سورة يوسفعليه السلام مكية، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفاً، وألفوسبعمائة وستة وسبعون كلمة، ومائة وإحدى عشرة آية أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة، قال : أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد اللّه بن محمد الأصفهاني قالا : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، قال : حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال : حدثنا سلام بن سليم المدائني، قال : حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب، قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن اللّه عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلماً). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{الر تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} يعني البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته، قال معاذ بن جبل : بيّن فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف. ٢{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} يعني الكتاب {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} بلغتكم يا معشر العرب {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه ٣{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نقرأ، وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى {وَقَالَتْ خْتِهِ قُصِّيهِ} فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها. {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يعني قصة يوسف {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} و {مَآ} المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ} من قبل وحينا {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} قال سعد بن أبي وقاص : أُنزل القرآن على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فتلاه عليهم زماناً، وكأنهم ملّوا فقالوا : لو قصصت علينا، فأنزل اللّه تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية، فقالوا : يا رسول اللّه لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل اللّه تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} الآية، فقال اللّه تعالى على هذه الآية : أحسن القصص. واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص؟ فقيل : سماها أحسن القصص لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة، وقيل : سمّاها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها، قال ابن عباس : كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة، وعليه أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة. وقيل : سماها أحسن القصص لحسن مجاورة يوسف إخوته، وصبره على أذاهم، وإغضائه عند الإلتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها أيضاً ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا، وقيل : لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل : أحسن القصص هاهنا بمعنى أعجب. ٤{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} قراءة العامة يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين، واختلفوا فيه فقال أكثرهم : هو اسم عبريّ فلذلك لا يجري، وقال بعضهم : هو اسم عربي. سمعت أبا القاسم الحبيبي، قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الأقطع، وكان حكيماً، وسئل عن يوسف، فقال : الأسف : الحزن، والأسيف : العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف. {بِيهِ} يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام). روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)). {يا أبت} قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه، وقرأ الباقون بالكسر، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر. {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} نصب الكوكب على التمييز، {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} ولم يقل : رأيتها لي ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل؛ لأن السجود فعل ما يعقل فعبّر عنها بكنايتها كقوله {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} الآية. روى السدّي عن عبد الرحمن بن (ساريا)، عن جابر، قال : سأل النبيَّ (صلى اللّه عليه وسلم) رجلٌ من اليهود يقال له بستان، فقال : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها، فسكت؟ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (هل أنت مؤمن إن أخبرتُ بأسمائها؟) قال : نعم، فقال : (حرثان والطارق والذيال وذو النقاب وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له) فقال اليهودي : إي واللّه إنها لأسماؤها. قال ابن عباس : الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال قتادة : الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت، قال وهب : وكان يوسف رأى وهوابن سبع سنين، أن احدى عشرة عصاً طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه، فقال له : إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدن له فقصّها على أبيه فقال له : ٥{تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} فيبغوا لك الغوايل ويحتالوا في إهلاكك، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك، فقال بعضهم : معناه فيكيدوك واللام صلة، كقوله {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} وقال آخرون : هو مثل قولهم : نصحتك ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك، وحمدتك وحمدت لك، وقصدتك وقصدت لك. ٦{وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} كقوله : (يصطفيك ويختارك) ليوسف {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ احَادِيثِ} تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤوّل أمره إلى ما رأى في منامه {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ} بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة : بأن نجّاه من الذبح وفداه بذبح عظيم. وقال الباقون : بإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه. {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ولهذا قيل : العرق نزّاع والأصل لا يخطئ، فلمّا بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، قال ابن زيد : كانوا أنبياء، وقالوا : ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه، فبغوه بالعداوة. ٧يقول اللّه تعالى : {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ} أي في خبره وخبر إخوته {وَإِخْوَتِهِ} وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وزيالون، وأمنجر، وأُمهم ليا بنت ايان وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريّتين له اسم احداهما زاد والأُخرى ملده، أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. {ءَايَاتُ} قرأ أهل مكة آية على الواحد، أي عظة وعبرة، وقيل : عجب، يقال : فلان آية في الحسن والعلم أي عجب، وقرأ الباقون : آيات على الجمع {لِّلسَّآئِلِينَ} وذلك أن اليهود سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا : من أين لك هذا يا محمد؟ قال : (علّمنيه ربي) وقيل : معناه للسائلين ولمن لم يسأل، كقوله : {سَوَآءً لِّلسَّآلِينَ} . ٨{إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ} اللام فيه جواب القسم تقديره : تاللّه ليوسف وأخوه بنيامين {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل : إلى الخمسة عشر، وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا. ٩{اقْتُلُوا يُوسُفَ} اختلفوا في تأويل هذا القول، فقال وهب : قاله شمعون، كعب : دان، مقاتل : روبيل {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي في أرض {يَخْلُ لَكُمْ} يخلص ويصفو لكم. {وَجْهُ أَبِيكُمْ} عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا {وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ} من بعد قتل يوسف {قَوْمًا صَالِحِينَ} تائبين، وقال مقاتل : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم. ١٠{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ} وهو روبيل، وقال السدي : هو يهودا، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم : {تَقْتُلُوا يُوسُفَ} فإن قتله عظيم. {وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ} أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره، قتادة : في أسفله، والغيابة : كل شيء غَيَّبَ شيئاً، وأصلها من الغيبوبة، وقرأ أهل المدينة : غيابات الجب، على الجمع، والباقون : غيابة، على الواحد، والجبّ : البئر غير المطويّة، قتادة : هو بئر بيت المقدس، وقال وهب : هو بأرض الأردن، كعب : بين مدين ومصر، مقاتل : على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. {يَلْتَقِطْهُ} بعض السيارة يأخذه، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن : تلتقطه بالتاء لأجل السيارة، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبراً عن جميعه، كقول الشاعر : أرى مرّ السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال ولم يقل أخذت وقال الآخر : إذا مات منهم سيد قام سيد فدانت له أهل القرى والكنائس {بَعْضُ السَّيَّارَةِ} بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ما أقول لكم. قيل للحسن : أيحسد المؤمن؟ قال : ما أنساك بني يعقوب؟ ولهذا قيل : الأب جلاب، والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال، فقالوا ليعقوب ١١{قالوا يا أبانا مالك لا تأمنّا} قرأ أبو جعفر بالنون، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأن أصله تأمننا بنونين فأُدغمت أحدهما في الأخرى. {لَهُ لَنَاصِحُونَ} نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك، مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم ١٢-١٣{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قال أبوهم : {إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فحينئذ قالوا {مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غداً} إلى الصحراء {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} . وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال، هارون : فقلت لأبي عمرو : كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء؟ قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو، يقال : رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته. قال القطامي : أكفراً بعد ردّ الموت عنّي وبعد عطائك المائة الرتاعا وقال ابن زيد : معناه يرعى غنمه، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل. وقرأ يعقوب بالنون {وَيَلْعَبْ} بالياء ردّاً للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته، وقرأ أهل الحجاز نرتع بكسر العين من الارتعاء، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضاً {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . {قَالَ} لهم يعقوب {إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ} أي ذهابكم {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} لا تشعرون، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شدّ على يوسف وكان يحذره، ومن ثم قال هذا فلقّنهم العلة وكانوا لا يدرون ١٤فقالوا : {لَ نْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عشرة رجال {إِنَّآ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} ضعفة عجزة مغبونون. ١٥{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلمّا ذهبوا به {وَأَجْمَعُوا} وعزموا على {أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه} هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا، كقوله تعالى {فلما أسلما وتلّه للجبين وناديناه} أي ناديناه وقال امرؤ القيس : فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل أراد انتحى. {لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ يَشْعُرُونَ} يعني أوحينا إلى يوسف، (سوف تتحقق) رؤياك، ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك، وهم لا يشعرون بوحي اللّه إليه وإعلامه إياه ذلك، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل : معناه وهم لا يشعرون أنك يوسف. قال ابن عباس : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنَّ وقال : أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وبعتموه بثمن بخس، فذلك قوله {لتُنبنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون}. قال السدّي : أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة، فلمّا برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يجد منهم رحمة، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه يا يعقوب، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء. فلمّا كادوا ليقتلوه قال يهودا : أليس سألنا أبانا موثقاً ألاّ تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه، ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب، فقالوا : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال : إنّي لم أرَ شيئاً. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها، فلمّا ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال : قد أعطيتموني موثقاً ألاّ تقتلوه، وكان يهودا يأتيه بالطعام. ويقال : إن اللّه تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل (صلى اللّه عليه وسلم) حين أُلقي في النار جرّد من ثيابه وقذف في النار عرياناً فأتاه جبريل (عليه السلام) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك (القميص) عند إبراهيم، فلمّا مات ورثه إسحاق، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب، فلمّا شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنقه، فكان لا يفارقه، فلمّا أُلقي في البئر عرياناً جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه، قال ابن عباس : ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف. ١٦{وجاؤا أباهم عشاءً يبكون} ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا، وقد قيل : لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه، وقيل : أخّروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلّسوا على أبيهم قال السدّي : فلمّا سمع أصواتهم فزع وقال : ما لكم يا بنىّ؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا، قال : فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ ١٧{قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق} أي نترامى، دليله قول عبد اللّه : ننتضل، السدّي وابن حيان : نشتد {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ} مصدّق {لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} لسوء ظنّك بنا وتهمتك لنا، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك ١٨قوله {وجاؤا على قميصه بدم كذب} أي بدم كذب، وقيل : بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة، وهذا كما يقال : الليلة الهلال، وقيل : معناه بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال : ماله عقل ولا معقول. وقرأت عائشة : بدم كدب بالدال غير المعجمة، أي طري، فبكى يعقوب عند ذلك، وقال لبنيه : أروني قميصه فأروه، فقال : ياللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه، فحينئذ {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} رتبت {لكم أمراً فصبر} أي فمنّي أو فعليَّ صبر، وقيل : فصبري صبرٌ {جَمِيلٌ} وقرأ الأشهب والعقيلي : فصبراً على المصدر أي فلأصبرنّ صبراً جميلا، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه. وقيل : معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت. وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له : ما هذا؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى اللّه إليه : يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. {وَاللّه الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} من الكذب، قالوا : وكان يوسف حين أُلقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة، وقيل : سبع عشرة سنة، وقيل : كان ابن عشر، ومكث فيه ثلاثة أيام. ١٩{وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ} أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان الجب في قفرة بعيداً من العمران، إنما هو للرعاة والمجتازة، وكان ماؤه مالحاً فعذب حين أُلقي فيه يوسف، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الوارد : الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيُهيّئ الأرشية والدلاء، فوصل إلى البئر {فَأَدْلَى} فيها {دَلْوَهُ} أي أرسلها يقال : أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها، ودلَوتها دلواً إذا أخرجتها منها، فتعلّق يوسف (عليه السلام) بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أُعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس)، قال كعب الأحبار : كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه اللّه وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة وكانت قد أُعطيت سدس الحسن. فلمّا رآه مالك بن ذعر {قال يا بشرى هذا غلام} واختلفت القراء في قوله : يا بشري، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء، وقالوا : نادى مالك في رجلا من أصحابه، اسمه بشري، فقال : يا بشر، كما يقول : يا زيد، وهذا في محل رفع على النداء المفرد، وهذا قول السدّي. وقرأ الباقون : يا بشرايَ بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا : بشّر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبداً. {وَأَسَرُّوهُ} واخفوه {بِضَاعَةً} نصب على الحال، قال مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم : هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إنْ علموا بثمنه، عطية عن ابن عباس : يعني بذلك إخوة يوسف، أسرّوا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا : هو عبد لنا أبق منّا. قال اللّه تعالى {واللّه عليم بما تعملون} فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه، فإذا هم مالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا : هذا عبد أبق منّا، وقال وهب : كان يهودا (مستنداً) من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف، فلمّا أخرجوه رآه فأخبر الآخرين، فأتوا مالكاً وقالوا : هذا عبدنا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك : أنا اشتريه منكم، ٢٠فباعوه منه فذلك قوله تعالى {وَشَرَوْهُ} أي باعوه، قال ابن مفرغ الحميري : وشريتُ بُرداً ليتني من بعد بُرد كنتُ هامه أي بعت برداً وهو غلامه. {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم، قال قتادة : ظلم، الضحاك ومقاتل والسدي : حرام، لأن ثمن الحر حرام، عكرمة والشعبي : قليل، ابن حيان : زيف {دَرَاهِمَ} بدل من الثمن {مَعْدُودَةٍ} وذكر العدد عبارة عن القلة، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة، ناقصة غير وافية، وقال قوم : إنما قال معدودة لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهماً، إنما كان يعدونها عدّاً، فإذا بلغ أوقية وزنوه، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية، والأوقية أربعون درهماً. واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن قتادة والسدّي : عشرون درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين، مجاهد : اثنان وعشرون درهماً، عكرمة : أربعون درهماً. {وَكَانُوا} يعني أخوة يوسف {فِيهِ} في يوسف {مِنَ الزاهِدِينَ} لم يعلموا كرامته على اللّه ولا منزلته عنده. ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا حتى قدموا به مصر، فاشتراه قطفير، قاله ابن عباس، وقيل : اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر. وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعد حيّ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافراً فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل. قال ابن عباس : لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين ديناراً وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال ابن منبه : قدمت السيّارة بيوسف مصر (فعرضوه) للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى ٢١{وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ} . فإن قيل : كيف أثبت الشرى في قوله وشروه واشتراه ولم ينعقد عليه؟ والجواب : إن الشراء هو المماثلة فلمّا ماثله بمال من عنده جاز أن يقال : اشتراه، على التوسع، كقوله تعالى : {إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} الآية، فلمّا مرّ قطفير وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راحيل بنت رعابيل، قاله محمد بن إسحاق بن يسار. قال الثعلبي : وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن منبه، قال : حدثنا أبو حامد المستملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال : اسم امرأة العزيز التي ضمّت يوسف زليخا بنت موسى . {أَكْرِمِى مَثْوَ اهُ} منزله ومقامه، قتادة وابن جريج : منزلته {عَسَى أَن يَنفَعَنَآ} فيكفينا إذا بلغ وفهم الأُمور وبعض ما نحن (نستقبله) من أُمورنا. {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنّاه، قال ابن إسحاق : كان قطفير لا يأتي النساء، وكانت امرأته راحيلحسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا. قال الثعلبي : أخبرنا أبو بكر الجوزقي، أخبرنا أبو العباس الدغولي، حدثنا علي بن الحسن الهلالي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد اللّه قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال : أكرمي مثواه، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها : يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. {وَكَذلِكَ} أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجُبّ بعد أن ألقي فيه، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر {مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض} يعني أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، قال أهل الكتاب : لما تمّت ليوسف (عليه السلام) ثلاثون سنة، استوزره فرعون. {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ احَادِيثِ} أي ولكي نعلّمه من عبارة الرؤيا، مكنّا له في الأرض {وَاللّه غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} اختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم : هي راجعة إلى اللّه عزّ وجلّ، وتقدير الكلام : لا يغلب اللّه شيء، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء، ويعلم ما يريد، وقال آخرون : راجعة إلى يوسف، ومعنى الآية : واللّه مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبّر أمره، ولا يكله إلى غيره. {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ} ما اللّه صانع بيوسف، و (ما) إليه يوسف من أمره صائر، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا. قالت الحكماء في هذه : واللّه غالب على أمره حيث أمر يعقوب يوسف (عليهما السلام) أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر اللّه حين قصّ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكوراً مشهوراً. ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره حتى صار ملكاً والعبيد بين يديه، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوماً صالحين تائبين، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة، وقالوا : وإن كنا خاطئين، وقالوا لأبيهم : إنا كنا خاطئين. ثم أرادوا أن يغرّوا باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال : {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم تدبّر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره، ولبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز أن (تترك) المراودة عن نفسها حتى قالت {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} الآية، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها. ٢٢{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي منتهى شبابه وشدّة قوته، قال مجاهد : ثلاثاً وثلاثين سنة، الضحاك : عشرين سنة، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل : إلى أربعين، وقيل : إلى ستين، والأشُدّ : جمع شد، مثل قدّ، أقُدّ، وشرّ وأشُرّ، وضر وأضرّ، قال حميد : وقد أتى لو تعبت العواذل بعد الاشل أربع كوامل قال الشاعر : هل غير أن كثر الأشل وأهلكت حرب الملوك أكاثر الأموال {حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ} قال مجاهد : العقل والفهم والعلم قبل النبوة، وقال أهل المعاني : يعني إصابة في القول، وعلماً بتأويل الرؤيا وموارد الأُمور ومصادرها. {وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس : المؤمنين، وعنه أيضاً : المهتدين، وقال (الصدوق) عن الضحاك : يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، وقال محمد بن كعب : هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المراد به محمد نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : كما فعلت بيوسف بعدما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكّنته في الأرض، ووطّأت له في البلاد، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأُمكّن لك في الأرض، وأزيدك الحكم والعلم؛ لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي. ٢٣{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا} يعني امرأة العزيز، وطلبت منه أن يواقعها {وَغَلَّقَتِ ابْوَابَ} وكانت سبعة. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ، اختلف القراء فيه، فقرأ ابن عباس والسلمي وأبو وائل وقتادة : هِئتُ لك بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، بمعنى تهيأتُ لك، وأنكرها أبو عمرو، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : سمعت أبا عمرو وسئل عن قراءة من قرأ : هِئتُ لك بكسر الهاء وهمز الياء فقال أبو عمرو : باطل، جعلها من تهيأت، اذهب واستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحداً يقول هذا؟ وقال الكسائي أيضاً : لم يُحكَ هئت عن العرب، وقال عكرمة : هِئتُ لك : أي زيّنت لك وحسنت وهي قراءة غير مرضية، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وعبداللّه بن أبي إسحاق : هيت لك بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ يحيى بن وثاب : هِيتُ بكسر الهاء وضم التاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وضم التاء، وأنشد طرفة : ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هَيتَ هم يجيبون إذا هم سراعا كالأبابيل لا يغادر بيت وقرأ أهل المدينة والشام بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء، وهي لغة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) واللغة المعروفة عند العرب، الشعبي عن عبد اللّه بن مسعود : أقرأني النبي (صلى اللّه عليه وسلم) هَيتَ لك. وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ هيت لك، فقيل له : هيت لك، فقال ابن مسعود : إنما نقرأها كما تعلّمناها وسمعناها جميعاً هلُمَّ وأقبل وادنُ، قال الشاعر (يخاطب) أمير المؤمنين علي (ح) : أَبلغْ أمير المؤمنين اهل العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله سلم (إليك) فهيت هيتا قال السّدّي : هي بالقبطيّة هلمّ لك، وقال الحسين : هيت لك كلمة بالسريانية أي عليك، قال أبو عُبيد : كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعالَ، قال أبو عبيد : سألتُ شيخاً عالماً من حوران فذكرَ أنها لغُتهم، وكذا قال عكرمة، وقال مجاهد وغيره : هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حَثّ وإقبال على الشيء، وأصلهما من ( الدعوة) والصياح تقول العرب : هيّتَ فُلان بفلان إذا دعاهُ وصاحَ به، قال الشاعر : قَدْ رابني أنّ الكريّ أسكتا لو كان مَعْنيّاً بها لهَيَّتا أي صاح به، والكريّ المكاريّ. وقال أُستاذنا أبو االقاسم بن حبيب : رأيتُ في بعض التفاسير هيتَ لك يقول : هل لك رغبة في حُسني وجمالي، وذكر أبو عبيدة أن العرب لاتُثنّي هَيتَ ولا تجمع ولا تؤنّث، وإنّها بصورة واحدة في كلّ حال وإنّما تتميّز بما بَعدها وبما قبلها. قال يوسف (عليه السلام) عندَ ذلك : {مَعَاذَ اللّه} أعتصمُ وأستجيرُ باللّه ممّا دعوتِني إليه وهو مصدر تقديره : عياذاً باللّه. {إِنَّهُ رَبِّى} يعني إنّ زَوجكِ قطفير سيديّ، {أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} أي منزلتي، وعلى هذا أكثر المفسّرين، قال بعضهم : إنّها مردودة الى اللّه {أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} أي آواني ومن بلاء الحب عافاني. { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يعني إن فعلتُ، وأْتَمنني هذا فخنتُه في أهلهِ بعدما أكرمني وأْتمَنني وأحسنَ مثواي فأنا ظالم ولا يُفلح الظالمون، وقيل الزناة. ٢٤{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} يعني الهَمُّ بالشيء : حَديث المرء نفسَهُ به، ولمّا يفعل ذلك. يقول الشاعر : هممتُ وَلمْ أفعلْ وكِدتُ وليتني تركتُ على عثمان تبكي حَلائلهُ فأما ما كان من همّ يوسف (عليه السلام) بالمرأة وهمتها بهِ، فإنّ أهل العلم (اختلفوا) في ذلك، فروى سفيان بن عُيينة عن عُبيد اللّه بن أبي يزيد قال : سَمِعتُ ابن عباس سُئِلَ : ما بلغَ من همّ يوسف قال : حَلَّ الهميان وجلس منها مجلس المُجامع. وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية، قال : سألتُ ابن عباس (ح) : ما بلغَ من همّ يوسف، قال : استلقتْ له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابَهُ. سعيد بن جُبير : أطلق تكة سراويله، مُجاهد : حَلَ السراويل حَتّى بلغَ الثفن، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. الضحاك : جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتّى جمع بينهما. قال السَديّ وابن اسحاق : لمّا أرادت امرأة العزيز مُراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر لهُ محاسن نفسه وتُشوّقه إلى نفسها فقالت له : يا يوسف ما أحسن شعرك قال : هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت : يا يوسف ما أحسنَ عينك قال : هي أوّل ما تسيلُ إلى الأرض من جسدي، قالت : ما أحسن وجهك قال : هو للتُراب يأكله، فلم تزل تُطيعه مرّة وتخيفه أُخرى وتدعوه إلى اللذّة، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل، وهي حسناء جميلة حتى لانَ لها ممّا يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهمَّ بها، فهذه أقاويل المفسّرين من السلف الصالحين. وقالت جماعة من المتأخرين : لا يليق هذا بالأنبياء ( : ) فأوّلوا الآية بضروب من التأويل، وقال بعضهم : وهمَّ بالفرار منها، وهذا لا يصحّ لأنّ الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر، وقيل : هَمَّ بضربها ودفعها، وقيل : هَمَّ بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها، وقيل : وهَمَّ بها هو كناية عن غير مذكور، وقيل : تَمَّ الكلام عند قوله : ولقد همّت به ثمّ ابتدأ الخبر عن يوسف وقال : وهمَّ بها. {لَوْ أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ} : على التقديم والتأخير تقديرها : لولا أن رأى برهان ربّه لهمَّ بها ولكنّه رأى البرهان فلم يهمّ كقوله : {وَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ تَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} وهذا فاسدٌ عند أهلِ اللغة لأنّ العرب لا تُقدّم جواب (لولا) قبلها، لا يقول : لقد قمت لولا زيد، وهو يُريد، لولا زيد لقمتُ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال : همّت بيوسف أن يفترشها وهمّ بها يوسف يعني تمنّاها أن تكون له زوجة. وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قوّية ولا مُرضية لمخالفتها أقوال القُدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل. وكما روي في الخبر الصحيح أنّ يوسف لما دخل على الملك وأقرّت المرأة، وقال يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قال له جبرئيل عليه السلام : ولا حين هَمَمت بها يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إنّ النفسَ لأَمَّارةٌ بالسُّوءِ إلاّ ما رَحِمَ رَبِّي} . وأما أهل الحقائق فإنّهم قالوا في وجه هذه الآية : إنّ الهمّ همّان : همٌّ مُقيمٌ ( ثابت) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز فالعهد مأخوذ. وهمٌّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل همّ يوسف (عليه السلام)، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلّم به أو يفعله، يدلّ عليه ما روي عن ابن (المبارك) قال : قلتُ لسفيان : أيؤخذ العهد بالهمّة؟ قال : إذا كان عزماً أُخذ بها. وروي عن أبي هُريرة أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : يقول اللّه عزّ وجل : (إذا همّ عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هَمَّ عبدي بالسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإنْ عملها كتبتها عليه سيّئة واحدة، فإنْ تركها من أجلي كتبتها له حسنة). والقول بإثبات مثل هذه : الزلاّت والصغائر على الأنبياء (عليهم السلام) غير محظور لضرب من الحكمة : أحدها : ليكونوا من اللّه تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدّون في طاعته إشفاقاً منها ولا يتّكلون على سعة رحمة اللّه. والثاني : ليُعرّفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم. والثالث : ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة اللّه وترك اليأس من عفوه وفضله. وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما من أحد إلاّ يلقى اللّه عزّ وجل قد هَمّ بخطيئة أو عملها إلاّ يحيى بن زكريا فإنّه لم يهم ولم يعملها). وعن مصعب بن عبداللّه قال : حدّثني مصعب بن عثمان قال : كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً، فدخلت عليه امرأة تستفتيه : (فتأمنته) بنفسه فامتنع عليها وذكّرها، فقالت له : إن لم تفعل لأشهّرنَّ بك ولأصيحنَّ بك، قال : فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف النبي (عليه السلام)، فقال له : أنت يوسف؟ قال : أنا يوسف النبي هممتُ وأنت سُليمان الذي لم تَهمّ. وأمّا البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام) فإنّ العلماء اختلفوا فيه، فأخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصمّ عن الحسن بن علي، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس {لَوْ أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ} قال : مثل له يعقوب فضرب يده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله. وقال الحسن وسعيد بن جُبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحّاك : انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضاً على إصبعه. وقال ابن جبير : فكل ولد يعقوب ولِدَ له اثنا عشر ولداً إلاّ يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياهُ. قُتادة : رأى صورة يعقوب فقال : يا يوسف تعمل عمل السُّفهاء وأنت مكتوبٌ من الأنبياء؟ ابن أبي مليكه : عن ابن عباس قال : نودي : يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له؟ السدّي : نودي يا يوسف تواقعها؟ إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يُطلق، ومثلُكَ إنْ واقعتها مثل (الطير) إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه، ومثلك إنْ واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه. أبو مردود عن محمّد بن كعب القرضي : قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ فرأى كتاباً في حائط البيت {لاَ تَقْرَبُوا الزِّنا إِنَّهُ كَانَ فاحِشَةً وَسَاءً سَبِيْلا} . أبو معشر عنه : لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه، وزاد القرضي : بالقرآن وصحف إبراهيم (عليه السلام). ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} قال : حَلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مُدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها : {إِنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِيْن كِراماً كاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ ما تَفْعَلون} . قال : فقام هارباً وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّتْ فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ يُظْلَمُونَ} ، فقام هارباً وقامت فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته، قال اللّه تعالى لجبريل (عليه السلام) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يُصيب الخطيئة، فرأى جبريل عاضّاً على أصبعه أو كفّه وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند اللّه في الأنبياء؟ فذلك قوله تعالى : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ} . قتادة عن عطية عن وهب بن مُنبه، إنّه قال : لمّا همّ يوسف وامرأة العزيز بما همّا خرجت كفّ بلا جسد بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية {أَفَمَنْ هُوَ قَآمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ} ثُمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، ثُمّ رجعت الكفّ بينهما مكتوبٌ عليها بالعبرانية {إِنّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِيْن كِراماً كاتِبِيْنَ يَعْلَمُوْنَ ما تَفْعَلون} ، ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ بالعبرانية مكتوب عليها : {ولاَ تَقْرَبُوا الزِّنا إنّهُ كَانَ فاحِشَةً وَسَاءً سَبِيْلا} فانصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ رابعة مكتوبٌ عليها بالعبرانية : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّه} فولّى يوسف هارباً. وروى عطية عن ابن عباس، أنّ البرهان الذي رآه يوسف أنّه أُرِيَ تمثال الملك، وروى عمر بن اسحاق عن بعض أهل العلم أنّه قطفير سيّده حين دنا من الباب في ذلك الحين، إنّه لما هرب منها واتّبعته ألفاه لدى الباب. روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق ج قال : حدّثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين، في قوله تعالى : {لَوْ أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ} قال : قامت امرأة العزيز إلى الصنم فاظلت دونه بثوب فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال يوسف : أتستحيين ممَّن لا يسمع ولا يُبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممّن خلق الأشياء وعلّمها؟ وقال جعفر بن محمد : البرهان النبوّة التي : أودع اللّه صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط اللّه. وقيل : هو ما آتاه اللّه من العلم والحكمة، وقال أهل الإشارة : إنّ المؤمن له بُرهان من ربّه في سرّه من معرفته فرأى ذلك البُرهان وهو زاجره. فالبرهان الآية والحجّة، وجواب (لولا) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربّه لزنا، وحقّق الهمّة الغريزية بهمّة الكسب، لقوله تعالى : {وَلَوْ فَضْلُ اللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {وَأَنَّ اللّه تَوَّابٌ حَكِيمٌ} {وأَنّ اللّه رَؤُوفٌ رَحِيْم} مجازه لهلكتم، وقال امرؤ القيس : فلو أنّها نفس تموت سوية ولكنّها نفسٌ تساقط أنفسنا أراد (بسقطت) فنيت ولهان عليَّ، ونحوها. قال اللّه تعالى : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} الإثم {وَالْفَحْشَآءَ} الزنا. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} قرأ أهل مكّة والبصرة بكسر اللام أي المُخلِصين التوحيد والعبادة للّه، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوّة، دليلها قوله {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ} . وروى الزهري عن حمزة بن عبيداللّه بن عمران بن عمر قال : قال : لمّا اشتكى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الألم الذي توفّي فيه، قال (صلى اللّه عليه وسلم) (يصلّي بالناس أبو بكر)، قالت عائشة : يا رسول اللّه إنّ أبا بكر رجل رقيق، وإنّه لا يملك نفسه حين يقرأ القُرآن، فَمُره عمر يصلّي بالناس، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يصلّي بالناس أبو بكر) فراجعته، فقال (ليصلِّ بالناس أبو بكر فإنّكن صويحبات يوسف)، قالت عائشة : واللّه ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أوّل رجل قام مقام رسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) ). وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبداللّه بن محمد بن شيبة قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال : حدّثنا بعض أصحابنا قال : قال جعفر بن سليمان : سمعتُ امرأة في بعض الطرق وهي تتكلّم ببعض الرفث فقلت لها (....) إنّكن صويحبات يوسف، فقالت له المرأة : واعجباً نحنُ دعوناه إلى اللذّة، وأنتم أردتم قتله، فمن أصحابه نحن أو أنتم، وقتل النفس أعظم ممّا أردناه؟ ٢٥{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} وذلك أنّ يوسف لمّا رأى البُرهان قامَ مُبادراً إلى باب البيت، هارباً ممّا أرادته منه، واتبعته المرأة فذلك قوله تعالى. {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} : يعني بادر يوسف وراحيل إلى الباب، أمّا يوسف ففراراً من ركوب الفاحشة، وأمّا المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها أيّ راودته عليها، فأدركته فتعلّقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها مانعة له من الخروج. {وَقَدَّتْ} أي خرّقتْ وشقّت {قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} : من خلف لا من قُدّام، لأنّ يوسف كان الهارب والمرأة الطالبة، فلمّا خرجا {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ} ، أي وجدا زوجها قطفير عند الباب جالساً مع ابن عمّ لراحيل، فلمّا رأته هابته فقالت : سابقة بالقول لزوجها : {قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} يعني الزنا، {إِلا أَن يُسْجَنَ} يُحبس، {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني الضرب بالسياط، قاله ابن عباس : ٢٦-٢٧{قَالَ} يُوْسِف : بل {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} ، اختلفوا في هذا الشاهد، قال سعيد بن جُبير وهلال بن يسار والضحّاك : كان صبيّاً في المهد أنطقه اللّه بقدرته. وحدّثنا العوفي عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، ويدلّ عليه ما روى عطاء ابن السائب عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : تكلّم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب بن جُريج، وعيسى ابن مريم (عليه السلام). وقيل : كان ذلك الصبيّ ابن خال المرأة، وقال الحسن : غلامه، قتادة والضحّاك ومجاهد برواية (...) : ما كان بصبي ولكنه كان رجلا حكيماً ذا لحية، له رأي ومقال وآية، وهو رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس، قال : وكان من خاصّة الملك. وقال السدي : هو ابن عمّ راحيل، وكان جالساً مع زوجها على الباب فحُكِّم وأخبر اللّه تعالى عنه : {إِن كَانَ قَمِيصُهُ} الآية. قال عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : إنّ الشاهد قميصه المقدود من دُبر، ومعنى شَهِد شاهد حَكم حاكم من أهلها، قال مجاهد : قال الشاهد : تبيان هذا الأمر في القميص. {إن كان قَمِيْصُهُ قُدَّ مِنْ دُبر فكذبت وهو من الصادقين وإنْ كان قميصه قُدَّ من قُبُل} أي قدام {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وخفّف ابن أبي إسحاق القُبل والدُبر وثقّلهما الآخرون وهما لغتان. ٢٨فجيء بالقميص فإذا هو قُدّ من دُبر، فلمّا رأى قطفير قميصه قُدّ من دُبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف {فَقَالَ} لها {إِنَّهُ} أي إنّ هذا الصنيع {مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، وقيل : إنّ هذا من قول الشاهد. ٢٩ثمّ أقبل قطفير على يوسف فقال : {يُوسُفَ} يعني يا يوسف، لفظ مفرد {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الحديث فلا تذكره لأحد، وقيل : معناه لا تكترث له فقد كان عفوك لبراءتك، ثمّ قال لامرأته : {وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ} وقيل : هو من الشاهد ليوسف والراحيل، وأراد بقوله : واستغفري لذنبك، يقول : سلي زوجك ألاّ يعاقبكَ على ذنبك ويصفح عنك، وهذا معنى قول ابن عباس. {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِينَ} من المذنبين حين راودت شابّاً عن نفسه وخُنتِ زوجك، فلمّا استعصم كذبت عليه، يقال خطأ يخطأ خطأً، وخِطأً، وخطاً وخِطاءً، إذا أذنب والاسم منه الخطيئة، قال اللّه تعالى : {إنَّهُ كَانَ خِطْأً كَبِيْراً} وقال أُميّة : عبادك يخطأون وأنتَ ربٌّ بكفّيك المنايا والحتومُ أيّ يُذنبون؛ فإذا أرادوا التعمّد قيل : خَطأ خطأْ هنا لأنّ الفعل بالألف قال اللّه تعالى : {ومَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاّ خَطَاً} ، وإنّما قال {مِنَ الْخَاطِينَ} ولم يقل : الخاطئات لأنّه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء، وإنّما قصد به الخبر عمّن يفعل ذلك، وتقديره : من القوم الخاطئين. ومثله قوله : {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ، بيانه قوله : إنّها كانت من قوم كافرين. ٣٠{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ} يقول : شاع أمر يوسف والمرأة في مدينة مصر وتحدّثت النساء بذلك، وقلن يعني امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب، قاله مقاتل {قَالَ مَا} وهو في كلام العرب الملك، قال أبو داود : درّةٌ غاصَ عليها تاجِرٌ جُليت عند عزيز يومَ طلّ أيّ ملك. {تُرَاوِدُ فَتَ اهَا} عدّها الكنعاني عن نفسه. {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} أي أحبّها حتى دخل حبّه شغاف قلبها، وهو حجابه وغلافه. قال السدّي : الشغاف جلدة رقيقة على القلب يُقال لها : لسان القلب، تقول : دخل الحُبّ الجلد حتى أصاب القلب، قال النابغة الذبياني : وقَدْ حال هَمّ دون ذلك داخلٌ دخولَ الشِّغافِ تبتغيه الأصابعُ وقال ابن عباس : علقها حُبّاً، الحسن : بطنها حُباً، قتادة : استبطنها حبّها إيّاه، أبو رجاء : صدقها حُبّاً، الكلبي : حجب حبّه قلبها حتى لا يعقل سواه. وقرأ أبو رجاء العطاردي والشعبي والأعرج، شعفها بالعين غير معجمة واختلفوا في معناها فقال الفرّاء : ذهب بها كلّ مذهب، وأصله من شعف الجبال وهي رؤوسها، والنخعي والضحّاك : فتنها، وذهب بها، وأصله من شعف الدابة حين تتمرّغ بذُعر، قال امرؤ القيس : أتقتلني وقد شعفتُ فؤادها كما شعف المهنوءة الرجل الطالي ومراده : ذهب قلب امرأته كما ذهب الطالي بالإبل بالقطران يتلو بها، والإبل تخاف من ذلك ثمّ تستروح إليه، وقال الأخفش : من حبُّها، وقال محمد بن جرير : عمّها الحُب. {إِنَّا لَنَرَ اهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} : خطاً بيّن، ٣١{فَلَمَّا سَمِعَتْ} راحيل، {بِمَكْرِهِنَّ} بقولهنّ وحديثهنّ، قال قتادة والسدّي وقال ابن إسحاق : وإنّما قلنّ ذلك مكراً بها ليَرينَ يهمّن يوسف وكان قد وصِف لهُنّ حُسنه وجماله {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} قال وهب : اتخذّت مأدبة ودعت أربعين امرأة فيهنّ هؤلاء اللائي عيّرنها، {وَأَعْتَدَتْ} وأعدّت وهو أفعلت العَتاد وهو العِدَّة، قال اللّه تعالى : {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} . {لَهُنّ مُتّكأ} مجلساً للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، يُقال : ألقى له مُتّكأً أيّ ما يُتّكأ عليه، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة. وقال سعيد بن جُبير والحسن وقتادة وأبي إسحاق وابن زيد : طعاماً، قال القتبيّ : والأصل فيه أنّ من دعوته إلى مطعم عندك أعددت له وسادة أو متّكأ، فسُمّي الطعام مُتّكأ على الاستعارة، يُقال : اتّكأنا عند فلان أي أكلنا، قال عدي بن زيد : فظللنا بنعمة واتّكأنا وشَربنا الحلال من قُللّه وروي عن الحسن أنّه قال : متّكاء بالتشديد والمدّ وهي غير فصيحة، وعن الحسن : فما أظنّ بصحيحة، وقرأ مجاهد مُتّكأ خفيفة غير مهموزة، وروي ذلك عن ابن عباس. واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس : هو الأترج، عكرمة : هو الطعام، وأبو روق عن الضحّاك : الزماوَرد، علي بن الحكم وعبيد بن حكيم، عنه : كلّ شيء يُحزّ بالسكّين فهو عند العرب المتّكأ، والمتك والبتك : القطع والعرب تُعاقب بين الباء والميم تقول سمد رأسه وسبده، وأغبطت عليه وأغمطته (لازب) ولازم قال اللّه تعالى : {فَلَيُبَتِّكُنَّ ءاذان الأنعام} . {وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ} ليوسف {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} وذلك أنّها قد كانت أجلسته في مجلس غير المجلس الذي هُنّ فيه جلوس، فخرج عليهنّ يوسف (عليه السلام)، قال عِكْرمة : وكان فضل يوسف على الناس في الحسن والجمال كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مررتُ ليلة أُسري بي إلى السماء فرأيتُ يوسف، فقلت : يا جبرئيل من هذا؟ قال : هذا يوسف) قالوا : وكيف رأيته يا رسول اللّه، قال : (كالقمر ليلة البدر). وعن عبداللّه بن مسعود عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (هبط جبرئيل فقال : يا محمد إنّ اللّه تعالى يقول : كسوتُ حُسنَ يوسف من نور الكُرسي، وكسوتُ نورُ حُسن وجهك من نور عرشي). وروى الوليد بن مسلم عن إسحاق عن عبداللّه بن أبي فروة قال : كان يوسف إذا سارَ في أزقّة مصر يُرى تلألؤ وجهه على الجُدران كما يُرى نور الشمس والماء على الجدران. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه وأجللنه، قال أبو العالية : هالَهنّ أمره وبُهتن، وروى عبدالصمد بن علي عن عبداللّه بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله تعالى : {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} قال حضن من الفرح، ثم قال : نأتي النساء على أطهارهنّ ولا نأتي النساء إذا أكبرنَ إكباراً وعلى هذا التأويل يكون أكبرنه بمعنى أكبرن له أي حِضن لأجله من جماله، ووجدن ما تجد النساء في مثل تلك الحال وهذا كقول عنترة : ولقد أبيتُ على الطوى وأظلّه حتى أنال به كريم المطعم أي وأظلّ عليه. قال الأصمعي : أُنشد بين يدي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هذا البيت، فقال : ما من شاعر جاهلي أحببت أن أراه دون (.............) البيت {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، يعني وحَزَزْنَ أيديهنّ بالسكاكين التي معهنّ وكُنّ يحسبن أنّهنّ يقطّعن الأترج، عن قتادة : قطّعن أيديهنّ حتى ألقينها، وقال مجاهد : فما أَحسسنَ إلاّ بالدم ومنهنّ لم يجدن من ألم إلاّ يُرى الدم لشغل قلوبهنّ بيوسف، قال وهب : وبلغني أنّ تسعاً من الأربعين مِتنَ في ذلك المجلس وُجْداً بيوسف. {وَقُلْنَ حَاشَ للّه} أي معاذ اللّه، قال أبو عبيدة : لهذه الكلمة معنيان : التنزيه والاستثناء، واختلف القُرّاء فيها فقرأت العامّة : حاشَ للّه، (...) حذفوا الألف لكثرة دورها على الألسن كما حذفت العرب الألف من قولهم : لأب لغيرك ولأب لشانئِكَ، وهم يعنون لا أبَ، واختار أبو عُبيدة هذه القراءة وقال : اتّباعاً للكتاب وهو الذي عليه الجمهور الأعظم، مع إنّي قرأتها في الإمام مصحف عثمان (عليه السلام) : حاشَ للّه والأخرى مثلها. وقرأ أبو عمرو : حاشي للّه بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن مسعود حاشى اللّه، كقول الشاعر : حاشا أبي ثوبان إن به ضَنّا عن الملحاة والشتم فآية المواريث هي لنّا حجة وقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هو المبيّن هذا قول ابن عبّاس وطاووس وقتادة والحسن ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد والربيع وابن زيد. قال الضحاك : من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاووس : من أوصى لقوم وسمّاهم، وترك ذوي قرابته محتاجين (أُنتزعت) منهم وردّت إلى ذوي قرابته. وقال آخرون : بل نُسخ ذلك كلّه بالميراث فهذه الآية منسوخة ولا يجب لأحد وصيّة على أحد قريب ولابعيد. فإن أوصى فحسن، وأن لم يوص فلا شيء عليه، وهذا قول عليّ وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسّدي. قال شُريح في هذه الآية. كان الرّجل يوصي بماله كلّه حتّى نزلت آية المواريث. وقال عروة بن الزّبير : دخل علي (رضي اللّه عنه) على مريض يعوده فقال : إنّي أُريد أن أوصي. فقال عليج : إنّ اللّه تعالى يقول {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإنّما يدع شيئاً يسير فدعه لعيالك إنّه أفضل. وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر : إنّه لم يوص فقال : أمّا مالي واللّه أعلم ماكنت أصنع به في الخلوة وأما رباعي لن يشرك ولدي فيها أحد. وروى ابن أبي مليكة : إنّ رجلاً قال لعائشة : إنّي أريد أن أوصي، قالت : كم مالُك؟ قال : ثلاثة الآف. قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة : قالت : إنّما قال : اللّه تعالى {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. وروى سفيان بن بشير بن دحلوق قال : قال عروة بن ثابت للربيع بن خيثم : اوصِ لي بمصحفك. قال : فنظر إلى أبيه فقال : {أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض} . وروى سفيان عن الحسين بن عبد اللّه عن إبراهيم قال : ذكر لنّا إنّ زبيراً وطلحة كانا يُشددان في الوصيّة. فقال : ما كان عليهما أن لايفعلا. مات النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) ولم يوصِّ وأوصى أبو بكر، أي ذلك فعلت فحسن. {فَمَن بَدَّلَهُ} أي فمن غيّر الوصيّة من الأوصياء والأولياء أو الشهود. واختار يوسف حين عاودته المرأة في المراودة وتوعّدته، السجن على المعصية، ٣٣{قَالَ رَبِّ} : يا ربّ، منادى مضاف، {السِّجْنِ} المحبس، قراءة العامّة بكسر السين على الاسم وقرأ يعقوب برفع السين على المصدرية يعني الحبس، {أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ} ، ثمّ علم أنّه لا يستعصم إلاّ بعصمة اللّه فقال : {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ} أمِلْ {إِلَيْهِنَّ} وأُبايعهن، فقال صبا فلان إلى كذا، وصبا يصبو، صبواً وصبوة، إذا مال واشتاق إليه، قال يزيد بن ضُبّة : إلى هند صبا قلبي وهندٌ مثلها يُصبي ٣٤{وأَكُنْ مِنَ الجاهِلِيْن فاسْتَجابَ لَهُ رَبّه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنّهُ هُوَ السَّمِيْع} لدعائه وشكايته، {الْعَلِيمُ} بمكرهنّ. ٣٥{ثُمَّ بَدَا لَهُم} أي العزيز وأصحابه، في الرأي {مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا ايَاتِ} الدّالة على براءة يوسف، وهي قدّ القميص من دُبر وخمش في الوجه وتقطيع النسوة أيديهنّ {لَيَسْجُنُنَّهُ} قال الفرّاء : هذه اللام في اليمين وفي كلّ مضارع القول كقوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَ اهُ} {وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} دخلتهما (اللام وما) لأنّهما في معنى القول واليمين. {حَتَّى حِينٍ} يعني إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم. قال عِكْرمة : تسع سنين، الكلبي : خمس سنين، و (حتى) بمعنى (إلى) كقوله تعالى : {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، وقال السدّي : وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم أنّي راودته عن نفسه، ولستُ أُطيق أن أعتذر بعُذري، فإمّا أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وأمّا أن تحبسوه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته، وذكر أنّ اللّه تعالى جعل ذلك الحبس تطهيراً ليوسف من همّته بالمرأة وتكفيراً لزلّته. قال ابن عباس : عثر يوسف ثلاث عثرات : حين همّ بها فسجن، وحين قال : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبّكَ فَلَبِثَ فِي السِجْنِ بِضْعَ سِنِيْن فَأَنْسَاهُ الشيطانُ ذِكْرَ رَبِّه}، وحين قال لهم : {إنّكُمْ لَسارِقُوْنَ فَقَالوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْل} . ٣٦{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان، أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلِث، واالآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما، وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين، وضمنوا لهما مالا ليسُمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثمّ إنّ الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطعام. فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام، قال الساقي : أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم، فقال الخباز : لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم، فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضرّه، وقال للخباز : كل من طعامك، فأبى، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما. وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله : إنّي أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيان لصاحبه : هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً، قال عبداللّه بن مسعود : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً، إنّما كانا تحالفا أن يُجرّبا علمه. روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أرى عينيه في المنام ما لم تَريا كُلِّف أن يعقد بين شعرتين يوم القيامة، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في أُذنه الانك). وقال قومٌ : كانا رأيا على صحّة وحقيقة، قال مجاهد : لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له : واللّه لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف : أنشدكما اللّه أن لا تحباني؛ فإنّه ما أحبّني أحد قط إلاّ دخل عليَّ من حبّه بلاء. لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليَّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء، فلا تحبّاني بارك اللّه فيكما، قال : فأبيا إلاّ حبّه وأُلفته حيث كان، وجعلا يُعجبهما ما يريان من فهمه وعقله، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي : أيّها العالم إنّي رأيتُ كأنّي غرستُ حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه. وقال الخبّاز : إنّي رأيتُ كأنّ فوق رأسي ثلاث سِلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه، فذلك قوله تعالى : {قَالَ أَحَدُهُمَآ} يعني بنو {إِنِّى أَرَ انِى} أي رأيتني، {أَعْصِرُ خَمْرًا} يعني عنباً بلغة عمان، ويدلّ عليه عليه قراءة ابن مسعود أعصرُ عنباً. قال الأصمعي : أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابياً معه عنب، فقال : ما معك؟ قال : خمر، ومنه يُقال للخلّ العنبي خلُّ خمرة، وهذا على قرب الجوار، قال القتيبي : وقد تكون هي الخمر بعينها كما يُقال : عصرتُ زيتاً وإنّما عصر زيتوناً. وقال الآخر : وهو مجلِث : {إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا. {إِنَّا نَرَ اكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي العالِمين الذين أحسنوا، قال الفرّاء وقال ابن اسحاق : إنّا نراك من المحُسنين إلينا إن فعلت ذلك وفسّرت رؤيانا، كما يُقال : افعل كذا وأنت مُحسن. وروى سلمة بن نبط عن الضحّاك بن مزاحم في قوله : {إِنَّا نَرَ اكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ما كان إحسانه؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه، وإذا ضاق وسع له، وإن احتاج جمع له، وسأل له. قتادة : بلغنا أنّ إحسانه كان يُداوي مريضهم، ويُعزّي حزينهم، ويجتهد لربّه. وقيل : لمّا انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوماً قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا، وإنّ لهذا لأجراً وثواباً، فقالوا له : يا فتى بارك اللّه فيك، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك لقد بورك لنا في جوارك بالحبس، إنّا كُنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف بن صفي اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه، فقال له عامل السجن : يا فتى واللّه لو استطعت لخلّيت سبيلك، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك فكنْ في أي بيوت السجن شئت. فكره يوسف (عليه السلام) أن يعبر لهما ما سألاه لِما عَلِمَ في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، ٣٧قال لهما : {يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في نومكما {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة. هذا قول أكثر المفسّرين، وقال بعضهم : أراد به في اليقظة فقال : {يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه وتأكلانه {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بتفسيرة قال : إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتُم وكم أكلتُم، فقالا له : هذا من فعل العَرّافين والكَهنة، فقال لهما (عليه السلام) : ما أنا بكاهن وإنّما {ذَالِكُمَا} العلم {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَهُم بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} كرّرهُم على التأكيد. وقيل : هم الأوّل جماد كقوله تعالى : {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ} فصارت الأولى المُلغاة والثانية ابتداء، وكافرون خبره. ٣٨{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِي} فتح ياءه قومٌ وسكّنها آخرون، (فما وفي) أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أُخت الفتحة وقرأها الأعمش آبَاي إبْرَاهِيْمَ دُعَاي إلاّ فِرَاراً مقصوراً غير مهموز وفتحَ ياءهما مثل (...). {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ} ما ينبغي {أَن نُّشْرِكَ بِاللّه مِن شَىْءٍ} من صلة، تقديره : أن نشرك باللّه شيئاً. { ذلك } التوحيد والعلم {مِن فَضْلِ اللّه عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَشْكُرُونَ} فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناماً يعبودنها فقال إلزاماً للحُجّة ٣٩{يَا صَاحِبَيِ السِجن} جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} ولسكّان النار : {أَصْحَابِ النَّارِ} . {مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ {خَيْرٌ أَمِ اللّه الْوَاحِدُ} الذي لا ثاني له {الْقَهَّارُ} قد قهر كلّ شيء، نظيرها، قوله : {اللّه خيرٌ أمَّا يُشرِكُوْن} ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال : ٤٠{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي ممّن دون اللّه، وإنّما قال ما تعبدون وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك، {إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} وذلك تسميتهم أوثانهم آلهةً وأرباباً من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة، {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ} حجّة وبرهان {إِنِ الْحُكْمُ} القضاء والأمر والنهي، {إِلا للّه أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} نظيره {وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، { ذلك } الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك، {الدِّينُ الْقَيِّمُ} المُستقيم، {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ} . ٤١ثمّ فسّر رؤياهما فقال : {يا صاحِبَيِ السِجْنِ أمّا أحدكما} وهو الساقي، {فَيَسْقِى رَبَّهُ} سيّده يعني الملك {خَمْرًا} وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يُخرجه الملك ويكون على ما كان عليه، {وَأَمَّا اخَرُ فَيُصْلَبُ} وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك (في) اليوم الرابع فيصلبه، فتأكل الطير من رأسه. قال ابن مسعود : لمّا سمعا قول يوسف قالا : ما رأينا شيئاً إنّما كنا نلعب، فقال يوسف (عليه السلام) : {قُضِىَ امْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم اللّه عليكما بالذي أخبرتكما به. معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي قال : سمعتُ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر فإذا عُبِّرت وقعت، وإنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة، فأحسبه قال : لا تقصّه إلاّ على ذي رأي). وأخبرنا عبداللّه بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الرؤيا لأول عابرة). ٤٢{وَقَالَ} يوسف عند ذلك، {لِلَّذِى ظَنَّ} علم، {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} وهو الساقي، هذا قول أكثر المفسّرين، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، وقال : إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق اللّه ما يشاء، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء، {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} سيّدك يعني الملك، وقيل له : إنّ في السجن غلاماً محبوساً ظُلماً {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه (غفل) وطال من أجلها حبسه. وقال محمد بن إسحاق : الهاء راجعة في قوله {أنساه الشيطان} إلى الساقي فنقول : أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية : فأنساه الشيطانُ ذكره لربه كقوله : خوف {يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ} أي يخوّفكم بأوليائه. {فَلَبِثَ} مكث، {فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} اختلف العُلماء في معنى بضع فقال أبو عُبيدة : هو ما بين الثلاثة إلى الخسمة، ومجاهد : ما بين الثلاث إلى التسع، الأصمعي : ما بين الثلاث إلى التسع، وابن عباس : ما دون العشرة، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلاّ مع العشرة والعشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال : كذلك رأيتُ العرب تعمل ولا يقولون : بضع ومائة ولا بضع وألف، وإذا كانت للذكران قيل : بضعة، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، قال وهب : أصاب أيوب (عليه السلام) البلاء سبع سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذّب بخت نصّر فحُوِّل في السباع سبع سنين. روى يونس عن الحسن قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (رحم اللّه يوسف، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث)، يعني قوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} قال : ثمّ بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس، وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربّك، قيل له : يا يوسف اتّخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف (عليه السلام) وقال : يا ربّ إننّي رابني كثرة الطوى فقلت كلمة، فويلٌ لأخوتي. وحُكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف (عليهما السلام)، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال : يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟، ثمّ قال له جبرئيل : يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول : مالَكَ؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين؟، فوعزّتي لألبثنّك في السجن بضع سنين، قال يوسف : وهو في ذلك عليّ راض؟ قال : نعم، قال إذاً لا أُبالي. وقال كعب : قال جبرئيل ليوسف : إنّ اللّه تعالى يقول : من خلقك؟ قال : اللّه، قال : فمن حبّبكَ إلى أبيك؟ قال : اللّه، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان؟ قال : اللّه، قال : فمن نجّاك من كُرب البئر؟ قال : اللّه، قال : فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال : اللّه، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ ٤٣فلمّا انقضت سبع سنين، قال الكلبي وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤياً عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى، {إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} خرجن من نهر يابس وَسَبْعُ بَقَرَات عِجَاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم يُرَ منهنّ شيئاً، وَأَرَى سَبْع سُنْبُلات خُضْر قد انعقد حبّها وسبعاً أُخَر يَابِسَات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال : {يا أَيُّها المَلأ} أي الأشراف {أَفْتُونِى فِى رُءْيَاىَ} فا عبروها، {إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} تفسّرون، والرؤيا : الحلم وجمعها رؤى. ٤٤{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أي أحلام مختلطة مُشتبهة، أهاويل بأباطيل، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش، قال اللّه تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} قال ابن مقبل : خُود كأنّ فراشها وضعت أضغاث ريحان غداه شمال وقال آخر : بحُمى ذمار حين قلّ مانعه طاو كضغث الخلا في البطن مُكتمنِ والأحلام جمع الحُلم وهو الرؤيا والفعل منه حُلمتُ وأحلمُ، بفتح العين في الماضي، وحلمتها في الغابرة لها وحُلماً فعاد فحذف يا من حالم. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلَامِ بِعَالِمِينَ} ، ٤٥{وَقَالَ الَّذِى نَجَا} من القتل، منهما : من الفتيين وهو الساقي، {وَادَّكَرَ} : أي وتذكر حاجة يوسف قوله : {اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ} ، {بَعْدَ أُمَّةٍ} : بعد حين، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك (بعد أَمَة) أي بعد نسيان ويُقال أَمَة، يأمَهُ، أمَهاً، إذا نسي، ورجل (ماهو) أي ذاهب العقل. وأنشد أبو عبيدة : أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثاً كذاك الدّهر يودي بالعقول وقرأ مجاهد : أمْه، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة، وهو مثل الأمه أيضاً وهما لغتان ومعناهما النسيان، {أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ} : أخبركم بتفسيره وما ترون {فَأَرْسِلُونِ} : فأطلقوني، وأذنوا لي أمضي وأتكم بتأويله وفي الآية أختصار تقديرها فأرسلون، فأتي السجن، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة ٤٦{فقال يوسف} يعني يا يوسف، {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} : فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سُمّي أبو بكر صدّيقاً، وفعيّل للمبالغة والكثرة مثل الفسيّق والضليل والشريب والخمير ونحوها. {أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} : الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا. {لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} أهل مصر، {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ، تأويلها، وقيل : لعلّهم يعلمون فضلك وعلمك، فقال لهم يوسف مُعلّماً ومعبّراً : أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة، ٤٧وذلك قوله تعالى : {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي كعادتكم، وقال : بعضهم أراد بجدَ واجتهاد وقرأ بعضهم دأباً بفتح الهمزة وهما لغتان، يقال دبت في الأمر أدأب دأباً ودأَبَاً إذا اجتهد، قال الفرّاء : وكذلك كلّ حرف فُتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عيناً أوحاء أو خاء أو هاء. {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ} في (بذره) {إِلا قَلِيلا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد، ٤٨{ثُمّ يأتِي بَعْدَ ذِلِكَ سَبْعٌ شِدَاد} يعني سبع سنين جدد بالقحط {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} يعني يُؤكل، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة، وهذا كقول القائل : نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة وليلك نومٌ والردى لك لازمُ والنهار لا يسهو والليل لا ينام، وإنّما يُسهى في النهار ويُنام في الليل. {إِلا قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي : تخزنون وخزنون وتدّخرون. ٤٩{ثمّ يأتِي بَعْدَ ذلِكَ عامٌ} وهذا خبر من يوسف (عليه السلام) عمّا لم يكن في رؤيا الملك، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه اللّه عزَّ وجلَّ، كما قال قتادة : زاده اللّه علم سنة لم يسألوه عنها، فقال : {ثُمّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ عَامٌ فِيْهِ يُغاثُ الناس} أي يمطرون بالغيث وهو المطر، وقيل : يُغاثون، من قول العرب استغثتُ بفلان وأغاثني، {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً تعصرون، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب، وقرأ الباقون بالياء ردّاً إلى الناس، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمراً، والزيتون زيتاً، والسمسم دُهناً، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تعصرون تحلبون، وقال أبو عبيدة : ينجون من الجدب والكرب، والعصر : المنجى والملجأ، وقال أبو زبيد الطائي : صادياً يستغيثُ غير مُغاث ولقد كان عصرة المنجود وأخبرني أبو عبداللّه بن فنجويه الدينوري، أبو علي بن حبش المقرئ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ، حدّثني أبو زرعة، حدّثني حفص بن عمر، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عُبيد قال : سمعتُ عيسى بن الأعرج يقرأها فيهِ يُغاثُ الناسُ وفيهِ يُعْصِرُون، برفع الياء قال : قلت : ما يُعصرون؟ قال : المطر أي تمطرون وقرأ {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجًا} . ٥٠{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ} الآية، وذلك أن بنو لمّا رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار، وعرف الملك أنّ الذي قال كائن، قال : ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، {فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ} يوسف، وقال له : أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يُظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة {فَقَالَ} للرسول {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} أيّ سيّدك يعني الملك {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ} والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبدالحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ النسوة بضمّ النون. {إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} إنّ اللّه تعالى بصنيعهنّ عالم، وقيل : معناه : إنّ سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي ممّا ترميني به المرأة. قال ابن عباس : فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلّم الملك لشأنه، فمازالت في نفس العزيز منه شيء يقول : هذا الذي راود امرأتي، قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لَقَد عَجبتُ من يوسف وكرمه وصبره، واللّه يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره واللّه يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربّك، ولو كنتُ مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب، وما ابتغيت الغفران كان حليماً ذا أناة). ٥١{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} : الآية، في الكلام متروك قد استُغني عنه (يدلّ) الكلام عليه، وهو : فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة، فدعا الملك النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهنّ وامرأة العزيز فقال لهنّ : ما خطبكنّ : ما شأنكنّ وأمركنّ {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} ، فأحبنه {قُلْنَ حَاشَ للّه} معاذ اللّه، {ما عَلِمنا عليه من سوء قالت امرأهُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق} أيّ ظهر وتبيّن والأصل فيه : حصّ وقيل : حصّص، كما قيل : كبكبوا في كبوا، وكفكف في كفّ، وردد في ردّ، وأصل الحَص استئصال الشيء، يقال حصَّ شعره إذا استأصله جَزّاً، وقال أبو قيس ابن الأصلت : قد حصّت البَيضة رأسي فما أطعم نوماً غير تهجاع وتعني بالآن حصحص الحقّ : ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} فتنتُه عن نفسه، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في قوله : {هِىَ رَاوَدَتْنِى} . ٥٢فلمّا سمع { ذلك } يوسف، قال : ليعلم ذلك الذي (مضى) من ردّي رسول الملك في شأن النسوة {لِيَعْلَمَ} العزيز. {أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ} في زوجته {بِالْغَيْبِ} في حال غيبتي عنه {وَأَنَّ اللّه لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآئنِينَ} واتّصل قول يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} بقول المرأة : {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} من غير تبيين، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتّصال قول اللّه تعالى : {وَ كذلك يَفْعَلُونَ} بقول بلقيس : {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} وكذلك قول فرعون لأصحابه : {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وهو متّصل بقول الملأ : {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ} . روى أبو عُبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئاً ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر. وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبداللّه بن يوسف بن أحمد بن علي قال : حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن الخفاف عن جعفر بن نوفان عن ميمون بن مهران عن عبداللّه بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه بالسلام وقال إنّي قد جئتُ لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال : جزاك اللّه خيراً، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّه يَهْدِى كَيْدَ الْخَآئنِينَ} . قال أهل التفسير : لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل : ولا حين هممت بها؟ ٥٣فقال عند ذلك يوسف {وما أُبَرِّئ نَفْسِي} من الخطأ والزلل فاركبها، {إِنَّ النَّفْسَ مَّارَةُ بِالسُّوءِ} بالمعصية {إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى} يعني إلاّ من رحمه ربي فعصم، و {مَآ} بمعنى مَن كقوله تعالى {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ} أي مَن طاب، وقوله إلاّ استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى : {ولا هُم يُنْقَذُوْنَ إلاّ رَحْمَةً مِنّا} يعني إلاّ أن يُرحموا، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما. {إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فلمّا تبيّن للملك (حق) يوسف وعرف أمانته وعلمه، ٥٤قال : {ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أجعله خالصاً لي دون غيره، فلمّا جاء الرسول يوسف قال له : أجب الملك، الآن، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال : اللّهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كّل بلدة، فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن : (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)، ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن، ولبس ثياباً جدداً حساناً، وقصد الملك. قال وهب : فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دُنياي، وحسبي ربّي من خلقه، عزّ جاره، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره. ثمّ دخل الدار، فلمّا دخل على الملك قال : اللّهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره، فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية، فقال له : الملك، ما هذا اللسان؟ قال : لسان عمّي اسماعيل، ثمّ دعا له بالعبرانية، فقال له الملك : ما هذا اللسان؟ قال : لسان آبائي. قال وهب : وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً، فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأجابه الملك، فأعجب الملك ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا رأى الملك حداثة سنة، قال لمن عنده : إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة، ثمّ أجلسه على سريره، وقال له : إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاهاً، فقال له يوسف : نعم، أيّها الملك، رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان، كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبناً، فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبساً، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شُعث غُبر مقلّصات البطون، ليس لهُنّ ضروع ولا أخلاف، ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ ومزّقنَ جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ. فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أُخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء، فبينا أنتَ تقول في نفسك : أنّى هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد، وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرنَ سوداً متغيّرات. فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعوراً، فقال الملك : واللّه ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني (الأهواء) والخزائن، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه و (يبيعه) ويكفي الشغل فيه؟ ٥٥فقال : يوسف {اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآنِ الأرض} مجاز الآية : على خزائنّ أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفاً من الإضافة، كقول النابغة : والأحلام غيرُ كواذب. {إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} : كاتب حاسب، قتادة : حفيظ لما وليت، علهم بأمره، ابن اسحاق : حفيظ لما استودعتني، عليمٌ بما وليّتني، شيبة الضبي : حفيظ لما استودعتني وعليمٌ بسنيّ المجاعة، الأعشى : حافظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة من سألني، الكلبي : حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة، عليمٌ بوقت الجوع متى يقع، وقيل : حفيظ لما وصل إليّ عليم بحسابة المال، فقال له الملك : ومَن أحقّ به منك؟ فولاّه ذلك، وَقَالَ لَهُ : {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة ومنزلة، أمين على الخزائن، روى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس أنّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك. روى سفيان عن أبي سنان عن عبداللّه بن أبي الهذيل، قال : قال الملك ليوسف : إنّي أُريد أن تخالطني في كلّ شيء غير أنّي آنف أن تأكل معي، فقال يوسف (عليه السلام) : أنا أحقّ أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه، فكان يأكل بعدئذ معه. روى حمزة الريّان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال : لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدّى ويتعشى معه دون غلمانه، فلمّا كان بينه وبين المرأة ما كان، قالت له مرّة : فليتغدّ مع الغلمان، فقال : اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفتَ أن تأكل معي، أنا واللّه يوسف بن يعقوب نبي اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه إبن إبراهيم خليل اللّه. روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أنّ عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال : لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (من طلب الإمارة لم يعدل) فقال عمر : لقد طلب الإمارة من هو خير منك، يوسف (عليه السلام)، قال : اجعلني على خزائن الأرض. روى بن اسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوَّجَهُ ورَدَّأُهُ سيفه، ووضع له سريراً من ذهب، مكلّلا بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حلّة من استبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعاً وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشاً وتسعون مرفقة، ثمّ أمره أن يخرج فخرج متوّجاً، لونه كالثلج ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن اسحاق : قال ابن زيد : وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذاً، ثمّ أنّ قطفير هلك في تلك الليالي فزوّج الملك يوسف راحيل إمرأة قطفير، فلمّا دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما كنتِ تريدين؟ فقالت : أيّها الصدّيق لا تلمني فإنّي كنتُ امرأة حسناء ناعمة كما ترى، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك اللّه في حُسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين : أفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف. واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء ٥٦فذلك قوله تعالى : {وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض} يعني أرض مصر : أي مكّناه {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} أين نزل {حَيْثُ يَشَآءُ} : ويصنع فيها ما يشاء، والبواء المنزل يقال : بوّأته فتبوّأ، وقرأ أهل مكّة : حيث نشاء بالنون ردّاً على قوله مكّنا وبعده، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ} أي بنعمتنا. {ولانضيع أجر المحسنين} قال ابن عباس ووهب : يعني الصابرين كصبره في البئر، وصبره في السجن وصبره في الرق، وصبره عما دعته اليه المرأة، قال مجاهد وغيره : فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا ٥٧{ولأجر الآخرة} (نعيم) الآخرة {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} قال البحتري : أما في رسول اللّه يوسف أسوة لمثلك محبوساً (....) أقام جميل الصبر في الحبس برهة فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى الملك وكتب بعضهم إلى صديق له : وراء مضيق الخوف مُتّسعُ الأمنِ وأوّل مفروح به آخر الحُزن فلا تيأسَنْ فاللّه مَلَّك يوسفاً خزائنه بعد الخلاص من السجن ٥٨قالوا : فلمّا أطمأنّ بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون (.......) وكان ابتداء القحط، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل، وهتف الملك : يا يوسف الجوع الجوع فقال : هذا أوّل القحط، فلمّا دخلت السنة الأُولى من سنيّ الجدب هلك فيها كلّ شيء أعدّوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلاّ قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحُليّ والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أَمَة في يد أحد منهم، ثمّ باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حُرّة إلاّ صار عبداً له، حتى قال الناس : تاللّه ما رأينا كاليوم ملكاً أجلّ ولا أعظم من هذا، ثمّ قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربّي فيما خوّلني، فما ترى لي؟ قال الملك : الرأي رأيك، وإنّما نحن لك تبع، قال : فإنّي أشهد وأشهدك أنّي أعتقتُ أهل مصر عن آخرهم ورددتُ عليهم أموالهم وأملاكهم. وروي أنّ يوسف (عليه السلام) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض، فقال : أخاف أن شبعتُ أن أنسى الجائع، وأمر يوسف أيضاً طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، ويُحسن إلى المُحتاجين، ففعل الطهاة ذلك، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار. قالوا : وقصد الناس مصر من كلّ حدب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكّن أحداً منهم وإن كان عظيماً بأكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وتوسّعاً عليهم، وتزاحم الناس عليه، قالوا : وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدّة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأُمّه فذلك قوله تعالى : {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} يوسف وأنكروه لما أراد اللّه أن يبلغ يوسف فيما أراد. قال ابن عباس : وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل : إنّه كان مُتّزياً بزيّ فرعون مصر، عليه ثيات حرير، جالس على سريره، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فلذلك لم يعرفوه، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه. قال بعض الحكماء : المعصية تورث الكبرة، قال اللّه تعالى : {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} فلمّا نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية، قال لهم : أخبروني من أنتم؟ وما أمركم؟ فإنّي أنظر شأنكم، قالوا : نحنُ قومٌ من أهل الشام رُعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، قال : لعلّكم عيون تنظرون عورة بلادي، قالوا : واللّه ما نحن جواسيس وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صدّيق يُقال له : يعقوب، نبي من أنبياء اللّه، قال : وكم أنتم؟ قالوا : كُنّا إثني عشر فذهب أخٌ لنا إلى البريّة فهلك فيها، وكان أحبّنا إلى أبينا، فقال : فكم أنتم ها هنا، قالوا : عشره، قال : فأين الآخر؟ قالوا : عند أبينا لأنّه أخ الذي هلك من أُمّه، وأبونا يتسلّى به، قال : فمن يعلم أنّ الذي تقولون حقّ؟ قالوا : أيّها الملك إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد، قال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. قالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنّا لفاعلون، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف وأبرّهم به فخلّفوه عنده، ٥٩فذلك قوله تعالى : {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} يعني حمل لكل رجل منهم بعيراً بعدّتهم، {قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ} يعني بنيامين، {ألا تَرَوْنَ أنّي أُوْفِ الكَيْلَ} أي لا أبخس الناس شيئاً وأُتمّ لهم كيلهم فأزيد لكم حمل بعير في خراجكم، وأكرم مثواكم، وأُحسن إليكم، {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} المُضيّفين. ٦٠{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} ليس لكم عندي طعام أكيله لكم {وَلا تَقْرَبُونِ} ولا تقربوا بلادي بعد ذلك، وهو جزم يدلّ على النهي. ٦١{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} نطلبه ونسأله أن يُرسله معنا، قال ابن عباس : سنخدعه حتى نخرجه معنا، {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ما أمرتُ به. ٦٢{وقال يُوسف لِفِتْيانِهِ} أي لغلمانه الذين يعملون بالطعام، قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، لفتيانه بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة، وقال : هي في مصحف عبداللّه كذلك، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية. {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} أي طعامهم، قال قتادة : أوراقهم، الضحّاك عن ابن عباس قال : كانت النعل والأدم، {فِى رِحَالِهِمْ} في أوعيتهم وهي جمع رحل، والجمع القليل منه الرحيل، قال ابن الأنباري : يقال للوعاء : رَحل وللمسكن رحل. {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقَلَبُوا} انصرفوا، {إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إليّ واختلف العُلماء في السبب الذي فعل يوسف من أجله، فقال الكلبي : تخوّف يوسف أن لا يكون عند أبيه من الورق فلا يرجعون مرّة أخرى، وقيل : خشي أن يضرّ أخذه ذلك منهم بأبيه؛ إذ كانت السنة سنة جدب وقحط، فأحبّ أن يرجع إليه، وإنِّما أراد أن يتّسع به أبوه، وقيل : رأى لو أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فردّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرّماً وتفضّلا. وقيل : فعل لأنّه علم أنّ ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردّ البضاعة ولا يستحلّون إمساكها فيرجعون لأجلها، وقيل : أبدا لهم كرمه في ردّ البضاعة وتقديم الضمان في البِرّ والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود إليه طمعاً في برّه. ٦٣{فَلَمّا رَجَعُوا إلى أبِيْهِمْ قالوا يا أبَانَا} قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، قال لهم يعقوب : إذا أتيتم ملك بمصر فاقرؤوه منّي السلام وقولوا له : إنّ أبانا يُصلّي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثمّ قال : أين شمعون؟ قالوا : إنّه عند ملك مصر وأخبروه بالقصّة، فقال : ولم أخبرتموه؟ قالوا : إنّه أخذنا وقال : إنّكم جواسيس عندما كلّمناه بلسان العبرانيين، وقصّوا عليه القصّة. {وَقَالُوا يا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْل فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخَانَا} بنيامين {نَكْتَلْ} قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي يكتل بالياء يعني يكتل لنفسه هو كما كنّا نكتل نحن، وقرأ الآخرون بالنون بمعنى نكتل نحن، واختاره أبو عبيد {وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ قالَ} يعقوب، ٦٤{هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ فَاللّه خَيْرٌ حَافِظًا} قرأ ابن محصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي : حافظاً بالألف على التمييز والتفسير، كما يُقال : هو خيرٌ رجلا، ومجاز الآية خيركم حافظاً فحذف الكاف والميم، ويدلّ عليه أنّها مكتوبة في مصحف عبداللّه : واللّه خيرُ الحافظين. وقرأ الآخرون حفظاً بغير الألف على المصدر بمعنى خيركم حفظاً واختلفَ فيه عن عاصم {وَهُوَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ} . ٦٥{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} الذي حملوه من مصر {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ} ثمن الطعام {رُدَّت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} أي ماذا نبغي؟ وأي شيء نطلب وراء هذا؟ أوفى لنا الكيل وردّ علينا الثمن، أرادوا بذلك أن يُطيّبوا نفس أبيهم، و {مَآ} استفهام في موضع نصب ويكون معناه جحداً كأنّهم قالوا : لسنا نُريد منك دراهم. {هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} ونشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال مار أهله يَمير مَيراً فهو ماير، إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده في مثله امتار يمتار امتياراً، قال الشاعر : بعثتك مائراً فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيثُ وقال آخر : أتى قريةً كانت كثيراً طعامها كعفر التُراب كل شيء يميرها {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين {وَنَزْدَادُ} على أحمالنا {كَيْلَ بَعِيرٍ} لنا من أجله { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} : لا مؤونة فيه ولا مشقّة، وقال مجاهد : كيل بعير يعني : حمل حمار، قال : وهي لغة يُقال للحمار بعير، ٦٦{قَالَ} لهم يعقوب : {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ} تعطوني {مَوْثِقًا مِّنَ اللّه} يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المُرسلين أن لا تغدروا بأخيكم {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين {إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلاّ أن تهلكوا جميعاً، قاله مجاهد، وقال قتادة : إلاّ أن يُغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك. {فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس : حلفوا له بحقّ محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ومنزلته من ربّه {قَالَ} يعقوب {اللّه عَلَى مَا نَقُولُ وكيلا لٌ} أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي : كفيل، وقال كعب : لمّا قال يعقوب : فاللّه خيرٌ حافظاً، قال اللّه جلّ ذكره : وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعدما توكّلت عليّ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج (هذا)، ٦٧{وقال يا بُنَيّ لا تدخلوا} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ، قال : {وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللّه مِن شَىْءٍ} علم (عليه السلام) أنّ المقدور كائن، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وما أغني عنكم من اللّه من شيء {إِنِ الْحُكْمُ إِلا للّه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وإلى اللّه فليفوّض أمورهم المفوّضون. ٦٨{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها، {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم مِّنَ اللّه مِن شَىْءٍ} صدّق اللّه تعالى يعقوب فيما قال {إِلا حَاجَةً} حزازة وهمّة في نفس يعقوب {قَضَاهَا} أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم {وَإِنَّهُ} يعقوب {لَذُو عِلْمٍ لِّمَا} : أي مما {عَلَّمْنَاهُ} يعني لتعليمنا إيّاه، قاله قتادة، وروى سفيان عن (ابن) أبي عروة قال : إنّه العامل بما علم، قال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً، وقيل : إنّه لذو حظّ لِما علّمناه. {وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ} ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم. ٦٩{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} قالوا : هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيداً، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه، فقال لهم يوسف (عليه السلام) : لقد بقي هذا أخوكم وحيداً، فأجلسه على مائدته فجعل يُؤاكِله. فلمّا كان الليل أمرَ لهم بمثل أي فرش، فقال : لينم كلّ أخوين منكم على مثال، فلمّا بقي بنيامين وحده، قال يوسف (عليه السلام) : هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول : ما رأينا مثل هذا، فلمّا أصبح قال لهم : إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي، ثمّ أنزلهم (معه)، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك، قوله تعالى : {إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ} فلمّا خلا به قال له : ما اسمك؟ قال : بنيامين. قال ابن من يا بنيامين؟ قال : ابن المثكل، وذلك أنّه لما ولد هلكت أُمّه، قال : وما اسمها؟ قال : راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال : فهل لك بنون؟ قال : نعم، عشر بنين وقد اشتققتُ أسماءهم من اسم أخ لي من أُمّي هلك، قال : لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد، قال : فما سمّيتهم؟ قال : بالعا وأحيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال : إما بالعاً فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنّه بكر أبي لأُمّي، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأُمي وسنّي، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان، وأمّا نعمان فانه ناعمٌ بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحُسن، قال : وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني. فقال يوسف : أتُحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين : ومن يجد أخاً مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف (عليه السلام) وقام إليه وعانقه و {قَالَ} له : {إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} يوسف {فَلا تَبْتَئسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإنّ اللّه قد أحسن إلينا ولا تُعلمهم شيئاً ممّا علمت. وقال عبدالصمد بن معقل : سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه : {إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} ، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّراً لهم يكابرهم حتى رجعوا؟ فقال : إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال : أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال : لم يقل له : أنا يوسف، ولكن أراد أن يُطيّب نفسه. ومجاز الآية أي : أنا أخوك بدل أخيك المفقود فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلا تشتكِ ولا تحزن لشيء سلف من أخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أُمّك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيراً، وحمل لبنيامين بعيراً باسمه كما حَمل لهم، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدّي : جعل السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر. قال كعب : لما قال له : إني أنا أخوك قال بنيامين : فأنا لا أفارقك، قال يوسف (عليه السلام) : قد علمتُ (عنهم) والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلاّ أن أُشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال : لا أُبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أُفارقك. قال : فإنّي أدسُّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أُنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال : فافعل، ٧٠فذلك قوله تعالى : {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أي لما قضى لهم حاجتهم، {جَعَلَ السِّقَايَةَ} : وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد : وكان كأساً من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق : هو شيء من فضّة، عكرمة : مشربة من فضّة مُرصّعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلاّ يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جُبير : هو (المقياس) الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد، {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} في متاع بنيامين، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأُدركوا وحُبسوا. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد، {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفرّاء : لا يُقال عِير إلاّ لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العِير حميراً. {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قفوا، فوقفوا، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم : ألم نكرم ضيافتكم ونُحسن منزلكم ونُوفِكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا : بلى، وما ذاك؟ قال : سقاية الملك، فقال : إنّه لا يُتَّهم عليها غيركم، ٧١فذلك قوله تعالى : {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ} عطفوا على المؤذّن وأصحابه : ماذا تفقدون؟ ما الذي ضلّ منكم؟ فالفقدان ضدّ الوجود، والمفقد : الطلب. ٧٢{قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} واختلف القُرّاء في قراءة ذلك، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هُريرة أنّه قرأ صاع الملك، وقرأ أبو رجاء صوع، وقرأ يحيى بن معمر صوغ بالغين، (فإنّه) وجهنا إلى مصر، صاغ يصوغ صوغاً، وجمع الصواع صيعاً، وجمع صاع أصواع. {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} كفيل يقوله المؤذّن، وأصل الزعيم : القائم بأمر القوم، ويُقال للرئيس زعيم، يُقال : زعم، زعامة وزعاماً، قالت ليلى الأخيلية : حتى إذا رفع اللواء رأيتُه تحت اللواء على الخميس زعيماً ٧٣و {قَالُوا} يعني اخوة يوسف، {تَاللّه} أي واللّه، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة، وأصلها الواو، والواو في هذه الحروف كلّها حرف من الأسماء، وليست كذلك في تاللّه لأنّها إنّما هي واو القسم وإنّما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب، وهم زعموا أنّ الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء اللّه تعالى. {لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} فإن قيل : من أين علموا ذلك؟ الجواب عنه : قال الكلبي قال : إن فتى يوسف وهو المؤذّن قال لهم : إنّ الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك، فلي اليوم عنده مقولة حسنة، فإن لم أجده تخوّفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر، قالوا : لقد علمتم ما جئنا لنفس في الأرض إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئاً وسلوا عنا من مررنا به، هل ضررنا أحداً؟ أو هل أفسدنا شيئاً؟ وإنّا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا، فلو كنّا سارقين ما رددناها. قال فتى يوسف : إنّه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه، وقال بعضهم : إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا معروفين أنّهم لا يتناولون ما ليس لهم، وقيل : إنّهم كانوا حين دخلوا مصر كمّوا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس. فإن قيل : كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين؟ قيل : فيه جوابان : أحدهما أنّه أضمر في نفسه أنّهم سرقوه من أبيه، والآخر أنّه من قول المنادي لا من أمر يوسف واللّه أعلم. ٧٤{قَالُوا} يعني المنادي وأصحابه، {فَمَا جَزَاؤُهُ} ثوابه قال الأخفش : إن شئت رددت الكناية إلى السارقين، وإن شئت رددتها إلى السَّرَق {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} في قولكم : (ما كنّا سارقين). ٧٥قالوا : {جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ} أن يسلِّم سرقته إلى المسروق منه، ويسترقّ سنة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق { كذلك نَجْزِى الظَّالِمِينَ} الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقاً، وأما وجه الكلام فقال الفرّاء من في معنى جزاؤه، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ويكون قوله : {جَزَاؤُهُ} الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه، ومثله في الكلام أن يقول : ماذا لي عندك؟ فيقول : لك عندي أن بشّرتني فلك ألف درهم كأنّه قال : لك عندي هذا، وإن شئت الجزاء مرفوعاً بمن خاصّة وصلتها كأنّك قلت : جزاؤه الموجود في رحله، كأنّك قلت : ثوابه أن يسترق (في المستأنف) أيضاً فقال : فهو جزاؤه، وتلخيص هذه الأقاويل : جزاؤه جزاء الموجود في رحله، أو جزاؤه الموجود في رحله. تمّ الكلام. وقال مبتدئاً فهو جزاؤه فقال الرسول عند ذلك : إنّه لابدّ من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتّشها فانصرف بهم إلى يوسف، ٧٦{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} لإزالة التهمة {قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} وكان فتّش أمتعتهم واحداً واحداً، قال قتادة : ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر في وعاء إلاّ استغفر اللّه تأثّماً ممّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلاّ الغلام، قال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقال أخوته : واللّه لا نتحرّك حتى تنظر في رحله، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى : {اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر، وقد قال اللّه تعالى : {ومن جاء به حِمْلُ بعير} لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله : {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} ، ثمّ قال : {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ردّها إلى الجنّة وقوله : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} ، ثمّ قال : {فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} ، أي من الميراث. وقيل : ردّ الكناية إلى السرقة. وقيل : إنّما أنّثها لأنّ الصواع يُذكر ويُؤنّث فمن أنّثه قال : ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال : ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب. { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ اللّه تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} فالكيد جزاء الكيد، قال ابن عباس : كذلك كِدنا أي صنعنا، ربيع : ألهمنا، ابن الأنباري : أردنا. ومعنى الآية : كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها اللّه له فاعتلّ بها يوسف، {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} إليه ويضمّه إلى نفسه {فِى دِينِ الْمَلِكِ} في حكمه وقضائه، قاله قتادة. وقال ابن عباس : في سلطان الملك، وأصل الدين : الطاعة، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويُغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه، وقال الضحّاك : كان الملك إذا أُتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه، إلاّ أن يشاء اللّه، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كِدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه، وكان ذلك مُراد يوسف (عليه السلام). {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال ابن عباس : يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، واللّه فوق كلّ عالم، قال قتادة والحسن : واللّه ما من عالم على ظهر الأرض إلاّ فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى اللّه الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود، وفي قراءة عبداللّه : وفوق كلّ عالم عليم. وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد : يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت، قال فكيف هو؟ قال : كذا وكذا قال : صدقت وأخطأت، وفوق كلّ ذي علم عليم. قالوا : فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكَّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا : يا بنيامين أي شيء الذي صنعت، فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت الصواع؟. فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبريّة، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. ٧٧ثمّ قالوا ليوسف : {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} : من أبيه وأُمّه، من قبل، واختلف العلماء في السرقة التي وصفوا بها يوسف، فقال سعيد بن جبير وقتادة : سرق يوسف صنماً لجدّه أبي أمّه فكسّره وألقاه في الطريق، الكلبي : بعثته أُمّه حين أرادت أن ترتحل من حران مع يعقوب إلى فلسطين والأردن، أمرته أن يذهب فأخذ جونة فيها أوثان لأبنها (أي) ذهب فيأتيها بها لكي إذا فقدها أبوها أسلم، فانطلق فأخذها وجاء بها إلى أُمّه، فهذه سرقته التي يعنون. وعن ابن جريح : كانت أُمّ يوسف أمرتة أن يسرق صنماً لخاله يعبده وكانت مسلمة، وروى أبو كريب عن أبي ادريس قال سمعت أبي قال : كان أولاد يعقوب على طعام ونظر يوسف إلى عرق فخبّأه فعيّروه بذلك، وأخبر عبداللّه بن السدّي، عن أبيه عن مجاهد أنّ يوسف جاءه سائل إلى البيت فسرق (جُبّة) من البيت فناولها السائل فعيّروها بها، وقال سفيان بن عيينة : سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. كعب : كان يوسف في المنزل وحده فأتاه سائل وكان في المنزل عتاق وهي الانثى من الجديّ، فدفعها إلى السائل من غير أمر أبيه. وهب : كان يُخبّئ الطعام من المائدة للفقراء. هشام عن سعد بن زيد بن أسلم في هذه الآية قال : كان يوسف (عليه السلام) مع أُمّه عند خال له، قال : فدخل وهو صبي يلعب وأخذ تمثالا صغيراً من الذهب، فذلك تعيير اخوانه إيّاه. وروى ابن إسحاق عن مجاهد عن جويبر عن الضحّاك قال : كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أنّ عمّته بنت اسحاق وكانت أكبر أولاد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثوها بالكبر من أختانها ممّن وليها كان له سلماً لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكانت راحيل أُمّ يوسف قد ماتت فحضنته عمّته وأحبّته حُبّاً شديداً، وكانت لا تصبر عنه. فلمّا ترعرع وبلغ سنوات وقعت محبّة يعقوب عليه فأتاها يعقوب فقال : يا اختاه سلِّمي إليّ يوسف، فواللّه ما أقدر على أن يغيب عنّي ساعة، فقالت : لا، فقال : واللّه ما أنا بتاركه. قالت : فدعه عندي أيّاماً أنظر إليه لعلّ ذلك يُسلّيني عنه، ففعل، فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثمّ قالت : لقد فقدت منطقة إسحق فانظروا من أخذها فالتمسوها فلم توجد فقالت : اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجودها مع يوسف، فقالت : واللّه إنّه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال : إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فهذا الذي قال أخوة يوسف : إن سرق فقد سرق أخ له من قبل، وهذا هو المثل السائر الذي يقال عُذره شرٌ من جرمه. {فَأَسَرَّهَا} فأضمرها، {يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} وإنّما أنّث الكناية لأنّه عنى بها الكلمة والمقالة وهي قراءة. {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا} أي شرُّ منزلا عند اللّه ممّن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} تقولون، قتادة : تكذبون. وقالت الرواة : لما دخلوا على يوسف واستخرج الصواع من رحل بنيامين دعا يوسف بالصواع فنقر فيه ثمّ أدناه من أُذنه ثمّ قال : إنّ صواعي هذا ليخبرني أنّكم كنتم اثني عشر رجلا وانّكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فلمّا سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثمّ قال : أيّها الملك سَل صواعك هذا عن أخي أين هو فنقره ثمّ قال : هو؟ حيّ وسوف تراه قال : فاصنع فيّ ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني، قال : فدخل يوسف فبكى، ثمّ توضّأ وخرج فقال بنيامين : أيّها الملك إنّي أرى أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقّ من الذي سرقه فجعله في رحلي؟ فنقره فقال : إنّ صواعي هذا عصاني وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ قال : وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يُطاقوا فغضب روبيل، وقال : واللّه أيّها الملك لتتركنا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلاّ ألقت ما في بطنها وقامت كلّ شعرة في جسد روبيل فجرجت من (......) فمسّه فذهب غضبه، فقال روبيل من هذا؟ إن في هذا البلد لبذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف : ومن يعقوب؟ فغضب روبيل وقال : يا أيّها الملك لا يُذكر يعقوب فإنّه سري اللّه ابن ذبيح اللّه ابن خليل الرحمن، قال يوسف (إشهد) إذاً أنت كنت صادقاً، احتبس يوسف أخاه وصار بحكم اخوته أولى به منهم، فرأوا أنّه لابدّ لهم إلى تخليصه منه سألوه تخليته ببدل منهم يُعطونه إيّاه، ٧٨{فقالوا يا أيّها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً} : متعلّقاً بحبّه يعنون يعقوب، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} : بدلا منه {إِنَّا نَرَ اكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في أفعالك قيل : إلينا، وقال ابن إسحاق : يعنون إنْ فعلت ذلك كنت من المُحسنين. ٧٩{قَالَ} يوسف {مَعَاذَ اللّه} أعوذ باللّه وهو نصب على المصدر، وكذلك تفعل العرب في كلّ مصدر وضع موضع الفعل، تقول : حمداً للّه وشكراً للّه، بمعنى أحمد اللّه وأشكره {أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} ولم يقل من سرق تحرّزاً من الكذب، {إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} إن أخذنا بريئاً بسقيم. ٨٠{فلمّا اسْتَيْئَسُوا مِنْه} يعني أيسوا من يوسف من أن يُجيبهم إلى ما سألوه {خَلَصُوا نَجِيًّا} أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم، والنجيّ لقوم يتناجون وقد يصلح للواحد أيضاً، قال اللّه في الواحد : {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ، وقال في الجمع {خَلَصُوا نَجِيًّا} وإنّما جاز للواحد والجمع لأنّه مصدر أُبدل نعتاً كالعدل والزور والفطر ونحوها، وهو من قول القائل نجوت فلاناً أنجوه نجيّاً، ومثله النجوى يكون اسماً ومصدراً، قال اللّه تعالى : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} أي يتناجون وقال : {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ} وقال في المصدر {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} وقال الشاعر : بني بدا خبّ نجوى الرجال (وكُ) عند سرّك خبّ النجيّ والنجوى والنجيّ في هذا البيت بمعنى المناجاة، وجمع النجيّ أنجية، قال لبيد : وشهدتُ أنجية الأفاقة عالياً كعبي وأرداف الملوك شهود وقال آخر : إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطربت أعناقهم كالأرشية هناك أوصيني ولا توصي بيه. {قَالَ كَبِيرُهُمْ} يعني في العقل والعلم لا في السنّ وهو شمعون، وكان رئيسهم، قاله مجاهد، وقال قتادة والسدّي والضحاك وكعب : هو روبيل وكان أسنّهم وهو ابن خالة يوسف، وهو الذي نهى إخوته عن قتله، وهب والكلبي : يهودا، وكان أعقلهم، محمد بن اسحاق : لاوي. {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّه} عهداً من اللّه {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} اختلفوا في محلّ ما فقال بعضهم : هو نصب إيقاع العلم عليه يعني : ألم تعلموا من قبل فعليكم بهذه تفريطكم في يوسف؟ وقيل : هو في محلّ الرفع على الابتداء، وتمام الكلام عند قوله : من اللّه يعني : ومن قبلي هذا تفريطكم في يوسف، فيكون ما مرفوعاً يخبر (....) الصفة وهو قوله : ومن قبل، وقيل : ما صلة، ويعني ومن هذا فرّطتم في يوسف أي قصّرتم وضيّعتم، وقيل : رفع على الغاية. {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} التي أنا بها وهي أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى} بالخروج منها {أَوْ يَحْكُمَ اللّه لِى} بالخروج منها وترك أخي بنيامين بها أو معه، وإلاّ فإنّي غير خارج منها، وقال أبو صالح : أو يحكم اللّه لي بالسيف فأُحارب من حبس أخي بنيامين. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أفضل وأعدل من يفصل بين الناس. ٨١{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ} يقوله الآخر في المحتبس بمصر لإخوته {فقولوا يا أبانا إنّ ابنك} بنيامين {سَرَقَ} الصواع، وقرأ ابن عباس والضحاك : سُرِّق بضمّ السين وكسر الراء وتشديده على وجه ما لم يُسمِّ فاعله، يعني أنّه نُسب إلى السرقة مثل : خوّنته وفجّرته (....) أي نسبته إلى هذه الخلال. {وَمَا شَهِدْنَآ إِلا بِمَا عَلِمْنَا} يعني ما كانت منّا شهادة في عمرنا على شيء إلاّ بما علمنا وليست هذه شهادة منّا إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقال ابن اسحاق : معناه : وما قلنا : إنّه سرق إلاّ بما علمنا، قال : وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترقّ السارق بسرقته. {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال مجاهد وقتادة : ما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنّما قلنا ونحفظ أخانا ممّا لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس يعنون : أنّه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير، وقال ابن عباس : لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، عكرمة {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} لعلّها دُسّت بالليل في رحله. وقيل معناه : قد أُخذت السرقه من رحله ونحن ننظر إليه، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سَرّقوه ولم يسرق، وهذا معنى قول أبي اسحاق، وقال ابن كيسان : لم نعلم أنّك تنصاب كما أُصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم (نأخذ) فتاك ولم نذهب به. ٨٢{وَسْئَلِ القَرْيَةِ التي كُنّا فِيْها} يعني أهل القرية وهي مصر، ابن عباس : قرية من قُرى مصر. {وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا} يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قومٌ من كنعان من جيران يعقوب (عليه السلام)، قال ابن اسحاق : قد عرف الأخ المُحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم، ٨٣{وإنّا لصادِقُوْن قال بَلْ سَوَّلت} في الآية اختصار معناها، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك، فقال : بل سوّلت أي زيّنت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أردتموه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّه أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} بحزني ووجدي على فقدهم {الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه. ٨٤{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم {وقال يا أَسَفَى} يا حزني {عَلَى يُوسُفَ} وقال مجاهد : يا جزعاه، والأسف : شدّة الحزن والندم. {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} مقاتل : لم يُبصر بهما ستّ سنين {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثّه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني : كظيم : حزين، مجاهد : مكبود، الضحّاك : كميد، قتادة : تردّد حزنه في جوفه، ولم يتكلّم بسوء، ولم يتكلّم إلاّ خيراً، ابن زيد : بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم، ابن عباس : مهموم، مقاتل : مكروب، وكلّها متقاربة. سعيد بن جبير : عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لم يعط أُمّة من الأمم إنّا للّه وإنّا إليه راجعون عند المصيبة إلاّ أُمّة محمّد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع : إنّما قال يا أسفى على يوسف؟). وأخبرني ابن فنجويه (قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك) القطيعي قال : حدّثنا عبداللّه بن أحمد ابن حنبل، (قال : حدّثني) أُبي، عن هشام (بن القاسم) عن الحسن، قال : كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّاً لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على اللّه من يعقوب. ٨٥{قَالُوا} يعني ولد يعقوب {تَاللّه تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ} أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبّه، يقال : ما فتِئتُ أقول ذلك، وما فتأتُ أو أفتؤ، فتأً وفتوّاً، قال أوس بن حجر : فما فتِئتْ حيّ كأن غبارها سرادق يوم ذي رياج ترفع وقال آخر : فما فتئت خيل تثوب وتدّعي ويلحق منها لاحق وتقطع أي فما زالت. وحذف (لا) قوله فتئ كقول امرئ القيس : فقلتُ يمين اللّه أبرحُ قاعداً ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي أي : لا أبرح. وقال خداش بن زهير : وأبرحُ ما أدام اللّه قومي بحمد اللّه منتطقاً مجيداً أي لا أبرح ومثله كثير. {حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} اختلف ألفاظ المفسّرين فيه، فقال ابن عباس : دنفاً، العوفي : يعني الهد في المرض، مجاهد : هو ما دون الموت، يعني قريباً من الموت، قتادة : هرِماً، الضحّاك : بالياً مدبراً، ابن اسحاق : فاسداً لا عمل لك، ابن زيد : الحرض : الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم، مقاتل : مُدنفاً، الكسائي : الحرض : الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش : يعني ذاهباً، المُخرج : ذائباً من الهمّ، الفرّاء عن بعضهم : ضعيفاً لا حراك بك، الحسن : كالشنّ المدقوق المكسور، علام تعباً مُضنى، ابن الأنباري : هالكاً فاسداً، القتيبي : ساقطاً، وكلّها متقاربة. ومعنى الآية : حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العَرجي : إنّي امرؤ لجّ بي حبٌّ فأحرضني حتى بليتُ وحتى شفني السقم يُقال : منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأُنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث، ويُقال : حرض، يحرّض، حرضاً وحراضة فهو حرض، ويُقال : رجل محرّض وأنشد في ذلك : طلبته الخيل يوماً كاملا ولو آلفته لأضحى مُحرضاً وقال امرؤ القيس : أرى المرءَ ذا الأذواد يُصبح مُحرضاً كإحراض بكر في الدّيار مريض {أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} أي الميّتين، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم، ٨٦{إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللّه} لا إليكم، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني اللّه به من مُصاب يوسف، فأوحى اللّه إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ قال : يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال : فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى اللّه. وقال حبيب بن أبي ثابت : بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى اللّه إليه : يا يعقوب تشكوني، فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وعن عبداللّه بن قميط، قال : سمعت أبي يقول : بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب (عليه السلام) : ما الذي أذهب بصرك؟ قال : حزني على يوسف، قال : فما الذي قوّس ظهرك؟ قال : حزني على أخيه، فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه : يا يعقوب أتشكوني؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئاً، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين، فاصنع طعاماً وادعُ إليه المساكين، فصنع طعاماً، ثمّ قال : من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب. وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا : أوحى اللّه تعالى إلى يعقوب : تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال : لا إلهي، قال : لأ نّك شويت عتاقاً وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال : إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه اللّه به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده. وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق؟ قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة، قال : فإنّي رسول ربّ العالمين، وأنا الروح الأمين، قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين، ورأس المقرّبين، وأمين ربّ العالمين؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ اللّه يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين، وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأنّ اللّه قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟ قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المُذنبين، وسمّيت باسم المفسدين؟ قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك اللّه في الصدّيقين، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟ قال : نعم وهب اللّه له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم، قال : فما قدر حزنه؟ قال : حزن سبعين ثكلى، قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال : أجر مائة شهيد، قال : أفتراني لاقيه؟ قال : نعم، فطابت نفس يوسف، قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته. وأمّا قوله بثّي فالبثّ : أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره، يقال : بثّ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ (يأبثه أبثاً) يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة : وقفتُ على ربع لميّة ناقتي فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه تكلّمني أحجاره وملاعبه وقال الحسن : بثّي أي حاجتي، وقال محمّد بن القاسم الأنباري : البثّ : التفرق، وقال محمّد بن إسحاق : معناه : إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى اللّه، وهو من بثّ الحديث. {وَأَعْلَمُ مِنَ اللّه مَا تَعْلَمُونَ} قال ابن عباس : يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون : وأعلم أنّ يوسف حيّ. قال السدّي : لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال : لعلّه يوسف، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله : هل قبضت روح يوسف؟ قال : لا واللّه، وهو حيّ. ويقال : أرسل اللّه إليه ذئباً فسلّم عليه وكلّمه، فقال له يعقوب : أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي؟ قال : قد واللّه علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، ٨٧فلذلك قال لبنيه : {يا بَنيّ اذهَبوا فَتَحَسَّسُو من يوسفَ وأخيه} ولا تيأسوا من روح اللّه سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه : وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتبّعوا، قال ابن عباس : إلتمسوا، {وَلا تَايَسُواْ} ، أي لا تقنطوا، من روح اللّه : من فرج اللّه، قال ابن زيد وقتادة، والضحّاك : من رحمة اللّه، {يَابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَايَسُواْ مِن} . يُقال : سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال : لا يبعد أحدهما عن الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ، الحسن وقتادة : ذكر لنا أنّ نبي اللّه يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلاّ أتى حسن ظنّه باللّه من ورائه، وما ساء ظنّه باللّه ساعة قط من ليل أو نهار، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطّلب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (قال داود : (إلهي) أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً : فقال : لست هناك، إنّ ابراهيم لم يَعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني، وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف). ٨٨{قالوا يا أيّها العزيز} في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقديره : فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له : يا أيّها العزيز، يا أيّها الملك بلغة حمير، {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} الشدّة والجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلاّ (يتوجبن) من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال اللّه تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه يُزْجِى سَحَابًا} قال النابغة الذبياني : وهبّت الريحُ من تلقاء ذي أزل تُزجي مع الليلِ من صَرّادها صرما وقال حاتم الطائي : لَيبكِ على مَلِحان ضيفٌ مُدَفَّعٌ وأرمَلةٌ تُزجي مع الليلِ أَرملا وإنّما قيل للبضاعة : مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزاً على دفع من أخذها. وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون. واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفاً لا تنفق إلاّ بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام؛ لأنّه لا يُؤخذ في ثمن الطعام إلاّ الجيّد، ابن أبي مليكة : حبل خِلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبداللّه بن الحرث : متاع الأعراب، الصوف والسّمن، الكلبي ومقاتل وابن حيّان : الصنوبر وحبّة خضراء، سعيد بن جبير : دراهم ( قليلة)، ابن اسحاق : قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلاّ أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحّاك : النعال والأدم، ورويَ عنه أنّها سويق المقل. {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} أي أعطنا بها ما كنت تُعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال ابن جريج والضحّاك : تصدّق علينا بردّ أخينا إلينا. {إِنَّ اللّه يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ} قال الضحّاك : لم يقولوا : إنّ اللّه يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن، قال عبدالجبار بن العلاء : سُئِلَ سفيان بن عُيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا (صلى اللّه عليه وسلم) قال سفيان : ألم تسمع قوله : {وأَوْفِ لنا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حُرّمت على نبيّنا (صلى اللّه عليه وسلم) وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول : اللّهمّ تصدّق عليّ، فقال : يا هذا إنّ اللّه لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب، قل : اللّهمّ أعطني أو تفضّل عليّ. ٨٩{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن اسحاق : ذُكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال : {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} . وقال الكلبي : إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه : أنّ مالك بن أذعر قال : إنّي وجدت غلاماً في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال : أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولّى يهوذا وهو يقول : كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذاً لو قتل بنوه كّلهم، ثمّ قالوا : إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول. وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له : إنّ ابنك سرق، كتب إليه : من يعقوب إسرائيل اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه، بن ابراهيم خليل اللّه أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها اللّه عليه برداً وسلاماً، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليُقتل، ففداه اللّه، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخاً بالدم وقالوا : قد أكله الذئب وذهب (..........) ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّة وكنت أتسّلى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا : إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك. وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين : هل لك ولد؟ قال : نعم، ثلاثة بنين، قال : فما سمّيتهم؟ قال : سمّيتُ الأكبر يوسف قال : ولِمِ؟ قال : محبّة لك، لأذكرك به، قال : فما سمّيت الثاني؟ قال : ذئباً، قال : ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال : لأذكرك به، قال : فما سمّيت الثالث؟ قال : دماء، قال : ولمَ؟ قال لأذكرك به، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته : لمّا دخلوا عليه : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون، بما يؤول إليه أمر يوسف. وقيل : يكون المذنب جاهل وقت ذنبه. قال ابن عباس : إذا أنتم صبيّان، الحسن : شبان وهذا غيرُ بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب. فإنّ سئل عن معنى قول يوسف {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع (حبس) وقالوا : ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه، فعاتبهم يوسف على ذلك. وقيل : إنّهما لمّا كانا من أُمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فَقْد يوسف فعاتبهم على ذلك. ٩٠{قَالُوا أَئِنَّكَ لاانْتَ يُوسُف} : قرأ ابن مُحصن وابن كثير : إنّك على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام، ودليلهم قراءة أُبي بن كعب أو أنت يوسف، قال ابن أسحاق : لمّا قال يوسف لأخوته {هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه، فقالوا : إنّك لأنت يوسف، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس، قال : قال يوسف : هل علمتم ما فعلتم بيوسف؟ ثمّ تبسّم، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف، فقالوا له استفهاماً : إنّك لأنت يوسف؟، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال : إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها، وكان لإسحاق مثلها، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء، فلمّا قال لهم : (هل) علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ورفع التاج عنه، فعرفوه فقالوا : إنّك لأنت يوسف. {قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هَذَآ أَخِى قَدْ مَنَّ اللّه عَلَيْنَآ} بأن جمع بيننا بعدما فرّقتم {إِنَّهُ مَنْ يَتَّق اللّه} بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، ويصبر عمّا حرّم اللّه عليه، قال ابن عباس : يتّق الزنا ويصبر على العزوبة، مجاهد : يتّق معصية اللّه ويصبر على السجن {فَإِنَّ اللّه يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، ٩١ف {قَالُوا} مُقرّين مُعتذرين : {تَاللّه لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللّه عَلَيْنَا} اختارك اللّه علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والمُلك {وَإِن كُنَّا لَخَاطِِينَ} وإن كنّا في صنيعنا بك لمخطئين، مذنبين، يُقال : خطئ، يخطأ، خطأ وخِطأ وأخطأ إذا أذنب، قال أُمّية بن الأكسر : وإنّ مهاجرين تكنَّفاهُ لعمرُ اللّه قد خطئا وخابا وقيل لابن عباس : كيف قالوا : إنّا كنّا خاطئين وقد تعمّدوا لذلك؟ فقال : أخطأوا الحقّ وإن تعمّدوا، وكلّ من أتى ذنباً كذلك يُخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية ٩٢ف {قَالَ} يوسف وكان حليماً موفّقاً : {تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، وأصل التثريب : الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز، ومنه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إذا زَنَت أَمَة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرب عليها) أي لا يُعيّرها، ثمّ دعا لهم يوسف وقال : {يَغْفِرُ اللّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحِمِينَ} . عطاء عن ابن عباس قال : أخذ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت، وقال : (الحمد للّه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثمّ قال : (ما تظنون؟) قالوا : نظنّ خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال : (وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم). قال السدي وغيره : فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال : ما فعل؟ قالوا : ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال لهم : ٩٣{اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} يعود مُبصراً، لأنّه كان دُعاء. قال الضحاك : كان ذلك القميص من نسج الجنّة، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال : كان يوسف أعلم باللّه عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه اللّه عزّ وجل في النار من حرير الجنّة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، ثمّ أمره جبرئيل (عليه السلام) أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلاّ صحّ وعوفي. {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} . ٩٤{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان. {قَالَ أَبُوهُمْ} لوِلد ولده {إِنِّى لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب (عليه السلام) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد، قال : أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريحُ ريحَ القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلاّ أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال : إنّي لأجدُ ريح يوسف، وهو منه على مسيرة ثماني ليال. وروى شعيبة عن أبي سنان قال : سمعت عبداللّه بن أبي الهُذيل قال : سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال : سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال : سمعت عبداللّه بن أبي الهُذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال : وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن : ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخاً. {لَوْ أَن تُفَنِّدُونِ} : سفيان عن حصيف، عن مجاهد {لَوْ أَن تُفَنِّدُونِ} ، قال : تُسفهون الرأي، عن ابن عباس : تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد : لولا أن تقولوا ذهب عقلك، سعيد بن جبير والسدّي والضحّاك : تُكذّبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة : تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع : تحمقون، جويبر عن الضحّاك : تُهرمون، فتقولون : شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار : تضعفون، أبو عمرو بن العلاء : تقبحون، الكسائي : تُعجزون، الأخفش : تلومون، أبو عبيدة : تُضللون، وأصل الفند : الفساد، قال النابغة : إلاّ سُليمان إذْ قالَ المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند أي امنعها من الفساد، ولذلك يقال : اللوم تفنيد، قال الشاعر : يا صاحبيَّ دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمر بمردود وقال جرير بن عطية : يا عاذليّ دعا الملامَ وأقصرا طال الهوى وأطلتُما التفنيدا وقال آخر : أهلكتني باللومِ والتفنيد والفند : الخطأ في الكلام والرأي ويقال : أفند فلاناً الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مُقبل : دَعْ الدهر يفعل ما أراد فإنّه إذا كُلّف الافناد بالناس أفندا ٩٥{قَالُوا} يعني أولاد أولاده {تَاللّه إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ} خطأك {الْقَدِيمِ} من حبّك يوسف لا تنساه، ٩٦{فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ} المُبشّر برسالة يوسف، قال ابن عباس : البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود : جاء البشير من بين يدي العِير قال السدّي : قال يهوذا : أنا ذهبتُ بالقميص مُلطّخاً بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس : حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسراً حافياً وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخاً، وروى الضحّاك عن ابن عباس، قال : البشير مالك بن ذعر من أهل مدين. {أَلْقَ اهُ} يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، {فَارْتَدَّ بَصِيرًا} : فعاد بصيراً بعد ما كان عمي. عبداللّه بن أحمد بن حنبل عن أبي عبداللّه السلمي : قال سمعتُ يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال : كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب : يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال : لا، قال مَلك الموت : يا يعقوب ألا أُعَلِّمك دُعاءً؟ قال : بلى، قال : قُل : يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يُحصيه غيرك، قال : فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتدّ بصيراً، قال الضحّاك : رجع إليه بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن. {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللّه مَا تَعْلَمُونَ} من حياة يوسف وأنّ اللّه يجمع بيننا ٩٧{قَالُوا} بعد ذلك {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين} مذنبين. ٩٨{قَالَ} يعقوب (عليه السلام) : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} في صلاة الليل، قال أكثر المفسّرين : أخّره من الليل إلى السحر، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يُحجب عن اللّه، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى اللّه تعالى : اللّهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه، واغفر لوِلدي ما أتوا على يوسف، فأوحى اللّه إليه : إنّي قد غفرتُ لك ولهم أجمعين. قال محارب بن دثار : كان عمّ لي يأتي المسجد، قال : فمررت بدار عبداللّه بن مسعود فسمعته يقول : اللّهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحرٌ فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال : إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله : سوف أستغفر لكم ربّي. عكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (سوف أستغفر لكم ربّي، يقول : حتى يأتي يوم الجمعة). قال وهب : كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاووس : أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء. عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال : طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم، وقول يعقوب (عليه السلام) : سوف أستغفر لكم ربّي. أبو الحسن الملاني الشعبي : قال : سوف أستغفر لكم ربي، قال : أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} روي أنّ يعقوب (عليه السلام) قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف، قال : كيف تركت يوسف؟ قال : إنّه ملك مصر، فقال يعقوب : ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال : على دين الإسلام. فقال يعقوب : الآن تمّت النعمة. وقال الثوري : لمّا التقى يعقوب ويوسف (عليهما السلام) عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف : يا أبة بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال : بلى بُنيّ، ولكن خشيت أن تُسلب دينك، فيُحال بيني وبينك. قالوا : قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازاً ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلمّا دنا من مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا : هذا فرعون مصر؟ قال : لا، هذا إبنك. فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال : السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان، ٩٩فذلك قوله عزّ وجل : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَآءَ اللّه ءَامِنِينَ} . فإن قيل : كيف قال لهم يوسف : ادخلوا مصر إن شاء اللّه آمنين بعدما دخلوها، وقد أخبر اللّه أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا. وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال : سوف أستغفر لكم ربي ومعنى الكلام : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى} إن شاء اللّه {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر آمنين {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم : إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى : {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّه ءَامِنِينَ} وقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عند دخول المقابر : (وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون). فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل : (إنْ) هاهنا بمعنى (إذْ) كقوله تعالى : {وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، وقوله : {وَأَنتُمُ الأعلون إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، وقوله {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} . وقال ابن عباس : إنّما قال : آمنين لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم، وأمّا قوله تعالى {ءَاوَى} فقال ابن إسحاق : أباه وأمّه وقال الآخرون : أبوه وخالته لعيّا، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أُختها لعيا فسمى الخالة أُمّاً كما سمّى العمّ أباً في قوله : {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق} وروى اسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال : نشر اللّه راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقاً للرؤيا. ١٠٠{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن اسحاق يعني رفع اسمهما {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} يعني يعقوب وخالته وإخوته، وكانت تحيّة الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ للّه تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلاّ على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة : فلمّا أتانا بعيد الكرى سجدنا له ورفعنا العمارا وقال آخر : فضول أزمتها لأمّها أسجدت سجود النصارى لأربابها وقيل : السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة : بجمع تضل البلق في حجراته ترى ألاكم فيه سُجّداً للحوافِر أي متطامنة ذليلة. قال (ثعلبة) : خرّوا يعني مرّوا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى : {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} إنّما أراد لم يمرّوا كذلك، مجاهد : بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا للّه سُجّداً فقوله : له كناية عن اللّه تعالى {وَقَالَ} يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده : {هذا تَأْوِيلُ رُءْيَاىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا} ، وهو قوله {إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} . واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي : مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي : أربعون سنة، عبداللّه بن شدّاد : سبعون سنة وقيل : سبع وسبعون سنة، وقال الحسن : أُلقي يوسف في الجُب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه بيعقوب ثلاثاً وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة : مائة وستّ وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار : ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق : ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز : افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوّب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة. {وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ} ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلاّ يذكّر إخوته صنيعهم، وقيل : لأنّ نعمة اللّه عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من اللّه لزلّة كانت منه. {وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ} وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك : بدا، يبدو، بدوّاً، إذا صار بالبادية، {مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ} أفسد {الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ} ذو لُطف وصنع {لِّمَا يَشَآءُ} عالم بدقائق الأمور وحقائقها، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} . روى عبدالصمد عن أبيه عن وهب : قال : دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنساناً ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة. قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعاً وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير : نُقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثَمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعُيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعاً مائة وسبعة وأربعين سنة. قالوا : فلمّا جمع اللّه ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعاً له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لابدّ له من فراقه فأراد نعيماً هو (أدوم) منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنَّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال : ١٠١{رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ} يعني ملك مصر {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ احَادِيثِ} يعني تعبير الرؤيا {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالاْرْض} أي خالقها وبارئها. {أَنتَ وَلِىِّ} مُعيني {فِى الدُّنُيَا والآخرة} تتولّى أمري {تَوَفَّنِى} اقبضني إليك {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ} بآبائي النبيين. قيل : فتوفّاه اللّه طيّباً طاهراً بمصر، ودفن في النيل في صندوق رُخام، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلٌّ يُحب أن يُدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلّهم فيه شرعاً واحداً ففعلوا. وروى صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال : إنّ اللّه عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّاً، فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا : بلى، قال : فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد. قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حرّكوه، والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البريّة، فقال : ما لكم يا بَنيَّ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منّا إليك، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا : بلى، وقالوا : أفلستما قد عفوتما، قالا : بلى، قالوا : فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان اللّه لم يعفُ عنّا، قال : فما تُريدون يا بَني؟ قالوا : نُريد أن تدعو اللّه فإذا جاء الوحي من عند اللّه بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا، وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبداً، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة. قال صالح المرّي : يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال : إنّ اللّه تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك، فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة، وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك. ١٠٢{ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} والخطاب لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجُب، {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بيوسف، ١٠٣{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ} على إيمانهم ١٠٤{بِمُؤْمِنِين وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْه} أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى اللّه {مِنْ أَجْرٍ} : جعل وجزاء {إِنْ هُوَ} يعني القرآن والوحي {إِلا ذِكْرٌ} : عِظة وتذكير ١٠٥{لِلْعَالَمِين وَكَأَيِّن مِنْ آيَة} وكم قول فيه عِظة وعبرة ودلالة {فِي السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون} لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها. الحرث بن قدّامة عن عكرمة أنّه قرأ : والأرضُ يمرون عليها رفعاً، عن محمّد بن عمر قال : سمعت عمرو بن وائل يقرأ : {وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ} قطعاً، {والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} رفعاً، أبو حمزة الثمالي عن السدي : أنّه قرأ والأرضَ يمرون عليها نصباً، وقرأ : يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال : حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدّثنا سفيان قال : وقرأ عبداللّه : {وكأيّن من آية في السماوات والأض يمشون عليها} . ١٠٦{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} عكرمة في قول اللّه تعالى : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} قال : من إيمانهم إذا سُئِلوا : من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : اللّه، وإذا سُئِلوا مَن نزّل القطر؟ قالوا : اللّه، ثمّ هُم يُشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} قالا : يؤمنون باللّه أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون مَن دونه، وهذا قول أكثر المفسّرين. وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيّك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي : فأجب يا اللّه لولا أن بكراً دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجاً يأتونك، وكانت تلبية حرمهم : خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديماً عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش : (اللّهمّ لبيّك، لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا : نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني (على الطريق الناجي نحن نعادي) جئنا إليك حادي. فأنزل اللّه {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ} يعني في التلبية. وقال : لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا : فإنّا نؤمن باللّه الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكاً، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. عطاء : هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى : {وَظَنُّوا أَنّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُااللّه مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدين} وقوله تعالى : {وإذا غشيهم موج كالظلّ دعوا اللّه مخلصين له الدين} وقوله : {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ} وقوله : {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} . وقال بعض أهل المعاني : معناه وما يؤمن أكثرهم باللّه إلاّ وهم مشركون قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا} يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشاً. وقال وهب : هذه في وقعة الدُخَان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا : ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله : {إِنَّكُمْ عَآدُونَ} والعود لا يكون، ١٠٧إلاّ بعد ابتداء واللّه أعلم {أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّه} قال ابن عباس : مُجللة، مجاهد : عذاب يغشاهم، نظيره قوله : {يَوْمَ يَغْشَ اهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} : قتادة : وقيعة، الضحّاك : يعني الصواعق والقوارع {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} القيامة {بَغْتَةً} فجأة، {وَهُمْ يَشْعُرُونَ} بقيامها، ابن عباس : تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم. ١٠٨{قُلْ} لهُم يا محمّد {هَذِهِ} الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها {سَبِيلِى} سُنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع : دعوتي، الضحّاك : دعائي، مقاتل : ديني، نظيره قوله تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي دينه، {أَدْعُوا إِلَى اللّه عَلَى بَصِيرَةٍ} على يقين، يقال : فلان مستبصر في كذا أي مستيقن {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى} آمن بي وصدّقني فهو أيضاً يدعو إلى اللّه، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال : أحقّ واللّه على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي اللّه. وقيل : معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول : كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضاً، قال ابن عباس : يعني أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. {وَسُبْحَانَ اللّه} أي وقل : سبحان اللّه تنزيهاً له عمّا أشركوا ١٠٩{وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك} : يا محمّد {إِلا رِجَا} لا ملائكة، {نُّوحِى إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك {فِى الأرض فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أخبر بأمر الأُمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا} يقول جلّ ثناؤه : هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن نُنْجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خيرٌ، فترك ما ذكرنا، آنفاً لدلالة الكلام عليه، وأُضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى : {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} وقولهم : عامٌ الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر : وقال الشاعر : ولو أقوتُ عليك ديارعبس عرفت الذلّ عرفان اليقين يعني عرفاناً. {أفلا يعقلون} يؤمنون ١١٠{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} اختلف القُرّاء في قوله : {كُذِبُوا} فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبداللّه بن مسلم وابن يسار، واختارها الكسائي وأبي عبيدة. وروي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه قرأ {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} مخفّفة وهي قراءة عائشة و (هرقل) الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبداللّه بن كثير وعبداللّه بن الحارث وأبي رجاء والحسن. وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويتْ أيضاً عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب. وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري : قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال : فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبداللّه كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم. قال : فقال الضحّاك : ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا. وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى : {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّه} الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر : فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب سراتهم في الفارسيّ المسُردِ أي أيقّنوا. وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر {جائَهُم نَصْرُنا} وهذا معنى قول عائشة. وقرأ مجاهد {كُذِبُوا} بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان : أحدهما : حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا، والثاني : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على اللّه بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، واللّه أعلم. {فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ} عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله فنُجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ : فنجّي بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم يُسمَّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعاً، وعلى قراءة الباقين نصباً. ١١١{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} أي في خبر يوسف وأخوته {عِبْرَةٌ} عِظة {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} يعني القرآن {حَدِيثًا يُفْتَرَى} يُختلق {وَلَاكِن تَصْدِيقَ} يعني ولكن كان تصديق {الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما قبله من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ} ممّا يحتاج إليه العباد {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . |
﴿ ٠ ﴾