سورة الحجمكيّة غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله (هذان خصمانإلى قوله الحميد، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعونحرفاً وألف ومائتان وإحدى وسبعون كلمة وثمان وسبعون آية أخبرنا أبو الحسن الجرجاني غير مرَّة قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد اللّه بن محمد الأصبهاني قالا : حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدَّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدَّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدَّثنا هارون بن كثير عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة الحج أُعطي من الأجر كحجّة حجّها وعُمْرة اعتمرها بعدد مَن حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي). بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ١{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ} الزلزلة والزلزال : شدّة الحركة على الحال الهائلة، من قوله : زلّت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة، ثم ضوعف. ٢{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} يعني الساعة {تَذْهَلُ} أي تشغل، عن ابن عباس، وقال الضحّاك تسلو، ابن حيان : تنسى، يقال : ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولاً، وأذهلني الشيء إذهالاً. قال الشاعر : صحا قلبه ياعزُّ أو كاد يذهل {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} يعني ذات ولد رضيع، والمرضع المرأة التي لها صبي ترضعه لغيرها، هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة : يقال : امرأة مرضع إذا أُريد به الصفة مثل مقرب ومشرقوحامل وحائض، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل : مرضعة، التي ترضع وَلَدَها. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم. {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} . قال الحسن : معناه : وترى الناس سكارى من الخوف، ما هم بسكارى من الشراب. وقال أهل المعاني : مجازه : وترى الناس كأنّهم سكارى، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير : وتُرى الناس بضم التاء أي تظن. وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً : سكرى وما هم سكرى بغير ألف فيهما، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى {وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللّه شَدِيدٌ} . روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما : إنَّ هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة والناس يسيرون، فنادى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقرأهما عليهم فلم يُر أكثر باكياً من تلك الليلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السُرُج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدراً والناس من بين باك أو حاسر حزين متفكّر، فقال لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) : (أبشروا وسدّدوا وقاربوا، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلاّ كثّرتاه يأجوج ومأجوج). ثمَّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا اللّه، ثمَّ قال : (إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا اللّه، ثمَّ قال : اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا وحمدوا اللّه، ثمَّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة وإنّ أهل الجنة، مائة وعشرون صفاً، ثمانون منها أُمّتي وما المسلمون في الكفّار إلاّ كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثمَّ قال : ويدخل من أُمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب، فقال عمر : سبعون ألفاً؟ فقال : نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفاّ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يارسول اللّه ادع اللّه اٌن يجعلني منهم، قال : أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال : ادع اللّه أن يجعلني منهم، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سبقك بها عكاشة). ٣{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ} نزلت في النضر بن الحرث، كان كثير الجدال فكان يقول : الملائكة بنات اللّه، والقرآن أساطير الأولين، ويزعم أنّ اللّه غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد تراباً. قال اللّه سبحانه {وَيَتَّبِعُ} في قيله ذلك وجداله في اللّه بغير علم ٤{كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي عليه، على الشيطان {أَنَّهُ مَن تَوَلا هُ} اتّبعه {فَأَنَّهُ} يعني الشيطان {يُضِلُّهُ} يعني يضلّ من تولاه {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وتأويل الآية : قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ويدعوهم إلى النار. ثمّ ألزم الحجّة منكري البعث فقال عزَّ من قائل ٥{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم} يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر {مِّن تُرَابٍ} ثم ذرّيته {مِن نُّطْفَةٍ} وهو المنيّ وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} وهي لحمة قليلة قدر ما تمضع {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} . قال ابن عباس وقتادة : تامّة الخلق وغير تامة. وقال مجاهد : مصوّرة وغير مصوّرة يعني السقط. قال عبد اللّه بن مسعود : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث اللّه عزّ وجلّ مَلَكاً فقال : يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قال : غير مخلّقة مجّتها الأرحام دماً وإن قال : مخلّقة قال : يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أُنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ فيقال له : انطلق إلى أُمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم. {وَنُقِرُّ} روي عن عاصم بفتح الراء على النسق، غيره : بالرفع على معنى ونحن نقرُ (في الأرحام) {مَا نَشَآءُ} فلا تمجّه ولا تسقطه {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وقت خروجها من الرحم تامّ الخلق والمدّة {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من بطون أُمهاتكم {طِفْ} صغاراً ولم يقل أطفالاً لأنّ العرب تسمّي الجمع باسم الواحد. قال الشاعر : إنّ العواذل ليس لي بأمير ولم يقل أُمَراء. وقال ابن جريج : تشبيهاً باسم المصدر مثل : عدل وزور، وقيل : تشبيهاً بالخصم والضيف. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} كمال عقولكم ونهاية قواكم. {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} قبل بلوغ الأشدّ {وَمِنكُم مَّن} يعمّر حتى {يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الهرم والخرف {لِكَيْ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئا} . ثمَّ بيَّن دلالة أُخرى للبعث فقال تعالى {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار. {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ} المطر {اهْتَزَّتْ} تحرّكت بالنبات {وَرَبَتْ} أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث، وقرأ أبو جعفر : ربأت بالهمز، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت، من قول العرب : ربا الرجل إذا صعد مكاناً مشرفاً، ومنه قيل للطليعة رئبة. {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيجٍ} صنف حسن ٦{ ذلك } الذي ذكرت لتعلموا {بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ} والحق هو الكائن الثابت ٧{وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللّه يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور}. ٨{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى} بيان وبرهان {وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} نزلت في النضر بن الحرث ٩{ثَانِىَ عِطْفِهِ} نصب على الحال. قال ابن عباس : مستكبراً في نفسه، تقول العرب : جاء فلان ثاني عطفه أي متجبّراً لتكبّره وتجبّره، والعطف : الجانب. الضحّاك : شامخاً بأنفه، مجاهد وقتادة : لاوياً عنقه، عطيّة وابن زيد : معرضاً عمّا يُدعى إليه من الكبر. ابن جريج : أي يعرض عن الحقّ نظيرها قوله سبحانه {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا} الآية، وقوله {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤوسهم} الآية. {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللّه لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ} عذاب وهوان وهو القتل ببدر. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} فيقال له يومئذ ١٠{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه. {وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} فيعذّبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرّف في عبده فإنّه غير ظالم، بل الظالم : المتعدّي المتحكّم في غير ملكه. ١١{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ} الآية. نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأنَّ إليه وقال : ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرّت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال : واللّه ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلاّ شرّاً، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة، فأنزل اللّه سبحانه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّه عَلَى حَرْفٍ} أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين، والحرف : منتهى الجسم، وقال مجاهد : على شكّ. وقال بعض أهل المعاني : يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطرباً فيه. وقال بعضهم : أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده، ولو عبدوا اللّه في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا اللّه على حرف. وقال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطْمَأَنَّ بِهِ} أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه. {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله {انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا وَاخِرَةَ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب : خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل، والآخرة خفضاً، على الحال. { ذلك هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} الضرر الظاهر ١٢{يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللّه مَا لاَ يَضُرُّهُ} إن عصاه {وَمَا يَنفَعُهُ} إن أطاعه بعد إسلامه راجعاً إلى كفره { ذلك هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} ذهب عن الحق ذهاباً بعيداً. ١٣{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم : هي صلة مجازُها : يدعو من ضرّه أقرب من نفعه، وهكذا قرأها ابن مسعود، وزعم الفّراء والزجّاج أنّ اللام معناها التأخير تقديرها : يدعو واللّه لمن ضرّه أقرب من نفعه. وقال بعضهم : هذا على التأكيد معناه : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأُولى، ولو قلت : تضرب لمن خيره أكثر من شرّه تضرب، ثمّ يحذف الأخير جاز. وحكي عن العرب سماعاً : أعطيتك لما غيره خير منه، وعنده لما غيره خير منه. وقيل : (يدعو لمَنْ ضرّه) من قوله { ذلك هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} ، وموضع { ذلك } نصب ب (يدعو) كأنّه قال : الذي هو الضلال البعيد يدعو، ثم استأنف فقال : لَمَن ضرّه أقرب من نفعه، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} . وقيل : يدعو بمعنى يقول، والخبر محذوف تقديره : لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه لبئس المولى الناصر، ولبئس العشير المعاشر، والصاحب والخليط يعني الوثن. ١٤-١٥{إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ إِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللّه فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة} اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله ينصره، فقال أكثر المفسّرين : عنى بها نبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال قتادة : يقول : من كان يظنّ أن لن ينصر اللّه نبيّه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} بحبل {إِلَى السَّمَآءِ} إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} الحبل بعد الاختناق {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} صنيعه وحيلته {مَا يَغِيظُ} هذا قول أكثر أهل التأويل، وإنّما معنى الآية : فليصوّر هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنّه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر. قال الحسين بن الفضل : هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند : إن لم ترض هذا فاختنق. وقال ابن زيد : السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها، وقال : معنى الكلام : من كان يظن أن لن ينصر اللّه نبيّه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإنّ أصله في السماء، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) الوحي الذي يأتيه من اللّه، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل. وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا يُنصَرَ محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤوننا، فقال اللّه لهم : من استعجل من اللّه نصر محمد فليختنق، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه، فكذلك استعجاله من اللّه نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه. وقال مجاهد : الهاء في ينصره راجعة إلى من، ومعنى الكلام : من كان يظن أن لن يرزقه اللّه في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق، والنصر على هذا القول : الرزق، كقول العرب : من ينصرني نصره اللّه أي من يعطني أعطاه اللّه. قال أبو عبيد : تقول العرب : (أرض منصورة) أي ممطورة كأن اللّه سبحانه أعطاها المطر. وقال الفقعسي : وإنّك لا تعطي أمرءاً فوق حقّه ولا تملك الشقّ الذي الغيث ناصر وفي قوله (ما يغيظ) لأهل العربيّة قولان : أحدهما : أنّها بمعنى الذي مجازة هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخفّ. والثاني : أنّها مصدر، مجازه : هل يذهبن كيده غيظه. ١٦-١٧{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات وَأَنَّ اللّه يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني عبدة الأوثان، وقال قتادة : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن. {إِنَّ اللّه يَفْصِلُ} يحكم {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ} قال النحاة : (إن اللّه) خبر لقوله (إنّ الذين) كما تقول : إنّ زيداً ان الخير عنده لكثير، كقول الشاعر : إنّ الخليفة إن اللّه سربله سربال ملك به ترجى الخواتيم ١٨{أَلَمْ تَرَ} بقلبك وعقلك {أَنَّ اللّه يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الاْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَاب}. قال مجاهد : سجودها : تحوّل ظلالها، وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلاّ يقع للّه ساجداً حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه. وقال أهل الحقائق : سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلّة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود للّه سبحانه، كما قال الشاعر : وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} بكفره وهو مع ذلك يسجد للّه ظلّه، قال مجاهد : وقيل : يسجد للّه أي يخضع له ويقرّ له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه، وإن كفر بغير ذلك من الأمور. قالوا : وفي قوله {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} واو العطف. وقال بعضهم : هو واو الاستئناف، معناه : وكثير حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود. حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنّه قال : في الآية إضمار مجازها : وسجد كثير من الناس، وأبى كثير حقّ عليه العذاب. {وَمَن يُهِنِ اللّه} أي يهنه اللّه {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} قرأه العامة بكسر الراء، وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة : فماله من مكرَم بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه {أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} و{أَنزِلْنِى مُنزَ مُّبَارَكًا} أي إدخالاً وإنزالاً. {إِنَّ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} . ١٩{هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ} أي في دينه وأمره، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال : اختصموا، نظيرها {وهل أتيك نبؤ الخصم إذتسوّروا المحراب} . واختلف المفسّرون في هذين الخصمين من هما؟ فروى قيس بن عبّاد أنّ أبا ذرّ الغفاري كان يقسم باللّه سبحانه أُنزلت هذه الآية في ستّة نفر من قريش تبادروا يوم بدر : حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث، قال : وقال علي : إنّي لأوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي اللّه سبحانه وتعالى، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار. وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين : نحن أولى باللّه وأقدم منكم كتاباً ونبيّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون : نحن أحقّ باللّه، آمنّا بمحمد (صلى اللّه عليه وسلم) وآمنّا بنبيّكم وبما أنزل اللّه سبحانه من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً، وكان ذلك خصومتهم في ربّهم. وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلّهم من أىّ ملّة كانوا. وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار : خلقني اللّه سبحانه وتعالى لعقوبته، وقالت الجنّة : خلقني اللّه عزّ وجلّ لرحمته، فقد قصّ اللّه عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه اللّه بقراءتي عليه قال : أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال : حدَّثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرَّحْمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا : حدَّثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال : أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال : هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (تحاجّت الجنة والنار فقالت النار : أوثرتُ بالمتكبّرين المتجبّرين، وقالت الجنة : لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال اللّه سبحانه للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار : إنما أنتِ عذابي أُعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحد منكما ملؤها، فأما النار فإنّهم يُلقون فيها وتقول : هل من مزيد؟ فلا تمتلئ حتى يضع اللّه سبحانه رجله فتقول : قط قط قط، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحداً. وأما الجنة فإن اللّه ينشىء لها خلقاً). ثم بيّن مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} . قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس من نار، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّاً منه. {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الماء الحار. روى أبو هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه قال : (إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان ٢٠{يُصْهَرُ} يذاب، يقال : صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها، أصهرها صهراً، قال الشاعر : تروي لقىً ألقى في صفصف تصهره الشمس ولا ينصهر ومعنى الآية : يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط. ٢١{وَلَهُم مَّقَامِعُ} سياط {مِنْ حَدِيدٍ} واحدتها مقمعة، سمّيت بذلك لأنّها يُقمع بها المضروب أي يذلّل. ٢٢{كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} ردّوا إليها. روى الأعمش عن أبي ظبيان قال : ذُكر أنّهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي مَن فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزّان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي المحرق مثل الأليم والوجيع، والذوق : حاسة يحصل منها إدراك الطعم، وهو ها هنا توسّع، والمراد به إدراكهم الآلام. ٢٣{إِنَّ اللّه يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} وهي جمع سوار {وَلُؤْلُؤًا} . قرأ عاصم وأهل المدينة ها هنا وفي سورة الملائكة : ولؤلؤاً بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤاً، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف ها هنا. وقرأ الباقون بالخفض عطفاً على الذهب، ثمَّ اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو : أُثبتت الألف فيه كما أُثبتت في قالوا وكانوا، وقال الكسائي : أثبتوها فيه للّهمزة لأنَّ الهمزة حرف من الحروف، وأمّا يعقوب فإنّه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعاً إلى المصحف؛ لأنّه كُتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف. ٢٤{وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ} وهو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، وقال ابن زيد : لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر والحمد للّه، نظيرها قوله سبحانه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} إلى دين اللّه. ٢٥{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم، ومعنى الآية : وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ، نظيرها قوله {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَ نُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّه} وقيل : لفظه مستقبل، ومعناه الماضي، أي : وصدّوا عن سبيل اللّه {وَالْمَسْجِدِ} يعني عن المسجد {الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ} خلقناه وبنيناه {لِلنَّاسِ} كلّهم لم نخصّ منهم بعضاً دون بعض {سَوَآءً الْعَاكِفُ} المقيم {فِيهِ وَالْبَادِ} الطاري المنتاب إليه من غيره. وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح : سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره. وتمام الكلام عند قوله {لِلنَّاسِ} . واختلف العلماء في معنى الآية : فقال قوم : سواء العاكف فيه والباد في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ اللّه الواجب عليهما فيه، وإليه ذهب مجاهد. وقال آخرون : هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم. قال عبد اللّه بن عمر : سواء أكلت محرماً أو كراء دار مكة. وقال عبد الرَّحْمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل، ففشا فيهم السرق، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل باباً فأرسل إليه عمر : اتخذت باباً من حجاج بيت اللّه؟ فقال : لا، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله {سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} . قال : البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أُحد إلاّ أن يكون سبق إلى منزل، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل، والقول الأول أقرب إلى الصواب. أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال : حدَّثنا صفوان بن الحسين قال : حدَّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال : سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة، وكان يرخّص فيه، وكنت لا أرخّص فيه، فذكر الشافعي حديثاً وسكت، وأخذت أنا في الباب، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية : مرد كما لاني هست قرية بمرو، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه، فقال لي : أتناظر؟ قلتُ : وللمناظرة جئت، فقال : قال اللّه سبحانه وتعالى {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم} نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها.؟ وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) يوم فتح مكة : (من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع)؟ نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي : اشترى عمر ابن الخطاب ح دار السجن من مالك أو غير مالك؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت. {وَمَن يُرِدْ فِيهِ} أي في المسجد الحرام {بِإِلْحَاد بِظُلْمٍ} يعني إلحاداً بظلم وهو الميل إلى الظلم، والباء فيه زائدة كقوله : تنبت بالدهن أي تنبت الدهن. قال الفرّاء : وسمعت أعرابياً من ربيعة وسألته عن شيء فقال : أرجو بذلك يريد أرجو ذلك. وقال الشاعر : بواد يمان ينبت الشت صدره وأسفله بالمرخ والشبهان أي المرخ. وقال الأعشى : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر : ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد واختلفوا في معنى الآية، فقال مجاهد وقتادة {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْمٍ} هو الشرك أن يعبد فيه غير اللّه سبحانه وتعالى. وقال آخرون : هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه. قال ابن مسعود : ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه، ولو أنّ رجلاً بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلاً بمكّة، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلاّ أذاقه اللّه العذاب الأليم. وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد. أخبرنا أحمد بن أُبي قال : أخبرنا المغيرة بن عمرو قال : حدَّثنا المفضل بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن يوسف قال : حدَّثنا أبو قرّة قال : ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال : تُضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات. ابن جريج : هو استحلال الحرام متعمّداً، عن حبيب بن أبي ثابت : احتكار الطعام بمكة، بعضهم : هو كل شيء كان منهيّاً عنه من القول والفعل حتى قول القائل : لا واللّه، وبلى واللّه. وروى شعبة : عن منصور عن مجاهد عن عبد اللّه بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال : كّنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلاّ واللّه وبلى واللّه. ٢٦{وَإِذْ بَوَّأْنَا} وطّأنا. قال ابن عباس : جعلنا، الحسن : أنزلنا، مقاتل بن سليمان : دللناه عليه، ابن حبان : هيأنا، نظيره {نبوّئ المؤمنين} {وَبَوَّأَكُمْ فِى الأرض} وقوله {لنبوّءنّهم من الجنّة غرفاً} . {لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره، وأراد بالبيت الكعبة. {أَن لا تُشْرِكْ} يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك {بِى شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآفِينَ وَالْقَآمِينَ} يعني المصلّين {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . ٢٧{وَأَذِّن} يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضاً أن أذّنْ أي أعلِمْ ونادِ في الناس {بِالْحَجِّ} . فقال إبراهيم : يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال : عليك الأذان وعليّ البلاغ، فقام إبراهيم على المقام وقيل : على جبل أبي قبيس ونادى : يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتاً فحجّوه، فأسمع اللّه ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم اللّه سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة، فأجابه : لبيك اللّهم لبيك. وقال ابن عباس : عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى {وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ} كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أُمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع. {يَأْتُوكَ رِجَا} مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام. {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي وركبانا، والضامر البعير المهزول، وإنما جمع {يَأْتِينَ} لمكان كلّ، أراد النوق {مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} طريق بعيد. سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول : سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن ياسين القاضي يقول : رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها، فتقدّمت إليه وجعلت أُسائله فقال لي : من أين أنت؟ قلت : من خراسان قال : في أي ناحية تكون خراسان؟ كأنّه جهلها ؟ قلت : ناحية من نواحي المشرق، فقال : في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت : في شهرين وثلاثة أشهر، قال : أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له : وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال : مسيرة خمس سنين، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب، فقلت : هذا واللّه الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول : زُر مَن هويت وإنْ شطّت بك الدار وحال من دونه حجب وأستارُ لا يمنعك بُعدٌ من زيارته إنّ المحبّ لمن يهواه زَوارُ ٢٨{لِّيَشْهَدُوا} ليحضروا {مَنَافِعَ لَهُمْ} يعني التجارة عن سعيد بن جبير، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال : هي الأسواق. مجاهد : التجارة وما يرضي اللّه سبحانه من أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر : العفو والمغفرة. {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين، والمعدودات أيام التشريق، وإنّما قيل لها معدودات لأنّها قليلة، وقيل للعشر : معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها. وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق. محمد بن كعب : المعدودات والمعلومات واحدة. {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم. {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة وليس بواجب. قال المفسرون : وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً. {وَأَطْعِمُوا الْبَآسَ} يعني الزمِن {الْفَقِيرَ} الذي لا شيء له ٢٩{ثُمَّ لْيَقْضُوا} واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقاً بين ثم والواو والفاء لأن ثمّ مفضول من الكلام، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر {تَفَثَهُمْ} والتفث : مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس. وقال القرظي ومجاهد : هو مناسك الحج واخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار. عكرمة : التفث : الشعر والظفر. الوالبي عن ابن عباس : هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك قال أمية بن الصلت : ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثاً وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال مجاهد : نذر الحج والهدي وما ينذر الانسان من شيء يكون في الحج. {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة : سمّي عتيقاً لأنّ اللّه سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار قطّ، ولم يسلّط عليه إلاّ من يعظّمه ويحترمه. قال سعيد بن جبير : أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا : إنّ لهذا البيت ربّاً ما قصده قاصد بسوء إلاّ حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء. قال : فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعاً فأُلبست، وكان أوّل ما أُلبست، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم، وكانت خيله جياداً فسميّت جياد لخيل تبّع، وسميّت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة. وقال سفيان بن عيينة : سمّي بذلك لأنه لم يُملك قط، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال : إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء. ابن زيد : لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس، يقال : سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم، وقيل : لأنه كريم على اللّه سبحانه، يقول العرب : فرس عتيق. ٣٠{ ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللّه} فيجتنب معاصيه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} . قال ابن زيد : الحرمات : المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل : هي المناسك. {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ} أن تأكلوها إذا ذكّيتموها {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} في القرآن وهو قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} الآية، وقوله {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّه عَلَيْهِ} وقيل : وأُحلّت لكم الأنعام في حال إحرامكم إلاّ ما يتلى عليكم من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام. {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ اوْثَانِ} يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس. {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} يعني الكذب والبهتان. قال أيمن بن حريم : قام النبي (صلى اللّه عليه وسلم) خطيباً فقال : (يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك باللّه، ثمَّ قرأ هذه الآية). وقال بعضهم : هو قول المشركين في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. ٣١{حُنَفَآءَ} مستقيمين مخلصين {للّه} وقيل : حجاجاً غير مشركين به {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ} أي سقط إلى الأرض {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} والخطف والاختطاف تناول الشيء بسُرعة، وقرأ أهل المدينة فتخَطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخَطَّفه فأُدغم، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} . {أَوْ تَهْوِى} تميل وتذهب {بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد. قال أهل المعاني : إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة. وقال الحسن : شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أُنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها. ٣٢{ ذلك } الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر اللّه {مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} هذا معنى الآية ونظمها : وشعائر اللّه : الهدي والبُدن، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها. ٣٣{لَكُمْ فِيهَا} أي في الهدايا {مَنَافِعُ} قيل : أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هدياً ويشعرها ويقلدّها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها. {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو أن يسمّيها هدياً ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، وقيل : معناه : لكم في هذه الهدايا منافع بعد إنجابها وتسميتها هدياً بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها، إلى أجل مسمّى يعني إلى أن تُنحر، وهذا قول عطاء بن أبي رباح. وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة، ومعنى الآية : لكم فيها منافع بالتجارة والأسواق إلى أجل مسمّى وهو الخروج من مكة، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس. وقال بعضهم : لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج. {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها، نظيرها قوله سبحانه {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} أي الحرم كلّه، وقال الذين قالوا : عنى بالشعائر المناسك، معنى الآية : ثم محلّ الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك. ٣٤{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جَعَلْنَا مَنسَكًا} اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحاً موضع قربان، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين. {لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ} عند ذبحها ونحرها، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنَّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم. {فَالهكُمْ اله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} قال ابن عباس وقتادة : المتواضعين، مجاهد : المطمئنّين إلى اللّه سبحانه، الأخفش : الخاشعين، ابن جرير : الخاضعين، عمرو بن أوس : هم الذين لا يَظلمون، وإذا ظُلموا لم ينتصروا. ٣٥-٣٦{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقيِمىِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْن} أي الإبل العظام الضخام الأجسام، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير : البدن لضخمه، وقد بدُن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم، فأما إذا أشفى واسترخى قيل : بدّن تبديناً. وقال عطاء والسدّي : البدن : الإبل والبقر. {جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَارِ اللّه} أي أعلام دينه إذا أُشعر {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} النفع في الدنيا، والأجر في العقبى {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللّه عَلَيْهَا} عند نحرها، قال ابن عباس : هو أن تقول : اللّه أكبر لا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر، اللّهمّ منك ولك. {صَوَآفَّ} أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك. روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال : رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال : صوافّ كما قال اللّه سبحانه، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها. وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك. وقرأ ابن مسعود : صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة، وكانت على ثلاث وتنحر، وهو مثل صواف. وقرأ أُبيّ : صوافي وهكذا أيضاً مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة للّه سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون. {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وقال ابن زيد : فإذا ماتت، وأصل الوجوب الوقوع، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله. {فَكُلُوا مِنْهَا} أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله سبحانه وتعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاةُ فَانتَشِرُوا فِى الأرض} . {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} اختلفوا في معناهما، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ القانع الذي يقنع بما أُعطي، ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعترّ : الذي يمرّ بك ويتعّرض لك ولا يسأل. عكرمة وابن ميثم وقتادة : القانع : المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ : السائل الذي يعتريك ويسألك، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس. حصيف عن مجاهد، القانع : أهل مكة وجارك وإن كان غنّياً، والمعتّر الذي يعتريك ويأتيك فيسألك، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال. سعيد بن جبير والكلبي : القانع : الذي يسألك، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ويريك نفسه ولا يسألك، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ : لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعفّ من القنوع وقال لبيد : واعطاني المولى على حين فقره إذا قال أبصر خلّتي وقنوعي وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف ويسأل، والمعترّ : الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن. ابن أبي نجيح عن مجاهد : القانع : الطامع، والمعتر : من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير. ابن زيد : القانع : المسكين، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم. وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر، يقال : عراه واعتراه إذا أتاه طالباً معروفه. ٣٧{كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللّه لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا} وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل اللّه سبحانه {لَن يَنَالَ اللّه} أي لن يصل إلى اللّه {لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا} . {وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} أي النيّة وإلاخلاص وما أُريد به وجه اللّه عزّ وجلّ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء، غيره : بالياء. { كذلك } هكذا {سَخَّرَهَا} يعني البدن {لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ} لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول : اللّه أكبر على ما هدانا والحمد للّه على ما أبلانا وأولانا. ٣٨{إِنَّ اللّه يُدَافِعُ} مكي وبصري : يدفع، غيرهم : يدافع، ومعناه : إنّ اللّه يدفع غائلة المشركين. {عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللّه يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} في أمانة اللّه {كَفُورٍ} لنعمته. ٣٩{أُذِنَ} قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أُذن بضم الألف، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن اللّه {لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إنّ الذين أُذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّه عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} . قال المفسّرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، فيشكونهم إلى رسول اللّه فيقول لهم : اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال حتى هاجر رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من مكة، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن اللّه فيها بالقتال. وقال ابن عباس : لما أُخرج النبي (صلى اللّه عليه وسلم) من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم، إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، لنهلكنّ، فأنزل اللّه سبحانه {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآية، قال أبو بكر : فعرفت أنّه سيكون قتال. وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة، فأذن اللّه تعالى لهم في قتال الكفّار الذين يمنعونهم من الهجرة. ٤٠{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ} بدل من الذين الأُولى، ثمّ قال {إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللّه} يعني لم يخرجوا من ديارهم إلاّ لقولهم ربّنا اللّه وحده، فيكون أنْ في موضع الخفض رّداً على الباء في قوله {بِغَيْرِ حَقٍّ} ويجوز أنْ يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء. {وَلَوْ دَفْعُ اللّه النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بالجهاد وإقامة الحدود وكفّ الظلم {لَّهُدِّمَتْ} قرأ الحجازيّون بتخفيف الدال، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخرّبت {صَوَامِعُ} قال مجاهد والضحاك : يعني صوامع الرهبان، قتادة : صوامع الصابئين. {وَبِيَعٌ} النصارى، ابن أبي نجيح عن مجاهد : البيع : كنائس اليهود، وبه قال ابن زيد. {وَصلاتٌ} قال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني كنائس اليهود ويسمّونها صَلُوتاً. أبو العالية : هي مساجد الصابئين. ابن أبي نجيح عن مجاهد : هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدوّ، انقطعت العبادة وهُدمت المساجد كما صنع بخت نصّر. {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّه كَثِيرًا} يعني مساجد المسلمين، وقيل : تأويلها : لهدمت صوامع وبيع في أيام شريعة عيسى، وصلوات في أيام شريعة موسى، ومساجد في أيام شريعة محمد صلّى اللّه عليهم أجمعين. وقال الحسن : يدفع عن هدم مصليات أهل الذّمة بالمؤمنين، فإن قيل : لم قدّم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين؟ قلنا : لأنها أقدم، وقيل : لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر كما أخّر السابق في قوله {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} لقربه من الخيرات. {وَلَيَنصُرَنَّ اللّه مَن يَنصُرُهُ} أي ينصر دينه ونبيّه. ٤١{إِنَّ اللّه لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَر} قال قتادة : هم أصحاب محمد، عكرمة : أهل الصلوات الخمس، الحسن وأبو العالية : هذه الأُمة. {وَللّه عَاقِبَةُ الأمُورِ} آخر أُمور الخلق ومصيرهم إليه. ٤٢-٤٤{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يا محمد {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوط وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} أمهلتهم {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} إنكاري بالعذاب والهلاك، يعزّي نبيّه (صلى اللّه عليه وسلم) ويخّوف مخالفيه. ٤٥{فَكَأَيِّن} وكم {مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ} يعني وأهلها ظالمون، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار. {فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ساقطة على سقوفها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} متروكة مخلاّة عن أهلها {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} قال قتادة والضحّاك ومقاتل : رفيع طويل، ومنه قول عدي : شاده مرمراً وجللّه كلساً فللطّير في ذراه وكور أي رفعه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : مجصّص، من الشيد وهو الجصّ، قال الراجز : كحبّة الماء بين الطىّ والشيد وقال امرؤ القيس : وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أجماً إلاّ مشيداً بجندل أي مبنيّاً بالشيد والجندل. وروى أبو روق عن الضحاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أنَّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلمّا حضروه مات صالح، فسمّي حضرموت لأن صالحاً لمّا حضره مات، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلاً يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى نموا وكثروا، ثم أنَّهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل اللّه إليهم نبيّاً يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم اللّه وعطّلت بئرهم وخرّبت قصورهم. ٤٦{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأرض} يعني كفّار مكة فينظروا إلى مصارع المكذّيبن من الأُمم الخالية. {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} يعلمون بها {أَوْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} فيتفكروا ويعتبروا. {فَإِنَّهَا تَعْمَى الأبصار وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} تأكيد، كقوله سبحانه {ولا طائر يطير بِجَنَاحَيْهِ} وقوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} . قال ابن عباس ومقاتل : لمّا نزل {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخره أعمى} جاء ابن أم مكتوم النبي (صلى اللّه عليه وسلم) باكياً فقال : يا رسول اللّه أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل اللّه سبحانه وتعالى هذه الآية. ٤٧{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} نزلت في النضر بن الحرث. {وَلَن يُخْلِفَ اللّه وَعْدَهُ} فأنجز ذلك يوم بدر. {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} بالياء مكي كوفي غير عاصم، غيرهم : بالتاء. وقال ابن عباس : هي من الأيام التي خلق اللّه سبحانه فيها السموات والأرض. مجاهد وعكرمة : من أيام الآخرة. ابن زيد : في قوله {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} قال : هذه أيام الآخرة. وفي قوله {تَعْرُجُ الْمَلَاكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال : هو يوم القيامة. وقال أهل المعاني : معنى الآية : وإنّ يوماً عند ربّك من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة كألف سنة ممّا تعدون فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال : أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار. ٤٨-٥١{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} أي عملوا في إبطال آياتنا {مُعَاجِزِينَ} أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس، الأخفش : متأنّفين، قتادة : ظنّوا أنّهم يعجزون اللّه فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر : معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان، ومثله في سورة سبأ. {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى} . قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين : لمّا رأى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من اللّه سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من اللّه تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من اللّه تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل اللّه سبحانه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فقرأها رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حتى بلغ {أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى} ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاّ سجد إلاّ الوليد بن المغيرة وأبو أُحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا : قد عرفنا أنّ اللّه يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيباً فنحن معه، فلمّا أمسى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال : يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن اللّه، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عند ذلك حزناً شديداً وخاف من اللّه خوفاً كبيراً فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية. وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بلغهم سجود قريش، وقيل : قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبُّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ اللّه ما ألقى الشيطان، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند اللّه، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول اللّه (عليه السلام) قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّاً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم. ٥٢{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً {وَلا نَبِىٍّ} وهو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً {إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي أحبَّ شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به. {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ} أي مراده ووجد إليه سبيلاً، وقال أكثر المفسرين : يعني بقوله : تمنى أي تلا وقرأ كتاب اللّه سبحانه {القي الشيطان في أُمنيّته} أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه {يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِىَّ} يعني قراءة يقرأ عليهم. وقال الشاعر في عثمان ح حين قتل : تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلة وآخره لاقى حمام المقادر وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول : سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول : ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان. وقال الحسن : أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنَّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله {فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ} أي يبطله ويذهبه {ثُمَّ يُحْكِمُ اللّه ءَايَاتِهِ} فيثبتها {وَاللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فإن قيل : فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فعنه جوابان : أحدهما : أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه اللّه سبحانه ويعصمه. والثاني : أنَّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هو الذي يتلوه، ٥٣قال اللّه سبحانه {لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} فيشكّون في ذلك. {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فلا تلين لأمر اللّه {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} الكافرين ٥٤{لَفِي شِقَاق بَعِيد وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} من المؤمنين {أَنَّهُ} يعني أنّ الذي أحكم اللّه سبحانه من آيات القرآن ٥٥{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللّه لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَة مِنْه} أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ابن جريج : من القرآن، غيره : من الدين وهو الصراط المستقيم. {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} قال عكرمة والضحّاك : عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. وقال الآخرون : هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة، ولا وجه لأنْ يقال : حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيماً لأنّهم لم يُنظَروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج، غيره : لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وقيل : لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. ٥٦{الْمُلْكُ يومئذ} يعني يوم القيامة {للّه} وحده من غير منازع، ولا مدّع، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأُمور، واللّه سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأُمور كلّها، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه. {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} ثم بيّن حكمه فقال عزَّ من قائل ٥٧-٥٨{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّه} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة اللّه سبحانه وطلب رضاه {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} وهم كذلك {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّه رِزْقًا حَسَنًا} في الجنة {وَإِنَّ اللّه لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقيل : هو قوله سبحانه {بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . روى ابن وهب عن عبد الرَّحْمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال : كان فضالة بن دوس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين : أحدهما قتيل والآخر متوفّى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال : أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضلّونه على أخيه المتوفّى فوالذي نفسي بيده ما أُبالي من أىّ حفرتها بعثت، إقرؤوا قول اللّه سبحانه {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللّه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّه رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّه لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . ٥٩-٦٠{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللّه لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللّه إِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُور} نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر الحرم فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه، وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآيات، والعقاب الأول بمعنى الجزاء. روى ابن وهب عن عبد الرَّحْمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال : كان فضالة بن دوس أميراً على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين : أحدهما قتيل والآخر متوفّى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال : أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضلّونه على أخيه المتوفّى فوالذي نفسي بيده ما أُبالي من أىّ حفرتها بعثت، إقرؤوا قول اللّه سبحانه {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللّه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللّه رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللّه لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللّه لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللّه إِنَّ اللّه لَعَفُوٌّ غَفُور} نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر الحرم فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه، وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم، فأنزل اللّه سبحانه هذه الآيات، والعقاب الأول بمعنى الجزاء. ٦١{ ذلك } يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأنّي القادر على ما أشاء، فمن قدرته أنّه ٦٢{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللّه سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُون} بالياء بصري كوفي غير أبي بكر، الباقون : بالتاء {مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللّه هُوَ الْعَلِىُّ} فلا شيء أعلى منه ولأنّه تعالى عن الأشباه والأشكال {الْكَبِيرُ} العظيم الذي كلّ شيء دونه فلا شيء أعظم منه. ٦٣{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالنبات، رفع فتصبح لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر، مجازها : اعلم يا محمّد أن اللّه ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة، وإن شئت قلت : قد رأيت أنَّ اللّه أنزل من السماء ماءً، كقول الشاعر : ألم تسألِ الربع القديم فينطق وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق معناه : قد سألته فنطق. ٦٤-٦٥{إِنَّ اللّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِنَّ اللّه لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الاْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الاْرْض} يعني لكيلا تسقط على الأرض ٦٦{إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُم} ولم تكونوا شيئاً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للثواب والعقاب {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات. ٦٧{لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} مألفاً يألفونه وموضعاً يعتادونه لعبادة اللّه، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شرّ يقال : إن لفلان منسكاً أي مكاناً يغشاه ويألفه للعبادة، ومنه مناسك الحج لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وقال ابن عباس : {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي عيداً. وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه، غيرهم : أراد جميع العبادات. {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِى الأمْرِ} أي في أمر الذبح، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول اللّه (عليه السلام) : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله اللّه ؟). {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} دين ربّك ٦٨-٦٩{إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيم وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللّه أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون} فتعرفون حينئذ المحقّ من المبطل والاختلاف ذهاب كلّ واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهذا أدب حسنٌ علّم اللّه سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنّت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علّمه اللّه سبحانه لنبيّه (عليه السلام) ٧٠{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ والأرض إِنَّ ذلك } كلّه {فِى كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ {إِنَّ ذلك } يعني علمه تعالى بجميع ذلك ٧١{عَلَى اللّه يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِن نَّصِيرٍ} يمنعهم من عذاب اللّه. ٧٢{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ} بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس. {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يقعون ويبطشون {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا} وأصل السطو : القهر. {قُلْ} يا محمد لهم {أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكُمُ} أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون {النَّارُ} أي هي النار {وَعَدَهَا اللّه الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . ٧٣{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَل} معنى ضرب : جعل، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم، ومنه قوله {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} والمثل حالة ثابتة تشبه بالأُولى في الذكر الذي صار كالعلم، وأصله الشبه، ومعنى الآية : جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي. {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها، ثم بيّن ذلك فقال عزَّ من قائل {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه} قراءة العامة بالتاء، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا} في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} لخلقه، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان {وَإِن يَسْلُبْهُمُ} يعني الأصنام، أخبر عنها بفعل ما يعقل، وقد مضت هذه المسألة، يقول : وإن يسلبهم {الذُّبَابُ شيئا} مما عليهم {لا} يقدرون أن {يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . قال ابن عباس : الطالب الذباب والمطلوب الصنم، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا : أكلت آلهتنا العسل. الضحّاك : يعني العابد والمعبود. ابن زيد وابن كيسان : كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر. ٧٤{مَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظّموا اللّه حقّ تعظيمه، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به مالا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به. ٧٥{إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللّه يَصْطَفِي} يختار {مِنَ الملائكة رُسُلا} كجبرئيل وميكائيل وغيرهما {وَمِنَ النَّاسِ} أيضاً رسلاً مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء صلوات اللّه عليهم، يقال : نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون {الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ} فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه. {إِنَّ اللّه سَمِيعُ} لقولهم {بَصِيرٌ} بمن يختاره لرسالته. ٧٦{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم. {وَمَا خَلْفَهُمْ} ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. وقال الحسن : ما بين أيديهم ماعملوه، وما خلفهم ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد. ٧٧{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون}. أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا محمد بن يحيى قال : وفيما قرأت على عبد اللّه بن نافع، وحدّثني مطرف بن عبد اللّه عن مالك عن نافع أنّ رجلاً من أهل مصر أخبر عبد اللّه بن عمر أنَّ عمر بن الخطاب ح قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمَّ قال : انَّ هذه السورة فضلّت بسجدتين. وبإسناده عن مالك عن عبد اللّه بن دينار أنّه قال : رأيت عبد اللّه بن عمر سجد في الحج سجدتين. وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : حدَّثنا ابن أبي خيثمة قال : حدَّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال : حدَّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فنزل فسجد فيها سجدتين. وحدَّثنا أبو محمد المخلّدي قال : أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن مسلم قال : حدَّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال : حدَّثنا محمد بن موسى بن أعين قال : قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول اللّه في سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما. ٧٨{وَجَاهِدُوا فِى اللّه حَقَّ جِهَادِهِ} يعني وجاهدوا في سبيل اللّه أعداء اللّه حق جهاده، وهو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس، وعنه أيضاً : لا تخافوا في اللّه لومة لائم وذلك حق الجهاد. وقال الضحاك ومقاتل : يعني اعملوا للّه بالحقّ حقّ عمله، واعبدوه حقّ عبادته. عبد اللّه بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال حين رجع من بعض غزواته : (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الاكبر). {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} اختاركم لدينه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلاّ جعل له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلاّ وله منه في دين الإسلام مخرج، وهذا معنى رواية علي بن عبد اللّه بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال : جعل اللّه الكفارات مخرجاً من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك. وقال بعضهم : معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها، ولكنّه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها {مِّلَّةَ} أبيكم أي كملّة {أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} نصب بنزع حرف الصفة، عن الفرّاء، غيره : نصب على الاغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد (صلى اللّه عليه وسلم) وأمّا وجه قوله سبحانه (ملّة أبيكم) وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه : إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد، كما قال سبحانه {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّما أنا لكم مثل الوالد)، وهذا معنى قول الحسن البصري (رحمه اللّه). {هُوَ} يعني اللّه سبحانه وتعالى {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة {وَفِى هذا} الكتاب هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد : هو راجع إلى إبراهيم (عليه السلام) يعني أنّ إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم {وَفِى هذا} الوقت، قال : وهو قول إبراهيم {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} والقول الأول أولى بالصواب. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} أن قد بلّغكم {وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} أن رسلهم قد بلّغتهم {وَجَاهِدُوا فِى اللّه حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ} وثقوا باللّه وتوكّلوا عليه. وقال الحسن : تمسّكوا بدين اللّه الذي لطف به لعباده. {هُوَ مَوْلَاكُمْ} وليّكم وناصركم ومتولي أمركم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . |
﴿ ٠ ﴾