٥٤

قال : {ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أجعله خالصاً لي دون غيره،

فلمّا جاء الرسول يوسف قال له : أجب الملك،

الآن،

فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال : اللّهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار،

فهم أعلم الناس بالأخبار في كّل بلدة،

فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن : (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء)،

ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن،

ولبس ثياباً جدداً حساناً،

وقصد الملك.

قال وهب : فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دُنياي،

وحسبي ربّي من خلقه،

عزّ جاره،

وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.

ثمّ دخل الدار،

فلمّا دخل على الملك قال : اللّهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره،

وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره،

فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية،

فقال له : الملك،

ما هذا اللسان؟

قال : لسان عمّي اسماعيل،

ثمّ دعا له بالعبرانية،

فقال له الملك : ما هذا اللسان؟

قال : لسان آبائي.

قال وهب : وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً،

فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان،

فأجابه الملك،

فأعجب الملك ما رأى منه،

وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة،

فلمّا رأى الملك حداثة سنة،

قال لمن عنده : إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة،

ثمّ أجلسه على سريره،

وقال له : إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاهاً،

فقال له يوسف : نعم،

أيّها الملك،

رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان،

كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبناً،

فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبساً،

فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شُعث غُبر مقلّصات البطون،

ليس لهُنّ ضروع ولا أخلاف،

ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع،

فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع،

فأكلن لحومهنّ ومزّقنَ جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ.

فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أُخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء،

فبينا أنتَ تقول في نفسك : أنّى هذا؟

هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد،

وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرنَ سوداً متغيّرات.

فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعوراً،

فقال الملك : واللّه ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك،

فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟

فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام،

وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني (الأهواء) والخزائن،

فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب،

وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها،

وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك،

ويجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قبلك،

فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه و (يبيعه) ويكفي الشغل فيه؟

﴿ ٥٤