سورة إبراهيم

(عليه السلام)

كلها مكية غير آيتين وهما قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} . إلى قوله : {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} نزلتا في قتلى بدر وأُسرائهم،

(مكية) وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في إثنتين وخمسون آية.

أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محممد بن الحسن المقري غير مرة قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد اللّه بن محمد قالا : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك،

أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني،

عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أبي بن كعب،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة إبراهيم والحجر أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

{الر} ابتدأ {كِتَابٌ} خبره وإن قلت هذا كتاب {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يا محمد يعني القرآن {لِتُخْرِجَ النَّاسَ} لتدعوهم (إليه) {مِنَ الظُّلُمَاتِ} الضلالة والجهالة {إِلَى النُّورِ} العلم والإيمان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم

٢

{إلى صراط العزيز الحميد اللّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض} .

قرأ أهل المدينة والشام : اللّه،

برفع الهاء على الاستئناف وخبره : (الذي) وقرأ الآخرون : بالخفض نعتاً للعزيز الحميد.

وقال أبو عمر : بالخفض على التقديم والتأخير،

مجازه : إلى صراط اللّه العزيز الحميد اللّه الذي له ما في السماوات وما في الأرض. كقول القائل مررت بالظريف عبد اللّه

لو كنت ذانبل وذا شريب

ماخفت شدات الخبيث الذيب

وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الحميد رفع قوله {اللّه} وإذا وصل خفض على النعت

٣

{وويل للكافرين من عذاب شديد الذين يستحبون} يختارون الحياة الدنيا {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه} ويضربون ويميلون الناس عن دين اللّه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} ويطلبونها زيغاً وقيلا،

والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائماً.

والعوج بفتح العين في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما

٤

{أُولئك في ضلال بعيد وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه} بلغتهم ليفهموا لبنية،

٥

بيانه قوله {ليبين لهم فيضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور} بالدعوة {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّ امِ اللّه} .

قال ابن عباس وأُبي بن كعب ومجاهد وقتادة : بنعم اللّه.

قال مقاتل : بوقائع اللّه في الأُمم السالفة وما كان في أيام اللّه الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنها كانت معلومة عندهم.

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .

٦

قال أهل المعاني : أراد لكل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} .

قال الفراء : العلّة الجالبة لهذه الواو إن اللّه تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله ويذبحون ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) أي دعوا شبانهم أحياء

٧-٨

{وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم وإذ تأذن ربكم} أي أعلم ودليله قراءة عبد اللّه بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد.

{لَ ن شَكَرْتُمْ} نعمتي وآمنتم وأطعتم {زِيدَنَّكُمْ} في النعمة قال ابن عيينة : الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن،

وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود.

{وَلَ ن كَفَرْتُمْ} نعمتي فصددتموها ولم تشكروها.

{إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ} إلى قوله {فَإِنَّ اللّه لَغَنِىٌّ} عن خلقه {حَمِيدٌ} محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل.

٩

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ يَعْلَمُهُمْ إِلا اللّه} يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود.

وكان ابن مسعود يقرأها : {وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ يَعْلَمُهُمْ إِلا اللّه} ثم يقول كذب النسابون {جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ} .

قال ابن مسعود : يعني عضوا على أيديهم غيظاً.

قال ابن زيد وقرأ : {عَضُّوا عَلَيْكُمُ انَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .

ابن عباس : لما سمعوا كتاب اللّه عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم.

مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به.

الأخفش وأبو عبيدة : أي تركوا ما أُمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا.

تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت : قد ردّ يده في فيه.

قال القيسي : إنا لم نسمع واحداً من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفاً وغيظاً.

كقول الشاعر :

تردون في فيه غش الحسود

يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر

وقال الهذلي :

قد أفنى أنامله أزمة

فأضحى يعض على الوظيفا

الوظيف يعني الذراع والساق،

واختار النحاس هذا القول؛ لقوله تعالى {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ انَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} .

وأنشد

لو أن سلمى أبصرت تخددي

ودقة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عودي

عضت من الوجد بأطراف اليد

قال الكلبي : يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم؛ إشارة إلى الرسل إن اسكتوا.

مقاتل : فردوا أيديهم على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك {وَقَالُوا} يعني الأُمم للرسل،

{إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موجب الريبة موقع للتهمة

١٠

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ} إلى قوله تعالى {مِّن ذُنُوبِكُمْ} من تعجله {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب {قَالُوا} الرسل {إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ} أي بينة على صحة دعواكم،

والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ} فصحة قوله {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَان} بهذا وقوله : {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} .

١١

{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللّه يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة والحكمة إلى قوله

١٢

{وَقَدْ هَدَ انَا سُبُلَنَا} بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة،

{وَلَنَصْبِرَنَّ} اللام للقسم مجازه لنصبرن

١٣

{على ما آذيتمونا وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون وقال الذين كفروا} إلى قوله تعالى {فِى مِلَّتِنَا} يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا

١٤

{فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} أي من بعد هلاكهم { ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} أي مقامه وقيامه بين يدي،

فأضاف قيام العبد إلى نفسه،

كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك،

وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال اللّه {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له،

مثاله قوله {أفمن هو قائم على كل نفس بماكسبت}.

وقال الأخفش : ذلك لمن خاف مقامي أي عذابي.

١٥

{وخاف وعيد واستفتحوا} واستنصروا اللّه عليها.

قال ابن عباس ومقاتل : يعني الأُمم،

وذلك أنهم قالوا : اللّهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا،

نظيره قوله تعالى {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وقالوا {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية.

وقال مجاهد وقتادة : يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب.

بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .

مجاهد : معاند للحق ويجانبه.

وقال إبراهيم : الناكب عن الحق.

ابن عباس : المعرض.

وقتادة : العنيد الذي لا يقول لا إله إلاّ اللّه.

مقاتل : المستكبر.

ابن كيسان : الشامخ بالحق.

ابن زيد : المخالف للحق.

والعرب تقول : شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره،

المريد العاصي،

ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه.

وقال أهل المعاني : المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية.

قال الشاعر :

إذا نزلت فاجعلوني وسطا

إني كبير لا أطيق العندا

١٦

{مِّن وَرَآهِ جَهَنَّمُ} يعني أمامه وقدامه كما يقال : إن الموت من ورائك. قال اللّه {وكان ورائهم ملك} .

قال الشاعر :

أتوعدني وراء بني رياح

كذبت لتقصرن يداك دوني

أي قدامهم.

أبو عبيدة : من الأضداد.

وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأيتك

وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه.

وقال الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات؛ لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك.

مقاتل : من ورائه جهنم يعني بعده.

وكان أُستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول : الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو (....)،

{وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ} ثم بين ذلك لنا فقال صديد وهو القيح والدم.

قتادة : هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه.

محمد بن كعب والربيع بن أنس : هو غسالة أهل النار وذلك مايسيل من ابن الزنا يسقى الكافر

١٧

{يَتَجَرَّعُهُ} يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يرها.

قال ابن عباس : لم يحبوه،

وقيل لا يحبّونه.

وروى أبو أُمامة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فأذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره. يقول اللّه {وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} وقال {يَشْوِى الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.

وقال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة في جسده.

الضحاك : حتى من إبهام رجله.

الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتاً.

{وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ولا يخرج نفسه فيستريح.

وقال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة،

نظيره قوله {يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} {وَمِن وَرَآهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} شديد.

١٨

{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} اختلفت النحاة في رفع مثل،

قال الفراء : أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال؛ لأن العرب تقدم الأسماء؛ لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه،

ومجاز الآية {مثل الذين كفروا بربهم كرماد} ،

قوله : {الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ} أي أحسن خلق كل شيء وقوله {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللّه وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودّة سيئة،

في الآية إضمار معناها ولا يمنّ عليك مثل الذين كفروا بربهم،

ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال : أعمالهم {كَرَمَادٍ} وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح؛ لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار؛ لأن البرد والحر يكونان فيه،

وليل نائم ونهار صائم. قال اللّه {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} ويدلّ عليه الليل والنهار.

قال الشاعر :

يومين غيمين ويوماً شمساً

وقال الفراء : إن شئت قلت : في يوم في عصوف وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح،

تحذف الريح؛ لأنها قد ذكرت قبل ذلك.

كقول الشاعر :

إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف

أراد كاسف الشمس.

وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه،

وهذا مثل ضربه اللّه لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا؛ لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله {لا يَقْدِرُونَ} يعني الكفار {مِمَّا كَسَبُوا} في الدنيا {عَلَى شَىْءٍ} في الآخرة

١٩

{ذلك هو الضلال البعيد ألم تر أن اللّه خلق السماوات والأرض} .

قرأ أهل الكوفة إلاّ عامر : خالق السماوات والأرض على التعظيم.

وقرأ الآخرون : خلق السماوات على الفصل

{بِالْحَقِّ} قال المفسرون : لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم.

{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم،

٢٠

{وَمَا ذلك عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ} منيع متعذر

٢١

{وَبَرَزُوا للّه جَمِيعًا} خرجوا من قبورهم وظهروا للّه جميعاً،

الاستقبال {فَقَالَ الضُّعَفَاؤُا} يعني الأتباع {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} يعني المتبوعين من القادة {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} جمع تابع مثل حارس وحرس،

وقيل : راصد ورصد ونافر ونفر،

ويجوز أن يكون تبع مصدراً سمي به أي كنا ذوي تبع.

{فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّه مِن شَىْءٍ} أي هل أنتم ودافعون عذاب اللّه عنا،

قال المتبوعين {قَالُوا لَوْ هَدَ انَا اللّه} إلى قوله {مِن مَّحِيصٍ} مهرب ولا منجى،

ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم.

يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً.

قال مقاتل : إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع. يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون

٢٢

{سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان} يعني إبليس {لَمَّا قُضِىَ امْرُ} فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

قال مقاتل : يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة {إِنَّ اللّه وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} يوفى لكم {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} ولاية ومملكة وحجة وبصيرة {إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ} هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم {فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلا تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان {مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} بمعينكم {وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ} بمغنيّ وبمغيثي.

قرأه العامة : بمصرخي بفتح الياء.

وقرأ الأعمش وحمزة : بكسر الياء،

والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأُدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة،

فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر؛ لأن الياء أُخت الكسرة {إني كفرت بما أشركتمون به من قبل} أي لا يمكن أن أكون شريكاً للّه فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك {إِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

روى عتبة بن عامر عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في حديث الشفاعة قال : يقول عيسى (عليه السلام) : ذلكم النبي الأُمي فيأتونني فيأذن اللّه لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي.

ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟

فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنافإنك أضللتنا قال : فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك {إن اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتم فأخلفتكم}.

٢٣

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} إلى قوله {فِيهَا سَلَامٌ} يسلم اللّه ويسلم الملائكة عليهم {أَلَمْ تَرَ} يا محمد يعني فإن اللّه يعلم بإعلامي إياك {كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً} يعني ما بين اللّه شبهها {كَلِمَةً طَيِّبَةً} شهادة أن لا إله إلاّ اللّه {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} وهي النخلة يدل عليه حديث عتيب الحجاب قال : كان أبو العالية أميني فأتاني يوماً في منزلي بعدما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب.

فقال أنس : كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال اللّه في كتابه

٢٤

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّه مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً} كشجرة طيبة. ثم قال أنس أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بقناع بُسر،

فقرأ هذه الآية،

ومعنى الآية : كشجرة طيبة الثمرة،

فترك ذكر الثمرة استغناءً بدلالة الطعام عليه.

وقال أبو ظبيان عن ابن عباس : هذه شجرة في الجنة أصلها ثابت في الأرض وفرعها عال في السماء كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص.

وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى اللّه تعالى. قال اللّه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} .

وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ للّه عموداً من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش،

فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً عبده ورسوله اهتز ذلك العمود،

فيقول اللّه عزّ وجلّ : اسكن،

فيقول : كيف أسكن؟

ولم تغفر لقائلها فيقول الرب : قد غفرت له فيسكن عند ذلك).

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أكثروا من هز ذلك العمود).

٢٥

{تُؤْتِى أُكُلَهَا} تعطي ثمرها {كُلَّ حِين} اختلفوا في الحين.

فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد : كل سنة.

قال عكرمة : أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحيناً،

ما عندك فيه. قال ابن عباس : فقلت له : لا تقطع يده واحبسه سنة.

إنّ ابن عباس يقول : الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف. فأما الحين الذي لا يعرف {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِين} وأما الذي يعرف {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين} فهو ما بين العام إلى العام المقبل.

فقال : أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت.

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : كل ستة أشهر ما بين عرامها إلى حملها.

وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألاّ يكلم أخاه حيناً فقال : الحين سبعة أشهر،

وقرأ هذه الآية.

فقال سعيد بن المسيب : الحين شهران؛ لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلاّ شهرين.

وقال الربيع بن أنس : كل حين كل غدوة وعشية،

كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره،

وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس.

قال الضحاك : كل ساعة ليلا ونهاراً،

شتاءً وصيفاً يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها.

وقرأ أبو الحكم في تمثيل اللّه الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلاّ بثلاثة أشياء عودراسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلاّ بثلاثة أشياء تصديق بالقلب،

وقول باللسان،

وعمل بالأبدان.

يدل عليه ما روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان).

لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة،

الإيمان أصلها،

والزكاة فرعها،

والصيام عروقها،

والداعي في اللّه نباتها،

وحسن الخلق ورقها،

والكف عن محارم اللّه خضرتها،

فكمالا يكمل هذه الشجرة إلاّ بثمر طيبة،

لايكمل الإيمان إلاّ بالكف عن محارم اللّه).

والحكمة في تشبهها إياه باللحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالانسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها والنخلة إذا قطع رأسها يبست وذهب أصلها؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح؛ لأنها لا تحمل حتى يلقح.

قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة).

ومنه حديث ابن عمر : إنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال ذات يوم لأصحابه : (إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟)

قال : فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (هي النخلة) فذكرت ذلك لأبي فقال : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة؛ لأنها من شجرة آدم.

يروى أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أكرموا عمتكم) فقيل ومن عمتنا يا رسول اللّه؟

قال : (النخلة) وذلك أنّ اللّه تعالى لما خلق آدم فصلت من طينهِ فصلة فخلق منها النخلة قال اللّه : {ويضرب اللّه الأمثال للناس لعلهم يذكرون} ،

٢٦

{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} هي الحنظلة.

قال ابن عباس : هذا مثل ضربه اللّه ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض.

{اجْتُثَّتْ} اقتلعت. قال ابن عباس،

والسدي : استرخت.

الضحاك : استوصلت. المؤرخ : أخذت حيث ما هي يقيناً {مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} يحقق اللّه إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت،

وهو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه {فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَفى الآخرة} يعني في القبر،

وقيل : في الحياة في القبر عند اللّه تعالى وفي الآخرة إذا بعث.

مقاتل : ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث اللّه إليه ملكاً يقال له : رومان فيدخل قبره فيقول له : إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك،

ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة،

فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي اللّه ونبيي محمد وديني الإسلام،

فيقولان له عند اللّه سعيد ثم يقولان : اللّهم فأرضهِ كما أرضاك،

ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التِحَف،

فإذا انصرفا عنه قال له : نَمْ نومة العروس،

فهذا هو التثبيت {وَيُضِلُّ اللّه الظَّالِمِينَ} يعني يلعنهم وذلك أنّ الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له : من ربك وما دينك ومن نبيك؟

قال : لا أدري. قالا له : لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومتّ شقياً،

ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلاّ الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} .

٢٧

روى البراء بن عازب أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذكر قبض روح المؤمن فقال : (فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره،

ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟

فيقول : ربي اللّه وديني الإسلام ونبيي محمد،

وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟

وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته اللّه فيقول ربي اللّه وديني الإسلام ونبيي محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي) فنزل قوله تعالى {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية.

وقال ابن عباس في هذه الآية : إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس،

فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟

فيقول ربي اللّه. فيقال له من رسولك؟

فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟

فيقول أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه فيوسع له في قبره حد بصره،

وذلك قوله يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في جنازة فقال : (يا أيها الناس إنّ هذه الأُمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءهُ ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل؟

فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. فيقول له : صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له : هذا منزلك كان لو كفرت بربك،

فأما إذا آمنت به فإنّ اللّه أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره،

وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟

فيقول : لا أدري،

فيقال له : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : هذا كان منزلك لو آمنت بربك،

فأما إذا كفرت فإنّ اللّه أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق اللّه كلهم إلاّ الثقلين).

قال بعض أصحابه : يا رسول اللّه ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلاّ هِيْل جزعاً لذلك،

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يثبت اللّه الذين آمنوا) الآية.

وقال أبو هريرة : إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة : أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل،

فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل،

فيقال له : اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب،

فيقال له : أخبرنا عما نسألك. فيقول : دعوني حتى أُصلي فيقال إنك ستفعل،

فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني؟

فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه،

فيقول أمحمد؟

فيقال : نعم،

فيقول : أشهد إنه لرسول اللّه قد جاءنا بالبينات من عند اللّه فصدقناه،

فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء اللّه،

ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعاً وينوّر له فيه،

ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : أنظر إلى ما أعد اللّه لك فيها فيزداد غبطة وسروراً،

ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر إلى ما صرف اللّه عنك لو عصيته،

فيزداد غبطة وسروراً،

ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب،

وهي طير (خضر) تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب،

وذلك قوله {يُثَبِّتُ اللّه الَّذِينَ ءَامَنُوا} إلى قوله {وَفِي الآخِرَةِ} .

وعن أبي نافع قال : بينما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (لا هديت لا هديت ثلاثاً).

قال أبو نافع قلت : يا رسول اللّه مالي؟

قال : ليس إياك أُريد،

وإنما أُريد صاحب هذا القبر،

يُسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه.

وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول : سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول : رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام،

فقلت له ما فعل اللّه بك فقال : إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟

وما دينك؟

ومن نبيك؟

فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جريز بن عثمان؟

قلت : نعم. قالا : إنه كان يبغض علياً فأبغضه اللّه.

٢٨

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللّه كُفْرًا} يعني غيّروا نعمة اللّه عليهم في تكذيبهم محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) حين بعثه اللّه منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة اللّه عليهم كفراً {وَأَحَلُّوا} وأنزلوا {قَوْمَهُمْ} ممن تابعهم على كفرهم {دَارَ الْبَوَارِ} الهلاك ثم (ترجم) عن دار البوار ما هي. فقال :

٢٩

{جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} المستقر.

عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب ح يقول في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا} الآية قال : هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر.

قال عمر بن الخطاب (ح) : هما الأفجران من قريش بني أُمية،

فأما بنو أُمية فمتعوا إلى حين،

وأما بنو مخزوم فأُهلكوا يوم بدر.

ابن عباس : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.

٣٠

{وَجَعَلُوا للّه أَندَادًا لِّيُضِلُّوا} قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله،

وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم {قُلْ تَمَتَّعُوا} عيشوا متاع الدنيا.

{فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} وهذا وعيد.

٣١

قوله : {قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاوةَ} . قال الفراء : جزم : يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر.

{وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً } إلى قوله {وَلا خِلَالٌ} مخالة فيقال خلت فلاناً فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة.

قال امرؤ القيس :

صرفت الهوى عنهن من خشية الردى

وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي

٣٢-٣٣

{اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ} إلى قوله {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآبَيْنِ} .

قال ابن عباس : دوؤبهما في طاعة اللّه.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة

٣٤

{وَءَاتَ اكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام على التبعيض كقوله {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} يعني وأُوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً وقيل هو التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس،

وأنت تعني بعضهم نظيره قوله {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ} .

وقال بعض المفسرين : معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه،

وهذه قراءة العامة بالإضافة (.........).

وقرأ الحسن والضحاك وسلام : من كل،

بالتنوين على النفي يعني من كل مالم تسألوه فيكون ما يجد.

قال الضحاك : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها،

صدق اللّه لكم من شيء أعطاناه اللّه ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال.

{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّه تُحْصُوهَآ} لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشكرها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه {كَفَّارٌ} جحود لنعم اللّه،

وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته،

وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع،

كفار في النعمة يجمع ويمنع.

٣٥

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الْبَلَدَ ءَامِنًا}

يعني الحرم مأموناً فيه {وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ} .

{أَن نَّعْبُدَ اصْنَامَ} ويقال جنبته أجنبه جنباً وأجنبته إجناباً بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيباً.

قال الشاعر : وهو أُمية بن الأشكر الليثي :

وتنفض مهده شفقاً عليه

وتجنّبه قلا يصعي الصّعابا

والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور

قال الشاعر :

وهنانة كالزون يجلي ضمه

تضحك عن أشنب عذب ملثمه

وقال إبراهيم التيمي في قصصه : من يأمن من البلاء بعد خليل اللّه إبراهيم (عليه السلام) حين يقول :

٣٦

{واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب انهن أضللن كثيراً من الناس} يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله {الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ} أي يخوفكم بأوليائه.

{فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى} على ديني وملتي {وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

قال السدي : معناه ومن عصاني فتاب.

مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك.

روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا قول إبراهيم (عليه السلام) {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

وقول عيسى (عليه السلام) {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية،

فرفع يداه ثم قال : اللّهم أُمتي اللّهم أُمتي وبكى،

فقال اللّه : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك،

فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ما قال،

فقال اللّه : يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أُمتك ولا يسؤك.

٣٧

{رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى} إنما أدخل : (من) للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولداً {بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} وهو مكة {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} .

قتادة : المحرم من المسجد محرم اللّه فيه،

والاستخفاف بحقه،

فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عند بيتك وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة،

وقيل معناه عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان.

وقيل عند بيتك المحرم الذي قد مضى في علملك أنه يحدث في هذا البلد.

وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أُم إسماعيل،

وإنّ أول ما أحدثت جّر الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت : إلى من تكلنا،

فجعل لا يرد عليها شيئاً،

فقالت : اللّه أمرك بهذا؟

قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا،

فرجعت ومضى (إبراهيم) حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال : {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} الآية.

قال : ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي،

فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً فلم تسمع شيئاً فانحدرت فلمانزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي،

فنظرت أيُّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً،

فسمعت صوتاً،

فقالت : كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه حتى استيقنت،

فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي،

فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يرحم اللّه أُم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً،

وقال لها الملك : لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان اللّه وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان للّه بيتاً هذا موضعه.

قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال : إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فاذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناكِ والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل،

وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.

{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصلاةَ فَاجْعَلْ أَفْدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى} تفزع وقيل تشتاق {إِلَيْهِمُ} وهذا دعاء منه (عليه السلام) لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام.

قال سعيد بن جبير : ويقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس،

ولكنه قال أفئدة من الناس منهم المسلمون.

وقال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أفئدة من الناس {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه

٣٨

{لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} من جميع أُمورنا.

وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بواد غير ذي زرع {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّه مِن شَىْءٍ فِى الأرض وَلا فِى السَّمَآءِ} .

قال بعضهم : هذه صلة فولد إبراهيم (عليه السلام).

وقال الآخرون : قال اللّه عزّ وجلّ وما يخفى على اللّه وهو قول اللّه عزّ وجلّ

٣٩

{الْحَمْدُ للّه الَّذِى وَهَبَ لِى} أعطاني {عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ} .

قرأ ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.

وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة.

٤٠

{رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى} أيضاً واجعلهم مقيمي الصلاة {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} .

قال المفسرون : أي عبادتي. نظيره قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (الدعاء مخ العبادة) ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى} فسمى الدعاء عبادة.

٤١

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ} إن آمنا وتابا،

وقد أخبر اللّه عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.

{وَلِلْمُؤْمِنِينَ} كلهم.

قال ابن عباس : من أمة محمّد {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني : أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوماً.

٤٢

{وَلا تَحْسَبَنَّ اللّه غَافِ عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} . قال ميمون بن مهران : فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} يمهلهم ويؤخر عذابهم.

وقرأه العامة : بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله {وَلا تَحْسَبَنَّ اللّه} ،

وقرأ الحسن والسّلمي : بالنون.

{لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} أي لاتغمض من هول ماترى في ذلك اليوم قاله الفراء.

٤٣

{مُهْطِعِينَ} قال قتادة : مسرعين. سعيد بن جبير عنه : منطلقين.

عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير : الإهطاع سيلان كعدو الذئب.

مجاهد : مديمي النظر.

الضحاك : شدّة النظر من غير أن يطرف،

وهي رواية العوفي عن ابن عباس،

الكلبي : ناظرين. مقاتل : مقبلين إلى النار.

ابن زيد : المهطع الذي لا يرفع رأسه،

وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع،

يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع.

قال الشاعر :

وبمهطع سرح كأنَّ زمامَهُ

في رأسِ جذع من أراك مشذبِ

وقال آخر :

بمستهطع رسل كأن جديلَهُ

بقدوم رعن من صوام ممنع

وقال آخر :

تعبدني نمرُ بن سعد،

وقد أرى

ونمر بن سعد لي معيع ومهطعُ

{مقنعي رؤوسهم} رافعيها.

قال القتيبي : المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه،

ومنه الإقناع في الصلاة.

قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس.

قال الشماخ

يباكرن العضاه بمقنعات

نواجذهن كالجداالوقيع

يعني برؤوس مرفوعات إليها ليتناولها.

قال الراجز :

أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنما أبصر شيئاً أطمعا

{يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة {وَأَفْدَتُهُمْ هَوَآءٌ} قال ابن عباس : خالية من كل خير.

مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد : منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل،

كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء : إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس.

سعيد بن جبير : تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه.

قتادة : انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها.

الأخفش : جوفاء لا عقول لها.

والعرب تسمي كلّ أجوف نخباً وهواء،

ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء.

قال زهير يصف ناقه :

كان الرجل منها فوق صعل

من الظلمان جؤجؤه هواء

وقال حبان

ألا أبلغ أبا سفيان عنّى

فأنت مجوف نخب هواء

٤٤

{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ} وهو يوم القيامة {فَيَقُولُ} عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع {الَّذِينَ ظَلَمُوا} أشركوا {رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ} أمهلنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيجابون {أو لم تكونوا أقسمتم} حلفتم {مِن قَبْلُ} في دار الدنيا {مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} فيها أي لا يبعثون،

وهو قوله {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يقبل من يموت} ،

٤٥

{وَسَكَنتُمْ} في الدنيا {فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم

٤٦

{وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ امْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّه مَكْرُهُمْ وَإِن} أي جزاء مكرهم {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} .

قرأه العامة : بالنون.

وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود : وأُبيّ : وإن كاد مكرهم ما يزال.

{لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} . قرأه العامة : بكسر اللام الأول وفتح الثانية.

وقرأ ابن جريج والكسائي : بفتح الميم الأُولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} ،

أي ما كان مكرهم لتزول.

أمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة؛ لأن اللّه وعده إظهار دينه على الأديان كلّها،

وقيل معناه : كان مكرهم.

قال الحسن : إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال،

وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ} ،

وقوله : {تَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} وقوله : {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} {فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} وقوله {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} ومن فتح اللام الأُولى فعلى استعظام مكرهم.

قال ابن جرير : الاختيار القراءة الأُولى؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب (ح) وغيره قالوا : نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه قال : إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء،

فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر،

وجعل له باباً من أعلى وباباً من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعاً في اللحم حتى بعدن في الهواء.

قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئاً ففتح ونظر،

فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء،

والجبال مثل الدخان،

وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة،

ونودي : أيها الطاغية أين تريد.

قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخاً بدم. فقال : كفيت نفسك إله السماء

واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ.

قال عكرمة : سمكة فدت نفسها للّه من بحر في الهواء معلق.

وقال بعضهم : من طائر من الطيور أصابه السهم.

قالوا : ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} .

٤٧

{فلا يحسبن اللّه مخلف وعده رسله} بالنصر لاؤليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : ولا يحسبن اللّه مخلف رسله وعده؛ لأن الخلف يقع بالوعد.

يقول الشاعر :

ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه

وسائر باد إلى الشمس أجمع

وقال القتيبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم،

وهو قولك يخلف وعده رسله،

ومخلف رسله وعده؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.

{فَلا تَحْسَبَنَّ اللّه مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}

٤٨

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ}

وروى عمرو بن ميمون عن عبد اللّه بن مسعود في هذه الآية قال : البدل عرض كالفضة نبضاً نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئه.

وقال علي (ح) في هذه الآية : الأرض من فضة والسماء من ذهب.

وروى سهل بن سعيد عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد).

فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.

روى خيثمة عن ابن مسعود قال : تبدل الأرض ناراً يصير الأرض كلها يوم القيامة ناراً والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد.

قال كعب : يصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها.

ابن عباس : الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها.

ثم أنشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا بالدار الدار التي كنت أعرف

وتصديق قول ابن عباس،

عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدهامد الأديم العكاظي لا ترى فيهاً عوجاً وأمتا ثم يزجر اللّه الخلق زجرة فإذاهم في الثانية في مثل مواضعهم من الأُولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها).

وقيل : تبدل الأرض غير الأرض بأرض (بيضاء كالفظة).

الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : قلت : يا رسول اللّه أخبرني عن قول اللّه تعالى : {يبدل الأرض غير الأرض} أين يكون الناس يومئذ قال : (على الصراط).

وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال : سأل نفر من اليهود رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟

قال : (هم في الظلمة دون الحشر).

وروى حيكم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال : أتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بر من اليهود فقال : أرأيت إذ يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ} فأين الخلق عند ذلك؟

فقال : أضياف اللّه فلم يعجزهم ما لديه.

{وَبَرَزُوا} ظهروا وخرجوا من قبورهم {للّه الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت

٤٩

{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ} المشركين {يومئذ مُّقَرَّنِينَ} مشدودين بعضهم ببعض،

وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} وهم الشياطين،

فقال ابن زيد : مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال،

واحدها صفد والصفاد أيضاً القيد وجمعه صفد يقال : صفدته صفداً وأصفاداً التكثر،

قلت : صفدته تصفيداً.

قال عمرو بن كلثوم :

فأتوا بالنهاب وبالسبايا

وأبناء الملوك مصفدينا

٥٠-٥٢

{سَرَابِيلُهُم} قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري {مِّن قَطِرَانٍ} وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض.

قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر : {قَطِرَانٍ} بفتح القاف وتسكين الطاء،

وفيه لغة ثالثة قِطران بكسر القاف وجزم الطاء،

ومنه قول أبي النجم :

جون كأن العرق المنتوحا

لبسه القطران والمسوحا

وقرأ عكرمة : برواية زيد : قطران على كلمتين منونتين {قَطِرَانٍ} والقطر النحاس الصفر المذاب. قال اللّه {أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} والآن الذي انتهى خبره قال اللّه تعالى {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} إلى قوله { هَذَآ } أي هذا القرآن {بَلَاغٌ} تبليغ وعظة {لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا} حجج اللّه التي أقامها فيه {إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ} لا شريك له {وليذكر أُولو الألباب} .

﴿ ٠