سورة الأنفالمدنيّة، وهي خمسة الآف ومئتان وأربعة وتسعون حرفاً، وألف ومئتان وإحدى وثلاثون كلمة زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَنْ قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برئ من النفاق وأُعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومُحي عنه عشر سيّئات ورُفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياتهِ في الدنيا). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية قال ابن عباس : أن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال يوم بدر : (مَنْ أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومَنْ قتل قتيلاً فله كذا، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا)، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلمّا فتح اللّه على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقال لهم الأشياخ : كنّا ردءاً لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا (بالغنائم دوننا). وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول اللّه إنّك وعدت مَن قتل قتيلاً فله كذا ومَنْ أسر أسيراً فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال : واللّه ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادةً في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال : يا رسول اللّه إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعطِ هؤلاء التي ذكرت لا يبقَ لأصحابك كثير شيء فنزلت {يَسَْلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية. فقسّم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بينهم بالسويّة. وروى مكحول عن أبي أُمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا، فجعله إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى اللّه وطاعة رسوله صلاح ذات البين. وقال سعد بن أبي وقاص : نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يُسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقلت : يا رسول اللّه إن اللّه قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ اللّه عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت : عسى أن يعطي من لم يُبل بلائي فما جاوزت إلاّ قليلاً حتّى جاءني الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) وقد أنزل اللّه عزّ وجلّ : { يَسَْئلُونَكَ عَنِ الأنفال} فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار ليّ فاذهب فخذه فهو لك). وقال أبو (أُميّة) مالك بن ربيعة : أُصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يُدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا يمنع شيئاً يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأعطاه إيّاه. وقال ابن جريج : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدراً فاختلفوا فكانوا أثلاثاً فنزلت هذه الآية وملّكها اللّه رسوله يقسّمها كما أراه اللّه. عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (قال : ) كانت المغانم لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكاً فهو غلول فسألوا رسول اللّه أن يعطيهم منها فأنزل اللّه عزّ وجلّ يسألونك يا محمد عن الأنفال أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها. وقيل : معناه يسألونك من الأنفال {عَنِ} بمعنى (من). وقيل : (من) صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف {عَنِ} وهو قول الضحاك وعكرمة. والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد : إن تقوى ربّنا خير نفل وبإذن اللّه ريثي والعجل وأصله الزيادة يقال : نفلتك وأنفلتك أي : زدتّك. واختلفوا في معناها : فقال أكثر المفسّرين : معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي. وقال عليّ بن صالح بن حيي : هي أنفال السرايا. وقال عطاء : فَأْنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) يصنع به ما يشاء. وقال ابن عباس : هي ما يسقط من المتاع بعدما يقسم من الغنائم فهي نفل للّه ولرسوله. وقال مجاهد : هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا : لِمَ يرفع منّا هذا الخمس، لِمَ يخرج منّا فقال اللّه تعالى : {قُلِ انفَالُ للّه وَالرَّسُولِ} يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة : فقال مجاهد وعكرمة والسدي : هي منسوخة نسخها قوله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية. وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) خاصّة فنسخها اللّه بالخمس. وقال عبد الرحمن بن أيد : هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قل الأنفال للّه وهي لا شك للّه مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره اللّه بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ للّه خُمسه ولكم أربعة أخماس. وقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (هذا الخمس مردود على فقرائكم)، وكذلك يقول في تنفيل الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلاً، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى : {واتّقوا اللّه وأصحلوا ذات بينكم} وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة. قال قتادة وابن جريج : كان نبيّ اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف : ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت {قل الأنفال للّه وللرسول فاتقوا اللّه وأصحلوا ذات بينكم} ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم اللّه بالطاعة فيها فقال {وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يُذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط. وقال أهل الكوفة : إنّما أراد بقوله {ذَاتَ بَيْنِكُمْ} الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء. قالوا : ولم يضعوا مذكّراً لمؤنّث ولا مؤنّثاً لمذكّر إلاّ لمعنى به وقوله ٢{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} الآية يقول اللّه تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف اللّه ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد اللّه. وقال السدي : هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه {وَإِذَا تُلِيَتْ} قُرئت {عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقال ابن عباس : تصديقاً، وقال الضحاك : يقيناً. وقال الربيع بن أنس : خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل : فما زيادته؟ قال : إذا ذكرنا اللّه وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان. وقال عدي بن عدي : كُتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سنناً وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومَنْ لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، (قال عمر بن عبد العزيز : فإن أعش فسأُبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص). {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يفوّضون إليه أُمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول ٣{الذين يُقيمون الصلاة وممّا رزقناهم يُنفقون أُولئك هم المؤمنون حقّا} أي حقّوا حقاً يعني يقيناً صدقاً. وقال ابن عباس : يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل : حقّاً لا شك في إيمانهم كشك المنافقين. وقال قتادة : استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه اللّه لهم. وقال ابن عباس : مَنْ لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقّاً. أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن عبد اللّه الرازي، قال : أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال : إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا هشام بن عبيد اللّه قال : حدّثنا عبيد (اللّه هشام) بن حاتم عن عمرو بن (درّ) عن إبراهيم قال : إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّاً، فليقل : إنّي مؤمن حقّاً فإن كان صادقاً فإنّ اللّه لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه. فإن كان كاذباً فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له : إنّي مؤمن حقّاً. وقال ابن أبي نجيح : سأل رجل الحسن فقال : أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان فإنّ كنتَ تسأل عن الإيمان باللّه وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله تعالى {عِندَ رَبِّهِمْ} فواللّه ما أدري أمنهم أنا أم لا. وقال علقمة : كنّا في سفر فلقينا قوماً فقلنا : من القوم؟ فقالوا : نحن المؤمنون حقّاً، فلم ندرِ ما نجيبهم حتّى لقينا عبد اللّه بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال : فما رددتم عليهم؟ قلنا : لم نرد عليهم شيئاً. قال : أفلا قلتم أَمِنْ أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة. ٤وقال سفيان الثوري : مَنْ زعم أنّه مؤمن حقّاً أمن عند اللّه ثمّ (وجد) أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله : {أُولَاكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} . وقال : تم الكلام هاهنا. ثمّ قال : حقّاً له درجات فجعل قوله حقّاً تأكيداً لقوله {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال مجاهد : أعمال رفيعة. وقال عطاء : يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم. هشام بن عروة : يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز : لهم درجات سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاماً {وَمَغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي حسن (وعظيم وهو ) الجنّة. ٥{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله : كما، فإما الذي شبه بإخراج اللّه نبيّه من بيته {بِالْحَقِّ} قال عكرمة : معنى ذلك فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج اللّه تعالى محمد من بيته بالحق خيراً لكم وإن كرهه فريق منكم. وقال مجاهد : كما أخرجك ربّك يا محمد من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه، أي أنّهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر. وقال بعضهم : أمر اللّه تعالى رسوله عليه السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون. وقيل : معناه يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجت العير ولم تعلمنا قتالاً (فنسخطه). وقيل : معناه أُولئك هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك ربّك من بيتك بالحق. وقال بعضهم : الكاف بمعنى (على) تقديره : أمض على الذي أخرجك ربّك. قال ابن حيّان : عن الكلبي وقال أبو عبيدة : هي بمعنى القسم مجازها : الذي أخرجك من بيتك بالحق. وقيل : الكاف بمعنى (إذ) تقديره : وإذ أخرجك ربّك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لطلب المشركين ٦{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} أي في القتال وذلك أن المؤمنين لمّا أيقنوا (الشوكة) والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا : يا رسول اللّه إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} إنّك لا تصنع إلاّ ما أمر اللّه به. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق {كما يُساقون إلى الموت} (يعني) من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّاه. ٧{وهم ينظرون وإذ يعدكم اللّه إحدى الطائفتين أنّها لكم} الآية. قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي : أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكباً من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة وهي اللطيمة حتّى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال : (هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ اللّه عزّ وجلّ ينفلكموها) فخرجوا لا يُريدون إلاّ أبا سفيان والركب لا يرونها إلاّ غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض. وذلك أنّهم كانو لم يظنّوا أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يُلقي حرباً فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم وأصحابه. فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم فلا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه، وخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في أصحابه حتّى بلغ وادياً يقال له : وفران، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم، فخرج رسول اللّه عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم وبعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الاريقط فأتاه بخبر القوم، وسبقت العير رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فنزل جبرئيل فقال : إن اللّه وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريش، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال : وأحسن وقام عمر وقال وأحسن، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه ونحن معك واللّه ما نقول كما قالت بنو اسرائيل لموسى {أذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون} ، ولكن إذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه. فقال له رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خيراً ودعا له بخير، ثمّ قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أشيروا عليّ أيُّها الناس). وإنّما يُريد الأنصار، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول اللّه إنّا براء من ذمامك حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلاّ على مَنْ داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم، فلمّا قال ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال له سعد بن معاذ : واللّه كأنّك تُريدنا يا رسول اللّه؟ قال (صلى اللّه عليه وسلم) (أجل). قال : فقد آمنّا بكَ وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللّه ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غداً إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل اللّه عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة اللّه، ففرح بذلك النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ونشّطه قول سعد ثمّ قال : سيروا على بركة اللّه وابشروا فإنّ اللّه قد وعدكم إحدى الطائفتين. واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم وذلك قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّه إِحْدَى الطَّآفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأُخرى أبو جهل مع النفير {وَتَوَدُّونَ} تُريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك {وَيُرِيدُ اللّه أَن يُحِقَّ الْحَقَّ} أي يحققه ويعلنه {بِكَلِمَاتِهِ} بأمره إيّاكم بقتال الكفّار {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} فيستأصلهم ٨{لِيُحِقَّ الْحَقَّ} الإسلام {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} الكفر. وقيل : الحق القرآن والباطل الشيطان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} أي المشركون. ٩{إذ تستغيثون ربكم} أي تستجيرون به من عدّوكم وتسألونه النصر عليهم، قال عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه : لمّا كان يوم بدر ونظر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى كثرة المشركين وقلّة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول : اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال : يانبي اللّه كفا مناشدتك ربّك فإن اللّه سينجز لك ما وعدك {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي} أي بأنّي. وقرأ عيسى : إنّي بكسر الألف وقال إنّي {مُمِدُّكُم} وزائدكم ومرسل إليكم مدداً {بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ} قرأ أهل المدينة : مردفين بفتح الدال والباقون بكسره، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال : اردفه وردَفته بمعنى تبعته قال الشاعر : إذا الجوزاء أردفت الثريّا ظننت بآل فاطمة الظنونا أراد ردفت جاءت بعدها، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول، أي أردف اللّه المسلمين وجاءهم به فأمدّهم اللّه بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة مَلكَ مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر رضي اللّه عنه ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ كرّم اللّه وجهه وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبداً إنّما يكونون حدداً أو مدداً. وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مسلتقياً، فنظر إليه فإذا هو قد حُطم وشُق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (صدقت ذلك من مدد السماء) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال مجاهد : ما مُدّ النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فيما ذكر اللّه تعالى غير الألف من الملائكة {مُرْدِفِينَ} التي ذكر اللّه في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بُشرى ١٠{وَمَا جَعَلَهُ اللّه} يعني الامداد. الفراء : يعني الأرداف. ١١{إلاّ بُشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النصر إلاّ من عند اللّه إنّ اللّه عزيز حكيم إذ يغشايكم النعاس أمنة} قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو : يغشيكم بفتح الياء النعاس رفع على أن الفعل له واحتجّوا بقوله في سورة آل عمران {أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآفَةً مِّنكُمْ} فجعل الفعل له. وقرأ أهل المدينة يغشيكم بضم الياء مخففة على أن الفعل للّه عزّ وجلّ ليكون موافقاً لقوله (وينزل وليطهركم) واحتجّوا بقوله تعالى {كَأَنَّمَآ أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} . وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة : يُغشّيكم بضمّ الياء مشدّداً. فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم : لقوله {فَغَشَّ اهَا مَا غَشَّى} والنعاس النوم تخفيف. وقال أبو عبيدة : هو ابتداء القوم : أمنة بفتح الميم قراءة العامّة، وقرأ أبو حياة وابن محيصن : أمنة بسكون الميم وهو مصدر قولك : أمنت من كذا أمناً وأمنة وأمانة وكلّها بمعنى واحد فلذلك نصب. قال عبد اللّه بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من اللّه عزّ وجلّ وفي الصلاة من الشيطان {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً} وذلك أن المسلمين نزلوا كثيباً أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي اللّه وأنّكم أولياء اللّه وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تُصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم. قال : فأرسل اللّه عزّ وجلّ مطراً سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} من الأحداث والجنابة. وقرأ سعيد بن المسيب : ليُطهركم بطاء ساكنة من أطهره اللّه {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي وسوسة الشيطان. وقرأ ابن محيصن : رجز بضم الراء. وقرأ أبو العالية : رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق. والسراط والزراط والأسد والأزد {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} اليقين والصبر {وَيُثَبِّتَ بِهِ اقْدَامَ} حتّى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض. ١٢وقيل : بالصبر وقوّة القلب {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة} للذين أمدّ بهم المؤمنين {أَنِّي مَعَكُمْ} بالعون والنصر {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا} أي نوّروا قلوبهم وصحّحوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد، فقيل : إنّ ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم. وقيل : معونتهم إياهم في قتال عدوهم، وقال أبو روق : هو أن الملك كان يشبّه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فيقول : إنّي قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون واللّه لئن حملوا علينا (لنكشفنّ). فتحدّث بذلك المسلمون بعضهم بعضاً فيقوّي أنفسهم ويزدادون جرأة، قال ابن إسحاق والمبرد : فثبّتوا الذين آمنوا أي وآزروهم {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} ثمّ علّمهم كيف الضرب والقتل فقال {فَاضْرِبُوا فَوْقَ اعْنَاقِ} قال بعضهم : هذا الأمر متّصل بقوله : {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا} . وقال آخرون : هو أمر من اللّه عزّ وجلّ للمؤمنين واختلفوا في قوله {فَوْقَ اعْنَاقِ} فقال عطيّة والضحاك : معناه : فاضربوا الأعناق لقوله {إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} . وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لم أبعث لأعذب بعذاب اللّه وإنّما بُعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق). وقال بعضهم : معناه : فاضربوا على الأعناق، (فوق) بمعنى على. وقال عكرمة : معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق. وقال ابن عباس : معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق، نظيره قوله {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي اثنتين فما فوقهما. {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال عطيّة : يعني كل مفصل. وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك : يعني الأطراف والبنان جمع بنانه، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أَبَنَ بالمقام إذا قام به. قال الشاعر : ألا ليتني قطعت منه بنانه ولاقيته في البيت يقظان حاذراً وقال يمان بن رئاب : {فَاضْرِبُوا فَوْقَ اعْنَاقِ} يعني الصناديد {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يعني السفلة، والصحيح : القول الأوّل. قال أبو داود المازني وكان شهد بدراً : اتّبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يديّ قبل أن يصل سيفي فعرفت أنّه قتله غيري. وروى أبو أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقال ابن عباس : حدثني رجل عن بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على مَنْ يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب. قال : فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت. وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ اللّه قد تخلّف عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلاّ بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللّه وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزماً فكان رجلاً ضعيفاً قال : وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فواللّه إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب : هلم إلي يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، قال : لا شيء واللّه كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافاً يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم اللّه مع تلك ما لمّت الناس : لقينا رجالاً بيضاً على خيل (معلّق) بين السماء والأرض (ما تليق) شيئاً ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت : تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض، ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفاً فقامت أم الفضل الى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيّده، فقام مولّياً ذليلاً فواللّه ما عاش إلاّ سبع ليال حتّى رماه اللّه بالعدسة فقتله. ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثاً ما يدفناه حتّى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتّقي الناس الطاعون حتّى قال لهما رجل من قريش : ويحكما ألا تستحيان أنَّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغسّلانه فقالا : إنّا نخشى هذه القرحة، قال : فانطلقا فإنّا معكما فما غسلوه إلاّ قذفاً بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه ثمّ حملوه فدفنوه بأعلى مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه. وروي مقسّم عن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعاً وكان العباس رجلا جسيماً، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأبي اليسر : يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟ فقال : يا رسول اللّه لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لقد أعانك عليه مَلَك كريم. ١٣{ ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللّه} خالفوا اللّه {وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّه وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيّها الكفّار ١٤{فَذُوقُوهُ} عاجلا {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} في المعاد {عَذَابَ النَّارِ} وفي فتح (أن) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب : فأمّا الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره : ذلكم يذوقوه، وذلك أن للكافرين عذاب النار. وأمّا النصب فعلى وجهين : أحدهما : بمعنى فعل مضمر : ذلكم فذوقوه وأعلموا وأيقنوا أن للكافرين. والأخر بمعنى : وما للكافرين فلما حذف الياء نصب. ١٥{يا أيُّها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا} أي (مخفقين) متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب. قال الأعشى : لمن الضعائن سيرهن زحيف عرم السفين إذا تقاذف مقذف والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم : قوم عدل ورضى {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدبار} يقول : فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم ١٦{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَِذٍ دُبُرَهُ} ظهره وقرأ الحسن ساكنة {إِلا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} أي متعطّفاً مستطرداً لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه. {أَوْ مُتَحَيِّزًا} منضمّاً صابراً {إِلَى فِئَةٍ} جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم الى القتال {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللّه ومأواه جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} واختلف العلماء في حكم قوله {وَمَن يُوَلِّهِمْ يومئذ دُبُرَهُ} الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعاً. فقال أبو سعيد الخدري : إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم أن ينحازوا ولو انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة، قاله الحسن والضحاك وقتادة. قال يزيد ابن أبي حبيب : أوجب اللّه لمن فرّ يوم بدر النار. فقال {مَنْ يولهم يومئذ دبره} الآية. فلمّا كان يوم أُحد بعد ذلك قال : {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ} ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال : {ثمّ وليتم مدبرين ثمّ يتوب اللّه من بعد ذلك على مَنْ يشاء} . وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله {الْ َانَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ} الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلاّ هذه العدّة. وقال الكلبي : من قبل اليوم مقبلاً أو مدبراً فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر الى الجنة. وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال : انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة الى عمر. فقال : يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي اللّه عنه أنا فئتك. وقال محمد بن سيرين : لمّا قُتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر رضي اللّه عنه فقال لو أنحاز إليَّ فكنت له فئة (فأنا فئة) كل مسلم. عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد اللّه بن عمر قال : كنّا في مُصيل بعثنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر، قلنا نهرب في الأرض حياءً ممّا صنعنا فدخلنا البيوت. ثمّ قلنا : يا رسول اللّه نحن الفارون. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين). وقال بعضهم : بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم مَنْ روى ما قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لبعض أهله : (إياك والفرار) من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما (....) إلاّ على إرتكاب الكبائر وإلاّ الشرك باللّه والفرار من الزحف لأن اللّه تعالى يقول {وَمَن يُوَلِّهِمْ يومئذ دُبُرَهُ} .) الآية. ١٧{فلم تقتولهم ولكن اللّه قتلهم} الآية فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بدراً قال : (هذه مصارع القوم إن شاء اللّه)، فلمّا طلعوا عليه قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتّني فأتاه جبرئيل وقال : خذ حفنة من تراب فارمهم بها). فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي اللّه عنه : (أعطني قبضة من حصا الوادي) فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) به في وجوه القوم وقال : (شاهت الوجوه ). فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة. وقال حكيم بن حزام : لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تلك الرمية فانهزمنا. وقال قتادة وابن زيد : ذكر له أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم. وقال : (شاهت الوجوه) فانهزموا. الزهري عن سعيد بن المسيب قال : نزلت هذه الآية في قتل أُبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بعظم حائل وهو يفتّه فقال : يا محمد اللّه يُحيي هذا وهو رميم؟ فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) يحيه اللّه ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إن لي فرساً أعلفها كل يوم (فرق) ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بل أنا أقتلك إن شاء اللّه، فلمّا كان يوم أُحُد أقبل أُبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (استاخروا)، فاستأخروا فقام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بحربة في يده فرمى بها أُبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعاً من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون : لا بأس، فقال أُبي : واللّه لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء اللّه، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل اللّه هذه الآية {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} الآية. وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن (جبير) أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل اللّه تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} فهذا سبب نزول الآية. فأمّا معناها فإن اللّه تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبه من اللّه تعالى الإنشاء والايجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة. وقيل : إنّما أضافها إلى نفسه لئلاّ يعجب القوم. قال مجاهد : قال هذا : قتلت، وقال هذا : قتلت، فأنزل اللّه هذه الآية. وقال الحسن : أراد فلم تُميتموهم ولكن اللّه أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره. قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} أي (قتل) يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها. وقال ابن إسحاق : ولكن اللّه رمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل اللّه فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم. وقال أبو عبيده : تقول العرب : رمى اللّه لك، أي نصرك. قال الأعمش : {وَلَاكِنَّ اللّه رَمَى} أي وفّقك وسدّد رميتك. {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَءً حَسَنًا} أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب. وقال ابن إسحاق : ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه {إِنَّ اللّه سَمِيعٌ} لإقوالهم {عَلِيمٌ} بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم ١٨{ذَالِكُمْ} يعني : ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن {وَأَنَّ اللّه} أي : وأعلموا أن اللّه، وفي فتح {إِنَّ} من الوجوه ما في قوله تعالى {ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (وقد بيناه هناك). {مُوهِنُ} مضعف {كَيْدِ الْكَافِرِينَ} قرأ الحجازي والشامي والبصري : موهّن بالتشديد والتنوين (كيد) نصباً وقرأ أكثر أهل الكوفة (موهن) بالتخفيف والتنوين (كيد) نصباً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و (الأعمش) وحفص : موهن كيد، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه : وهن، ومَنْ خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله {مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} و{كَاشِفُوا الْعَذَابِ} ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان ١٩{إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر : اللّهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه، فاستجاب اللّه دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء : عوف ومسعود، وأجهز عليه عبد اللّه بن مسعود. وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا الى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا : اللّهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل اللّه هذه الآية. وقال عكرمة : قال المشركون اللّهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل اللّه تعالى {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. وقال أُبي بن كعب وعطاء الخراساني : هذا خطاب أصحاب رسول اللّه قال اللّه للمسلمين : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ} أي تستنصروا اللّه وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة. وقال حبّاب بن الارت : شكونا الى رسول اللّه عليه السلام فقلنا : لا تستنصر لنا، فاحمر وجهه وقال : (كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه، ولُيتِمنَّ اللّه هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ولا يخشى إلاّ اللّه عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون). ثمّ قال للكفّار {وَإِن تَنتَهُوا} عن الكفر باللّه وقتال نبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا} لقتاله وحربه {نَعُدْ} بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر. وقيل : وإن تعودوا إلى هذا القول وقتال محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شيئا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّه مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (قرأ) أهل المدينة والشام : {وَأَنَّ اللّه} بفتح الألف، والمعنى : ولأن اللّه، وقيل : هو عطف على قوله {وَأَنَّ اللّه مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} . وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم (لأن) في قراءة عبد اللّه : واللّه مع المؤمنين. ٢٠{يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه ورسوله ولا تولّوا عنه} ولا تدبروا عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} أمره وليّه. قال ابن عباس : وأنتم تسمعون القرآن ومواعظه ٢١{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب اللّه بآذانهم فقالوا سمعنا {وَهُمْ يَسْمَعُونَ} يعني لا يتّعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة. ٢٢{إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ} يعني أن شرّ (الدواب) على وجه الأرض من خلق اللّه {عِندَ اللّه} فقال الأخفش : كل محتاج إلى غذا فهو دابة. {الصُّمُّ الْبُكْمُ} عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون. قال ابن زيد : هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ {فَإِنَّهَا تَعْمَى الأبصار وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} . وقال ابن عباس وعكرمة : هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صُمٌّ بُكم عُمّي عن مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، (فكانوا) جميعاً (بأُحد)، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلاّ رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة {الَّذِينَ يَعْقِلُونَ} أمر اللّه ٢٣{وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا} صدقاً وإسلاماً {سْمَعَهُمْ} لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا} عن القرآن {وَّهُم مُّعْرِضُونَ} عن الإيمان بالقرآن لعلم اللّه فيهم وحكمه عليهم بالكفر ٢٤{يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} اختلفوا في قوله (لما يُحييكم) : فقال السدي : هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد : للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال ابن إسحاق : لما يحييكم يعني الحرب والجهاد التي أعزكم اللّه بها بعد الذل. وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم. وقال (القتيبي) : لمّا يحييكم : لما يُتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فاللام في قوله (لما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلُّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : مرّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على أُبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال : (تعال إلي)، فعجل أُبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (ما منعك يا أُبي أن تُجيبني إذا دعوتك؟ أليس اللّه يقول يا ايُّها الذين آمنوا استجيبوا للّه وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم). قال : لا جرم يا رسول اللّه لا تدعوني إلاّ أجبتك وإن كنت مصلياً. قال : (تحب أن أُعلمّك سورة لم تنزل في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها)؟ قال أُبي : نعم يا رسول اللّه. قال : (لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها) والنبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أُبي : يا رسول اللّه، فوقف فقال : (نعم كيف تقرأ في صلاتك) فقرأ أُبي أُمّ القرآن فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (والذي نفسي بيده ما أُنزلت في التوارة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن (مثلها) وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني اللّه عزّ وجلّ. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} قال سعيد بن جبير : معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر. ابن عباس : بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته. وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال : يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً. وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه. وقال قتادة : معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} . وقيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم فقيل (فيهم) {قَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللّه} وأعلموا أن اللّه يحول بين المرء وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمناً والجُبن جُرأة. وقيل : يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير. وقرأ الحسن : بين المرء، وبتشديد الراء من غير همزة. وقرأ الزهري : بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة. و{أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ويجزيكم بأعمالكم. قال أنس بن مالك : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يكثر أن يقول : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا : يا رسول اللّه أمنّا بك فهل تخاف علينا؟ قال : (إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامة وإن شاء أزاغة). والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله : بين إصبعين : بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة. قال الشاعر : صلاة وتسبيح والخطأ نائل وذو رحم تناله منك إصبع أي أثر حسن. وقال آخر : مَنْ يجعل اللّه عليه اصبعاً في الشر أو في الخير يلقه معاً فالإصبع أيضاً في اللغة الإصبع. فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان. قال الشاعر : حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع ٢٥{وَاتَّقُوا فِتْنَةً} أي اختبار وبلاء يصيبكم. وقال ابن زيد : الفتنة الضلالة {لاتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة} واختلفوا في وجه قوله {لا تُصِيبَنَّ} من الاعراب. فقال أهل البصرة : قوله (لا تصيبن) ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره، ولو كان جواباً ما دخلت النون. وقال أهل الكوفة : أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهياً كقوله : {يا أيُّها النمل ادخلوا مساكنكم لايُحطّمنكم}. أمرهم ثمّ نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره : واتقوا اللّه إن لم تنتهوا أصابتكم. وقال الكسائي : وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت : قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض. وقال الفراء : هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول : أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا (جزاء من) الأمر بلفظ النهي. ومعناه : إن تنزل عنه لا يطرحنّك. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) خاصة. وقال : أمر اللّه المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم اللّه بالعذاب. وقال الحسن : نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام : يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زماناً وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. واتّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة. فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة. قال السدي : هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا. وقال عبد اللّه بن مسعود ما منكم من أحد إلاّ هو مشتمل على الفتنة إنّ اللّه يقول : {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} فإيّكم استعاذ فليستعذ باللّه من مضلاّت الفتن. حذيفة بن اليمان قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها اللّه لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم اللّه بها النار). يحيى بن عبد اللّه عن أبيه عن أبي هريره قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة (عمياء مظلمة) المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي). فقال رجل من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يا رسول اللّه إن أدركتني (وأنا مضطجع) قال : (فامش). قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال (ارقد) قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال : أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس. قال : (فقل هكذا بيدك، وضم يديه الى جسده، حتّى تكون عند اللّه المظلوم ولا تكون عند اللّه الظالم). عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفه قال : أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع ٢٦{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} في العدد {مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض} أرض مكّة في عنفوان الإسلام {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ} يُذهب بكم {النَّاسُ} كفّار مكّة، وقال وهب : فارس والروم {فََاوَاكُمْ} إلى المدينة {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} يوم بدر أيدكم بالانتصار وأُمدّكم بالملائكة {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلاًّ وأشقاهم عيشاً وأجوعهم بطناً وأغراهم جلوداً وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقياً ومن مات منهم ردى في النار مكعوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم. يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، واللّه ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلاً منهم حتّى جاء اللّه عزّ وجلّ بالاسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى اللّه ما رأيتم فاشكروا للّه نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له (وأجمل) الشكر في مزيد من اللّه تعالى. ٢٧{يا أيُّها الذين آمنوا لا تخونوا اللّه والرسول} قال عطاء ابن أبي رباح : حدّثني جابر بن عبد اللّه أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) لأصحابه : (إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا) قال : فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل اللّه تعالى الآية. وقال السدي : كانوا يسمعون الشيء من النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فيفشونه حتّى بلغ المشركين. وقال الزهري والكلبي : نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول اللّه الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا الى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلاّ أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة : واللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت اللّه والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال : واللّه لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتّى أموت أو يتوب اللّه عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاماً ولا شراباً حتّى خرّ مغميّاً عليه ثمّ تاب اللّه عليه، فقيل له : يا أبا لبابة قد تُبت عليك. قال : لا واللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة : إن مَنْ تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من مالي، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يجزيك الثلث إن تصدقت). فقال المغيرة بن شعبة : نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. قال محمد بن إسحاق : معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تُخالفونه في السر إلى غيره. وقال ابن عباس : لا تخونوا اللّه بترك فرائضه، والرسول بترك سنته، وتخونوا أماناتكم. قال السدي : إذا خانوا اللّه والرسول فقد خانوا أماناتهم. وعلى هذا التأويل يكون قوله (ويخونوا) نصباً على جواب النهي. والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء. وقيل : هو نصب على الصرف كقول الشاعر : لا تنهى عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم وقال الأخفش : هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره : ولا تخونوا أماناتكم. وقرأ مجاهد : أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه (الآية) فقال ابن عباس : هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض اللّه عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن اللّه عليها العباد يقول لا تنقضوها. وقال ابن زيد : معنى الامانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم اللّه على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر. قال قتادة : إنّ دين اللّه أمانة فأدّوا الى اللّه ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومَنْ كانت عليه أمانة فليردّها إلى مَنْ أئتمنه عليها. ٢٨{وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ} التي عند بني قريظة ٢٩{فتنة وأنّ اللّه عنده أجر عظيم يا أيُّها الذين آمنوا إن تتقوا اللّه} بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة. وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات. وقال عكرمة : نجاة. وقال الضحاك : بياناً. وقال مقاتل : منقذاً. قال الكلبي : بصراً، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل، يظهر اللّه به حقكم ويطفئ به باطل مَنْ خالفكم. وقال ابن زيد : فرقاً يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به. والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان. تقول : فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقاً وفروقاً وفرقاناً، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ} ما سلف من ذنوبكم {ويغفر لكم واللّه ذو الفضل العظيم وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك} هذه الآية معطوفة على قوله تعالى : {فاذكروا إذ أنتم قليل} . ٣٠{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} . {وإذا قالوا اللّهم} لأن هذه السورة مدنية. وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن اللّه تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله {إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه} وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشاً لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أُمور رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وكانت روؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأُميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا : من أنت؟ قال : أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا : ادخل فدخل. فقال أبو البحتري : أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم. فصرخ إبليس الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به مَنْ حولكم، (فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم) ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم. قالوا : صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي : أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم (ما ضر من) وقع إذا غاب عنكم واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. واللّه لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا : صدق واللّه الشيخ. فقال أبو جهل : لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى و (هذا) أجودكم رأياً، القول ما قاله لا أرى غيره. فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن اللّه تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه فنام في مضجعه فقال : اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه. ثمّ خرج النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وأخذ قبضه من تراب فأخذ اللّه أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَا فَهِىَ إِلَى اذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ} ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا رضي اللّه عنه بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقه وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّاً رضي اللّه عنه وهو على فراش رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّاً رضي اللّه عنه . وقد ردّ اللّه مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب. فقالوا : أين صاحبك؟ قال : لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} . قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي : ليوثقوك. وقال قتادة : ليشدوك وثاقاً. وقال عطاء. وعبد اللّه بن كثير : ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم : ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد : فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم قالوا ألخليفة امسى مثبتاً وجعاً وقيل : معناه ليسخروك. وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هل تدري ما أضمر بك قومك؟ قال : (نعم (يريدون) أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني) فقال : مَنْ أخبرك بهذا؟ قال : (ربّي). قال : نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيراً. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيراً). وقرأ إبراهيم النخعي (وليثبتوك) من البيات {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّه} قال الحسن : فيقولون ويقول اللّه. وقال الضحاك : ويصنعون ويصنع اللّه {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} خير من استنقذك منهم وأهلكهم ٣١{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُوا} يعنى النضر بن الحرث {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ } وذلك أنّه كان (يختلف) تاجراً إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأُمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرأون التوارة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكّة فوجد محمداً يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا {إِنْ هَذَآ إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} أخبار الأُمم الماضية وأعمارهم، قال السدي : أساجيع أهل الحيرة. والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله : سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل : الأساطير واحدها أُسطورة وأسطار. والجمع القليل : أسطر. ٣٢{وَإِذْ قَالُوا اللّهمَّ} الآية نزلت أيضاً في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار. قال ابن عباس : لمّا قصّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) شأن القرون الماضية، قال النضر : لو شئت لقلت مثل هذا إنْ هذا إلاّ أساطير الأوّلين في كتبهم. فقال عثمان بن مظعون : اتق اللّه فإن محمداً يقول الحق. قال : فأنا أقول الحق. قال : فإن محمداً يقول : لا إله إلاّ اللّه. قال : فأنا أقول لا إله إلاّ اللّه. ولكن هذه شأن اللّه يعني الاصنام. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} قال النضر : ألا تَرون أن محمداً قد صدقني فيما أقول يعني قوله {إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ} . قال له المغيرة بن الوليد : واللّه ما صدّقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد. ففطن لذلك النضر فقال : اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك. {إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} {هُوَ} عماداً وتوكيد وصلة في الكلام، و {الْحَقِّ} نصب بخبر كان {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} كما أمطرتها على قوم لوط. قال أبو عبيدة : ما كان من العذاب. يقال : فينا مطر ومن الرحمة مطر {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي بنفس ما عذبت به الأُمم وفيه نزل : {سَأَلَ سَآلُ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} . قال عطاء : لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب اللّه فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر. قال سعيد بن جبير : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يوم بدر : (ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي. وعقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحرث). وكان النضر أسير المقداد فلمّا أمر بقتله قال المقداد : أسيري يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّه كان يقول في كتاب اللّه ما يقول ) قال المقداد : أسيري يا رسول اللّه، قالها ثلاث مرّات. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في الثالثة : (اللّهمّ اغن المقداد من فضلك). فقال المقداد : هذا الذي أردت. ٣٣{وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذه حكاية عن المشركين، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأُولى، (وقيل) : إن المشركين كانوا يقولون : واللّه إن اللّه لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أُمة ونبيّها معهم، وذلك من قولهم ورسول اللّه بين أظهرهم، فقال اللّه تعالى لنبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} وقالوا : {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ثمّ قال ردّا عليهم {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللّه} وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . وقال آخرون : هذا كلام مستأنف وهو قول اللّه تعالى حكاية عن نفسه ثمّ اختلفوا في وجهها وتأوليها : فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك : تأويلها : وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم. قالوا : فأنزلت هذه الآية على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج النبيّ من بين أظهرهم. وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون. فأنزل اللّه بعد خروجه عليه حين استغفر أُولئك بها {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . ثمّ خرج أُولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن اللّه بفتح مكّة، فهو العذاب الذي وعدهم. ابن عباس : لم يعذب أُولئك حتّى يخرج النبيّ منها والمؤمنون. قال اللّه : {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يعني المسلمين فلما خرجوا قال اللّه : ٣٤{وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللّه} يعذبهم يوم بدر. وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع الى المشركين : وما كان اللّه ليعذب هؤلاء المشركين ما دمتَ فيهم وما داموا يستغفرون. وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك بملكه لو ما ملك، ويقولون غفرانك غفرانك. هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس. وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه اللّه من بيننا {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ} . الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا : غفرانك اللّهم. فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وقال أبو موسى الأشعري : إنّه كان فيكم أماناً لقوله تعالى {وَمَا كَانَ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وأمّا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة. وقال قتادة (وابن عباس) وابن يزيد معنى : {وَمَا كَانَ اللّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} : أن لو استغفروا، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين. وقال مجاهد وعكرمة : (وهم يستغفرون) أي يسلمون، يقول : لو أسلموا لمّا عُذّبوا. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (وهم يستغفرون) أي وفيهم من سبق له من اللّه الدخول في الإيمان. وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك : وهم يستغفرون أي يصلّون. وقال الحسن : هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها : {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللّه} إلى قوله : {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} فقاتلوا بمكّة فأصابوا فيها الجوع والخير. وروى عبد الوهاب عن مجاهد (وهم يستغفرون) أي في (أصلابهم) من يستغفره. قال {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللّه} أي : مايمنعهم من أن يُعذّبوا. قيل : (إنّ {إِنَّ} هنا زائدة). {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا، يعني النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ومن آمن معه. ٣٥{ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصدية} والمكاء الصفير. يقال مكاءً تمكّوا مكا ومكوا. وقال عنترة : وحليل غانية تركت مجدّلاً تمكوا فريصته كشدق الاعلم ومنه قيل : مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح. (وتصدية) يعني التصفيق. قال جعفر بن ربيعة : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله {إلاّ مكاء وتصديه} فجمع كفيه ثمّ نفخ فيها صفيراً. وقال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. و (قال) مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه. وقال مقاتل : كان النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمنيه فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) صلاته. وهم بنو عبد الدار فقتلهم اللّه ببدر. وقال السدي : المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له : المكا. قال الشاعر : إذا غرّد المكاء في غير روضة قيل لأهل الشاء والحمرات وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد : التصدية صدهم عن بيت اللّه وعن دين اللّه، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاءً كما يقال تظنيت من الظن. قال الشاعر : تقضي البازي إذا البازي كسر يريد : تظنيت وتفضض. وقرأ الفضل عن عاصم : وما كان صلاتهم بالنصف إلا مكاء وتصدية بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي : قفي قبل التفرق يا ضباعاً ولا يك موقف منك الوداعا وسمعت مَنْ يقول : كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} يوم بدر {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} . ٣٦{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه} ليصرفوا عن دين اللّه الناس. قال سعيد بن جبير : وابن ابزى نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أُحد ألفين من (الأحابيش) يقاتل بهم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (سوى) من أشخاص من العرب. وفيهم يقول كعب بن مالك : فجينا إلى موج البحر وسطه أحابيش منهم حاسر ومقنع وفينا رسول اللّه نتبع قوله إذ قال فينا القول لاينقطع ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث مئين أن كثرن فاربع وقال الحكم بن عيينة : نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أُحُد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالاً. وقال ابن إسحاق عن رجاله : لما أُصيبت قريش من أصحاب القليب يوم بدر، فرجع فِيَلهم إلى مكّة ورجع أبو سفيان ببعيره إلى مكّة (مشى) عبد اللّه بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميّة في رجال من قريش أُصيب أباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم (بدر) فكلّموا أبا سفيان بن حرب ومَنْ كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه أملنا أن ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا، ففعلوا فأنزل اللّه فيهم هذه الآية. وقال الضحاك : هم أهل بدر. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا : عتبه وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنيه ومنبه ابنا الحجّاج البحتري بن هشام والنضر بن حارث وحكم بن حزام وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر ونوفل والعباس بن عبد المطلب كلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر. قال اللّه {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ولا يظفرون {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} منهم خصّ الكفّار لأجل مَنْ أسلم منهم ٣٧{إلى جهنّم يُحشرون ليميّز اللّه} بذلك الحشر {الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} الكافر من المؤمن فيدخل اللّه المؤمن الجنان والكافر النيران. وقال الكلبي : يعني العمل الخبيث من العمل الطيب الصالح فيثيب على الأعمال الصالحة الجنّة ويثيب على الأعمال الخبيثة النار. قرأ أهل الكوفة والحسن وقتادة والأعمش وعيسى : {لِيَمِيزَ اللّه} بالتشديد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال ابن زيد : يعني الإنفاق الطيب في سبيل اللّه من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان فجعل نفقاتهم في قعر جهنم ثمّ يقال لهم : الحقوا بها. وقال مرّة الهمداني : يعني يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حين خلقه طيباً من الخبيث الكافر في علمه السابق الذي خلقه خبيثاً، وذلك أنّهم كانوا على ملة الكفر فبعث اللّه الرسول بالكتاب ليميّز (اللّه) الخبيث من الطيب فمن (أطاع) استبان أنّه طيب ومن خالفه استبان أنّه خبيث {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} بعضه فوق بعض {فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} أي يجمعه حتّى يصيّره مثل السحاب الركام وهو المجتمع الكثيف {فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ} فوحد الخبر عنهم لتوحيد قول اللّه تعالى {لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ} ثمّ قال {أُولَاكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فجمع، رده إلى أول الخبر، يعني قوله : {الذين كفروا ينفقون أموالهم أُولئك هم الخاسرون} الذين غنيت صفقتهم وخسرت تجارتهم لأنّهم اشتروا بأموالهم عذاب اللّه في الآخرة ٣٨{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} أبي سفيان وأصحابه {إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم} ان ينتهوا من الشرك وقال محمد : يغفر لهم {مَّا قَدْ سَلَفَ} من عملهم قبل الإسلام {وَإِن يَعُودُوا} لقتال محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأوَّلِينَ} في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفّار والأعداء مثل يوم بدر. قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق : سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول : سمعت أبي يقول : سمعت عليّ بن محمد الوراق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول : إنّي لأرجو أنّ توحيداً لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي : يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف لقوله سبحانه (في المعترف : ) {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} . ٣٩{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك، وقال أبو العالية : بلاء، وقال الربيع : حتّى لا يفتن مؤمن عن دينه {وَيَكُونَ الدِّينُ} التوحيد خالصاً {كُلُّهُ للّه} عزّ وجلّ ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد. وقال قتادة : حتّى يقال : لا إله إلاّ اللّه، عليها قاتل نبي اللّه وإليها دعا. وقيل : حتّى تكون الطاعة والعبادة للّه خالصة دون غيره {فَإِنِ انتَهَوْا} عن الكفر والقتال ٤٠{فإن اللّه بما يعملون بصير وإن تولوا} عن الإيمان وعادوا إلي فقال أهله {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه مَوْلَ اكُمْ} ناصركم ومعينكم {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الناصر. ٤١{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ} حتّى الخيط والمخيط. واختلف العلماء في معنى الغنيمة والفي، ففرّق قوم بينهما : قال الحسن بن صالح : سألت عطاء بن السائب عن الفي والغنيمة فقال : إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة. وأمّا الأرض فهو في سواد هذا الفيء. وقال سفيان الثوري : الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، والفي ما كان من صلح بغير قتال. وقال قتادة : هما بمعنى واحد ومصرفهما واحد وهو قوله تعالى {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ} . اختلاف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم قوله : {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ} مفتاح الكلام. وللّه الدنيا والآخرة فإنّما معنى الكلام : فأنّ للرسول خُمسه وهو قول الحسن وقتادة وعطاء، فإنّهم جعلوا سهم اللّه وسهم الرسول واحداً، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس. قالوا : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، وقسّم الخمس الباقي على خمسة أخماس : خمس للنبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) كان له ويصنع فيه ما شاء وسهم لذوي القربى، وخمس اليتامى وخمس للمساكين وخُمس لابن السبيل. فسهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خمس الخمس. وقال بعضهم : معنى قوله : (فأن للّه) فإن لبيت اللّه خمسه. وهو قول الربيع وأبي العالية قالا : كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خمسة أسهم، فجعل أربعة لمن شهد القتال ويعزل أسهماً (فيضرب يده) في جميع ذلك فما قبض من شيء جعله للكعبة وهو الذي سُميّ للّه ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم : سهم للنبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وسهم لذي القربى، وسهم اليتامى، وسهم للمساكين، وخمس لابن السبيل، وسهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) خمس الخمس. وقال ابن عباس : سهم اللّه وسهم رسوله جميعاً لذوي القربى وليس للّه ولا لرسوله منه شيء. وكانت الغنيمة تُقسّم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد تقسّم على أربعة، فربع للّه والرسول ولذي القربى. فما كان للّه والرسول فهو لقرابة النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ولم يأخذ النبيّ من الخمس شيئاً. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. وأمّا قوله (ولذي القربي) فهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا يحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس مكان الصدقة واختلفوا فيهم. فقال مجاهد وعليّ بن الحسين وعبد اللّه بن الحسن : هم بنو هاشم. وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب خاصّة. واحتج في ذلك بما روى الزهري عن سعيد بن جبير بن مطعم قال : لما قسم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سهم لذوي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول اللّه هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا تنكر فضلهم مكانك الذي حملك اللّه منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام. إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد) ثمّ أمسك رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إحدى يديه بالأُخرى. وقال بعضهم : هم قريش كلّها. كتب نجدة الى ابن عباس وسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس : قد كنا نقول : إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : قريش كلّها ذو قربى. واختلفوا في حكم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) وسهم ذي القربى بعد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فكان ابن عباس والحسن يجعلانه في الخيل والسلاح، والعدّة في سبيل اللّه ومعونة الإسلام وأهله. وروى الأعمش عن إبراهيم. قال : كان أبو بكر رضي اللّه عنه وعمر يجعلان سهم النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم : ما كان لعليّ رضي اللّه عنه قول فيه. قال : كان أشدهم فيه. قال الزهري : إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر الصديق يطلبان ميراثهم من فدك وخيبر. فقال لهم أبو بكر رضي اللّه عنه : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة) فانصرفا.. وقال قتادة : كان سهم ذي القربى طعمة لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ما كان حيّاً. فلمّا توفي جعل لولي الأمر بعده. وقال عليّ كرم اللّه وجهه : يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس لا يعطى غيره، ويلي الإمام سهم اللّه ورسوله. وقال بعضهم : سهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مردود بعده في الخمس. والخمس بعده مقسوم على ثلاث أسهم : على اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول جماعة من أهل العراق. وقال عمرو عن عيينة : صلّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى بعير من المغنم فلمّا فرغ أخد وبره من جسد البعير فقال : (إنّه لا يحلّ لي من هذا المغنم مثل هذا إلاّ الخمس، والخمس مردود فيكم). وقال آخرون : الخمس كلّه لقرابة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال المنهال ابن عمرو : سألت عبد اللّه بن محمد بن عليّ وعليّ بن الحسين عن الخمس فقالا : هو لنا، فقلت لعلي رضي اللّه عنه : إن اللّه تعالى يقول {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فقال : يتامانا ومساكيننا. وأمّا اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين هلك أباؤهم، والمساكين أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، وابن السبيل المسافر المنقطع. وقال ابن عباس : هو الفتى الضعيف الذي ترك المسلمين {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللّه وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان ٤٢{واللّه على كل شيء قدير إذ أنتم} يا معشر المسلمين {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} شفير الوادي الأدنى إلى المدينة {وَهُم} يعني عدوكم من المشركين {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} من الوادي الأقصى من المدينة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ} إلى ساحل البحر كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد (انهرم) به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة. وفي العدوة قراءتان : كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة. وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكُسوة والكَسوة. والرُشوة والرَشوة. وينشد بيت الراعي : وعينان حمر مآقيهما كما نظر العِدوة الجؤذر بكسر العين. وينشد بيت أوس بن حجر : وفارس لو تحل الخيل عُدوته ولّوا سراعاً وما همّوا بإقبال بالضم. والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى. وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال اللّه {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ خْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} لقلّلكم وكثرة عدوكم {وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه {لِّيَهْلِكَ} هذه اللام مكررة على اللام في قوله {لِّيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} ويهلك {مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} أي ليموت مَنْ يموت على بينة (ولَهَاً وعِبْرةً) عاينها وحجّة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى لوعده {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} . وقال محمد بن إسحاق : ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على (مثواك). وقال قتادة : ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بيّنة. وقال عطاء : ليهلك من هلك عن بينة عن علم بما دخل فيه من الفجور {وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ} عن علم ويقين بلا إله إلاّ اللّه. وفي (حي) قولان، قرأ أهل المدينة : (حيي) بيائين مثل خشيي على الإيمان، وقرأ الباقون (حيّ) بياء واحدة مشددة على الإدغام، ٤٣لأنّه في الكتاب بياء واحدة {وإن اللّه لسميع عليم إذ يُريكهم اللّه} يا محمد يعني المشركين {فِى مَنَامِكَ} أي في نومك، وقيل : في موضع نومك يعني عينك {قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم {وَلَتَنَازَعْتُمْ} اختلفتم {فِى امْرِ} وذلك أن اللّه تعالى أراهم إياه في منامه قليلا فأخبر (صلى اللّه عليه وسلم) بذلك، فكان تثبيتاً لهم ونعمة من اللّه عليهم شجعهم بها على عدوهم فذلك قوله عزّ وجلّ {وَلَاكِنَّ اللّه سَلَّمَ} قال ابن عباس : سلم اللّه أمرهم حين أظهرهم على عدوهم ٤٤{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا} قال مقاتل : ذلك أن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) رأى في المنام أن العدو قليل قبل (لقاء) العدو فأخبر النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) أصحابه بما رأى. فقالوا : رؤيا النبيّ حق، القوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل اللّه المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) قال عبد اللّه بن مسعود : لقد قُللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي : (نراهم سبعين) قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال : ألفاً. ويقللكم يا معشر المؤمنين في أعينهم. قال السدي : قال أُناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل : الآن إذا (ينحدر لكم) محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذاً كي لا يعبد اللّه بعد اليوم، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالجبال. كقوله من القدرة على نفسه. قال الكلبي : استقلّ المؤمنون المشركين والمشركون المؤمنين، البحتري : بعضهم على بعض. {لِّيَقْضِيَ اللّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} كائناً في علمه، نصر الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله. وقال محمد بن إسحاق : ليقضي اللّه أمرا كان مفعولاً بالانتقام من أعدائه والإنعام على أوليائه {وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الأمُورُ} . ٤٥{يا أيُّها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} أي جماعة كافرة (فاثبتوا) لقتالهم ولا تنهزموا {وَاذْكُرُوا اللّه كَثِيرًا} أي ادعو اللّه بالنصر عليهم والظفر بهم، وقال قتادة : أمر اللّه بذكره (أثقل) ما يكونون عند الضراب بالسيوف {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تنجحون بالنصر والظفر ٤٦{وَأَطِيعُوا اللّه وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا} ولا تختلفوا {فَتَفْشَلُوا} أي تخسروا وتضعفوا. وقال الحسن : فتفشلوا بكسر الشين {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قال مجاهد : نصركم وذهبت ريح أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) حين نازعوه يوم أُحد. وقال السدي : جماعتكم وحدتكم، وقال مقاتل : (حياتكم)، وقال عطاء : جَلَدكم. وقال يمان : غَلَبَتكم، وقال النضر بن شميل : قوتكم، وقال الأخفش : دولتكم، وقال ابن زيد : هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلاّ بريح يبعثه اللّه في وجوه العدو، فإذا كان كذلك لم يكن لهم قوام، ومنه قول النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) (نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور). يقال للرجل إذا أقبلت الدنيا عليه بما يهواه : الريح اليوم لفلان. قال عبيد بن الأبرص : كما حميناك يوم النعف من شطب والفضل للقوم من ريح ومن عدد وقال الشاعر : يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد وأم بين أذواد أتنتظران قليلاً ريث غفلتهم أو تعدوان فإن الريح للعادي أنشدني أبو القاسم المذكور قال : أنشدني أبا نصر بن منصور الكرجي الكاتب : إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكلّ خافقة سكون ولا يغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون ٤٧قوله تعالى {واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا} فخرا وأشَرِاً {وريئَاء الناس ويصدّون عن سبيل اللّه} معطوف على قوله : (بطراً وريئاء الناس) ومعناه ينظرون ويرون، إذ لا يعطف مستقبل على ماض، {واللّه بما تعملون محيط} وهؤلاء أهل مكّة خرجوا يوم بدر ولهم بغيٌ وفخر فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اللّهمّ إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها ليحادك ورسولك). قال ابن عباس : لمّا رأى أبو سفيان أنّه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنّكم خرجتم لتمنعوا عليكم فقد نجاها اللّه فارجعوا فوافى الركب الذي فيه أبو سفيان ليأمروا قريشاً بالرجعة إلى مكّة فقال لهم : انصرفوا، فقال أبو جهل : واللّه لا ننصرف حتّى نرد بدراً وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم بها ثلاثاً وننحر الجزر ونطعِم الطعام ونسقي الخمور ونعزف عليها القيان وتسمع بها العرب. فلا يزالون يهابوننا أبداً فوافوها فسُقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان. ونهى اللّه عباده المؤمنين بأن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النيّة والخشية في نصرة دينه وموأزرة نبي ه (صلى اللّه عليه وسلم) ٤٨{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم : إن قريشاً لمّا أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فكان ذلك أن يثبتهم، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني، وكان من أشراف كنانة. قال الشاعر : يا ظالمي أنّى تروم ظلامتي واللّه من كل الحوادث خالي {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ} أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له بهم {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} . قال الضحاك : ولّى مدبراً. قال النضر بن شميل : رجع القهقري على قفاه هارباً، وقال قطرب وابان بن ثعلبة : رجع من حيث جاء. قال الشاعر : نكصتم على أعقابكم يوم جئتمُ وتزجون أنفال الخميس العرمرم وقال عبد اللّه بن رواحة : فلمّا رأيتم رسول اللّه نكصتم على أعقابكم هاربينا. قال الكلبي : لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذاً بيد الحرث بن هشام، فنكص على عقبيه وقال له الحرث : يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟ فقال له {إِنِّي أَرَى مَا تَرَوْنَ} فقال : واللّه ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال : {إِنِّي أَخَافُ اللّه} . قال الحرث : فهلاّ كان هذا أمس، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس، فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس، فواللّه ماشعرت حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم، فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان. وقال الحسن في قوله : (أني أرى مالا ترون) فأتى إبليس جبرئيل معتجراً بردة يمشي بين يدي النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وفي يده اللجام يقود الفرس ماركب. سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا عبد اللّه محمد بن إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر : وببئر بدر إذ نردّ وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد وقال قتادة وابن إسحاق. قال إبليس : إني أرى مالا ترون وصدق اللّه في عدوّه، وقال : إني أخاف اللّه، وكذب عدوّ اللّه، واللّه ما به مخافة اللّه ولكن علم أنّه لاقوة له ولامنعة فأيّدهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو اللّه لمن أطاعه، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم. قال عطاء إني أخاف اللّه أن يهلكني فيمن هلك، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرّفهم حاله فلا يطيعوه من بعد، وقال معناه : إني أخاف اللّه، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره. قال الاستاذ الامام أبو إسحاق، رأيت في بعض التفاسير : إني أخاف اللّه عليكم واللّه شديد العقاب. قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس، وقال أخرون : انقطع الكلام عند قوله : إني أخاف اللّه قال اللّه {وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} . إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد اللّه بن كريز أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لمّا رأى من تنزل الرحمة وتجاوز اللّه عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر)، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة. ٤٩{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شك ونفاق {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة، فلمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرهاً، فلمّا نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدّوا وقالوا : غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية، فلما قُتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى : ٥٠{وَلَوْ تَرَى} تعاين يا محمد {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَاكَةُ} أي يقبضون أرواحهم ببدر {يَضْرِبُونَ} حال أي ضاربين {وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} قال سعيد بن جبير، ومجاهد : يريد أستاههم ولكن اللّه تعالى كريم (يكني). وقال مُرّة الهمذاني وابن جريج : وجوههم ما أقبل عنهم، وأدبارهم ما أدبر عنهم، وتقديره : يضربون أجسادهم كلها، وقال ابن عباس : كانوا إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولّوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم، وقال الحسن : قال رجل : يا رسول اللّه رأيت بظهراني رجل مثل الشراك، قال : ذلك ضرب الملائكة، وقال الحسين بن الفضل : ضرب الوجه عقوبة كفرهم، وضرب الأدبار عقوبة معاصيهم. {وَذُوقُوا} فيه إضمار، أي ويقولون لهم ذوقوا {عَذَابَ الْحَرِيقِ} في الآخرة، ورأيت في بعض التفاسير : كان مع الملائكة مقامع من حديد كلمّا ضربوا التهب النار في الجراحات فذلك قوله تعالى : وذوقوا عذاب الحريق، ومعنى قوله ذوقوا : قاسوا واحتملوا. قال الشاعر : فذوقوا كما ذقنا غداة محجر من الغيظ في أكبادنا والتحوب ويجوز ذوقوا بمعنى موضع الابتلاء والاختبار يقول العرب اركب هذا الفرس فذقه، وانظر فلاناً وذق ما عنده. قال الشماخ في وصف قوس : فذاق وأعطاه من اللين جانباً كفى ولهاً أن يغرق السهم حاجز ٥١وأصله من الذوق بالفم { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} كسبت وعملت {أيديهم وأن اللّه ليس بظلام للعبيد} أخذهم من غير جزم، وفي محل (أنّ) وجهان من الاعراب : أحدهما النصب عطفاً على قوله (بما قدمت) تقديره : وأن اللّه، والآخر : الرفع عطفاً على قوله (ذلك) معناه : وذلك أن اللّه. ٥٢{كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ} قال ابن عباس : كفعل آل فرعون، وقال الضحاك : كصنيعهم، وقال مجاهد، وعطاء : كسنّتهم، وقال يمان : كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب، ففعل اللّه بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب، وقال الكسائي : كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم. قال الاخفش، والمؤرخ، وأبو عبيدة : كعادة آل فرعون. {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ} فعاقبهم اللّه ٥٣{بِذُنُوبِهِمْ إنَّ اللّه قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ ذَلِكَ بِأنَّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِم}. قال الكلبي : يعني أهل مكة، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، وبعث إليهم محمداً (عليه السلام) فغيّروا نعم اللّه، وتغييرها أن كفروا بها وتركوا شكرها، وقال السدّي : نعمة اللّه محمد (صلى اللّه عليه وسلم) أنعم به على قريش فكذبوه وكفروا به فنقله إلى الأنصار. ٥٤-٥٥{وَأنَّ اللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} من كفار الامم {كَذَّبُوا بَِآيَاتِ ربهم فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ} بعضاً بالرجفة وبعضاً بالخسف وبعضاً بالمسخ وبعضاً بالحصى وبعضاً بالماء، فكذلك أهلكنا كفار مكة بالسيف والذل {كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} الآية ٥٦{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ} . سمعت أبا القاسم بن حبيب، سمعت أبا بكر عبدش يقول : من هاهنا صلة الذين عاهدتهم، وسمعته يقول سمعت المنهل بن محمد بن محمد بن الاشعث يقول : دخلت بين لأن المعنى : الذين أخذت منهم العهد، وقيل : عاهدت منهم أي معهم {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} وهم بنو قريظة، نقظوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قبال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالوا إلى الكفار على رسول اللّه يوم الخندق، وكتب كعب بن الاشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَهُمْ يَتَّقُونَ} لايخافون اللّه في نقض العهد. ٥٧{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} ترينّهم وتجدنّهم {فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} قال ابن عباس : فنكّل بهم من ورائهم، وقال قتادة : عِظ بهم مَنْ سواهم من الناس، وقال سعيد بن جبير : أنذر بهم مَنْ خلفهم، وقال ابن زيد : أخفهم بهم. وقيل : فرَّق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء، وقال عطاء : أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن، وقال ابن كيسان : اقتلهم فلا من يهرب عنك مَن بعدهم. وقال القتيبي : سمِّع بهم، وأنشد : أُطوّف في الاباطح كل يوم مخافة أن يشردّ بي حكيمُ وأصل التشريد : التطريد والتفريق والتبديد، وقرأ أبن مسعود (وشرّذ) بالذال معجم وهو واحد. قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم، وقيل من يأتي خلفهم، وقرأ الأعمش مِن (خلفِهم) بكسر الميم والفاء تقديره : فشرِّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد. ٥٨-٥٩{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} تعلمنّ يا محمد {مِن قَوْمٍ} معاهدين لك {خِيَانَةً} نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} فاطرح إليهم عهدهم {عَلَى سَوَآءٍ} وهذا من الحان القرآن، ومعناه : فناجزهم الحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرؤوا من الغدر، وقال الوليد بن مسلم : على سواء أي على مهل وذلك قوله {فَسِيحُوا فِى الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} . {إنَّ اللّه لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلا يَحْسَبَن} قرأ أبو جعفر، وابن عامر بالباء على معنى لاتحسبن الذين كفروا انهم أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب {الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ} قرأ العامة بالكسر على الابتداء، وقرأ أهل الشام وفارس بالفتح ويكون لا صلة، تقديره : ولا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا أنّهم يعجزون أي يفوتون. ٦٠{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أي من الآلات يكون قوة له عليهم من الخيل والسلاح والكراع. صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن مسافرالجهني أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قرأ على المنبر، وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، فقال : ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، وروى ضمرة بن ربيعة عن رجاء بن أبي سلمة فقال : لقي رجل مجاهداً بمكة ومع مجاهد جوالق فقال مجاهد هذا من القوة، ومجاهد يتجهز للغزو، وقال عكرمة القوة الحصون. {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} (الاناث) {تُرْهِبُونَ بِهِ} تخوفون، ابن عباس : تخزون، وقرأ يعقوب : ترهبون بتشديد الهاء وهما لغتان : أرهبته ورهّبته {عَدْوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ تَعْلَمُونَهُمُ اللّه يَعْلَمُهُمْ} قال مجاهد : بنو قريظة. السدّي : أهل فارس. ابن زيد : المنافقون لا تعلمونهم لأنهم منكم يقولون : لا إله إلا اللّه، ويغزون معكم، وقال بعضهم : هم كفار الجن، وقال بعضهم : هم كل عدو من المسلمين غير الذي أمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يشردّ بهم. {وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللّه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يدّخر ويوفّر لكم أجره {وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} . ٦١{وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} أي فمل إليها وصالحهم، قالوا : وكانت هذه قبل (براءة) ثم مسخت بقوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقوله : قاتلوا الذين يؤمنون باللّه، الآية {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ٦٢{وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ} يغدروا ويمكروا بك، قال مجاهد : يعني قريظة {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّه} كافيك اللّه {هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال السدّي : يعني الأنصار ٦٣{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} جمع بين قلوبهم وهم الأوس والخزرج على دينه بعد حرب سنين، فصيرّهم جميعاً بعد أن كانوا أشتاتاً، وأخواناً بعد أن كانوا أعداءً {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعًا} إلى قوله تعالى {حَكِيمٌ} . روى ابن عفّان عن عمير بن إسحاق، قال : كنّا نتحدث أن أول مايرفع من الناس الالفة ٦٤{يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّه}. (........) أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال : أسلم مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ثلاثة وثلاثون رجلاً وستّ نسوة، ثم أسلم عمر (رضي اللّه عنه) فنزلت هذه الآية : يا أيها النبيّ حسبك اللّه {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} قال اكثر المفسرين : محل من نصب عطفاً على الكاف في قوله حسبك، ومعنى الآية : وحسب من أتبعك، وقال بعضهم رفع عطفاً على اسم اللّه تقديره : حسبك اللّه ومتّبعوك من المؤمنين. ٦٥{يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِين} حثّهم على القتال {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ} رجلاً صابرون محتسبون {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} من عدوّهم ويقهروهم {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّائَةٌ} صابرة محتسبة تثبت عند اللقاء وقتال العدو {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير احتساب، ولا طلب ثواب، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال خشية أن يُقتلوا، وصورة الآية خبر ومعناه أمر. وكان هذا يوم بدر قَرَنَ على الرجل من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين وضجّوا فخفّف اللّه الكريم عنهم وأنزل ٦٦{الْ َانَ خَفَّفَ اللّه عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} أي في الواحد عن قتال عشرة والمائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر ضعفاً بفتح الضاد، وقرأ بعضهم : ضعفاء بالمد على جمع ضعيف مثل شركاء. {فَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَإنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُوا ألْفَيْنِ بِإذْنِ اللّه وَاللّه مَعَ الصَّابِرِين} (أي عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكُسر أول عشرين كما كسر اثنان)، وإذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغِ (لهم أن يفروا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم) القتال وجاز لهم أن (يتحوزوا) عنهم. ٦٧{مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد اللّه بن مسعود قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ما تقولون في هؤلاء؟ فقال أبو بكر : يا رسول اللّه قومك وأهلك، استبقهم فاستعن بهم، لعلّ اللّه أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية (تكن) لنا قوة على الكفار. وقال عمر : يا رسول اللّه كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، ومكِّن علياً من عقيل يضرب عنقه، ومكّني من فلان نسيب لعمر أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد اللّه بن رواحة : يا رسول اللّه انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم ناراً، فقال العباس، قطعتك رحمك، فسكت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلم يجبهم. ثم دخل فقال أُناس : يأخذ بقول أبو بكر، وقال ناس : يأخذ بقول عمر، وقال ناس : يأخذ بقول ابن رواحة. ثم خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إن اللّه يلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وأن اللّه يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال : فمن تبعني فإنّه منّي، ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى. قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم، ومثلك ياعمر مثل نوح قال رب لاتذر على الأرض من الكافرين دياراً، ومثلك كمثل موسى قال {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية. ثم قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق، قال عبد اللّه بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع عليّ الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إلا سهيل بن البيضاء). قال : فلمّا كان من الغد جئت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت : يا رسول اللّه أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء ما بكيت، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أبكي للذي عرض على اصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عُرض عليّ عذابكم، ودنا من هذه الشجرة شجرة، قريبة من نبي اللّه فأنزل اللّه تعالى {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} بالتاء بصري الباقون بالياء، أسرى : جمع أسير مثل قتيل وقتلى {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض} أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة. قال قتادة هذا يوم بدر، فاداهم رسول اللّه بأربعة آلاف بأربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين. قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتد سلطانهم، أنزل اللّه تعالى بعد هذا في الأُسارى {فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} فجعل اللّه نبيه والمؤمنين في أمر الأُسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم. {تُرِيدُونَ} أيها المؤمنون {عَرَضَ الدُّنْيَا} بأخذكم الفداء {وَاللّه يُرِيدُ} ثواب {الآخِرَةَ} بقهركم المشركين ونصركم دين اللّه {وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . ٦٨{لَّوْ كِتَابٌ مِّنَ اللّه سَبَقَ} الآية، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يُبعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) حرام على الأنبياء والأُمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للنيران وحرّم عليه أن يأخذوا منه قليلاً أو كثيراً، وكان اللّه عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأُسارى حلال لمحمد وأُمته، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، فأنزل اللّه تعالى {لَّوْ كِتَابٌ مِّنَ اللّه سَبَقَ} لولا قضاء من اللّه سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن اللّه تعالى أحل لكم الغنيمة. وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد : لولا كتاب من اللّه سبق أنه لا يعذِّب أحداً شهد بدر مع النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وقال ابن جريج : لولا كتاب من اللّه سبق أنه لايضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم مايتقون، وأنه لايأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة {لَمَسَّكُمْ} لنالكم وأصابكم {فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به {عَذَابٌ عَظِيمٌ} . روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لأصحابه في أسارى بدر : (إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم)، وكانت الاسارى سبعون. فقالوا : بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون، قال ابن إسحاق وابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلاّ أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب (رضي اللّه عنه) جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال لرسول اللّه : ما لنا والغنائم نحن قوم نجاهد في دين اللّه حتى يُعبد اللّه، وأشار على رسول اللّه بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال : يا رسول اللّه كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ فقال اللّه ٦٩{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} همام بن منبه قال : هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمدقال : قال (صلى اللّه عليه وسلم) (لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا) ذلك أن اللّه رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا. عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أعُطيت خمساً لم يُعطهنَّ نبي قبلي من الأنبياء وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأُعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف اللّه الرعب في قلوبهم وكان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبقَ نبي إلا قد أُعطي سؤله وأُخّرت شفاعتي لأمتي). ٧٠{يَا أيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى} نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيراً يومئذ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى، وقال : أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك، وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس : يا محمد تركتني اتكفف قريشاً ما بقيت فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة، فقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد اللّه ولعبيد اللّه والفضل وقثم يعني بنيه) فقال له العباس : وما يدريك؟ قال : (أخبرني ربي) فقال العباس : فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله الا اللّه وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا اللّه فذلك قوله {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} الذين أخذتم منهم الفداء. وقرأ أبو محمد وأبو جعفر : من الأُسارى وهما لغتان {إِن يَعْلَمِ اللّه فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إيماناً {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم، قال العباس : فأبدلني اللّه مكانها عشرين عبداً كلهم يضرب بمال كثير، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأُوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي، وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكناً ولا حرم سايلا حتى فرّقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ، فكان العباس يقول : هذا خير مما أُخذ منا، وأرجو المغفرة. ٧١-٧٢{وَإِن يُرِيدُوا} يعني الأسرى {خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللّه مِنْ قَبْلُ فَأمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه وَالَّذِينَ ءَاوَوا} رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) والمهاجرين رضي اللّه عنهم، أي أسكنوهم منازلهم {وَّنَصَرُوا} على أعدائهم، وهم الأنصار {أُولَاكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} دون أقربائهم من الكفار، وقال ابن عباس : هذا في الميراث، كانوا يتوارثون بالهجرة، وجعل اللّه الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر لايرث لأنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل اللّه عز وجل : {وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّه} فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الارحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين. {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّه} يعني الميراث {حَتَّى يُهَاجِرُوا} وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو، والباقون بالفتح وهما واحد، وقال الكسائي : الولاية بالنصب : الفتح، والولاية بالكسر : الإِمارة. {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} لأنهم مسلمون {إِلا عَلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} عهد ٧٣-٧٥{وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض} في العون والنصرة. قال ابن عباس : نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدّي : قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية، وقال ابن زيد : كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لايتوارثان. وإن كانا أخوين مؤمنَين، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلاً، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا، وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (لا هجرة بعد الفتح إنّما هي الشهادة). وقال قتادة : كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إنْ ظهر هؤلاء كنت معهم، وإنْ ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى، اللّه عليهم ذلك، وأنزل فيه {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فلا تراءى نار مسلم و)نار (مشرك إلا صاحب جزية مقرَّاً بالخراج. {إِلا تَفْعَلُوهُ} قال عبد الرحمن بن زيد : إلاّ تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، وقال ابن عباس : إلاّ تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به، وقال ابن جريج : إلاّ تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق : جعل اللّه سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال : إلاّ تفعلوه، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن. {تَكُن فِتْنَةٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} إلى قوله تعالى {أُولَاكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين اللّه {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّه} الذي عنده وهو اللوح المحفوظ، وقيل : كتاب اللّه في قسمته التي قسمها وبيّنها في القرآن في سورة النساء. {إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ} ، وقال قتادة : كان الاعرابي لايرث المهاجر فأنزل اللّه هذه الآية، وقال ابن الزبير : كان الرجل يعاقد الرجل ويقول : ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية. |
﴿ ٠ ﴾