سورة هود(عليه السلام) مكية، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، محمد بن علي بن محمد، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول اللّه قد أسرع إليك المشيب، قال : (شيبتني هود وأخواتها : الحاقة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية). وعن زيد قال : رأيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال : يا زيد قرأت، فأين البكاء؟. بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{الر كِتَابٌ} قيل {الر} مبتدأ وكتاب خبره، وقيل : كتاب رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : هذا كتاب {الر كِتَابٌ} قال ابن عباس : أُحكمت آياته : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بُيّنت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية : فُصّلت : فُسِّرت ٢{من لدن حكيم خبير ألاّ تعبدوا} يحتمل أن يكون موضع أن رفعاً على مضمر تقديره : وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصباً بنزع الخافض تقديره : ثم فُصِّلت أن لا تعبدوا {إِلا اللّه} أو لئلاّ تعبدوا إلاّ اللّه. {إِنَّنِى لَكُم مِّنْهُ} من اللّه {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وأن عطف على الأول ٣{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي ارجعوا إلى اللّه بالطاعة والعبادة، وقال الفرّاء : ثُمّ هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار {يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا} أي يعيشكم عيشاً في (منن) ودعة وأمن وسعة (رزق)، {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الموت {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} ويؤتِ كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه (سمى فضله) باسم الابتداء. قال ابن مسعود : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال : هلك من غلبت آحاده عشراته. وقال ابن عباس : من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف، ثم يدخلون الجنة بعد، وقال أبو العالية : من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد : إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده ورجله، أو ما يتصدّق به من حق ماله. {فإن تولوا فأني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وهو يوم القيامة. ٤-٥{إلى اللّه مرجعكم وهو على كل شيء قدير ألا إنّهم يثنون صدورهم} قال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعدواة، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد : يثنون صدورهم شكّاً وامتراءً، السدّي : يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم (..............). عن عبد اللّه بن شداد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرَّ برسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) نى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). قتادة : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب اللّه ولا ذكره. ابن زيد : هذا حين يناجي بعضهم بعضاً في أمر رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أي من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال مجاهد : ليستخفوا من اللّه إن استطاعوا، وقال ابن عباس : يثنون صدورهم على وزن يحنون، جعل الفعل للصدور أي (يلقون). {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطّون رؤوسهم بثيابهم، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه. ٦{يعلم ما يسرّون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وما من دابة} من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض، وقال بعض العلماء : كل ما أُكل فهو دابة. {إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا} غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوباً، وقال بعضهم : (على) بمعنى (من) أي من اللّه رزقها، ويدل عليه قول مجاهد، قال : ما جاء من رزق فمن اللّه، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً، ولكن ما كان من رزق فمن اللّه. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهاراً، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها، قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوي، ومستودعها حيث تموت، مجاهد : مستقرها في الرحم ومستودعها في الصلب، عبد اللّه : مستقرها الرحم، ومستودعها المكان الذي تموت فيه، الربيع : مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت، ومن حيث تبعث. وقيل : يعلم مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها القبر، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار : {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} و {سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} . {كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها. ٧{وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب : خلق اللّه ياقوتة حمراء لا نظير لها (فنظر إليها بالهيبة) فصارت ماء، (يرتعد من مخافة اللّه تعالى) ثمّ خلق الريح فجعل الماء (على قشرة) ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة : إنّ اللّه تعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض بالحق، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح اللّه ومجدّه قبل أن يخلق شيئاً من الخلق. {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم وهو أعلم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} روى عبد اللّه بن عمر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه وأسرع في طاعة اللّه). قال ابن عباس : أيّكم أعمل بطاعة اللّه. قال مقاتل : أيّكم أتقى للّه، الحسن : أيّكم أزهد في الدنيا زاهداً وأقوى لها تركاً. {وَلَ ن قُلْتَ} يا محمد {إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ} يعنون القرآن، ومن قرأ : ساحر ردّه إلى محمد ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). ٨{وَلَئنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى أجل معدود ووقت محدود، وأصل الأُمّة الجماعة، وإنما قيل للحين : أُمّة، لأن فيه يكون الأُمّة، فكأنه قال : إلى مجيء أُمّة وانقراض أُخرى قبلها، كقوله : {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} . {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون أنه ليس بشيء. قال اللّه تعالى : {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذاب {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} خبر (ليس) عنهم. {وحاق بهم ما كانوا يستهزئون} أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم ٩{وَلَنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} سعة ونعمة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا} سلبناها {منه إنه ليؤوس} قنوط في الشدّة {كَفُورٌ} في النعمة. ١٠{وَلَنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} بعد بلاء وشدة {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} زالت الشدائد عني {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أشر بطر، ١١ثم استثنى فقال : {إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنة، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله : {والعصر إنّ الإنسان لفي خسر إلاّ الذين آمنوا} . ١٢{فَلَعَلَّكَ} يا محمد {تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} فلا تبلِّغه إياهم، وذلك أن مشركي مكة قالوا : آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا. {وَضَآئِقُ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا} لأن يقولوا {لَوْ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} ينفقه {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه، قال عبد اللّه بن أُمية المخزومي قال اللّه : يا أيها النذير {ليس عليك إلاّ البلاغ} واللّه على كل شيء وكيل ١٣-١٤{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ اهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} مثله {مُفْتَرَيَاتٍ} بزعمكم {وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم} لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله : {يا أيها الرسل} ويعني الرسول. وقال مجاهد : عنى به أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {فَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللّه} يعني القرآن {وَأَن اله إِلا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} لفظه استفهام ومعناه أمر. ١٥{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا} أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا {وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا {وَهُمْ فِيهَا يُبْخَسُونَ} لا ينقصون. قتادة يقول : من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه اللّه تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (من أحسن من محسن فقد وقع أجره على اللّه في عاجل الدنيا وآجل الآخرة). واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم : هي للكفار، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا، ١٦ويدل عليه قوله : {أولئك الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فى الآخرة إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} في الدنيا {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} قال مجاهد : هم أهل الربا. وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال : من هذا؟ قيل : أبو هريرة. قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس، فلما سكت وخلا، قلت : وانشدك اللّه لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (عقلته وعلمته) فقال : لأحدّثنّك حديثاً حدثنيه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في (هذا البيت) ثم غشي عليه ثم أفاق فقال : أحدثك حديثاً حدّثنيه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ي هذا البيت، ولم يكن أحد غيره وغيري، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال : (فأرى على وجهه ثمّ استغشى) طويلا ثم أفاق فقال : حدثني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا العباد ليقضي بينهم، وكل أُمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل اللّه، ورجل كثير المال. فيقول اللّه للقارئ : ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال : بلى يا رب. قال : ماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول اللّه تعالى له : كذبت، وتقول له الملائكة : كذبت، فيقول اللّه تعالى : بل أردت أن يقال : فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول اللّه له : ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى رب، قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق، فيقول اللّه له : كذبت، وتقول الملائكة : كذبت، ويقول اللّه تعالى : بل أردت أن يقال : فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قُتل في سبيل اللّه فيقال له : في ماذا قُتلت؟ فيقول : أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قُتلت، فيقول اللّه : كذبت، وتقول الملائكة : كذبت، ويقول اللّه : بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك) ثم ضرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على ركبتي فقال : (يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق اللّه تسعر بهم النار يوم القيامة). قال الوليد : وأخبرني غيره أن شقياً دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية : وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية (وضرب خدّيه) حتى ظننّا أنه هالك، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال : صدق اللّه ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحياةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وقرأ إلى قوله : {باطل ما كانوا يعملون} . ١٧{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ} بيان وحجة {مِّن رَّبِّهِ} وهو رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} يتبعه من يشهد له ويصدقه. واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأبو صالح وأبو العالية وعكرمة : هو جبريل (عليه السلام)، وقال الحسن (ح) : هو رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). وقال الحسن وقتادة : هو لسان رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). وقال محمد بن الحنفية : قلت لأبي أنت التالي؟ قال : وما تعني بالتالي؟ قلت : قوله : {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} قال : وددت أني هو ولكنه لسان رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). وقال بعضهم : الشاهد صورة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ووجهه ومخائله، لأنّ كل من كان له عقل ونظر إليه علم أنه رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن في نظمه وإعجازه والمعاني الكثيرة منه في اللفظ القليل. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هو ملك يحفظه ويسدّده. وقيل : هو علي بن أبي طالب. أخبرني عبد اللّه الأنصاري عن القاضي أبو الحسين النصيري، أبو بكر السبيعي، علي بن محمد الدهان والحسن بن إبراهيم الجصاص، قال الحسين بن حكيم، الحسين بن الحسن عن حنان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} علي خاصة (ح). وبه عن السبيعي عن علي بن إبراهيم بن محمد (العلوي)، عن الحسين بن الحكيم، عن إسماعيل بن صبيح، عن أبي الجارود، عن حبيب بن يسار، عن زاذان قال : سمعت علياً يقول : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فأُجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلاّ وأنا أعرف به يساق إلى جنة أو يقاد إلى نار. فقام رجل فقال : ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال : {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على بينة من ربه وأنا شاهد منه. وبه عن (السبيعي)، وأحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثني الحسن بن علي بن برقع وعمر بن حفص الفراء، حدثنا صباح القرامولي، عن محارب عن جابر بن عبد اللّه (الأنصاري)، قال علي (ح) : ما من رجل من قريش إلاّ وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل : فأنت أي شيء نزل فيك؟ قال علي (ح) : أما تقرأ الآية التي في هود، {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} . وفي الكلام محذوف تقديره : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن هو في الضلالة (متردّد)، ثم قال : {وَمِن قَبْلِهِ} يعني ومن قبل محمد والقرآن كان {كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَاكَ} أي بني إسرائيل {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ} أي بمحمد وقيل بالقرآن، وقيل بالتوراة {مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . روى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا يستمع لي يهودي ولا نصراني، ولا يؤمن بي إلاّ كان من أهل النار). قال أبو موسى فقلت في نفسي : إن النبي لا يقول مثل هذا القول إلاّ من الفرقان فوجدت اللّه يقول : {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . {فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ} أي في شكّ ١٨{منه إنه الحق من ربّك ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون ومَن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} زعم أن للّه ولداً أو شريكاً أو كذب بآيات القرآن {أُولَاكَ} يعني الكاذبين، {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم ويجزيهم بها. {وَيَقُولُ اشْهَادُ} يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، في قول مجاهد والأعمش، وقال الضحاك : يعني الأنبياء والرسل، وقال قتادة : يعني الخلائق. وروى صفوان بن محرز المازني قال : بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمر إذ عرض له رجل فقال : يا بن عمر ما سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول في النجوى؟ فقال : سمعت نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يقول) : (يدنو المؤمن من ربّه حتى يضع كتفيه عليه فيقرّره بذنوبه فيقول : هل (تعرف ما فعلت؟ يقول : (رب أعرف مرّتين، حتى إذا بلغ ما شاء اللّه أن يبلغ فقال : وإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وقال (ثمّ يعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه قال) : وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الأشهاد). ١٩-٢٠{هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة اللّه على الظالمين الذين يصدّون عن سبيل اللّه ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} قال ابن عباس : سابقين. مقاتل بن حيان : قانتين، قتادة : (هراباً) {وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَآءَ} أنصار تُغني (عنهم) {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} يعني يزيد في عذابهم. {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} اختلف في تأويله : قال قتادة (....) : {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} الهدى، وقوله : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} قال ابن عباس : إن اللّه تعالى إنّما حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا، وأما في الدنيا فإنه قال {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} فإنه قال : فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم، وقال بعضهم : إنما عنى بذلك الأصنام. {أُولَاكَ} وآلهتهم {لم يكونوا معجزين في الأرض ويضاعف لهم العذاب يوم القيامة ماكانوا يستطيعون السمع} ولا يسمعونه {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (......) فلا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما يقول : لا يجزينك ما عملت وبما عملت. ٢١-٢٢{أُولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لاجرم} أي (.....)، قال الفرّاء : معناها لابدّ ولا محالة {أَنَّهُمْ فى الآخرة هُمُ اخْسَرُونَ} يعني من غيرهم، وإنْ كان الكل في الخسار. ٢٣{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} قال عطية عن ابن عباس وقتادة : أنابوا وتضرّعوا إليه، مجاهد : اطمأنّوا إلى ذكره، مقاتل : أخلصوا، الأخفش : تخشّعوا له، وقيل : تواضعوا له. ٢٤{أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون مَثَل الفريقين} المؤمن والكافر {كالأعمى والأصم والسميع والبصير هل يستويان مثلا} قال الفرّاء : وإنّما لم يقل هل يستوون مثلا، لأنّ الأعمى والأصم في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف الكافر، والسميع والبصير في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن. ٢٥{أفلا تذكرون ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني} قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي : أني بفتح الألف ويعنون بأني، وقرأ الباقون بكسر الألف إني، قال : إني لأن في الإرسال معنى القول. ٢٦{لكم نذير مبين، أن لا تعبدوا إلاّ اللّه إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} مؤلم، قال مقاتل : بعث نوح وأمره ربّه ببناء، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفاً وخمسين عاماً ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، قال اللّه تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} أي فلبث فيهم داعياً ٢٧{فَقَالَ الملأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَ اكَ} يا نوح {إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا} آدمياً مثلنا {وَمَا نَرَ اكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} سفلتنا {بَادِىَ الرَّأْىِ} قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادي الرأي من غير روية ولا فكرة يعني : آمنوا من غير روية. ٢٨{وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين قال} نوح {يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة} هدىً ومغفرة {مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة : فعُمّيت بضم العين وتشديد الميم، أي اشتبهت ولبّست ومعنى الكلام : عمّيت الأبصار عن الحق، وهذا كما يقال : دخل الخاتم في أصبعي، والخُفّ في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخُفّ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} يعني البيّنة والرحمة {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} لا تريدونها يعني لا يُقبل ذلك. ٢٩{ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور {إِنْ أَجْرِىَ} ما ثوابي {إِلا عَلَى اللّه وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا} الباء صلة {إِنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ} بالمعاد ٣٠-٣١{فيجزيهم بأعمالهم ولكني أراكم قوماً تجهلون ويا قوم من ينصرني من اللّه إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري} تحتقر وتستصغر {أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّه خَيْرًا} يعني يؤخذ وانما {اللّه أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} من النية والعزم والخير والشر {إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} إنْ فعلتُ ذلك. ٣٢{قالوا يا نوح قد جادلتنا} ما ريتنا وخاصمتنا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} يعني العذاب ٣٣-٣٤{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّه وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} نصيحتي {إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّه يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} يهلككم ويضلكم {هُوَ رَبُّكُمْ} والأمر والحكم له {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم وهو ردّ على المعتزلة و (المرجئة). ٣٥{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ اهُ} قال ابن عباس : يعني نوحاً، مقاتل يعني محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} إثمي ووبال أمري، لا تؤخذون بذنبي {وَأَنَا بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} لا أواخذ بذنوبكم ٣٦{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن ولا تبتئس} ولا تحزن وهو منفعل من البؤس {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم {وقال ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} . ٣٧{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} واعمل السفينة {بِأَعْيُنِنَا} بمرأى منّا، الضحاك : بمنظر منّا، مقاتل : بعلمنا، ربيع : بمسمعنا {وَوَحْيِنَا} (على ما أوحينا إليك)، قال ابن عباس : وذلك إنّه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى اللّه إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر {وَلا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالطوفان، أمر أن لا يشفع لهم عنده، وقال : عنى امرأته وابنه. ٣٨{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} قيل : معناه وكان يصنع الفلك، وقيل : معناه وصنع الفلك {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} هزئوا به. {قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا} الآن {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} إذا عاينتم عذاب اللّه ٣٩{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يهينه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم، قال ابن عباس : اتخذ نوح (عليه السلام) السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وطولها في السمك ثلاثين ذراعاً، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو في البطن الأعلى (.....)، عمّا يحتاج إليه من الزاد. روي عن عائشة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى اللّه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة (فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها) ويقطع ما يبس منها، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمّرون عليه قومه فيسألونه فيقول : أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون : يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول : فسوف تعلمون، فلّما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك، خشيت أُمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّاً شديداً، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم اللّه أحداً منهم لرحم أُمّ الصبي). وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفّاً من ذلك التراب بكفّه قال : أتدرون ماهذا؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم، قال : هذا كفن حام بن نوح، قال : فضرب الكثيب بعصاه وقال : قم بإذن اللّه، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، قال له عيسى : هكذا هلكت؟ قال : لا بل متُّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثَمّ شبت، قال : حدِّثْنا عن سفينة نوح، قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى اللّه تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى اللّه تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار. فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال : فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان فمن ثم تألف البيوت. قال : فقالوا : يا رسول اللّه ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له؟ فقال له : عد بإذن اللّه، قال : فعاد تراباً. وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلاّ كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى اللّه عزّ وجل فقال : رب إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً، حتى قال : ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى آخر القصة، فأوحى اللّه إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي بعد اليوم إنهم مغرقون. فأقبل نوح على (عمل) الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه (الحديد)، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلاّ هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون : يا نوح هل صرت نجاراً بعد النبوة؟ وأعقم اللّه أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد. قال : ويزعم أهل التوراة أن اللّه أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره اللّه تعالى. ٤٠{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {وَفَارَ التَّنُّور} يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل : إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة، وقال علي بن أبي طالب (ح) في تفسير و {وَفَارَ التَّنُّور} : أي طلع الفجر ونور الصبح، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويراً، قتادة : موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن : أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنوراً من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران. ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد : وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف باللّه ما يظهر التنور إلاّ من ناحية الكوفة، وقال : اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علماً لنوح ودليلا على هلاك قومه. وقال مقاتل : كان ذلك تنور آدم وإنّما كان بالشام بموضع يقال له : عين وردة، وقال ابن عباس : فار التنور بالهند، والفور : الغليان. {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} أي في السفينة {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قال المفسرون أراد بالزوجين : اثنين ذكراً وأنثى، وقال أهل المعاني : كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجاً، يقال له : زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال اللّه تعالى {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَانثَى} ، وقال بعضهم : أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى : وكل زوج من الديباج يلبسه أبو قدامة محبوّ بذاك معا أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد : وذي (.....) كرّ المقاتل صولة وذرّته أزواج (........) يشرّب أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين {مِن كُلٍّ} بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثنين على التأكيد. {وَأَهْلَكَ} أي واحمل أهلك ومالك وعيالك {إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان. {وَمَنْ ءَامَنَ} يعني واحمل من آمن بك، قال اللّه تعالى {وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلا قليل} واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي : لم يكن في السفينة إلاّ نوح وامرأته وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم (وَرَحْلِهم) فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا اللّه نوحٌ أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش : كانوا سبعة : نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم : نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعاً. وقال مقاتل : (كانوا) اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفساً، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء. قال ابن عباس : كان في سفينة نوح ثمانون إنساناً أحدهم جرهم. قال مقاتل : وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضاً بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها. قال ابن عباس : أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الأوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له : ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح : ما أدخلك عليّ يا عدو اللّه؟ فقال له : ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح : اخرج عني يا عدو اللّه، قال : ما لك بدّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك. وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالأسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءةً وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال : حدثنا جابر بن عبد اللّه عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحاً فقالتا : احملنا، فقال نوح : إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا : احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحداً ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرّتهما : {سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين} ما ضرّتاه. ٤١{وَقَالَ} نوح لهم : {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللّه مَجْراهَا} قرأ أبو رجاء العطاردي : مُجرِاها ومُرسِاها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبداللّه. قال ابن عباس : مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء. وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن اللّه تعالى بيده جريها ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جرياً ومجرى، ورسا يرسو رسوّاً ومُرسى، مثل ذهب مذهباً وضرب مضرباً. قال امرؤ القيس : تجاوزت أحراساً وأهوال معشر عليَّ حرامٌ لو يسرّون مقتلي أي : قتلي. وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه : بسم اللّه إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى {أنزلني منزلا مباركاً وأدخلني مُدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج. {إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال الضحاك : كان نوح إذا أراد أن يرسو قال : بسم اللّه، فرست، وإذا أراد أن تجري قال : بسم اللّه، فجرت. ٤٢{وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} كنعان وكان عنيداً وقيل وكان كافراً. {وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} عنه لم يركب معه الفلك. {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} فتهلك، ٤٣قال له ابنه : {سَئاوِى} سأصير وأرجع {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى} يمنعني {مِنَ الْمَآءِ} ومنه عصام القربة الذي (يربط) رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها. {قَالَ} نوح {عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه} عذاب اللّه إلاّ من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل : في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر اللّه إلاّ من رحمه اللّه، كقوله تعالى {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} و {مَّآءٍ دَافِقٍ} قال الشاعر : بطيء القيام رخيم الكلام أمسى فؤادي به فاتنا أي مفتوناً. {وحال بينهما الموج وكان} فصار ٤٤{من المغرقين وقيل} بعدما تناهى أمر الطوفان {يا أرض ابلعي} أي اشربي {ماءك ويا سماء أقلعي} امسكي {وَغِيضَ الْمَآءُ} فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض. {وَقُضِىَ الأمْرُ} أي وفرغ من العذاب {وَاسْتَوَتْ} يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت {عَلَى الْجُودِىِّ} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد : تشامخت الجبال وتطاولت لئلاّ ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعاً وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه. {وَقِيلَ بُعْدًا} هلاكاً {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الكافرين، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار : لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعاً وقد رفعه اللّه من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكراً للّه عزّ وجلّ). ٤٥{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي الصدق {وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك. ٤٦{قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح} وقرأ أهل الكوفة (عَمِلَ) بكسر الميم وفتح اللام، غير بنصب الراء على الفعل ومعناه : إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عَملٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه : إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عملٌ غيرُ صالح. {فَلا تَسَْلْنِ} يا نوح {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره. {إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم : إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم : كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال اللّه تعالى : إنه ليس من أهلك أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة : سألت الحسن عنه فقال : واللّه ما كان بابنه، وقرأ {فَخَانَتَاهُمَا} فقال : إن اللّه حكى عنه إنه قال : إن ابني من أهلي، وقال : ونادى نوح ابنه وأنت تقول : لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه. فقال الحسن : ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون. وقال ابن جريج : ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولدَ على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح، وقال بعضهم : إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح : إن ابني من أهلي ولم يقل : منّي، وهو قول أبي جعفر الباقر. وقال الآخرون : كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله : إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا : ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدلّ على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران. قال أبو معاوية البجلي : قال رجل لسعيد بن جبير : قال نوح إن ابني من أهلي، أكان ابن نوح؟ فسبّح طويلا، وقال : لا إله إلاّ اللّه يحدث اللّه محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان ابنه ولكنه كان مخالفاً في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى : انه ليس من أهلك، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب. فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك ٤٧-٤٨{رب إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط} انزل من السفينة إلى الأرض {بِسَلَامٍ} بأمن وسلامة {مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} وهم الذين كانوا معه في السفينة. وقال أكثر المفسّرين : معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي : داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قال الضحاك : زعم أُناس إن من غرق من الولدان مع آبائهمن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق اللّه يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من اللّه لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار. ٤٩{تلِكَ} الذي ذكرت {مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ} يا محمد {وَقَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} من قبل إخباري إياك {فَاصْبِرْ} على القيام بأمر اللّه وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح {إِنَّ الْعَاقِبَةَ} آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة {لِلْمُتَّقِينَ} كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم. ٥٠{وَإِلَى عَادٍ} أي فأرسلنا إلى عاد {أَخَاهُمْ هُودًا} في النسب لا في الدين {قال يا قوم اعبدوا اللّه} وحّدوا اللّه وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد {مَا لَكُم مِّنْ اله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلاّ كاذبون. ٥١{يا قوم لا أسألكم عليه} على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا {إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى} والفطرة ابتداء الخلقة {أفلا تعقلون} وذلك أن الأمم قالت للرسل : ما تريدون إلاّ أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا. ٥٢{ويا قوم استغفروا ربكم} أي آمنوا به يغفر لكم، والإستغفار هنا بمعنى الإيمان {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفرّاء : معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة. {يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} متتابعاً، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان : غزيراً كثيراً. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} شدّة مع شدّتكم، وذلك أن اللّه حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود : إن آمنتم أحيا اللّه بلادكم ورزقكم المال والولد. {وَلا تَتَوَلَّوْا} ولا تدبروا مشركين ٥٣{قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة} بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء. {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدّقين ٥٤{إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَ اكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ} يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلاّ أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلاّ هذا ولا نحمل أمرك إلاّ على هذا، فقال لهم هود : {إِنِّى أُشْهِدُ اللّه} على نفسي ٥٥{واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه} يعني الأوثان {فَكِيدُونِى جَمِيعًا} فاحتالوا جميعاً في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم ٥٦{ثم لا تنظرون إني توكلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها} . قال الضحاك : يحييها ويميتها، قال الفرّاء : مالكها والقادر عليها، قال القتيبي : يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير : إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع فيقولون : ما ناصية فلان إلاّ بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا اطلاقه والمنّ عليه جزوا (ناصيته) ليغتروا بذلك فخراً عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم. {إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقول : إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحداً غيّاً ولا يقبل إلاّ الإسلام، والقول فيه إضمار أنيّ : إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم. ٥٧{فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم} أي قل يا محمد : فقد أبلغتكم {مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يوحّدونه ويعبدونه {وَلا تَضُرُّونَهُ شيئا} بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل : معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبداللّه : ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئاً، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا. {إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ} أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء. ٥٨{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ} وكانوا أربعة آلاف {بِرَحْمَةٍ} بنعمة {مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقيل : الريح، قيل : أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب. ٥٩{وَتِلْكَ عَادٌ} رده إلى القبيلة {جَحَدُوا بَِآيَاتِ ربهم وَعَصَوْا رُسُلَهُ} يعني هوداً وحده لأنه لم يُرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} يعني النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحداً فقد كذّب جميع الرسل. {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد : العنيد والعنود والعاند والمعاند : المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دماً فلا يرقى : عاند قال الراجز : إنّي كبيرٌ لا أطيقُ العندا ٦٠{وَاتَّبَعُوا} ألحقوا وأردفوا {فِى هذه الدُّنْيَا لَعْنَةً} يعني بعداً وعذاباً وهلاكاً {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وفي يوم القيامة أيضاً كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة {ألا إن عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أي بربهم، كما يقال : شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى : كفروا نعمة ربهم. {أَلا بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} البُعد بعدان : أحدهما البُعد ضد القرب، يقال : بعد يبعد بُعداً، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه : بَعد يَبعد بَعداً وبُعْداً. ٦١{وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره هو أنشأكم} ابتدأ خلقكم {مِّنَ الأرض} وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} وجعلكم عمّارها وسكانها، قال ابن عباس : أعاشكم فيها، الضحّاك : أطال أعماركم، مجاهد : أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة : أسكنكم فيها. {فاستغفروا ثم توبوا إليه إنّ ربي قريب} ممّن رجاه {مُّجِيبٌ} لمن دعاه. ٦٢{قَالُوا} يعني قوم ثمود {يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا} القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّداً، وقيل : كنا نرجو أن تعود إلى ديننا {أَتَنْهَ انَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا} من الآلهة. {وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موقع في الريبة وموجب إليها، يقال : أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي : كنت إذا أتيته من غيبِ يشم عطفي ويبز ثوبى كأنما أربته بريب ٦٣{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني منه رحمة} نبوة وحكمة {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللّه} لا يمنعني من عذاب اللّه {إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ} قال ابن عباس : غير خسارة في خسارتكم، الفرّاء : تضليل، قال الحسين بن الفضيل : لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون : ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب : فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته : نسبته إلى الخسران. ٦٤{ويا قوم هذه ناقة اللّه لكم آية} نصب على الحال والقطع {فَذَرُوهَا} أي دعوها تأكل في أرض اللّه من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها. {ولا تمسوها بِسُوءٍ} ولا تصيبوها بعقر ونحر {فَيَأْخُذَكُمْ} إن قتلتموها {عَذَابٌ قَرِيبٌ} من عقرها ٦٥{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهم صالح {تَمَتَّعُوا} حتى يحين (عذابه) {فِى دَارِكُمْ} منازلكم {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} تمهلون {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير كذب وقيل : غير مكذوب فيه. ٦٦{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} نعمة وعصمة {مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِ ذٍ} عذابه وهوانه. ٦٧{إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة} يعني صيحة جبريل {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} صرعى، ٦٨هلكى {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا} يقيموا ويكونوا {فِيهَآ ألا إن ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ} . ٦٩{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ} يعني الملائكة، واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس : كانوا ثلاثة : جبرئيل وميكائيل وإسرافيل. الضحّاك : تسعة، السدّي : أحد عشر، وكانوا على صورة الغلمان الوِضاء وجوههم. {إِبْرَاهِيمَ} الخليل {بِالْبُشْرَى} بالبشارة بإسحاق ويعقوب، وبإهلاك قوم لوط {قَالُوا} لإبراهيم {سَلَامًا} سلّموا عليه ونصب {سَلَامًا} بإيقاع القول عليه، لأن السلام قول أي (مِثل) قالوا وسلّموا سلاماً (قال) إبراهيم (سلام) أي عليكم سلام، وقيل : لكم سلام وقيل : رُفِع على الحكاية، (قيل : الحمد للّه) (وقولوا حطّة)، وقرأ حمزة والكسائي سِلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات، وكذلك هو في مصحف عبد اللّه ومعناه : نحن سِلام صالح لكم غير حرب، وقيل : هو بمعنى السِلم أيضاً كما يقال : حِل وحلال، وحِرم وحرام. وأنشد الفراء : مررنا فقلنا إيه سلّم فسلمت كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح {فَمَا لَبِثَ} فما أقام ومكث إبراهيم {إِنَّ} بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن {جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} قال ابن عباس : مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض، قتادة ومجاهد : نضج بالحجارة وشوي، ابن عطية : شوي بعضه بحجارة، أبو عبيدة : كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق. ٧٠{فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي للعجل {نَكِرَهُمْ} أي : أنكرهم، ويقال : نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد. قال الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلاّ الشيب والصلعا فجمع المعنيين في وقت واحد. {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} أضمر وأحسّ منهم خوفاً، وقال مقاتل : وقع في قلبه، الأخفش : خامر نفسه. الفرّاء : استشعر. الحسن : حدّث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه. قتادة : وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنّه يحدّث نفسه بشرّ. {قَالُوا تَخَفْ} يا إبراهيم فإنّا ملائكة اللّه {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} قال الوالبي : لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب؛ لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر {ما تتنزل الملائكة إلاّ بالحق} أي بالعذاب، قالت الملائكة : لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط لا إلى قومك. ٧١{وامرأته} سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم {قَآئِمَةٌ} من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم، وقيل : كانت قائمة (......) الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أوّلي، وقرأ ابن مسعود : وامرأته قائمة وهو جالس {فَضَحِكَتْ} . واختلفوا في العلة الجالبة للضحك، فقال السدي : لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصاً، فقال لهم : ألا تأكلون؟ فقالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلاّ بثمن، قال : فإن لهذا ثمناً، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم اللّه على أوّله وتحمدون على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال : حق أن يتخذك خليلا، فلما رأى إبراهيم وسارة أيديهم لا تصل إليه نكرهم، فضحكت سارة وقالت : إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا. وقال قتادة : فضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي : فضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقال ابن عباس ووهب : ضحكت عجباً من أن يكون لها ولد على كبر سنّها وسنّ زوجها، وقالوا : هو من التقديم الذي معناه التأخير، وكان بمعنى : (......) وامرأته قائمة. {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فضحكت ٧٢وقالت {يا ويلتى أألد وأنا عجوز} الآية، وقيل : ضحكت سروراً بالأمن عليهم لما قالوا : لا تخف. وقال مجاهد وعكرمة : فضحكت أي حاضت في الوقت، تقول العرب : ضحكت الأرنب إذا حاضت، وقال الشاعر : وضحكت الأرانب فوق الصفا كمثل دم الخوف يوم اللقا {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قال ابن عباس والشعبي : الوراء ولد الولد، واختلف القّراء في قوله : يعقوب، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل : في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب، فلمّا حذف الباء نصب، وقيل : بإضمار فعل له، ووهبنا له يعقوب. ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة، فلمّا بُشّرت بالولد والحفيد {صكّت وجهها} أي ضر اللّه تعجباً {وقالت يا ويلتى} والأصل : يا ويلتاه {وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا} وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد. {وَهذا بَعْلِى} زوجي سمي بذلك لأنه قيّم أمرها كما سمّي مالك الشيء بعله، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمّى بعلا {شَيْخًا} وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق. {إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ} ٧٣فقالت الملائكة {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّه رَحْمَتُ اللّه وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ} يعني هنا إبراهيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} قال السدّي : قالت سارة لإبراهيم (عليه السلام) : ما آية قولك؟ قال : فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه، فاهتزّ أخضر فقال إبراهيم : هو للّه إذاً ذبيحاً. ٧٤-٧٥{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} الخوف {وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى} بإسحاق ويعقوب {يُجَادِلُنَا} في (.......) لأنّ إبراهيم لا يجادل ربّه إنّما يسأله ويطلب إليه. وقال عامّة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا : إنا مهلكوا أهل هذه القرية، قال لهم : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا لا، فقال إبراهيم : وأربعون؟ قالوا : لا، قال : أو ثلاثون؟ قالوا : لا، قال : حتى بلغ عشرة، قالوا : لا، فقال : خمسة قالوا : لا، قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟ قالوا : لا، فقال إبراهيم عند ذلك : إن فيها لوطاً، فقالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجّينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين. قال ابن جريج : وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، قال قتادة : في هذه الآية لا يرى مؤمن إلاّ لوط المؤمن، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم : ٧٦{يا إبراهيم أعرض عن هذا} أي دع عنك الجدال، وأعرض عن هذا المقال {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} عذاب ربك {وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ} نازل بهم، يعني قوم لوط {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} غير مدفوع ولا ممنوع. ٧٧{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا} يعني الملائكة {لُوطًا سِىءَ بِهِمْ} حزن لمجيئهم، يقال : سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل، وسررته فانسر {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قلباً {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديد، ومنه عصبصب، كالعصب به الشر والبلاء أي شدّ ومنه عصابة الرأس، قال عدي بن زيد : وكنت لزاز خصمك لم أعرد وقد سلكوك في يوم عصيب وقال آخر : وانك إلاّ تُرض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب وقال الراجز : يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا وذلك أن لوطاً (عليه السلام) لم يكن يعلم أنهم رسل اللّه في تلك الحال، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه قال قتادة والسدّي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطاً وهو في أرض يعمل فيها، وقد قال اللّه تعالى لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطاً أربع شهادات، واستضافوه فانطلق معهم، فلمّا خشي عليهم، قال لهم : ما بلغكم، أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد باللّه إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول، ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط. ٧٨{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال ابن عباس وقتادة والسدّي : يُسرعون، ومجاهد : يهرولون، الضحاك : يسعون، ابن عيينة : كأنهم يُدفعون، شمر بن عطية : مشي بين الهرولة والجمزى، الحسن : مشي بين مشيتين، قال أهل اللغة : يقال : أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مُهرع إذا كان معجلا مسرعاً، قال مُهلهل : فجاءوا يهرعون وهم أُسارى يقودهم على رغم الأنوفِ وقال الراجز : بمعجلات نحوه مهارع {وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيَِّئاتِ} أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان : {يا قوم هؤلاء بناتي هُنّ أطهر لكم} واختلفوا في معنى قوله، قال محمد بن الفضل : يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم : فلعلّ ذلك إلاّ إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزاً كما زوج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد بقوله بناتي : النساء، وكلّ نبي أبو أمّته. وقرأ بعض القراء {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وهو أب لهم، وقال بعضهم : كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، زعوراء وريثا. وقوله : (هنّ أطهر لكم) قراءة العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو : (أطهر) بالنصب على الحال، فإن قيل : فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟ قيل : ليس هذا زيادة النسل، إنما يقال ليس ألف (أطهر) للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس : اللّه أكبر، فهل يكابر اللّه أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدلّ عليه ما روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد : أعلُ هبل، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لعمر : (قل اللّه أعلى وأجل)، وهبل لم يكن قط عالياً. {واتقوا اللّه ولا تخزوني في ضيفي} أي لا تهينوني فيهم بركوبهم، وهم لا يركبون، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل : أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب : خزي خزياً إذا افتضح، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء، قال ذو الرمة : خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب {أليس فيكم رجل رشيد} صالح، قال ابن عباس : معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ٧٩{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أي ليس لنا أزواجاً (نلتصقهنّ) بالتزويج {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الأضياف، ٨٠فقال لهم لوط عند ذلك {لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} أي منعة وشيعة تنصرني {قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ} أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة، وجواب {لَوْ} مضمر (تقديره : لرددت أهل الفساد)، وقالوا : ما بعث اللّه بعده نبياً إلاّ في ثروة من قومه، وروي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لما قرأ هذه الآية قال : (رحم اللّه أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد). قال ابن عباس وأهل التفسير : أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم، ٨١قالوا : يا لوط إنّ ركنك لشديد وإنهم آتيهم عذاب غير مردود {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ} فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا، فاستأذن جبريل (عليه السلام) ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان (وعليه وشاح من در منظوم وهو برّاق الثنايا أجلى الجبين، ورأسه (حبك حبك) مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال : يا لوط إنّا رسل ربّك لن يصلوا إليك، امضِ يا لوط من الباب، ودعني وإيّاهم، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب به) وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقاً ولم يهتدوا إلى بيوتهم. فانصرفوا وهم يقولون : النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى نصبح، يتوعدونه، فقال لهم لوط : متى موعد هلاكهم؟ فقالوا : الصبح قال : أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن، فقالوا : أليس الصبح بقريب قالوا له : فأسر بأهلك، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى : {والليل إذا يسري} وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتباراً بقوله {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وهما بمعنى واحد. {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} قال ابن عباس : بطائفة من الليل، الضحّاك : ببقية، قتادة : بعد مضي صدره، الأخفش : بعد جنح، وقيل : بعد هدوء، وبعضها قريب من بعض. {ولا يلتفت مِنكُمْ أَحَدٌ إِلا الأمر أَتَكَ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو : أمراتك برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتُك فإنها تلتفت وتهلك، وإنّ لوطاً خرج بها، ونهى من معه ممن أُسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : واقوماه فأدركها حجر فقتلها. وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلاّ امرأتك ولا يلتفت منكم أحد، فإنه مصيبها ما أصابهم من العذاب غير مخطيها ولا يُخطيهم. {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} أي إن موعد هلاكهم هو الصبح، فقال لوط : أُريد أسرع من ذلك، ٨٢فقالوا : {أليس الصبح بقريب فلمّا جاء أمرنا} عذابنا {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك أن جبريل (عليه السلام) أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها. روي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال لجبريل (عليه السلام) : (إن اللّه تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي، قال اللّه في وصفك {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} فأخبرْني عن قوّتك، قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهراً لبطن، قال : فأخبرني عن قوله {مُّطَاعٍ} قال : إن رضوان خازن الجنان، ومالكاً خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال : فأخبرْني عن قوله {أَمِينٌ} قال : إن اللّه عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري). {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} أي على شذاذها وسافليها، وقال أبو عبيدة : مَطَر في الرحمة، وأمطر في العذاب {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك) : و (كل) حجارة وطين، قتادة وعكرمة : السجّيل : الطين دليله قوله تعالى {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} قال الحسن : كان أصل الحجارة طيناً فشدّدت. وروى عكرمة أيضاً أنه قال : هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة، وقيل : هو جبال في السماء وهي التي أشار اللّه إليها فقال : {ونزل من السماء من جبال فيها من برد} وقال أهل المعاني : السجّيل والسجّين واحد، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل : ورجلة يضربون البيض عن عرض ضرباً تواصت به الأبطال سجينا والعرب تعاقب بين اللام والنون، قالوا : لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت، وقيل : هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم، وقيل : من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أُعطوا ذلك البلاء والعذاب، قال الفضل بن عباس : من يُساجلْني يساجلْ ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب {مَّنضُودٍ} قال ابن عباس : متتابع، قتادة : بعضها فوق بعض، الربيع : قد نضد بعضه على بعض، عكرمة : مصفوف، أبو بكر الهذلي : معدّ وهي من عدة (اللّه) التي أُعدت للظلمة. ٨٣{مُّسَوَّمَةً} من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال ومعناها مُعلّمة قتادة وعكرمة : مطوقة بها نضح من حمرة، ابن جريج : كانت لا تشاكل حجارة الأرض، الحسن والسدّي : مختومة، وقيل : مشهورة، ربيع : مكتوب على كل حجر اسم من رُمي به. {وَمَا هِىَ} يعني تلك الحجارة {مِنَ الظَّالِمِينَ} من مشركي مكّة {بِبَعِيدٍ} قال مجاهد : يرهب بها قريشاً، قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأُمة واللّه ما أجار اللّه منها ظالماً بعد، وقال أنس بن مالك : سأل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جبريل (عليه السلام) عن قوله تعالى {وَمَا هِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} قال : يعني بها ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلاّ هو يعرف أي حجر سقط عليه. ٨٤{وَإِلَى مَدْيَنَ} يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم. {قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان} وكانوا يطفِّفون {إِنِّى أَرَ اكُم بِخَيْرٍ} قال ابن عباس (ح) : موسرين في نعمة، الحسن : الغنى ورخص السعر، قتادة : المال وزينة الدنيا، الضحاك : رغد العيش وكثرة المال، مجاهد : خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا {وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} محيط بكم فلا يفلت منكم أحد. ٨٥{ويا قوم أوفوا المكيال والميزان} اكتالوا بالقسط {ولا تبخسوا} ولا تنقصوا ٨٦{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ولا تبخسوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ ولا تعثوا فِى الأرض مُفْسِدِينَ} قال ابن عباس : ما أبقى اللّه لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، قال مجاهد : الطاعة، سفيان : رزق اللّه، قتادة : حظكم من ربكم، ابن زيد : الهلاك في العذاب والبقية : الرحمة، الفرّاء : مراقبة اللّه {وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} وإنما قال هذا لأن شعيباً لم يؤمر بالقتال. ٨٧{قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} من الأوثان، قال ابن عباس : كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش : يعني قراءتك {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا} يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم : تفعل وتشاء بالتاء يعني : تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعاً إلى الأمر لا إلى الترك. قال أهل التفسير : كان هذا نهياً لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا : وأن نفعل ما نشاء {إِنَّكَ نتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قال ابن عباس : السفية الغاوي. قال القاضي : والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للدّيغ : سليم، وللفأرة : مفازة. وقيل : هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي : أبو البيضاء، وللأبيض : أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل : {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} . وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك وعندكن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان : هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له : {يا صالح قد كنت فينا مرجوّا} . ٨٨{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة} حجّة وبصيرة وبيان وبرهان {مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} حلالا طيباً من غير بخس ولا تطفيف، وقيل : علماً ومعرفة {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَ اكُمْ عَنْهُ} ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه {إِنْ أُرِيدُ} ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه {إِلا اصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل : إليه أرجع في الآخرة. ٨٩{ويا قوم لا يجرمنّكم} لا يحملنكم {شِقَاقِى} خلافي وفراقي {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من العذاب {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل : ما دارُ قوم لوط منكم ببعيد ٩٠{ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} محبّ المؤمنين، وقيل : مودود للمؤمنين ومحبوبهم. ٩١{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً} وذلك أنه كان ضريراً، قال سفيان : كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء {وَلَوْ رَهْطُكَ} عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه {لَرَجَمْنَاكَ} لقتلناك ٩٢{وما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من اللّه واتخذتموه وراءكم ظهريّا} قيل : الهاء راجعة إلى اللّه وقيل : إلى أمر اللّه وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال : جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه. ٩٣{إنّ ربي بما تعملون محيط ويا قوم اعملوا على مكانتكم} أي تؤدتكم ومكانكم، يقال : فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّهُ تمكن. ويقال : مُكن يمكن مكناً مكاناً ومكانة، {إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أيّنا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} قيل : {مَنِ} في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل : ويخزي من هو كاذب، وقيل : محله رفع تقديره : ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره وانتظروا العذاب {إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر. ٩٤{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال : إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم. {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ميتين ساقطين هلكى صرعى ٩٥{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا} يكونوا {فِيهَآ أَلا بُعْدًا} هلاكاً وغضباً {لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ} هلكت ٩٦{ثمود ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين} حجة بيّنة ٩٧{إلى فرعون وملائه واتّبعوا أمر فرعون} وخالفوا أمر موسى ٩٨{وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه} أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يوم القيامة {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وبئس المدخل المدخول فيه. ٩٩{وَأُتْبِعُوا فِى هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة. ١٠٠{ ذلك مِنْ أَنبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآمٌ وَحَصِيدٌ} خراب، ابن عباس : قائم ينظرون إليه، وحصيد قد خرب وهلك أهله، مقاتل : قائم يعني له أثر، وحصيد لا أثر له، مجاهد : قائم : خاوية على عروشها وحصيد : مستأصل يعني محصوداً كالزرع إذا حصد، قال قتادة : القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي : منها قائم بجدرانهاوحيطانها، وحصيد : ساقط، محمد بن إسحاق : منها قائم يعني (.....) وأمثالها من القرى التي لم تهلك، وحصيد يعني التي قد أهلكت. ١٠١{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والأهلاك {وَلَكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية يظلمون {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون اللّه لما جاء أمر} عذاب {رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} غير تخسير. ١٠٢{وَكَذلِكَ} وهكذا أخذ ربك {إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} نظير قوله : {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . ١٠٣{إِنَّ فِى ذلِكَ} لعبرة وعظة {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلك } يعني يوم القيامة {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ} قال عبد اللّه بن مسعود لأصحابه : إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي (......) {وَ ذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} يشهده أهل السماء وأهل الأرض. ١٠٤{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة {إِلا جَلٍ مَّعْدُودٍ} أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر ١٠٥{يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء والضمة من الواو، كقول الشاعر : كفاك كفّ ما تليق ودرهما جوداً وأخرى تُعط بالسيف الدما {تَكَلَّمُ} أي : لا تتكلم {نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} نظير {تَنَزَّلُ الْمَلَاكَةُ} أي : تتنزل. قال لبيد : والعين ساكبة على أطلائها عوذا تأجّل بالفضاء بهامها (أي تتأجل). {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} قال ابن عباس : فمنهم شقي كتبت عليه السعادة، وروى عبد اللّه ابن دينار عن ابن عمر عن عمر، قال : لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقلت : يا نبي اللّه فعلى ما عملنا، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام ولكن كلٌّ ميسّر لما خلق له). وروي عنه (عليه السلام) : (الشقي من شقي في بطن أُمّه، والسعيد من سعد في بطن أُمّه). ١٠٦{فأما الذين شقوا ففي النار خالدين فيها لهم فيها زفير وشهيق} قال ابن عباس : الزفير : الصوت الشديد، والشهيق : الصوت الضعيف، الضحّاك ومقاتل : الزفير : أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف. أبو العالية : الزفير في الحلق، ١٠٧والشهيق في الصدر {خَالِدِينَ} لابثين ومقيمين {فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض} يسمى هنا {مَآ} الوقت. قال ابن عباس : ما دامت السماوات والأرض من ابتدائها إلى وقت فنائها، قال الضحّاك : ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلَّك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض. قال الحسين : أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، قال أهل المعاني : العرب (...) في معنى التأبيد والخلود، يقولون : هو باق ما (...) وأطت الإبل، وأينع الثمر، وأورق الشجر، ومجن الليل وسال سيل، وطرق طارق، وذرّ شارقن ونطق ناطق، وما اختلف الليل والنهار، وما اختلف الذرة والجمرة، وما دام عسيب، وما لألأت العفراء ونابها، وما دامت السماوات والأرض، فخاطبهم اللّه تعالى بما تعارفوا بينهم. ثم استثنى فقال : {إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ} اختلف العلماء في هذين الاستثناءين، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم اللّه من النار. قال ابن عباس : وما شاء ربك أن يخرج أهل التوحيد منها، وقال في قوله في وصف السعداء : ألا ما شاء ربك أن يخلدهم في الجنة، وقال قتادة : في هذه الآية اللّه أعلم بها، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم اللّه منها، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون. وقال أبو مجلز : هو جزاؤه إلاّ أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، وفي وصف السعداء إلاّ ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إلاّ ما شاء ربك. وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم. قال : وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وقال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمراً وأسرعهما خراباً، وقال ابن زيد : في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال : هذا غير مجذوذ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار، وقال ابن كيسان : إلاّ ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، وقيل : ما شاء ربك من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث. الزجّاج : في هذه الآية أربعة أقوال : قولان منها لأهل اللغة، وقولان لأهل المعاني، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا : {إِلا} ههنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام : ما كان معنا رجل إلاّ زيد، ولي عليك ألف درهم إلاّ الألفان التي لي عليك، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود، والقول الثاني : إنّه استثنى من الاخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما يقول في الكلام : أردت أن أفعل كذا إلاّ أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها، قال الزجّاج : فهذان مذهبا أهل اللغة. وأما قولا أهل المعاني، فإنهم قالوا : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربك من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة إلاّ ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم، وقال الفراء : معناه : وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، و {إِلا} بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة، قال اللّه تعالى {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ومعناه، ولا الذين ظلموا، وأنشدني أبو ثروان : من كان أشرك في تفرّق فالج فلبونه جربت معاً وأغدت إلاّ كناشرة الذي ضيعتم كالغصن في غلوائه المثبت معناه، لكن هنا كناشرة، وهي كاسم قبيلة، وقال : معناه كما شاء ربك كقوله {ولا تنكحوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} معناه كما قد سلف. ١٠٨{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} قرأ أهل الكوفة : (سُعدوا) بضم السين أي رُزقوا السعادة، وسعد وأُسعد بمعنى واحد، وقرأ الباقون بفتح السين قياساً على الذين شقوا، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم {فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ} . الضحّاك : إلاّ ما مكثوا في النار حتى أُدخلوا الجنة، أبو سنان : إلاّ ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض، وذلك هو الخلود فيها، قال اللّه {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع. وكيع بن الجراح : كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب اللّه، قال اللّه تعالى في وصف نعيم الجنة {مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} وقالت الجهمية : يقطع فيمنع عنهم، وقال اللّه {أُكُلُهَا دَآمٌ وَظِلُّهَا} وقالوا : لا يدوم، وقال اللّه و{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّه بَاقٍ} وقالوا : لا يبقى، وقال اللّه {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} وقالوا : يُجذ ويُقطع. ١٠٩{وَلا تَكُن} يا محمد {فِى مِرْيَةٍ} في شك {مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} فهم ضُلاّل. {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ} فيه إضمار أي : (كعبادة) {مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ} حظهم من الجزاء {غَيْرَ مَنقُوصٍ} . ١١٠{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ممّن صدف عنه وكذبّ به، كما فعل قومك بالقرآن يُعزّي نبيه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَلَوْ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} في تأخير العذاب {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أُفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين. {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} موقع في الريب والتهمة، يقال : أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يُلام عليه، قال الشاعر : تعد معاذراً لا عذر فيها ومن يخذل أخاه فقد ألاما ١١١{وَإِنَّ كُلا لَّمَّا} اختلف فيه القُرّاء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة {وَأَنِ} بتخفيف النون {وَلَمَّا} بتشديد الميم على معنى فأنّ كلاً لمّا {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، كقول الشاعر : كان من أخرها لقادم مخرم نجد فارع المحارم أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون {مَآ} بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم، كقول الشاعر : وأنّيَ لمّا أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره وقيل : أراد وأن كلا لمّاً بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وإن كلاً شديداً وحقاً ليوفينّهم {رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} من قوله تعالى : كلاّ لمّا، أي شديداً فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله : ثم أرسلنا رسلنا تترى، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف، وأنشد أبو زيد : ووجه مشرق النحر كأنْ ثدييه حُقّان أراد كان فخفّف ونصب به، و {مَآ} صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كُلاً ليوفينّهم، جعلوا {مَآ} صلة. وقيل : أرادوا وأن كلا لممّن كقوله {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها. وقيل : {إِنَّ} بمعنى {مَآ} الجحد و {لَّمَّا} بمعنى {إِلا} تقديره وما كلاً إلاّ ليوفينّهم، ولكنه نصب كلاّ بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، {إنه بما تعملون خبير} . ١١٢{فَاسْتَقِمْ} يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه {كَمَآ أُمِرْتَ} أن لا تشرك بي شيئاً وتوكّل عليّ مما ينوبك، قال السدّي : الخطاب له (صلى اللّه عليه وسلم) والمراد أُمته. {وَمَن تَابَ مَعَكَ} فليستقيموا، يعني المؤمنين {وَلا تَطْغَوْا} ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد : ولا تعصوا اللّه ولا تخالفوه، وقيل : ولا تتخيّروا. {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس : ما نزلت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب، فقال : (شيبتني سورة هود وأخواتها). ١١٣{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قال ابن عباس : ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم قال، أبو العالية : لا ترضوا على أعمالهم. قتادة : لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان : لا تسكنوا إلى الذين ظلموا. {فَتَمَسَّكُمُ} تصيبهم النار {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّه مِنْ أَوْلِيَآءَ} أي أعوان يمنعون ١١٤{ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار} يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس : يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد : صلاة الفجر وصلاة العشاء، القرظي : هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك : صلاة الفجر والعصر، (وقيل : الطرفان) صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف. {وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ} يعني صلاة العتمة، وقال الحسن : هما المغرب والعشاء، قال الأخفش : يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج : طيّ الليالي زلفاً فزلّفا سماوة الهلال حتى أحقوقفا وفيه أربع لغات زُلُفاً : بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زُلفى، مثل قُربى. {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيَِّئاتِ} يعني : إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد : هي قول العبد : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر. نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمراً فقال : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت : نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها، فقالت له : اتق اللّه فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : يا رسول اللّه، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئاً مما يفعل الرجال بالنساء إلاّ ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب : لقد ستر اللّه عليك لو سترت على نفسك، فلم يردّ عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) شيئاً، وقال : أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلّى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أين أبو اليسر؟) فقال : ها أناذا يا رسول اللّه، قال : (أشهدت معنا هذه الصلاة؟) قال : نعم، قال : (اذهب فإنها كفارة لما عملت) فقال عمر : يا رسول اللّه أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (بل للناس عامة). { ذلك } الذي ذكرناه، وقيل : هو إشارة إلى القرآن {ذِكْرَى} عظة ١١٥{للذاكرين واصبر} يا محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل : على الأذى، وقيل : على الصلاة، نظير قوله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} {فَإِنَّ اللّه يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس : يعني المصلّين. ١١٦{فَلَوْ كَانَ} فهلاّ كان {مِنَ الْقُرُونِ} التي أهلكناهم {من قبلكم أُولو بقية} أصحاب دين وعقل {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرض} ومعناه : فلم يكن، لأن في الاستفهام ضرباً من الجحد {إِلا قَلِيلا} استثناء منقطع {مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق. {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ} قال ابن عباس : ما أُنظروا فيه، وروي عنه : أُبطروا. الضحّاك : اعتلّوا، مقاتل بن سليمان : أُعطوا، ابن حيان : خوّلوا، مجاهد : تجبّروا في الملك وعتوا عن أمر اللّه، الفرّاء : ما سوّدوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} كافرين ١١٧{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} (بظلم منه لهم) {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} في أعمالهم غير مسيئين، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات، وقيل : معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين، وإنّما يهلكهم إذا ظلموا. ١١٨{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ} كلّهم {أُمَّةٍ} جماعة {وَاحِدَةً} على ملّة واحدة {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك ١١٩{إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء : وللاختلاف خلقهم، قال الأشهب : سألت مالكاً عن هذه الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة، وفريق في السعير، وقيل : اللام بمعنى على، أي وعلى ذلك خلقهم، كقول الرجل للرجل : أكرمتك على برّك بي ولبرّك بي، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : وللرحمة خلقهم ولم يقل : ولتلك، والرحمة مؤنّثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة، وهذا باب سائغ في اللغة (وهو أن يُذكر) لفظان متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} ثم قال : {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } ، وقوله {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذلك سبيلا} وقوله : {قل بفضل اللّه ورحمته فبذلك فليفرحوا} فكذلك معنى الآية، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق، هؤلاء لجنّته، وهؤلاء لناره. ١٢٠{وتمت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين وكلاّ نقصّ عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك} قال ابن عباس : نسدد، الضحاك : نقوّي، ابن جريج : نصبّر حتى لا تجزع، أهل المعاني : ما نثبّت به قلبك. {وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ} قال الحسن وقتادة : في هذه الدنيا، وقال غيرهما : في هذه السورة، ١٢١-١٢٢{وموعظة وذكرى للمؤمنين وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا} ما يحلّ بنا من رحمة اللّه {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} ما يحل بكم من النقمة. ١٢٣{وَللّه غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض} قال ابن عباس : خزائن اللّه، الضحّاك : جميع ما غاب عن العباد، وقال الباقون : غيب نزول العذاب من السماء {وإلينا يرجع الأمر كله} في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي يُرجع {فَاعْبُدْهُ} وحده {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} توثّق به {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة هود واللّه أعلم. يعملون قراءة العامة بالياء، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء. |
﴿ ٠ ﴾