هو في سورة الأعراف، فقال : تعرف الآية؟ قلت : نعم، قال : فإنّه كان بها حي من اليهود في زمن داود حرم عليهم الحيتان في السبت، وذلك أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتهم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد فأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا وإن عصوا عذبوا، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعاً بيضاء سماناً كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم حتّى لا يرى الماء من كثرتها ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر. ثمّ إنّ الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فأتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة (فتسقي) فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد. وقال ابن زيد : كانوا قد قرّبوا بحب الحيتان وكان في غير يوم السبت لا تأتيهم حوت واحد فأخذ رجل منهم حوتاً فربط في ذنبه خيطاً فأخذه وشواه فوجد جار له ريح الحوت. فقال له : يا فلان أنا أجد في بيتك ريح نون، قال : لا فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فقال : إني أرى اللّه سيعذّبك، فلما لم يره عذب ولم يعجل عليهم بالعذاب أخذ في السبت الأُخرى حوتين اثنين. فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم، وكانوا نحواً من سبعين ألف، فصارت أهل القرية (ثلاثاً) : ثلث نُهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً وثلث قالوا : لِمَ تعظون قوماً اللّه مهلكهم، وثلث أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون : لا (نسألهم) فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود (عليه السلام) فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا : إن للناس شأناً لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فنظروا فإذا بهم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم وعرفت القردة (أنسابها) من الأنس. ولا تعرف الأنس أنسابهم من القرود. فجعلت القردة تأتي نسيبها من الأنس وتشم ثيابه وتبكي فيقول : ألم ننهكم؟ فتقول برأسها : نعم. قال قتادة : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلاّ الذين نهوا وهلك سائرهم. واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا : (لِمَ تعظون قوماً) كانت من الناجية أو من الهالكة؟ فقال بعضهم : كانت من الناجية لأنّها كانت من الناهية. وقال آخرون : كانت من الفرقة الهالكة، لأنّهم كانوا من الخاطئة وذلك أنهم لما نهوا وقالوا لهم انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب فإنّا قد علمنا أن اللّه تعالى منزل عليكم بأسه إن لم تنتهوا قالوا لهم ١٦٤{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّه مُهْلِكُهُمْ} إذ علمتم أنّ اللّه معذبهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي هذه معذرة، وقرأ حفص : معذرة أي يفعل ذلك معذرة {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} صيد الحيتان والصواب أنها كانت من الفرقة الناجية وأن هذا الكلام من قول المؤمنين بعضهم لبعض لأنّه لو كان الخطاب للمعتدين لقالوا : ولعلكم تتّقون يدلّ عليه قول يمان بن رئاب نحن الطائفتان اللذان قالوا {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّه مُهْلِكُهُمْ} والذين قالوا {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} فأهلك اللّه أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير. وقال ابن عباس : ليت شعري ما فعل هؤلاء الذين قالوا : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّه مُهْلِكُهُمْ} قال عكرمة : فقلت له : جعلني اللّه فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا : {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّه مُهْلِكُهُمْ} فلم أزل به حتّى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلّة. ١٦٥{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} تركوا ما وعظوا به {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} أي المعصية {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي عاقبنا باعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم اللّه {بِعَذَاب بَئِيس} شديد وجيع من البأس وهو الشدة والفعل منه بَؤس يبَئوسُ، فاختلف القراء فيها فقرأ أهل المدينة بِيْس بكسر الباء وجزم الياء من غير همزة على وزن فعل، وقرأ ابن عامر كذلك على وزن فِعْل إلاّ أنّه الهمزة. وقرأ عاصم : في رواية أبي بكر : بَيْئس بفتح الباء وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ويثرب. كما قال الشاعر : كلاهما كان رئيساً بيئسا يضرب في الهيجاء منه القونسا وقرأ بعضهم : بَيئِس بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعل مثل (حذر) كقول ابن قيس الرقيات : ليتني ألقى رقيّة في خلوة من غير ما بيئس وقرأ الحسن : بكسر الباء وفتح السين على معنى بيئس العذاب. وقرأ مجاهد : بايئس على وزن فاعل وقرأ أبو أياس بفتح الباء والياء من غير همزة. وقرأ نصر بن عاصم : بيئس بفتح الباء وكسر الياء مشدداً من غير همزة. وقرأ بعض أهل مكة بئيس بكسر الياء والهمزة كما يقال : بعر للبعير. وقال أهل اللغة : كل فعل ثانية أحد حروف الحلق فإنّه يجوز كسر أوّله مثل بِعير وصغير ورحيم و (حميم) وبخيل، وقرأ الباقون بئيس على وزن فعيل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن فعيلاً أشبهه بصفات (التعريف) كقول ذي الاصبع العدواني : لقد رأيت بني أبيك محمجين إليك شوساً حنقاً عليّ ولن ترى لي فيهم أثراً بئيساً ١٦٦وقوله {فلمّا عتوا عمّا نُهوا عنه} قال ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} صاغرين. قال سعيد بن جبير : رأى موسى (عليه السلام) رجلاً يحمل قصباً يوم السبت فضرب عنقه، أبو روق : الخاسئون الذين لا يتكلّمون. وقال المؤرخ مبعدين كما بَعُد الكلاب. قال ابن عباس : (مكثوا) ثلاث أيام ينظر إليهم الناس ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام. قال مقاتل : عاشوا سبعة أيام يعرف الكبير بكبره والصغير بصغره، ثمّ ماتوا. وروى ابن مسعود أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : إن اللّه لم يمسخ شيئاً فجعل له نسلاً وعاقبه. ١٦٧-١٦٨{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أذّن وأعلم ربّك مثل قولهم تعلم بمعنى أعلم. وأنشد المبرّد : تعلم أن خير الناس حي ينادي في شعارهم يسار وقال زهير : فقلت تعلم أن للصيد غرّة فان لا تضيعها فإنّك قاتله وقال ابن عباس : (تأذن ربّك) قال ربّك، وقال مجاهد : أمر ربّك، وقال عطاء : حتم، وقال أبو عبيد : أخبر، وقال قطرب : وعد. {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} هم اليهود بعث اللّه عليهم محمداً وأمته يقاتلونهم حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقال سعيد بن جبير : هم أهل الكتاب بعث اللّه عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة فهو سوء العذاب ولم يجب نبي قط الخراج إلاّ موسى (عليه السلام) فهو أول من وضع الخراج فجباه ثلاث عشرة سنة ثمّ أمسك ١٦٩{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي حضرت وجاء وتبدل من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف. قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام الأولاد والواحد والجميع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غريباً، وقال الآخرون : هم خلف سوء. وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح الصالح و (بالجزم) الصالح. قال لبيد : ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للردئ من الكلام : خلف، ومنه المثل السائر : سكت الفاً وبطن خلفاً. وقال النضر بن شميل : الخلف بجزم اللام واسكانها في غير القرآن السوء واحد، فأمّا في القرآن الصالح (بفتح) اللام لا غير، وأنشد : إنا وجدنا خلفاً بئس الخلف عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف وقال محمد بن جرير الطبري : أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح ومن ذلك قول حسان بن ثابت : لنا القدم الأولى وإليك وخلفنا لأولنا في طاعة اللّه تابع قال : واحسب أنّه إذا وجّه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن وحمض من طول تركه في السقاء حتى تفسد، ومن قولهم : خلف فم الصائم إذا تغير ريحه وفسد، فكان الرجل الفاسد مشبه به. {وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا ادْنَى} والعرض متاع الدنيا أجمع. والعرض بسكون الراء ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. قال المفسّرون : (إن) اليهود ورثوا كتاب اللّه فقرأوه وعلموه وضيعوا العمل به وخالفوا حكمه يرتشون في حكم اللّه وتبديل كتاب اللّه وتغيير صفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ذنوبنا ما عملناه بالليل كُفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنياً على اللّه الأباطيل. {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} . قال سعيد بن جبير : وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه. وقال مجاهد : ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا الحلال أو حرام يشتهونه أخذوه. وكلما وهف لهم شيء من الدنيا أكلوه وأخذوا من الدنيا، ما وهف أي ما سهل، لا يبالون حلالاً كان أو حراماً ويبتغون في المغفرة فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه. قال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلاّ ارتشى في الحكم. وإن خيارهم اجتمعوا فأخذوا منهم بعض العهود أن لا يفعلوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى وارتشى يقال له : مالك ترتشي في الحكم، فيقول : سيُغفر لي، فيطعن عليه البقية (عَرَض) من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجلاً ممن كان يطعن فيرتشي فيقول وأن يأتي الآخرين عرض مثله يأخذوه ومعناه : وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا عاهدوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عرض مثله يأخذوه كما أخذ أسلافهم. والأدنى تذكير الدنيا وعرض هذه الدار الدنيا فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت لتذكير اللفظ. سمعت أبا القاسم الحبيبي قال : سمعت أبا بكر محمد بن عبد (....) يقول فيه تقديم وتأخير أي : يأخذون هذا العرض الأدنى {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللّه إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} وقرأوا ما فيه، وقرأ السلمي : ادّارسوا أي تدارسوا مثل إذا زكّوا أي قارأ بعضهم بعضاً. {وَالدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الشرك والحرام {أفلا تعقلون} بالياء قرأ أكثر القراء على الخبر. ١٧٠وقرأ الحسن وابن الأشهب بالتاء على الخطاب {والذين يمسكون الكتاب} قرأ عمر بن الخطاب وأبو العالية وعاصم ورواية أبي بكر بسكون خفيفة. وقرأ الباقون بسكون التشديد. قال أبو عبيد وأبو حاتم : لأنه يقال تمسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء : إنما يقال أمسكته ويدل عليه قراءة أُبي ابن كعب (والذين مسكوا الكتاب) على الماضي وهو جيد لقوله : (وأقاموا الصلاة) إذ قال ما يعطف (من) على مستقبل إلاّ في المعنى. وقرأ الأعمش : (والذين استمسكوا بالكتاب) ومعنى الآية : وأن يعملوا بما في كتاب اللّه قال مجاهد وابن زيد : هم من اليهود والنصارى الذين يمسكون بالكتاب الذي جاء به موسى فلا يحرفونه ولا يكتمونه أحلّوا حلاله وحرموا حرامه ولم يتخذوه (ما كُلُهُ نَزَل) في عبد اللّه بن سلام وأصحابه، وقال عطاء : فيهم أنّه محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصلاةَ إِنَّا} . ١٧١{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي قلعنا الجبل. قال مجاهد : كما ينتق الزبد. وقال المؤرخ : قطعنا. وقال أبو عبيدة : زعزعنا. وقال الفراء : خلقنا. وقال بعضهم رفعناه. واحتج بقول العجاج : ينتقن أقتاد الشليل نتقاً يعني يرفعه عن ظهره. وقال آخر : ونتّقوا أحلامنا الأثاقلا وقال بعضهم : أصل النتق والنتوق أن يقلع الشيء من موضعه فيرمى. قال أبان بن تغلب : سمعت رجلاً من العرب يقول لغلامه : فخذ الحجر ألقه فانتقه أي نكسه وانثره. ويقال للمرأة الكثيرة الولد : ناتق ومنتاق لأنها ترمي (صدرها) رمياً قال النابغة : لم يحرموا حسن الغذاء وأُمهم حقت عليك بناتق مذكار وقال بعضهم : هو من التحريك فقال : ينتفي السير أي حَرَكني، يقال : ينتق برجله ويركض إذا حركت رجله على الدابة حين تعدو به. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} الظلة ما أظلك {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ} نازل بهم {خُذُوا} أي قلنا خذوا {مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذلك فَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ} فاعملوا به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها لتغليظها وكانت شريعة ثقيلة فرفع اللّه عز وجل جبلاً على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ. وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها ليقعن عليكم. قال الحسن البصري : فلما نظروا للجبل خرَّ كل رجل ساجداً على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى على الجبل خوفاً من أن يسقط عليهم فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلاّ على حاجبه الأيسر، يقولون : هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. نشر موسى الألواح فيها كتاب اللّه كتب بيده لم يبقَ على وجه الأرض جبل، ولا بحر ولا حجر إلاّ اهتزّ فليس اليوم يهودي على الأرض صغير ولا كبير يقرأ عليه التوراة إلاّ اهتزّ وتعفّر لها رأسه. ١٧٢{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} . قال المفسّرون : لمّا خلق اللّه عزّ وجلّ آدم مسح ظهره وأخرج منه ذريته كلهم وهي الذرية واختلفوا في موضع الميثاق. فقال ابن عباس : يسكن نعمان واد إلى جنب عرفة، وروي فيه أيضاً أنّ ذلك (برهبا) أرض بالهند وهو الموضع الذي أهبط اللّه فيه آدم (صلى اللّه عليه وسلم) . وقال الكلبي : بين مكّة والطائف. وقال السدي : أخرج اللّه آدم من الجنّة ولم يهبط من السماء ثمّ مسح ظهره وأخرج ذريته. قالوا : فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وأصحاب المنامة. وقال لهم : جميعاً أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإنّي مرسل إليكم رجالاً يذكرونكم بعهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلّموا وقالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك، فأقرّوا يومئذ كلهم طائفة طائعين. وطائفة على وجه التقدير تقيّة، فأخذوا بذلك مواثيقهم وسُمّيت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم فنظر إليهم آدم، ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال : رب لولا سويت بينهم، فقال : إنّي (أحببت أن) أشكر. قالوا : وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نوراً ساطعاً فقال : من هذا؟ فقال : هذا داود نبي من ذريتك قال : كم عمره؟ قال : ستّون سنة قال : رب زده. قال : جرى القلم بآجال بني آدم، قال : رب زده من عمري أربعين سنة، فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت، فلما رآه آدم قال : مالك؟ قال : استوفيت أجلك، قال له آدم : بقي من عمري أربعون سنة، قال : أليس قد وهبتها لداود؟ قال : لا فجحد آدم، فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطأ فخطئت ذريته، فرجع الملك إلى ربه فقال : إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة، قال : أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود (عليه السلام) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود، فلما قررهم بتوحيده وآثر بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه ولا يزداد فيهم ولا ينقص عنهم، فذلك قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ} ونظم الآية : وإذا أخذ ربّك من ظهر بني آدم ذريتهم، ولم يذكر أمر آدم فإنما أعرجوا يوم الميثاق في ظهره، لأن اللّه عزّ وجلّ أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم بقوله (من بني آدم) فلما علم أنهم كلهم بنوه و (خرجوا) من ظهره ترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور بنيه. وقوله : قرأ أهل مكة والكوفة : ذريتهم بغير ألف على الواحد، وقرأ الباقون على الجمع بالألف {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} وقال لهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} سؤال تقرير {قَالُوا} جميعاً {بَلَى} أنت ربّنا {شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا} قرأ ابن عباس وابن محيصن وأبو عمرو : (يقولوا) بالباء، والباقون بالتاء كقوله : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، واختلفوا في قوله : (شهدنا) فقال السدي : خبر من قوله تعالى عن نفسه وعن ملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم، وقال الآخرون : بل ذلك على إقرار بني آدم حين أشهد بعضهم على بعض أن يقولوا يعني أن لا يقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} الميثاق والإقرار ١٧٣{غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم} فاتبعناهم {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} يعني المشركين وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن التوحيد ١٧٤{وَ كذلك نُفَصِّلُ ايَاتِ} لقومك يامحمد {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم ١٧٥{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا} اختلفوا فيه. فقال عبد اللّه بن مسعود : هو بلعم بن ابرة. وقال ابن عباس : هو بلعم بن باعورة. وقال مجاهد : هو بلعام بن باعر. وقال مقاتل : هو بلعام بن باعور بن ماث بن لوط. عطية عن ابن عباس : هو من بني إسرائيل. وقال عليّ بن أبي طلحة : هو من الكنعانيين من مدينة الجبارين، وقال مقاتل : هو من مدينة بلقا، وسميت بلقا لأن ملكها كان رجلاً يقال له : بالق وكانت وصيته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم : إن موسى (عليه السلام) لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم اللّه الأعظم. فقالوا : إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنّه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج وادع اللّه تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال : ويلكم نبي اللّه معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من اللّه ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي. وقالوا ما لنا من (نزل) وراجعوه في ذلك قال : حتى أُءامر ربّي، وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم. فقيل له في المنام : لا تدع عليهم، فقال لقومه : إني قد أُمرت ربّي في الدعاء عليهم وإنّي قد نُهيت، فهدوا له هدية، فقبلها ثمّ راجعوه وقالوا : أدع عليهم، فقال : حتّى أؤمر فلما أُمّر لم يجيء إليه شيء. فقال : قد أُمّرت فلم يجيء إليّ شيء، فقالوا : لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى. فلم يزالوا به (يروقونه) ويتضرعون إليه حتّى فتنوه فافتن فركب (أتاناً) له متوجهاً إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان. فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتّى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيراً حتّى ربضت فضربها حتّى إذا أذاقها أذن اللّه لها بالكلام فتكلمت حجة عليه فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي اللّه والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فخلّى اللّه سبيلها فانطلقت حتّى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء إلاّ صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلاّ صرف مسألته إلى بني إسرائيل. فقال له قومه : أتدري يابلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال : فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب اللّه عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم : قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبقَ إلاّ المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثمّ أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا. فلمّا دخل النساء العسكر مرَّت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يُقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) فقام إليها فأخذ بيدها حين أَفْتنه جمالها ثمّ أقبل حتّى وقف على موسى فقال : إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال : أجل هي حرام عليك لا تقربها قال : فواللّه لا نطيعك في هذا ثمّ دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل اللّه الطاعون على بني إسرائيل في الوقت. وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجلٌ قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون (يمجّس) في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها ثمّ دخل عليه القبة وهما متضاجعان (فاستقبلها) بحربته ثمّ خرج بهما رافعاً بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته. وكان (يكره العيزار) وجعل يقول : اللّهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون. فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون ألفاً في ساعة من نهار، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنّه كان (بكراً) لعيزار بن هارون وفي بلعم أنزل اللّه تعالى : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا} الآية. وقال مقاتل : إن ملك البلقاء قال لبلعام : أدعُ على موسى، فقال : إنه من أهل ديني لا أدعو عليه فنصبت خشبة ليصلب فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليهم، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت : لم تضربني إني مأمورة فلا تظلمني وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك، فقال : لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ألا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى : يارب (بأي) ذنب وقعنا في التيه قال : بدعاء العالم، قال : فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه اللّه تعالى مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} فأنزل اللّه تعالى فيه هذه الآية. وقال عبد اللّه بن عمر بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق : نزلت هذه الآية في أُميّة بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصّته أنّه كان في ابتداء (أمره) قرأ الكتب وعلم أن اللّه تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو ذلك الرسول. فلما أرسل محمد (عليه السلام) حسده وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مرَّ على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال : لو كان نبياً ما قتل أقرباءه. فلمّا مات أميّة أتت أخته فارعة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فسألها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن وفاة أخيها فقالت : بينا هو قد (أتانا فنام على سريري فأقبل طائران) ونزلا فقعد أحدهما عند رجله والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه : أَدُعي؟ قال : دُعي، قال : أزكّي؟ قال : أبى، قالت : فسألته عن ذلك. قال : خيراً زيدي، فصرف عني ثمّ غشي عليه فلما أفاق قال : كل عيش وإن تطاول دهراً صائر أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما بدا لي في قلال الحبال أرعى الوعولا يوم الحساب يوم عظيم شاب فيه الصغير نوماً ثقيلاً ثمّ قال لها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنشديني شعر أخيك. فأنشدته : لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ولا شيء أعلى منك جداً وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهي قصيدة طويلة حتّى أتت على آخرها. وأنشدته قصيدته : وقف الناس للحساب جميعاً فشقي معذب وسعيد ثمّ أنشدته قصيدته التي فيها عند ذي العرش يعرضون عليه يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمن وهو رحيم إنّه كان وعده مأتياً يوم يأتيه مثل ما قال فرد ثم لابد راشداً أو غوياً أو سعيداً سعادة أنا أرجو أو مهاناً لما اكتسبت شقياً إن أوءاخذ بما أجرمت فإني سوف ألقى في العذاب قوياً ورب إن تعفو فالمعافاة ظنّي أو تعاقب فلم تعاقب بريّاً قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل اللّه عزّ وجلّ : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا} الآية. ومنهم مَنْ قال : إنها نزلت في البسوس. وكان رجلاً قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات. وكانت له امرأة وكان له منها ولد فقالت له : اجعل منها دعوة واحدة لي. فقال : لك منها واحدة، فما تريدين؟ فقالت : ادع اللّه أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الرجل. ودعا عليها فصارت كلبة نبّاحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها فقالوا : ليس لنا على هذا قرار دعوت على أمّنا فصارت كلبة نبّاحة والناس يُعيروننا أدعو اللّه أن يردها على الحال التي كانت عليها، فدعا اللّه عزّ وجلّ فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات. وقال سعيد بن المسيب : نزلت في أبي عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) الفاسق. وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ فقدم المدينة وقال للنبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ما هذا الذي جئت به. قال : (جئت بالحنفية دين إبراهيم)، فقال : أنا جئتها، فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (لست عليها ولكنك أدخلت إبليس فيها)، فقال أبو عامر : أمات اللّه كاذباً منا طريداً وحيداً فخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا القوّة والسلاح وابنوا إلي مسجداً ثمّ أتى الراهب قيصر وأتى بجند ليُخرج النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه من المدينة فذلك قوله : {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّه وَرَسُولَهُ} يعني انتظاراً لمجيئه فمات بالشام طريداً وحيداً. وقال عبادة بن الصامت : نزلت في قريش أتاهم اللّه الآيات فانسلخوا منها فلم يقبلوها، فقال الحسن وابن كيسان : نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) كما يعرفون أبناءهم. وقال عمرو بن دينار : سُئل عكرمة عن هذه الآية فقال : هذا وهذا ليست في خاصة. وقال قتادة : هذا مثل ضربه اللّه لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله فذلك قوله : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا} . وقال ابن عباس والسدي : هي اسم اللّه الأعظم. وقال ابن زيد : كان لا يسأل اللّه شيئاً إلاّ أعطاه. وقال ابن عباس في رواية أُخرى : أعظم أنها كتاباً من كتب اللّه. مجاهد : هو نبي من بني إسرائيل يقال له بلعم أوتي النبوّة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. {فَانْسَلَخَ} (خرج) {مِنْهَآ} كما تنسلخ الحيّة من جلدها {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي لحقه وأدركه ١٧٦{فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها} أي فضلناه وشرفناه ورفعنا منزلته بالآيات. وقال ابن عباس : رفعناه بها. وقال مجاهد وعطاء : يعني لرفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه. {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض} قال سعيد بن جبير : ركن الى الأرض. مجاهد : سكن. مقاتل : رضي بالدنيا. أبو عبيدة : لزمها وأبطأ، والمخلد من الرجال هو الذي يبطئ شيبه ومن الدواب التي تبقى ثناياه حتّى تخرج رباعيتاه. قال الزجاج : خلد وأخلد واحد وأجعله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال خلد فلان بالمقام إذا أقام به. ومنه قول زهير لمن الديار غشيتها بالغرقد كالوحي في حجر المسيل المخلد يعني : المقيم. وقال مالك بن نويرة : فما نبأ حيّ من قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي : يتبع (خسيس) الأمور ويترك معاليها. وقال أبو روق : اختار الدنيا على الآخرة. وقال ابن زيد : كان هواه مع (القدم) قال عطاء : أراد الدنيا وأطاع شيطانه، وقال يمان : واتبع هواه أي امرأته لأنّها حملته على الخيانة. {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} قال مجاهد : هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، وقال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث وهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع. وروى معمر عن بعضهم قال : هو الكافر ضال إن وعظته أو لم تعظه. قال ابن عباس : معناه إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تتركه لم يهتدِ بخير كالكلب إن كان (رابضاً) لهث وإن طرد لهث. وقال الحسن : هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ (كالكلب) يلهث طرد أو ترك، قال عطاء : ينبح إن يحمل عليه وإن لم يحمل، وقال القتيبي : كل شيء يلهث من إعياء أو عطش إلاّ الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الصحة وحال المرض، وحال (الجوع) وحال العطش فضربه اللّه مثلاً لمن كذب بآياته. فقال : إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته لهث ونظيره قوله {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} روى محمد بن إسحاق عن سالم (أبي الخضر) قال : يعني مثل بني إسرائيل أي إن جئتهم بخبر ما كان فيهم ما غاب عنك (لعلهم يتفكرون). فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلاّ نبي يأتيهم خبر السماء ١٧٧{سَآءَ مَثَلا} أي بئس المثل مثلاً حال من المثل المضمر. كما قال جرير : فنعم الزاد زاد أبيك زاداً هذا إذا جعلت (ساء) من فعل المثل ورفعت القوم بدلاً من الضمير فيه. وإن حولت فعله إلى القوم ورفعتهم به كان (انتهاء) به على التمييز، يريد سأمثل القوم فلما حولته إليهم خرج المثل مفسّراًكما يقال : قربه عيناً وضاق ذرعاً، متى ما سقط التنوين عن المميز (المخفض) بالإضافة دليله قراءة (الجحدري) والأعمش سأمثّل القوم بالاضافة، وقال أبو حاتم : يريد بها (مثلاً) مثل القوم فحذف مثل. وأقام القوم (به أُمّة) فرفعهم كقوله : {وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} . {وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} إلى قوله تعالى ١٧٨-١٧٩{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَانسِ} وإنما قال ذلك لنفاد علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم ويُسمّي بعض أهل المعاني هذه اللام لام (الصيرورة) فيه كقوله : {فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} . وأنشدوا : أموالنا لذوي الميراث نجمعها (ودورنا) لخراب الدهر نبنيها وقال الآخر : فللموت تغدو الوالدات سخالها كمالخراب الدهر تبنى المساكن وروى عبد اللّه بن عمرو عن النبييّ (صلى اللّه عليه وسلم) في هذه الآية قال : (إن اللّه تعالى كما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم)، ثمّ وصفهم فقال {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} ولا يعلمون الخير والهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} طريق الحق والرشاد {وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ} مواعظ اللّه والقرآن فيفكرون ويعتبرون بها فيعرفون بذلك توحيد اللّه ثمّ يعملون بتحقيق (النبوّة) فآتينا بهم ثمّ ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل. وقال عز من قائل {أُولَاكَ كَانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه وفي الخبر : (كل شيء أطوع للّه من ابن آدم). {أُولَاكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} . ١٨٠{وَللّه الأسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} قال مقاتل : وذلك أن رجلاً دعا اللّه في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من مشركي مكة : أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل اللّه {وَللّه الأسْمَآءُ الْحُسْنَى} وهو تأنيث الأحسن كالكبرى والأكبر والصغرى والأصغر، والأسماء الحسنى هي الرحمن الرحيم. الملك القدوس السلام ونحوها. الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن للّه تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحدة، من أحصاها كلّها دخل الجنّة). {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَاهِ} . قال ابن عباس : يكذبون، وقال قتادة : يشركون، وقال عطاء : ظامئون، زيد بن أسلم : يميلون عن الحق. ابن عباس ومجاهد : هم المشركون. وإلحادهم في أسماء اللّه عز وجل أنهم عدلوا بها عمّا هي عليه فسموا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها فاشتقوا اللات من اللّه تعالى والعزّى من العزيز ومنات من المنّان. وقال أهل المعاني : الإلحاد في أسماء اللّه تعالى يسميه بما لم يسم به ولا ينطق به كتاب ولا دعا إليه رسول، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن القصد ومنه لحد القبر. فيقال : ألحد يلحد إلحاداً ولحد يلحد لحداً ولحوداً إذا مال. وقد قرئ بهما جميعاً فقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة : بفتح الياء والحاء هاهنا وفي النحل (رحم). وقرأ الباقون : بضم الياء وكسر الحاء وهما لغتان (صحيحتان). وأمّا الكسائي فإنّه قرأ التي في النحل بفتح الياء والحاء وفي الأعراف (رحم) بالضم وكل يفرق بين الإلحاد واللحود فيقول : الالحاد العديل عن القصد واللحد واللحود الركون، ويزعم أن التي في النحل يعني الركون {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الآخرة ١٨١{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} عصبة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال قتادة وابن جريج : بلغنا أن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قرأ هذه الآية فقال : هي أحق بالحق يأخذون ويقضون ويعطون وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). قال الربيع بن أنس : قرأ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) هذه الآية فقال : (إن من أمتي قوماً على الحق حتّى ينزل عيسى) (عليه السلام). عن عمير بن هاني قال : سمعت معاوية على هذا المنبر يقول : سمعت النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال : لا يزال من أُمّتي أُمّة قائمة بأمر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من غالطهم حتّى يأتي أمر اللّه عزّ وجلّ، وهم ظاهرون على الناس). وقال ابن حيان : هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال عطاء : هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان قد سماهم اللّه تعالى في سورة براءة. وقال الكلبي : هم من جميع الخلق ١٨٢{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ يَعْلَمُونَ} قال بعضهم : سنأخذهم بالعذاب، وقال الكلبي : نزّين لهم أعمالهم فنهلكهم. وقال الضحاك : كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة، وقال الخليل بن أحمد : سنطوي وإن أعمارهم في اغترار منهم. وقال أبو عبيدة والمؤرخ : الاستدراج أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال أهل المعاني : الاستدراج أن ندرج إلى الشيء في خفيّة قليلاً قليلاً ولا يباغت ولا يجاهر. يقال : استدرج فلاناً حتّى تعرف ما صنع أي لا يجاهر ولا يهجم عليه، قال : ولكن استخرج ما عنده قليلاً قليلاً وأصله من (الدرج) وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة فاستعير (هذا عنه). ومنه الكتاب إذا طوى شيئاً بعد شيء، ودرج القوم إذا مات بعضهم في دار بعض، ودرج الصبي إذا قارب من خطاه في المشي ١٨٣{وَأُمْلِى لَهُمْ} يعني أُمهلهم وأطيل من الملاواة وهو الدهر، ومنه مليت أي غشت دهراً {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} أي أخذي قوي مديد قلت : في المستهزئين، ١٨٤فقتلهم اللّه في ليلة واحدة {أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنَّة} قتادة : ذكر لنا أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قام على الصفا ليلاً فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً يابني فلان يابني فلان يحذرهم بأس اللّه عزّ وجلّ، ووقائعه فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى الصباح فأنزل اللّه {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ} . ما بمحمد من جنون. {إِنْ هُوَ} ما هو {إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مخوف ١٨٥{أو لم ينظروا في ملكوت} ملك {السماوات والأرض وما خلق اللّه} فيهما {مِن شَىْءٍ وَأَنْ عَسَىا} وهي أن لعلّ {أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيهلكوا على الكفر ويصبروا إلى العذاب {فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ} بعد القرآن {يُؤْمِنُونَ} ثمّ بيّن العلّة في إعراضهم عن القرآن وتركهم الإيمان فقال عز من قائل : ١٨٦{مَن يُضْلِلِ اللّه فَلا هَادِيَ} فلا مرشد له {وَيَذَرُهُمْ} قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بالياء، لأن ذكر اللّه سبحانه قد مرَّ من قبل. والباقون بالنون، لأنّه كلام (مستأنف) ومن جزم الراء فهو ممدود على يضلل. ١٨٧{يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} قال ابن عباس : قال (وجيل) بن أبي فشير وسمؤال بن زيد : وهما من اليهود : يامحمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فلنعلم متى هي؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال قتادة : قالت قريش لمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) إن بيننا وبينك قرابة فأشر إلينا متى الساعة فأنزل اللّه {يَسَْلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} يعني القيامة {أَيَّانَ} متى، ومنه قول الراجز : أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لنجحها إبانا {مُرْسَاهَا} قال ابن عباس : ومنتهاها، وقال قتادة : قيامها. وأصل الكلمة الثبات والحبس {قل إنّما علمها عند ربّى} استأثر بعلمها {لا يُجليها إلاّ هو} لا يجليها لا يكشفها ولا يظهرها. وقال مجاهد : لا يأتي بها، وقال السدي : (لا يرسلها) لوقتها إلاّ هو {ثقلت في السماوات والأرض} يعني ثقل علمها على أهل السموات والأرض لخفائها فلا يعرفون مجيئها ووقتها فلم يعلم قيامها مَلَك مقرّب ولا نبي مرسل. وقال الحسن : يقول إذا جاءت ثقلت على السموات والأرض وأهلها وكبرت وعظمت وذلك أنها إذا جاءت انشقت السموات وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال. وليس من الخلق شيء إلاّ ويصيبه ضرر الساعة وثقلها ومشقتها {تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} فجأة على غفلة منكم. سعيد عن قتادة قال : إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كان يقول (إن الساعة تهيج الناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه). وعن زيد بن أرقم قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (قال جبرئيل : تقوم الساعة عند ثلاث مواطن : إذا كثر القول وقلّ العمل وعند قلّة المواشي حتّى يمضي كل رجل ممّا عنده، وإذا قال الناس من يذكر اللّه فيها بدعة). { يَسَْئلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ} قال أهل التفسير في الآية تقديم وتأخير تقديرها. يسألونك عنها كأنّك حفي أي (بار فيهم) صديق لهم قريب، قاله ابن عباس وقتادة، وقال مجاهد والضحاك : كأنّك عالم بها وقد يوضع عن موضع مع الياء {قل علمها عند اللّه} إلى قوله (نفعاً وضراً). فقال ابن عباس : إن أهل مكة قالوا : يامحمد ألا يخبرك بالسعر الرخيص قبل أن يغلا فتشتريه فتربح فيه، والأرض الذي تريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت فأنزل اللّه تعالى ١٨٨{قُلْ} يامحمد {أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي اجتناب نفع ولا دفع {إِلا مَا شَآءَ اللّه} أي أملكه بتمليكه إياي {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ سْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} يعني المال وتهيأت لسنة القحط ما يكفيها {وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ} وما مسّني اللّه (بسوء). وقال ابن جريج : {قل لا أملك نفعاً ولا ضراً} يعني الهدى والضلالة ولو كنت أعلم الغيب متى أموت لاستكثرت من الخير من العمل الصالح وما مسّني السوء. قال ابن زيد : فاجتنبت ما يكون من الشر وأتقيه. قال بعض أهل المعاني : (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من معرفته حتّى لا يخفى عليّ شيء {وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ} يعني التكذيب. وقال مقاتل : هذا متصل بالكلام الأول معناه : لا أقدر أن (أسوق) لنفسي خيراً أو أدفع عنها شراً حتّى ينزل بي فكيف أعلم وأملك علم الساعة؟ وتمام الكلام قوله : لاستكثرت من الخير، ثم ابتدأ فقال : (وما مسّني السوء) (يعني الجنون). وقيل يعني لم يلحقني تكذيب {إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون. ١٨٩{هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم (عليه السلام) {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} خلق منها حواء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} يستأنس إليها ويأوي إليها لقضاء حاجته {فَلَمَّا تَغَشَّ اهَا} واقعها وجامعها {حَمَلَتْ حَمْ خَفِيفًا} وهو ماء الرجل خفيف عليها {فَمَرَّتْ} أي استمرت {بِهِ} وقامت وقعدت ولم تكترث بحملها، يدل عليه قراءة ابن عباس : فاستمرت به. وقال قتادة : (فمرّت به) أي استبان حملها. وقرأ يحيى بن يعمر (فمرت) خفيفة الراء من لمرية أي : شكّت أحملت أم لا؟ {فَلَمَّآ أَثْقَلَت} أي كبر الولد في بطنها وتحرك وصارت ذات ثقل بحملها كما يقال : أثمر إذا صار ذا ثمر {دَّعَوَا اللّه رَبَّهُمَا} يعني آدم وحواء {لَ نْ ءَاتَيْتَنَا} ياربنا {صَالِحًا} . قال الحسن : غلاماً ذكراً. وقال الآخرون : بشراً سويّاً مثلنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهما أو شيئاً سوى آدمي أو غير سوي. قال الكلبي : إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال : ما هذا الذي في بطنك قالت : ما أدري، قال : إني أخاف أن يكون بهيمة، فقالت ذلك لآدم، فلم يزالا في نِعَم من ذلك ثمّ عاد إليها فقال : إني من اللّه (منزّل) فإن دعوت اللّه فولدت انساناً (أتسميّنه فيّ) قالت : نعم، قال : فإنّي أدعو اللّه فأتاها وقد ولدت فقال : سميه باسمي، فقالت : وما اسمك؟ قال : الحارث، ولو سمّى نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث. وقال سعيد بن جبير : لما هبط آدم وحواء (عليهما السلام) الأرض أُلقيت الشهوة في نفس آدم فأصابها فحملت فلما تحرك ولدها في بطنها جاءها إبليس فقال ما هذا (ماترين) في الأرض إلاّ ناقة أو بقرة أو ضاينة أو (كاجزة) أو نحوها فما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو أذنك أو عينيك أو فيك أو يشق بطنك فيقتلك، فخافت حواء من ذلك قال : فأطيعيني وسميه عبد الحرث. وكان اسمه في الملائكة الحرث، تلدين شبيهكما مثلكما، فذكرت ذلك لأدم فقال : لعلّه صاحبنا الذي قد علمت، فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتّى غرهما فسمّياه عبد الحرث. قال السدي : ولدت حواء غلاماً فأتاها إبليس فقال سموه بي وإلاّ قتلته، قال له آدم : قد أطعتك فأخرجتني من الجنّة، فأبى أن يطيعه فمات الغلام، فحملت بآخر فلما ولدته قال لهما مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه، فمات الولد، فحملت بآخر فأتاهما وقال لهما : إذ غلبتماني فسمياه عبد الحرث، وكان اسم إبليس الحرث. ولم يشعروا به فواللّه لا أزال أقتلهم حتّى تسمياه عبد الحرث. كما قتلت الأول والثاني فسمياه عبد الحرث فعاش. وقال ابن عباس : كانت حواء تلد لآدم فتسميه عبد اللّه وعبيد اللّه وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال : إن (وعدتكما) أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فولدت ابناً فسمياه عبد الحرث ففيهما أنزل اللّه عزّ وجلّ ١٩٠{فَلَمَّآ ءَاتَ اهُمَا صَالِحًا} أي ولداً بشراً سوياً حياً آدمياً {جَعَ لَهُ شُرَكَآءَ} . قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وأبان بن ثعلب وعاصم وعكرمة وأهل المدينة شركاء بكسر الشين والتنوين أي شركه. قال أبو عبيدة : أي حظاً ونصيباً من غيره، وقرأ الباقون شركاء مضمومة الشين ممدودة على جمع شريك أخبر عن الواحد بلفظ الجمع، لقوله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} مفرداً، تم الكلام هاهنا ثمّ قال : {فَتَعَالَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ} يعني أهل مكة. واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء فقال المفسرون : كان شركاء في التسمية والصفة لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني : أنهما لم يذهبا إلى أن الحرث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحرث لكنهما قصدا إلى أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أُمّه فسمياه، كما (يُسمى) ربّ المنزل، وكما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له لا على أن الضيف ربّه. كما قال حاتم : وإنّي لعبد الضيف ما دام ثاوياً وما فيّ إلاّ تلك من شيمة العبد وقال قوم من أهل العلم : إن هذا راجع إلى المشركين من ذرية آدم وإن معناه جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كقوله تعالى {وَسْ َلِ الْقَرْيَةَ} وكما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تفريقهم بفعل آبائهم، فقال لليهود الذين كانوا في عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ اتخذتم العجل من بعده. وقال {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءْتُمْ فِيهَا} . وقال سبحانه : {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللّه} ونحوها، ويدل عليه ما روى معمر عن الحسن قال : عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يكن عنى آدم. وروى قتادة عنه قال : هم اليهود والنصارى رزقهم اللّه أولاداً فهودوا ونصّروا. وقال ابن كيسان : هم الكفار جعلوا للّه شركاء عبد العزى وعبد مناة. وقال عكرمة : لم يخص بها آدم ولكن جعلها عامة لجميع بني آدم من بعد آدم. قال الحسين بن الفضل : وهذا حجب إلى أهل النظر لما في القول الأول من إلصاق العظائم بنبي اللّه آدم (عليه السلام) ويدل عليه جمعه في الخطاب حيث قال : {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، ثمّ قال : {فَلَمَّا تَغَشَّ اهَا} انصرف من ذلك الخطاب إلى الخبر يعني فلما تغشى الرجل منكم امرأته. ١٩١قال اللّه عزّ وجلّ : {أَيُشْرِكُونَ} يعني كفار مكة {مَا يَخْلُقُ شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يعني الأصنام. قال ابن زيد : ولد لآدم ولد فسمياه عبد اللّه فاتاهما إبليس فقال : ما سميتما ابنكما هذا؟ قال : وكان ولد لهما قبل ذلك ولد سمياه عبد اللّه فمات فقالا : سميناه عبد اللّه، فقال إبليس : أتظنان أن اللّه تارك عبده عندكما لا (واللّه) ليذهبن كما ذهب الآخر، ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد شمس. فذلك قوله {أَيُشْرِكُونَ مَا يَخْلُقُ شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} . الشمس لا تخلق شيئاً حتّى يكون لها عبداً إنّما هي مخلوقة قال : وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (خدعهما مرتين خدعهما في الجنّة وخدعهما في الأرض). والذي يؤيد القول الأول قراءة السلمي : أتشركون بالتاء. ١٩٢-١٩٣{ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم الى الهدى} يعني الأصنام {يَتَّبِعُوكُمْ} لأنها غير عاقلة {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ} ساكتون ١٩٤-١٩٥{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه عِبَادٌ} مخلوقة مملوكة مقدرة مسخرة {أَمْثَالَكُم} أشباهكم {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنّها آلهة. {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} يأخذون بها {أم لهم أعين يبصرون بها أم آذان يسمعون بها قل أُدعو شركاءكم} يامعشر المشركين {ثمّ كيدوني} أنتم وهم {فَلا تُنظِرُونِ} . ١٩٦-١٩٨{إن وليَّ اللّه الذي} يعني الذي (يحفاني) ويمنعني منكم اللّه {نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم} يامحمد يعني الأصنام {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ يُبْصِرُونَ} وهذا كما يقول العرب : داري ينظر إلى دارك أي يقابلها. ويقول العرب : إذا أتيت مكان كذا فنظر إليك الحمل فخذ يميناً وشمالاً أي : استقبلك. وحدث أبو عبيدة عن الكسائي قال : الحائط ينظر إليك إذا كان قريباً منك حيث تراه. ومنه قول الشاعر : إذا نظرت بلاد بني تميم بعين أو بلا بني صباح وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه : وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله : {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي كأنهم سكارى وإنّما أُخبر عنهم بالهاء والميم، لأنّها مصوّرة على صورة بني آدم مخبرة عنها بأفعالهم. ١٩٩{خُذِ الْعَفْوَ} قال مجاهد : يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تخميس. قال ابن الزبير : ما أنزل اللّه تعالى هذه الآية إلاّ في أخلاق الناس. وقال ابن عباس والسدي والضحاك والكلبي : يعني ماعفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال والكل فما أتوك به عفواً فخذه ولا تسألهم ما ذرأ ذلك. وهذا قبل أن ينزل فريضة الصدقات. ولما نزلت آية الصدقات نسخت هذه الآية وأمر بأخذها منهم طوعاً وكرهاً {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي بالمعروف. قرأ عيسى بن عمر : العُرُف ضمتين مثل الحُلُم وهما لغتان والعرف المعروف والعارفة كل خلصة حميدة فرضتها العقول وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر : من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين اللّه والناس قال عطاء : وأمر بالعرف يعني لا إله إلاّ اللّه {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف. ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لجبرئيل : (ما هذه؟ قال : لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال : يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك). فنظم الشاعر فقال : مكارم الأخلاق في ثلاث من كملت فيه فذاك الفتى إعطاء من يحرمه ووصل من يقطعه والعفو عمن عليه اعتدى قال جعفر الصادق : (أمر اللّه تعالى نبيه (صلى اللّه عليه وسلم) بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية). قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (رحمهما اللّه). وقالت عائشة : مكارم الأخلاق عشرة : صدق الحديث. وصدق البأس في طاعة اللّه. وإعطاء السائل. ومكافأة الصنيع. وصلة الرحم. وأداء الأمانة. والتذمم للصاحب. والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء. أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه الصفار، أنشدنا ابن أبي (الدنيا) أنشدني أبو جعفر القرشي. كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلاّ الثناء فإنه لك باق لو أنني خُيّرتُ كل فضيلة ما اخترت غير مكارم الأخلاق ٢٠٠قال عبد الرحمن بن زيد : لما نزلت هذه الآية قال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (كيف يارب (والغضب)) فنزل {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ} يعني يصيبنك ويفتننك ويغرنك ويعرض لك من الشيطان {نَّزَغَ} وأصله الولوع بالفساد والشر. يقال نزغ عرقه إذا (جُنَّ) وهاج، وفيه لغتان : نزغ ونغز، يقال : إياك والنزاغ والنغاز وهم المورشون. وقال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون من الإنسان ومن الشيطان أدنى وسوسة، وقال سعيد ابن المسيب : شهدت عثمان وعلياً وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئاً ثمّ لم يبرحا حتّى استغفر كل واحد منهما لصاحبه {فَاسْتَعِذْ بِاللّه} فاستجر باللّه ٢٠١{إنّه سميع عليم إن الذين اتقوا} يعني المؤمنين {إِذَا مَسَّهُمْ} أصابهم {طَافٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والأعمش وابن يزيد والجحدري وطلحة : طيف، وقرأ الباقون : طائف، وهما لغتان كالميت والمائت، ومعناهما الشيء الذي (بكم بك) وفرق قوم بينهما. فقال أبو عمرو : الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة الخطرة. وقال بعض (المكيين) : الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللحم والمس. ويجوز أن يكون الطيف مخفّفاً عن طيّف مثل هيّن وليّن. يدل عليه قراءة سعيد بن جبير : طيّف بالتثقيل. وقال ابن عباس : {إِذَا مَسَّهُمْ طَافٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ} أي نزغ من الشيطان. وقال الكلبي : ذنب. وقال مجاهد : هو الغضب. {تَذَكَّرُوا} وتفكروا وعرفوا، وقال أبو روق : ابتهلوا، وفي قراءة عبد اللّه بن الزبير : إذا مسهم طائف من الشيطان (فأملوا). قال سعيد بن جبير : هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر اللّه فيكظم الغيظ، ليث عن مجاهد : هو الرجل هم بالذنب فيذكر اللّه فيدعه. وقال السدي : معناه إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل : إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية فأبصرها ونزغ من مخالفة اللّه {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} ينظرون مواضع خطيئتهم بالتفكر والتدبر (يمرون) فيقصرون، فإنّ المتّقي مَنْ يشتهي (.......) ويبصر فيقصر، ٢٠٢ثم ذكر الكفار فقال {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ} يعني إخوان الشيطان وهم الكفار يمدهم الشياطين في الغي حتى يطبلوا لهم ويزيدوهم في الضلالة. وقرأ أهل المدينة : يمدونهم بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد. وقرأ الجحدري بما دونهم على يفاعلونهم. {ثُمَّ يُقْصِرُونَ} أي لا يشكون ولا ينزغون. وقال ابن زيد : لا يسأمون ولا يفترون. قال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا (الجن ممسك) عنهم. وقرأ عيسى بن عمر : يَقصُرون بفتح الياء وضم الصاد وقصَر وأقصَر واحد ٢٠٣{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم} يامحمد يعني المشركين {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَِايَةٍ} أي هلاّ أقلعتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك، قاله قتادة، وقال مجاهد : لولا اقتضيتها وأخرجتها من نفسك. وقال ابن زيد : لولا يقبلها (لجئت) بها من عندك. وقال ابن عباس : لولا تلقيتها من عندك، أيضاً لولا حدثتها فأنشأتها. قال العوفي عن ابن عباس : (فنسيتها وقلتها) من ربّك. وقال الضحاك : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء، قال الفراء : تقول العرب : (جئت) الكلام وأخلقته وارتجلته وانتحلته إذا افتعلته من قبل نفسك. قال ابن زيد : إنّما يقول العرب ذلك الكلام بتهدئة الرجل ولم يكن قبل ذلك أعده لنفسه {قُلْ} يا محمد {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى} ثمّ قال {هَذَآ} يعني القرآن {بَصَآئرَ} حجج وبيان وبرهان {مِّن رَّبِّكُمْ} واحدتها بصيره. وقال الزجاج : طرق من ربكم، والبصائر طرق الدم. قال الجعفي : راحوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عتد وآي تعدّوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتّى يبصر الانسان فيهتدي إليها وينتفع بها، ومنه قيل : (ما لي في الأمر) من بصيرة و {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} قال عبد اللّه بن مسعود : كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن : ٢٠٤{وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يعني في الصلاة وقال أبو هريرة : كانوا يتكلّمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأُمروا بالإنصات. وقال الزهري : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كلما قرأ شيئاً قرأه، فنزلت هذه الآية. وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال : صلّى ابن مسعود فسمع ناساً يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا، أما آن لكم أن تعقلوا {وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وانصتوا} كما أمركم اللّه. وروى الحريري عن طلحة بن عبيد اللّه بن كريز قال : رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدّثان والقارئ يقرأ فقلت : ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود، قال : فنظرا إلي ثمّ أقبلا على حديثهما، قال : فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا : إنّما ذلك في الصلاة : {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} . وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في الصلاة. وقال الكلبي : وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتّى يسمعون ذكر الجنّة والنار فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال قتادة : كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم، وكان الرجل يأتي وهم فى الصلاة فيسألهم كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية. وقال ابن عباس : إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب : كان المشركون يأتون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا صلّى فيقول بعضهم لبعض بمكّة : لا تستمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل اللّه جواباً لهم {وإذا قرئ القرآن} . قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن يسار، وشهر بن حوشب : هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة. قال عبد اللّه بن المبارك : والدليل على حكم هذه الآية في (الجمعة) إنّك لا ترى خطيباً على المنبر يوم الجمعة يخطب، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلاّ قرأ هذه الآية قبل (فواة) قراءة القرآن. قال الحسن : هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر. وقال مجاهد وعطاء : وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلّي وعند الإمام وهو يخطب. وقال عمر بن عبد العزيز : الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة. قال الشاعر : قال الإمام عليكم أمر سيّدكم فلم نخالف وأنصتنا كما قالا وقال سعيد بن جبير : هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام. قال الزجاج : ويجوز أن يكون معنى قوله {استمعوا وانصتوا} اعملوا بما فيه لا تجاوزوه، لأن معنى قول القائل : سمع اللّه : أجاب اللّه دعاءك. ٢٠٥{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} قال ابن عباس : يعني بالذكر القراءة في الصلاة {تَضَرُّعًا} جهراً {وَخُفْيَةً} {وَدُونَ الْجَهْرِ} دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك. وقال أهل المعاني : واذكر ربّك اتعظ بالقرآن وآمن بآياته واذكر ربّك بالطاعة في ما يأمرك (تضرّعاً) تواضعاً وتخشّعاً (وخيفة) خوفاً من عقابه، فإذا قرأت دعوت باللّه أي دون الجهر : خفاء لا جهار. وقال مجاهد وابن جريج : أمر أن يذكروه في الصدور. ويؤمر بالتضرع فى الدعاء والاستكانة. ويكره رفع الصوت (والبداء) بالدعاء وأمّا قوله {بِالْغُدُوِّ وَاصَالِ} فإنه يعني بالبكر والعشيات، واحد الآصال أصيل، مثل أيمان ويمين، ٢٠٦وقال أهل اللغة : هو ما بين العصر إلى المغرب {ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربّك} يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة. وقال الحسين بن الفضل : قد يعبد اللّه غير الملائكة في المعنى من عند ربّك جاءهم التوفيق والعصمة {يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتكبرون ولا يتعظمون {عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ} وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان اللّه {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} يُصلّون. مغيرة عن إبراهيم : إن شاء ركع وإن شاء سجد |
﴿ ٠ ﴾