سورة الفرقان

مكيّة،

وهي ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً،

وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة،

وسبع وسبعون آية

أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة قال : حدّثنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي والحافظ أبو الشيخ عبد اللّه بن محمد الاصفهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَن قرأ سورة الفرقان بُعث يوم القيامة وهو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث مَن في القبور،

ودخل الجنة بغير حساب).

بِسمِ اللّه الرحمنِ الرحيمِ

١

{تَبَارَكَ} تفاعل،

من البركة،

عن ابن عباس،

كأنّ معناه : جاء بكل بركة،

دليله قول الحسن : تجيء البركة من قبله،

الضحّاك : تعظّم،

الخليل : تمجّد،

وأصل البركة النّماء والزيادة.

وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبتَ ودام بما لم يزل ولا يزال،

وأصل البركة الثبوت يقال : برك الطير على الماء وبرك البعير،

ويقال : تبارك اللّه ولا يقال للّه متبارك أو مبارك لأنّه ينتهى في صفاته وأسمائه الى حيث ورد التوقيف.

{الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} القرآن {عَلَى عَبْدِهِ} محمد (صلى اللّه عليه وسلم) {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} الجنّ والإنس {نَذِيرًا} .

قال بعضهم : النذير هو القرآن،

وقيل : هو محمد.

٢

{الذي له مُلك السموات والأرض ولم يتّخذ وَلداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كلّ شيء} ممّا يطلق له صفة المخلوق {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} فسوّاه وهيّأه لما يصلح له،

فلا خلل فيه ولا تفاوت.

٣-٤

{وَاتَّخَذُوا} يعني عبدة الأوثان {من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياوة ولا نشوراً وقال الذين كفروا} يعني النضر بن الحرث واصحابه {إِنْ هَذَآ } ما هذا القرآن {إلاّ إفك افترايه} اختلقه محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ} يعني اليهود عن مجاهد،

وقال الحسن بن عبيد بن الحضر : الحبشي الكاهن،

وقيل : جبر ويسار وعدّاس مولى حويطب بن عبد العزى،

قال اللّه سبحانه وتعالى {فقد جاؤوا} يعني ما يلي هذه المقالة {ظُلْمًا وَزُورًا} بنسبتهم كلام اللّه سبحانه الى الإفك والافتراء

٥

{وَقَالُوا} أيضاً {أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ} تُقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلا} .

٦-٧

ثمَّ قال سبحانه وتعالى ردّاً عليهم وتكذيباً لهم {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنّه كان غفوراً رحيماً وقالوا مالهذا الرسول} يعنون محمّداً (صلى اللّه عليه وسلم) {يَأْكُلُ الطَّعَامَ} كما نأكل {وَيَمْشِى فِى اسْوَاقِ} يلتمس المعاش {لَوْ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} يصدّقه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} داعياً

٨

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} ينفقه فلا يحتاج الى التصرّف في طلب المعاش. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {يَأْكُلُ مِنْهَا} هو،

هذه قراءة العامة،

وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن.

{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا} نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أُميّة وقد مرّ ذكرها في بني إسرائيل.

٩

{انظُرْ} يامحمد {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ امْثَالَ فَضَلُّوا فلا يستطيعون سبيلا} إلى الهدى ومخرجاً من الضلالة فأخبر اللّه أنّهم متمسّكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلّفين بقبول الحق فثبت أنّ الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان.

١٠

{تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذلك } أي ممّا قالوا،

عن مجاهد،

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيراً من المشي في الأسواق والتماس المعاش،

ثمَّ بيّن ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى {جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا} أي بيوتاً مشيّدة،

وسُمّي قصراً لأنّه قُصر أي حُبس ومُنع من الوصول إليه. واختلف القرّاء في قوله {وَيَجْعَل} فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل،

وجزمهُ الآخرون على محلّ الجزاء في : قوله إن شاء جعل.

(أخبرنا) أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال : أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن يعقوب البخاري قال : حدّثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال : حدّثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال : حدّثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بالفاقة فقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق،

حزن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّياً له فقال : السلام عليك يا رسول اللّه،

ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك : (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) ويتّبعون المعاش في الدنيا.

قال : فبينا جبرئيل (عليه السلام) والنبي (صلى اللّه عليه وسلم) يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة،

قيل : يا رسول اللّه وما الهردة؟

قال : (العدسة) فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة؟

قال : يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك،

فتحوّل الملك وأنّه إذا فُتح باب من السماء لم يكن فُتح قبل ذلك فتحوّل الملك،

إمّا ان يكون رحمة أو عذاباً وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة،

فأقبل النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وجبرئيل (عليه السلام) يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال : يا محمد أبشر،

هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك،

فأقبل رضوان حتى سلّم،

ثم قال : يا محمد،

ربّ العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربّك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة،

فنظر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) إلى جبرئيل (عليه السلام) كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال : تواضع للّه. فقال : (يا رضوان لا حاجة لي فيها،

الفقر أحبّ اليّ،

وأن أكون عبداً صابراً شكوراً) فقال رضوان : أصبت أصاب اللّه بك.

وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها الى العرش،

وأوحى اللّه سبحانه وتعالى الى جنة عدن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء،

فقال جبرئيل : يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة ومناد ينادي : أرضيت يا محمد؟

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (رضيت،

فاجعل ما اردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة).

ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان (تبارك الذي ان شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً).

١١-١٢

{بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيُّظاً} أي غلياناً وفوراناً كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب {وَزَفِيرًا} ومعنى قوله : سمعوا لها تغيّظاً أي صوت التغيّظ من التلهّب والتوقّد،

وقال قطرب : التغيظ لا يُسمع وإنّما المعنى : رأوا لها تغيّظاً وسمعوا لها زفيراً. قال الشاعر :

ورأيت زوجك في الوغى

متقلّداً سيفاً ورمحا

أي حاملاً رمحاً.

أخبرني أبو عبد اللّه بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال : حدّثني عمي أبو بكر قال : حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول اللّه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَن كذب عليّ متعمّداً فليتبّوأ بين عينَي جهنم مقعداً فقال : يا رسول اللّه وهل لها من عينين؟

قال : نعم ألم تسمع إلى قول اللّه سبحانه {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} ).

١٣

{وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} قال ابن عباس : يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح.

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال : قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث الى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه سئل عن قول اللّه سبحانه {وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا} {مُّقَرَّنِينَ} قال : (والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط،

مقرّنين مصفّدين،

قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال). ومنه قيل للحبل قَرنٌ،

وقيل : مع الشياطين في السلاسل والأغلال.

{دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} ويلاً عن ابن عباس،

هلاكاً عن الضحّاك.

روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنَّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : أوّل من يُكسى حُلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه،

وذريته من خلفه وهو يقول : يا ثبوره وهم ينادون ياثبورهم حتى يُصَفّوا على النار فيقال لهم

١٤-١٥

{لا تَدعُوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً قل ذلك} الذي ذكرت من صفة النار وأهلها

١٦

{خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً لهم فيها مايشاءون خالدين كان على ربّك وعداً مسؤولا} وذلك أنَّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا {رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ} فقال اللّه سبحانه كان إعطاء اللّه المؤمنين جنة الخلد وعداً وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك.

وقال بعض أهل العربية : يعني وعداً واجباً وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يُسئل كالَّذين قال : ونظير ذلك قول : العرب لأُعطينّك ألفاً وعداً مسؤولاً بمعنى أنه واجب لك فتسأله.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي بن حنش المقري قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا جعفر بن مسافر قال : حدّثنا يحيى بن حسان قال : حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث،

عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى {كان على ربك وعداً مسؤولاً} .

قال : الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ} .

١٧

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص،

والباقون بالنون {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه} من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد،

وقال عكرمة والضحّاك : يعني الأصنام. {فَيَقُولُ} بالنون ابن عامر،

غيره : بالياء،

لهؤلاء المعبودين من دون اللّه

١٨

{ءَأنتم أضللتُم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ من دونك من أولياء} أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم،

وقرأ الحسن وأبو جعفر : أن نُتَّخذ بضم النون وفتح الخاء.

قال أبو عبيد : هذا لا يجوز لأنَّ اللّه سبحانه ذكر (مِن) مرّتين،

ولو كان كما قالوا لقال : أن نتّخذ من دونك أولياء. وقال غيرهُ : (من) الثاني صِلة.

{وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ} في الدنيا بالصحة والنعمة {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه،

وقيل : الرسول،

وقيل : الإسلام،

وقيل : التوحيد،

وقيل : ذكر اللّه سبحانه وتعالى.

{وَكَانُوا قَوْمَا بُورًا} أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان،

وقال الحسن وابن زيد : البور : الذي ليس فيه من الخير شيء،

قال أبو عبيد : وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة،

وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى :

يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بُور

وقيل : هو جمع البائر،

ويقال : أصبحت منازلهم بوراً أي خالية لا شيء فيها،

فيقول اللّه سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم

١٩

{فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ} أنّهم كانوا آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأه العامة بالياء يعني الآلهة،

وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين {صَرْفًا وَلا نَصْرًا} أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم.

وقال يونس : الصرف : الحيلة ومنه قول العرب : إنه ليتصرف أي يحتال.

وقال الأصمعي : الصرف : التوبة والعدل : الفدية.

{وَمَن يَظْلِم} أي يشرك

٢٠

{منكم نذقه عذاباً كبيراً وما أرسلنا قبلك} يا محمد {مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ} قال أهل المعاني : إلاّ قيل أنّهم {لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى اسْوَاقِ} دليله قوله سبحانه {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} وقيل : معناه إلاّ من أنّهم،

وهذا جواب لقول المشركين {مَالِ هذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى اسْوَاقِ} .

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} فالمريض فتنة للصحيح،

والمبتلى فتنة للمعافى،

والفقير فتنة للغني،

فيقول السقيم : لو شاء اللّه لجعلني صحيحاً مثل فلان،

ويقول الفقير : لو شاء اللّه لجعلني غنيّاً مثل فلان،

وقال ابن عباس : إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا،

ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت،

ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.

أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال : أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن جمعان قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (ويل للعالم من الجاهل،

ويل للجاهل من العالم،

وويل للمالك من المملوك،

وويل للمملوك من المالك،

وويل للشديد من الضعيف،

وويل للضعيف من الشديد،

وويل للسلطان من الرعية،

وويل للرعية من السلطان،

بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} ).

{أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيباً وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا : أنُسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل اللّه سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين {أَتَصْبِرُونَ} يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر،

وكان ربك بصيراً بمن يصبر ويجزع،

وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن.

٢١

{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَاكَةُ} فتخبرنا أنَّ محمداً صادق محقّ {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه {وقالوا لن نؤمن لك الى قوله والملائكة قبيلا} .

قال اللّه تعالى {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ} بهذه المقالة {وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا} قال مقاتل : غلوّاً في القول،

والعتو : أشدّ الكفر وأفحش الظلم.

٢٢

{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَاكَةَ} عند الموت وفي القيامة {بُشْرَى يومئذ لِّلْمُجْرِمِينَ} للكافرين {وَيَقُولُونَ} يعني الملائكة للمجرمين {حِجْرًا مَّحْجُورًا} أي حراماً محرماً عليكم البشرى بخير،

وقيل : حرام عليكم الجنة،

وقال بعضهم : هذا قول الكفار للملائكة،

قال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا : حجراً محجوراً،

فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا،

وقال مجاهد : يعني عوذاً معاذاً،

يستعيذون من الملائكة.

٢٣

{وَقَدِمْنَآ} وعمدنا {إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا} باطلاً لا ثواب له لأنّهم لم يعملوه للّه سبحانه وإنّما عملوه للشيطان،

واختلف المفسّرون في الهباء فقال بعضهم : هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يُمسّ بالأيدي ولا يُرى في الظلّ،

وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد.

وقال قتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر،

وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس،

وقال ابن زيد : هو الغبار،

والوالبي عن ابن عباس : هو الماء المهراق،

مقاتل : ما يسطع من حوافر الدواب،

والمنثور : المتفرق.

٢٤

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يومئذ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم {وَأَحْسَنُ مَقِي} موضع قائلة وهذا على التقدير،

قال المفسرون : يعني أنّ أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلاّ قدر ميقات النهار من أولّه إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة.

قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ : ثم ان مقيلهم لاَلى الجحيم،

هكذا كان يقرأها،

وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب من ذلك اليوم في أولّه،

وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة.

وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أنّ سعيداً الصوّاف أو الصراف حدّثه أنّه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنّهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس،

وقرأ هذه الآية.

٢٥

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ} قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف والتخفيف ههنا وفي سورة ق،

وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام،

والباء وعن يتعاقبان كما يقال : رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد.

وقال المفسّرون : وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم،

وهو الذي قال اللّه سبحانه وتعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللّه فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَاكَةُ} .

{وَنُزِّلَ الْمَلَ اكَةُ تَنزِي} هكذا قراءة العامة،

وقرأ ابن كثير ونُنزل بنونين الملائكة نصبٌ

٢٦

{الْمُلْكُ يومئذ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} خالصاً وبطلت ممالك غيره {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} صعباً شديداً نظيرها قوله سبحانه {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} والخطاب يدلّ على أنّه على المؤمنين يسير.

وفي الحديث : إنّه ليهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا.

٢٧

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآية. نزلت في عقبة بن أبي معيط وأُبي بن خلف وكانا متحابّين وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً فدعا الناس ودعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) الى طعامه،

فلمّا قرّب الطعام،

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأني رسول اللّه) فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنَّ محمداً رسول اللّه،

فأكل رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من طعامه وكان أُبىّ بن خلف غائباً،

فلمّا أُخبر بالقصة قال : صبأت يا عقبة : قال : لا واللّه ما أصبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم،

فشهدت له فطعم.

فقال أُبَىّ : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه،

ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابّة فألقاها بين كتفيه،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوت رأسك بالسيف). فقُتل عقبة يوم بدر صبراً،

وأما أُبىّ بن خلف فقتله النبي (صلى اللّه عليه وسلم) بيده يوم أُحد في المنابزة،

وأنزل اللّه فيهما هذه الآية.

وقال الضحّاك : لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خدّيه،

فكان أثر ذلك فيه حتّى الموت.

وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : كان أُبي بن خلف يحضر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك،

فنزلت هذه الآية،

وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليلاً لأُميّة بن خلف فأسلم عقبة فقال أُميّة : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً،

فكفر وارتدّ لرضا أُميّة فأنزل اللّه سبحانه {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} يعني الكافر عقبة بن أبي معيط لأجل طاعة خليله الذي صَدَّهُ عن سبيل ربّه {يَقُولُ يَالَيْتَنِى} وفتح تاءه أبو عمرو {اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ} محمد (صلى اللّه عليه وسلم)

٢٨

{سبيلاً يا ويلتى ليتني لم اتّخذ فلاناً خليلاً} يعني أُبي بن خلف الجمحي

٢٩

{لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ} يعني القرآن والرسول {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ} وهو كلّ متمرّد عات من الجانّ،

وكلّ من صدَّ عن سبيل اللّه وأُطيع في معصيته فهو شيطان {لِنسَانِ خَذُو} عند نزول البلاء والعذاب به.

وحكم هذه الآيات عامّ في كلّ متحابّين اجتمعا على معصية اللّه،

لذلك قال بعض العلماء : أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال : أنشدني أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن الصديق قال : أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين :

تجنّبْ قرين السوء واصرم حباله

فإن لم تجد عنه محيصاً فداره

وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه

تنل منه صفو الودّ ما لم تماره

وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا

إذا اشتعلت نيرانه في عذاره

وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو بكر محمد بن عبد اللّه الحامدي :

اصحبْ خيار الناس حيث لقيتهم

خير الصحابة من يكون عفيفاً

والناس مثل دراهم ميزّتها

فوجدت فيها فضّة وزيوفا

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر قال : حدّثنا أبو سعيد عبد الرَّحْمن ابن محمد بن حسكا قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدّثنا عاصم عن أبي كبشة قال : سمعت أبا موسى يقول على المنبر : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) مثل الجليس الصالح مثل العطار إنْ لم ينلك يعبقُ بك من ريحه،

ومثل الجليس السوء مثل القين إنْ لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه.

وحدَّثنا أبو القاسم بن حبيب لفظاً سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو حاتم محمد ابن حيان بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال : حدّثنا عبد اللّه بن الصقر السكري قال : حدّثنا وهب بن محمد النباتي قال : سمعت الحرث بن وجيه يقول : سمعت مالك ابن دينار يقول : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجّار.

٣٠

{وَقَالَ الرَّسُولُ} يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم {يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً} أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنّه سحر وشعر وسمر من الهجر،

وهو القول السيّىء،

عن النخعي ومجاهد.

وقال الآخرون : هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه.

أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا : حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : حدّثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال : حدّثنا أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَن تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقاً به يقول : يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه).

٣١

{ كذلك } أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ} أي من مشركي قومه،

فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك.

{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} على الحال والتمييز

٣٢

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ نُزِّلَ عَلَيْهِ} على محمد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} كما أُنزلت التوراة على موسى،

والزبور على داود،

والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال اللّه سبحانه { كذلك } فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لنقوّي بها قلبك فتعيه وتحفظه،

فإنّ الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون،

والقرآن أُنزل على نبيّ أُمّي ولأنّ من القرآن الناسخ والمنسوخ،

ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أُمور،

ففرّقناه ليكون أوعى لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) وأيسر على العالِم به.

{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} قال ابن عباس : ورسّلناه ترسيلاً،

وقال النخعي والحسن : فرّقناه تفريقاً آية بعد آية وشيئاً بعد شيء،

وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة،

وقال ابن زيد : وفسّرناه تفسيراً،

والترتيل : التبيين في ترسّل وتثبّت.

٣٣

{وَلا يَأْتُونَكَ} يا محمد يعني هؤلاء المشركين {بِمَثَلٍ} في إبطال أمرك {إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بما تردّ به ما جاؤوا به من المثل وتبطله. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} بياناً وتفصيلاً،

ثمَّ وصف حال المشركين وبيّن حالهم يوم القيامة فقال

٣٤

{الَّذِينَ} يعني هم الذين {يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} فيساقون ويجرّون {إِلَى جَهَنَّمَ أولئك شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سبيلا} .

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خرجة قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدوابّ،

وثلث على وجوههم،

وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا).

٣٥

{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} أي معيناً وظهيراً

٣٦

{فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِايَاتِنَا } يعني القبط،

وفي الآية متروك استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها : فكذّبوهما.

{فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} فأهلكناهم إهلاكاً

٣٧

{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً} عبرة {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} في الآخرة {عَذَابًا أَلِيمًا} سوى ما حلّ بهم من عاجل العذاب.

٣٨

{وعاداً وثمود وأصحاب الرسّ} اختلفوا فيهم،

فقال ابن عباس : كانوا أصحاب آبار،

وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعوداً عليها وأصحاب مواشي،

وكانوا يعبدون الأصنام فوجّه اللّه إليهم شعيباً يدعوهم الى الإسلام فأتاهم ودعاهم،

فتمادوا في طغيانهم وفي أذى شعيب فحذّرهم اللّه عقابه،

فبينا هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر فانخسفت بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعاً.

قتادة : الرس : قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه،

وقال بعضهم : هم بقية هود قوم صالح،

وهم أصحاب البئر التي ذكرها اللّه سبحانه في قوله تعالى {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} .

قال سعيد بن جبير وابن الكلبي والخليل : كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان،

وكان بأرضهم جبل يقال له فتح،

مصعده في السماء ميل،

وكانت العنقاء تنتابه وهي أعظم ما تكون من الطير وفيها من كل لون،

وسمّوها العنقاء لطول عنقها،

وكانت تكون في ذلك الجبل تنقضّ على الطير تأكلها،

فجاعت ذات يوم فأعوزتها الطير فانقضّت على صبي فذهبت،

فسُمّيت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه وتذهب به،

ثم إنّها انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين،

فطارت بها فشكو الى نبيّهم فقال : اللّهم خذها واقطع نسلها،

فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر،

فضربتها العرب في أشعارهم،

ثم إنهم قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه.

وقال كعب ومقاتل والسدي : هم أصحاب يس،

والرسّ بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النّجار،

فنسبوا لها وهم الرسّ،

ذكرهم اللّه سبحانه في سورة يس،

وقيل : هم أصحاب الأُخدود والرسّ هو الأُخدود الذي حفروه،

وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر،

دليله ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنَّ أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة لعبد أسود وذلك أن اللّه سبحانه بعث نبيّاً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلاّ ذلك الأسود،

ثمّ إنّ أهل القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها،

ثم أُطبق عليه بحجر ضخم،

وكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره،

ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشري به طعاماً وشراباً،

ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة يعينه اللّه عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردّها كما كانت.

قال : وكان كذلك ما شاء اللّه أن يكون ثم إنّه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها،

فلمّا أراد أن يحتملها وجد سِنة فاضطجع فنام فضرب اللّه على أُذنه سبع سنين،

ثم إنه هبّ فتمطّى فتحوّل لشقّه الآخر فاضطجع،

فضرب اللّه على أُذنه سبع سنين أُخرى،

ثم إنّه هبّ فاحتمل حزمته ولا يحسَبُ إلاّ أنه نام ساعة من نهار،

فجاء الى القرية فباع حزمته،

ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع،

ثم ذهب الى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه فآمنوا به وصدّقوه.

قال : وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟

فيقولون له : ماندري،

حتى قبض اللّه ذلك النبي فأهب اللّه الاسود من نومته بعد ذلك فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ ذلك الاسود لأول من يدخل الجنة).

قلت : قد ذكر في هذا الحديث انهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته فلا ينبغي ان يكونوا المعنيين بقوله {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} لأن اللّه سبحانه وتعالى أخبر عن أصحاب الرسّ أنهم دمّرهم تدميراً إلاّ أن يكونوا دُمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وامنوا به فيكون ذلك وجهاً.

وقد ذُكر عن أمير المؤمنين علي ح في قصة أصحاب الرس ما يصدّق قول عكرمة وتفسيره،

وهو ما روى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنَّ رجلا من أشراف بني تميم يقال له عمرو أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرسّ في أيّ عصر كانوا؟

وأين كانت منازلهم؟

ومن كان ملكهم؟

وهل بعث اللّه سبحانه إليهم رسولاً؟

وبماذا أُهلكوا؟

فإنّي أجد في كتاب اللّه سبحانه ذكرهم ولا أجد خبرهم،

فقال له علي ح : لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدّثك به أحد بعدي.

وكان من قصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت،

كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب كانت أُنبتت لنوح عليه السلام بعد الطوفان،

وإنّما سُمّوا أصحاب الرسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الأرض وذلك قبل سليمان بن داود،

وكان له إثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق،

وبهم سمّي ذلك النهر،

ولم يكن يومئذ في الأرض أغزر منه ولا أعذب،

ولا قرى أكثر سكاناً ولا أعمر منها،

وكانت،

أعظم مداينهم اسفندماه وهي التي ينزلها ملكهم،

وكان يسمّى نركوز بن عانور بن ناوش بن سارن ابن نمرود بن كنعار،

وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة،

وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها هم ولا أنعامهم،

ومن فعل ذلك قتلوه،

ويقولون : هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن يقطف من حباتها،

ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم،

وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيداً تجتمع إليه أهلها ويضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها أنواع الصور،

ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قرباناً للشجرة ويشعلون فيها النيران بالحطب،

فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتاره في الهواء،

وحال بينهم وبين النظر الى السماء،

خرّوا للشجرة سجّداً يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم.

وكان الشيطان يجيىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي : إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً،

فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم،

ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقاً،

ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم،

فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكاً شديداً ويتكلم من جوفها كلاماً جهورياً يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلّها،

فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف،

فيكونون على ذلك اثنا عشر يوماً ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم باللّه سبحانه وعبادتهم غيره بعث اللّه سبحانه إليهم نبياً من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زماناً طويلاً يدعوهم الى عبادة اللّه سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه،

فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغي والضلال،

وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال : يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلاّ أن يكذّبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر،

فأيبسْ شجرهم اجمع وأرِهم قدرتك وسلطانك،

فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه،

فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين : فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول ربّ السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه.

وفرقة قالت : لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم الى عبادة غيرها،

فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه،

فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالاً من رصاص واسعة الأفواه،

ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ،

ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئراً ضيقة المدخل عميقة،

وأرسلوا فيها نبيّهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا : نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان،

فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السلام وهو يقول : سيّدي قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي،

وعجّل قبض روحي ولا تؤخّر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام.

فقال اللّه تعالى لجبرئيل : إنّ عبادي هؤلاء غرّهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي،

وأنا المنتقم ممّن عصاني ولم يخش عقابي،

وإنّي حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين،

فلم يرعهم وهم في عيدهم إلاّ ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها،

وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوّذ باللّه من غضبه ودرك نقمته.

وقال بعض أهل العلم بأخبار الماضين وسير المتقدمين : بلغني أنّه كان رسّان : أمّا احَدَهُمَا فكان أهله أهل بدو وعمود وأصحاب مواشي فبعث اللّه إليهم رسولاً فقتلوه،

ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقُتل الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم وكانوا يقولون إلهنا في البحر وكانوا على شفيره،

وأنّه كان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل شهر خرجة فيذبحون عنده ويجعلونه عيداً فقال لهم الولي : أرأيتكم إن خرج إلهكم الذي تعبدونه فدعوته فأجابني وأمرته فأطاعني أتجيبونني الى مادعوتكم إليه؟

قالوا : بلى فأعطوه عهودهم ومواثيقهم على ذلك فانتظروا حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكباً أربعة أحوات وله عنق مستعلية،

وعلى رأسه مثل التاج،

فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا وخرج الولي إليه فقال : ائتني طوعاً أو كرهاً باسم اللّه الكريم فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الولي : ائتني عليهن لئلاّ يكون من القوم في أمره شك،

فأتى الحوت وأتين به حتى أفضن الى البر يجرّونه ويجرّهم،

فكذبوه بعد ذلك فأرسل اللّه عليهم ريحاً فقذفهم في البحر وقذف في البحر مواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضة وآنية،

فأتى الولي الصالح الى البحر حتى أخذ الذهب والفضة والأواني فقسمها على أصحابه بالسويّة،

وانقطع نسل هؤلاء القوم.

وأما الآخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه فكان فيهم أنبياء كثيرة قل يوم يقوم فيهم نبيّ إلاّ قتل،

وذلك النهر بمنقطع أذربيجان بينهما وبين أرمينية فإذا قطعته مدبراً ذاهباً دخلت في حدّ أرمينية،

وإذا قطعته مقبلاً دخلت حدّ أذربيجان وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران،

وهم كانوا يعبدون الحواري العذارى فإذا تمّت لأحداهن ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها.

وكان عرض نهرهم ثلاث فراسخ وكان يرتفع في كل يوم وليلة حتى بلغ أنصاف الجبال التي حوله،

وكان لا ينصب في بر ولا بحر،

إذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع،

إليهم فبعث اللّه سبحانه إليهم ثلاثين نبيّاً في شهر واحد فقتلوهم جميعاً،

فبعث اللّه إليهم نبيّاً وأيّده بنصره وبعث معه وليّاً فجاهدهم في اللّه حقَّ جهاده ونابذوه على سواء،

فبعث اللّه ميكائيل وكان ذلك في أوان وقوع الحَب في الزرع وكانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا إلى الماء ففجر نهرهم في البحر،

فانصبّ ما في أسفله وأتى عيونها من فوق فسدّها.

وبعث اللّه أعوانه من الملائكة خمسمائة ألف ففرّقوا ما بقي في وسط النهر،

ثم أمر اللّه سبحانه جبرئيل،

فنزل فلم يدع في أرضهم عيناً لا ماء ولا نهر إلاّ أيبسه بإذن اللّه تعالى،

وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتها ربضة واحدة،

وأمر الرياح الأربع الجنوب والشمال والصبا والديور فقصمت ما كان لهم من متاع،

وألقى اللّه عليهم السبات ثم خفقت الرياح الأربع بما كان من ذلك المتاع أجمع،

فنهبته في رؤوس الجبال وبطون الأودية.

فأما ما كان من حليّ أو تبر أو آنية فإن اللّه سبحانه أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا ولا ماشية عندهم ولا مال يعودون إليه ولا ماء يشربونه،

وأصبحت زروعهم يابسة فآمن باللّه عند ذلك قليل منهم وهداهم اللّه سبحانه إلى غار في جبل له طريق الى خلفه،

فنجوا وكانوا أحد وعشرين رجلاً وأربع نسوة وصبييّن،

وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذراري ستمائة ألف فماتوا عطشاً وجوعاً،

ولم يبق منهم باقية،

ثم عاد القوم المؤمنون الى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعوا اللّه عند ذلك مخلصين أن يجيئهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلاً لئلاّ يطغوا،

فأجابهم اللّه سبحانه الى ذلك لما علم من صدقهم،

وأطلق لهم نهرهم وزادهم على ما سألوا.

فقام أُولئك بطاعة اللّه ظاهرة وباطنة حتى مضى أولئك القوم وحدث من نسلهم بعدهم قوم أطاعوا اللّه في الظاهر ونافقوا في الباطن فأملى اللّه لهم،

ثم كثرت معاصيهم فبعث اللّه سبحانه عليهم عدوّهم فأسرع فيهم القتل فبقيت شرذمة منهم،

فسلّط اللّه عليهم الطاعون فلم يُبقِ منهم أحداً،

وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد.

ثم أتى اللّه سبحانه بقرن بعد ذلك فنزلوها فكانوا صالحين سنين ثم أحدثوابعد ذلك فاحشة جعل الرجل يدعو ابنته وأخته وزوجته فينيكها جاره وصديقه وأخوه يلتمس بذلك البر والصلة،

ثم ارتفعوا من ذلك الى نوع آخر استغنى الرجل بالرجل وتركوا النساء حتى شبقن فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة وهي الدلهاث بنت إبليس وهي أُخت الشيطان،

كانا في بيضة واحدة فشبهت الى النساء ركوب بعضها الى بعض وعلّمتهن كيف يصنعن،

فأصل ركوب النساء بعضهن بعضاً من الدلهاث،

فسلّط اللّه سبحانه على ذلك القرن صاعقة من أول الليل وخسفاً في آخر الليل وصيحةً مع الشمس،

فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم.

ويشهد بصحّة بعض هذه القصة ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه قال : حدّثنا عبد اللّه بن جامع قال : حدّثنا عثمان بن خرزاذ قال : حدّثنا سلمان بن عبد الرَّحْمن قال : حدّثنا الحكم بن يعلى بن عطاء قال : حدّثنا معاوية بن عمار الدهنى عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قال : السحاقات.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل الدينوري قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي قال : حدّثنا نصر بن حماد قال : حدّثنا عمر بن عبد الرَّحْمن عن مكحول عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من أشراط الساعة أن يستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق).

والرسّ في كلام العرب : كل محفور مثل البئر والمعدن والقبر ونحوها وجمعهُ رساس،

قال الشاعر :

سبقت إلى فرط بأهل تنابلة

يحفرون الرساسا

وقال أبو عبيد : الرسّ : كلّ ركية لم تطو بالحجارة والآجر والخشب.

٣٩

{وَقُرُونَا بَيْنَ ذلك كَثِيرًا * وَكُ ضَرَبْنَا لَهُ امْثَالَ وَكُ} في إقامة الحجّة فلم نهلكهم إلاّ بعد الإعذار والإنذار {وَكُ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} أهلكنا إهلاكاً،

وقال المؤرخ : قال الأخفش : كسّرنا تكسيراً.

٤٠

{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} يعني الحجارة وهي قرية قوم لوط وكانت خمس قرى فأهلك اللّه سبحانه أربعاً وبقيت الخامسة،

واسمها صغر وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث.

{أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} إذا مرّوا بها في أسفارهم فيعتبرون ويتذكروا. قال اللّه سبحانه {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ} يخافون {نُشُورًا} بعثاً

٤١

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} نزلت في أبي جهل كان اذا مرَّ بأصحابه على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال مستهزئاً

٤٢

{أهذا الذي بعثَ اللّه رَسولاً إن كاد ليضلنا عن ألهتنا} قد كاد يصدّنا عن عبادتها {لَوْ أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} لصرفنا عنها {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سبيلا} وهذا وعيدٌ لهم

٤٣

{أرأيت من اتّخذ إلهه هويه} وذلك أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر أو الصنم،

فإن راى أحسن منه رمى به وأخذ الآخر فعبده،

قال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون اللّه.

{أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكيلا} حفيظاً من الخروج إلى هذا الفساد،

نسختها آية الجهاد

٤٤

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} ما يقول : سماع طالب للإفهام {أَوْ يَعْقِلُونَ} ما يعاينون من الحجج والأعلام {إِنْ هُمْ} ما هم {إِلا كَانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سبيلا} لأنّ البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها،

وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربّهم الذي خلقهم ورزقهم.

٤٥

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} معناه ألم تر إلى مدِّ ربك الظل،

وهو ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس وإنّما جعله ممدوداً لأنه لا شمس معه،

كما قال في ظل الجنة (وظلَ ممدود) إذ لم يكن معه شمس،

{وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس.

قال أبو عبيد : الظلّ ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيىء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال،

سُمّي فيئاً لأنه من جانب المشرق الى جانب المغرب {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ} أي على الظل {دَلِيلا} ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عُرف الظل إذ الاشياء تعرف بأضدادها،

والظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل،

فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وان انحطّت طال

٤٦

{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يعني الظل {إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} بالشمس التي يأتي بها فتنسخه،

ومعنى قوله يسيراً أي خفيفاً سريعاً،

والقبض : جمع الأجزاء المنبسطة،

وأراد ههنا النقل اللطيف.

٤٧

{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا} أي ستراً تستترون وتسكنون فيه {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} راحة لأبدانكم وقطعاً لعملكم،

وأصل السبت القطع ومنه يوم السبت والنّعال السبتية {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} أي يقظة وحياة تُنشرون فيه وتنتشرون لأشغالكم

٤٨

{وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} وهو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره

٤٩

{لِّنُحْىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} ولم يقل ميتة لأنّه رجع به الى المكان والموضع،

قال كعب : المطر روح الأرض {وَنُسْقِيَهُ} قرأهُ العامة بضم النون،

وروى المفضل والبرجمي عن عاصم بفتح النون وهي قراءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ح {ممّا خلقنا أنعاماً واناسىّ كثيراً} والأناسي جمع الإنسان،

وأصله أناسين مثل بستان وبساتين فجعل الباء عوضاً من النون،

وإن قيل : هو أيضاً مذهب صحيح كما يجمع القرقور قراقير وقراقر.

أخبرني الحسن بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي،

حدّثنا الحسن ابن علوي،

حدّثنا إسحاق بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل كلّهم قالوا وبلّغوا به ابن مسعود : إن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (ليس من سنة بأَمطر من أُخرى ولكنّ اللّه قسّم هذه الأَرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر،

ينزل منه كلّ سنة بكيل معلوم ووزن معلوم،

ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل اللّه ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف اللّه ذلك الى الفيافي والبحار).

٥٠

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} يعني المطر {بَيْنَهُمْ} عاماً بعد عام وفي بلدة دون بلدة،

وقيل : صرفناه بينهم وابلا وطشّاً ورهاماً ورذاذاً،

وقيل : التصريف راجع الى الريح.

{لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا} أى جحوداً،

وقيل : هو قولهم مطر كذا وكذا

٥١

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا} رسولاً ولقسّمنا النذير بينهم كما قسّمنا المطر،

فحينئذ يخفّ عليك أعباء النبوّة،

ولكنّا حمّلناك ثقل نذارة جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والهيبة والدرجة الرفيعة.

٥٢

{فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم ومقاربتهم ومداهنتهم {وَجَاهِدْهُم بِهِ} أي بالقرآن {جِهَادًا كَبِيرًا} .

٥٣

{وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أي خلطهما وحلّى وأفاض أحدهما في الآخر،

وأصل المرج : الخلط والإرسال،

ومنه قوله سبحانه

{فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} وقول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) لعبد اللّه ابن عمر : (كيف بك يا عبد اللّه إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا) وشبّك بين أصابعه،

ويقال : مرجتُ دابّتي مرجها إذا أرسلتُها في المرعى وخلّيتها تذهب حيث شاءت،

ومنه قيل للروضة مرج،

قال العجاج :

رعى بها مرج ربيع ممّرجاً

قال ابن عباس والضحاك ومقاتل : مرج البحرين أي خلع أحدهما على الآخر {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} شديد العذوبة {وَهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} شديد الملوحة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} حاجزاً بقدرته وحكمته لئلاّ يختلطا {وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} ستراً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان ولا يفسد الملح العذب.

٥٤

{وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال علىّ بن أبي طالب : النسب ما لا يحلّ نكاحه،

والصهر ما يحلّ نكاحه،

وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل : النسب سبعة والصهر خمسة،

وقرأوا هذه الآية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الى آخرها.

أخبرني أبو عبد اللّه (القسايني) قال : أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال : أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال : حدّثنا علي بن العباس المقانعي قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا محمد بن عمرو قال : حدّثنا حسين الأشقر قال : حدّثنا أبو قتيبة التيمي قال : سمعت ابن سيرين يقول في قول اللّه سبحانه وتعالى {وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} قال : نزلت في النبي (صلى اللّه عليه وسلم) وعلي بن أبي طالب،

زوج فاطمة عليّاً وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسباً وصهراً.

٥٥

{وكان ربّك قديراً ويعبدون} يعني هؤلاء المشركين {مِن دُونِ اللّه مَا يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه {وَلا يَضُرُّهُمْ} إن تركوه {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أي معيناً للشيطان على ربّه،

وقيل : معناه وكان الكافر على ربّه هيّناً ذليلاً من قول العرب : ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفّت إليه.

٥٦-٥٧

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} على تبليغ الوحي {مِنْ أَجْرٍ} فيقولون : إنّما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتّبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئاً {إِلا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سبيلا} .

قال أهل المعاني : هذا أمر الاستثناء المنقطع،

مجازه لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاقه ماله في سبيله،

٥٨

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} أي اعبده وصلّ له شكراً منك له على نعمه،

وقيل : احمده منزّهاً له عمّا لا يجوز في وصفه،

وقيل : قل : سبحان اللّه والحمد للّه {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} فيجازيهم بها

٥٩

{الَّذِى} في محل الخفض على نعت الحي {خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيام} فقال بينهما وقد جمع السموات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي :

ألم يحزنك أن حبال قيس

وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد وحبال تغلب فثنّى والحبال جمع لأنّه أراد الشيئين والنوعين،

وقال آخر :

إنَّ المنيّة والحتوف كلاهما

توفي المخارم يرقبان سوادي

{ثم استوى على العرش الرحمان فاسئل به خبيرا} أي فسل خبيراً بالرحمن،

وقيل : فسل عنه خبيراً وهو اللّه عز وجل،

وقيل : جبرئيل (عليه السلام)،

الباء بمعنى عن لقول الشاعر :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء.

٦٠

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن،

وقرأ غيرهما تأمرنا بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد {وَزَادَهُمْ} قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن {نُفُورًا} عن الدين والإيمان،

وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه الى السماء وقال : إلهي زادني خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً.

٦١

{تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجاً : الحمل،

والثور،

والجوزاء،

والسرطان،

والأَسد،

والسنبلة،

والميزان،

والعقرب،

والقوس،

والجدي،

والدلو،

والحوت،

فالحمل والعقرب بيتا المريخ،

والثور والميزان بيتا الزهرة،

والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد،

والسرطان بيت القمر،

والأسد بيت الشمس،

والقوس والحوت بيتا المشتري،

والجدي والدلو بيتا زحل،

وهذه البروج مقسومة على الطبائع الاربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات،

فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية،

والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية،

والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية،

والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج.

فاخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال : حدّثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال : حدّثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدّثنا عبد اللّه بن إدريس قال : حدّثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} قال : قصوراً فيها الحرس،

دليله قوله {وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} .

وقال الأخطل :

كأنها برج رومي يشيِّده

بان بجصّ وآجرَ وأحجار

وقال مجاهد وقتادة : هي النجوم.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا علي بن محمد بن ماهان قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح {تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا} قال : النجوم الكبائر. قال عطاء : هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمّى المجرّة.

{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} يعني الشمس،

نظيره قوله سبحانه {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} وقرأ حمزة والكسائي (وجعل فيها سُرُجاً) بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد اللّه

٦٢

{وقمراً منيراً وهو الذي جعل الليل والنهارَ خلفة} .

قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني عوضاً وخلفاً يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر.

قال قتادة : فأروا اللّه من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيّتان تقحمان الناس الى آجالهم،

وتقّربان كلّ بعيد،

وتبليان كلّ جديد،

وتجيئان بكل موعود الى يوم القيامة.

روى شمر بن عطية عن شقيق قال : جاء رجل الى عمر بن الخطاب ح فقال : فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك،

فإنّ اللّه سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر.

وقال مجاهد : يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض.

وقال ابن زيد وغيره : يعني يخلف أحدهما صاحبه،

إذا ذهب أحدهما جاء الآخر،

فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان،

يدلّ على صحّة هذا التأويل،

قول زهير :

بها العين والآدام يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجشم

وقال مقاتل : يعني جعل النهار خلفاً من الليل لمن نام بالليل،

وجعل الليل خلفاً بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولاً {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ،

وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} شكر نعمة اللّه سبحانه وتعالى عليه.

٦٣

{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} يعني أفاضل العباد،

وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل،

وقرأ الحسن : وعبيد الرَّحْمن.

{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا} أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال : حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : حدّثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه {يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا} قال : حلماً وعلماً،

وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون،

وإنْ سفه عليهم حلموا.

الضحّاك : أتقياء أعفّاء لا يجهلون قال : وهو بالسريانية. الثمالي : بالنبطيّة،

والهون في اللغة : الرفق واللين ومنه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما،

وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).

{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} بما يكرهونه {قَالُوا سَلَامًا} سداداً من القول عن مجاهد.

ابن حيان : قولاً يسلمون فيه من الإثم.

الحسن : سلّموا عليهم،

دليله قوله سبحانه {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} .

قال أبو العالية والكلبي : هذا قبل أن يؤمروا بالقتال،

ثم نسختها آية القتال.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا محمد بن صالح (الكيلسي) بمكة قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا الوليد بن إسماعيل قال : حدّثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لاحق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (رأيت قوماً من أمتي ما خلقوا بعد،

وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني،

ويتناصحون ويتبادلون،

يمشون بنور اللّه في الناس رويداً في خفية وتقية،

يسلمون من الناس،

ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم،

قلوبهم بذكر اللّه يرجعون،

ومساجدهم بصلاتهم يعمرون،

يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم،

يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم،

يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم).

فقال رجل من القوم : في ذلك يرفقون برفيقهم؟

فالتفت إليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : (كلاّ،

إنّهم لا رفيق لهم،

هم خدّام أنفسهم،

هم أكرم على اللّه من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم) ثمَّ تلا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) هذه الآية {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ).

وروي أنّ الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال : هذا وصف نهارهم.

٦٤

ثمَّ قال {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} هذا وصف ليلهم.

قال ابن عباس : مَن صلّى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات للّه سبحانه وتعالى ساجداً وقائماً.

قال الكلبي : يقال : الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة.

٦٥

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي ملحّاً دائماً لازماً غير مفارق من عذّب به من الكفار،

ومنه سمّي الغريم لطلبه حقّه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إيّاه،

وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعاً به لا يصبر عنه ولا يفارقه،

قال الأعشى :

إن يعاقب يكن غراماً وإن

يعط جزيلاً فإنّه لا يبالي

قال الحسن : قد علموا أنّ كلّ غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم.

ابن زيد : الغرام الشرّ،

أبو عبيد : الهلاك،

قال بشر بن أبي حازم :

ويوم النسار ويوم الجفا

ركانا عذاباً وكانا غراما

أي هلاكاً.

٦٦

{إِنَّهَا} يعني جهنم {سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} أي إقامة،

من أقام يقيم.

وقال سلامة بن جندل :

يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الاعداء تأويب

فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم،

ومنه قول عباس بن مرداس :

فأتي ما وأيك كان شرّاً

فقيد إلى المقامة لا يراها

٦٧

{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} واختلف القرّاء فيه فقرأ أهل المدينة والشام : يُقتروا بضم الياء وكسر التاء،

وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء،

غيرهم بفتح الياء وكسر التاء وكلّها لغات صحيحة،

يقال : أقتَر وقَتَر يَقتِرُ ويَقتُر مثل يعرشون ويعكفون،

واختلف المفسرون في معنى الإسراف والإقتار،

فقال بعضهم : الإسراف : النفقة في معصية اللّه وإن قلّت،

والاقتار : منع حق اللّه سبحانه وتعالى،

وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد.

أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : حدّثنا محمد بن عمر بن إسحاق الكلوادي قال : حدّثنا عبد اللّه بن سليمان بن الأشعث قال : حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الرملي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن كثير بن زياد أبي سهل عن الحسن في هذه الآية قال : لم يُنفقوا في معاصي اللّه ولم يمسكوا عن فرائض اللّه.

وقال بعضهم : الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق.

قال عون بن عبد اللّه بن عتبة : ليس المسرف من أكل ماله،

إنما المسرف من يأكل مال غيره.

وقال قوم : السرف : مجاوزة الحد في النفقة،

والإقتار : التقصير عما ينبغي مما لابد منه،

وهذا الاختيار لقوله {وَكَانَ بَيْنَ ذلك } أي وكان إنفاقهم بين ذلك {قَوَامًا} عدلاً وقصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار.

قال إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم،

ولا ينفق نفقة تقول الناس : قد أسرف.

مقاتل : كسبوا طيّباً،

وانفقوا قصداً،

وقدموا فضلاً،

فربحوا وأنجحوا.

وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أُولئك أصحاب محمد (صلى اللّه عليه وسلم) كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة،

ولا يلبسون ثوباً للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربّهم،

ومن الثياب ما يَسترُ عوراتهم ويكنّهم من الحرّ والقرّ.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا ابن زنجويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق عن أبي عيينة عن رجل عن الحسن في قوله سبحانه {يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} إنّ عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال : كفى سرفاً ان لا يشتهي رجل شيئاً إلا اشتراه فأكله.

٦٨

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} الآية.

أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال : أخبرنا المؤمّل بن الحسن بن عيسى قال : حدّثنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا حجاج عن أبي جريح قال : أخبرني يعلى يعني ابن مسلم عن سعيد بن جبير سمعه يحدّث عن ابن عباس أنّ ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا،

وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً (صلى اللّه عليه وسلم) فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} ونزل {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} وقيل : نزلت في وحشي غلام ابن مطعم.

وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل.

وأخبرنا أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد اللّه بن عبد الرحمن قالا : حدّثنا يوسف بن عبد اللّه بن ماهان قال : حدّثنا محمد بن كثير قال : حدّثنا سفيان بن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل.

وأخبرنا عبد اللّه بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد اللّه بن هاشم قال : حدّثنا عبد اللّه بن نمير قال : أخبرنا الأعمش عن شقيق عن عمرو بن شرحبيل عن عبد اللّه بن مسعود قال : قلت يا رسول اللّه أيّ الذنب أعظم؟

قال : (أن تجعل للّه ندّاً وهو خلقك)،

قلتُ : ثم أي؟

قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك،

قلت : ثم أيّ؟

قال : إن ترى حليلة جارك،

فأنزل اللّه سبحانه تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} ).

قال مسافع : {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية.

أخبرنا ابن فنجويه قال : حدثنا ابن حنش،

قال : أخبرنا ابن زنجويه قال : أخبرنا سلمة بن عبد الرزاق،

قال : أخبرنا معمر،

عن قتادة،

قال : ذُكر لنا أنّ لقمان كان يقول : يا بُني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة {وَمَن يَفْعَلْ ذلك } الذي ذكرت {يَلْقَ أَثَامًا} قال ابن عباس : إثماً،

ومجازه : تلق جزاء الآثام.

وأخبرني ابن فنجويه،

قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن حفصويه،

قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا زهير بن محمد،

قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا الكلبي،

قال : حدّثنا شرقي القطامي،

قال : حدّثني لقمان بن عامر،

قال : حدّثني أبو أُمامة الباهلي صدي بن عجلان،

فقلت : حدّثني حديثاً سمعته من رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : فدعا لي بطلاء ثم قال : سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يقول : (لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً،

ثم ينتهي إلى غيّ وأثام،

قال : قلت : وما غيّ وأثام)؟

قال : نيران يسيل فيها صديد أهل النار،

وهما اللتان قال اللّه سبحانه في كتابه {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} و {يَلْقَ أَثَامًا} .

وأخبرنا بو عمرو سعيد بن عبد اللّه بن إسماعيل الحيري قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهباد قال : حدّثنا إسحاق بن عبد اللّه بن محمد بن زرين السلمي. قال : أخبرنا حفص بن عبد الرحمن،

قال : حدّثنا سعيد عن قتادة،

عن أبي أيوب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن أثاماً واد فى جهنم،

وهو قول مجاهد،

وقال أبو عبيد : الأثام : العقوبة.

قال الليثي :

جزى اللّه ابن عروة حيث أمسى

عقوقاً والعقوق له اثاماً

أي عقوبة.

٦٩

{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} قرأهُ العامة بجزم الفاء والدال،

ورفعهما ابن عامر وابن عباس على الابتداء.

٧٠

ثمَّ قال {إِلا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} الآية.

أخبرني الحسين بن محمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا موسى بن هارون الجّمال قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال : حدّثنا عبد اللّه بن رجاء عن عبيد اللّه ابن عمر بن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) سنين {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللّه الها ءَاخَرَ} الآية. ثمَّ نزلت {إِلا مَن تَابَ} فما رأيت النبي (صلى اللّه عليه وسلم) رح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنبك وما تأخر}.

وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد اللّه بن يزيد العقيلي قال : حدَّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح قال : حدّثني القاسم بن أبي برة قال : قلت لسعيد بن جبير : أبا عبد اللّه أرأيت قول اللّه سبحانه وتعالى {ولا يقتلون النفس التي حرّم اللّه إلاّبالحق} إلى قوله {إِلا مَن تَابَ} قال : سمعت ابن عباس يقول : هذه مكيّة نسختها الآية المدنية التي في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} ولا توبة له.

وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت أنّه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في الفرقان والتي في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} ،

فقال زيد بن ثابت : قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها ستّة أشهر.

وروى حجاج عن أبي جريج قال : قال الضحّاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} ثماني حجج،

والصحيح أنّها محكمة.

روى جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء قال : اختلفتُ إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلاّ سألته عنه ورسولي يختلف إلى عائشة،

فما سمعته ولا أحد من العلماء يقول : إنّ اللّه سبحانه يقول لذنب : لا أغفره.

{فَأُولَاكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّ َاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّه غَفُورًا رَّحِيمًا} .

قال ابن عباس وابن جبير والضحّاك وابن زيد : يعني فأُولئك يبدّلهم اللّه بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام،

فيبدّلهم بالشرك إيماناً،

وبقتل المؤمنين قتل المشركين،

وبالزنا عفة وإحصاناً،

وقال الآخرون : يعني يبدّل اللّه سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة،

يدلّ على صحّة هذا التأويل ما أخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد اللّه بن برزة قال : حدّثنا أبو حفص المستملي قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز أبي رزمة قال : حدّثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن ابنه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ليتمنّينّ أقوام أنّهم أكثروا من السيئات). قيل : مَن هم؟

قال : الذين بدّل اللّه سيئاتهم حسنات).

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا وكيع قال : حدّثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : أعرضوا عليه صغار ذنوبه قال : فيعرض عليه ويخفى عنه كبارُها فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا،

وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال : أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة.

قال : فيقول إنّ لي ذنوباً ما أراها،

فلقد رأيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ضحك حتّى بدت نواجذه).

وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد اللّه عن عبد اللّه بن أبي سمرة البغوي ببغداد قال : حدّثنا محمد بن أحمد الطالقاني قال : حدّثنا محمد بن هارون أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : حدّثنا صفوان قال : حدّثني عبد الرحمن بن جبير عن أبي الطويل شطب الممدود أنّه أتى النبيّ (صلى اللّه عليه وسلم) فقال : يا رسول اللّه أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلّها ولم يترك منها شيئاً،

وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلاّ اقتطعها بيمينه،

فهل لذلك مِن توبة ؟

قال : (هل أسلمت؟

قال : أنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأنّك رسوله،

قال : نعم تفعل الخيرات وتترك الشهوات يجعلهنّ اللّه خيرات كلهن.

قال : وغدراتي وفجراتي

قال : نعم

قال : اللّه أكبر،

فما زال يكبّر حتى توارى).

٧١

وأخبرني ابن فنجويه في عصبة قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : سمعت مبشر بن عبيد وكان عارفاً بالنحو والعربية يقول : الحاجة الذي يقطع على الحُجّاج إذا توجهوا،

والداجة الذي يقطع عليهم إذا قفلوا {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّه مَتَابًا} رجوعاً حسناً.

٧٢

{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال الضحاك : يعني الشرك وتعظيم الأنداد،

علي بن أبي طلحة : يعني شهادة الزور،

وكان عمر بن الخّطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة،

ويسخم وجهه،

ويطوف به في السوق،

يحيى بن اليمان عن مجاهد : أعياد المشركين ليث عنه : الغناء وهو قول محمد بن الحنفية بإسناد الصالحي عن إبراهيم بن محمد بن المنكدر قال : بلغني انَّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللّهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك،

أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي،

وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.

أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : حدّثنا عبد الواحد بن محمد الارعياني قال : حدّثنا الأحمسي قال : حدّثنا عمرو العبقري قال : حدّثنا مسلمة بن جعفر عن عمرو بن قيس في قوله سبحانه {الذين لا يشهدون الزور} قال : مجالس الخنا،

ابن جريج : الكذب،

قتادة : مجالس الباطل،

وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيّل إلى مَن سمعه أو يراه أنّه بخلاف ما هو به،

فهو تمويه الباطل لما توهّم أنّه حقّ.

{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا،

وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد،

نظيره {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} الآية،

وقال السدّي : وهي منسوخة بآية القتال،

العوّام بن حوشب عن مجاهد : إذا أتوا على ذكر النكاح كنّوا عنه،

ابن زيد : إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له معرضين عنه،

وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلّها،

يعني إذا مرّوا بمجالس اللّهو والباطل مرّوا كراماً مسرعين معرضين،

يدل عليه ما روى إبراهيم بن ميسرة أنَّ ابن مسعود مرَّ بلهو مسرعاً فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إن أصبح ابن مسعود لكريماً).

وقال أهل اللغة : أصله من قول العرب ناقة كريمة،

وبقرة كريمة،

وشاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحليب تكرّماً كأنّها لا تبالي بما يحلب منها.

٧٣

{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا} لم يقعوا ولم يسقطوا {عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} كأنّهم صمّ عمي،

بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه.

قال الفرّاء : ومعنى قوله {لَمْ يَخِرُّوا} أي لم يقيموا ولم يصيروا،

تقول العرب : شتمتُ فلاناً فقام يبكي يعني فظلّ وأقبل يبكي ولا قيام هنالك ولعلّه بكى قاعداً،

وقعد فلان يشتمني أي أقبل وجعل وصار يشتمني،

وذلك جائز على ألسن العرب.

٧٤

{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا} بغير ألف أبو عمرو وأهل الكوفة،

الباقون : ذّرياتنابالألف {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بأن يراهم مؤمنين صالحين مطيعين لك،

ووحّد قرّة لأنها مصدر،

وأصلها من البرد لأنّ العرب تتأذّى بالحر وتستروح إلى البرد.

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} أي أئمة يقتدى بها. قال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداية كما قال {وَجَعَلْنَاهُمْ أَمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ولا تجعلنا أئمة ضلالة كقوله {وَجَعَلْنَاهُمْ أَمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} .

قتادة : هُداة دعاة خير.

أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون ابن خالد قال : حدّثني أبو جعفر أحمد بن عبد اللّه العازي الطبري المعروف بابن فيروز قال : حدّثنا الحكم بن موسى قال : حدّثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرَّحْمن بن زيد بن جابر عن مكحول في قول اللّه عزَّ وجل {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قال : أئمّة في التّقوى يقتدي بها المتّقون،

وقال بعضهم : هذا من المقلوب واجعل المتّقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمّين مقتدين بهم،

وهو قول مجاهد،

ولم يقل أئمة لأنّ الإمام مصدر،

يقال : أمّ فلان فلاناً مثل الصيام والقيام،

ومَن جعله أئمة فلأنّه قد كثر حتى صار بمعنى الصفة.

وقال بعضهم : أراد أئمة كما يقول القائل : أميرنا هؤلاء يعني أمراؤنا،

وقال اللّه سبحانه عزّ وجلّ {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى} ،

وقال الشاعر :

يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي

إنّ العواذل لسن لي بأمين

أي أمناء.

٧٥

{أُولَاكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة {بِمَا صَبَرُوا} على أمر ربهم وطاعة نبيّهم،

وقال الباقر : على الفقر.

{وَيُلَقَّوْنَ} قرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف القاف،

واختاره أبو عبيد لقوله {ولقّيهم نضرة وسروراً} .

٧٦-٧٧

{خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً قل ما يعبؤا بكم ربّي} أي ما يصنع وما يفعل،

عن مجاهد وابن زيد.

وقال أبو عبيد : يقال : ما عبأت به شيئاً أي لم أعدّه،

فوجوده وعدمه سواء،

مجازه : أي مقدار لكم،

وأصل هذه الكلمة تهيئة الشيء يقال : عبّأت الجيش وعبأت الطيب أُعبّئه عبؤاً وعبواً إذا هيّأته وعملته،

قال الشاعر :

كأن بنحره وبمنكبيه عبيراًبات يعبؤه عروس

{لَوْ دُعَآؤُكُمْ} إيّاه،

وقيل : لولا عبادتكم،

وقيل : لولا إيمانكم. واختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : معناها قل ما يعبأ بخلقكم ربّي لولا عبادتكم وطاعتكم إيّاه،

يعني أنّه خلقكم لعبادته نظيرها قوله سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد،

قال ابن عباس في رواية الوالبي : أخبر اللّه سبحانه الكفّار أنّه لا حاجة لربهم بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين،

ولو كان له بهم حاجة لحبّب إليهم الإيمان كما حبّب إلى المؤمنين.

وقال آخرون : قل ما يعبأ بعذابكم ربّي لولا دعاؤكم إيّاه في الشدائد،

بيانه {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ونحوها من الآيات.

وقال بعضهم : قل مايعبأ بمغفرتكم ربّي لولا دعاؤكم معه آلهة وشركاء،

بيانه قوله سبحانه وتعالى {مَّا يَفْعَلُ اللّه بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ} وهذا المعنى قول الضحّاك.

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا أبو طاهر بن السرج قال : حدّثنا موسى بن ربيعة الجمحي قال : سمعت الوليد بن الوليد يقول : بلغني أنّ تفسير هذه الآية {قل مايعبؤ بكم ربّي لولا دعاؤكم} يقول : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلاّ أن تسألوني فأغفر لكم،

وتسألوني فأعطيكم.

{فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} يا أهل مكة.

وأخبرنا شعيب بن محمد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا شعبة بن عبد الحميد بن واصل قال : سمعت مسلم بن عمّار قال : سمعت ابن عباس يقرأ : فقد كذّب الكافرون {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَا} .

وبه شعبة عن أدهم يعني السدوسي عن أنّه كان خلف بن الزبير يقرأ {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} فلمّا أتى على هذه الآية قرأها : فقد كذّب الكافر فسوف يكون لزاماً،

ومعنى الآية فسوف يكون تكذيبهم لزاماً. قال ابن عباس : موتاً. ابن زيد : قتالاً،

أبو عبيدة : هلاكاً.

وأنشد :

فاماينجوا من حتف أرضي

فقد لقيا حتوفهما لزاما

وقال بعض أهل المعاني : يعني فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر،

وقال ابن جرير : يعني عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم بعضاً كقول أبي ذؤيب.

ففاجأه بعادية لزام

كما يتفجّر الحوض اللقيف

يعني باللزام الكثير الذي يتبع بعضه بعضاً وباللفيف الحجار المنهد،

واختلفوا في اللزام ههنا فقال قوم : هو يوم بدر قُتل منهم سبعون وأُسر سبعون،

وهو قول عبد اللّه بن مسعود وأُبي ابن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل.

روى الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : قال عبد اللّه : خمس قد مضين : الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم. وقال آخرون : هو عذاب الآخرة.

﴿ ٠