سورة النحلمكية، إلى قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة وسبعة أحرف، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثمان وعشرون آية أبو أُمامة الباهلي عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه اللّه بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{أَتَى أَمْرُ اللّه} أي جاء فدنا، واختلفوا في هذا الأمر ما هو. فقال قوم : هو الساعة. قال ابن عبّاس : لما أنزل اللّه تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم (أن) يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ماهو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا : ما نرى شيئاً، فأنزل اللّه تعالى : {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية. فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فلما إمتدت الأيام قالوا : يا محمّد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به فأنزل اللّه {أَتَى أَمْرُ اللّه} فوثب النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ورفع الناس رؤوسهم فنزلت {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني). وقال ابن عبّاس : كان بعث النبي (صلى اللّه عليه وسلم) من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مرَّ بأهل السماوات مبعوثاً إلى محمد (صلى اللّه عليه وسلم) قالوا : اللّه أكبر قد قامت الساعة. قال الآخرون : الأمر هاهنا العذاب بالسيف، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال : {اللّهمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية يستعجل العذاب، فأنزل اللّه هذه الآية، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبراً. وقال الضحاك : {أَمْرُ اللّه} : الأحكام والحدود والفرائض. والقول الأوّل أولى بالصواب؛ لأنه لم يبلغنا أن أحداً من الصحابة مستعجل بفريضة اللّه قبل أن تفرض عليهم، وأمّا مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيراً. ٢{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ المَلائِكَة}. قرأه العامّة : بضم الياء وكسر الزاي المشدد، الملائكة نصب. وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل اللّه. وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد : ينزل بفتح الياء والزاي، الملائكة رفع. وقرأ الأعمش : ينزل بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول، والملائكة رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة. {بِالرُّوحِ} بالوحي سمّاه روحاً، لأنه تحيا به القلوب والحق، ويموت به الكفر والباطل. وقال عطاء : بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره. قتادة : بالرحمة. أبو عبيدة : {بِالرُّوحِ} ، يعني : مع الروح وهو جبرئيل. {مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ} محله نصب بنزع الخافض، ومجازه بأن {أَنذِرُوا} أعلموا، من قولهم : أنذر به أي أعلم {أَنَّهُ} في محل النصب بوقوع الإنذار عليه. ٣-٤{لا إلَهَ إلاَّ أنَا فاتقون خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فَإذَا هُوَ خَصِيم} يجادل بالباطل {مُّبِينٌ} نظيره قوله : {وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} نزلت هذه الآية في أُبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا محمّد أترى اللّه يحيي هذا بعدما قد رمَّ؟ نظيرها قوله : {أو لم يرَّ الانسان انا خلقناه من نطفة} إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضاً. ٥{وَالأ نْعَامَ خَلَقَهَا} يعني الإبل والبقر والغنم {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و (لحفاً) وقطن يستدفئون {وَمَنَافِعُ} بالنسل والدرّ والركوب والحمل وغيرها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يعني لحومها ٦{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} أي حين يردّونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها. يقال : أراح فلان ماشيته يريحها أراحة، والمكان الذي يراح إليه : مراح. {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها. يقال : سرّح ماشيته يسرّحها سرُحاً وسروحاً إذا أخرجها للرعي، وسرحت الماشية سروحاً إذا رعت. قال قتادة : وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاماً ضروعها طوالاً أسنمتها. ٧{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ} آخر غير بلدكم. عكرمة : البلد مكة. {لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ} أي تكلفتموه {إِلا بِشِقِّ انفُسِ} . قرأه العامّة : بكسر الشين، ولها معنيان : أحدهما : الجهد والمشقة. والثاني : النصف، يعني لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق النفس من القوة وذهاب شق منها حتّى لم تبلغوه إلاّ بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر. وقرأ أبو جعفر : بشق بفتح الشين. وهما لغتان مثل برَق وبرِق، وحَصن وحصِن، ورَطل ورطِل. وينشد قول النمر بن تولب : بكسر الشين. وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودؤوب ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقاً. {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيّأ لهم هذه المنافع والمرافق. ٨{وَالْخَيْلَ} يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء {وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها. واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية : {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} . قال : هو المركوب، وقرأ التي قبلها : {وَانْعَامَ خَلَقَهَا} الآية، وقال : هذه للأكل. وقال : الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب اللّه، ثمّ قرأ هذه الآيات، وقال : جعل هذه للأكل وهذا للركوب. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء، واحتجوا أيضاً في ذلك بما روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جدّه عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير). وقال الآخرون : لابأس بأكل لحوم الخيل، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء، وإنما عرّف اللّه عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما روى محمّد بن علي عن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال : أطعمنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يعني يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال : كنا نأكل لحوم الخيل، قلت : والبغال؟ قال : لا. هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر (ح) قالت : أكلنا لحم فرس على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : نحر أصحابنا فرساً في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأساً. {وَيَخْلُقُ مَا تَعْلَمُونَ} . قال بعض المفسرين : يعني ما أعدَّ في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أُذن ولا خطر على قلب بشر. قال قتادة : يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه. وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا تَعْلَمُونَ} قال : يريد أن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع. يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله وعظماً إلى عظمته فينتفض فيخرج اللّه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. ٩{وَعَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ} يعني طريق الحق لكم، والقصد : الطريق المستقيم، وقيل على اللّه القصد بكم إلى الدين {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أُنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة. وقال جابر بن عبد اللّه : قصد السبيل يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد اللّه بن المبارك وسهل بن عبد اللّه : {قَصْدُ السَّبِيلِ} السنّة، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله : {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية. وفي مصحف عبد اللّه : ومنكم جائز. {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَ اكُمْ أَجْمَعِينَ} نظيرها قوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وقوله : {وَلَوْ شِئْنَا تَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَ اهَا} . قال قتادة : يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه. وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا تَعْلَمُونَ} قال : يريد أن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع. يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله وعظماً إلى عظمته فينتفض فيخرج اللّه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. {وَعَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ} يعني طريق الحق لكم، والقصد : الطريق المستقيم، وقيل على اللّه القصد بكم إلى الدين {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أُنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة. وقال جابر بن عبد اللّه : قصد السبيل يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد اللّه بن المبارك وسهل بن عبد اللّه : {قَصْدُ السَّبِيلِ} السنّة، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله : {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية. وفي مصحف عبد اللّه : ومنكم جائز. {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَ اكُمْ أَجْمَعِينَ} نظيرها قوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وقوله : {وَلَوْ شِئْنَا تَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَ اهَا} . قال قتادة : يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه. وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : {وَيَخْلُقُ مَا تَعْلَمُونَ} قال : يريد أن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع. يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله وعظماً إلى عظمته فينتفض فيخرج اللّه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. {وَعَلَى اللّه قَصْدُ السَّبِيلِ} يعني طريق الحق لكم، والقصد : الطريق المستقيم، وقيل على اللّه القصد بكم إلى الدين {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أُنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة. وقال جابر بن عبد اللّه : قصد السبيل يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد اللّه بن المبارك وسهل بن عبد اللّه : {قَصْدُ السَّبِيلِ} السنّة، {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله : {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} الآية. وفي مصحف عبد اللّه : ومنكم جائز. {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَ اكُمْ أَجْمَعِينَ} نظيرها قوله : {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا} وقوله : {وَلَوْ شِئْنَا تَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَ اهَا} . ١٠{هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ} أي من ذلك الماء {شَرَابٌ} يشربونه {وَمِنْهُ شَجَرٌ} شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم {فِيهِ} ، في الشجرة وهو اسم (عام)، وإنما ذكَر الكناية، لأنه ردّه إلى لفظ الشجر. {تُسِيمُونَ} ترعون، وننسيكم يقال : أسام فلان إبله يسيمها إسامة، إذا رعاها، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة. قال الشاعر : ومشى القوم بالعماد إلى المرعى وأعيا المسيم اين المساق يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعى (....). قال الشاعر : أولى لك ابن مسيمة الأجمال أي يابن راعية الإبل. ١١{يُنبِتُ لَكُم} . قرأه العامّة بالياء يعني : ينبت لكم. وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون، والأوّل الاختيار. {بِهِ} بالماء الذي أنزل {الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَاعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذلك لآية لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . ١٢{وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ} قرأه العامّة بالنصب نسقاً على ماقبله. وروى حفص عن عاصم، {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ} : بالرفع على الخبر والإبتداء، وقرأ ابن عامر {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتُ} كلها بالرفع على الإبتداء والخبر. {بِأَمْرِهِ} بأذنه ١٣{إنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأ} يعني وسخّر ما ذرأ {لَكُمُ} أي خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها {فِى الأرض مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} نصب على الحال. {إِنَّ فِى ذلك لآية لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . ١٤{وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} يعني السمك {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً} يعني اللؤلؤ والمرجان. روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال : جاء رجل إلى ابن جعفر قال : في حليّ النساء صدقة؟ قال : لا، هي كما قال اللّه : {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} . {تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيه}. قال ابن عبّاس : جواري. سعيد بن جبير : معترضة. قتادة ومقاتل : (تذهب وتجي) مقبلة ومدبرة بريح واحدة. الحسن : مواقر. عكرمة والفراء والأخفش : شقاق يشق الماء بجناحيها. مجاهد : يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلاّ الملك العظيم. أبو عبيدة : سوابح. وأصل المخرّ الدفع والشق، ومنه مخر الأرض، ويقال : امتخرت الريح وتمخّرتها، إذا نظرت من أين مبعوثها، وفي الحديث : (إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح) أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتّى لا يرد عليه البول. {وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ} يعني التجارة ١٥{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يعني لئلاّ تميد بكم، أي تتحرك وتميل، والميل : هو الاضطراب والتكفّؤ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد. قال وهب : لما خلق اللّه الأرض جعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرّة أحداً على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال. وقال علي (ح) : لما خلق اللّه الأرض رفضت وقالت : أي رب أتجعل عليَّ بني آدم يعملون عليَّ الخطيئة ويلقون عليّ الخبث، فأرسى اللّه فيها من الجبال ماترون ومالا ترون. {وَأَنْهَارًا} يعني وجعل فيها أنهاراً {وَسُبُ} طرقاً مختلفة {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ١٦{وَعَلَامَاتٍ} فلا تضلون ولا تتحيرون، يعني معالم الطرق. وقال بعضهم : هاهنا تم الكلام ثمّ ابتدأ. {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . قال محمّد بن كعب القرظي والكلبي : أراد بالعلامات الجبال، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل. وقال مجاهد وإبراهيم : أراد بهما جميعاً النجوم، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به. قال السدي : يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة. قتادة : إنما خلق اللّه النجوم لثلاث أشياء : لتكون زينة للسماء، وعلامات للطريق ورجوماً للشياطين. فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلّف ما لا علم به. ١٧{أَفَمَن يَخْلُقُ} يعني اللّه تعالى {كَمَن لا يَخْلُقُ} يعني الأصنام {أفلا تذكرون} نظيرها قوله تعالى : {هذا خَلْقُ اللّه فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} وقوله عزّ وجلّ : {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرض} ١٨-١٩{وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه تُحْصُوهَآ إِنَّ اللّه لَغَفُورٌ} لما كان منكم من تقصير شكر نعمه {رَّحِيمٌ} بكم حيث وسّع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم. {وَاللّه يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} . ٢٠{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} . قرأه العامّة بالتاء، لأن ما قبله كلّه خطاب. وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء. {لا يَخْلُقُونَ شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ثمّ وصف الأوثان فقال : ٢١{أَمْوَاتٌ} أي هي أموات {غَيْرُ أحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} يعني الأصنام {أَيَّانَ} متى {يُبْعَثُونَ} عَبّر عنها كما عبّر عن الآدميين وقد مضت هذه المسألة، وقيل : ومايدري الكفّار عبدة الأوثان متى يبعثون. ٢٢{الهكُمْ اله وَاحِدٌ فَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} جاحدة غير عارفة {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} متعظّمون ٢٣{جَرَمَ} حقاً {أنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ} ٢٤{وَإذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وعما أنزل عليه قالوا : {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} أحاديثهم وأباطيلهم. ٢٥{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ} ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيصدونهم عن الإيمان {أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} ألا ساء الوزر الذي يحملون، نظيرها قوله تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} الآية. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أيّما داع دعا إلى ضلاله فاتُّبع، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء). ٢٦{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم، وقد مضت هذه القصة. قال ابن عبّاس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعاً. وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر وخرّ عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى : {فَأَتَى اللّه بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر اللّه وهو الريح التي خرّبتها {فَخَرَّ} فسقط {عَلَيْهِمُ السَّقْفُ} يعني أعلى البيوت، {مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَ اهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ} من مأمنهم ٢٧{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يذلّهم بالعذاب. {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} تحالفون فيهم لاينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب. وقرأ العامّة على فتح النون من قوله : {تُشَاقُّونَ} إلاّ نافع فإنه كسرها على الإضافة {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وهم المؤمنون {إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ} العذاب ٢٨{عَلَى الكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ} يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} بالكفر نصب على الحال، أي في حال كفرهم {فَأ لْقَوْا السَّلَم} أي استسلموا وانقادوا وقالوا : {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} شرك، فقالت لهم الملائكة : {بَلَى إِنَّ اللّه عَلِيمُ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال عكرمة : عَنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أُخرج إليها كرهاً. ٢٩{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} عن الإيمان. ٣٠{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه، فيقولون : شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون (ويفرّق الأخوان) ويقولون : إنه لو لم تلقه خير لك، فيقول السائل : أنا شرّ داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمّد أو ألقاه، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث، فذلك قوله تعالى : {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} . فإن قيل : لِمَ ارتفع جواب المشركين في قولهم {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} وانتصب في قوله {خَيْرًا} . فالجواب : أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا : {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} يعني الذي يقوله محمد (صلى اللّه عليه وسلم) أساطير الأولين، والمؤمنين إنما كانوا مقرّين بالتنزيل، فإذا قيل لهم : {مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} يعنون أنزل خيراً. ثمّ ابتدأ فقال : {لِلَّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّ نْيَا حَسَنَةٌ} كرامة من اللّه، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} ثمّ فسرّها فقال : ٣١-٣٢{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} بدل عن النار، فلذلك ارتفع {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي اللّه المتقين الذين تتوفّاهم الملائكة طَيِّبِين} مؤمنين. مجاهد : زاكية أعمالهم وأقوالهم. {يَقُولُونَ} يعني في الآية {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . قال القرظي : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك وليّ اللّه، اللّه يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة. ٣٣{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَاكَةُ} يقبضون أرواحهم. {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ} يعني يوم القيامة، وقيل : العذاب { كذلك فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّه} بتعذيبه إياهم ٣٤{وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة. {وَحَاقَ} نزل {بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} . ٣٥{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللّه مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلا ءَابَآؤُنَا} قل للذين اقتدينا بهم {وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ} يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغيّر ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها. قال اللّه : {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يعني إلاّ عليه، فإنّها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على اللّه. ٣٦{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللّه} يعني بأن اعبدوا اللّه {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وهو كل معبود من دون اللّه {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّه} في دينه {وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ} أي وجبت عليه الضلالة حتّى مات على كفره {فَسِيرُوا فِى الأرض فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك ٣٧{إِن تَحْرِصْ} يا محمّد {عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّه يَهْدِى مَن يُضِلُّ} . قرأ أهل الكوفة : يهدي بفتح الياء وقسموا ذلك، ولها وجهان : أحدهما : إن معناه فإنّ اللّه لا يهدي من أضله اللّه، والآخر : أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، بمعنى من أضله اللّه لا يهتدي يقول العرب : هدى الرجل وهم يريدون اهتدى. وقرأ الباقون : بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله اللّه فلا هادي له، دليله : {مَن يُضْلِلِ اللّه فَلا هَادِيَ لَهُ} . {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} يمنعونهم من عذاب اللّه ٣٨{وَأَقْسَمُوا بِاللّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ يَبْعَثُ اللّه مَن يَمُوتُ} . الربيع عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك تُبعث بعد الموت فأقسم باللّه (لا يبعث اللّه من يموت) فأنزل اللّه هذه الآية. قتادة : ذكر لنا أن رجلاً قال لابن عبّاس : إن ناساً بالعراق يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عبّاس : كذب أولئك، إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان عليّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، قال اللّه رداً عليهم : {بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ} . في الخبر أن اللّه تعالى يقول : كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني، وأمّا تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق، وأمّا شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولداً وأنا اللّه الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد. ٣٩{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} هو مردود إلى قوله : {يَبْعَثُ اللّه مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون ٤٠{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} الآية، يقول اللّه جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك (مما نخلق ونكّون ونُحْدث)، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه {أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق، فذكر أن اللّه عزّ وجلّ أخبر أنه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، فلو كان قوله كن مخلوقاً لاحتاج إلى قول ثان ولا حتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن اللّه خلق الخلق بكلام غير مخلوق. ٤١{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} عُذّبوا وقُتلوا في اللّه، نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فعذّبوهم. وقال قتادة : يعني أصحاب محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم اللّه بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم (أنصاراً من المؤمنين والآية تعم الجميع). {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة. ويروى إن عمر بن الخطاب (ح) كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول : خذ بارك اللّه لك فيه، هذا ما وعدك اللّه في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثمّ تلا هذه الآية. وقال بعض أهل المعاني : مجاز قوله تعالى : {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً} ليحسنّن إليهم في الدنيا. ٤٢{وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا} في اللّه على ما نابهم ٤٣{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا نُوحِي إلَيْهِمْ} الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمّد (صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا : اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشراً فهّلا بعثت إلينا ملكاً. {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن} يعني هم أهل الكتاب ٤٤{إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر} فإن قيل : ما الجالب لهذه الباء؟ قيل : قد اختلفوافي ذلك : فقال بعضهم : هي من صلة أرسلنا و {إِلا} بمعنى غير، مجازه : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة. وهذا كما تقول : ماضرب إلاّ أخوك عمر، وهل كلم إلاّ أخوك زيداً، بمعنى ماضرب عمر غير أخيك، هل كلم زيداً غير أخيك. قال أوس بن حجر : أبني لبيني لستمُ بيد إلا يد ليست لها عضد. يعني غير يده، قال اللّه {لو كان فيهم آلهة إلاّ اللّه لفسدتا} أي غير اللّه. وقال بعضهم : إنما هذا على كلامين، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش : وليس مجيراً إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلاّ هو المتعيّبا يقول : لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر : نبّئتهم عذّبوا بالنار جارهم وهل يعذّب إلاّ اللّه بالنار وتأويل الكلام : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر. ٤٥{وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون أفأمن الذين مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان {أنْ يَخْسِفَ اللّه بِهِمُ الأرْضَ أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } ٤٦{أوْ يَأخُذَهُم} العقاب {فِى تَقَلُّبِهِمْ} تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} مسابقي اللّه ٤٧{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} . قال الضحاك والكلبي : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال سائر المفسرين : التخوّف : التنقّص، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتّى يهلك جميعهم. يقال : تخوّف مال فلان الإنفاق، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه. وقال الهيثم بن عدي : هي لغة لازد شنوءة، وأنشد : تخوّف عدوهم مالي وأهدى سلاسل في الحلوق لها صليل قال سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب (ح) على المنبر فقال : يا أيها الناس ما تقولون في قول اللّه : {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} فسكت الناس، فقام شيخ فقال : يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل، التخوّف : التنقص، فقال عمر : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال : نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي : (يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه). تخوّف السير منها تامكاً قرداً كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر : يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَّحِيمٌ} يعني لم يعجّل العقوبة ٤٨{أوَ لَمْ يَرَوْا} قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش : (تروا) بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء خبراً عن الذين مكروا السيئات وهو اختيار الأئمة. {إِلَى مَا خَلَقَ اللّه مِن شَىْءٍ} يعني من جسم قائم له ظل {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عن اليمين والشمائل سجّداً للّه} . بالتاء أهل البصرة. الباقون بالياء، ومعنى قوله {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} : يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أوّل النهار ثمّ تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، والفي : الرجوع، قال اللّه : {حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللّه} يقال : سجدت النخلة إذا حالت، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل. قتادة والضحاك : أمّا اليمين فأول النهار وأمّا الشمال فآخر النهار، تسجد الضلال للّه غدوة إلى أن تفيء الظلال ثمّ تسجد أيضاً إلى الليل. وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء للّه. وقال عبد اللّه بن عمر : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلاّ وهو يسبح للّه تعالى تلك الساعة) ثمّ قرأ {يَتَفَيَّؤُا} الآية. الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك، فإذا إرتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضللّه هاهنا وهاهنا، وهو سجوده. وأمّا الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال، فهو أنّ من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله : {خَتَمَ اللّه عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} كقوله : {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} . وقال بعضهم : اليمين راجع إلى قوله : {مَا خَلَقَ اللّه} ولفظة من أحد، والشمائل راجعة إلى المعنى وقيل : هذا في الكلام كثير. قال الشاعر : بفي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم لم يقل : بأفواه الشامتين. وقال آخر : الواردون وتيم في ذرا سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس لم يقل : جلود. {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون ٤٩{وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} (وإنما أخبر ب (ما) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث) {مِن دَآبَّةٍ} يدب عليها كل حيوان يموت، كقوله : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلا عَلَى اللّه رِزْقُهَا} وقوله : {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ} . {وَالْمَلَاكَةُ} خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم، وقيل : لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل اللّه لهم أجنحة كما قال تعالى : {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} فالطيران أغلب عليهم من الدبيب، وقيل : أراد للّه يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض. ٥٠{وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} يعني : يخافون (قدرة) ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم، ويدل عليه قوله : {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ما يؤمرون يعني الملائكة، وقيل : معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد (يدل عليه) قوله تعالى : {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وقوله إخباراً عن فرعون : {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} . ٥١-٥٢{وَقَالَ اللّه لا تَتَّخِذُوا الهيْنِ اثْنَيْنِ إنّما هو اله واحد فإيّاي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وَلَهُ الدِّين} الطاعة والإخلاص. {وَاصِبًا} دائماً ثابتاً. وقال ابن عبّاس : واجباً، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير اللّه عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصباً على القطع. قال أبو الأسود الدؤلي : لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوماً بذم الدهر أجمع واصباً أي دائماً. وقال الفراء : ويقال خالصاً. {أفَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ وما بِكُمْ} . قال الفراء : (ما) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر، كأنه قال : وما يكون لكم من نعمة فمن اللّه. {أَفَغَيْرَ اللّه تَتَّقُونَ} (.....) أن لاّ تتقوا سواه ٥٣{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه} لذلك دخلت الفاء في قوله : {فَمِنَ اللّه} . {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْ َرُونَ} يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة. وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتاً شديداً من جوع أو فزع. قال القتيبي يصف بقرة : فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة وكأن النكير أن تضيف وتجأرا ٥٤{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} بعد ما خلصوا له بالدعاء في حال البلاء ٥٥{لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ} كفروا نعمته فيما أعطيناهم من النعماء وكشف الضرّ والبلاء {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهذا وعيد لهم. ٥٦{وَيَجْعَلُونَ لِمَا يَعْلَمُونَ} له نفعاً ولا فيه ضراً ولا نفعاً {نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الأموال وهو ما حملوا لأوثاونهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله {هذا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكَآنَا} . ثمّ رجع من الخبر إلى الخطاب فقال : {وَيَجْعَلُونَ لِمَا} يوم القيامة {عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا ٥٧{وَيَجْعَلُونَ للّه الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} وهم خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات اللّه سبحانه. {وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} يعني البنين، وفي قوله : {مَا} وجهان من الأعراب : أحدهما الرفع على الابتداء، ومعنى الكلام : يجعلون للّه البنات ولهم البنين، والثاني : النصب عطفاً على البنات تقديره : ويجعلون للّه البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون. ٥٨{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِانثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} من الكراهة {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتليء غماً وغيظاً ٥٩{يَتَوَارَى} يخفى ويغيب {مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} من الخزي والعار والحياء ثمّ يتفكر {أَيُمْسِكُهُ} ذكر الكناية لأنه مردود إلى (ما) {عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ} يخفيه {فِى التُّرَابِ} فيئده. وذلك أن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون الإناث أحياء زعموا خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك، ولذلك قال الفرزدق : ومنا الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم يوأد {أَلا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس ما (يجعلون للّه الإناث) ولأنفسهم البنين، نظيره قوله تعالى : {ألكم الذكر وله الأُنثى تلك إذاً قسمة ضيزى}. ٦٠{لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} يعني لهؤلاء الواضعين للّه سبحانه البنات {مَثَلُ السَّوْءِ} احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقراراً على أنفسهم بالهتك لقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أكبر الكبائر أن تدعو للّه ندّاً وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك). {وَللّه الْمَثَلُ الأعلى} الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص. وقال ابن عبّاس : مثل السوء : النار، والمثل الأعلى : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . ٦١{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِم} فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور {مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ} يمهلهم عليه {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً} منتهى آجالهم ساعة وانقضاء أعمارهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} ولا يقال موت قبله ٦٢{وَيَجْعَلُونَ للّه مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم، يعني البنات {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} محل (ان) نصب بدل عن الكذب لأنه بيان وترجمة له. وقرأ ابن عبّاس : والحسنى (الكذب) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة، والكذب : جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى} يعني اليقين ومعنى الآية : ويجعلون له البنات ويزعمون أن لهم البنين. وقال حيان : يعني بالحسنى الجنة في المعاد إن كان محمّد صادقاً في البعث. {جَرَمَ} حقاً، وقال ابن عبّاس : بلى. {أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} في الآخرة {وَأنَّ لَهُمْ مُفْرَطُونَ} منسيون في النار. قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير : مبعدون. مقاتل : متروكون. قتادة : معجلون إلى النار. الفراء : مقدمون على النار. وقرأ نافع : (مفرطون) بكسر الراء مع التخفيف أي مسرفون، وقرأ أبو جعفر : بكسر الراء مع التشديد أي مضيّعون أمر اللّه تعالى. ٦٣{تَاللّه لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} كما أرسلناك إلى هذه الأُمة {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الخبيثة التي كانوا عليها مقيمين {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} ناصرهم ومعينهم وقرينهم ومتولي أمورهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. ٦٤{وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ} من الدين والأحكام {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} عطف الهدى والرحمة على موضع قوله (لتبين) لأن محله نصب ومجاز الكلام : وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ بيانا للناس وهدى ورحمة. ٦٥{وَاللّه أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } يعني المطر {فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} جدوبها ودروسها {إِنَّ فِى ذلك لآية لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} بسمع القلوب ولا بسمع الآذان. ٦٦{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنْعَامِ لَعِبْرَةً} لعظة {نُّسْقِيكُم} . قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون. وقرأ الباقون بضمه. واختاره أبو عبيد قال : لأنه شراب دائم. وحكى عن الكسائي أن العرب تقول : أسقيته نهراً وأسقيته لبناً إذا جعلت له سقياً دائماً، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناه. وقال غيره : هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية : سقى قومي بني مجد وأسقى نميراً والقبائل من هلال فجمع بين اللغتين. {مِّمَّا فِى بُطُونِهِ} ولم يقل بطونها والأنعام جميع، قال المبرد : كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب. إذا رأيت أنجما من الأسد جبهته أو الخراة والكند بال سهيل في الفضيح ففسد وطاب ألبان اللقاح فبرد ولم يقل فبردت لانه رد إلى (اللبن أو الخراة). قال أبو عبيدة والأخفش : النعم يذّكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه. وقال الشاعر يذكره : أكل عام نِعَم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه إن له نخيل فلا يحمونه. وقال الكسائي : ردَّ الكناية إلى المراد في بطون ماذكر. وقال بعضهم : أراد بطون هذا الشيء، كقول اللّه : {فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى} وقوله : {وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} الآية {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} ولم يقل : جاءت. وقال : الصلتان العبدي. إن السماحة والمرؤة ضمّنا قبراً بمرو على الطريق الواضح وقال الآخر : وعفراء أدنى الناس مني مودة وعفراء عني المعرض المتواني وقال الآخر : إذا الناس ناس والبلاد بغبطة وإذ أُم عمّار صديق مساعف كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء. وقال المؤرج : الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونه اللبن، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر. {مِن بَيْنِ فَرْثٍ} وهو ما في الكرش فإذا أُخرج منه لا يسمى فرثاً {وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما {سَآغًا لِّلشَّارِبِينَ} جاهزاً هنيئاً يجرى في الحلق ولا يغص شاربه، وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط. قال ابن عبّاس : إذا أكلت الدابة العلف واستقرّ في كرشها لحينه، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد (فما كان) على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو. ٦٧{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَاعْنَابِ} يعني ذلكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ} الكناية في قوله : {مِنْهُ} عائدة إلى المذكورين. {سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} . قال قوم : السكر : الخمر، والرزق الحسن : الخل والعنب والتمر والزبيب، قالوا : وهذا قول تحريم الخمر، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عبّاس قال : السكر : ماحرم من ثمرتها، والرزق الحسن : ما حل من ثمرتهما. أما السكر فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخلّلون وما تأكلون. قال : ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة. وقال الشعبي : السكر : ما شربت، والرزق الحسن : ما أكلت. وروى العوفي عن ابن عبّاس : أن الحبشة يسمّون الخل السكر. وقال بعضهم : السكر : النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عبّاس، وقيل : هو نبيذ التمر. قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (الخمر ما اتخذ من العنب، والسكر من التمر، والبتع من العسل، والمزر من الذرة (والبيرا) من الحنطة، وأنا أنهاكم عن كل مسكر). وقال أبو عبيدة : السكر : الطعم، يقال : هذا سكر لك، أي طُعم لك. وأنشد : جعلت عيب الأكرمين سكراً ٦٨{إنّ في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل} أي ألقى (على مسامعها) أو قذف في أنفسها ففهمته، والنحل : زنابير العسل، واحدها نحلة {أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يبنون، وقال ابن زيد : هو الكرم. ٦٩{ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ليس معنى الكل العموم وهو كقوله : {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} وقوله : {تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبِّهَا} . {فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ} فأدخلي طرق ربك {ذُلُ} . قال بعضهم : الذلل يعني الطرق، ويقول هي مذللة للنحل. قال مجاهد : (لا يتوعر عليها مكان سلكته). قال آخرون : الذلل نعت (النحل). قال قتادة وغيره : يعني مطيعة منقادة. {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيض وأحمر وأصفر {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} . يروى أن رجلاً أتى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : إن أخي يشتكي بطنه، فقال : (اسقه عسلاً) فذهب ثمّ رجع فقال : سقيته فلم يغن عنه شيئاً. فقال عليه الصلاة والسلام : (إذهب واسقه عسلاً فقد صدق اللّه وكذب بطن أخيك) فسقاه فكأنما نشط من عقال، (رواه) عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري. وقال مجاهد : {فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ} أي في القرآن. والقول الأوّل أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب. روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد اللّه قال : العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء مافي الصدور. الأعمش عن خيثم عن الأسود قال : قال عبد اللّه : عليكم بالشفائين : العسل والقرآن. {إِنَّ فِى ذلك } أي فيما ذكرنا {لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيعتبرون ٧٠{وَاللّه خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} صبياناً وشباباً وكهولاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي أردؤه، يقال منه : (ذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا). قال ابن عبّاس : يعني إلى أسفل العمر. مقاتل : وابن زيد : يعني الهرم. قتادة : أرذل العمر سبعون سنة. وروى الأصبغ بن نباتة عن علي (ح) قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة. {لِكَىْ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً. {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ قَدِيرٌ} نظيرها في سورة الحج. ٧١{وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا} في الرزق {بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من العبيد حتّى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، يقول اللّه جل ثناؤه : فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني. يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين، وهذا مثل ضربه اللّه عزّوجل، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون باللّه خلقه وعباده، فإن لم ترض لنفسك هذا فاللّه أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه. عبد اللّه بن عبّاس : نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا : عيسى ابن اللّه، يقول : لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون (المولى والملوك) في المنال شرعاً سواء فكيف ترضون لي مالا ترضون لانفسكم نظيرها في سورة الروم {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (مثلا تعاينه). قال {أَفَبِنِعْمَةِ اللّه يَجْحَدُونَ} بالاشراك به. قرأ عاصم : بالتاء على الخطاب، لقوله : {وَاللّه خَلَقَكُمْ} {وَاللّه فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . وقرأ الباقون : بالياء لقوله : {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم : لقرب المخبر منه. ٧٢{وَاللّه جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} . ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى : هم الأصهار أختان الرجل على بناته. روى شعبة عن عاصم : بن بهدلة قال : سمعت زر بن حبيش وكان رجلاً غريباً أدرك الجاهلية قال : كنت أمسك على عبد اللّه المصحف فأتى على هذه الآية قال : هل تدري ما الحفدة، قلت : هم حشم الرجل. قال عبد اللّه : لا، ولكنهم الأختان. وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس. وقال عكرمة والحسن والضحاك : هم الخدم. مجاهد وأبو مالك الأنصاري : هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال : من أعانك حفدك. وقال الشاعر : حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهنّ أزمّة الأجمال وقال عطاء : هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه. وقال قتادة : (مهنة يمتهنونكم) ويخدمونكم من أولادكم. الكلبي ومقاتل : البنين : الصغار، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله. مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس : إنهم ولد الولد. ابن زيد : هم بنو المرأة من الزوج الأوّل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس : هم بنو امرأة الرجل الأوّل. وقال العتبي : أصل الحفد : مداركة الخطر والإسراع في المشي. فقيل : لكل من أسرع في الخدمة والعمل : حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر : إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك. وأنشد ابن جرير (للراعي) : كلفت مجهولها نوقاً يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} . قال ابن عبّاس : بالأصنام. {وَاللّه جَعَلَ لَكُم مِّنْ} يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {وَاللّه جَعَلَ} بما أحلّ اللّه لهم {هُمْ يَكْفُرُونَ} يجحدون تحليله. ٧٣{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماوَاتِ} يعني المطر {والأرض} يعني النبات. {شَيْئًا} ، قال الأخفش : هو بدل من الرزق وهو في معنى : ما لا يملكون من الرزق شيئاً قليلاً ولا كثيراً. قال الفراء : نصب (شيئاً) بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه : {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءً وأمواتا} أي يكفت الأحياء والأموات. ومثله قوله تعالى : {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة}. {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} ولا يقدرون على شيء، ٧٤{فَلا تَضْرِبُوا للّه امْثَالَ} يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكاً فإنه واحد لا مثيل له {إِنَّ اللّه يَعْلَمُ} خطأ ما يضربون له من الأمثال {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} صواب ذلك من خطأه. ٧٥ثمّ ضرب اللّه تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل : {ضَرَبَ اللّه مَثَلا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ} هو مثل الكافر رزقه اللّه مالاً فلم يقدّم خيراً ولم (يعمل) فيه بطاعة اللّه تعالى {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} هو مثل المؤمن أعطاه اللّه مالاً فعمل فيه بطاعة اللّه وأنفقه فيما يرضي اللّه سراً وجهراً فأثابه اللّه على ذلك النعيم المقيم في الجنة {هَلْ يَسْتَوُنَ} ولم يقل يستويان لمكان (من) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث، والمذكر، وكذلك قوله : {ويعبدون من دون اللّه مالا يملك لهم رزقا} ثمّ قال : {وَلا يَسْتَطِيعُونَ} بالجمع لأجل (ما) ومعنى الآية : هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى (والسخاء) فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر اللّه والمؤمن المطيع له. روى ابن جريج عن عطاء : {عَبْدًا مَّمْلُوكًا} قال : هو أبو جهل بن هشام {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} أبو بكر الصديق (ح). ثمّ قال : {الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْلَمُونَ} يقول اللّه تعالى : ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون، ماللأوثان عندهم من يد، ولا معروف فيحمد عليه، إنما الحمد هو الكامل للّه خالصاً، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك. ثمّ ضرب مثلاً آخر بنفسه والأصنام فقال : ٧٦{وَضَرَبَ اللّه مَثَلا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ} يرسله {لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} لأنه لا يفهم ما يقال، ولا يفهم عنه. وقال ابن مسعود : أينما توجهه لا يأت بخير، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كَلّ على (عائده) يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يعني اللّه قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم، فإنه لا يأمر بالتوحيد {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . قال الكلبي : يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم، وقيل : هو رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هو على صراط مستقيم. قال الكلبي : يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم. آخر : ومن قال : كل المسلمين المؤمن والكافر، وهي رواية عقبة عن ابن عبّاس. وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبّه عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان (ح) ومولاه. وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام (ويأباه وينهاه عن) الصدقة ويمنعه من النفقة. وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلاً قليل الخير يعادي رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقال عطاء : (الأبكم أبي بن حلف) ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون. ٧٧{وَللّه غَيْبُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أمْرُ السَّاعَة} في قريب كونها وسرعة قيامها {إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} (كالنظر في البصر) ورجع الطرف؛ لأن ذلك هو أن يقال له : كن فيكون، {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} بل هو أقرب {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة إستهزاء منهم. ٧٨{وَاللّه أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} . قرأ الأعمش : {أُمَّهَاتِكُمْ} بكسر الألف والميم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم. وأصل الأمهات : أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت {تَعْلَمُونَ شيئا} هذا كلام تام. ثمّ ابتدأ فقال : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة} لأن اللّه تعالى جعل (لعباده السمع) والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما (أعطاهم العلم) بعد ما أخرجهم منها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه. {وَاللّه أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} . قرأ الأعمش : {أُمَّهَاتِكُمْ} بكسر الألف والميم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم. وأصل الأمهات : أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت {تَعْلَمُونَ شيئا} هذا كلام تام. ثمّ ابتدأ فقال : {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة} لأن اللّه تعالى جعل (لعباده السمع) والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما (أعطاهم العلم) بعد ما أخرجهم منها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمه. ٧٩{أَلَمْ يَرَوْا} . قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء. وقرأ عاصم بضمر التاء. واختاره أبو عبيد لما قبلها. {إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} مذللات {فِى جَوِّ السَّمَآءِ} أي في الهواء بين الأرض والسماء {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الهواء ٨٠{إلاَّ اللّه إنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ وَاللّه جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُم} التي هي من الحجر والمدر {سَكَنًا} مسكناً تسكنونه. قال الفراء : السكن : الدار، والسكن بجزم الكاف : أهل البلد. {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا} يعني الخيام والقباب والأخبية (والفساطيط من الأنطاع) والأدم وغيرها {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} رحلكم وسفركم {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلادكم (لا يثقل) عليكم في الحالتين. واختلف القرّاء في قوله : {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} . فقرأ الكوفيون بجزم العين، وقرأ الباقون : بفتحه. وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه (أشهر) اللغتين وأفصحهما. {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز. والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام. {أَثَاثًا} قال ابن عبّاس : مالا، مجاهد : (متاعاً). حميد بن عبد الرحمن : (أثاثاً يعني) الأثاث : المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع. وقال أبو زيد : واحد الأثاث أثاثة. قال الخليل : أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتّى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأثّ شعر فلان أي إذا كثر والتف. قال أمرؤ القيس : أثيث كقنو النخلة المتعال قال محمّد بن نمير الثقفي في الأثاث : أهاجتك الظعائن يوم بأتوا بذي الزي الجميل من الأثاث {وَمَتَاعًا} (بلاغاً) تنتفعون بها {إِلَى حِينٍ} يعني الموت. وقيل : إلى حين يبلى ويفنى. ٨١{وَاللّه جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَا} تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية {مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كنّ {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} قمصاً من الكتان والقطن والخز والصوف {تَقِيكُمُ} تمنعكم. {الْحَرَّ} . (وقال) أهل المعاني : (أراد) الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله : {إِنَّ عَلَيْنَا للّهدَى} يعني الهدي والإضلال. {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم { كذلك يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة. وروى نوفل بن أبي (عقرب) عن ابن عبّاس أنه قرأ : (يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون) بالفتح، يعني من الجراحات. قال أبو عبيد : الاختيار قراءة العامّة، لأن ما أنعم اللّه علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح. وقال عطاء الخراساني في هذه الآية : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى : {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال. وقال : {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر. الا ترى إلى قوله : {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} وما ينزل من (الثلج) أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه، ألا ترى إلى قوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر. ٨٢-٨٣{فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّه}. قال السدي : يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} يكذبون ويجحدون نبوّته. قال مجاهد : يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، وبمثله قال قتادة. وقال الكلبي : وإن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ذكر هذه النعم لهم فقالوا : نعم هذه كلها من اللّه تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقال عون بن عبد اللّه : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، لولا فلان ما أصبت كذا. {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} الجاحدون. ٨٤{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يعني رسولها {ثُمَّ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في الاعتذار {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يسترضون، يعني لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا (فيتوبون) ٨٥{وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} كفروا {الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} يؤخّرون ٨٦{وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا} يوم القيامة {شُرَكَآءَهُمْ} أوثانهم {قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِك} أرباباً ونعبدهم {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ} أي قالوا لهم، يقال : ألقيت إليك كذا، يعني : قلت لك {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا ٨٧{وَأَلْقَوْا} يعني المشركين {إِلَى اللّه يَوْمَذٍ السَّلَمَ} استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً {وَضَلَّ} زال (........) {عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} من إنها تشفع لهم. ٨٨{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللّه زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} . روى عبد اللّه بن مرة عن مسروق قال : قال عبد اللّه : {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} ، قال : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، ابن عبّاس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار. سعيد بن جبير : حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمّتها أربعين خريفاً. وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار. ويقال : هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم. كما قال اللّه تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} . ويقال : إنه يضاعف لهم العذاب. {بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان ٨٩{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} يعني عليها، وإنما قال : {مِّنْ أَنفُسِهِمْ} لأنه كان يبعث إلى الأُمم أنبياءها منها {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمّد {شَهِيدًا عَلَى هؤلاء} الذين بُعثت إليهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ} يحتاج إليه من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام {وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ، ٩٠{إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يعني بالإنصاف {وَالإحْسَانِ} إلى الناس، الوالبي عن ابن عبّاس : العدل : التوحيد، والإحسان أداء الفرائض. (وقيل : ) العدل : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، والاحسان : الاخلاص فيه. عطاء عنه : العدل : مصطلح الأنداد، والإحسان : أن تعبد اللّه كأنك تراه، مقاتل : العدل : التوحيد، والإحسان : العفو عن الناس، وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. كقوله : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} . {وَإِيتَآىِ ذِى الْقُرْبَى} صلة الرحم {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ} القبيح من الأقوال والأفعال. وقال ابن عبّاس : الزنا. {وَالْمُنْكَرِ} ما لا يُعرف في شريعة ولا سنّة {وَالْبَغْىِ} الفسق والظلم. وقال ابن عيينة : (والعدل في مستوى) السر والعلانية. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته. {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون. قتادة : إن اللّه تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها. وقال ابن مسعود : وأجمع آية في القرآن هذه الآية. شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال : بينما رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بفناء بيته بمكة جالساً إذ مرَّ به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال له رسول اللّه : (ألا تجلس) قال : بلى، فجلس إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مستقبله فبينما هو يحدّثه إذ شخص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتّى وقع على يمينه في الأرض فتحرّف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنّه يستفهم شيئاً يقال له، ثمّ شخص رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتّى توارى في السماء فأقبل إلى عثمان كحالته الأولى، فقال : يا محمّد فيما كنت أُجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة؟ قال : (وما رأيتني فعلت)؟ قال : رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثمّ وضعته على يمينك فتحرّفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئاً يقال لك. فقال : (أو فطنت إلى ذلك)؟ قال : نعم، قال : (أتاني رسول اللّه جبرائيل آنفاً وأنت جالس) قال : نعم : فماذا قال : لك؟ قال : قال : {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَاحْسَانِ} إلى آخره. قال عثمان : فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) . وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قرأ على الوليد بن المغيرة {إِنَّ اللّه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} إلى آخر الآية، قال له : يابن أخ أعد، فأعاد عليه. فقال : إن له واللّه لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثمّ لم يسلم، فأنزل اللّه فيه : {وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى} . ٩١{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّه إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تشديدها (ويحنثوا فيها)، والتوكيد لغة أهل الحجاز، أمّا أهل نجد فإنهم يقولون : أُكّدت تأكيداً {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّه عَلَيْكُمْ كَفِي} بالوفاء {إِنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاماً. فقال بعضهم : نزلت في الذين بايعوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أمرهم اللّه بالوفاء بها. وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حِلف أهل الجاهلية. ثمّ ضرب جلّ ثناؤه مثلاً لنقض العهد، فقال عز من قائل : ٩٢{وَلا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} أي من بعد إبرامه وإحكامه، وكان بعض أهل اللغة يقول : القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن. الكلبي ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار، فإذا إنتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها. وقوله {أَنكَاثًا} يعني أنقاضاً واحدتها نكثة، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبالاً {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَ بَيْنَكُمْ} أي دخلاً وخيانة وخديعة. قال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل. {أَن تَكُونَ} أي لأن تكون {أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى} أكثر وأجلّ {مِنْ أُمَّةٍ} . قال مجاهد : ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّه بِهِ} يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدنيا ٩٣{وَلَوْ شَآءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على ملّة واحدة، {وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم {وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} بتوفيقه إياهم فضلاً منه {وَلَوْ شَآءَ اللّه لَجَعَلَكُمْ} . ٩٤{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَ} خديعة وفساداً {بَيْنَكُمْ} يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثمّ ينقضونها ويختلفون فيها {فَتَزِلَّ قَدَمُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلّت قدميه. كقول الشاعر : سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً وتلطع إن زلت بك القدمان {وَتَذُوقُوا السُّوءَ} العذاب ٩٥{بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللّه ثَمَناً قَلِيلا} يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنما عند اللّه من الثواب لكم على الوفاء بذلك {خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فصل ما بين العوضين ثمّ بين ذلك ٩٦{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّه بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ} بالنون عاصم. الباقون بالياء. {الَّذِينَ صَبَرُوا} على الوفاء في السرّاء والضراء {أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله ٩٧{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً} اختلفوا فيها : فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك : هي الرزق الحلال، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عبّاس. وقال الحسن وعلي وزيد ووهب بن منبّه : هي القناعة والرضا بما قسم اللّه، وهذه رواية عكرمة عن ابن عبّاس. وقال مقاتل بن حيان : يعني أحسن في الطاعة، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك، فقال : من يعمل صالحاً وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة. ومن أعرض عن ذكر اللّه فلم يؤمن ولم يعمل عملاً صالحاً فمعيشة ضنك لا خير فيها. أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة. الوالبي عن ابن عبّاس : هي السعادة، مجاهد وقتادة وابن زيد : هي الجنة، ومثله روي عن الحسن وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلاّ في الجنة. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال أبو صالح : جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان، فقال هؤلاء : نحن أفضل، وقال هؤلاء : نحن أفضل، فأنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآية ٩٨{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ} يعني فإذا كنت قارئاً للقرآن {فَاسْتَعِذْ بِاللّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . قال محمّد بن جرير، وقال الآخرون : مجازه : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ} الآية، أي الطهارة مقدمة على الصلاة، وقوله : و{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق. وأما حكم الآية : فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة، هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ مالكاً، فإنه لا يتعوذ إلاّ في قيام رمضان، واحتج بما روي أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان يفتتح الصلاة بالحمد للّه رب العالمين، وإنما تأويل هذا الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة بالحمد للّه رب العالمين، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر. ويدل على صحة ما قلنا حديث جبير بن مطعم قال : رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يصلّي فقال : (اللّه أكبر كبيراً والحمد للّه وسبحان اللّه بكرة وأصيلاً، أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة). وقال ابن مسعود : نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى. واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة : فقال أكثرهم : قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور. وقال أبو هريرة : يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي. وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان : يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينّا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ماروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) ثمّ يقرأ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي : يقولها في أول الركعة، وقيل : إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء. وقال ابن سيرين : يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأوّل، لأن المروي في الأخبار أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ما كان يتعوّذ إلاّ في الأولى، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة : فقال الشافعي في (الأم) : روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعاً صوته : ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه. قال الشافعي : فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها. قال الثعلبي : والاختيار الاخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن. فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرآت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر الخزاعي، فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد اللّه أبي حامد الزنجاني فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمّد بن عبد اللّه بن بسطام فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد اللّه بن مسعود فقلت : أعوذ بالسميع العليم، فقال لي : قل أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقلت : أعوذ باللّه السميع العليم، فقال لي : (يا ابن أم عبد قل : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ). قال ابن عجلان : وهكذا علمني أخي أحمد، وقال : هكذا علمني أخي، وقال : هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال : هكذا علمني سفيان الثوري. ٩٩{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} حجة وولاية {عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . قال سفيان : ليس له سلطان أن يحملهم على ذنب لا يغفر. ١٠٠{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} يطيعونه {وَالَّذِينَ هُم بِهِ} أي باللّه {مُشْرِكُونَ} . وقال بعضهم : الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام : الذين يسمعون قوله مشركون باللّه، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالماً، أي من أجلك وبسببك عالماً. ١٠١{وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ} يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر، {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه {قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ} يا محمّد {مُفْتَر} وذلك أن المشركين قالوا : إن محمداً يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويأمّرهم غداً ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه. قال اللّه : {بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْلَمُونَ} حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام ١٠٢{قُلْ نَزَّلَهُ} يعني القرآن {رُوحُ الْقُدُسِ} جبرئيل {مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا} تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم (......) تصديقاً ويقيناً ١٠٣{وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} آدمي وما هو من عند اللّه، واختلف العلماء في هذا البشر من هو : قال ابن عبّاس : كان قيناً بمكة اسمه بلعام وكان نصرانياً يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يدخل عليه ويخرج منه فقالوا : إنما يعلمه بلعام، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال عكرمة وقتادة : كان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يقرّي غلاماً لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، (فقالوا) : إنما يعلمه يعيش فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال ابن إسحاق : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له : خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب. وقال المشركون : واللّه ما يعلم محمداً كثيراً ما يأتي به إلاّ خير النصراني، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وقال طلحة بن عمر : بلغني أن خديجة خ كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول : إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة، تعلّم محمّداً فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. قال عبيد اللّه بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل (عين التمر) يقال لأحدهما يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مرَّ بهما النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وهما يقرآن فيقف فيسمع. وقال الضحاك : وكان النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون : إنما يتعلم محمّد منهما، فنزلت هذه الآية. وقال السدي : كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال الكفار : إنما يتعلم محمّد منه، فنزلت هذه الآية. وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك : {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} قال : كانوا يقولون : إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي؛ لأن سلمان إنما أتى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالمدينة وهذه الآية مكية. قال اللّه تكذيباً لهم (وإلزاماً) للحجة عليهم : {لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء؛ لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد اللّه كذلك. {أَعْجَمِىٌّ} والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والإعرابي : أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلاً بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً. والإعرابي : البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً. {وَهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} فصيح، وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة واللغة : لسان، كقول الشاعر : لسان السوء تهديها إلينا وحنت ما حسبتك أن تحينا يعني باللسان القصيدة والكلمة. ١٠٤{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِآيَاتِ اللّه يَهْدِيهِمُ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثمّ إن اللّه تعالى بعدما أخبر عن إغراء المشركين على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فيما نسبوه إليه من الافتراء على اللّه وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل : ١٠٥{إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِآيَاتِ اللّه وَأُولَاكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} لا محمدا. روى يعلي بن الأشدق عن عبد اللّه بن حماد قال : قلت يارسول اللّه المؤمن يزني؟ قال : (يكون ذلك). قال : قلت : يارسول اللّه المؤمن يسرق؟ قال : (قد يكون ذلك). قال : قلت : يارسول اللّه المؤمن يكذب؟ قال : (لا، قال اللّه {إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون باللّه}). وروى (سهيل) بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول : إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. ١٠٦{مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ} إختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (من كفر) ومن يؤله ولكن من شرح بالكفر صدراً. فقال نحاة الكوفة : جوابهما جميعاً في قوله : {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} إنمّا هذان جزءان إن إجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه. وقال أهل البصرة : بل قوله (من كفر) مرفوع بالرد على الذي في قوله {إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَِآيَاتِ اللّه } ومعنى الكلام : إنما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه، ثمّ استثنى فقال {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَ نُّ بِالإيمان} . قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأُمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل : لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام رحمة اللّه ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً. قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عماراً وغطوه في بئر مصون وقالوا له : أكفر بمحمد (ولم يتعمد) ذلك وقلبه كان مطمئناً فأُخبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بأن عماراً كفر. فقال : (كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه وإختلط الايمان بلحمه ودمه). فأتى عمار رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وهو يبكي، فجعل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يمسح عينيه، وقال : (مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت). فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد : إن هاجروا إلينا فإنا (لا نرى أنكم) منّا حتّى تهاجروا الينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين. وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال : تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين (وألجأ يضربه) أن يكون بلغ مابلغ أصحابه هذه (الفعلة) وكان قدم مهاجراً وكان براً بأُمه، فحلفت أن لا تأكل خبزاً ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها إبنها قال : فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأُمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل : أُمك (لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست) ما أستظلت، فقال ابنها : بلى القاها ثمّ أرجع. فقال : أما إذا أتيت فلا (تعطين راحلتك) أحداً، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحداً فإنطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل : لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا. وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثمّ انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية {مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ} . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالايمان، وأسلم مولى جبر وحسُن إسلامه وهاجر خير مع سيده. {وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي فتح صدراً وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان. حكم الآية إتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في اللّه فهو أفضل له. وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه : فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الاكراه على النذور والايمان (والرجعة) ونحوها، رأوا ذلك (جائزاً) ورووا في ذلك أحاديثاً واهية الأسانيد. وأما مالك والأوزاعي والشافعي : فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا : لما وجدنا اللّه سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس (وراءه) في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر. وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد اللّه بن عمرو وعبد اللّه بن عبّاس وعبد اللّه بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي في هذه المقالة مذهب ثالث : وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الاكراه من غير السلطان. ١٠٧-١١٠{ذَلِكَ بِأنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا} إلى قوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا} أي (طردوا) ومنعوا من الاسلام (ففتنهم) المشركون {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} على الايمان والهجرة والجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد تلك الفتنة (والفعلة) {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد اللّه بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية. وقال الحسن وعكرمة : نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي (صلى اللّه عليه وسلم) فاستزّله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأُمه فأجاره رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثمّ أسلم وحسن إسلامه، فأنزل اللّه تعالى فيهم هذه الآية. وأما قوله (فتنوا) فقرأ عبد اللّه بن عامر : (فتنوا) بفتح الفاء والتاء، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهدوا وصبروا فأخبر بالفعل عنهم. وقرأ الباقون : بضم الفاء وكسر التاء، اعتباراً بما قبله إلا من أُكره. ١١١{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير وشر (مشتغلاً بها لا تتفرّغ) إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ يُظْلَمُونَ} . روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال : قال عمر بن الخطاب (ح) لكعب الأحبار : ياكعب خوّفنا وحدّثنا حديثاً (تنبهنا به) قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو (وافيت) القيامة بمثل عمل سبعين نقيباً، لأُتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلاّ نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثياً على (ركبتيه) حتّى إن إبراهيم ليدلي (بالخلة) فيقول : يارب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} . وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : يارب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال : فيضرب اللّه لهما مثال أعمى ومقعداً دخلاً حائطاً فيه ثمار، فالأعمى لايبصر الثمر والمقعد لايناله، فنادى المقعد الأعمى : أتيني هاهنا حتّى تحملني، قال : فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب، قالا : عليهما قال : عليكما جميعاً الغذاب، ١١٢{وَضَرَبَ اللّه مَثَلا قَرْيَةً} يعني مكة {كَانَتْ ءَامِنَةً} لايهاج أهلها ولايغار أهلها {مُّطْمَ نَّةً} قارة بأهلها (لايحتاجون) إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ} يحمل إليها من البر والبحر، نظيره قوله {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا} {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّه} جمع النعمة وقيل : جمع نعم، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبوس {فَأَذَاقَهَا اللّه لِبَاسَ الْجُوعِ} إبتلاهم اللّه بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة (والعلهز) وهو الوبر يعالج بالدم، ثم إن رؤوساء مكة تكلموا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وقالوا : هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بحمل الطعام اليهم وهم بعد مشركون {وَالْخَوْفِ} يعني بعوث رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وسراياه التي كانت تطيف بهم. وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو : (والخوف) بالنصب بايقاع أذاقها عليه {بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} . روى مشرح بن فاعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال : صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت اليهما تسألهما فقالا : قتل. فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها يعني المدينة القرية التي قال اللّه تعالى {وَضَرَبَ اللّه مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَنَّةً} الآية. ١١٣-١١٦{وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} إلى قوله تعالى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون (ما) للمصدر. وقرأ ابن عبّاس : (الكذب) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة {هذا حَلَالٌ وَهذا حَرَامٌ} يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام {لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللّه الْكَذِبَ} ويقولون : إن اللّه حرّم هذا وأمرنا بها {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ يُفْلِحُونَ} لاينجون من عذاب اللّه ١١٧{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} يعني في سورة الأنعام وهو قوله {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} الآية. ١١٨{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بتحريم ذلك عليهم {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فجزيناهم ببغيهم ١١٩{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة، وقيل : إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية، فردّ الكناية إلى المعنى، وقيل : إلى الفعلة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} أي معلماً للخير يأتم بأهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة. روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود ١٢٠{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للّه حَنِيفًا} فقلت : إنما قال اللّه : (إن إبراهيم كان أُمة قانتا). فقال : أتدري ما الأُمة وما القانت؟ قلت : اللّه أعلم، قال : الأُمة الذي يعلَّم الخير والقانت المطيع للّه. وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلَّم الخير وكان مطيعاً للّه ولرسوله. وقال مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كفار كلهم، وقال قتادة : ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه. شهر بن حوشب قال : لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع اللّه بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها، إلاّ زمن إبراهيم فإنه كان وحده {قَانِتًا للّه حَنِيفًا} مسلماً مستقيماً على دين الاسلام ١٢١-١٢٢{وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن. وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات في قول هذه الأُمة : اللّهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم، (وقيل) أولاداً أبراراً على الكبر. وقيل : القبول العام في جميع الأُمم ١٢٣{وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أوْحَيْنَا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا} حاجاً مسلماً {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . ابن أبي مليكة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعاً الظهر، والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعاً الظهر والعصر، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به (الفجر)، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به) فأوحى اللّه تعالى إلى محمّد {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . ١٢٤{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} يقول : ما فرض اللّه تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلاّ على الذين اختلفوا فيه. فقال بعضهم : هو أعظم الأيام، لأن اللّه فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت. وقال آخرون : بل أعظم اللّه يوم الأحد لانه اليوم الذي ابتدأ اللّه فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير مافرض اللّه عليهم تعظيمه، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه. قال الكلبي : أمرهم موسى بالجمعة فقال : تفرغوا للّه عزّ وجلّ في كل سبعة أيام يوماً واحداً فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلاّ اليوم الذي فرض اللّه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه. ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود وإتخذوا (يوم) الأحد فقال اللّه {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} . قال قتادة : الذين اختلفوا فيه يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم. روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بَيَد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد). روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال : كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال : والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لاتعمل لي وأنا أطلبك (بشيء). فقال اليهودي : ما اصطفى اللّه أبا القاسم على البشر، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه، فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم، فأتوا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال اليهودي : إن عمر زَعم إن اللّه إصطفاك على البشر وإني زعمت أن اللّه لم يصطفك على البشر، فرفع يده فلطمني، فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (أما أنت يا عمر فأرضه مِنْ لطمته، بلى يا يهودي، آدم صفي اللّه، وإبراهيم خليل اللّه، وموسى نجي اللّه، وعيسى روح اللّه، وأنا حبيب اللّه، بلى يا يهودي إسمان من أسماء اللّه تعالى سمّى بهما أمتي، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين، بلى يايهودي طلبتم يوماً وذخر لنا يعني يوم الجمعة فاليوم لنا عيد وغداً لكم وبعد غد للنصارى، بلى يايهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بلى يايهودي إن الجنة محرّمة على الانبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي). ١٢٥{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} دين ربك {بِالْحِكْمَةِ} بالقرآن {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} يعني مواعظ القرآن {وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن. قال المفسرون : أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق، ونسختها آية القتال ١٢٦{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه}. قال أكثر المفسرين : سورة النحل مكية كلها إلاّ ثلاث آيات {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مُثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا اللّه عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنَّ ولنفعلنَّ، ووقف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصصته ثمّ استرطتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها، فبلغ ذلك النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وقال : (أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على اللّه من أن يدخل شيئاً من جسده النار) فلما نظر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (رحمة اللّه عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالاً للخيرات وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أُدعك حتّى تحشر من أفواه شتى، أم واللّه لئن أظفرني اللّه عليهم لأُمثلن بسبعين منهم مكانك). فأنزل اللّه تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} الآية فقال (صلى اللّه عليه وسلم) (بل نصبر) فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه. وقال ابن عبّاس والضحاك : وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، فلمّا أعز اللّه الاسلام وأهله ونزلت براءة وأُمروا بالجهاد، نسخت هذه الآية. وقال قوم : بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء. وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين، ثمّ قال لنبيه (صلى اللّه عليه وسلم) ١٢٧{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللّه} أي بمعونة اللّه وتوفيقه {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} في إعراضهم عنك {وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ} . قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون : بالفتح وإختاره أبو عبيد، وقال : لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق. وقال أبو عمرو وأهل البصرة : الضيّق بفتح الضاد، الغم والضِيق بالكسر (الشدّة). وقال الفراء وأهل الكوفة : هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رَطل ورِطل. وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق. {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرهم ١٢٨{إِنَّ اللّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} بالعون والنصرة. روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له : أوصنا. قال : أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} إلى آخر السورة. |
﴿ ٠ ﴾