سورة طه

وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً،

وثلثمائة وإحدى وأربعون كلمة،

ومائة وخمس وثلاثون آية

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد العدل،

نبّأ عبد اللّه بن محمد بن عبد الرَّحْمن الرازي،

قال أبو جعفر محمد بن عبد اللّه بن سليمان الحضرمي وخشنام بن بشر بن العنبر قالا : قال إبراهيم بن المنذر الحرامي عن إبراهيم بن المهاجر قال : حدّثني عمر بن حفص ابن ذكوان عن مولى الحرقة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ اللّه عزّ وجلّ قرأ طه وياسين قبل أن يخلق آدم بألفي عام،

فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأُمّة تقول عليها هذا،

طوبى لألسن تتكلم بهذا،

وطوبى لأجواف تحمل هذا.

وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال أبو نصر منصور بن عبد اللّه السرخسي عن محمد بن الفضل عن إبراهيم بن يوسف عن المسيّب عن زياد عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إّلا يس وطه).

بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١

قوله عزّ وجلّ {طه} قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء،

وقرأ أهل المدينة والشام بين الكسر والفتح فيهما،

وقرأ الأعمش وحمزه والكسائي بكسر الهاء والطاء،

وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد الأزدي عن محمد بن الجهم السمري،

عن يحيى بن زياد الفرّاء عن عيسى بن الربيع عن زرّ بن حبيش قال : قرأ رجل على عبد اللّه بن مسعود {طه} فقال له عبد اللّه : {طه} فقال له الرجل : يا أبا عبد الرَّحْمن أليس أُمر أن يطأ قدميه؟

فقال عبد اللّه : طِه،

هكذا أقرأني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم)

واختلفوا في تفسيره،

فروى عبد اللّه بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو قسم أقسم اللّه به وهو اسم من أسماء اللّه،

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : هو كقولك : افعل،

وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك : معناه يا رجل،

وقال عكرمة : هو كقولك : يا رجل بلسان الحبشة يعني محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) وقال قتادة : هو يا رجل بالسريانيّة،

وقال سعيد بن جبير : يا رجل بالنبطية. وروى السدّي عن أبي مالك وعكرمة : طه،

قالا : يا فلان،

وقال الكلبي : هو بلغة عكّ : يا رجل،

قال شاعرهم :

ان السفاهة طه في خلائقكم

لا قدّس اللّه أرواح الملاعين

وقال آخر :

هتفت بطه في القتال فلم يجب

فخفت لعمرك أن يكون موائلا

مقاتل بن حيان معناه : طئ الأرض بقدميك،

يريد في التهجّد،

وقال محمد بن كعب القرظي : أقسم اللّه تعالى بطَوله وهدايته،

٢-٣

وموضع القاسم قوله {مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى} .

وقال جعفر بن محمد الصادق (ح) : طه : طهارة أهل بيت محمد (صلى اللّه عليه وسلم) ثم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وقيل : الطاء شجرة طوبى،

والهاء هاويه. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه فكأنّه أقسم بالجنة والنار.

وقال سعيد بن جبير : الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب،

والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل : الطاء يا طامع الشفاعة للأُمة،

والهاء يا هادي الخلق إلى الملّة.

وقيل : الطاء من الطهارة،

والهاء : من الهداية،

وكأنه تعالى يقول لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم : يا طاهراً من الذنوب،

ويا هادياً إلى علاّم الغيوب،

وقيل : الطاء : طبول الغزاة،

والهاء : هيبتهم في قلوب الكفار،

قال اللّه تعالى {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} . وقال : وقذف في قلوبهم الرعب،

وقيل : الطاء : طرب أهل الجنة،

والهاء : هوان أهل النار في النار،

وقيل : الطاء تسعة في حساب (الجمل) والهاء خمسة،

أربعة عشر،

ومعناها يا أيّها البدر {مَا أنْزَلْنا عَلَيْككَالقُرْآنَ لِتَشْقى} قال مجاهد : كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ذلك بالفرض،

وأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

وقال الكلبي : لمّا نزل على رسول اللّه الوحي بمكّة اجتهد في العبادة واشتدّت عبادته فجعل يصلّي الليل كله،

فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلّي.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى تورمت قدماه،

وقيل له : يا رسول اللّه أليس قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟

فقال (صلى اللّه عليه وسلم) أفلا أكون عبداً شكوراً.

وقال مقاتل : قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث للنبىّ (صلى اللّه عليه وسلم) إنّك لتسعى بترك ديننا وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده فإننا نراه أنّه ليس للّه وأنّك مبعوث إلينا،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بل بعثت رحمة للعالمين،

قالوا : بل أنت شقيّ،

فأنزل اللّه تعالى {طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكِ القُرْآنَ لِتَشْقى} وأصل لكن أنزلناه عظة لمن يخشى.

قال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : ما أنزلنا عليك القرآن إّلا تذكرة لمن يخشى ولئلاّ تشقى،

تنزيلاً بدل من قوله تذكرةً.

وقرأ أبو الشامي : تنزيل بالرفع يعني هذا

٤

{تَنْزِيْلٌ مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَّماوات العُلى} يعني العالية الرفيعة وهو جمع العُليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر

٥-٦

{الرَّحْمانُ على الْعَرْش اسْتَوى لَهُ ما في السَّمواتِ وَما في الأرْض وَما بَيْنَهُمَا وَما تَحْتَ الثَّرى} يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي،

تقول العرب : شبر ندىّ وسهر نديّ وسهر مرعىّ.

قال ابن عباس : الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإنّ طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء،

وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها اللّه تعالى في القرآن في قصة لقمان {فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ} الصخرة على قرن ثور،

والثور على الثرى {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} لا يعلمه إلاّ اللّه عزّ وجلّ،

وذلك الثور فاتح فاهُ فإذا جعل اللّه عزّ وجلّ البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور،

فإذا وقعت في جوفه يبست.

٧-٨

{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ} تُعلن {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد،

أخبرنا حامد أخبرنا بشر بن موسى عن عبد اللّه بن صالح العجلي،

حدَّثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال : وأخفى حديث نفسك نفسك.

وأخبرني عبد اللّه بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن،

حدَّثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل،

حدَّثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال : السرّ ما أسررت في نفسك،

وأخفى أخفى من السّر،

ما ستحدّث به نفسك،

ما لا تعلم أنّك تحدّث به نفسك.

وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : السر ما تُسرّ في نفسك،

وأخفى من السرّ ما لم يكن وهو كائن،

قال : وأنت تعلم ما تسرّ اليوم ولا تعلم ما تسرّ غداً،

واللّه عزّ وجلّ يعلم ما أسررت اليوم وما تسرّ غداً.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : السرّ ما أسرّ ابن آدم في نفسه،

وأخفى ما خفي على ابن آدم مّما هو فاعله قبل أن يعلمه،

فاللّه يعلم ذلك كله،

فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد،

وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة.

وقال مجاهد : السرّ العمل الذي يسرّون من الناس،

وأخفى الوسوسة،

وقال زيد بن أسلم : معناه يعلم أسرار العباد،

وأخفى سرّه فلا يعلم.

وقال الحسن : السرّ ما أسرّ الرجل إلى غيره،

وأخفى من ذلك ما أسرّه في نفسهِ.

ثم وحّد نفسه فقال : {اللّه لا اله إِلا هُوَ لَهُ اسْمَآءُ الْحُسْنَى} .

٩

{وَهَلْ أَتَ اكَ} يا محمد {حَدِيثُ مُوسَى} قال أهل المعاني : هو استفهام اثبات مجازه : أليس قد أتاك؟

. وقال بعضهم : معناه : وقد أتاك،

وقال : لم يكن قد أتاه ثم أخبره.

١٠

{إِذْ رَءَا نَارًا} ليلة الجمعة،

وقال وهب بن منّبه : استأذن موسى شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله،

فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد عن الطريق،

فقدح موسى النار فلم تور المقدحة،

فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق {فَقَالَ هْلِهِ} لامرأته {امْكُثُوا} أقيموا مكانكم {إِذْ رَءَا} أبصرتُ {نَارًا فَقَالَ هْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى} يعني شعلة من النار،

والقبس : ما اقتبس من خشب أو قصب أو غير ذلك {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} يعني من يدلّني على الطريق

١١

{فَلَمَّآ أَتَ اهَا} رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم،

وسمع تسبيح الملائكة،

ورأى نوراً عظيما فخاف وتعّجب،

فأُلقيت عليه السكينة ثمّ

١٢

{نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة،

ونظيره قوله للرسول عليه السلام {وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} .

{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} وكان السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد،

قال : أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال : حدَّثنا أحمد بن نجدة قال : حدَّثنا الحمّاني قال : حدَّثنا عيسى بن يونس عن حميد بن عبد اللّه عن عبد اللّه بن الحرث العنبسي عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قال : كانتا من جلد حمار ميّت،

وفي بعض الأخبار : غير مدبوغ،

وقال الحسن : ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في نعليه؟

وإنّما أُمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار،

وقال أبو الأحوص : أتى عبد اللّه أبا موسى في داره فأُقيمت الصلاة فقال لعبد اللّه تقدّم،

فقال له عبد اللّه : تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه،

فقال له عبد اللّه : أبالواد المقدّس أنت ؟.

وقال عكرمة ومجاهد : إنّما قال له : اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين.

وقال بعضهم : أُمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع،

وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت.

قال سعيد بن جبير : قيل له : طأ الأرض حافياً،

كيما يدخل كعبه من بركة الوادي.

وقال أهل الاشارة : معناه : فرِّغ قلبك من شغل الأهل والولد.

قالوا : وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج.

فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} المطهّر {طُوًى} اسم الوادي،

وقال الضحاك : مستدير عميق مثل الطوى في استدارته،

وقيل : اراد به إنك تطوي الوادي،

وقيل : هو الليل،

يقال : أتيتك طوى من الليل،

وقيل : طُويَت عليه البركة طيّاً،

وقرأ عكرمة : طوى بكسر الطاء وهما لغتان،

وقرأ أهل الكوفة والشام : طِوَىً بالتنوين وإلاّ جرّاً لتذكيره وتحقيقه،

الباقون من غير تنوين،

قال : لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ،

فلّما كان معدولاً عن وجهه كان مصروفاً عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم.

١٣

{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} اصطفيتك،

وقرأ حمزة : وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم

١٤

{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} ولا تعبد غيري {إِنَّنِى أَنَا اللّه}

قال مجاهد : أقم الصلاة لتذكرني فيها،

وقال مقاتل : إذا تركت الصلاة ثمَّ ذكرتها فأقمها،

يدلّ عليه ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدَّثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدَّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنَّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها،

إنّ اللّه سبحانه يقول : {إِنَّنِى أَنَا اللّه} .

وقيل : هو مردود على الوحي يعني فاستمع لما يوحى واستمع لذكري.

١٥

{إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} فأكاد صلة،

كقول الشاعر :

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه

فما أن يكاد قرنه يتنفس

يعني : فما يتنفس من خوفه،

والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل،

قال ابن عباس وأكثرالمفسّرين : معناه أكاد أُخفيها من نفسي،

وكذلك هو في مصحف اُبي،

وفي مصحف عبد اللّه : أكاد أُخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق؟

وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟

قال قطرب : فإن قيل : كيف يخفي اللّه من نفسه وهو خلق الإخفاء؟

قلنا : إنّ اللّه سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه،

ألا ترى أنَّ الرجل يعذل أخاه فيقول له : أُذعت سرّي،

فيقول مجيباً له معتذراً إليه : واللّه لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته ؟

معناه عندهم : أخفيته الإخفاء كله،

وقال الشاعر :

أيام تُعجبني هند وأُخبرها

ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري

فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه؟

فمجاز الآية على هذا.

وقرأ الحسن وسعيد بن جبير : أَخفيها بفتح الألف أي أُظهرها وأُبرزها يقال : خفيت الشيء إذا أظهرته،

وأخفيته إذا سترته،

قال امرؤ القيس :

خفاهنّ من إنفاقِهنّ كأنّما

خفاهنّ ودق من سحاب مركّب

أي اخرجهن.

{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى} أي تعمل من خير وشرّ

١٦

{فَلا يَصُدَّنَّكَ} يصرفنّك {عَنْهَا} يعني عن الإيمان بالساعة {مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} مراده {فَتَرْدَى} فتهلك.

١٧-١٨

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ} وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل {أَتَوَكَّؤُا} اعتمد {عَلَيْهَا} إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة والطفرة. {وَأَهُشُّ} وأخبط {بِهَا} الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي،

وقرأ عكرمة (وأهسُّ) بالسين يعني وازجر بها الغنم،

وذلك أن العرب تقول : هس هس،

وقال النضر بن شمّيل : سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال : العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام،

كقولهم : شمّت العاطس وسمّته،

وشن عليه الدرع وسن،

والروشم والروسم للختم.

{وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ} حوائج ومنافع،

واحدتها مأرَبة ومَأرُبة بفتح الراء وضمّها {أُخْرَى} ولم يقل أُخَر لرؤوس الآي.

قال ابن عباس : كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه،

فجعلت تماشيه وتحدّثه،

وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه،

ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء،

وكان يردّ بها غنمه،

وتقيه الهوام بإذن اللّه،

وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه،

وإذا أراد إلاسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي،

وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها،

وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها،

فهذه المآرب.

١٩-٢٠

قال اللّه سبحانه {أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا} من يده {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى} تمشي مسرعة على بطنها.

قال ابن عباس : صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس،

وجعلت تتورّم حتى صارت ثعباناً،

وهو أكبر ما يكون من الحيّات،

فلذلك قال في موضع {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} وهو أصغر الحيّات،

وفي موضع ثعبان وهو أعظمها،

فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها،

والثعبان إخبار عن انتهاء حالها،

وقيل : أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ،

فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأُنثى.

قال فرقد السخي : كان ما بين جنبيها أربعين ذراعاً فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الاعجوبة

٢١

{قَالَ} اللّه تعالى له {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا} أي إلى سيرتها وهيئتها {اولَى} نردّها عصاً كما كانت

٢٢

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} يعني إبطك.

وقال الكلبي : أسفل من الإبط،

وقال مجاهد : تحت عضدك،

وقال مقاتل : يعني مع جناحك وهو عضده {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} برص ولا داء {أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى} سوى العصا،

فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر

٢٣

{لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى} وكان من حقّه الكبر وإنّما قال : الكبرى وفاقاً لرؤس الآي،

وقيل : فيه اضمار معناه {لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا} الآية الكبرى دليله قول ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته.

٢٤

{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} عصى وعلا وتكبّر وكفر،

فادعه إلى عبادتي،

واعلم بأنّي قد ربطت على قلبه،

قال : فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطتَ على قلبه؟

فأتاه ملك من خزّان الريح فقال : انطلق،

فإنّا اثنا عشر من خزّان الريح منذ خلقنا اللّه سبحانه نحن في هذا فما علمناه،

فامض لأمر اللّه،

٢٥

فقال موسى عند ذلك {رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى} وسّع وليّن قلبي بالإيمان والنبوّة

٢٦

{وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى} وسهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون

٢٧

{وَاحْلُلْ} وابسُط وافتح {عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى}

قال ابن عباس : كانت في لسانه رُتّة،

وذلك أنّه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته : انَّ هذا عدوّي،

فقالت آسية : على رسلك إنّه صبي لا يفرّق بين الأشياء ولا يميّز،

ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأُخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى،

فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرُتّة

٢٨

{يَفْقَهُوا قَوْلِي} كي يفهموا كلامي

٢٩

{وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا} معيناً وظهيراً {مِّنْ أَهْلِى} ثمَّ بين من هو فقال

٣٠-٣١

{هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} قوِّ به ظهري

٣٢

{وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} يعني النبوّة وتبليغ الرسالة

٣٣

{كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا} نصلّي لك

٣٤-٣٥

{وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} .

وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر : اشدد به أزري بفتح الألف وأُشركه بضم الألف على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أنّي أفعل ذلك،

٣٦

قال اللّه سبحانه {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} قد أُعطيت مرادك وسؤالك يا موسى.

٣٧

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} قبل هذا وهي

٣٨

{إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ} وحي إلهام مثل وحي النحل

٣٩

{مَا يُوحَى أَنْ اقْذِفِيهِ} أن اجعليه {فِى التَّابُوتِ} .

قال مقاتل : والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل،

وقيل : إنّه كان من بردي {فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ} يعني نهر النيل {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} يعني شاطئ النهر،

لفظه أمر ومعناه خبر مجازه : حتى يلقيه اليمّ بالساحل {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} يعني فرعون،

فاتّخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً،

ووضعت فيه موسى،

وقيّرت رأسه وَخصَاصه يعني شقوقه ثمّ ألقته في النّيل،

وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون،

فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء،

فلمّا رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ من أصبح الناس وجهاً،

فلمّا رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك،

فذلك قوله سبحانه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى} قال ابن عباس : أحبّه وحبّبه إلى خلقه،

قال عطيّة العوفي : جعل عليه مُسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه مَن رآه،

قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى،

ما رآه أحد إلاّ عشقه.

{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى} أي ولتربّى وتغذّى بمرأىً ومنظر منّي

٤٠

{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} واسمها مريم متعرّفة خبره {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ} يرضعه ويضمّه إليه،

وذلك أنّه كان لا يقبل ثدي امرأة،

فلمّا قالت لهم أُخته ذلك قالوا : نعم،

فجاءت بالأُمّ فقبل ثديها فذلك قوله {فَرَجَعْنَاكَ} فرددناك {إِلَى أُمِّكَ} . وفي مصحف أُبي فرددناك إلى أُمّك {كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بلقائك وبقائك {وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا} قال ابن عباس : قتل قبطياً كافراً.

قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي من غّم القتل وكربته {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} . قال ابن عباس : اختبرناك اختباراً. وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل،

ابتليناك ابتلاءً. وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} يعني عشر سنين {فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} وهي بلدة شعيب على ثلاث مراحل من مصر،

قال وهب : لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة،

عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى وُلد لَه.

{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَر يَا مُوسَى} . قال مقاتل : على موعد،

قال محمد بن كعب : ثم جئت على القدر الذي قدّرت أنك تجيء.

قال عبد الرَّحْمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء،

قال الكلبي : وافق الكلام عند الشجرة.

٤١

{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} اخترتك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة أو النبوّة

٤٢

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَِايَاتِى} اليد والعصا {وَلا تَنِيَا} قال ابن عباس : لا تضعفا،

وقال السُدّي : لا تفترا،

وقال محمد بن كعب : لا تقصّرا.

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا،

وقي قراءة ابن مسعود : ولا تهنا.

٤٣-٤٤

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنا} قال ابن عباس : لا تعنّفا في قولكما ولا تغلّظا،

وقال السدّي وعكرمة : كنّياه قولا له : يا أبا العباس،

وقيل : يا أبا الوليد.

وقال مقاتل : يعني بالقول اللين هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربّك فتخشى.

وقال أهل المعاني : معناه الطُفا له في قولكما فإنّه ربّاك وأحسن تربيتك وله عليك حقّ الأُبوّة فلا تجبهه بمكروه في أوّل قدومك عليه،

يقال : وعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم وملكاً لا يُنزع عنه إلاّ بالموت،

ويبقى عليه لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته.

قال المفسّرون : وكان هارون يومئذ بمصر فأمر اللّه عزّ وجلّ أن يأتي هو وهارون،

وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقّاه إلى مرحلة وأخبره بما أُوحي إليه فقال له موسى : إن اللّه سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربّي عزّ وجلّ أن يجعلك معي. وقوله {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي يسلم.

فإن قيل : كيف قال : لعله يتذكر أو يخشى وعلمه سابق في فرعون أنّه لا يتذكّر ولا يخشى؟.

قال الحسين بن الفضل : هو مصروف إلى غير فرعون،

ومجازه : لكي يتذكّر متذكّر أو يخشى خاش إذا رأى برّي وإلطافي بمن خلقته ورزقته،

وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادّعى الربوبية دوني.

وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : لعلّ ها هنا من اللّه واجب،

ولقد تذّكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية،

وذلك قوله حين الجمَهُ الغرقُ في البحر {آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِين}.

سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول سمعت علىّ بن محمد الوراق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية : هذا رفقك بمن يقول : أنا الإله،

فكيف رفقك بمن يقول : أنت الإله ؟

قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظاً اقتديت به فيها فقلت : هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟

هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟

هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك؟

هذا رفقك بمن يقول لك نِدّاً فكيف رفقك بمن يقول فرداً؟

هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟

هذا رفقك بمن أصرَّ فكيف رفقك بمن أقرَّ؟

هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟

٤٥

{قَالا} يعني موسى وهارون {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} . قال ابن عباس : يعجّل بالقتل والعقوبة،

وقال الضحّاك : تجاوز الحدّ،

وقيل : يغلبنا {أَوْ أَن يَطْغَى} يتكبرّ ويستعصي علينا.

٤٦

{قَالَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ} بالدفع عنكما {أَسْمَعُ} قولكما وقوله {وَأَرَى} فعله وفعلكما

٤٧

{فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بنى إسرائيل وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي ولا تتعبهم في العمل،

وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل ابناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه.

قال موسى {قَدْ جِئْنَاكَ بَِايَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال فرعون : وما هي؟

قال : فأدخل يده في جيب قميصه ثمَّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس،

غلبت نور الشمس،

فعجب منها ولم يُره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزينة.

{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} يعني من أسلم

٤٨

{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ} أنبياء اللّه {وَتَوَلَّى} أعرض عن الإيمان،

ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن.

٤٩

{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي.

٥٠

{قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ} قال الحسين وقتادة : أعطى كلّ شئ صلاحه وهداه لما يصلحه.

وقال مجاهد : لم يجعل الإنسان في خلق البهائم،

ولا خلق البهائم في خلق الإنسان،

ولكن خلق كلّ شي فقدّره تقديراً.

وقال عطيّة : أعطى كلّ شئ خلقه يعني صورته.

وقال الضحّاك : أعطى كلّ شيء خلقه،

يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأُذن للسمع.

وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد الزهري قال : حدَّثنا أحمد ابن سعيد قال : حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح،

أعطى كل شي خلقه {ثُمَّ هَدَى} قال : هداه لمعيشته.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : {أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ} يعني شكله،

للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثمَّ هدى أي عرَّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأُنثى في النكاح. وقرأ نصير خلَقه بفتح اللام على الفعل.

٥١

{قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى} وإنَما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى : {إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم}،

فقال فرعون حينئذ له : فما بال القرون الاولى التي ذكرت؟

٥٢

فقال موسى {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ،

وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى اللّه سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك،

وإنَما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه {لا يَضِلُّ رَبِّى} أي لا يخطئ {وَلا يَنسَى} فيتذكّر،

وقال مجاهد : هما شيء واحد.

٥٣

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشاً،

وقرأ الباقون مهاداً أي فراشاً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَادًا} ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف.

{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُ} أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقاً. {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر،

ووهب كلّ صنف زوجاً،

ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمَّ قال

٥٤

{كُلُوا وَارْعَوْا} أي ارتعوا {أَنْعَامَكُمْ} يقول العرب : رعيتُ الغنم فرَعَتْ لازم ومتعدّ.

{إِنَّ فِى ذلك } الذي ذكرت {لآيَاتٍ وْلِى النُّهَى} أي لذوي العقول،

واحدها نُهية،

سُمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات.

وقال الضحّاك : {وْلِى النُّهَى} يعني الذين ينتهون عمّا حُرَّم عليهم.

وقال قتادة : لذوي الورع،

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لذوي التقى.

٥٥

{مِّنْهَا} أي من الأرض {خَلَقْنَاكُمْ} يعني أباكم آدم. وقال عطاء الخراساني : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّهُ على النطفة،

فيخلق من التراب،

ومن النطفة فذلك قوله سبحانه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} .

{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي عند الموت والدفن،

قال عليّ : (إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء،

وقال : يا ربِّ عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول : ارجعوا فإنّي وعدتهُ : منها خلقناكم وفيها نعيدكم فإنّه يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين).

{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} مرَّة أُخرى بعد الموت عند البعث.

٥٦

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} يعني فرعون {كُلَّهَا فَكَذَّبَ} يعني اليد والعصا والآيات التسع {فَكَذَّبَ} بها وزعم أنّها سحر {وَأَبَى} أن يُسلم

٥٧

{قَالَ} فرعون {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} يعني مصر

٥٨

{بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْر مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} فاضرب بيننا وبينك أجلاً وميقاتاً {لا نُخْلِفُهُ} لا نجاوزه {نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى} مستوياً. قرأ الحسن وعاصم والأعمش وحمزة سُوى بضم السين،

الباقون : بكسر وهما لغتان مثل عُدي وعِدَي،

وطُوى وطِوى.

قال قتادة ومقاتل : مكاناً عدلاً بيننا وبينك،

وقال ابن عباس : صفاً،

وقال الكلبي : يعني سوى هذا المكان،

وقال أبو عبيد والقيسي : وسطاً بين الفريقين،

وقال موسى بن جابر الحنفي :

وإن أبانا كان حلّ ببلدة

سوىً بين قيس قيس عيلان والفزر

الفزر : سعد بن زيد مناة.

٥٩

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} قال ابن عباس وسعيد بن جبير : يعني يوم عاشوراء.

وقال مقاتل والكلبي : يوم عيد لهم في كل سنة يتزيّنون ويجتمعون فيه.

وروى جعفر عن سعيد قال : يوم سوق لهم،

وقيل : هو يوم النيروز.

وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص يومَ الزينة بنصب الميم أي في يوم،

وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء والخبر.

{وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} وقت الضحوة،

يجتمعون نهاراً جهاراً ليكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة.

٦٠

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} حِيَلِه وَسَحَرَتَه {ثُمَّ أَتَى} الميعاد.

قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعون ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا،

وقيل : كانوا أربعمائة.

٦١

{قَالَ} موسى للسحرة {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللّه كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم} قرأ أهل : الكوفة فيسُحِتكم بضم الياء وكسر الحاء،

وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء،

وهما لغتان : سحتَ وأسحت.

قال مقاتل والكلبي : فيهلككم،

وقال قتادة : فيستأصلكم،

وقال أبو صالح : يذبحكم،

قال الفرزدق :

وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع

من المال إلاّ مسحت أو مجلف

٦٢

{فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي المناجاة تكون اسماً ومصدراً.

٦٣

{قَالُوا إِنْ هذانِ لَسَاحِرَانِ} قرأ عبد اللّه : واسرّوا النجوى إن هذان ساحران بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام،

وقرأ ابن كثير وحفص إن بكسر الالف وجزم النون هذان بالألف على معنى ما هذان إلاّ ساحران،

نظيره : قوله {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} قال الشاعر :

ثكلتك أُمكّ إن قتلتَ لمُسلماً

حلّت عليك عقوبة الرَّحْمن

يعني ما قتلت إلاّ مسلماً،

يدل على صحة هذه القراءة قراءة أُبي بن كعب : إن ذان إلاّ ساحران،

وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء : إن هذين لساحران بالياء على الأصل،

قال أبو عمرو : واني لإستحي من اللّه أن أقرأ إنّ هذان،

وقرأ الباقون : إنّ بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه،

فقال قوم بما أخبرنا أبو بكربن عبدوس وعبد اللّه بن حامد قالا : حدَّثنا أبو العباس الأصم قال : حدَّثنا محمد بن الجهم السمري قال : حدَّثنا الفرّاء قال : حدَّثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء {لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ} {وَالْمُقِيمِينَ} وعن قوله في المائدة {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} وعن قوله {إِنْ هذانِ لَسَاحِرَانِ} فقالت : يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب.

وقال عثمان بن عفان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتهم.

وقال أبان : قرئت هذه الآية عند عثمان فقال : لحن وخطأ،

فقيل له : ألم تغيّره فقال : دَعُوه فإنّه لا يُحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً،

وقال آخرون : هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف.

قال الفرّاء : أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه.

وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى

مساغاً لناباه الشجاع لصمما

ويقولون : كسرت يداه،

وركبت علاه،

بمعنى يديه وعليه. وقال الشاعر :

تزوّد منّا بين أُذناه ضربة

دعته إلى هابي التراب عقيم

أراد بين أُذنيه. وقال آخر :

أي قلوص راكب نراها

طاروا علاهنّ فطر علاها

أي عليهن وعليها. وقال آخر :

إنَّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وروي أنّ أعرابياً سأل ابن الزبير شيئا فحرّمه فقال : لعن اللّه ناقة حملتني إليك،

فقال ابن الزبير : إن وصاحبها،

يعني نعم. وقال الشاعر :

بكرتْ عليّ عواذلي يلحينني وألو مهنَّه

ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه

أي نعم،

وقال الفراّء : وفيه وجه آخر : وهو أن يقول : وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال،

كما قالت العرب : الذي ثمَّ زادوا نوناً يدلّ على الجمع فقالوا : الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول : اللَّذوُنَ.

{يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم} مصر {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} حدَّث الشعبي عن عليّ قال : يصرفا وجوه الناس إليهما وهي بالسريانية.

وقال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم

وقال مقاتل والكلبي : يعني الأمثل فالأمثل من ذوي الرأي والعقول.

وقال عكرمة : يعني يذهب أخياركم.

وقال قتادة : طريقتكم المُثلى يومئذ،

بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عدداً يومئذ وأموالاً،

فقال عدو اللّه : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما.

وقال الكسائي : بطريقتكم يعني بسنّتكم وهديكم وسمتكم،

والمثلى نعت للطريقة،

كقولك امرأة كبرى،

تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعني على الهدى المستقيم. قال الشاعر :

فكم متفرقين منوا بجهل

حدى بهم إلى زيغ فراغوا

وزِيغ بهم عن المثلى فتاهوا

وأورطهم مع الوصل الرداغُ

فزلّت فيه أقدام فصارت

إلى نار غلا منها الدماغ

والمثلى تأنيث الأمثل.

٦٤

{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} قرأ أبو عمرو فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم،

من الجمع يعني لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به،

وتصديقه قوله : فجمع كيده،

وقرأ الباقون : فأجمعوا بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان : أحدهما : بمعنى الجمع،

يقول العرب : أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب :

فكأنّه بالجزع جزع يتابع

وأولاه ذي العرجاء تهب مجمّع

والثاني : بمعنى العزم والأحكام،

يقول : أجمعت الأمر وأزمعته،

وأجمعت على الأمر وأزمعت عليه إذا عزمت عليه. قال الشاعر :

ياليت شعري والمنى لا تنفع

هل أغدونْ يوماً وأمري مجمع

أي محكم،

وقد عزم عليه كيدكم ومكركم وسحركم وعلمكم.

{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} قال مقاتل : والكلبي : جميعاً،

وقيل : صفوفاً،

وقال أبو عبيد : يعني المصلّى والمجتمع،

وحُكي عن بعض العرب الفصحاء : ما استطعت أن آتي الصفّ أمس،

يعني المصلّى.

{وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} يعني فاز من غلب.

٦٥

{قَالُوا} يعني السحرة {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِى} عصاك من يدك {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} عصاه

٦٦

{قَالَ} موسى {بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} وهو جمع العصا {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} قرأ ابن عامر بالتاء،

ردّه إلى الحبال والعصيّ،

وقرأ الباقون : بالياء ردّوه إلى الكيد أو السحر،

ومعناه شبّه إليه من سحرهم حتى ظنّ {أَنَّهَا تَسْعَى} أي تمشي،

وذلك أنّهم كانوا لطّخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق فلمّا أصابه حرّ الشمس ارتهشت واهتزت فظنّ موسى أنها تقصده

٦٧

{فَأَوْجَسَ} أي أحسَّ ووجد،

وقيل : أضمر {فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} قال مقاتل : إنّما خاف موسى إذ صنع القوم مثل صنيعه ان يشكّو فيه فلا يتبعوه ويشك فيه من تابعه.

٦٨

{قُلْنَا} لموسى {تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} الغالب

٦٩

{وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ} يعني العصا {تَلْقَفْ} تلتقم وتلتهم {مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا} يعني إنّ الذي صنعوا {كَيْدُ سَاحِرٍ} قرأ أهل الكوفة بكسر السين من غير ألف،

وقرأ الباقون : ساحر بالألف على فاعل،

واختاره أبو عبيد،

قال : لأنَّ إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السّحر وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية.

{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} من الأرض،

وقيل : معناه حيث احتال.

٧٠-٧١

{فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَه} يعني به كقوله {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} {قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} لرئيسكم ومعلّمكم {الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ} يعني الرجل اليسرى واليد اليمنى {وَصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ} يعني جذوع النخل،

قال سويد بن أبي كاهل :

وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة

فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا} أنا أو ربّ موسى

٧٢

{وَأَبْقَى قَالُوا} يعني السحرة {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} قال مقاتل : يعني اليد والعصا.

وأخبرنا البيهقي والاصفهاني قالا : أخبرنامكي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر،

قال : حدَّثنا روح قال : حدَّثنا هشام بن أبي عبد اللّه عن القاسم بن أبي برزة قال : جمع فرعون سبعين ألف ساحر،

فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى،

فأوحى اللّه سبحانه أن ألق عصاك،

فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغرفاه،

فابتلع حبالهم وعصيّهم وأُلقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها،

عند ذلك قالوا {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} يعنى الجنة والنار وما رأوا من ثوابهم ودرجاتهم.

قال : وكانت امرأة فرعون تسأل : من غلب؟

فيقال : غلب موسى،

فتقول : آمنت برب موسى وهارون،

فأرسل إليها فرعون فقال : انظروا أعظم صخرة تجدونها فأتوها فإنْ هي رجعت عن قولها فهي امرأته،

وإنْ هي مضت على قولها فألقوا عليها الصخرة،

فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها،

والقيت على جسد لا روح فيه.

{وَالَّذِى فَطَرَنَا} يعني وعلى الذي خلقنا،

وقيل : هو قسم {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ} فاحكم ما أنت حاكم،

واصنع ما أنت صانع من القطع والصلب {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا} يقول : إنّما تملكنا في الدنيا ليس لك علينا سلطان إلاّ في الدنيا

٧٣

{إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} قال مقاتل : كانت السحرة اثنين وسبعين ساحراً،

اثنان منهم من القبط وهما رأسا القوم،

وسبعون منهم من بني إسرائيل،

وكان فرعون أكره أُولئك السبعين الذين هم من بني إسرائيل على تعلّم السحر.

وقال عبد العزيز بن أبان : إنّ السحرة قالوا لفرعون : أرنا موسى إذا نام،

فأراهم موسى نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون : انَّ هذا ليس بسحر،

إنّ الساحر إذا نام بطل سحره،

فأبى عليهم إلاّ أن تعملوا فذلك قوله {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} {وَاللّه خَيْرٌ وَأَبْقَى} منك لأنّك فان هالك

٧٤

{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ} في الآخرة {مُجْرِمًا} مشركاً يعني بات على الشرك {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلا يَحْيَى} حياةً تنفعه.

٧٥-٧٦

{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} مات على الإيمان {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} الرفيعة في الجنة {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَ ذلك جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} أي صلح،

وقيل : تطهّر من الكفر والمعاصي. وقال الكلبي : يعني أعطى زكاة نفسه وقال : لا إله إلاّ اللّه.

٧٧

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} أي سر بهم أول الليل من أرض مصر.

{فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا} يابساً ليس فيه ماء ولا طين {لا تَخَافُ دَرَكًا} من فرعون خلفك {وَلا تَخْشَى} غرقاً من البحر أمامك،

وقرأ حمزة : لا تخف بالجزم على النهي،

الباقون : بالألف على النفي،

واختاره أبو عبيد لقوله : ولا تخشى رفعاً ودليل قراءة حمزة قوله : (يولوكم الأدبار ثمَّ لا تنصرون) فاستأنف،

قال الفرّاء : ولو نوى حمزه بقوله : ولا تخشى الجزم،

لكان صواباً. وقال الشاعر :

هجوت زماناً ثم ملت معتذراً

من سب زمان لم يهجُو ولم يذع

وقال آخر :

ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبوت بني زياد

٧٨-٧٩

{فَأَتْبَعَهُمْ} فلحقهم {فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم} أصابهم {مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي وما هداهم إلى مراشدهم،

وهذا جواب قول فرعون : ما أُريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم ألاّ سبيل الرشاد،

فكذّبه اللّه تعالى فقال : بل أضلهم وما هداهم.

قال وهب : استعار بنو إسرائيل حلياً كثيراً من القبط ثم خرج بهم موسى من أول الليل،

وكانوا سبعين ألفاً فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقص أثر موسى،

فلمّا رأى قوم موسى رهج الخيل قالوا{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فقال موسى : {كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ} فلمّا قربوا قالوا : يا موسى أين نمضي؟

البحر أمامنا وفرعون خلفنا،

فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق فصار فيه اثنتا عشرة طريقاً يابسة،

لكل سبط طريق،

وصار بين كل طريقين كالطود العظيم من الماء،

وكانوا يمرّون فيه وكلّهم بنو أعمام فلا يرى هذا السبط ذاك ولا ذاك هذا،

فاستوحشوا وخافوا فأوحى اللّه سبحانه إلى أطواد الماء أن تشبّكي،

فصارت شبكات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض.

فلمّا اتى فرعون الساحل وجد موسى وبني إسرائيل قد عبروا فقال للقبط : قد سحر البحر فمرّ،

فقالوا له : إن كنت ربّاً فادخل البحر كما دخل،

فجاء جبرئيل على رمكة وديق،

وكان فرعون على حصان،

وهو الذكر من الأفراس،

فأقحم جبرئيل الرمكة في الماء،

فلم يتمالك حصان فرعون واقتحم البحر على أثرها ودخل القبط عن آخرهم،

فلمّا تلجّجوا أوحى اللّه سبحانه إلى البحر أن غرّقهم،

فعلاهم الماء وغرّقهم.

قال كعب : فعرف السامري فرس جبرئيل،

فحمل من أثره تراباً وألقاه في العجل حين اتّخذه.

٨٠

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُم} فرعون {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ ايْمَنَ} وقد مرَّ ذكره

٨١

{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم} هذه قراءة العامة بالنون والألف على التعظيم،

وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : أنجيتكم ووعدتكم ورزقتكم من غير ألف على التوحيد والتفريد {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ} حلال {مَا رَزَقْنَاكُمْ} .

{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} قال ابن عباس : ولا تظلموا،

وقال مقاتل : ولا تعصوا،

وقال الكلبي : ولا تكفروا النعمة،

وقيل : ولا تحرّموا الحلال،

وقيل : ولا تنفقوا في معصيتي،

وقيل : ولا تدّخروا،

وقيل : ولا تتقووا بنعمي على معاصيّ.

{فَيَحِلَّ} يجب {عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ} يجب {عَلَيْهِ غَضَبِى} وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي : فيُحل ومن يُحلل بضم الحاء واللام أي ينزل.

{فَقَدْ هَوَى} هلك وتردّى في النار

٨٢

{وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} من دينه {وَءَامَنَ} بربّه {وَعَمِلَ صَالِحًا} فيما بينه وبين اللّه {ثُمَّ اهْتَدَى} .

قال قتادة وسفيان الثوري : يعني لزم الإسلام حتى مات عليه.

وقال زيد بن أسلم : تعلّم العلم ليهتدي كيف يعمل.

وقال الشعبي ومقاتل والكلبي : علم أنّ لذلك ثواباً.

وقال فضيل الناجي وسهل التستري : أقام على السنّة والجماعة.

وقال الضحاك : يعني استقام.

٨٣

{وَمَآ أَعْجَلَكَ} يعني وما حملك على العجلة {عَن قَوْمِكَ} يعني عن السبعين الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور ليأخذ التوراة من ربّه فلمّا سار عجل موسى شوقاً إلى ربه وخلّف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل،

فقال اللّه سبحانه له : وما أعجلك عن قومك {يَا مُوسَى}

٨٤

فقال مجيباً لربّه {هُمْ أُوْءِ} يعني {عَلَى أَثَرِى} هؤلاء يجيئون {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} لتزداد رضاً

٨٥

{قَالَ} اللّه سبحانه {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا} ابتلينا {قَوْمَكَ} الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا {مِن بَعْدِكَ} من بعد انطلاقك إلى الجبل {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ} يعني دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها.

٨٦

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} حزيناً جزعاً {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} صدقاً أنه يعطيكم التوراة {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} مدّة مفارقتي إياكم {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ} يجب {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى} وذلك أنَّ اللّه سبحانه كان قد وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثمَّ أتّمها بعشر،

فلمّا مضت الثلاثون قال عدو اللّه السامري...

قال سعيد بن جبير : كان السامري من أهل كرمان فقال لهم : إنما اصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي التي معكم،

وكانت حلياً استعاروها من القبط،

فهلمّوا بها واجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيه،

فجمعت ودفعت إليه فصاغ منها عجلاً في ثلاثة أيام ثمَّ قذف فيه القبضة التي أخذها من أثر فرس جبرئيل،

٨٧

فقال قوم موسى له : {قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} قرأ أهل المدينة وعاصم : بمَلكنا بفتح الميم،

وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الميم،

الباقون : بكسرها،

ومعناها بسلطاننا وطاقتنا وقدرتنا.

قال مقاتل : يعني ونحن نملك أمرنا،

وقيل : باختيارنا.

{وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ} قرأ أهل الحجاز والشام وحفص : حُمّلنا بضم الحاء وتشديد الميم،

الباقون : حملنا بفتح الحاء والميم مخفّفة {أَوْزَارًا} أثقالاً وأحمالاً {مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ} من حلي قوم فرعون {فَقَذَفْنَاهَا} فجمعناها ودفعناها إلى السامري،

فألقاها في النار لترجع أنت فترى فيه رأيك {فَ كذلك أَلْقَى السَّامِرِىُّ} ما معه من الحليّ مَعَنا كما ألقينا

٨٨

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْ جَسَدًا} لا روح فيه،

صاغ لهم عجلاً من ذهب مرصّع بالجواهر {لَّهُ خُوَارٌ} صوت،

وذلك أنه خار خورة واحدة ثمَّ لم يعد.

قال ابن عباس : أتى هارون على السامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع؟

قال : أصنع ما ينفع ولا يضر،

فقال : اللّهمَّ أعطه ما سألك على ما في يقينه فلمّا قال : اللّهم إنّي أسألك أن يخور؛ فخار فسجد،

وإنّما خار لدعوة هارون {فَقَالُوا هَذَآ الهكُمْ وَاله مُوسَى فَنَسِىَ} أي ضلّ وأخطأ الطريق،

وقيل : معناه فتركه ها هنا وخرج يطلبه.

٨٩

قال اللّه سبحانه {أفلا يرون أَلا يَرْجِعُ} يعني أنّه لا يرجع {إِلَيْهِمْ قَوْلا} أي لا يكلّمهم العجل ولا يجيبهم،

وقيل : يعني لا يعود إلى الخوار والصوت

٩٠

{وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَاقَوْمِ} يعني من قبل رجوع موسى {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِه} ابتليتم بالعجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِى} على ديني {وَأَطِيعُوا أَمْرِى} فلا تعبدوه

٩١

{قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} لن نزال على عبادته مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل،

فلمّا رجع موسى وسمع الصياح والجلبة،

وكانوا يرقصون حول العجل،

قال السبعون الذين معه : هذا صوت الفتنة،

فلمّا رأى هارون أخذ شعره بيمينه ولحيته بشماله

٩٢

وقال له {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أخطأوا وأشركوا

٩٣

{أَلاَّ تَتَّبِعَنِي} يعني أن تتّبع أمري ووصيتي ولا صلة،

وقيل : معناه : ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إيّاهم تقريعاً وزجراً لهم عمّا أتوه؟

وقيل : معناه : هلاّ قاتلتهم إذ علمت أنّي لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم.

{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} فقال هارون

٩٤

{يا اَبْنَ أُمَّ} قال الكلبي وغيره : كان أخاه لأبيه وأُمّه ولكنّه أراد بقوله : يا بن أُمّ أن يرقّقه ويستعطفه عليه فيتركه،

وقيل : كان أخاه لأُمّه دون أبيه،

وقيل : لأن كون الولد من الأُمّ على التحقيق والأب من جهة الحكم {تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى} يعني ذؤابتي وشعر رأسي إذ هما عضوان مصونان يقصدان بالإكرام والإعظام من بين سائر الأعضاء {إِنِّى خَشِيتُ} لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول {فَرَّقْتَ بَيْنَ بنى إسرائيل} وأوقعت الفرقة فيما بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} ولم تحفظ وصيّتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح.

قال قتادة في هذه الآية : فذكر الصالحون الفرقة قبلكم،

ثمّ أقبل موسى على السامرىّ فقال له

٩٥

{فَمَا خَطْبُكَ} أمرك وشأنك،

وما الذي حملك على ما صنعت {يَا سَامِرِي}

قال قتادة : كان السامري عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة،

ولكنّ عدوّ اللّه نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل،

فلمّا مرّت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فاغتنمها السامرىّ،

فاتّخذ العجل فقال السامري مجيباً لموسى :

٩٦

{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوابه} رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا،

وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تبصروا بالتاء على الخطاب،

الباقون بالياء على الخبر {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} يعني فأخذت تراباً من أثر فرس جبرئيل،

وقرأ الحسن فقبصت قبصة بالصاد فيهما،

والفرق بينهما أن القبض بجمع الكف والقبص بأطراف الأصابع {فَنَبَذْتُهَا} فطرحتها في العجل {وَ كذلك سَوَّلَتْ} زيّنت

٩٧

{لِي نَفْسِي قَالَ} له موسى {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى} ما دمت حياً {أَن تَقُولَ مِسَاسَ} لا تخالط أحداً ولا يخالطك أحد،

وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه.

قال قتادة : إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك : لا مساس،

ويقال بأنَّ موسى همَّ بقتل السامري فقال اللّه : لا تقتله فإنه سخىّ،

وفي بعض الكتب : إنّه إنْ يمسّ واحد من غيرهم أحداً منهم حُمّ كلاهما في الوقت.

{وَإِنَّ لَكَ} يا سامري {مَوْعِدًا} لعذابك {لَّن تُخْلَفَهُ} قرأ الحسن وقتادة وأبو نهيك وأبو عمرو بكسر اللام بمعنى لن تغيب عنه بل توافيه،

وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفكه اللّه.

{وَانظُرْ إِلَى الهكَ} بزعمك وإلى معبودك {الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ} دمت عليه {عَاكِفًا} مقيماً تعبده.

يقول العرب : ظلتُ أفعل كذا بمعنى ظللت،

ومسْت بمعنى مسست،

وأحسْت بمعنى أحسست. قال الشاعر :

خلا أنّ العتاق من المطايا

أحَسْنَ به فهنّ إليه شوس

أي أحسسن.

{لَّنُحَرِّقَنَّهُ} قرأه العامة بضم النون وتشديد الراء بمعنى لنحرقنه بالنار.

وقرأ الحسن بضم النون وتخفيف الراء من إلاحراق بالنّار،

وتصديقه قول ابن عباس : فحرّقه بالنار ثمَّ ذرّاه في اليمّ.

وقرأ أبو جعفر وابن محيص وأشهب العقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة بمعنى لنبردنّه بالمبارد،

يقال : حرقه يحرقه ويحرقه إذا برّده،

ومنه قيل للمبرد المحرق،

ودليل هذه القراءة قول السدّي : أخذ موسى العجل فذبحه ثمَّ حرقه بالمبرد ثمَّ ذرّاه في اليّم،

وفي حرف ابن مسعود : لنذبحنه ثمَّ لنحرّقنه {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} لنذرّينه {فِى الْيَمِّ نَسْفًا} يقال نسف الطعام بالمنسف إذا ذرّاه فطيّر عنه قشوره وترابه.

٩٨

{إِنَّمَآ الهكُمُ اللّه الَّذِى لا اله إِلا هُوَ} لا العجل {وَسِعَ} ملأ {كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا} فعلمه ولم يضق عليه،

يقال : فلان يسع لهذا الأمر إذا أطاقه وقوي عليه

٩٩

{ كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} من الأُمور {وَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا} يعني القرآن

١٠٠

{مَّنْ أَعْرَضَ} أدبر {عَنْهُ} فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} إثماً عظيماً وحملاً ثقيلاً

١٠١

{خَالِدِينَ فِيهِ} لا يكفره شيء.

١٠٢

{وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّور} قرأهُ العامة بياء مضمومة على غير تسمية الفاعل،

وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة لقوله {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ} المشركين {يَوْمَذٍ زُرْقًا} والعرب تتشاءم بزرقة العيون. قال الشاعر يهجو رجلاً :

لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر

كما كل ضبي من اللؤم أزرق

١٠٣

وقيل : أراد عُمياً {يَتَخَافَتُونَ} يتسارُّون فيما {بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ} ما مكثتم في الدنيا،

وقيل : في القبور {إِلا عَشْرًا} أي عشر ليال.

١٠٤

قال اللّه سبحانه {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أوفاهم عقلاً وأصوبهم رأياً {إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة.

١٠٥

{وَيَسَْلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا} يقلعها من أماكنها ويطرحها في البحار حتى تستوي.

فإن قيل : ما العلّة الجالبة للفاء التي في قوله فقل خلافاً لأخواتها في القرآن؟

فالجواب أنّ تلك أسئلة تقدّمت سألوا عنها رسول اللّه فجاء الجواب عقيب السؤال،

وهذا سؤال لم يسألوه بعد وقد علم اللّه سبحانه أنّهم سائلوه عنه فأجاب قبل السؤال،

ومجازها : وإن سألوك عن الجبال فقل ينسفها

١٠٦

{رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً} أرضاً ملساء لا نبات فيها.

١٠٧

{لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} .

قال ابن عباس : العوج : الأودة،

والأمت الروا بي والنشوز.

مجاهد : العوج : الانخفاض،

والأمت : الارتفاع.

ابن زيد : الأمت : التفاوت والتعادي. ويقول العرب : ملأت القربة ماءً لا أمت فيه أي لا استرخاء.

يمان : الأمت : الشقوق في الأرض

١٠٨

{يَوْمَذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ} الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو إسرافيل {عِوَجَ لَهُ} أي لدعاته،

وقال أكثر العلماء : هو من المقلوب أي لا حرج لهم عن دعاته،

لا يزيغون عنه،

بل يتّبعونه سراعاً.

{وَخَشَعَتِ} وسكنت {الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} فوصف الأصوات بالخشوع والمعنى لأهلها {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} يعني وطْء الأقدام ونقلها إلى المحشر،

وأصله الصوت الخفي،

يقال : همس فلان بحديثه إذا أسرّه وأخفاه،

قال الراجز :

وهنّ يمشين بنا هميساً

إن تصدق الطير ننك لميسا

يعني بالهمس صوت أخفاف الإبل.

وقال مجاهد : هو تخافت الكلام وخفض الصوت.

١٠٩

{يَوْمَذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} في الشفاعة {وَرَضِىَ لَهُ قَوْلا} أي ورضي قوله.

١١٠

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الكناية مردودة إلى الذين يتّبعون الداعي.

{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} لا يدركونه ولا يعلمون ما هو صانع بهم.

١١١

{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ} أي ذلّت وخضعت واستسلمت،

ومنه قيل للأسير عان،

وقال أُميّة بن أبي الصلت :

مليك على عرش السماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

وقال طلق بن حبيب : هو السجود.

{وَقَدْ خَابَ} خسر {مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} شركاً.

١١٢

{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ} قرأ ابن كثير على النهي جواباً لقوله {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} والباقون : فلا يخاف على الخبر. {ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} .

قال ابن عباس : لا يخاف أن يزاد عليه في سيئاته ولا ينقص من حسناته.

الحسن وأبو العالية : لا ينقص من ثواب حسناته شيئاً ولا يحمل عليه ذنب مسيء.

الضحاك : لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا يبطل حسنة عملها. وأصل الهضم : النقص والكسر يقال : هضمت لك من حقك أي حططتُ،

وهضم الطعام،

وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن.

١١٣

{وَ كذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا} بيّنّا {فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ} القرآن {ذِكْرًا} عظة وعبرة. وقال قتادة : جدّاً وورعاً.

١١٤

{فَتَعَالَى اللّه الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} قرأ يعقوب بفتح النون والياءين،

وقرأ الآخرون : بضم الياء الأولى والأُخرى وسكون الوسطى.

قال مجاهد وقتادة : لا تقرئه أصحابك ولا تُمله عليهم حتى يتبيّن لك معانيه،

نهى عن تلاوة الآية التي تنزل عليه وإملائه على أصحابه قبل بيان معناها،

وهذه رواية العوفي عن ابن عباس.

وقال في سائر الروايات : كان النبىّ (صلى اللّه عليه وسلم) إذا نزل جبرائيل بالوحي يقرأه مع جبرائيل،

ولا يفرغ جبرائيل مما يريد من التلاوة حتى يتكلم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بأوّله حرصاً منه على ما كان ينزل عليه وشفقة على القرآن مخافة الانفلات والنسيان،

فنهاه اللّه سبحانه عن ذلك وقال : {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ} أي بقراءة القرآن {مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك.

{وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا} بالقرآن أي فهماً،

وقيل : حفظاً ونظيرها قوله {تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآية.

١١٥

{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} الآية يقول اللّه سبحانه : وإن يضيّع هؤلاء الذين نصرّف لهم في القرآن الوعيد عهدي ويخالفوا أمري ويتركوا طاعتي فقد فعل ذلك أبوهم آدم (عليه السلام) حيث عهدنا إليه أي أمرناه وأوصينا إليه {فَنَسِىَ} فترك الأمر والعهد،

نظيره قوله {نَسُوا اللّه فَنَسِيَهُمْ} أي تركوا أمر اللّه فتركهم اللّه في النار. هذا قول أكثر المفسرين.

وقال ابن زيد : نسي ما عهد اللّه إليه في ذلك،

ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له،

وعصى اللّه الذي كرّمه وشرّفه،

وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم في ذلك القول بالنسيان مأخوذ،

وإن كان هو اليوم عنّا مرفوعاً.

{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} قال ابن عباس : حفظاً لما أُمر به،

قتادة ومقاتل : صبراً،

ابن زيد : محافظة على أمر اللّه وتمسّكاً به،

الضحّاك : صريمة أمر،

عطية : رأياً،

وقيل : جزماً،

ابن كيسان : إصراراً وإضماراً على العود إلى الذنب ثانياً،

وأصل العزم النيّة واعتقاد القلب على الشيء.

قال أبو أمامة : لو أنّ أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق اللّه سبحانه آدم إلى يوم تقوم الساعة،

ووضعت في كفّة ميزان،

ووضع حلم آدم في الكفّة الأُخرى لرجح حلمه بأحلامهم،

وقد قال اللّه تعالى{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} .

١١٦

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَاكَةِ اسْجُدُوا لآ دَمَ فَسَجَدُوا إلا إبليس أَبَى} أن يسجد له

١١٧

{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِك} حوّاء {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ} فتتعب ويكون عيشك من كدّ يمينك،

بعرق جبينك.

قال سعيد بن جبير : أُهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فهو شقاؤه الذي قال اللّه سبحانه،

وكان حقّه أن يقول : فيشقيا ولكن غلب المذكّر رجوعاً به إلى آدم لأنّ تعبه أكثر،

وقيل : لأجل رؤوس الآي.

١١٨

{إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا} أي في الجنّة

١١٩

{وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ} قرأ نافع بكسر الألف على الاستئناف،

ومثله روى أبو بكر عن عاصم،

وقرأ الباقون بالفتح نسقاً على قوله {أن لا تجوع} {تَظْمَؤُا} بعطش فيها {وَلا تَضْحَى} تبرز للشمس فيؤذيك حرّها. قال عمر بن أبي ربيعة :

رأت رجلاً أمّا إذا الشمس عارضت

فيضحى وأما بالعشيّ فيحصر

أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكّى قال : أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال : حدَّثنا عبد اللّه بن هاشم قال : حدَّثنا عبد الرَّحْمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن عكرمة : {وَلا تَضْحَى} ولا تصيبك الشمس.

١٢٠

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْد} يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت خالداً مخلداً {وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} لا يبيد ولا يفنى.

١٢١

{فَأَكَ} يعني آدم وحوّاء {مِّنْهَا} أي من شجرة المحنة {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي تعدّى إلى ما لم يكن له فعله.

وقال أكثر المفسرين : فغوى : أي أخطأ وضلّ ولم ينل مراده ممّا أكل.

١٢٢

{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اختاره واصطفاه {فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} هداه إلى التوبة ووفقّه بها.

١٢٣

{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ} يعني الكتاب والرسول {فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} .

أخبرنا أبو عمرو أحمد بن حمدون بقراءتي عليه قال : أخبرنا محمد بن إسحاق قال : حدَّثنا سعيد بن عيسى،

قال : حدَّثنا فارس بن عمر وحدَّثنا صالح بن محمد : قال : حدَّثنا يحيى بن الضريس عن سفيان عن رجل عن الشعبي عن ابن عباس في قوله سبحانه {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} قال : أجار اللّه تعالى تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا ويشقى في الآخرة.

وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدَّثنا محمد بن يزيد قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة.

وأخبرني ابن المقرئ قال : حدَّثنا محمد بن أحمد بن سنان قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا ابن شيبة قال : حدَّثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس قال : ضمن اللّه لمن قرأ القرآن لا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة ثمَّ قرأ {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} .

وبإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة قال : حدَّثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه اللّه من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب،

وذلك بأنّ اللّه يقول {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} .

١٢٤

{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} يعني عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتّبعه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} ضيقاً يقال : منزل ضنك وعيش ضنك،

يستوي فيه الذكر والأُنثى والواحد والاثنان والجمع،

قال عنترة :

وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

واختلف المفسّرون في المعيشة الضنك،

فاخبرني أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد الحيري قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال : حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال : حدّثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : في قوله سبحانه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} قال : (عذاب القبر).

وقال ابن عباس : الشقاء،

مجاهد : الضيق،

الحسن وابن زيد : الزقوم والغسلين والضريع،

قتادة : يعني في النار،

عكرمة : الحرام،

قيس بن أبي حازم : الرزق في المعصية،

الضحاك : الكسب الخبيث،

عطيّة عن ابن عباس يقول : كلّ مال أعطيته عبداً من عبادي قلَّ أو كثر لا يتّقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة،

وإنّ قوماً ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أُولي سعة من الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكاً،

وذلك أنّهم كانوا يرَون أنّ اللّه ليس بمخلف لهم معائشهم من سوء ظنّهم باللّه والتكذيب به،

فإذا كان العبد يكذب باللّه ويسيء الظنّ به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك أبو سعيد الخدري : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسُلّط عليه في قبره تسعة وتسعون تنّيناً،

لكلّ تنّين سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث،

ولو أنّ تنيّناً منها ينفخ في الأرض لم تنبت زرعاً. مقاتل : معيشة سوء لأنّها في معاصي اللّه. سعيد بن جبير : سلبه القناعة حتى لا يشبع.

{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قال ابن عباس : أعمى البصر،

مجاهد : أعمى عن الحجّة.

١٢٥

{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} بعيني،

وقال مجاهد : عالماً بحجّتي.

١٢٦

{قَالَ كذلك } يقول كما {قَالَ كذلك أَتَتْكَ} فتركتها وأعرضت عنها {وَ كذلك الْيَوْمَ تُنسَى} تُترك في النار وكذلك أي وكما جزينا من أعرض

١٢٧

{وَ كذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} أشرك {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ} ممّا يعذّبهم به في الدنيا والقبر. {وَأَبْقَى} وأدوم وأثبت.

١٢٨

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يتبيّن لهم {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ} ومنازلهم إذا سافروا واتّجروا.

١٢٩

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لاِوْلِي النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك} نظم الآية،

ولولا كلمة سبقت من ربّك في تأخير العذاب عنهم وأجل مسمّى وهو القيامة {لَكَانَ لِزَامًا} لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.

١٣٠

{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} نسختها آية القتال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وصلِّ بأمر ربّك،

وقيل : بثناء ربك {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يعني صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني صلاة العصر {وَمِنْ ءانآءى اللَّيْل} صلاة العشاء الآخر {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة الظهر والمغرب،

وإنّما قال : أطراف لهاتين الصلاتين؛ لأنّ صلاة الظهر في آخر الطرف الأول من النهار،

وفي أول الطرف الآخر من النهار فهي في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس،

وعند ذلك يصلّي المغرب،

فلذلك قال : أطراف،

ونصب عطفاً على قوله : قبل طلوع الشمس.

{لَعَلَّكَ تَرْضَى} بالشفاعة والثواب،

قرأه العامة : بفتح التاء،

ودليله قوله تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وقرأ الكسائي وعاصم برواية أبي بكر بضم التاء.

١٣١

{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية.

قال أبو رافع : أرسلني رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إلى يهودي يستسلفه فأبى أن يعطيه إلاّ برهن،

فحزن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فأنزل اللّه سبحانه {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ولا تنظر {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} أي أعطيناهم أصنافاً من نعيم الدنيا {زَهْرَةَ الْحياةِ الدُّنْيَا} أي زينتها وبهجتها،

قرأه العامة بجزم الهاء،

وقرأ يعقوب بفتحها وهما لغتان مثل : جهرة وجهرَة،

وإنّما نصبها على القطع والخروج من الهاء في قوله : متّعنا به.

١٣٢

{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقا} وإنّما نكلّفك عملاً {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ} الجملية المحمودة {لِلتَّقْوَى} أي لأهل التقوى.

قال هشام بن عروة : كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وقال : {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ،

إلى قوله {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ثمَّ ينادي : الصلاة الصلاة يرحمكم اللّه.

وقال مالك بن دينار : كان بكر بن عبد اللّه المزني إذا أصاب أهله خصاصة يقول : قوموا فصلّوا،

ثم يقول : بهذا أمر اللّه رسوله،

ويتلو هذه الآية.

١٣٣

{وَقَالُوا} يعني هؤلاء المشركين {لَوْ يَأْتِينَا} محمد {وَقَالُوا لَوْ يَأْتِينَا} كما أتى بها الأنبياء من قبله.

قال اللّه سبحانه {أَوَلَمْ تَأْتِهِم} بالتاء،

قرأه أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة لتأنيث البينّة،

وقرأ الآخرون بالياء لتقديم الفعل ولأنّ البيّنة هي البيان فردَّه إلى المعنى {بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ} الكتب {اولَى} أي بيان ما فيها يعني القرآن أقوى دلالة وأوضح آية.

وقال بعض أهل المعاني : يعني ألم يأتهم بيان ما في الكتب الأُولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأُمم التي أهلكناهم لمّا سألوا الآيات،

فأتتهم فكفروا بها،

كيف عجّلنا لهم العذاب والهلاك بكفرهم بها فما تؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أُولئك.

١٣٤

{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل نزول القرآن ومجيء محمد (صلى اللّه عليه وسلم)

{لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ} هلاّ {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} يدعونا {فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} بالعذاب

١٣٥

{قُلْ} يا محمد لهم {كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} منتظر دوائر الزمان وما يكون من الحدثان ولمن يكون الفلح والنصر. {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} إذا جاء أمر اللّه تعالى وقامت القيامة {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} من الضلالة أنحن أم أنتم؟.

﴿ ٠