سورة الكهف

مكيّة

في فضلها.

وهي سبعة آلاف وثلاثمئة وستون حرفاً،

وألف وخمسمئة وسبع وسبعون كلمة،

ومئة وعشر آيات. روى مطرّف جندب عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظاً لم تضرّه فتنة الدجال،

ومن قرأ السورة كلها دخل الجنّة).

وروى إسماعيل بن رافع عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ألا أدلّكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك)؟

. قالوا بلى يا رسول اللّه. قال : (سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك،

وأعطي نوراً يبلغ به السماء ووقي فتنة الدّجال).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١

{الْحَمْدُ للّه الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} : الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب قيّماً مستقيماً. قال ابن عباس : عدلاً. الفرّاء : قيّماً على الكتب كلّها ناسخاً لشرائعها. {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} : مختلفاً

٢

{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} أي لتنذركم بأساً شديداً {مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} وهي الجنّة.

٣-٥

{مَّاكِثِينَ} : مقيمين {فيه أبداً وينذر الذين قالوا اتّخذ اللّه ولداً ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبُرت كلمة} نصب على التمييز والقطع،

تقديره : كبرت الكلمة كلمةً،

{تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ} : ما يقولون {إِلا كَذِبًا} .

٦

{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} : قاتل نفسك {عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهذا الْحَدِيثِ} : القرآن {أَسَفًا} : حزناً وجزعاً وغضباً.

٧

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض} من كل شيء {زِينَةً لَّهَا} ،

قال الضحّاك من الزاكية خاصّة زينة لها {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أي أزهد فيها.

٨

{وإنا جاعلون ما عليها صعيداً} : مستوياً {جُرُزًا} : يابساً أملس لا تنبت شيئاً.

٩

{أَمْ حَسِبْتَ} ،

معناه : بل أم حسبت،

يعني : أظننت يا محمد {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ} ؟

يعني : ليسوا أعجب آياتنا؛ فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم،

فقال فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم،

بينا هم يمشون إذ أصابتهم السماء،

فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم،

فقال قائل منهم : اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل اللّه برحمته يرحمنا.

فقال رجل منهم : قد عملت حسنة مرة،

كان لي أُجراء يعملون عملاً استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم،

فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه،

فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله،

فرأيت عليَّ في الذِّمام ألاّ أُنقصه مّما استأجرت به أصحابه،

لما جهد في عمله،

فقال رجل منهم : أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلاّ نصف النهار؟

قلت : يا عبد اللّه لم أبخسك شيئاً من شرطك،

وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت.

قال : فغضب وذهب وترك أجره،

فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء اللّه،

ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر،

فبلغت ما شاء اللّه،

فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه،

فقال لي : إنّ لي عندك حقاً. فذكره حتى عرفته،

قلت : إيّاك أبغي وهذا حقّك. فعرضتها عليه جميعاً فقال : يا عبد اللّه،

لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي. قلت : واللّه لا أسخر،

إنها لحقك ما لي فيه شيء،

فدفعتها إليه. اللّهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا.

وقال الآخر : قد عملت حسنة مرّة،

كانت لي فضل،

وأصاب النّاس شدّة،

فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً،

فقلت : واللّه ما هو دون نفسك. فأبت عليَّ،

وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت : لا واللّه ما هو دون نفسك.

فأبت علّي وذهبت،

وذكرت لزوجها،

فقال لها : أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إليّ ونشدتني باللّه،

فأبيت عليها وقلت : واللّه ما هو دون نفسك. فلّما رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها،

فلّما تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي،

فقلت لها : ما شأنك؟

قالت : أخاف اللّه رب العالمين. فقلت لها : خفتِه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ما يحق علىّ بما تكشفتها. اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم.

وقال الآخر : قد عملت حسنة مرّة،

كان لي أبوان شيخان كبيران،

وكان لي غنم،

فكنت أُطعم أبوىَّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي. قال : فأصابني يوماً غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما،

فوجدتهما ناما،

فشقّ عليَّ أن أُوقضهما،

وشقّ عليَّ أن أترك غنمي فما برحت جالساً ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللّهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا).

قال النعمان لكأني أسمع من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (قال الجبل طاق،

ففرج اللّه عنهم وخرجوا).

وقال ابن عباس : الرقيم واد بين غطفان وأيلة،

وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف. وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه،

تقول العرب : عليك بالرقمة،

ودع الضّفة. والضِّفتان : جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير : الرَّقيم لوح من حديد،

وقيل : من رصاص،

كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم،

ثمّ وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم،

أي المكتوب. والرّقم : الخط والعلامة،

والرقم : الكتابة.

١٠

ثمّ ذكر قصتهم فقال : {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} ،

أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف،

فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت،

وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (عليه السلام)،

متمسكين بعبادة اللّه عزّ وجّل وتوحيده. وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يُقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحداً إلاّ فتنه حتى يعبد الأصنام،

ويذبح للطواغيت،

حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس،

فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان،

فيجمعوا له،

واتّخذ شرطاً من الكفار من أهلها،

فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت،

فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت،

فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير اللّه فيُقتل.

فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان باللّه عز وجّل،

جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل،

فيُقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قُطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها،

حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقّر فتُرك ومنهم مَن صَلُبَ على دينه فقتل.

فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً،

فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح للّه عز وجّل،

وكانوا من أشراف الرّوم،

وكانوا ثمانية نفر،

فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون : {ربّنا ربّ السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا}،

اكشف عن عبادك هذه الفتنة،

وارفع عنهم البلاء،

وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك. فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرَط،

وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى اللّه عز وجّل ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أُولئك الكفرة قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك؟

انطلقوا إليه. ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس،

فقالوا : نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟

فلما سمع ذلك أُتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع،

معفّرة وجوههم في التراب،

فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض،

وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟

اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا وكان أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمته،

لن ندعو من دونه إلهاً أبداً،

ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبداً،

ولكنّا نعبد اللّه ربّنا،

وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصاً،

إيّاه نعبد،

وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها،

فلن نعبدها أبداً،

فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له،

فلما قالوا ذلك أمرهم فنُزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم،

ثمّ قال : أمّا إذا فعلتم فإنّي سأُؤخركم،

وسأفرغ لكم فأُنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة،

وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شباباً،

حديثة أسنانكم،

ولا أُحب أن أُهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكّرون فيه،

وتراجعون عقولكم.

ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم،

ثمّ أمر بهم حتى أُخرجوا من عنده،

وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريباً منهم لبعض أُموره،

فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه،

وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم،

فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي،

ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه،

ويعبدون اللّه عزّ وجلّ،

حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء.

فلما قال ذلك بعضهم لبعض،

عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها،

وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم،

وأتبعهم كلب كان لهم،

حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه.

وقال كعب الأحبار : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه،

فعاد ففعلوا ذلك مراراً،

فقال لهم الكلب : ما تريدون منّي؟

لا تخشون إجابتي. أنا أُحب أحبّاء اللّه،

فناموا حتى أحرسكم.

وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام،

وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب،

وكان على دينهم،

فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف،

وهو قريب من البلدة،

فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلاّ الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه اللّه تعالى،

فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا،

فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًّا،

وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك،

فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حساناً،

ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها،

ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاماً وشراباً ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر : هل ذكروا أصحابه بشيء؟

ثمّ يرجع إلى أصحابه.

فلبثوا بذلك ما لبثوا،

ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت،

ففزع من ذلك أهل الإيمان،

وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم،

فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل،

فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة،

وأنهم ذُكروا والتُمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجوداً يدعون اللّه عز وجّل ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة.

ثمّ إنّ تمليخا قال لهم : ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق اللّه وتوكلّوا على بارئكم. فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً وخوفاً على أنفسهم،

فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً،

فبينا هم على ذلك إذ ضرب اللّه على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف،

فأصابه ما أصابهم،

وهم مؤمنون موقنون،

ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم،

فقال لبعضهم : لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا،

لقد كانوا ظنوني غضِباً عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري،

ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي فقال له عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم،

وقد كنت أجّلت لهم أجلاً،

فلوا شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل،

ولكنّهم لم يتوبوا.

فلما قالوا له ذلك غضب غضباً شديداً،

ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم،

فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك،

فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟

فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم،

وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية،

فألقى اللّه عز وجّل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسد عليهم،

أراد اللّه عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأُمّة يَستخلف من بعدهم،

وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور.

فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم،

وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشاً وجوعاً،

وليكن كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم،

قد توفى اللّه أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد،

بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم،

يتقلّبون ذات اليمين وذات الشمال.

ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما،

اسم أحدهما بيدروس،

واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس،

ثمّ يجعلان التابوت في البنيان،

وقالا : لعل اللّه يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا،

ثمّ بنيا عليه،

فبقي دقيانوس ما بقي،

ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة،

وخلفت الملوك بعد الملوك.

وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب،

وكان معهم كلب صيدهم،

فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه،

وقد قذف اللّه في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا،

وأخفى كل واحد منهم الاِيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم،

فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه،

ثمّ خرج آخر فرآه جالساً وحده،

فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك،

فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما،

فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض : ما جمعكم،

وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟

ثمّ قالوا : ليخرج كل فتيين منكم فيخلوَا ثمّ ليفششِ كل واحد منكم إلى صاحبه.

فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه،

فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا : قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعاً على الإيمان،

وإذا كهف في الجبل قريب منهم،

فقال بعضهم لبعض : {فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيّئ لكم من أمركم مرفقاً} . فدخلوا ومعهم كلب صيد،

فناموا {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً} .

قال : وفقدهم قومهم،

وطلبوهم فعمّى اللّه عليهم آثارهم وكهفهم،

فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا،

فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكوننّ لهذا شأن. ومات ذلك الملك،

وجاء قرن بعد قرن.

وقال وهب بن منبّه : جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم (عليه السلام) الى مدينة أصحاب الكهف،

فأراد أن يدخلها،

فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلاّ سجد له. فكره أن يدخلها فأتى حمّاماً قريباً من تلك المدينة،

فكان فيه،

وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه.

ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة،

ودرّ عليه الرزق،

وجعل يقوم عليه،

وعلقه فتية من أهل المدينة،

فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه،

وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام : إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد،

وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام،

فعيّره الحواري وقال له : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟

فاستحيا،

فذهب،

فرجع مرّة أُخرى فقال له مثل ذلك،

فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معاً فماتا جميعاً في الحمام،

فأُتي الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك. فالتُمس فلم يُقدر عليه،

فهرب،

فقال : من كان يصحبه؟

فسمّوا الفتية فالتُمسوا فخرجوا من المدينة،

فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التُمسوا،

فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا : نبيت هاهنا الليلة،

ثمّ نصبح إن شاء اللّه فترون رأيكم. فضرب اللّه على آذانهم.

فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف،

وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أُرعب،

فلم يطق أحد دخوله،

وقال قائل : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟

قال : بلى. قال : فابنِ عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشاً وجوعاً. ففعل.

قال وهب : تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان،

ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال : لو فتحت هذا الكهف فادخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح،

وردّ اللّه إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا.

وقال محمد بن إسحاق : ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس،

فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه،

وكانوا أحزاباً؛ منهم من يؤمن باللّه ويعلم أن الساعة حق،

ومنهم من يكذّب بها،

فكبر ذلك على الملك الصالح،

وبكى إلى اللّه عز و جّل،

وتضرّع إليه،

وحزن حزناً شديداً. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلاّ الحياة الدنيا،

وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب،

فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنه معه في الحق،

فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين.

فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى اللّه ويبكي مما يرى فيه الناس،

ويقول : أي رب،

قد ترى اختلاف هؤلاء الناس،

فابعث إليهم من يبين لهم. ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم،

وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها،

وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه،

ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه،

وأن يعبد اللّه ولا يشرك به شيئاً،

وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين.

فألقى اللّه عز و جّل في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذّي على فم الكهف،

فيبني به حظيرة لغنمه،

فأستاجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف،

وفتحا عليهم باب الكهف،

فحجبهم اللّه تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف،

نائماً.

فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن اللّه عز و جّل بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف،

فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم،

فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون،

لا يُرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه،

وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا،

وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم.

فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم : إيتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمسِ عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون،

وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها،

حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} .

وكل ذلك في أنفسهم يسير،

فقال لهم تمليخا : افتقدتم والتُمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم،

فما شاء اللّه بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه،

اعلموا أنكم ملاقو اللّه،

فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً. ثمّ قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال (عنّا) بها اليوم وما الذي نُذكر به عند دقيانوس،

وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحداً،

وابتع لنا طعاماً فائتنا به،

فإنه قد نالنا الجوع،

وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلاً فقد أصبحنا جياعاً. ففعل تمليخا كما كان يفعل،

ووضع ثيابه،

وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها،

فأخذ ورقاً من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس،

وكانت كخفاف الربع. فانطلق تمليخا خارجاً فلمّا مّر بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها،

ثمّ مّر فلم يبالِ بها،

حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق تخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس،

ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة.

فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان،

فلمّا رآها عجب وجعل ينطر إليها مستخفياً،

فنظر يميناً وشمالاً ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبو ابها فنظر فرأى مثل ذلك،

فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك،

فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران،

ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها،

فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول : ياليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها،

فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم،

فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة،

فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم،

فزادهُ فرقاً فرأى أنه حيران،

فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه : واللّه ما أدري ما هذا،

أمّا عشية أمسِ فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل،

وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف.

ثمّ قال في نفسه : لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم واللّه ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجّه وجهاً،

ثمّ لقي فتىً من أهل المدينة،

فقال : ما اسم هذه المدينة يا فتى؟

قال : دفسُوس. فقال في نفسه : لعل بي مسّاً أو أمراً أذهب عقلي،

واللّه يحقّ لي أن أُسرع بالخروج منها قبل أن أُخزى أو يصيبني شر فأهلك.

هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال : واللّه لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم،

فقال : يا عبد اللّه،

بعني بهذا الورق طعاماً. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها،

فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه،

فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل،

ويعجبون منها،

ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله،

ففرق فرقاً شديداً وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه،

وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس،

وجعل أُناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه،

فقال لهم وهو شديد الفرق : أفصلوا عليّ،

قد أخذتم ورقي فأمسكوا،

وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا : من أنت يا فتى؟

وما شأنك؟

واللّه لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين،

وأنت تريد أن تخفيه عنا،

انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نُخفِ عليك ما وجدت؛ فإنك إن لم تفعل نأتِ بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك.

فلما سمع قولهم عجب في نفسه،

وقال : قد وقعت في كل شيء أحذر منه،

ثمّ قالوا : يا فتى،

إنك واللّه ما تستطيع أن تكتم ما حدث،

ولا تظن في نفسك أنك سنُخفي عليك.

فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم،

وفرق حتى ما يخبرهم شيئاً،

فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه،

ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبباً،

حتى سمع به من فيها،

فقيل : أُخذ رجل عنده كنز،

فاجتمع عليه أهل المدينة،

صغيرهم وكبيرهم،

فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : واللّه ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة،

وما رأيناه فيها قط،

وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم،

فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم،

ولو قال إنه من أهل المدينة لم يُصدّق،

وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة،

وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها،

وأنهم سيأتونه إذا سمعوا،

وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيراً من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحداً.

فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله : أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه،

فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبرَيها اللذين يدبّران أمرها،

وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه يُنطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه،

فجعل يلتفت يميناً وشمالاً،

وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران،

فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى اللّه عزّ وجلّ،

ثمّ قال : اللّهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيّدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرّق بيني وبين إخوتي،

يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يُذهب بي،

ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار،

فإنا كنا تواثقنا (لنكونن معاً) لا نكفر باللّه ولا نشرك به شيئاً ولا نعبد الطواغيت من دون اللّه (ف ) فُرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً،

وقد كنا تواثقنا على ألاّ نفترق في حياة ولا موت،

يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟

أقاتلي أم لا؟

هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين : أرموس وأسطيوس،

فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء،

فأخذ أرموس وأسطيوس الورق،

فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟

هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزاً. فقال لهم تمليخا : ما وجدت كنزاً،

ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها،

ولكن واللّه ما أدري ما شأني،

وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما : فمن أنت؟

فقال له : أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له : فمن أبوك (ومن) يعرفك بها؟

فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه،

ولا أباه،

فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ. ولم يدرِ ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض،

فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون. وقال بعضهم : ليس بمجنون،

ولكن يحمّق نفسه عمداً لينفلت منكم. فقال له أحدهما،

ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال،

أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمئة سنة،

وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا،

ونحن شرط كما ترى،

وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها،

وخزائن هذه البلدة بأيدينا،

وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟

إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذاباً شديداً ثمّ أُوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت.

فلّما قال له ذلك،

قال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه،

فإن فعلتم صدّقتم ما عندي. قالوا له : سل،

ما نكتمك شيئاً. فقال : ما فعل الملك دقيانوس؟

قالا له : ليس نعرف ملكاً يُسمى دقيانوس على وجه الأرض،

ولم يكن إلاّ ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل،

وهلكت بعده قرون كثيرة. قال لهم تمليخا : فواللّه ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول،

لقد كنا فتية،

وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا،

فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون،

فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أُرِكم أصحابي. فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا،

قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات اللّه عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى،

فانطلقوا بنا معه يُرِنا أصحابه كما قال.

فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم.

ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به،

ظنوا أنه قد أُخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه،

فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم،

وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم،

فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة،

وسلّم بعضهم على بعض،

وقالوا : انطلقوا بنا نأتِ أخانا تمليخا،

فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه،

فبينا هم يقولون ذلك،

وهم جلوس بين ظهراني الكهف،

فلم يروا إلاّ أرموس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف،

وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي،

فلما رأوه يبكي،

بكوا معه وسألوه عن شأنه،

فأخبرهم بخبره وقصَّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر اللّه ذلك الزمان كلّه،

وإنما أُوقظوا ليكونوا آية للناس،

وتصديقاً للبعث،

وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها.

ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف،

ثمّ دعا رجالاً من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيها : (إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم،

فدخلوا هذا الكهف،

فلمّا أُخبر بمكانهم أمر بالكهف فسّد عليهم بالحجارة،

وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه مَن بعدهم إن عثروا عليهم.

فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا اللّه الذي أراهم آية البعث فيهم،

ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد اللّه وتسبيحه،

ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه مشرقة وجوههم،

لم تبلَ ثيابهم،

فخرّ أرموس وأصحابه سجّداً،

وحمدوا اللّه الذي أراهم آية من آياته،

ثمّ كلّم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس.

ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل،

لعلك تنظر إلى آية من آيات اللّه جعلها اللّه على ملكك،

وجعلها آية للعالمين لتكون نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث،

فاعجل على فتية بعثهم اللّه تعالى،

وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة.

فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله،

وذهب عنه همّه،

ورجع إلى اللّه عز و جّل،

فقال : أحمدك اللّه ربّ السماوات والأرض،

وأعبدك وأُسبّح لك تطوّلت علي،

ورحمتني برحمتك،

فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك.

فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه،

فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّداً على وجوههم،

وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون اللّه عزّ وجلّ ويحمدونه،

ثمّ قال الفتية لتيدوسيس : نستودعك اللّه،

ونقرأ عليك السلام،

وحفظك اللّه وحفظ ملكك ونعيذك باللّه من شرّ الجن والإنس.

فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى اللّه أنفسهم،

وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب،

فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا : إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة،

ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير،

فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا اللّه عزّ وجلّ منه. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم اللّه تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب،

فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم،

وأمر الملك فجُعل على باب الكهف مسجدٌ يُصلّى فيه،

وجعل لهم عيداً عظيماً،

وأمر أن يؤتى كل سنة.

وقيل : إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأُبشّرهم؛ فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم. فدخل فبشّرهم،

وقبض اللّه روحه وأرواحهم،

وعمي عليهم مكانهم،

فلم يهتدوا إليه. فهذا حديث أصحاب أهل الكهف.

ويقال : إنّ نبي اللّه محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) سأل ربّه أن يريه إيّاهم،

فقال : (إنّك لن تراهم في دار الدنيا،

ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك). فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لجبرئيل (عليه السلام) : ( كيف أبعثهم؟).

قال : (ابسط كساءً لهم،

وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر،

وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليًّا،

وعلى الرابع أبا ذر،

ثمّ ادعُ الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود (عليهما السلام) فإن اللّه تعالى أمرها أن تطيعك).

ففعل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ما أمره،

فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف،

فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجراً،

فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم،

فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا،

فدخلوا الكهف وقالوا : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. فردّ اللّه إليهم أرواحهم،

فقاموا بأجمعهم وقالوا : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. فقالوا : إنّ نبي اللّه محمد ابن عبد اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقرأ عليكم السلام. فقالوا : على محمد رسول اللّه السلام ما دامت السماوات والأرض،

وعليكم بما بلّغتم. ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون،

فآمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقبلوا دين الإسلام،

وقالوا : أقرئوا محمداً منّا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي.

ويقال : إنّ المهدي يسلّم عليهم،

فيحييهم اللّه عزّ وجلّ،

ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة.

ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه،

وحملتهم الريح،

وهبط جبرئيل (عليه السلام) (على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وأخبره بما كان (منهم)،

فلما أتوا النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (كيف وجدتموهم؟

وما الذي أجابوا؟).

فقالوا : يا رسول اللّه،

دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم،

فقاموا بأجمعهم،

فردّوا السّلام،

وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول اللّه حقاً،

وحمدوا اللّه عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم،

وهم يقرئونك السلام. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اللّهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني،

واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي،

وأحبّ أصحابي).

فذلك قوله عزّ وجلّ {إِذْ أَوَى} أي صار وانضم {الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} ،

وهو غار في جبل ينجلوس،

واسم الكهف خيرم،

{فقالوا ربّنا آتنا مِن لَدُنكَ رَحمةً وَهَيّئ لَنا مِن أمرِنا رَشَداً} أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك. وقال ابن عباس : {رَشَدًا} أي مخرجاً من الغار في سلامة. وقيل : صواباً.

١١

قوله : {فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ} هذا من فصيحات القرآن التي أقرّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله،

ومعناه : أنمناهم وألقينا وسلّطنا عليهم النوم،

كما يقال : ضرب اللّه فلانَ بالفالج،

أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل : معناه حجبناهم عن السمّع،

وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم،

وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب : هو كقول العرب : ضرب الأمير علي يد الرعية،

إذا منعهم عن العبث والفساد،

وضرب السّيد على يدي عبده المأذون في التجارة،

إذا منعه عن التصرّف فيها. قال الأسود بن يعفر،

وكان ضريراً :

ومن الحوادث لا أبا لك أنني

ضربت عليّ الأرض بالأسداد

{سِنِينَ عَدَدًا} أي معدودة،

وهو نعت للسنين،

فالعدّ المصدر،

والعدد الاسم المعدود،

كالنقص والنقض والخبط والحبط. وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر.

١٢

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} ،

يعني من نومهم؛ {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} ،

وذلك حين تنازع المسلمون الأوّلون أصحاب الملك،

والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدّة لبثهم في الكهف،

فقال المسلمون الأولون : مكثوا في كهفهم ثلاثمئة سنة وتسع سنين،

وقال المسلمون الآخرون : بل مكثوا كذا وكذا. فقال الأوّلون : اللّه أعلم بما لبثوا،

فذلك قوله : {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} ،

لتعلموا {أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} : الفريقين {أَحْصَى} : أصوب وأحفظ {لِمَا لَبِثُوا} في كهفهم نياماً،

{أَمَدًا} : غاية.

وقال مجاهد : عدداً. وفي نصبه وجهان : أحدهما على التفسير والثاني لوقوع {لِمَا لَبِثُوا} عليه.

١٣

{نَّحْنُ نَقُصُّ} ،

أي نقرأ وننزل {عَلَيْكَ نَبَأَهُم} ،

أي خبر أصحاب الكهف {بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} : شبان وأحداث {بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ} ،

حكم اللّه لهم بالفتوّة حين آمنوا بلا واسطة لذلك. وقال أهل اللسّان : رأس الفتوّة الإيمان. وقال الجنيد : الفتوّة كفّ الأذى وبذل الندى،

وترك الشكوى. وقيل : الفتوّة شيئان : اجتناب المحارم،

واستعمال المكارم. وقيل : الفتى من لا يدّعي قبل الفعل،

ولا يزكّي نفسه بعد الفعل. وقيل : ليس الفتى من يصبر على السياط،

إنما الفتى من جاز على الصراط. وقيل : ليس الفتى من يصبر على السكين،

إنما الفتى من يطعم المسكين.

{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} إيماناً وبصيرة وإيقاناً.

١٤

{وَرَبَطْنَا} : وشددنا {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بالصبر،

وألهمناهم ذلك،

وقوّيناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش،

وفرّوا بدينهم إلى الكهف،

{إِذْ قَامُوا} بين يدي دقيانوس {فَقَالُوا} حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم : {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَا} : لن نعبد {مِن دُونِهِ الها لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا} ،

يعني إن دعونا غير اللّه،

لقد قلنا إذن شططاً. قال ابن عباس ومقاتل : جوراً. قال قتادة : كذباً. وأصل الشطط والإشطاط : مجاوزة القدر،

والإفراط.

١٥

{هؤلاء قَوْمُنَا} ،

يعني أهل بلدهم {اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ} ،

أي من دون اللّه {ءَالِهَةً} ،

يعني الأصنام يعبدونها من دون اللّه {لَّوْ يَأْتُونَ عَلَيْهِم} أي هلاّ يأتون على عبادتهم {بِسُلْطَان بَيِّنٍ} : بحجة واضحة؛ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا} ،

فزعم أنّ له شريكاً وولداً ؟

١٦

ثمّ قال بعضهم لبعض : {إذ اعتزلتموهم} ،

يعني قومكم {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللّه} ،

أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون اللّه. وكذلك هو في مصحف عبد اللّه : (وما يعبدون من دون اللّه).

{فاؤوا إلى الكهف} ،

أي صيروا إليه {يَنشُرْ} ،

أي يبسط لكم ويظهر {لكم رَبُّكُم مِن رَحمَتِهِ وَيهيّئ لَكُم مِن أمرِكم مرفَقاً} ،

أي رزقاً رغداً. والمرفق : ما يرتفق به الانسان،

وفيه لغتان : مَرفِق،

ومِرفَق.

١٧

{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} ،

أي تتزاور،

وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين،

وقرأ أهل الشام : على وزن تحمرّ،

وكلّها بمعنىً واحد،

أي تميل وتعدل عن كهفهم {ذَاتَ الْيَمِينِ} ،

أي جانب اليمين،

{وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} ،

قال ابن عباس : تدعهم. قال مقاتل بن حيان : تجاوزهم. وأصل القرض : القطع. {ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ} ،

أي متّسع من الكهف،

وجمعها فجوات وفجىً. أخبرنا اللّه تعالى بحفظه ايّاهم في مهجعهم،

وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنّه بوّأهم في مغناة من الكهف مستقبلاً بنات نعش،

تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية؛ لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغّير ألوانهم وتبلى ثيابهم،

وإنهم في متّسع منه ينالهم فيه بَرد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه،

{ ذلك } الذي ذكرت من أمر الفتية {مِنْ ءَايَاتِ اللّه} : من عجائب صنع اللّه ودلالات قدرته وحكمته. {مَن يَهْدِ اللّه} أي يهدهِ اللّه {فَهوَ المُهتَدي وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيَّاً} مُعينَاً {مُّرْشِدًا} ؛ لأنّ التوفيق والخذلان بيد اللّه عزّ وجلّ.

١٨

{وَتَحْسَبُهُمْ} يا محمد {أَيْقَاظًا} أي منتبهين،

جمع يقِظ ويقَظ مثل قولك : رجل نجِد ونجَد للشجاع،

وجمعه أنجاد،

{وَهُمْ رُقُودٌ} : نيام،

جمع راقد مثل قاعد وقعود،

{وَنُقَلِّبُهُمْ} ،

وقرأ الحسن (ونقْلِبهم) بالتخفيف،

{ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} مرّة للجنب الأيمن ومرّة للجنب الأيسر. قال ابن عباس : كانوا ينقلبون في السنة مرة إلى جانب من جانب،

لئلا تأكل الأرض لحومهم. ويقال : إنّ يوم عاشوراء كان يوم تقليبهم. وقال أبو هريرة : كان لهم في كل سنة تقليبان. {وَكَلْبُهُم} ،

قال ابن عباس : كان أنمر. وقال مقاتل : كان أصفر. وقال القرظي : شدة صفرته تضرب إلى الحمرة. الكلبي : لونه كالخلنج. وقيل : لون الحجر. وقيل : لون السماء. وقال علي ابن أبي طالب (ح) : (كان اسمه ريان). وقال ابن عباس : قطمير. وقال الأوزاعي : نتوى. وقال شعيب الجبائي : حمران. عبد اللّه ابن كثير : اسم الكلب قطمور. (قال) السّدي : نون. عبد اللّه بن سلام : بُسيط. كعب : أصهب. وهب : نقيا،

وقيل : قطفير.

عن عمر قال : إن مما أُخذ على العقرب ألاّ يضر بأحد في ليله ونهاره : سلام على نوح،

وإن مما أُخذ على الكلب ألاّ يضر من حمل عليه أن يقول : {وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} .

وقرأ جعفر الصّادق (وكالبهم) يعني : صاحب الكلب.

{بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} ،

قال مجاهد والضّحاك : الوصيد : فِناء الكهف،

وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير : الوصيد الصعيد،

وهو التراب. وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس. وقال السّدي : الوصيد الباب،

وهي رواية عكرمة عن ابن عباس،

وأنشد :

بأرض فضاء لا يُسدّ وصيدها

عليّ ومعروفي بها غير منكر

أي بابها. وقال عطاء : الوصيد : عتبة الباب. وقال القتيبي الوصيد : البناء،

وأصله من قول العرب،

أصدت الباب وأوصدته،

أي أغلقته وأطبقته. {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} ؛ لما ألبسهم اللّه تعالى من الهيئة حتى لا يصل إليهم واصل،

ولا تلمسهم يدُ لامس حتى يبلغ الكتاب أجله،

فيوقظهم اللّه من رقدتهم لإرادة اللّه عزّ وجلّ أن يجعلهم آية وعبرة لمن شاء من خلقه؛ {ليعلموا أن وعد اللّه حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها}.

{وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} : خوفاً،

وقرأ أهل المدينة : (لملّئت) بالتشديد. وقيل : إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي : لأن أعينهم مفتّحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام. وقيل : إن اللّه تعالى منعهم بالرعب لئلاّ يراهم أحد. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف،

فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم قال ابن عباس : ليس ذلك لك،

قد منع اللّه من هو خير منك،

قال : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} . فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث ناساً فقال : اذهبوا فانظروا. ففعلوا،

فلمّا دخلوا الكهف بعث اللّه عز و جّل عليهم ريحاً فأخرجتهم فلم يستطيعوا الاطلاع عليهم من الرعب.

١٩

{وَ كذلك بَعَثْنَاهُمْ} أي كما أنمناهم في الكهف،

ومنعنا من الوصول إليهم،

وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان،

وثيابهم من العفن على مرّ الأيّام بقدرتنا،

كذلك بعثناهم من النّومة التي تشبه الموت {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} : ليتحدّثوا،

ويسأل بعضهم بعضاً. {قَالَ قَآلٌ مِّنْهُمْ} يعني : رئيسهم مكسلمينا : {كَمْ لَبِثْتُمْ} في نومكم؟

وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال : إنه راعهم ما فاتهم من الصلاة،

فقالوا ذلك. {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا} ؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة،

فلما رأوا الشمس قالوا : {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} توقّياً من الكذب،

وكانت قد بقيت من الشمس بقية. ويقال : كان بعد زوال الشمس. فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم تيقّنوا أن لبثهم أكثر من يوم أو بعض يوم،

ف{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} . ويقال : إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك. {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم} يعني : تمليخا {بِوَرِقِكُمْ هذه إِلَى الْمَدِينَةِ} ،

والورِق : الفضّة؛ مضروبة كانت أو غير مضروبة. والدليل عليه أنّ عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكلاب فاتّخذ أنفاً من ورِق فأنتن عليه،

فأمره النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يتخذ أنفاً من ذهب. وفيه لغات : (بورْقكم) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف،

و (ورقكم) بسكون الراء وإدغام القاف وهي قراءة أهل مكة،

و بفتح الواو وكسر الراء وهي قراءة أكثر القراء. و (ورِق) مثل كبْد وكَبِد وكِلْمة وكَلِمة.

(والمدينة) : أفسوس،

{فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا} قال ابن عباس وسعيد بن جبير : أحلّ ذبيحةً،

لأن عامّتهم كانوا مجوساً،

وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. قال الضحّاك : أطيب. وقال مقاتل بن حيّان : أجود. وقال يمان بن رياب : أرفص. قتادة : خير. قال عكرمة : أكثر. وأصل الزكاة الزيادة والنّماء،

قال الشاعر :

قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة

ولَلسبع أزكى من ثلاث وأطيب

{فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي قوت وطعام،

{وَلْيَتَلَطَّفْ} : وليترفق في الشراء،

وفي طريقه،

وفي دخول المدينة،

{وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} من الناس،

أي ولا يعلمن،

أي إن ظُهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه.

٢٠

{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} فيعلموا بمكانكم {يَرْجُمُوكُمْ} ،

قال ابن جريج : يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال : يقتلوكم. ويقال : كان من عادتهم القتل بالرجم وهو من أخبث القتل. وقيل : هو التوبيخ. ويضربوكم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} : دينهم الكفر {وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} إن عدتم إليهم.

٢١

{وَ كذلك أَعْثَرْنَا} ،

أي أطلعنا {عَلَيْهِم} ،

يقال : عثرت على الشيء إذا اطّلعت عليهم،

فأعثرت غيري إذا أطلعته،

{لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ} يعني قوم تيدوسيس،

{وَأَنَّ السَّاعَةَ رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} ،

قال ابن عباس : تنازعوا في البنيان والمسجد،

قال المسلمون : نبني عليهم مسجداً،

لأنهم على ديننا،

وقال المشركون : نبني عليهم بنياناً؛ لأنهم من أهل سنّتنا. وقال عكرمة : تنازعوا في الأرواح والأجساد،

فقال المسلمون : البعث للأرواح والأجساد،

و قال بعضهم : البعث للأرواح دون الأجساد،

فبعثهم اللّه من رقادهم وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد. وقيل : تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم. وقيل : تنازعوا في عددهم،

{فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} يعني تيدوسيس الملك وأصحابه : {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} ،

وقيل : الذين تغلبوا على أمرهم،

وهم المؤمنون. وهذا يرجع إلى الأوّل.

٢٢

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ} وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وكان السيد يعقوبياً،

وقال العاقب : كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وكان نسطوريّاً،

وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم،

فحقق اللّه قول المسلمين وصدّقهم بعد ما حكى قول النصارى،

فقال {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ} أي قذفاً بالظنّ من غير يقين،

كقول الشاعر :

وأجعلُ منّي الحقّ غيباً مرجّما

{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقال بعضهم : هذه الواو واو الثمانية،

إن العرب يقولون : واحد،

اثنان،

ثلاثة،

أربعة،

خمسة،

ستة،

سبعة،

وثمانية،

لأن العِقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّاحُونَ الراكِعُونَ السَّاجِدُونَ امِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} .

وقوله في صفة أهل الجنّة {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} .

وقوله لأزواج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} .

وقال بعضهم : هذه واو الحكم والتحقيق،

فكأنه حكى اختلافهم فتمّ الكلام عند قوله : {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ} ،

ثمّ حكم أن ثامنهم كلبهم،

والثامن لا يكون إلاّ بعد السّبع،

فهذا تحقيق قول المسلمين. {رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قليل} ،

قال قتادة : قليل من الناس. وقال عطاء : يعني بالقليل : أهل الكتاب. يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى. {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قليل} قال : أنا من أُولئك القليل.

وهم : مكسلمينا،

وتمليخا،

ومرطونس،

وسارينوس،

وآنوانس،

وروانوانس،

ومشططيونس،

وهو الرّاعي،

والكلب واسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي ودون الكردي.

وقال محمد بن المسيب : القلطي : كلب صيني،

و قال : ما بقي بنيسابور محّدث إلاّ كتب عنّي هذا الحديث إلاّ من لم يقدر له. قال : وكتبه أبو عمرو،

والحيري عني. {وَلا تُمارِ فيهِم} ،

أي في عدّتهم وشأنهم {إِلا مِرَآءً ظَاهِرًا} وهو ما قصّ عليه في كتابه من خبرهم يقول : حسبك ما قصّصت عليك فلا تمارِ فيهم،

{وَ لا تَستَفتِ فيهِم مِنهُم أحَداً} من أهل الكتاب.

٢٣-٢٤

{ولا تقولّنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللّه} ،

قال ابن عباس : يعني إذا عزمت على أن تفعل شيئاً غداً،

أو تحلف على شيء أن تقول : إني فاعل ذلك غداً إن شاء اللّه. وإن نسيت الاستثناء ثمّ ذكرته فقله ولو بعد سنة،

وهذا تأديب من اللّه تعالى لنبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) حين سئل عن المسائل الثلاثة : أصحاب الكهف،

والروح،

وذي القرنين،

فوعدهم أن يخبرهم ولم يستثنِ.

عبد اللّه بن سعيد المقري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كلّ كلامه).

{وَاذْكُر رَّبَّ كَلا إِذَا نَسِيتَ} ،

قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ثمّ ذكرت،

فاستثنِ. وقال عكرمة : معناه : واذكر ربّك إذا غضبت.

حدّثنا عبد الصمّد بن حسان عن وهيب قال : مكتوب في الإنجيل : ابن آدم،

اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق،

وإذا ظُلِمتَ فلا تنتصر؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحّاك والسدي : هذا في الصلاة؛ لقول النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها).

وقال أهل الإشارة : معناه واذكر ربك إذا نسيت غيره؛ لأن ذكر اللّه تعالى إنما يتحقق بعد نسيان غيره. يؤيده قول ذي النون المصري : من ذكر اللّه ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء،

فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء حفظ اللّه له كلّ شيء،

وكان له عوضاً من كل شيء. وقيل : معناه : واذكر ربّك إذا تركت ذكره،

والنسيان هو الترك. {وقُل عَسى أن يهديني ربِّي لأقرَبَ مِن هذا رَشَداً} ،

أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه،

فأرشد. وقيل : معنا لعلّ اللّه أن يهديني ويسدّدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون إن هو شاء. وقيل : إن اللّه تعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ويسأله أن يذكره فيتذكّر،

أو يهديه لما هو خير له من تذكُّر ما نسيه. ويقال : إن القوم لمّا سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره اللّه تعالى أن يخبرهم أن اللّه سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوّته وما دعاهم إليه من الحق ودلّهم على ما سألوه. ثمّ إن اللّه عز و جّل فعل ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم : هذا شيء أمر أن يقوله مع قوله : {إِن شَآءَ اللّه} إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه،

فإذا نسي الإنسان فيؤتيه من ذلك. وكفارته أن يقول : {عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً} .

٢٥-٢٦

{وَلَبِثُوا} يعني : أصحاب الكهف {فِى كَهْفِهِمْ} ،

قال بعضهم : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك،

وقالوا : لو كان خبراً من اللّه عز و جّل عن قدر لبثهم في الكهف لم يكن لقوله : {قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} وجه مفهوم،

وقد أعلم خلقه قدر لبثهم فيه،

هذا قول قتادة. يدل عليه قراءة ابن مسعود : (وقالوا لبثوا في كهفهم). وقال مطر الورّاق في هذه الآية : هذا شيء قالته اليهود،

فردّه اللّه عليهم،

وقال : {قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} . وقال الآخرون : هذا إخبار اللّه عن قدر لبثهم في الكهف،

وقالوا : معنى قوله : {قُلِ اللّه أَعْلَمُ} أن أهل الكتاب قالوا على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمئة وتسع سنين فردّ اللّه عز و جّل ذلك عليهم،

وقال : {قُلِ اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير اللّه وغير من أعلمه اللّه ذلك. وقال الكلبي : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمئة فقد عرفناها،

وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت {اللّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا} .

{ثلاثمائة سنين} مضاف غير منّون،

قرأها حمزة،

والكسائي والباقون بالتنوين يعني : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمئة. وقال الضحّاك ومقاتل : نزلت : {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة} فقالوا : أيّاماً أو سنين؟

فنزلت {سِنِينَ} فلذلك قال : {سِنِينَ} ولم يقل : سنة. {وازدادوا تسعاً قل اللّه أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع} يعني : ما أبصر اللّه بكل موجود وأسمعه بكل مسموع {مَّا لَهُم} ،

أي لأهل السماوات والأرض {مِن دُونِهِ} من دون اللّه {مِن وَلِىٍّ} : ناصر،

{وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا} من الأصنام وغيرها.

٢٧

{وَاتْلُ} أي واقرأ يا محمد {مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} ،

يعني : القرآن،

واتّبع ما فيه {مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} ،

قال الكلبي : لا مغير للقرآن. وقال محمد بن جرير : يعني : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه. {وَلَن تَجِدَ} أنت {مِن دُونِهِ} إن لم تتبع القرآن وخالفته {مُلْتَحَدًا} ،

قال ابن عباس : حرزاً. وقال الحسن : مدخلا. وقيل : معدلا. وقيل : موئلا وقال مجاهد ملجأً،

وأصله من الميل،

ومنه لحد القبر.

٢٨

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} الآية قال المفسرون : نزلت في عيينة بن حصين الفزاري،

وذلك أنه أتى النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قبل نزول هذه الآية،

وعنده بلال وصهيب وخباب وعمار وعامر بن فهيرة ومهجع وسلمان،

وعلى سلمان شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشتقها ثمّ ينسجها،

فقال عيينة للنبّي (صلى اللّه عليه وسلم) أما يؤذيك ريح هؤلاء؟

فواللّه لقد آذانا ريحهم. وقال : نحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وإن أبينا أبى الناس،

وما يمنعنا من اتّباعك إلاّ هؤلاء،

فنحِّ هؤلاء حتّى نتبعك،

واجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً. فأنزل اللّه عز و جّل : {وَاصْبِرْ} : واحبس {نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} : يعبدون ربهم ويوقّرون {رَبَّهُم بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ} ،

أي طرفي النهار {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ،

يعني : يريدون اللّه عزّ وجلّ لا يريدون عرضاً من الدنيا. والمراد منه : الحسنة وترك الريّاء. قال قتادة : يعني : صلاة الصبح والعصر. وقال كعب الأحبار : والذي نفسي بيده إنّهم لأهل الصّلوات المكتوبة. قال قتادة : نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة،

وكانوا سبعمئة رجل فقراء لزموا مسجد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع،

يصلّون صلاة وينتظرون أُخرى. قال قتادة : فلما نزلت هذه الآية قال نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الحمد للّه الذي جعل في أُمّتي من أمرت أن أصبر معهم).

{وَ تَعْدُ عَيْنَاكَ} : لا تصرف ولا تجاوز عيناك {عَنْهُمْ} إلى غيرهم {تُرِيدُ زِينَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا} ،

يعني مجالسة الرؤساء والأغنياء والأشراف.

ومعنى الآية : ولا تعدُ عيناك عنهم مريداً زينة الدنيا حال خوضهم في الاستغفار لأنه حكم على النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) بإرادته الدنيا. {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} أي تركنا قلبه وأنسيناه ذكرنا. قال أبو العالية : يعني : أُميّة بن خلف الجمحي. وقال غيره : يعني عيينة بن حصين،

{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ،

قال قتادة والضحّاك ومجاهد : ضياعاً. وقال داود : ندماً. وقال حباب : هلاكاً. وقال ابن زيد : مخالفاً للحق. وقال مقاتل بن حيّان : سرفاً. وقال الأخفش : مجاوزاً للحد. وقال الفرّاء : متروكاً. وقيل : باطلاً. وقال أبو زيد البلخي : قُدُماً في الشر. قال أبو عبيد : هو من قول العرب : فرس فرط إذا سبقت الخيل،

وفرط القول منّي أي سبق. وقيل : معناه ضيّع أمره وعطّل أيامه،

قالوا : ان المؤمن من يستعمل الأوقات،

ولا تستعمله الأوقات.

٢٩

{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} ،

الحقُ : رفع على الحكاية،

وقيل : هو رفع على خبر ابتداء مضمر معناه : وقل هو الحقّ من ربكّم،

يعني : ما ذكر من القرآن والإيمان وشأن محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وقيل : هو رفع على الابتداء وخبره في قوله {مِن رَّبِّكُمْ} ،

ومعنى الآية : وقل يا محمّد لهؤلاء الّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيُّها الناس،

مِن ربكم الحقُّ،

وإليه التوفيق والخذلان،

وبيده الضلالة والهدى،

يهدي من يشاء فيؤمن،

ويضل من يشاء فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء،

ولست بطارد المؤمنين لكم،

فإن شئتم فآمنوا،

وإن شئتم فاكفروا؛ فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم ناراً أحاط بكم سرادقها،

وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف اللّه عزّ وجلّ لأهل طاعته.

وقوله : {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ليس بترخيص وتخيير،

إنما هو وعيد وتهديد،

كقوله : {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} . قال ابن عباس : من شاء اللّه له الاِيمان آمن،

ومن شاء له الكفر كفر،

وهو قوله : {وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه} .

{إِنَّآ أَعْتَدْنَا} : أعددنا وهيّأنا،

من العتاد،

وهو العدّة {لِلظَّالِمِينَ} : للكافرين {نَارًا} ،

وفيه دليل على أن النار مخلوقة؛ لأنها لو لم تكن مخلوقة موجودة معدّة لكان المخبر كذّاباً،

وتعالى اللّه عن ذلك.

وقوله : {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ،

روى سعيد الخدري عن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (سرادق النار أربعة جدر كُثُف،

كل واحد مسيرة أربعين سنة). وقال ابن عباس : هو حائط من نار. الكلبي : هو عَنَق يخرج من النار فيحيط بالكفّار كالحظيرة. وقال القتيبي : السّرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. قال رؤبة :

يا حكم بن المنذر بن الجارودْ

سرادق المجد عليك ممدودْ

وقال سلامة بن جندل :

هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه

صدور الفيول بعد بيت مسردق

وهو هاهنا دخان يحيط بالكفار يوم القيامة،

وهو الذي ذكره اللّه في سورة المرسلات : {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ} .

{وَإِن يَسْتَغِيثُوا} من شدة العطش {يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} ،

روى أبو مسلم عن أبي سعيد عن النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) {بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ} قال : (كعُكر الزّيت،

فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه). وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت. وقال الأعمش : هو عصارة الزيت. ومجاهد : القيح والدم. قال الضحّاك : المهل ماء أسود،

وإن جهنم سوداء،

ماؤها أسود،

وشجرها أسود،

وأهلها سود. وقال أبو عبيدة : كل ما أُذيب من جواهر الأرض.

وروى روح بن عبادة،

عن سعيد،

عن قتادة قال : ذكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضّة،

فأمر بأُخدود فخُدّ في الأرض،

ثمّ قذف فيه من جزل الحطب،

ثمّ قذف فيه تلك السقاية،

فلما أزبدت وانماعت،

قال لغلامه : ادعُ من بحضرتك من أهل الكوفة. فدعا رهطاً،

فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا؟

قالوا : نعم. قال : ما رأينا في الدنيا شبهاً بالمهل أدنى من هذا الذهب والفضّة حين أزبد وانماع. وقال سعيد بن جبير : المهل الذي قد انتهى حرّه. وقال أبو عبيدة : سمعت المنتجع بن نبهان وذكر رجلاً،

فقال : هو أبغض إلىّ من الطليا والمهل،

فقلت له : ما المهل؟

قال : الملّة التي تحدّد من جوانب الرغيّف من النار،

أحمر شديد الحمرة كأنّها الرمانة،

وهي جمرة والطليا : الناقة المطليّة بالقطران. {يَشْوِى الْوُجُوهَ} ،

قال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزّقوم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم،

فلو ان مارّاً مرّ يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها،

ثمّ يصّب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل،

وهو الذي قد انتهى حرّه،

فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. {بِئْسَ الشَّرَابُ} هذا،

{وَسَآءَتْ} النار {مُرْتَفَقًا} ،

قال ابن عباس : منزلاً. مجاهد : مجتمعاً. عطاء : مقرّاً. وقيل : مهاداً. وقال القتيبي : مجلساً. وأصل : المرتفق المتّكأ،

يقال منه : ارتفقت،

إذا اتّكأت على المرتفق. قال الشاعر :

قالت له وارتفقت ألا فتى

يسوق بالقوم غزالات الضحى

ويقال : ارتفق الرجل،

إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذويب الهذلي :

نام الخلي وبتّ الليل مرتفقاً

كأن عيني فيها الصاب مذبوح

أي مقطوع من معتضده،

والصاب : شجر اذا استؤصل خرج منه كهيئة اللبن،

وربما ترتفع منه تربة أي فطرة،

فيقع في العين فكأنها شهاب نار،

وربما أضعف البصر. ويجوز أن يكون قوله : {مُرْتَفَقًا} من الرفق والمنفعة.

٣٠

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} . ليس قوله : {إِنَّا نُضِيعُ} خبراً لقوله : {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} بل هو كلام معترض،

وخبر {أَنْ} الأُولى قوله : {أُولَاكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} . ومثله في الكلام كثير،

قال الشاعر :

إنّ الخليفة إنّ اللّه سربله

سربال ملك به ترجى الخواتيم

ومنهم من قال : فيه إضمار؛ فإن معناه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجره بل نجازيه.

٣١

ثمّ ذكر الجزاء فقال : {أُولَاكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} ،

ووهي الإقامة {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ} : يلبسون {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} ،

وهو جمع الأسوار،

قال سعيد بن جبير : يُحلّى كل واحد منهم ثلاثةً من الأساور،

واحداً من فضّة،

وواحداً من ذهب،

ووحداً من لؤلؤ ويواقيت. {مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ} ،

وهو ما رقّ من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ،

وهو ما غلظ منه. وقيل : هو فارسيّ معّرب {مُّتَّكِينَ فِيهَا} : في الجنان {عَلَى ارَآكِ} ،

وهي السّرر في الحجال،

واحدتها : أريكة {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ} يعني : الجنان {مُرْتَفَقًا} .

٣٢

{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ} الآية {رَّجُلَيْنِ} منصوب مفعول،

على معنى : {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا} كمثل رجلين. نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم،

أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد اللّه بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أمّ سلمة قبل النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) والآخر كافر،

وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل نزلت في النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وفي مشركي مكّة. وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه،

وفي سلمان وأصحابه شبّههما برجلين من بني إسرائيل أخوين : أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس،

وقال مقاتل : تمليخا،

والآخر كافر،

واسمه فطروس،

قال وهب قطفر. وهما اللّذان وصفهما اللّه في سورة (الصافات)،

وكانت قصتهما (ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي : حدثنا محمد بن عمران : حدثنا الحسن بن سفيان : حدثنا حيّان بن موسى : حدثنا عبد اللّه بن البارك عن). معمر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكين،

وكان لهما ثمانية آلاف دينار،

وقيل : إنهما ورثاه عن أبيهما،

وكانا أخوين فاقتسماها،

فعمد أحدهما فاشترى أرضاً بألف دينار،

فقال صاحبه : اللّهم إن كان فلان قد اشترى أرضاً بألف دينار،

فإني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف دينار،

فتصدّق بألف دينار.

ثمّ إن صاحبه بنى داراً بألف دينار،

فقال هذا : إن فلانَ بنى داراً بألف دينار،

وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار،

فتصدّق بألف دينار. ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال : إنّ فلانَ تزوّج امرأة بألف دينار،

وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار،

فتصدّق بألف دينار. ثمّ اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار،

فقال : إن فلانَ اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار،

وإني اشتري منك خدماً ومتاعاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار.

ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه،

فقام إليه،

فنظر إليه الآخر فعرفه فقال : فلان؟

قال : نعم. قال ما شأنك؟

قال : أصابتني حاجة بعدك،

فأتيتك لتصيبني بخير. فقال : فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالاً واحداً فأخذت شطره وأنا شطره؟

فقصَّ عليه قصته،

فقال : وإنك لمن المصدّقين بهذا،

أي بأنك تبعث وتجازى؟

اذهب فواللّه لا أُعطيك شيئاً.

فطرده،

فقضي لهما أن توفيا،

فنزل فيهما : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} إلى قوله : {فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ} ،

ونزلت {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا حَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} : بستانين {مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا} : أحطناهما {بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} ،

يعني : جعلنا حول الأعنابِ النخلَ ووسط الأعنابِ الزرعَ.

٣٣

{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ} : أعطت،

يعني : آتت كل واحدة من الجنتين،

فلذلك لم يقل : آتتا {أُكُلَهَا} : ثمرها تامّاً {وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شيئا} ،

أي لم ينقص،

{وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} ،

يعني : شققنا وأخرجنا وسطهما نهراً.

٣٤

{وَكَانَ لَهُ} ،

يعني : لفطروس {ثَمَرٌ} ،

يعني : المال الكثير المثمر من كل صنف،

جمع ثمار. ومن قرأ : (ثُمْر) فهو جمع ثمرة. مجاهد : ذهب وفضة. ابن عباس : أنواع المال. قتادة : من كلّ المال. وقال ابن زيد : الثمر الأصل. {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ} المؤمن {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} : يجاوبه {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ،

يعني عشيرة ورهطاً. قال قتادة : خدماً وحشماً. وقال مقاتل : ولداً،

تصديقه قوله تعالى {إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً} .

٣٥

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} ،

يعني : فطروس،

أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها،

{وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بكفره،

فلّما رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قال :

٣٦

{ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظنُ الساعة} : القيامة {قَامَةً} : آتية كائنة. ثمّ تمّنى على اللّه أُمنية أُخرى مع شكّه وشركه فقال : {وَلَ ن رُّدِدتُّ} : صرفت {إِلَى رَبِّى} ،

فرجعت إليه في المعاد {جِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا} ،

أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام (منهما) على لفظ التثنية،

يعني الجنتين،

وكذلك هو في مصاحفهم. {مُنقَلَبًا} ،

أي منزلاً ومرجعاً. يقول : لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلاّ ولي عنده أفضل في الآخرة.

٣٧

{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} المسلم {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ} يعني خلق أباك وأصلك {مِن تُرَابٍ ثُمَّ} خلقك {مِن نُّطْفَةٍ} يعني ماء الرجل والمرأة {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} ،

أي عدلك بشراً سويّاً ذكراً.

٣٨

{لكنا هو اللّه ربي} ،

يقول : أما أنا فلا أكفر بربي،

ولكنا هو اللّه ربي. قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه : لكن اللّه هو ربّي. وقال الآخرون : أصله (لكن أنا) فحذفت الهمزة طلباً للخفة؛ لكثرة استعماله،

وأُدغمت إحدى النونين في الآخرى،

وحذفت ألف (أنا) في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب : (لكنا)،

بإتيان الألف بالوصل،

كقول الشاعر :

أنا سيف العشيرة فاعرفوني

حميداً قد تذريت السناما

ولا خلاف في إثباتها في الوقف.

٣٩

{ولا أُشرك بربّي أحداً ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء اللّه}،

{مَّآ} في موضع رفع،

يعني : هي ما شاء اللّه،

ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع {شَآءَ} عليه. وقيل : جوابه مضمر مجازه : ما شاء اللّه كان وما لا يشاء لا يكون. (أخبرنا أبو عمرو الفراتي : القاسم بن كليب : العباس بن محمد الدوزي : حجاج : أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد اللّه بن أنس) عن أنس بن مالك أن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من رأى شيئاً فأعجبه فقال : {مَا شَآءَ اللّه قُوَّةَ إِلا بِاللّه} لم يضرّه).

ثمّ قال : {إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً} ،

{إِنَّآ} عماد ولذلك نصب.

٤٠

{فَعَسَى} : فلَعّلَ {ربي أن يؤتيني} في الآخرة {خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} : يبعث على جنتك {حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ} ،

قال قتادة والضّحاك : عذاباً. وقال ابن عباس : ناراً. وقال ابن زيد : قضاء من اللّه عزّ وجلّ يقضيه. قال الأخفش والقتيبي : مرام من السماء واحدتها حسبانة،

{فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} ،

قال قتادة : يعني صعيداً أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد : رملاً هايلاً وتراباً. قال ابن عباس : هو مثل الحَزَن.

٤١

{أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا} أي غائراً منقطعاً ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدرٌ وُضع موضع الاسم،

كما يقال : صوم وزور وعدل،

ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم :

تظل جياده نوحاً عليه

مقلّدة أعنتها صفونا

وقال آخر :

هريقي من دموعهما سجاما

ضباع وجاوبي نوحاً قياما

{فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} بعد ما ذهب ونصب.

٤٢

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي أحاط الهلاك بثمر جنّتيه،

وهي جميع صنوف الثمار. وقال مجاهد : هي ذهب وفضة؛ وذلك أن اللّه أرسل عليها ناراً فأهلكها وغار ماؤها،

{فَأَصْبَحَ} صاحبها الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} : يصفق يده على الأُخرى،

وتقليب كفيه ظهراً لبطن؛ تأسفاً وتلهّفاً {عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا} يعني : عليها كقوله : {وَصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} أي عليها {وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ساقطة على سقوفها،

خالية من غرسها وبنائها {ويقول يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً} .

٤٣

قال اللّه عزّ وجلّ : {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} أي جماعة {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّه} : يمنعونه من عذاب اللّه،

{وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} : ممتنعاً منتقماً.

٤٤

{هُنَالِكَ} يعني : في القيامة {الْوَلَايَةُ للّه الْحَقِّ} ،

قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (الولاية) بكسر الواو يعني : السلطان والأمر. وقرأ الباقون بفتح الواو،

من الموالاة كقوله : {اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} ،

وقوله : { ذلك بِأَنَّ اللّه مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا} .

قال القتيبي : يريد : يتولون اللّه يومئذ،

ويؤمنون به ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون. وقوله : {الْحَقُّ} رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية،

وتصديقه قراءة أُبيّ : (هنالك الولاية الحق للّه). وقرأ الآخرون بالكسر على صفة اللّه كقوله : {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّه مولاهم الْحَقِّ} ،

وتصديقه قراءة عبد اللّه : (هنالك الولاية للّه وهو الحق) فجعله من نعت اللّه. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} لأوليائه وأهل طاعته {وخيرٌ عُقبى} لهم في الآخرة إذا صاروا إليه. والعُقب : العاقبة،

يقال : هذا عاقبة أمره كذا،

وعقباه وعقبه أي آخرة قوله.

٤٥

{وَاضْرِبْ} يا محمد {لَهُمْ} : لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين {مَّثَلَ الْحياةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ} ،

يعني : المطر. قالت الحكماء : شبّه اللّه تعالى الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع وحال،

كذلك الدنيا لا تبقى لأحد،

ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا،

ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى،

ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ،

فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد،

ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً مبقياً وإذا جاوز الحد المُقدّر كان ضارّاً مهلكاً،

وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع،

وفضولها يضرّ. {اختلط به} : بالماء {نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ} عن قريب {هَشِيمًا} ،

قال ابن عباس : يابساً. قال الضحّاك : كسيراً. قال الأخفش : متفتّتاً،

وأصله الكسر. {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} ،

قال ابن عباس : تديره. قال ابن كيسان : تجيء به وتذهب. قال الأخفش : ترفعه. وقال أبو عبيدة : تُفرّقه. القتيبي : تنسفه. وقرأ طلحة بن مصرف : الآية فقال : ذرته الريح تذروه ذرواً،

وتذريه ذرياً وأذرته إذراءً إذا أطارت به،

{وَكَانَ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا} ، قادراً.

٤٦

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ} التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء {زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا} ،

وليست من زاد القبر ولا من عُدد الآخرة،

{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَ} أي خير ما يأمله الإنسان. واختلفوا في {الباقيات الصالحات} ما هي؛ قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحّاك : هي قول العبد : (سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر). يدل عليه ما روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) أخذ غصناً فحركه حتى سقط ورقه،

وقال : (إن المسلم إذا قال : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر،

تحاتّت عنه الذنوب. خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن؛ فهنّ من كنوز الجنّة وصفايا الكلام،

وهنّ الباقيات الصالحات).

وقال عثمان (ح) وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح : هي (سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر،

ولا حول،

ولا قوة إلاّ باللّه العليّ العظيم). يدل عليه (ما) روى القاسم بن عبد اللّه العمري،

ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل بن حميد عن خالد ابن عمران أن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) خرح على قومه،

فقال : (خذوا جُنّتكم). قالوا : يا رسول اللّه،

من عدوّ حضر؟

قال : (بل من النار). قالوا : وما جنتنا من النار؟

قال : (الحمد للّه وسبحان اللّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنِّبات ومعقِّبات،

وهنّ الباقيات الصالحات).

وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : ( استكثروا من الباقيات الصالحات). فقيل : وما هنّ يا رسول اللّه؟

قال : (الملّة). قال : وما هي؟

قال : (التكبير،

والتهليل،

والتسبيح،

ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه).

وقال عبد اللّه بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد اللّه : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال : قل له : القني عند زاوية القبر؛ فإن لي إليك حاجة. قال : فالتقيا،

فسلّم أحدهما على الآخر،

ثمّ قال سالم : ما تعدّ الباقيات؟

فقال : لا إله إلاّ اللّه،

والحمد للّه،

وسبحان اللّه،

واللّه أكبر،

ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه. فقال له سالم : متى جعلت : ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه؟

قال : ما زلت أجعله فيها. قال فراجعه مرتين وثلاثاً فلم ينزع،

فقال سالم : أجّل. فأتيت أبا أيّوب الأنصاري فحدّث أنه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (عُرج بي إلى السماء فأُريت إبراهيم (عليه السلام) فقال : يا جبرئيل،

من هذا معك؟

فقال : محمد. فرحّب بي وسهّل،

ثمّ قال : مر أُمّتك فليكثروا من غراس الجنّة،

فإن تربتها طيبة،

وإن أرضها واسعة. فقلت وما غراس الجنّة؟

قال : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه).

وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم : هي الصلوات الخمسة،

وهي {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّ َئاتِ} .

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي الأعمال الصالحة : لا إله إلاّ اللّه،

وأستغفر اللّه وصلى اللّه على محمد،

والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصّلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنّة ما دامت السماوات والأرض.

وروى عطية عن ابن عباس قال : هي الكلام الطيب. وقال عوف : سألت الحسن عن الباقيات الصالحات،

قال : النيّات والهمّات؛ لأن بها تُقبل الأعمال وترفع. قال قتادة : هي كل ما أُريد به وجه اللّه. واللّه أعلم.

٤٧

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} : نزيلها عن أماكنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : (تُسيَّر) بالتاء وفتح الياء (الجبال) رفعاً على المجهول،

{وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها. وقال عطاء : ترى باطن الأرض ظاهراً قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها،

{وَحَشَرْنَاهُمْ} : جمعناهم إلى الموقف للحساب،

{فَلَمْ نُغَادِرْ} : نترك ونخلف

٤٨

{منهم أحداً وعُرضوا على ربّك صفًّا} يعني : صفًّا صفًّا؛ لأنهم صفٌّ واحد. وقيل قياماً،

يقال لهم يعني للكفار،

لفظه عام ومعناه خاص : {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة} يعني : أحياء. وقيل : عراة. وقيل : عُزّلاً. وقيل : فرادى. {بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً} يعني : القيامة.

٤٩

قوله تعالى : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} يعني كتب أعمال الخلق،

{فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ} : خائفين {مِمَّا فِيهِ} من الأعمال السيئة،

{وَيَقُولُونَ} إذا رأوها : {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً} من ذنوبنا؟

قال ابن عباس : الصغيرة : التبسّم،

والكبيرة : القهقهة. وقال سعيد بن جبير : الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس،

والكبيرة : الزنا،

والمواقعة،

{إِلا أَحْصَاهَا} ،

قال ابن عباس : عملها. وقال السّدي : كتبها وأثبتها. وقال مقاتل بن حيان : حفظها. وقيل : عدّها. وقال إبراهيم ابن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال : ضجّوا واللّه من الصغار قبل الكبار. وضرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لصغائر الذنوب مثلاً فقال : (كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب،

فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين حتى جمعوا سواداً وأجّجوا. وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه).

{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} مكتوباً مثبتاً في كتابهم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} يعني : لا ينقص ثواب أحد عمل خيراً. قال الضحّاك : لا يأخذ أحداً بجرم لم يعمله ولا يورّث ذنب أحد على غيره.

٥٠

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} يقول جلّ ذكره مذكّراً لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس،

ويعلّمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم : واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم،

{فَسَجَدُوا إلا إبليس كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ؛ اختلفوا فيه فقال ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن،

خُلقوا من نار السّموم،

وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث،

وكان من خزان الجنّة،

وكان رئيس ملائكة الدنيا،

وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض،

وكان من أشد الملائكة حلماً وأكثرهم علماً،

وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفاً وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر،

فعصى فمسخه اللّه شيطاناً رجيماً ملعوناً. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجُه،

وإن كانت خطيئته في معصية فارجُه،

وكانت خطيئة آدم معصية،

وخطيئة إبليس كبراً.

وقال ابن عباس في رواية أُخرى : كان من الجن (و) إنما سُمي بالجنان،

لأنه كان خازناً عليها فنُسب إليها،

كما يقال للرجل : مكي وكوفي ومدني وبصري. (أخبرنا عبد اللّه بن حامد : أخبرنا محمد ابن يعقوب السّري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال) : روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله عزّ وجلّ : {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} قال : كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنّة. وقال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين،

وإنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الأنس. وقال شهر ابن حوشب : كان إبليس من الجنّ الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة،

فذهب به إلى السماء. وقال قتادة : جنّ عن طاعة اللّه تعالى،

{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} يعني : خرج عن طاعة ربه. تقول العرب : فسقت الرطبّة إذا خرجت من قشرها،

وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها،

ولذلك قيل لها : الفويسقة. وقيل : هي من الفُسوق،

وهي الاتّساع،

تقول العرب : فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها،

وما أصاب مالاً إلاّ فسقه،

أي أهلكه وبذّره. والفاسق سمّي فاسقاً؛ لأنه اتّسع في محارم اللّه عزّ وجلّ،

وهوّنها على نفسه. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} ،

يعني يا بني آدم {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ} : أعداء. وقال الحسن : الإنس من آخرهم من ذريّة آدم،

والجن من آخرهم من ذريّة إبليس. قال مجاهد : فمن ذريّة إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة،

والهفّان ومرّة وبه يُكنّى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السّماء والأرض،

والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشقّ الجيوب والدعاء بالويل والحرب،

والأعور وهو صاحب أبواب الزّنا،

ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه النّاس فلا يجدون (لها) أصلاً،

وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم اللّه عزّ وجلّ،

بصّره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه،

فإذا أكل ولم يذكر اسم اللّه عليه أكل معه.

وقال الأعمش : ربما دخلت البيت،

ولم أذكر اسم اللّه ولم أُسلّم فرأيت مطهره فقلت : ارفعوا،

وخاصمتهم،

ثمّ أذكر فأقول : داسم،

داسم.

وروى مخلد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوماً إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه،

ثمّ جاءني فقال : أنت الشعبي؟

قلت : نعم. فقال : أخبرني هل لإبليس زوجة؟

قلت : إن ذلك لعرس ما شهدته. قال : ثمّ ذكرت قول اللّه تعالى : {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى} ،

فعلمت أنه لا يكون ذرية إلاّ من زوجة،

قلت : نعم. فأخذ دنّه وانطلق،

قال : فرأيت أنه مختاري. قال ابن زيد : إبليس أبو الجن كما إنّ آدم (عليه السلام) أبو الإنس. قال اللّه تعالى لإبليس : إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها،

(كلما) ولد لآدم. قال قتادة : إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم،

وما ولد لآدم ذريّة إلاّ ولد له مثله،

فليس من ولد آدم أحد إلاّ له شيطان قد قرن به. {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَ} ،

أي بئس البدل لإبليس وذريّته من اللّه. قال قتادة : بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم : طاعةَ إبليس وذريّته.

٥١

{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} : ما أحضرتهم،

يعني إبليس وذريته. وقيل : يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي : يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر : (ما أشهدناهم) بالنون والألف على التعظيم،

{خلق السّماوات والأرض} فأستعين بهم على خلقها،

وأُشاورهم وأُوامرهم فيها،

{وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} : أنصاراً وأعواناً.

٥٢

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا} قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله : {شُرَكَآءِىَ} ولم يقل : شركاءنا. {شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم شركائي،

{فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل : بين أهل الهدى والضلالة {مَّوْبِقًا} ،

قال عبد اللّه بن عمر : هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلاّ اللّه،

وبين من سواهم. وقال ابن عباس : هو واد في النار. وقال مجاهد : واد من حميم. وقال عكرمة : هو نهر في النار يسيل ناراً،

على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم،

فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها. وقال الحسن : عداوة. وقال الضحّاك وعطاء : مهلكاً. وقال أبو عبيد : موعداً،

وأصله الهلاك،

يقال : أوبقه يوبقه إيباقاً،

أي أهلكه،

ووبق يبق وبقاً،

أي هلكة،

ويقال : وبق يوبق ويبق ويأبق،

وهو وابق ووبق،

والمصدر : وبق،

ووبُوق.

٥٣

{وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ} : المشركون {النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا} : داخلوها. وقال مجاهد : مقتحموها وقيل : نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش : (ملاقوها)،

يعني مجتمعين فيها،

والهاء الجمع {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} .

وروى أبو سعيد الخدري عن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها من مسيرة أربعين سنة).

٥٤

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : بيّنا {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن} ليتذكروا ويتّعظوا {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا} : خصومة في الباطل،

يعني أُبّي بن خلف الجمحي،

وقيل : إنه عام ليس بخاص،

واحتجّوا بما روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال : (إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) طرقه هو وفاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : ألا تصلّون؟

فقلت : يا رسول اللّه،

إنما أنفسنا بيد اللّه تعالى،

فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئاً،

فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول : {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَ} ).

٥٥

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا} يعني من أن يؤمنوا،

{إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى} : القرآن والإسلام ومحمد (صلى اللّه عليه وسلم) {وَيَسْتَغْفِرُوا} : ومن أن يستغفروا ربهم {إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ} يعني سنتنا في إهلاكهم {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُ} ،

قال ابن عباس : عياناً.

قال الكلبي : هو السّيف يوم بدر. قال مجاهد : فجأة. ومن قرأ {قُبُ} ،

بضمتين،

أراد به : أصناف العذاب.

٥٦

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا} : يبطلوا ويزيلوا{بِهِ الْحَقَّ} ،

قال السّدي : ليفسدوا،

وأصل الدّحض : الزلق،

يقال : دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة :

أبا منذر رمت الوفاء فهبته

وحدت كما حاد البعير عن الدحض

(واتخذوا آياتي وما أُنذروا،

فيه إضمار يعني : وما أُنذروا وهو القرآن {هُزُوًا} : استهزاءً.

٥٧

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} : لم يؤمن بها {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ،

أي عملت يداه من الذنوب {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} ،

يعني القرآن {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن} : ثقلاً وصمماً {وَإِن تَدْعُهُمْ} يا محمد {إِلَى الْهُدَى} يعني إلى الدين {فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} : لن يرشدوا ولن يقبلوه.

٥٨

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا} من الذنوب {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} في الدنيا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} وهو يوم الحساب {لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْ} : معدلاً ومنجىً،

قال الأعشى :

وقد أُخالس ربّ البيت غفلته

وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل

أي لا ينجو.

٥٩

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} : كفروا،

{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} : أجلاً.

٦٠

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَ اهُ} الآية قال ابن عباس : لما ظهر موسى (عليه السلام) وقومه على مصر أنزل قومه مصر،

فلّما استقرت بهم الدار أنزل اللّه عزّ وجلّ : {أن ذكّرهم بأيّام اللّه} فخطب قومه وذكر بما آتاهم اللّه عزّ وجلّ من الخير والنّعمة؛ إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض،

فقال : (وكلّم اللّه نبيكم تكليماً،

واصطفاني لنفسه،

وألقى عليّ محبّة منه،

وآتاكم من كل ما سألتموه،

ونبيّكم أفضل أهل الأرض،

وأنتم تقرؤون التوراة). فلم يترك نعمة أنعمها اللّه عزّ وجلّ عليهم إلاّ ذكرها وعرّفها إيّاهم،

فقال له رجل من بني إسرائيل : قد عرفنا الذي تقول،

فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي اللّه؟

قال : (لا). فعتب اللّه عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه،

فبعث إليه جبرئيل،

فقال : (يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟

بل إن لي عبداً بمجمع البحرين أعلم منك). فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه،

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه أن : (ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتاً،

فخذه فادفعه إلى فتاك،

ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح).

وقال ابن عباس في رواية أُخرى : سأل موسى ربّه فقال : (ربّ أي عبادك أحبّ إليك؟).

قال : (الذي يذكرني فلا ينساني). قال : (فأي عبادك أقضى؟).

قال : (الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى). قال : (ربّي فأي عبادك أعلم؟).

قال : (الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدًى أو ترده عن ردًى). قال : (إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه). فقال له : (نعم،

في عبادي من هو أعلم منك). قال : (من هو؟).

قال : (الخضر). قال : (وأين أطلبه؟).

قال : (على الساحل عند الصخرة). وجعل الحوت له آية،

وقال : (إذا حيّ هذا الحوت،

وعاش،

فإن صاحبك هناك).

وكانا قد تزودا سمكاً مالحاً فذلك قوله عزّ وجلّ : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} بن عمران {لِفَتَ اهُ} : صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل : فتاه أخو يوشع،

كان معه في سفره. وقيل : فتاه عبده ومملوكه : {أَبْرَحُ} : لا أزال أسير {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} ،

قال قتادة : بحر فارس والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب : طنجة. وقال أُبّي بن كعب : أفريقية،

{أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا} وجمعه أحقاب : دهراً أو زماناً. وقال عبد اللّه بن عمر : والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد : سبعون سنة. وقيل : البحران هما موسى والخضر،

كانا بحرين في العلم.

فحملا خبزاً وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلاً،

وعندها عين تسمى ماء الحياة،

لا يصيب ذلك الماء شيئاً إلاّ حيّ،

فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر،

فذلك قوله عزّ وجلّ :

٦١

{فَلَمَّا بَلَغَا} ،

يعني : موسى وفتاه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} يعني : بين البحرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا} : تركا حوتهما،

وإنما كان الحوت مع يوشع،

وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما،

والمراد به : أحدهما كما قال : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك؛ لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما،

فجاز إضافته إليهما،

كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا،

وحملوا معهم من الزاد كذا،

وإنما حمله أحدهم،

لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أُضيف إليهم. {فَاتَّخَذَ} الحوت {سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا} ،

أي مسلكاً ومذهباً يسرب ويذهب فيه.

واختلفوا في كيفية ذلك؛ فروى أُبّي بن كعب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم،

فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر (عليه السلام)).

وقال ابن عباس : رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء،

وجعل الحوت لا يمس شيئاً إلاّ يبس حتى صار صخرة. وروى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل،

فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا،

أمسك اللّه عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء،

فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى (عليه السلام) نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد

٦٢

{فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ} موسى {لِفَتَ اهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا} ).

وقال قتادة : رد اللّه عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر،

ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً طريقاً يبساً. وقال الكلبي : توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش،

ثمّ وثب في ذلك الماء،

فجعل يضرب بذنبه الماء،

ولا يضرب بذنبه شيئاً من الماء وهو ذاهب إلاّ يبس. {فَلَمَّا جَاوَزَا} ،

يعني ذلك الموضع {قال موسى لفتاه آتنا} : أعطنا {غَدَآءَنَا} : طعامنا وزادنا،

وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت،

فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد،

ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلاّ يومئذ حين جاوز الموضع الذّي أُمر به،

فقال لفتاه حين ملّ وتعب : {غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَبًا * قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ} ،

أي شدة وتعباً،

وذلك أنه أُلقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة،

ليتذكر الحوت،

ويرجع إلى موضع مطلبه،

٦٣

فقال له فتاه وتذكر : {قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ} : رجعنا {إِلَى الصَّخْرَةِ} ،

قال مقاتل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت {فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ} ؟

أي تركته وفقدته.

وقيل : فيه إضمار معناه : نسيت أن أذكر أمر الحوت،

ثمّ قال : {وَمَآ أَنسَ انِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} ،

يعني : أنسانيه ألاّ أذكره. وقيل : فيه تقديم وتأخير مجازه : وما أنسانيه أن أذكره إلاّ الشيطان،

{وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} ،

يجوز أن يكون هذا من قول يوشع،

يقول : اتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً. وقيل : إن يوشع يقول : إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكاً،

فعجبت من ذلك عجباً. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى،

قال له يوشع : {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ} ،

فأجابه موسى : {عَجَبًا} كأنه قال : أعجب عجباً.

وقال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت،

كان دهراً من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيّاً حتى حشر في البحر. قال : وكان شق حوت. وقال ابن عباس : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً. قال وهب : ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأُخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين،

فإذا هو بالخضر (عليه السلام)،

٦٤

فذلك قوله : {قَالَ} موسى لفتاه : {ذلك ما كنّا نبغي} أي نطلب،

يعني الخضر {فَارْتَدَّا} : فرجعا {عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا} : يقصان الأثر : يتبعانه.

٦٥

{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ} يعني الخضر واسمه بليا بن ملكان بن يقطن،

والخضر لقب له،

سمّي بذلك،

لما (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن مكّي بن عبدان : أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن) معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنما سُمي الخضر خضراً؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء).

(قال عبد الرزاق : فروة بيضاء يعني : حشيشة يابسة،

(و) فروة : قطعة من الأرض فيها نبات). وقال مجاهد : إنما سمي الخضر؛ لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله. وروى عبد اللّه بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال : رأى موسى الخضر (عليه السلام) على طنفسة خضراء على وجه الماء،

فسلّم عليه. وقال ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (انتهى موسى إلى الخضر (عليه السلام) وهو نائم عليه ثوب مسجىً،

فسلّم عليه؛ فاستوى جالساً قال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى : وما أدراك بي؟

ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل؟

قال الذي أدراك بي ودلّك علّي).

وقال سعيد بن جبير : وصل إليه وهو يصلي،

فلما سلّم عليه قال : وأنّى بأرضنا السلام؟

ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء،

قال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض،

ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب اللّه إلاّ أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة،

٦٦

فذلك قوله تعالى : {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً قال له} : للعالم {موسى هل أتّبعك على أن تعلّمني ممّا عُلّمتَ رُشدا} : صواباً؟

٦٧

{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} ؛ لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ،

٦٨

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ} يا موسى {عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} ،

يعني على ما لم تعلم؟

وقال ابن عباس : وذلك أنه كان رجلاً يعمل على الغيب.

٦٩

{قَالَ} موسى : {سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللّه صَابِرًا وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا} .

٧٠

قال : {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلا تَسَْلْنِي عَن} مما تنكر {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} : حتى ابتدئ لك بذكره،

وأُبيّن لك شأنه.

٧١

{فَانطَلَقَا} يسيران يطلبان سفينة يركبانها {حَتَّى إِذَآ} أصابها {رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ} ،

فقال أهل السفينة : هؤلاء لصوص،

فأمروهما بالخروج منها،

فقال صاحب السفينة : ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء. وقال أبي بن كعب عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (فانطلقا يمشيان على ساحل البحر،

فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم،

فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأساً فخرق لوحاً من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له : {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} ). وقرأ أهل الكوفة (ليغرق) بالياء المفتوحة (أهلها) برفع اللام على أن الفعل لهم،

وهي قراءة ابن مسعود،

{لَقَدْ جِئْتَ شيئا إِمْرًا} أي منكراً. قال القتيبي : عجباً. والإمر في كلام العرب الداهية،

قال الراجز :

قد لقيَ الأقران منّي نُكْراً

داهية دهياء إدًّا إمرا

وأصله : كل شيء شديد كثير،

يقال : أمر القوم،

إذا كثروا واشتدّ أمرهم.

٧٢-٧٣

قال العالم {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا} موسى : {تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ} (أخبرنا أبو عبد اللّه بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال : قال أبو سعد بن موسى المروَروذي ببغداد،

وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن دينار عن) عكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (كانت الأُولى من أمر النسيان،

والثانية القدر،

ولو صبر موسى لقص اللّه علينا أكثر مما قص).

وقال أُبي بن كعب : أما إنه لم ينسَ،

ولكنه من معاريض الكلام. وقال ابن عباس : معناه بما تركت من عهدك،

{وَلا تُرْهِقْنِى} : تعجلني : وقيل : لا تغشني {مِنْ أَمْرِى عُسْرًا} ،

يقول : لا تضيّق عليّ أمري وصحبتي معك.

٧٤

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا} ،

قال سعيد بن جبير : وجد الخضر غلماناً يلعبون،

وأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه،

فأضجعه ثمّ ذبحه بالسكين. وقال ابن عباس : كان لم يبلغ الحلم. وقال الضحّاك : كان غلاماً يعمل بالفساد،

وتأذّى منه أبواه : وكان اسمه خش بوذ. وقال شعيب الحيّاني : اسمه حيشور،

وقال وهب بن منبّه كان اسم أبيه ملاسَ،

واسم أمه رُحمى. وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق،

ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه،

فأخذه الخضر فصرعه ثمّ نزع من جسده رأسه. وقال قوم : رفسه برجله فقتله. وقال آخرون : ضرب رأسه بالجدار فقتله. (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن أحمد بن عبد اللّه عن محمد بن عبد اللّه بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب قال : سمعت النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً فلمّا قتله قال له موسى : {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةَ} ؟).

أي طاهرة. وقيل : مسلمة. قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسيّة. قال أبو عمرو : الزاكية : التي لم تذنب قط،

والزكية : التي أذنبت ثمّ تابت. أي من غير أن قتلت نفساً أوجب عليها القود،

{لَّقَدْ جِئْتَ شيئا نُّكْرًا} : منكراً؟

وقال قتادة وابن كيسان : النكر : أشد وأعظم من الإمر.

٧٥-٧٦

{قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال إن سألتك عن شيء بعدها} أي هذه المرّة {فَلا تُصَاحِبْنِى} : فارقني؛ {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا} في فراقي. (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد : أخبرنا حمزة الزّيات عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس،

عن أُبّي بن كعب قال : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه،

فقال ذات يوم : (رحمة اللّه علينا وعلى أخي موسى،

لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب (العجاب)،

ولكنه قال : {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا} ).

٧٧

{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} قال ابن عباس : يعني أنطاكية.وقال ابن سيرين : أيلة،

وهي أبعد أرض اللّه من السّماء {اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} ،

أي ينزّلوهما منزلة الأضياف؛ وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما،

واستضافاهم فلم يضيفوهما. (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن أحمد بن عبد اللّه عن محمد بن عبد اللّه بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب أنه سمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : {فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا} قال : (كانوا أهل قرية لئاماً).

وقال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تُضيف الضيف،

ولا تعرف لابن السبيل حقّه.

{فَوَجَدَا فِيهَا} ،

أي في القرية {جِدَارًا} ،

قال وهب : كان جداراً طوله في السماء مئة ذراع،

{يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} هذا من مجاز الكلام،

لأن الجدار لا إرادة له،

وإنما معناه : قرب ودنا من ذلك،

كقول اللّه تعالى : {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} . قال ذو الرمّة :

قد كاد أو (قد) هم بالبيود

وقال بعضهم : إنما رجع إلى صاحبه،

لأن هذه الحالة إذا كانت من ربّه فهو إرادته،

كقول اللّه تعالى : {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ} وإنما يسكت صاحبه. وقال : {فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ} وإنما يعزم أهله. قال الحارثي :

يريد الرمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال عقيل :

إنّ دهراً يلف شمل سليمى

لزمان يهّم بالإحسان

{أَن يَنقَضَّ} ،

أي يسقط وينهدم،

ومنه انقضاض الكواكب،

وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقرأ يحيى بن عمر : (يريد أن ينقاض) أي ينقلع وينصدع،

يقال : انقاضّت السنّ : انصدعت من أصلها. وقال بعض الكوفيين : الانقياض : الشق طولاً،

يقال : انقاض الحائط والسن وطيّ البئر،

إذا انشقت طولاً. {فَأَقَامَهُ} : سوّاه. قال ابن عباس : هدمه ثمّ قعد يبنيه. وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار ودفعه بيده،

فاستقام. قال موسى : {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ} ،

وقرأ أبو عمرو : (لتَخذت) وهما لغتان مثل قولك : (اتّبع) و (تبِع)،

و (اتّقى) و (تقى)،

قال الشاعر :

وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها

نسيفاً كأفحوص القطاة المطرّق

وأنشد الزجاج في قوله : (لتخذت) قول أبي شمام الصبابي :

تخذوا الحديد من الحديد معاولاً

سكانها الأرواح والأجساد

{عَلَيْهِ} ،

أي على إصلاحه وإقامته {أَجْرًا} ،

أي جَعْلاً وأُجرة. وقيل : قرىً وضيافة.

٧٨

فقال الخضر (عليه السلام) : {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} قرأ لاحق بن حميد : (فراق) بالتنوين،

٧٩

{سأُنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} قال كعب : كانت لعشرة إخوة : خمسة منهم زمنى،

وخمسة منهم يعملون في البحر. وفي قوله : {مَسَاكِينَ} دليل على أن المسكين وإن كان مَلَكَ شيئاً فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه،

ويجوز له أخذ الزكاة. (وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي،

عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال : أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد اللّه الصنعاني عن إبراهيم) بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : قوله : {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ} ،

كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار؟

قال : إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار. {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم} أي أمامهم وقدّامهم كقوله تعالى : {مِّن وَرَآهِ جَهَنَّمُ} و{من ورائهم برزخ} أي أمامهم. قال الشاعر :

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وقيل : {وَرَآءَهُم} : خلفهم،

وكان رجوعهم في طريقهم عليه،

ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم اللّه الخضر (عليه السلام) بخبره. {مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ،

أي كل سفينة صالحة،

فاكتفى بدلالة الكلام عليه،

يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً). فخرقها وعيّبها،

لئلاّ يتعرض لها ذلك الملك،

واسمه جلندى وكان كافراً. قال محمد بن إسحاق : وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني. وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد.

٨٠

{وأماالغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا}،

أي فعلمنا. وفي مصحف أُبيّ : (فخاف ربك) أي علم،

ونظائره كثيرة. وقال قطرب : معناه فكرهنا،

كما تقول : فرّقت بين الرجّلين خشية أن يقتتلا،

وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا. {أَن يُرْهِقَهُمَا} ،

أي يهلكهما. وقيل : يغشاهما. وقال الكلبي : يكلّفهما {طُغْيَانًا وَكُفْرًا} ،

قال سعيد بن جبير : خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلهما معه في دينه.

٨١

{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زكاةً} : صلاحاً وإسلاماً {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} هو من الرحم والقرابة. وقيل : هو من الرحمة،

يقال : رحَم ورحُم للرحمة،

مثل هلك وهلك،

وعمر وعمر،

قال العجّاج :

ولم تعوَّج رحمُ من تعوّجا

قال ابن عباس : {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} يعني : وأوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال قتادة : أقرب خيراً،

وقال ابن جريج : يعني أرحم به منهما بالمقتول. وقال الفراء : وأقرب أن يرحما له. قال الكلبي : أبدلهما اللّه جارية،

فتزوّجها نبّي من الأنبياء،

فولدت له نبياً فهدى اللّه عزّ وجلّ على يديه أُمّة من الأُمم. (وأخبرنا عبد اللّه بن حامد عن حامد بن أحمد قال : أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوّهاب بن فليح عن ميمون بن عبد اللّه القدّاح عن) جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال : (أبدلهما جارية فولدت سبعين نبياً).

وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافراً وكذلك هو في حرف اُبي : (فأما الغلام فكان كافراً،

وكان أبواه مؤمنين). وقال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل،

ولو بقي كان فيه هلاكهما،

فليرضَ امرؤ بقضاء اللّه؛ فإن قضاء اللّه للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.

٨٢

{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ} واسمهما أصرم وصريم {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} اختلفوا في ذلك الكنز ما هو،

فقال بعضهم : صحف فيها علم مدفونة تحته،

وهو قول سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس : ما كان الكنز إلاّ علماً،

وقال الحسن وجعفر بن محمد : (كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : بسم اللّه الرحمن الرحيم. عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن،

وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب،

وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح،

وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل،

وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلاّ اللّه، محمد رسول اللّه).

وقد روي عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) هذا القول مرفوعاً في بعض الروايات أنه كان مكتوباً في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات : (يا أيُّها المهتم هماً لا تهمّه، إنك إن تدركك الحمّى تحمّ (...) علوت شاهقاً من العلم كيف توقيك وقد جفّ القلم؟ ).

وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالاً. (أخبرنا أبو بكر الحمشادي : حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن) مكحول عن (أبي) الدرداء قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله : {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} ،

قال : (كان ذهباً وفضّة).

{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} ،

واسمه كاشح،

وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح،

وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء،

وكان سيّاحاً. (وأخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن) سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده،

وعشيرته التي هو فيها،

والدويرات حوله،

فما يزالون في حفظ اللّه وستره.

وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا رأى ابنه قال : أي بني لأزيدن صلاتي من أجلك،

رجاء أن أحفظ فيك. ويتلو هذه الآية. (وأخبرنا عبد اللّه بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال : حدّثني محمد بن الهيثم ابن عبد اللّه الضبيعي عن) العباس بن محمد بن عبد الرحمن : حدّثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال : كانت لي أخت أسن منّي فاختلطت وذهب عقلها،

وتوحّشت،

وكانت في غرفة في أقصى سطوحها،

فمكثت بذلك بضع عشرة سنة،

وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يُدق في نصف الليل،

فقلت : من هذا؟

قالت : بحّة. قلت : أُختي قالت : أُختك. فقلت : لبيك. وقمت ففتحت الباب،

فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين،

فقلت لها : يا أخته خيراً؟

قالت : خير،

أُتيت الليلة في منامي،

فقيل : السلام عليك يا بحّة،

فقلت : وعليك السلام،

فقيل : إنّ اللّه قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك،

وحفظك بأبيك إسماعيل،

فإن شئت دعوت اللّه لك فأذهب ما بك،

وإن شئت صبرت ولك الجنّة،

فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى اللّه عزّ وجلّ بحب أبيك وجدك إيّاهما. فقلت : إن كان لا بدّ من اختيار أحدهما،

فالصبر على ما أنا فيه والجنّة،

فإن اللّه عزّ وجلّ لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء،

إن يشأ يجمعهما لي فعل. قالت : فقيل لي : قد جمعهما اللّه عزّ وجلّ لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر،

قومي فانزلي. قال : فأذهب اللّه ما بها.

{فَأَرَادَ رَبُّكَ} يا موسى {أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} ،

أي يدركا شدّتهما وقوّتهما. وقيل : ثماني عشرة سنة،

{وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} المكنوز تحت الجدار،

{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} برأيي ومن تلقاء نفسي،

بل فعلت عن أمر اللّه عزّ وجلّ. {ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا} و (اسطاع) و (استطاع) بمعنى واحد.

٨٣

{وَيَسْئلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} ،

اختلفوا في نبوّته فقال بعضهم : كان نبياً. وقال الآخرون : كان ملكاً عادلاً صالحاً. (أخبرنا أبو منصور الحمشادي : أبو عبد اللّه محمد بن يوسف عن) وكيع عن العلاء بن عبد الكريم قال : سمعت مجاهداً يقول : ملك الأرض أربعة : مؤمنان،

وكافران. فأما المؤنان فسليمان وذو القرنين،

وأما الكافران فنمرود وبخت نصّر.

واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين،

فقال بعضهم : سُمي بذلك،

لأنه ملك الروم وفارس. وقيل : لأنه كان في رأسه شبه القرنين. وقيل : لأنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس فكان تأويل رؤياه أنه طاف الشرق والغرب. وقيل : لأنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ثمّ دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر. وقيل : لأنه كان له ذؤابتان حسناوان،

والذؤابة تسمى قرناً. وقيل : لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه. وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس،

وهو حي. وقيل : لأنه إذا كان حارب قاتل بيده وركابه جميعاً. وقيل : لأنه أُعطي علم الظاهر الباطن. وقيل : لأنه دخل النور والظلمة.

٨٤

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض} أوطأنا له في الأرض فملكها وهديناه طرقها،

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى} يحتاج إليه الخلق. وقيل : من كل شيء يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء {سَبَبًا} علماً يتسبّب به إليه. وقال الحسن : بلاغاً إلى حيث أراد. وقيل : قربنا إليه أقطار الأرض،

كما سخرنا الريح لسليمان (عليه السلام) .

٨٥

{فَأَتْبَعَ} : سلك وسار. وقرأ أهل الكوفة : (فأتبع)،

(ثمّ اتبع) بقطع الألف وجزم الثاني : لحق {سَبَبًا} ،

قال ابن عباس : منزلاً،

وقال مجاهد : طريقاً بين المشرق والمغرب،

نظير قوله تعالى : {لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات} يعني الطرق.

٨٦

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} قرأ العبادلة : عبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرو وعبد اللّه بن الزبير،

والحسن،

وأبو جعفر،

وابن عامر وأيوب،

وأهل الكوفة : (حامية) بالألف،

أي حارة. ويدل عليه ما (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن أحمد بن عبد اللّه بن سليمان عن عثمان بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم ابن عيينة عن) إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال : كنت ردف النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (يا أبا ذر أين تغرب هذه؟).

قلت : اللّه ورسوله أعلم. قال : (فإنها تغرب في عين حامية).

وقال عبد اللّه بن عمرو : نظر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى الشمس حين غابت فقال : ( في نار اللّه الحامية،

في نار اللّه الحامية فلولا ما يزعمها من أمر اللّه عزّ وجلّ لأحرقت ما على الأرض).

وقرأ الباقون : {حَمِئَةٍ} مهموزة بغير ألف،

يعني : ذات حمأة،

وهي الطينة السوداء. يدل عليه ما روى سعد بن أوس عن مصرع بن يحيى عن ابن عباس قال : أقرأنيها أُبيّ بن كعب كما أقرأه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} وقال كعب : أجدها في التوراة : (في عين سّوداء)،

فوافق ابن عباس. أبو أسامة عن عمرو بن ميمون قال : سمعت أبا حاضر أو ابن حاضر رجل من الأزد يقول : سمعت ابن عباس يقول : إنّي لجالس عند معاوية إذ قرأ هذه الآية : (وجدها تغرب في عين حامية) فقلت : ما نقرؤها إلاّ {حَمِئَةٍ} . فقال معاوية لعبد اللّه بن عمر : وكيف تقرؤها؟

قال : كما قرأتها يا أمير المؤمنين. قال ابن عباس : فقلت : في بيتي نزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب،

فجاءه فقال : أين تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب؟

قال : أما العربية فأنتم أعلم بها،

وأما الشمس فإنّي أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. قال : فقلت لابن عباس : لو كنت عندكما لانشدت كلاماً تزداد به نصرة في قولك : {حَمِئَةٍ} . قال ابن عباس : فإذن ما هو؟

فقلت : قول تبع :

قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً

ملِكاً تدين له الملوك وتسجد

بلغ المشارق والمغارب يبتغي

أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى معاد الشمس عند غروبها

في عين ذي خلب وثأط حرمد

قال : فقال ابن عباس : ما الخلب؟

قلت : الطين بكلامهم. قال : فما الثأط ؟

قلت : الحمأة. قال : وما الحرمد؟

قلت : الأسود. قال : فدعا رجلاً أو غلاماً،

فقال : اكتب ما يقول هذا. وقال أبو العالية : بلغني أن الشمس في عين،

تقذفها العين إلى المشرق.

{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا} ،

يعني ناساً {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب} : إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} ،

أي تعفو وتصفح. وقيل : تأسرهم فتعلّمهم وتبصّرهم الرّشاد.

٨٧

{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ} ،

أي كفر {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} : نقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} في الآخرة {فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} : منكراً.

٨٨

{وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى} ،

قرأ أهل الكوفة {جَزَآءً} نصباً منوّناً على معنى : فله الحسنى جزاء نصب على المصدر،

وقرأ الباقون بالرفع على الإضافة. ولها وجهان : أحدهما أن يكون المراد بالحسنى : الأعمال الصالحة،

والوجه الثاني أن يكون معنى الحسنى : الجنّة،

فأُضيف الجزاء إليهما كما قال : {وَلَدَارُ الآخِرَةِ} والدار هي الآخرة : و{ذلك دين القيّمة} .

{وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} أي نلين له القول،

ونهوّن له الأمر. وقال مجاهد : {يُسْرًا} أي معروفاً.

٨٩

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} ، أي سلك طريقاً ومنازل

٩٠

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا} ،

قال قتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس ستر؛ وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليهم بناء،

وأنهم كانوا في شرب لهم،

حتّى إذا زالت الشمس عنهم،

خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن : كانت أرضهم أرضاً لا تحتمل البناء،

وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تهوّروا في الماء،

فإذا ارتفعت عليهم خرجوا فتراعوا كما تراعى البهائم. وقال ابن جريج : جاءهم جيش مرّة فقال لهم أهلها : لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها،

فقالوا : ما نبرح حتّى تطلع الشمس. وقالوا : ما هذه العظام؟

قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا. قال : فذهبوا هاربين في الأرض. قال قتادة : ويقال : إنهم الزنج. وقال الكلبي : هم تاريس وتاويل ومنسك عراة حفاة عماة عن الحق،

قال : وحدثنا عمرو بن مالك بن أُميّة قال : وجدت رجلاً بسمرقند يحدّث الناس وهم مجتمعون حوله،

فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرني أنّه حدّثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس قال : خرجت حتّى جاوزت الصين ثمّ سألت عنهم فقيل لي : إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فاستأجرت رجلاً فسرت بقية عشيتي وليلتي حتّى صبحتهم،

فإذا أحدهم يفرش أُذنه ويلبس الأُخرى قال : وكان صاحبي يحسن لسانهم فسألهم وقال : جئنا ننظر كيف تطلع الشمس. قال : فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي عليّ فوقعت فأفقت،

وهم يمسحونني بالدهن،

فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي على الماء كهيئة الزيت وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط،

فلمّا ارتفعت أدخلوني سربالهم أنا وصاحبي،

فلّما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السّمك فيطرحونه في الشمس فينضج.

٩١

قوله تعالى : { كذلك } اختلفوا فيه،

فقال بعضهم : يعني كما بلغ مغرب الشمس فكذلك بلغ مطلعها. وقيل : أتبع سبباً كما أتبع سبباً. وقيل : كما وجد (القبيلتين) عند مغرب الشمس وحكم فيهم،

كذلك وجد عند مطلع الشمس فحكم فيهم بحكم أولئك. وقيل : إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا قصّ عليه خبره قال : { كذلك } أي كذلك أمرُهم والخبر عنهم كما قصصنا عليك،

ثمّ استأنف وقال : {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} ،

يعني عنده ومعه من الملك والجيوش والآلات {خُبْرًا} : علماً.

٩٢-٩٣

{ثمّ أتبع سبباً حتّى إذا بلغ بين السّدين} بفتح السّين،

ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. الباقون بالضم. قال الكسائي : هما لغتان،

وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما حاجزاً بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم. قال عكرمة : ما كان صنعة بني آدم فهو سدّ بفتح السين وما كان من صنع اللّه عزّ وجلّ فهو السّد،

بالضم. قال ابن عباس : السدان أرمينية وآذربيجان. {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا} قرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي {يَفْقَهُونَ} بضم الياء،

وكسر القاف على معنى (يُفهمون) غيرهم،

وقرأ الباقون : {يَفْقَهُونَ} بفتح الياء والقاف،

أي ويعلمون ويفقهون قولاً.

٩٤-٩٥

{قالوا يا ذا القرنين} قيل : كلّمهُ عنهم قوم آخرون مترجمة،

وبيان ذلك في قراءة ابن مسعود : (لا يكادون يفقهون قولاً،

قال الذين من دونهم يا ذا القرنين). وقيل : معناه : لا يكادون يفقهون خيراً من شر،

ولا ضلالاً من هدى،

{إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قرأهما عاصم والأعرج مهموزين،

الباقون بغير همزة. وهما لغتان. قالوا : وأصله من (أجيج النّار)،

وهو ضوؤها وشررها،

شُبّهوا به في كثرتهم وشدّتهم. قال وهب بن منبه ومقاتل بن سليمان : هم من ولد يافت ابن نوح،

وقال الضحّاك : هم جيل من الترك. وقال كعب : هم نادرة من ولد آدم من غير حوّاء،

وذلك أنّ آدم (عليه السلام) قال ذات يوم فاحتلم،

وامتزجت نطفته في التراب،

فلما انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرج منه،

فخلق اللّه تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج،

وهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم.

وقوله تعالى : {مُفْسِدُونَ فِى الأرض} ،

قال سعيد بن عبد العزيز : فسادهم في الأرض أنهم كانوا يأكلون الناس. قال الكلبي : كانوا يخرجون إلى أرضهم أيّام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلاّ أكلوه،

ولا شيئاً يابساً إلاّ احتملوه فأدخلوه أرضهم،

وقد لقوا منهم أذىً شديداً وقتلاً. وقيل : معناه : أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم. (أخبرنا عبد اللّه بن حامد الوّزان عن عبد اللّه بن المبارك عن إبراهيم بن عبد اللّه النسوي : محمد بن المصفي : يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن) الأعمش عن شقيق عن عبد اللّه قال : سألت النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) عن يأجوج ومأجوج،

فقال : (يأجوج أُمّة ومأجوج أُمّة،

كل أُمّة أربعمئة ألف أُمّة،

لا يموت الرجل منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّهم قد حمل السلاح). قيل : يا رسول اللّه صفهم لنا. قال : (هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز) قيل : يا رسول اللّه،

وما الأُرز؟

قال : (شجرة بالشام طول الشجر عشرون ومئة ذراع في السماء،

وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومئة ذراع،

وصنف منهم يفرش أذنه ويلتحف بالأُخرى،

لا يمرّون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلاّ أكلوه ومن مات منهم أكلوه. مقدّمهم بالشام وساقتهم بخراسان،

ويشربون أنهار المشرق وبحيرة الطبرية).

قال وهب بن منبه : كان ذو القرنين رجلاً من الروم،

ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره،

وكان اسمه الإسكندر،

فلمّا بلغ وكان عبداً صالحاً،

قال اللّه تعالى : ( يا ذا القرنين إني باعثك إلى أُمم الأرض،

وهي أُمم مختلفة ألسنتهم،

وهم جميع أهل الأرض،

ومنهم أُمتان بينهما عرض الأرض كلّه وأمم وسط الأرض منهم الجّن والإنس ويأجوج ومأجوج. وأما اللتان بينهما طول الأرض،

فأُمّة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك،

وأمّا الأخرى فعند مطلعها يقال لها منسك،

وأمّا اللتان بينهما عرض الأرض فأُمّة في قطر الأرض الأيمن يُقال لها : هاويل،

والأخرى في قطر الأرض الأيسر يُقال لها : تاويل). فلمّا قال اللّه تعالى له ذلك،

قال ذو القرنين. (يا إلهي إنّك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلاّ أنت،

فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها بأي قوّة اُكابرهم؟

وبأي جمع وبأي حيلة أُكاثرهم؟

وبأي صبر أُواسيهم؟

وبأي لسان أُناطقهم؟

وكيف لي بأن أفقه لغاتهم؟

وبأي سمع أسمع أقوالهم؟

وبأي بصر أنقدهم؟

وبأي حجة أُخاصمهم؟

وبأي عقل أعقل عنهم؟

وبأي حكمة أُدبر أمرهم؟

وبأي قسط أعدل بينهم؟

وبأي حلم أُصابرهم؟

وبأي معرفة أفصل بينهم؟

وبأي علم أُتقن أُمورهم؟

وبأي يد أسطو عليهم؟

وبأي رجل أطؤهم؟

وبأي طاقة أُحصيهم؟

وبأي جند أُقاتلهم؟

وبأي رفق أتألّفهم؟

وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم بهم ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم،

وأنت الرؤوف الرحيم لا تكلّف نفساً إلاّ وسعها،

ولا تحملها إلاّ طاقتها،

ولا تشقيها بل أنت ترحمها). قال اللّه تعالى : (إنّي سأُطوقك ما حمّلتك : أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء،

وأشرح لك فهمك فتفهم كلّ شيء،

وأبسط لك لسانك فتنطق بكلّ شيء،

وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء،

وأمدّ لك بصرك فتنقد كلّ شيء،

وأُحصي لك فلا يفوتك شيء،

وأشدّ لك عضدك فلا يهولك شيء،

وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء،

وأشد لك قلبك فلا يفزعك شيء،

وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء،

وأبسط لك من بين يديك فتسطو

فوق كلّ شيء،

وأشدّ لك وطأتك فتهدّ كل شيء،

وأُلبسك الهيبة فلا يروعك شيء،

وأُسخّر لك النور والظّلمة فأجعلهما جنداً من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك).

فلمّا قيل له ذلك انطلق يؤمُّ الأُمم التي عند مغرب الشمس فلما بلغهم وجد جمعاً وعدداً لا يحصيهم إلاّ اللّه عزّ وجلّ،

وقوّة وبأساً لا يطيقهم إلاّ اللّه،

وألسنة مختلفة،

وأهواء متشتتة،

فلمّا رأى ذلك كابرهم بالظلمة،

فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها فأحاط بهم في كلّ مكان حتّى جمعتهم في مكان واحد ثمّ أخذ عليهم بالنّور فدعاهم إلى اللّه عزّ وجلّ وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه،

فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وآذانهم وأنوفهم وأجوافهم،

ودخلت في بيوتهم ودورهم،

وغشيهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كلّ جانب فماجوا فيه وتحيّروا،

فلمّا أشفقوا أن يهلكوا فيها عجّوا إليه بصوت واحد،

فكشفها عنهم،

وأخذهم عنوة،

فدخلوا في دعوته،

فجنّد من أهل المغرب أُمماً عظيمة،

فجعلهم جنداً واحداً. ثمّ انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم وتحرسهم من خلفهم،

والنور أمامهم يقودهم ويدلّه،

وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى وهو يريد الأُمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يُقال لها هاويل،

وسخّر اللّه عزّ وجلّ له يده وقلبه وعقله ورأيه ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملاً.

فانطلق يقود تلك الأُمم وهي تتبعه،

فإذا انتهى إلى بحر أو مخاصة بنى سفناً من ألواح صغار أمثال البغال،

فنظمها في ساعة ثمّ حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود،

فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها،

ثمّ دفع إلى كل رجل منهم لوحاً فلا يثقله حمله،

فلم يزل ذلك دأبه حتّى انتهى إلى هاويل فعمل فيه كفعله في ناسك. فلّما خرج منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتّى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجنّد منها جنوداً كفعله في الأُمتين اللتين قبلها.

ثمّ كرّ مقبلاً حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل،

وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كلّه فلمّا بلغها عمل فيها وجنّد منها كعمله فيما قبلها.

فلمّا فرغ منها عطف منها إلى الأُمم التي في وسط الأرض من الجّن والإنس ويأجوج ومأجوج،

فلما كان في بعض الطريق ممّا يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أُمّة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إنّ بين هذين الجبلين خلقاً من خلق اللّه تعالى ليس فيهم مشابه الإنس،

وفيهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدّواب والوحش كما يفترسها السّباع،

ويأكلون (حشرات) الأرض كلها من الحيات والبهائم والعقارب وكلّ ذي روح ممّا خلق اللّه،

فليس للّه تعالى خلق ينمي نماهم في العالم الواحد ولا يزدادون كزيادتهم. فإن أتت مدّة على ما ترى من زيادتهم ونمائهم فلا شك أنهم سيملؤون الأرض ويجلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلاّ ونحن نتوقعهم أن يطلع علينا أوّلهم من بين هذين الجبلين،

{فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سّداً قال ما مكنّي فيه ربي خيرٌ فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردما} : أعدّوا لي الصخور والحديد والنحاس حتّى أرتاد بلادهم،

وأعلم علمهم،

وأقيس ما بين جبليهم.

ثمّ انطلق يؤمّهم حتّى دفع إليهم وتوسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد،

ذكرهم وأنثاهم،

يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرّجل المربوع منّا. قال علي بن أبي طالب : (منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول،

لهم مخالب في (موضع) الأظفار من بين أيدينا وأنياب وأضراس كأضراس السّباع وأنيابها يسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل وكقضم البغل المسن أو الفرس القوي،

ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتّقون به من الحر والبرد إذا أصابهم. ولكّل واحد منهم أُذنان عظيمتان أحدهما وبرة والأخرى زغبة يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى،

ويصيف في إحداهما ويشتو في الأُخرى وليس منهم ذكر ولا أُنثى إلاّ وقد عرف أجله الذي يموت فيه،

ومنقطع عمره وذلك أنه لا يموت ميّت من ذكورهم حتّى يخرج من صلبه ألف ولد،

ولا تموت أُنثى حتّى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن الموت. وهم يرزقون السينان أيام الربيع كما يستمطر الغيث لحينه فيقذفون منه كلّ سنّة واحداً فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من القابل فيعمهم على كثرتهم،

وهم يتداعون تداعي الحمام،

ويعوون عواء الذئاب،

ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا).

فلمّا عاين منهم ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما،

وهو في منقطع أرض الترك ممّا يلي مشرق الشمس فوجد بعد ما بينهما مئة فرسخ،

فلمّا أنشأ في عمله حفر له الأساس حتّى بلغ الماء،

ثمّ جعل عرضه خمسين فرسخاً. وجعل حشوه الصخر،

وطينه النحاس يُذاب ثمّ يُصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثمّ علاّه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقاً من نحاس أصفر،

فصار كأنه برد محبّر من صفرة النحاس وحمرته في سواد الحديد.

فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عامداً إلى جماعة الإنس،

فبينا هو يسير إذ دفع إلى أُمّة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون،

فوجد أُمة مقسطة مقتصدة يقيمون بالسّوية،

ويحكمون بالعدل ويتراحمون،

حالتهم واحدة وكلمتهم واحدة،

وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة،

وقلوبهم متآلفة،

وسيرتهم مستوية،

وقبورهم بأبواب بيوتهم،

وليس على بيوتهم أبواب،

وليس عليهم أُمراء،

وليس بينهم قضاة،

ولا بينهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف،

ولا يختلفون ولا يتفاضلون،

ولا يتنازعون،

ولا يستبّون،

ولا يقتلون،

ولا يضحكون،

ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب النّاس،

وهم أطول الناس أعماراً،

وليس فيهم مسكين ولا فقير،

ولا فظ ولا غليظ. فلما رأى ذلك من أمرهم عجب وقال : (أخبروني أيّها القوم خبركم،

فإنّي قد أحصيت الأرض كلّها؛ برّها وبحرها،

وشرقها وغربها،

فلم أرَ أحداً مثلكم،

فخبروني خبركم). قالوا نعم : فسلنا عمّا تريد. قال : (خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟).

قالوا : عمداً فعلنا ذلك،

لئلا ننسى الموت،

ولا يخرج ذكره من قلوبنا.

قال : (فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟).

قالوا : ليس فينا متّهم،

وليس فينا إلاّ أمين مؤتمن.

قال : (فما بالكم ليس عليكم أمير؟).

قالوا : لا حاجة لنا إلى ذلك.

قال : (فما بالكم ليس فيكم حكّام؟).

قالوا : لا نختصم.

قال : (فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟).

قالوا : لا نتكاثر.

قال : (فما بالكم ليس فيكم ملوك؟).

قالوا : لا نفتخر.

قال : (فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟).

قالوا : مِن أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا.

قال : (فما بالكم لا تقتتلون؟).

قالوا : من أجل أنّا شُبنا أنفسنا بالأحلام.

قال : (فما بال كلمتكم واحدة،

وطريقتكم مستقيمة؟).

قالوا : من قبل أنا لا نتكاثر،

ولا نتخادع،

ولا يغتال بعضنا بعضاً.

قال : (فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم،

واعتدلت سيرتكم؟).

قالوا : صحت صدورنا فنُزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا.

قال : (فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟).

قالوا : من أجل أنا نقسم بالسوية.

قال : (فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟).

قالوا : من قبل الذل والتواضع.

قال : (فما جعلكم أطول النّاس أعماراً؟).

قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحقّ،

ونحكم بالعدل.

قال : (فما بالكم لا تضحكون؟).

قالوا : لا نغفل عن الاستغفار.

قال : (فما بالكم لا تحزنون ولا تحردون؟).

قالوا : من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء مذ كنّا،

وأحببناه وحرصنا عليه.

قال : (فما بالكم لا يصيبكم الآفات كما يصيب النّاس؟).

قالوا : لأنّا لا نتوكل على غير اللّه،

ولا نعمل الأنواء والنجوم.

قال : (وهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟).

قالوا : نعم : وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم،

ويواسون فقراءهم،

ويعفون عمّن ظلمهم،

ويحسنون إلى من أساء إليهم،

ويحلمون عمّن جهل عليهم،

ويصلون أرحامهم،

ويؤدون أمانتهم،

ويحفظون وقت صلاتهم،

ويوفون بعهدهم،

ويصدقون في مواعيدهم،

فأصلح اللّه عزّ وجلّ بذلك أمرهم،

وحفظهم ما كانوا أحياء. وكان حقاً على اللّه أن يخلفهم في ذريتهم.

وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فتحفرونه غداً. فيعيده اللّه عزّ وجلّ كأشدّ ما كان. حتّى إذابلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه إن شاء اللّه غداً،

فيعود إليه وهو كهيئته حين تركوه،

فيحفرونه فيخرجون على النّاس فيتبعون المياه،

ويتحصن النّاس في حصونهم،

فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم،

فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فيبعث اللّه عزّ وجلّ نغفاً عليهم في أقفائهم فيقتلونهم). قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (والذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتسكر سكراً من لحومهم).

وروى محمود بن قتادة عن أبي سعيد الخدري أنه قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال اللّه عزّ وجلّ : {وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} فيغشون الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى حصونهم ومدائنهم حتى إن أولهم يمرون بالنهر من أنهار الأرض) قال أبو الهيثم : الدجلة (فيشربون حتى يصير يابسة،

فيمر به الذين من بعدهم فيقولون : لقد كان بهذا المكان ماء مرّة،

حتى إذا ظهروا على أهل الأرض قالوا : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم،

وبقي أهل السماء).

قال (صلى اللّه عليه وسلم) (فيهزّ أحدهم حربته ثمّ يقذفها إلى السماء فترجع إليه مختضبة دماً للفتنة. فبينا هم كذلك إذ يبعث اللّه عزّ وجلّ عليهم دوداً كنغف الجراد فيموتون موت الجراد،

فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً،

فيقولون : هل من رجل يشتري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء القوم؟

فينزل رجل منهم قد أيقن أنه مقتول،

فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي أصحابه : أبشروا،

فقد كفاكم اللّه عزّ وجلّ عدوّكم. فيخرج المسلمون فيرسلون مواشيهم فيهم فما يكون لها رعىً غير لحومهم وتكثر عليه كأحسن ما تكثر على شيء من النبات أصابته قط).

قال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءها،

ويأكلون دوابّها،

ثمّ يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من النّاس،

ولا يقدرون أن يأتوا مكّة ولا المدينة ولا بيت المقدس.

في قوله تعالى : {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} قرأ أهل الكوفة : (خراجاً) بالألف. الباقون بغير ألف،

وهما لغتان،

بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء : الخرج : ما تبرّعت به،

والخراج : ما لزمك أداؤه. {عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} : حاجزاً فلا يصلون إلينا؟

{قَالَ} لهم ذو القرنين : {مَا مَكَّنِّى} على الإدغام. وقرأ أهل مكة : (ما مكنني) بنونين بالإظهار {فِيهِ رَبِّى} وقوّاني عليه {خَيْرٌ} ،

ولكن {أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما} : حاجزاً كالحائط والسدّ. قالوا : وما تلك القوّة؟

قال : (فعلة وصنّاع يحسنون البناء والعمل والآلة). قالوا : وما تلك الآلة؟

٩٦

قال : {زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى} يعني : أعطوني قطع الحديد،

واحدتها زبرة،

فأتوه بها،

فبناه {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} ،

وروى مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح قال : بلغنا أنه وضع الحطب بين الجبلين،

ثمّ نسج عليه الحديد،

ثمّ نسج الحطب على الحديد،

فلم يزل يجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} ،

وهما الجبلان بضمّ الصاد والدال،

وفتحهما وأمر بالنّار فأُرسلت فيه،

ثمّ {قَالَ انفُخُوا} ،

ثمّ جعل يفرغ القطر عليه،

فذلك قوله تعالى : {أُفْرِغْ عَلَيْهِ} : أصب عليه {قِطْرًا} ،

وهو النحاس المذاب. قال : فجعلت النّار تأكل الحطب ويصب النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس.

٩٧

{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} ويعلوه من فوقه،

{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} من أسفله. قال قتادة ذُكر لنا أن رجلاً قال : يا نبيّ اللّه قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال : (انعته لي). قال : كالبرد المحبّر؛ طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال : (قد رأيته).

٩٨

{قَالَ} ذو القرنين لمّا فرغ من بنائه يعني هذا السّد : {هذا} السّد {رَحْمَةً} : نعمة {مِّن رَّبِّى} ؛ فلذلك لم يقل : هذه. {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ} ملتزقة مستوية بالأرض من قولهم : ناقة دكّاء أي مستوية الظهر لا سنام لها. ومن قرأ : (دكّاً) بلا مدّ فمعناه : مدكوك يومئذ،

{وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا} .

٩٩

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} ،

يعني الخلق {يومئذ يَمُوجُ} : يدخل {فِى بَعْضٍ} ويختلط إنسهم بجنّهم حيارى،

{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} في صعيد واحد،

١٠٠

{وَعَرَضْنَا} : وأبرزنا {جَهَنَّمَ يومئذ} ،

يعني يوم القيامة {لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا} .

١٠١

ثمّ وصفهم فقال : {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ} : غشاوة وغفلة {عَن ذِكْرِى} ،

يعني : الإيمان والقرآن {وَكَانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} ،

أي لا يطيقون أن يسمعوا كتاب اللّه عزّ وجلّ ويتدبّروه ويؤمنوا به لغلبة الشقاء عليهم. وقيل : لعداوتهم النبي (صلى اللّه عليه وسلم)

١٠٢

{أَفَحَسِبَ} : أفظنّ. وقرأ عكرمة ومجاهد وعلي : (أفحسْبُ)،

أي كفاهم ذلك {الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى} ،

يعني عيسى والملائكة {مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ} ؟

كلاّ بل هم لهم أعداء ويتبرؤون منهم. قال ابن عباس : يعني : الشياطين،

تولوهم وأطاعوهم من دون اللّه. وقال مقاتل : يعني : الأصنام،

وسمّاهم عباداً كما قال في موضع آخر : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} .

١٠٣

{إنّا أعتدنا جهنّم للكافرين نُزُلاً قل هل ننبئُكم بالأخسرين أعمالا} يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحاً،

فنالوا به هلاكاً وعطباً،

ولم يدركوا ما طلبوا،

كالمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحاً،

فخاب رجاؤه وخسر بيعه. واختلفوا في الذين عُنوا بذلك فقال علي بن أبي طالب : (هم الرهبان والقسوس الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع).

وقال سعد بن أبي وقّاص وابن عباس : هم اليهود والنصارى،

نظيره : {عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية} . وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل قال : سأل عبد اللّه بن الكوّا علياً عن قوله : {هَلْ نُنَبِّئُكُم بِاخْسَرِينَ أَعْمَا} ،

قال : (أنتم يا أهل حروراء).

١٠٤

{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ،

أي يظنون أنهم بفعلهم مطيعون محسنون

١٠٥

{أُولَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَِآيَاتِ ربهم وَلِقَآهِ فَحَبِطَتْ} : بطلت وذهبت {أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ،

قال أبو سعيد الخدري : يأتي أُناس بأعمال يوم القيامة هي في العظم عندهم كجبال تهامة،

فإذا وزنوها لم تزن شيئاً،

فذلك قوله : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} .

(حدثنا القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب إملاءً : أبو بكر أحمد بن إسحاق ابن أيّوب عن محمد بن إبراهيم : يحيى بن بكير بن المغيرة عن أبي الزيّاد عن) الأعرج عن أبي هريرة عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنه قال : (يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة،

اقرؤوا : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ).

(أخبرنا عبد اللّه بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشر عن مروان ابن معاوية عن) المغيرة بن مسلم عن سعيد بن عمرو بن عثمان قال : سمعت عثمان بن عفّان (ح) يقول : الربا سبعون باباً أهونهن مثل نكاح الرجل أُمه. قال : وأربى الربى عرض أخيك المسلم تشتمه. قال : ويؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب الذي يشرب الظرف في المجلس فيوزن فلا يعدل جناح بعوضة،

خاب ذلك وخسر،

ثمّ تلا هذه الآية : {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} .

١٠٦

{ ذلك جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا} ،

يعني سخرية.

١٠٧

{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا} اختلفوا في الفردوس،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الجنّة مئة درجة،

ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. أعلاها الفردوس،

ومنها تفجر أنهار الجنة،

وفوقها عرش الرحمن فسلوه الفردوس).

(وأخبرنا عبد اللّه بن حامد عن مكّي بن عبدان عن مسلم بن الحجاج عن نصر بن علي وإسحاق بن إبراهيم وأبي غسان واللفظ له قالوا : قال أبو عبد الصمد : قال) عمران الجويني عن أبي بكر بن عبد اللّه بن قيس عن أبيه عن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (جنّات الفردوس أربع : جنتان من ذهب أبنيتهما ومافيهما،

وجنتان من فضّة أبنيتهما وما فيهما،

وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه).

وقال شهر : خلق اللّه جنّة الفردوس بيده فهو يفتحها في كل يوم خميس فيقول : ازدادي حسناً وطيباً لأوليائي. وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أُمامة : الفردوس سرة الجنّة. وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال مجاهد : هو البستان بالرومية. وقال كعب : هو البستان فيه الأعناب. وقال الضحاك : هي الجنّة الملتفة الأشجار. وقيل : هي الروضة المستحسنة. وقيل : هي الأودية التي تنبت ضروباً من النبات،

وجمعها فراديس : وقال أُمية :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل

١٠٨

{خَالِدِينَ فِيهَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} أي يطلبون عنها تحولاً إلى غيرها،

وهو مصدر مثل الصعَر والعِوج. قال مخلد بن الحسين : سمعت بعض أصحاب أنس قال : يقول أولهم دخولاً : إنما أدخلني اللّه أولهم؛ لأنه ليس أحد أفضل منّي. ويقول آخرهم دخولاً : إنما أخّرني اللّه،

لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني.

١٠٩

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى} الآية،

قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة،

وفي كتابك : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} ثمّ يقول : {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} فكيف يكون هذا؟

فأنزل اللّه تعالى {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أي ماؤه {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى} حكمه وعجائبه. وقرأ أهل الكوفة (قبل أن ينفد) بالياء؛ لتقدم الفعل،

{وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} : عوناً وزيادة. وفي مصحف أُبي : (ولو جئنا بمثله مداداً) ونظيرها قوله عزّ وجلّ {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الآية.

١١٠

{قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري،

وذلك أنه قال للنبّي (صلى اللّه عليه وسلم) إنّي أعمل للّه،

فإذا اطّلع عليه سرنّي. فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن اللّه تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيب ولا يقبل ما شورك فيه)،

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال أنس : قال رجل : يانبي اللّه،

إنّي أُحب الجهاد في سبيل اللّه،

وأُحب أن يُرى مكاني،

فأنزل اللّه : {قُلِ} يا محمد : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} : خلق آدمي مثلكم. قال ابن عباس : علّم اللّه رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه،

{يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ} لا شريك له {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ} : المصير إليه. وقيل : معناه يأمل رؤية ربّه،

فالرجاء يتضمّن معنيين : الخوف والأمل،

قال الشاعر :

فلا كل ما ترجو من الخير كائن

ولا كل ما ترجو من الشر واقع

فجمع المعنيين في بيت واحد.

{فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا} : خالصاً {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا} ،

أي ولا يراءِ. قال شهر ابن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت،

فقال : أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه اللّه عزّ وجلّ ويحب أن يحمد عليه،

ويصوم يبتغي وجه اللّه عزّ وجلّ ويحب أن يحمد،

ويتصدّق يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد عليه،

ويحجّ يبتغي وجه اللّه ويحب أن يحمد عليه؟

فقال عبادة : ليس له شيء،

إن اللّه عزّ وجلّ يقول : (أنا خير شريك،

فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه). (أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن محمد بن عبد اللّه الجوهري عن حامد بن شعيب البجلي عن شريح بن يونس عن إسماعيل بن جعفر قال : أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اتقوا الشرك الأصغر). قالوا : وما الشرك الأصغر؟

قال : (الرياء يوم يجازي اللّه النّاس بأعمالهم).

أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد اللّه بن هاشم عن عبد الرحمن عن) سفيان عن سلمة قال : سمعت جندباً قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من سمّع سمّع اللّه به،

ومن يراءِ يراءِ اللّه به).

وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبّي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (اتقوا الشرك الأصغر). قالوا : وما الشرك الأصغر؟

قال : (الرياء يوم يجازي اللّه الناس بأعمالهم).

وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لمّا نزلت هذه الآية : (إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفيّ،

وإيّاكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أُمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. ومن صلى يرائي فقد أشرك،

ومن صام يرائي فقد أشرك،

ومن تصدّق يرائي فقد أشرك).

قال : فشقّ ذلك على القوم،

فقال رسول اللّه : (أولا أدلّكم على ما يُذهب عنكم صغير الشرك وكبيره؟).

قالوا : بلى يا رسول اللّه. قال : قولوا : (اللّهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم،

وأستغفرك لما لا أعلم).

وقال عمرو بن قيس الكندي : سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر تلا هذه الآية،

{فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ} الآية،

فقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن. وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (أوحي إلّي أن من قرأ : {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِ} الآية رفع له نور ما بين عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة).

(وأخبرني محمد بن القاسم عن محمد بن زيد قال : أبو يحيى البزاز عن أحمد بن يوسف عن محمد بن العلا عن زياد بن قايد عن) سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه،

ومن قرأها كلّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء).

﴿ ٠