سُورة النَّملمكّيّة، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفاً، وألف وتسع وأربعون كلمة، وثلاث وسبعون آية. أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا أبو عبد اللّه محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزّاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرَّحْمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي، عن مجالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد اللّه، عن أبي الخليل وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زرّ بن حبيش، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (مَن قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلاّ اللّه). بسم اللّه الرحمن الرحيم ١{طس} قال ابن عباس : هو اسم من أسماء اللّه عزَّ وجل، أقسم اللّه سبحانه به أن هذه السورة {طس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ} يعني وآيات كتاب مبين، وقيل : الطاء من اللطيف، والسين من السميع، وقال أهل الإشارة : هي إشارة إلى طهارة سرّ حبيبه. ٢{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فيهما وجهان من العربية، الرفع على خبر الابتداء أي هي هدىً، وإنْ شئت على حرف جزاء الصفه في قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} والنّصب على القطع والحال. ٣-٤{الذين يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم أعمالهم} القبيحة حتى رأوها حسنة، وتزيينه خذلانه إيّاهم. ٥{فهم يعمهون أُولئك الذين لهم سوء} شدّة {الْعَذَابِ} في الدّنيا القتل والأسر بيده. {وَهُمْ فى الآخرة هُمُ اخْسَرُونَ} بحرمان النجاة والمنع من دخول الجنّات. ٦{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى} لتلقّن وتعطى {الْقُرْءَانَ} نظيره قوله سبحانه وتعالى {وَلا يُلَقَّاهَآ إِلا الصَّابِرُونَ} {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} . ٧{إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ} في مسيره من مدين إلى مصر وقد أصلد زنده {إِذْ قَالَ مُوسَى} فامكثوا مكانكم {إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّى ءَانَسْتُ نَارًا} قرأ أهل الكوفة ويعقوب : بشهاب منوّن على البدل، غيرهم بالإضافة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ومعناه : سآتيكم بشعلة نار اقتبسها منها. {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} تستدفئون ٨{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ} . قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن : يعني قُدّس مَن في النار وهو اللّه سبحانه عنى به نفسه عزَّ وجل، وتأويل هذا القول أنّه كان فيها لا على معنى تمكُّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة : جاء اللّه عزّ وجلّ من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، فمجيئه عزَّ وجلّ من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح بها، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى (صلى اللّه عليه وسلم) وفاران مكة، وقالوا : كانت النار نوره عزَّ وجلّ، وإنّما ذكره بلفظ النّار لأنّ موسى حسبه ناراً، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها وهي إحدى حجب اللّه سبحانه وتعالى، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا هاشم القاسم بن القاسم قال : حدّثنا المسعودي عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة، موسى عن الأشعري قال : قام بيننا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) بأربع فقال : (إنّ اللّه عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره)، ثم قرأ أبو عبيدة {أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقيل معناه : بورك مَن في النار سلطانه وقدرته وفيمن حولها. وقال آخرون : هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة، ومجاز الآية : بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها، وهذا كما يقال : بلغ فلان البلد إذا قرب منه، وورد فلان الماء لا يريدون أنّه في وسطه، ويقال : أعطِ مَن في الدار، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار، ونحوها كثير. ومعنى الآية : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار، وهذا تحيّة من اللّه سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : {رحمت اللّه وبركاته عليكم أهل البيت} . وقال بعضهم : هذه البركة راجعة إلى النار نفسها. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال : معناه بوركت النار، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن نجدة قال : حدّثنا الحمّاني قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أُبيّاًيقرؤها : أن بوركت النار ومن حولها، وتقدير هذا التفسير أنَّ (من) تأتي في الكلام بمعنى (ما)، كقوله سبحانه {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} وقوله {فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ} الآية و (ما) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} و{عَمَّا قَلِيلٍ} فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى (عليه السلام) ، فسمّى النار مباركة كما سمّى البقعة مباركة فقال في {الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} . وأمّا وجه قوله {بُورِكَ مَن فِى النَّارِ} فإنّ العرب تقول : باركك اللّه، وبارك فيك، وبارك عليك وبارك لك، أربع لغات، قال الشاعر : فبوركت مولوداً وبوركت ناشياً وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ اللّه سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنَّ ذلك كلّه من أمارات الحدث، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو تحدّه الصفات، أو تصحبه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار. ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعاً أو ينزل مكاناً، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت، بل هو صفة يوصف بها الباري عزّ وجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به. فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته، قال اللّه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . ٩-١٠{يا موسى أنه} الهاء عماد وليست بكناية {أنا اللّه العزيز الحكيم وألق عصاك فلمّا رآها تهتز} تتحرّك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم، وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة. فإن قيل : كيف قال في موضع {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} وفي موضع آخر {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ} والموصوف واحد ؟ قلنا : فيه وجهان : أحدهما : أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم. والآخر : أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته. فلمّا رآها موسى (عليه السلام) {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} ولم يرجع، قال قتادة : ولم يلتفت. فقال اللّه سبحانه {يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون إلاّ من ظَلم} فعمل بغير ما أمر {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا} قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين {بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية، فقال الحسن وابن جريج : قال اللّه سبحانه (يا موسى إنّما أخفتك لقتلك). قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب، ثم تذنب واللّه فتعاقب. قال ابن جريج : فمعنى الآية : لا يخيف اللّه سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب، ١١فقوله {إِلا} على هذا التأويل استثناء صحيح، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله {إِلا مَن ظَلَمَ} ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها (فمن ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء فإنّي غفور رحيم) وقال الفرّاء : يقول القائل : كيف صيّر خائفاً من ظلم ثم بدّل حُسناً بعد سوء وهو مغفور له؟ فأقول له : في الآية وجهان : أحدهما : أن تقول أنّ الرسل معصومة، مغفور لها، آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً من سائر الناس فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأنّ المعنى {يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ} إنما الخوف على غيرهم. ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل : {إِلا مَن ظَلَمَ} يقول : كان مشركاً فتاب من الشرك وعمل حسنةً مغفور له وليس بخائف. قال : وقد قال بعض النحوييّن : {إِلا} ههنا بمعنى الواو يعني : ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه (لئلاّ يكون للناس عليهم حجّة إلاّ الذين ظلموا منهم). وقال بعضهم : قوله {إِلا} ليس باستثناء من المرسلين لأنّه لا يجوز عليهم الظلم وإنّما معنى الآية : لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال اللّه سبحانه وتعالى عنه الخوف. ١٢{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} وإنّما أمره بإدخال يده في جيبه لأنّه كان عليه في ذلك الوقت مدرعة من صوف، ولم يكن لها كُمٌّ، قاله المفسّرون. {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} برص وآفة {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى} يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مُرسَل بهنَّ. {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} فترك ذكر مرسل لدلالة الكلام عليه، كقول الشاعر : رأتني بحبليها فصدّت مخافةً وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق أراد : راتني مقبلاً بحبليها، فترك ذكره لدلالة الكلام عليه. {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} ١٣-١٤{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } مضيئة بيّنة يُبصر بها {قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلوّاً فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين}. ١٥-١٦{ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد للّه الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود} نبوّته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود (عليه السلام) تسعة عشر ابناً. قال مقاتل : كان سليمان أعظم مُلْكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشدّ تعبّداً من سليمان (عليهما السلام). {وَقَالَ} سليمان شاكراً لنعم اللّه سبحانه وتعالى عليه {يا أيّها الناس عُلّمنا منطق الطير} جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} . قال مقاتل في هذه الآية : كان سليمان (عليه السلام) جالساً إذ مرَّ به طائر يطوف فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول الطائر الذي مرَّ بنا؟ قالوا : أنت أعلم، فقال سليمان : إنّه قال لي : السلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل، أعطاك اللّه سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوّك، إنّي منطلق الى فروخي ثم أمرّ بك الثانية، وإنّه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه. قال : فنظر القوم طويلاً إذ مرَّ بهم فقال : السلام عليك أيّها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له. وقال فرقد السخي : مرَّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذَنَبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا : اللّه ونبيُّه أعلم، قال : يقول : أكلتُ نصف تمرة فعَلى الدُنيا العَفا. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسن العَدل قال : حدّثنا عبيد اللّه بن محمد بن شنبة وأحمد ابن جعفر بن حمدان قالا : حدّثنا الفضل بن العباس الرازي قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى ابن إبراهيم قال : حدّثنا عباد بن إبراهيم عن الكلبي عن رجل عن كعب قال : صاحت ورشان عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنّها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوُس عند سليمان (عليه السلام) فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنّه يقول : مَن لا يَرحم لا يُرحَم. وصاح صرد عند سليمان فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنّه يقول : استغفروا اللّه يا مذنبين، فمن ثَمَّ نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن قتله. قال : فصاحت طيطوى عند سليمان (عليه السلام) فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنّها تقول : كلّ حىّ ميّت، وكلّ جديد بال. وصاح خطّاف عند سليمان (عليه السلام) فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال : فإنّه تقول : قدّموا خيراً تجدوه، فمن ثَمَّ نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن قتله. وهدرت حمامة عند سليمان (عليه السلام) فقال : أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟ قالوا : لا. قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قُمريّ عند سليمان (عليه السلام) فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال : فإنّه يقول : سبحان ربّي الأعلى، والغراب يدعو على العشّار، والحدأة تقول : كلّ شيء هالك إلاّ اللّه. والقطاة تقول : من سكت سلم، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همّه، والضفدع يقول : سبحان ربّي القدّوس، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكلّ مكان. وأخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا الفضل بن العباس بن مهران قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا إسماعيل عن عياش عن زرّ عن مكحول قال : صاح درّاج عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال : أتدرون ما يقول؟ قالوا : لا. قال فإنّه يقول : الرَّحْمن على العرش استوى. وبإسناده عن موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا صالح الهروي عن الحسن قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الديك إذا صاح يقول : اذكروا اللّه يا غافلين). وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسن بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يابن آدم عش ما شئت آخرهُ الموت، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أُنس، وإذا صاح القبّر قال : الهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطّاف قرأ : الحمد للّه ربّ العالمين، يمدّ الضالين كما يمد للقارئ. ١٧{وَحُشِرَ} وجُمع {لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَانسِ وَالطَّيْرِ} في مسير لهم {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبَس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وذلك أنّه جعل على كلّ صنف منهم وَزَعَةً ترد أُولاها على أُخراها لئلاّ يتقدّموا في المسير كما يصنع الملوك. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : يُوزعون : يدفعون. ابن زيد ومقاتل : يُساقون، السدّي : يوقفون، وأصل الوزع في كلام العرب الكفّ والمنع، ومنه الحديث : مايزع السلطان أكثر ممّا يزع القرآن ويُقال للأمر أوزعه. وفي الخبر : لا بدّ للناس من وزعة. وقال الشاعر : على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد اللّه بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر ابن مجاهد قال : حدّثنا أحمد قال : حدّثنا سنيد قال : حدّثنا حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب في هذه الآية قال : بَلَغنا أنَّ سليمان (عليه السلام) كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية، فأمر الريح العاصف فحملته وأمر الرخاء فسرت به، فأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض إنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلاّ جاءت الريح فأخبرتك به. وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان (عليه السلام) بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح الى الرّواح ومن الرواح إلى الصباح. أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدّثنا أبو بكر يعني ابن عياش عن إدريس ابن وهب بن مُنبه قال : حدّثني أبي قال : إنّ سليمان (عليه السلام) ركب البحر يوماً فمرَّ بحرّاث فنظر إليه الحرّاث فقال : لقد أُوتي آل داود مُلكاً عظيماً، فحملت الريح كلامه في أُذن سليمان فنزل حتى أتى الحرّاث فقال : إنّي سمعت قولك وإنّما مشيت إليك لأن لا تتمنى مالا تقدر عليه، لَتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى خير ممّا أُوتي آل داود، فقال الحرّاث : أذهب اللّه همّك كما أذهبت همّي. ١٨{حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} . أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد بن جعفر قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا أبو إلياس عن وَهب بن منبه عن كعب قال : إنَّ سليمان (عليه السلام) كان إذا ركب حمل أهله وسائر حشمه وخدمه وكتّابه تلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم، وقد اتّخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر عشرة جزائر، وقد اتّخذ ميادين للدوابّ أمامه، فيطبخ الطبّاخون ويخبز الخابزون وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي بهم. فسار بمن اصطحبه إلى اليمن، فسلك المدينة مدينة الرسول (صلى اللّه عليه وسلم) فقال سليمان : هذه دار هجرة نبىّ في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتّبعه، وطوبى لمن اقتدى به، ورأى حول البيت أصناماً تُعبد من دون اللّه سبحانه، فلمّا جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى اللّه سبحانه إلى البيت : ما يبكيك؟ فقال : يا ربّ أبكاني هذا نبيّ من أنبيائك وقوم من أولياءك مرّوا عليَّ، فلم يهبطوا فيَّ ولم يصلّوا عندي ولم يذكروك بحضرتي، والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى اللّه سبحانه إليه أن لا تبك وإنّي سوف أملأك وجوهاً سجّداً، وأُنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك نبيّاً في آخر الزمان أحبّ أنبيائي إليَّ، وأجعل فيك عمّاراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يرفّون إليك رفّة النّسور الى وكرها و يحنّون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها، وأُطهّرك من الأوثان وعبدة الشيطان. قال : ثم مضى سليمان حتى مرَّ بوادي السدير، واد من الطائف فأتى على وادي النمل فقالت نملة تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، وكانت مثل المذنب في العظم، فنادت النملة {يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وَجُنوده وهم لا يشعرون} يعني أنّ سليمان يفهم مقالتها وكان لا يتكلّم خلق إلاّ حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان (عليه السلام). ١٩قال {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى} إلى قوله {فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} يعني مع عبادك الموحّدين. وقال قتادة ومقاتل : وادي النمل بأرض الشام قال نوف الحميري : كان نمل وادي سليمان مثل الذباب. وقال الشعبي : النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين. قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. واختلفوا في اسم تلك النملة. فأخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الحسني الدينوري قال : حدّثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن يوسف الصرصري قال : حدّثنا الهيثم بن خلف الدوري قال : حدّثنا هارون بن حاتم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم بن الزبرقان التيمي عن أبي روق عن الضحاك قال : كان اسم النملة التي كلّمت سليمان بن داود (عليه السلام) طاحية. وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد اللّه قالا : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثني الفضل بن الحسن قال : حدّثنا أبو محمد النعمان بن شبل الباهلي قال : حدّثنا ابن أبي روق عن أبيه قال : كان اسم نملة سليمان حرمي، وهو قول مقاتل. ورأيت في بعض الكتب أنّ سليمان لمّا سمع قول النملة قال : ائتوني بها، فأتوه بها فقال لها : لِمَ حَذّرتِ النمل ظلمي؟ أما علمتِ أنّي نبي عدل؟ فلِمَ قلتِ : لا يحطمنّكم سليمان وجنوده؟ فقالت النملة : أما سمعت قولي : وهم لا يشعرون؟ مع ما أنّي لم أُرد حطم النفوس وإنّما أردت حطم القلوب، خشيت أن يتمنّين ما أُعطيت ويشتغلن بالنظر عن التسبيح، فقال لها : عظيني، فقالت النملة : هل علمت لِمَ سمّي أبوك داودَ؟ قال : لا. قالت : لأنّه داوى جرحه فردّ. هل تدري لم سمّيت سليمان ؟ قال : لا. قالت : لأنّك سليم وكنت إلى ما أُوتيت لسلامة صدرك وإنّ لك أن تلحق بأبيك ثم قالت : أتدري لِمَ سخّر اللّه لك الريح؟ قال : لا. قالت : أخبَرك اللّه أنّ الدنيا كلّها ريح، فتبسّم سليمان ضاحكاً متعجّباً من قولها، وقال {رَبِّ أَوْزِعْنِى} الى آخر الآية. أخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا ابن شنبة قال : أخبرنا الحضرمي قال : حدّثنا حسن الخلاّل قال : حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه عن ابن عباس قال : نهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد والصرد والنحلة والنملة. ٢٠{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} أي طلبها وبحث عنها {فقال ما لي لا أرى الهُدهُد} فتح ابن كثير وعاصم والكسائي وأيوّب (لي) ههنا وفي سورة يس {وَمَا لِىَ أَعْبُدُ} وأرسل حمزة الياء فيهما جميعاً، وأمّا أبو عمرو فكان يرسل الياء في هذه ويفتح في يس، وفرّق بينهما فقال : لأنّ هذه للتي في النمل استفهام والأُخرى انتفاء. {أَمْ كَانَ} قيل : الميم صلة وقيل : أم بمعنى بل كان ٢١{من الغائبين لأُعذّبنه عذاباً شديداً} وكان عذابه أن ينتف ريشه وذَنَبه فيدعه ممعطاً ثم يلقيه في بيت النمل فيلدغه، وقال عبد اللّه بن شدّاد : نتفه وتشميسه. الضحّاك : لأشدّن رجله ولأُشمسنّه. مقاتل بن حيّان : لاطلينّه بالقطران ولأُشمسنّه. وقيل : لأُودعنّه القفص، وقيل : لأُفرّقنَّ بينه وبين إلفه، وقيل : لأمنعنه من خدمتي، وقيل : لأُبدّدنّ عليه ؟. {أَوْ اذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حجة واضحة، وأما سبب تفقّده الهُدهد وسؤاله عنه من بين الطير إخلاله بالنوبة التي كان ينوبها واحتياج سليمان (عليه السلام) إلى الماء، فلم يعلم من قصره بعد الماء، وقيل له : عِلْم ذلك عند الهدهد، فتفقدّه فلم يجده فتوعّده وكانت القِصّة فيه على ما ذكره العلماء بسيرة الأنبياء دخل حديث بعضهم في بعض : إنَّ نبي اللّه سليمان (صلى اللّه عليه وسلم) لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج الى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجنّ والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، وأمر الريح الرخاء فحملتهم، فلمّا وافى الحرم وأقام به ماشاء اللّه تعالى أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه جملة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضره من أشراف قومه : إنَّ هذا مكان يخرج منه نبيّ عربيّ صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في اللّه لومة لائم. قالوا : فبأي دين ندين يا نبي اللّه؟ قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه. قالوا : وكم بيننا وبين خروجه يا نبي اللّه؟ قال : زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن إسمه محمد في زمر الأنبياء. قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم أحب أن (يسعى) إلى أرض اليمن فخرج من مكة صباحاً وسار نحو اليمن يوم نجم سهيل فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً وأزهر خضرتها وأحب النزول بها ليصلي ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوا وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى أحدكم كأسه بيده فينقر الأرض فيعرف موضع الماء وبُعده ثم يجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ثم يستخرجون الماء. قال سعيد بن جبير : ذكر ابن عباس هذا الحديث، فقال له نافع بن الأزرق : فرأيت قولك الهدهد ينقر الأرض فيبصر الماء، كيف يبصر هذا ولا يبصر (حبتي القمح) فيقع في عنقه؟. فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر. وروى قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : (لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده، وأحب أن يعبد اللّه في الأرض حيث يقول {وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت إمرأة} ) الآية. قالوا : فلما نزل سليمان قال الهدهد : إن سليمان قد إشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك فنظر يميناً وشمالا فرأى بستاناً فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان إسم هدهد سليمان بن داود عليه السلام : يعفور، وإسم هدهد اليمن عنفر فقال عنفر ليعفور سليمان : من أين أقبلت؟ وأين تريد؟ قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه السلام. فقال الهدهد : ومن سليمان بن داود؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والريح فمن أين أنت؟ فقال : أنا من هذه البلاد. قال : ومن ملكها؟ قال : إمرأة يقال لها : بلقيس، وإن لصاحبكم سليمان مُلكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء. قال الهدهد اليماني : إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فإنطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلاّ وقت العصر. قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا : ما نعلم ههنا ماء. فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده قال ابن عباس : في بعض الروايات : وتعب) من تفحّصِه إلى) الشمس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال : أصلح اللّه الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكاناً، فغضب عند ذلك سليمان عليه السلام وقال {عَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ اذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} . روى عكرمة عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة. قالوا : ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال : عليَّ بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقرَّ بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يميناً وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك عَلم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال : بحق اللّه الذي قواك فأقدرك عليَّ إلاّ رحمتني ولم تتعرض لي بسوء. قال : فولَّ عنه العقاب وقال له : ويلك ثكلتك أمك إن نبي اللّه قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما إنتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له : ويلك أين غبت في نومك هذا، فلقد توعدك نبي اللّه وأخبرّوه بما قال. فقال الهدهد : أوما استثنى رسول اللّه؟ قالوا : بلى، قال : أو ليأتيني بعذر بيّن. ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه. فقال العقاب : قد أتيتك به يا نبي اللّه. فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض؛ تواضعاً لسليمان، فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه وقال له : أين كنت؟ لأُعذّبنك عذاباً شديداً، فقال له الهدهد : يا نبي اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه سبحانه، فلمّا سمع ذلك سليمان ارتعد وعفا عنه. أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا محمد ابن إبراهيم بن أبي الرجال ببغداد قال : حدّثنا إبراهيم بن بسطام عن أبي قتيبة عن الحسن بن أبي جعفر الجعفري عن الزبير بن حريث عن عكرمة قال : إنّما صرف سليمان (عليه السلام) عن ذبح الهدهد لبرّه بوالديه. ٢٢قالوا : ثم سأله فقال : ما الذي أبطا بك عنّي؟ فقال الهدهد : ما أخبَر اللّه في قوله {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قراءة العامّة بضم الكاف، وقرأ عاصِم ويعقوب وأبو حاتم بفتحه وهما لغتان مشهورتان. {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} علمتُ ما لم تعلم {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ} قرأ الحسن وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحميد وابن كثير في رواية البزي من سَبأ ولسبأ مفتوحة الهمزتين غير مصروفة، ردّوها الى القبيلة، وهي اختيار أبي عُبيد، وقرأ الباقون بالجرّ، جعلوه اسم رجل وبه نطق الخبر أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) سُئل عن سبأ فقال : كان رجلاً له عشرة من البنين يتيامن من ستة ويتشاءم من أربعة، وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء اللّه عزّ وجل، وقال الشاعر : الواردون وتيم في ذرى سبا قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس {بِنَبَإٍ} بخبر {يَقِينٍ} لا شكَّ فيه. قال وهب : قال الهدهد : إنّي أدركت ملكاً لم يبلغه مُلكك. ٢٣{إِنِّى وَجَدتُّ الأمر أَةً تَمْلِكُهُمْ} واسمها بلقيس بنت الشيرح، وهو الهدهَاد وقيل : شراحيل ابن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان، وكان أبو بلقيس الذي يسمّى اليشرج ويلقّب بالهدهاد ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً، وكان يملك أرض اليمن كلّها وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفواً لي، فأبى أن يتزوّج فيهم فزوّجوه امرأة من الجنّ يُقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له تلمقة وهي بلقيس ولم يكن له وَلد غيرها. ويصدّق هذا ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا محمد بن حريم بن مروان قال : حدّثنا هشام بن عّمار قال : حدّثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أنّه قال : (كان أحد أبوَي بلقيس جنّياً. قالوا : فلمّا مات أبو بلقيس ولم يخلّف ولداً غيرها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، فاختاروا عليها رجلاً فملّكوه عليهم، وافترقوا فرقتين كلّ فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن. ثمّ إنّ هذا الرجل الذي ملّكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمّد يده إلى حرم رعيّته ويفجر، بهن وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك : واللّه ما منعني أن ابتديك بالخطبة إلاّ اليأس منك فقالت : لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا : لا نراها تفعل هذا، فقال لهم : إنّما هي ابتدأتني فأنا أحبّ أن تسمعوا قولها وتشهدوا عليها، فلّما جاؤوها وذكروا لها ذلك قالت : نعم أحببت الولد ولم أزل، كنت أرغب عن هذا فالساعة قد رضيتُ به فزوّجُوها منهُ، فلمّا زُفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصّت منازله ودوره بهم، فلمّا جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزّت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها، فلمّا أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوباً على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكراً وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا لها : أنتِ بهذا الملك أحقّ من غيرك، فقالت : لولا العار والشنار ما قتلته ولكن عمَّ فساده وأخذتني الحميّة حتى فعلت ما فعلت فملّكوها واستتبّ أمرها). أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خديجة قال : حدّثنا ابن أبي الليث ببغداد قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة قال : ذكرت بلقيس عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة). {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ} يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة. {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} سرير ضخم حسن، وكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر وله أربع قوائم : قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من زمرّد، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من درّ، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبواب كلّ بيت باب مغلق. وقال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعاً. وقال مقاتل : كان ثمانين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانون ذراعاً مُكلّل بالجوَهر. ٢٤-٢٥{وجدتها وقومَها يسجدون للشمس من دون اللّه وزَين لهم الشيطان أعمالهم فصَدّهم عن السبيل وهم لا يهتدون ألاّ يسجدوا للّه} قرأ أبو عبد الرَّحْمن البلخي والحسن وأبو جعفر وحميد والأعرج والكسائي ويعقوب برواية رويس (ألا اسجدوا) بالتخفيف على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمراً من اللّه سبحانه مستأنفاً، وحذفوا هؤلاء بدلالة فاعلهما، وذكر بعضهم سماعاً من العرب : ألا يا أرحمونا، ألا يا تصدّقوا علينا، يريدون ألا يا قوم كقول الأخطل : ألا يا سلمى يا هند، هند بني بدر وإن كان حيانا عدى آخر الدهر فعلى هذه القراءة (اسجدوا) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه ألا، ثمّ يبتدي اسجدوا. قال الفرّاء : حدّثني الكسائي عن عيسى الهمذاني قال : ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نيّة الأمر، وهي في قراءة عبد اللّه : هلاّ تسجدوا للّه، بالتاء، وفي قراءة أُبي ألا يسجُدون للّه، فهاتان القراءتان حجة لمن خفّف، وقرأ الباقون : ألاّ يسجدوا بالتشديد بمعنى وزين لهم الشيطان اعمالهم لئلاّ يسجدوا للّه فأنْ موضع نصب ويسجدوا نصب بأن، واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال : للتخفيف وجه حسن إلاّ أنّ فيه انقطاع الخبر عن أمر سبأ وقومها، ثم يرجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتّبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه، والوقف على هذه ألا ثمَّ يبتدي يسجِدُوا كما يصل {الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ} الخفيّ المخبوّ {في السموات والأرض} يعني غيب السموات والأرض. وقال أكثر المفسّرين : خبءَ السماء المطر، وخبءَ الأرض النبات، وفي قراءة عبد اللّه : يخرجُ الخبء من السموات، ومن وفي يتعاقبان، يقول العرب : لاستخرجنّ العلم فيكم، يريد منكم، قاله الفرّاء. {ويعلم ما يخفون وما يعلنون} قراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الكسائي بالتاء وهي رواية حفص عن عاصم. ٢٦{اللّه لا اله إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي كل عرش وإنْ عظم فدونه، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره قال ابن إسحاق وابن زيد : من قوله {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} الى قوله {اله إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} كلّه كلام الهُدهد. ٢٧{قَالَ} سليمان للّهدهد {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ} فيما أخبرت {أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} فَدَلّهم الهُدهد على الماء فاحتفروا الركايا ورَوَى الناس والدوابّ، وكانوا قد عطشوا، ثم كتب سليمان كتاباً من عبد اللّه سليمان بن داود (عليه السلام) الى بلقيس ملكة سبأ، السلام على مَن اتبّع الهُدى، أمّا بعد فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين. وقال ابن جُريج : لم يزد سليمان على ما قصّ اللّه في كتابه إنّه وإنّه. قال منصور : كان يقال : كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلّه إملاءً ثم قرأ {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال قتادة : وكذلك الأنبياء عليهم السلام كانت تكتب جملاً لا يطيلون ولا يكثرون، فلمّا كتب الكتاب طبعهُ بالمسك، ٢٨وختمه بخاتمه وقال للّهدهد {اذْهَب بِّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} فكن قريباً منهم {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} يردّون من الجواب. وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم وانظر ماذا يرجعون ثم تولَّ عنهم أي انصرف، كقوله {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} أي انصرف إليه، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به الى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلقّت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها وآوت إلى فراشها، فأتاها الهُدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، هذا قول قتادة. وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقال ابن منبّه وابن زيد : كانت لها كوّة مستقبلة الشمس، تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهُدهد تلك الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلمّا استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها. قالوا : فأخذت بلقيس الكتاب وكانت كاتبة قارئةً عربيةً من قوم تبع بن شراحيل الحميري، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان (عليه السلام) كان في خاتمه، وعرفت أنّ الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم مُلْكاً منها؛ لأن مَلِكاً رُسله الطير إنّه لمَلِك عظيم، فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد، مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل. وقال قتادة ومقاتل والثمالي : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف. ٢٩قالوا : فجاؤوا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس : {يا أيّها الملأ إنّي أُلقي إليَّ كتاب كريم} . قال قتادة : حسن، نظيره قوله {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} . وقال ابن عباس : شريف بشرف صاحبه. الضحاك : سمّته كريماً لأنّه كان مختوماً، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن شاذان قال : حدّثنا جبعويه بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد بن محمد بن مروان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (كرامة الكتاب ختمهُ). وأنبأني عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال : حدّثنا عمرو قال : حدّثني أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي قال : حدّثنا إسحاق بن منصور قال : حدّثنا معاذ بن هشام قال : حدّثني أبي عن قتادة عن أنس قال : لمّا أراد نبي اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) أن يكتب إلى العجم، قيل له : أنّ العجم لا يقبلون إلاّ كتاباً عليه خاتم، فاصطنع خاتماً، فكأني انظر إلى بياضه في كفّه. وقال ابن المقفّع : مَن كتب الى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخفّ به لأن الختم ختم، وقيل : سمّته كريماً لأنّه كان مصدّراً ببسم اللّه الرَّحْمن الرحيم ٣٠-٣١{إنّه مِن سليمان وانّه بسم اللّه الرحمان الرحيم أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين} وقرأ أشهب العقيلي : إلا تغلوا علىّ بالغين معجمة، وأتوني مسلمين مؤمنين طائعين. ٣٢{قالت يا أيّها الملأ} قال ابن عباس : كان مع بلقيس مائة ألف قيل، مع كلّ قيل مائة ألف، والقيل تلك دون الملك الأعظم {أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أشيروا عليَّ فيما عرض لي وأجيبوني فيما أُشاوركم فيه {مَا كُنتُ قَاطِعَةً} قاضية وفاصلة {أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} تحضروني. ٣٣قالوا مجيبين لها {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} في القتال {وأُولُوا بأس شديد} عند الحرب {وَامْرُ إِلَيْكِ} أيتها الملكة {فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ} تجدينا لأمرك مطيعين. ٣٤فقالت بلقيس لهم حين عرضوا أنفسهم للحرب {إِنَّ الْمُلُو كَلا إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} عنوة وغَلبة {أَفْسَدُوهَا} خرَّبوها {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} أي أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر، وتناهى الخبر عنها هاهُنا فصدّق اللّه سبحانه قولها فقال {وَ كذلك يَفْعَلُونَ} . أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبي رحمه اللّه : انَّ الملوك بلاء حيث ما حلّوا فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تؤمّل من قوم إذا غضبوا جاروا عليك وإن أرضيَتهم مَلّوا وإن مدحتهمُ خالوك تخدعهم واستثقلوك كما يُستثقل الكَلّ فاستغن باللّه عن أبوابهم أبداً إنّ الوقوف على أبوابهم ذلّ ٣٥{وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} وذلك أنّ بلقيس كانت لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها : إنّي مرسلة الى سليمان وقومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي واختبرهُ بها أملك هو؟ فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف، وإنْ يكن نبيّاً لم يقبل الهدية ولم يرضه منّا إلاّ أن نتّبعه على دينه، فأهدت إليه وصيفاً ووصائف. قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أُنثى. وقال مجاهد : أُلبس الغلمان لباس الجواري وأُلبس الجواري لبسة الغلمان، واختلفوا في عددهم فقال مقاتل : مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد : مائتي غلام ومائتي جارية. وقال الكلبي : عشرة غلمان وعشر جواري. وقال وهب وغيره : خمسمائة غلام وخمسمائة جارية. وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا ابن فنجويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن ثابت البناني في قوله {وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ} قال : أهدت له صفائح ذهب في أوعية الديباج، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجرّ بالذهب ثم أمر به فأُلقي في الطريق، فلمّا جاؤا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان، قالوا : قد جئنا نحمل شيئاً نراه ههنا ملقىً ما يُلتفت إليه، فصغر في أعينهم ما جاؤوا به، وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب. وقال وهب وغيره من أهل الكتب : عمدت بلقيس الى خمسمائة جارية وخمسمائة غلام فألبست الجواري لباس الغلمان، الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب، وفي آذانهم قُروطاً وشنوفاً مرصّعات بأنواع الجواهر، وحُملَت الجواري على خمسمائة رَمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة، وبعثت إليه أيضاً خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجاً مكلّلاً بالدرّ والياقوت المرتفع وأرسلت إليه أيضاً المسك والعنبر وعود الالنجوج، وعمدت الى حقّة فجعلت فيها دّرة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معرجة الثقب، ودَعت رَجُلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمّت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتاباً نسخة الهدية وقالت : إن كنت نبيّاً فميّز بين الوصفاء والوصيفات، وأخبرْ بما في الحقّة قبل أن تفتحها وأثقب الدرّة ثقباً مستوياً وأدخل خيطاً. الخرزة وأمرت بلقيس الغلمان فقالت : إذا كلّمكم سليمان فكلّموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث شبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلّمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثمَّ قالت للرسول : انظر الى الرجل إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرَ غَضَب فاعلم أنّه ملك ولا يهولنّك منظره فأنا أعزّ منه، وإن رأيت الرجل بشّاً لطيفاً فاعلم أنّه نبي مُرسَل فتفهّم قوله وَرُدّ الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان (عليه السلام) فأخبره الخبر كلّه، فأمر سليمان (عليه السلام) الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شُرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال : أيّ الدوابّ أحسن ممّا رأيتم في البرّ والبحر؟ قالوا : يا نبي اللّه إنّا رأينا دوابّ في بحر كذا وكذا منمّرة منقطعة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي. قال : عليَّ بها الساعة، فأَتوا بها، فقال : شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضّة، وألقوا لها علوفها. ثم قال للجنّ : عليّ بأولادكم، فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان (عليه السلام) في مجلسه على سريره ووُضع له أربعون ألف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفاً فراسخ، وأمر الإنس فاصطفّوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوامّ والطير فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره. فلمّا رأى القوم الميدان ونظروا إلى ملك سليمان (عليه السلام) ورأوا الدوابّ التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم وبقوا بما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات أن سليمان (عليه السلام) لمّا أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكلّ الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان. قالوا : ثم جاؤوا، فلمّا رأوا الشياطين نظروا إلى موضع عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين : جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدي سليمان (عليه السلام) فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طَلِق وقال : ما وراءكم؟ فأخبرهُ رئيس القوم بما جاؤوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال : أين الحُقّة فأتى به فحرّكها، وجاءه جبرئيل (عليه السلام) فأخبره بما في الحُقّة فقال : إنَّ فيها درة يتيمة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجّة الثقب، فقال الرسول : صدقت فاثقب الدّرة وأدخل الخيط في الخرزة فقال سليمان (عليه السلام) : من لي بثقبها؟ فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذلك، ثمَّ سأل الجانّ فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا : ترسل الى الأرضة فجاءت الأرضة وأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان (عليه السلام) : حاجتك؟ فقالت : تصيّر رزقي في الشجرة فقال : لك ذاك، ثمَّ قال : مَن لهذه الخرزة يسلكها؟ الخيط فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا رسول اللّه، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان : حاجتك؟ قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال : لك ذاك، ثمَّ ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأُخرى ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذهُ من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبّاً، وكان الغلام يحدر الماء على يده حدراً، فميّز بينهنَّ بذلك ثم ردّ سليمان (عليه السلام) الهديّة. ٣٦{قال أتمدونني بمال} اختلف القُرّاء فيه فقرأ حمزة ويعقوب أتمدّونّي بنون واحدة مُشدَّدة، غيرهما بنونين خفيفتين وحذف الياء، ابن عامر وعاصم والكسائي وخلف، الباقون بإثباته. {فما آتاني اللّه خيرٌ مما آتايكم بل أنتم بهديتكُم تفرحون} لأنّكم أهل مفاخرة الدنيا والمكابرة بها ولا تعرفون غير ذلك، وليست الدنيا من حاجتي لأن اللّه سبحانه قد مكّنني منها وأعطاني فيها ما لم يعط أحداً ومع ذاك أكرمني بالدين والنبوّة والحكمة، ثمَّ قال للمنذر بن عمرو آمر الوفد ٣٧{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بالهدية {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ} لا طاقة {لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ} أي من أرضها وملكها {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} ذليلون إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب وغيرهُ مِن أهل الكتب : لما رجعت رُسل بلقيس إليها من عند سليمان (عليه السلام) قالت : قد واللّه عرفت ما هذا بمَلِك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئاً، فبعثت إلى سليمان : إنّي قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجُعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبع قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حرّاساً يحفظونه ثمَّ قالت لمن خلّفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد ولا يزيّنه حتى آتيك، ثم أمرت منادياً فنادى في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت الى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل أُلوف كثيرة. قال ابن عباس : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدئ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه فقال : ما هذه ؟. قالوا : بلقيس يا رسول اللّه. قال : (وقد نزلت منّا بهذا المكان؟) ٣٨قال ابن عباس : وكان ما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} أي مؤمنين. وقال ابن عباس : طائعين. واختلف أهل العلم في السبب الذي لأجله أمر سليمان (عليه السلام) بإحضار العرش فقال أكثرهم : لأن سليمان (عليه السلام) علم أنها إن أسلمت حُرم عليه ما لها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يُحرم عليه أخذه بإسلامها. وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لمّا وصفه الهدهد فأحبَّ أن يراه. وقال ابن زيد : أراد أن يختبر عقلها فيأمر بتنكيره لينظر هل تثبته إذا رأته أم تنكره؟ وقيل : قدرة اللّه سبحانه وعظيم سلطانه في معجزه يأتي بها في عرشها. ٣٩{قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ} وهو المارد القَوي، وفيه لغتان : عفريت وعفريه، فمَن قال عفريت جمعه عفاريت، ومَن قال عفرية جمعَه عفارت. قال وهب : اسمه كوذى، وقال شعيب الجبائي : كان اسم العفريت ذكوان، وقال ابن عباس : العفريت : الداهية، وقال الضحّاك : هو الخبيث. ربيع : الغليظ. الفَراء : القوىّ الشديد. الكسائي : المنكر، وأنشد : فقال شيطان لهم عفريت مالَكمُ مكث ولا تبييت وقرأ أبو رجاء العطاردي قال : عفريه. وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سمرة البغوي قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن سهل قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن البحتري قال : حدّثنا عمرو بن عثمان قال : حدّثنا أبي عن عبد اللّه بن عبد العزيز القرشي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبي بكر الصدّيق ح أنه كان يقرأ : قال عفريه من الجنّ والعفريه البكر بين البكرين لم يلد أبواه قبله شيئاً ولم يَلد هُوَ شيئاً. {أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس : وكان له كلّ غداة مجلس يقضي فيه الى منزع النهار. {وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ} على حمله {أَمِينٌ} على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان عليه السلام أُريد أسرع من هذا، ٤٠{قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} واختلفوا فيه، فقال بعضهم هو جبرئيل (عليه السلام) ملك من الملائكة أيّد اللّه عزّ وجلّ به نبيه سليمان عليه السلام. وقال الآخرون : بل كان رجلاً من بني آدم. ثمَّ اختلفوا فيه فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا بن شمعيا بن ميكيا وكان صدّيقاً يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أُعطي. أخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : إنّ آصف قال لسليمان (عليه السلام) حين صلّى ودعا اللّه سبحانه : مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك قال : فمدّ سليمان (عليه السلام) عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف، فبعث اللّه الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدّون الأرض خدّاً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان (عليه السلام). واختلف العلماء في الدعاء الذي دعا به آصف عند الإتيان بالعرش، فروت عائشة أن النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (إن اسم اللّه الأعظم الذي دعا به آصف (يا حيّ يا قيّوم). وروى عثمان بن مطر عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب (يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلاّ أنت ائتني بعرشها) قال : فمثل له بين يديه. وقال مجاهد : يا ذا الجلال والإكرام. وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد بن جعفر وعبيد اللّه بن أحمدبن يعقوب قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حّدثنا إسماعيل عن عبد اللّه بن إسماعيل عن ابن زيد قال : الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر فخرج ذلك اليوم ينظر مَن ساكن الأرض؟ وهل يعبد اللّه عزَّوجل أم لا يعبد؟ فوجد سليمان (عليه السلام) فدعا باسم من أسماء اللّه فإذا هو بالعرش حُمل فأتى به سليمان من قبل إنْ يرتدّ إليه طرفه. وبه عن مجاهد قال : حدّثني البزي وابن حرب قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا شبل قال : زعم ابن أبي بزة أن اسم الذي عنده علم من الكتاب اسطوم، وقال بعضهم : كان رجل من حمير يقال له : ضبّة. وقال قتادة : كان إسمه بليحا، وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان أما إن الناس يرون أنّه كان معه اسم وليس ذلك كذلك، إنّما كان رجل عالم من بني إسرائيل آتاه اللّه علماً وفقهاً فقال : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك، قال سليمان (عليه السلام) : هات، فقال : أنت النبي ابن النبي وليس أحد أوجه عند اللّه منك ولا أقدر على حاجته فإن دعوت اللّه، وطلبت إليه كان عندك. قال : صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت. وقوله {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} اختلفوا في معناه فقال سعيد بن جبير : يعني قبل أن يرجع إليك أقصى من تركت، وهو أن يصل إليك من كان منك على مَدّ بصرك. قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك الى مداه حتى أُمثّله بين يديك. مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً. وعنه أيضاً قال : يعني مدّ بصرك ما بينك وبين الحيرة، وهو يومئذ في كندة. وعن قتادة : هو أن يبعث رسولاً الى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به. فلمّا رآه يعني رأى سليمان (عليه السلام) العرش {مُسْتَقِرًّا عِندَهُ} محمولاً إليه من مأرب الى الشام في قدر ارتداد الطرف {قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا} نعمته {أَمْ أَكْفُرُ} ها فلا أشكرها {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لم ينفع بذلك غير نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودَوامَها؛ لأنَّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. {وَمَن كَفَرَ فإنَّ ربّي غنىّ كريم} بالإفضال على من كفر نعمه. ٤١{قَالَ نَكِّرُوا} غيّروا {لَهَا عَرْشَهَا} فزيدوا فيه وأنقصوا منه واجعلوا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه {نَنظُرْ أَتَهْتَدِى} الى عرشها فتعرفه {أم تكون من الجاهلين} به الذين لا يهتدون إليه، وإنما حمل سليمان (عليه السلام) على ذلك، كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما من أهل الكتب : إنَّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، ولا ينفكّون من تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأرادوا أن يزهِّدوه فيها فأساؤوا الثناء عليها وقالوا : إنَّ في عقلها شيئاً وإنّ رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان (عليه السلام) أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر الى قدميها ببناء الصرح، ٤٢فلمّا جاءت بلقيس {قِيلَ} لها {أَهَاكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} شبّهتهُ به وكانت قد تركته خلفها في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فلم تقرّ بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان (عليه السلام) كمال عقلها. قال الحسن بن الفضل : شبّهوا عليها فشَبّهت عليهم وأجابتهم على حسب سؤالهم، ولو قالوا لها : هذا عرشك لقالت : نعم فقال سليمان (عليه السلام) {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ} باللّه وبقدرته على ما شاء مِن قبل هذه المرأة {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} هذا قول مجاهد وقال بعضهم : معناه وأُوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة وقبل مجيئها، وكنّا مسلمين طائعين خاضعين. وقال بعضهم : هذا من قول بلقيس لمّا رأت عرشها عند سليمان (عليه السلام) قالت : عرفت هذه، وأُوتينا العلم بصحة نبوة سليمان (عليه السلام) بالآيات المتقدمة مِن قبل هذه الآية وذلك بما اختبرت من أمر الهديّة والرُسل، وكنّا مسلمين أي منقادين لك مطيعين لأمرك مِن قبل أن جئناك. ٤٣{وَصَدَّهَا} ومنعها {مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللّه} وهو الشمس بأن تعبد اللّه، وعلى هذا القول يكون {مَا} في محل الرفع. وقال بعضهم : معناه وصدَّها سليمان ما كانت تعبد من دون اللّه أي منعها ذلك وحال بينها وبينه، ولو قيل : وصدّها اللّه ذلك بتوفيقها للإسلام لكان وجهاً صحيحاً، وعلى هذين التأويلين يكون محل {مَا} نصباً. ٤٤{إنّها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصَرح} الآية. وذلك أنَّ سليمان (عليه السلام) لما اقبلت بلقيس تريدهُ أمَرَ الشياطين فبنوا له صرحاً أي قصراً من زجاج كأنّه الماء بياضاً، وقيل : الصرح صحن الدار، وأجرى من تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر، السمك وغيره، ثمَّ وضع له سريرهُ في صدرها فجلس عليه وحلقت عليه الطير والجن والإنس وإنّما أمر ببناء هذا الصرح لأنَّ الشياطين قال بعضهم لبعض : سخّر اللّه لسليمان عليه السلام ما سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً، فأرادوا أن يزهّدوه فيها فقالوا : إنَّ رِجلها رِجل حمار وإنها شَعْراء الساقين لأنّ أُمّها كانت من الجن فأرادَ أن يعلم حقيقة ذلك وينظر الى قدميها وساقيها. وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبّه قال : إنّما بنى الصرح ليختبر عقلها وفهمها، يعاينها بذلك كما فعلت هي من توجيهها إليه الوصفاء والوصائف ليمّيز بين الذكور والإناث، تعاينه بذلك، فلمّا جاءت بلقيس قيل لها : ادخلي الصرح {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} وهي معظم الماء وقال ابن جريج : يعني بحراً. {وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} لتخوضه الى سليمان عليه السلام، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلاّ أنّها كانت شعْراء الساقين، فلمّا رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} مملّس مستو {مِّن قَوَارِيَرَ} وليس ببحر، فلمّا جلست قالت : يا سليمان إنّي أُريد أن أسألك عن شيء. قال : سلي. قالت : أخبرني عن ما ماء رُواء ولا من أرض ولا من سماء. وكان سليمان إذا جاءه شيء لا يعلمه سأل الإنس عنه، فإن كان عندهم علم ذلك وإلاّ سأل الجن، فإن علموا وإلاّ سأل الشياطين، فسأل الشياطين عن ذلك فقالوا له : ما أهون هذا من الخيل فلْتجرِ ثم املأ الآنية من عَرَقها. فقال لها سليمان : عرق الخيل، قالت : صدقت، ثم قالت : أخبرني عن لون الربّ، فوثب سليمان عليه السلام عن سريره وخرَّ ساجداً وصعق عليه فقامت عنه وتفرّقت جنودُه وجاءهُ الرسول فقال : يا سليمان يقول لك ربك : ما شأنك ؟ قال : يا رب أنت أعلم بما قالت، قال : فإن اللّه يأمرك أن تعود ألى سريرك وترسل إليها وإلى مَن حضرها من جنودك وجنودها فتسألها وتسألهم عمّا سألتك عنه، ففعل ذلك سليمان (عليه السلام)، فلمّا دخلوا عليه قال لها : عمّاذا سألتِني ؟ قالت : سألتك عن ماء رواء ليس من أرض ولا سماء فأجبتَ. قال : وعن أيّ شيء سألتِني أيضاً ؟ قالت : ما سألتك عن شيء إلاّ هذا فاسأل الجنود فقالوا مثل قولها، أنساهم اللّه تعالى ذلك وكفى سليمان (عليه السلام) الجواب، ثمَّ إن سليمان دَعَاها الى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت وقالت {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بالكفر {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ} فحسن إسلامها. واختلف العلماء في أمرها بعد إسلامها فقال أكثرهم : لمّا أسلمت أراد سليمان أن يتزوجها، فلمّا همَّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال : ما أقبح هذا فسأل الإنس : ما يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى فقالت المرأة : لم تمسّني حديدة قطّ، فكره سليمان الموسى وقال : إنّها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا : لا ندري، ثمَّ سأل الشياطين فتلكأوا ثمّ قالوا : انّا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا لها النورة والحمّام. قال ابن عباس : فإنّه لأول يوم رؤيت فيه النورة واستنكحها سليمان عليه السلام. أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال : حدّثنا محمد بن عمران ابن هارون قال : حدّثنا محمد بن ميمون المكي قال : حدّثني أبو هارون العطار عن أبي حفص الأبّار عن إسماعيل بن أبي بردة عن أبي موسى يبلغ به النبي (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود عليه السلام، فلمّا ألزق ظهره إلى الجدر فمسّهُ حرّها قال : آوه مِن عذاب اللّه). قالوا : فلما تزوّجها سليمان أحبّها حبّاً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً وهي : سلحون وسون وعمدان، ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرَّة بعد أن ردها الى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيّام يبتكر من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام، وولدت له فيما ذكر. وروى ابن أبي إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب قال : زعموا أنّ سليمان بن داود عليه السلام قال لبلقيس لمّا أسلمت وفرغ من امرها : اختاري رجلاً من قومك أُزّوجكه. قالت : ومثلي يا نبي اللّه ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان. قال : نعم إنّه لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك ولا ينبغي لكِ أنْ تحرّمي ما أحل اللّه لكِ. فقالت : زوّجني إنْ كان لابدّ من ذلك ذا تبّع ملك همذان فزّوجه إيّاها ثم ردّها الى اليمن وسلّط زوجها ذا تبّع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال : اعمل لذي تبّع ما استعملك فيه. قال : فصنع لذي تبع الصنائع باليمن ثم لم يزل بها يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ابن داود (عليه السلام)، فلمّا أنْ حال الحول وتبيّنت الجن موت سليمان (عليه السلام) أقبل رَجُلٌ منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته : يا معشر الجن إنَّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قال : فعمدت الشياطين الى حجرين عظيمين فكتبوا فيها كتاباً بالمسند نحن بنينا سلحين دائبين (سبعة وسبعين خريفاً)، وبنينا صرواح ومرواح (وبنيون وحاضة وهند وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة لتركنا بالبون إمارة، وقال وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهند وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن عملتها الشياطين لذي تبع)، ثم رفعوا أيديهم وانطلقوا وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان (عليه السلام). ٤٥{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ} يعني بأن {اعْبُدُوا اللّه} وحده {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} مؤمن وكافر ومصدّق ومكذّب {يَخْتَصِمُونَ} في الدين. قال مقاتل : واختصامهم مُبَّين في سورة الأعراف وهو قوله {قَالَ الملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ} الى قوله {يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} . ٤٦فقال لهم صالح {يا قوم لم تستعجلون بالسيّئة} بالبلاء والعقوبة {قَبْلَ الْحَسَنَةِ} العافية والرحمة، والاستعجال طلب التعجيل بالأمر، وهو الإتيان به قبل وقته. {لَوْ} هلاّ {تَسْتَغْفِرُونَ اللّه} بالتوبة من كفركم ٤٧{لعلّكم تُرحمون قالوا اطيّرنا} تشاءمنا، وأصله تطيّرنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} وذلك أنّ المطر أمسك عنهم في ذلك الوقت وقحطوا فقالوا : أصابنا هذا الضرّ والشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك، وإنّما ذكر التطيّر بلفظ الشأم على عادة العرب ونسبتهم الشؤم إلى البارح، وهو الطائر الذي يأتي من جانب اليد الشومى وهي اليسرى. {قَالَ طَارُكُمْ} من الخير والشر وما يصيبكم من الخصب والجدب {عِندَ اللّه} بأمره وهو مكتوب على رؤوسكم، لازم أعناقكم، وليس ذلك إليَّ ولا علمه عندي. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} قال ابن عباس : تُختبرون بالخير والشر، نظيره {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} . الكلبي : تُفتنون حتى تجهلوا أنّه من عند اللّه سبحانه وتعالى. محمد بن كعب : تُعذّبون بذنوبكم وقيل : تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على طاعتكم ومتابعتي، وتعاقبوا على معصيتي ومخالفتي. ٤٨{وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ} يعني مدينة ثمود وهي الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} من أبناء أشرافهم {يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلا يُصْلِحُونَ} وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع بن دهر وأسلم ورهمى وبرهم ودعمى وعيم وقتال وصَداف. ٤٩{قَالُوا تَقَاسَمُوا} تحالفوا {بِاللّه} أيّها القوم وموضع تقاسموا جزم على الأمر كقوله {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ} وقال قوم من أهل المعاني : محله نصب على الفعل الماضي يعني انهم تحالفوا وتواثقوا، تقديره : قالوا متقاسمين باللّه، ودليل هذا التأويل أنّها في قراءة عبد اللّه : ولا يصلحون تقاسموا باللّه، وليس فيها قالوا. {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} من البيات فلنقتله، هذه قراءة العامة بالنون فيهما واختيار أبي حاتم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي : لتبيّتنّه ولتقولنّ بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخطاب واختاره أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخبر عنهم. ثم {ثم ليقولن ما شهدنا} ما حضرنا {مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي إهلاكهم، وقرأ عاصم برواية أبي بكر مهلك بفتح الميم واللام، وروى حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام، وهما جميعاً بمعنى الهلاك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} في قولنا : إنّا ما شهدنا ذلك. ٥٠{وَمَكَرُوا مَكْرًا} وغدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} وجزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم ٥١{وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا} قرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي أَنّا بفتح الالف ولها وجهان : أحدهما : أن يكون أنّا في محلّ الرفع ردّاً على العاقبة. والثاني : النصب على تكرير (كان) تقديره : كان عاقبة مكرهم التدمير، واختار أبو عبيد هذه القراءة اعتبار الحرف أي أنْ دمرناهم، وقرأ الباقون : إنّا بكسر الألف على الابتداء. {دَمَّرْنَاهُمْ} يعني أهلكنا التسعة، واختلفوا في كيفية هلاكهم. فقال ابن عباس : أرسل سبحانه الملائكة فامتلأت بهم دار صالح فأتى التسعة الدار شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم. قال قتادة : خرجوا مسرعين الى صالح فسلَّط اللّه عليهم صخرة فدمغتهم. مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم. السدّي : خرجوا ليأتوا صالحاً فنزلوا خرقاً من الأرض يتمكنون فيه فانهار عليهم. {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} بالصيحة وقد مضت القصة. ٥٢{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ} خالية، قراءة العامّة بالنصب على الحال عن الفرّاء والكسائي وأبو عبيدة عن القطع مجازه : فتلك بيوتهم الخاوية، فلمّا قطع منها الألف واللام نصبت كقوله سبحانه {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} وقرأ عيسى بن عمر {خَاوِيَةَ} بالرفع على الخبر {بِمَا ظَلَمُوا} أي بظلمهم {إِنَّ فِى ذلك لآية} لعبرة ٥٣{لِقَوْم يَعلَمونَ وأَنْجَيْنا الذين آمَنُوا وَكَانوا يَتَّقُوْن} من صيحة جبريل، والخراج الذي ظهر بأيديهم. قال مقاتل : خرج أوّل يوم على أيديهم مثل الحمّصة أحمر ثمّ اصفرّ من الغد، ثمّ اسودّ اليوم الثالث، ثمّ تفقّأت، وصاح جبريل (عليه السلام) في خلال ذلك فخمدوا، وكانت الفرقة المؤمنة الناجية أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلمّا دخلها صالح مات، فسمّي (حضر موت). قال الضحّاك : ثمّ بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها : (حاضورا) وقد مضت القصّة جميعاً. ٥٤{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي الفعلة القبيحة الشنيعة {وَأنْتُمْ تُبْصِرُون} أنّها فاحشة، وقيل : يرى بعضكم بعضاً. كانوا لا يتستّرون عتوّاً منهم وتمرّداً ٥٥-٥٦{أئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أنْ قَالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوط مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} من أدبار الرجال، يقولونه استهزاءً منهم بهم ٥٧{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا الأمر أَتَهُ} وأهله {قَدَّرْنَاهَا} قضينا عليها أنها {مِنَ الْغَابِرِينَ} أي الباقين في العذاب وقال أهل المعاني : معنى {قَدَّرْنَاهَا} جعلناها {مِنَ الْغَابِرِينَ} وإنّما قال ذلك لأنّ جرمها على مقدار جرمهم، فلمّا كان تقديرها كتقديرهم في الشرك والرضى بأفعالهم القبيحة، جرت مجراهم في إنزال العذاب بها ٥٨-٥٩{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} أي على شذّادها {مَّطَرًا} وهو الحجارة {فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ قُلِ الحَمْدُ للّه} قال الفرّاء : قيل للوط : {قُلِ الْحَمْدُ للّه} على هلاك كفار قومي. وقال الباقون : الخطاب لرسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) يعني و {قُلِ الْحَمْدُ للّه} على هلاك كفّار الأُمم الخالية، وقال مقاتل : على ما علّمك هذا الأمر. الآخرون : على جميع نعمه. {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} لرسالاته وهم الأنبياء (عليهم السلام)، عن مقاتل دليله قوله : {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} وأخبرني عبداللّه بن حامد قال : أخبرنا السدي. قال : حدّثنا أحمد بن نجدة. قال : حدّثنا الحماني. قال : حدّثنا الحكم بن طهر، عن السدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال : أصحاب محمّد (عليه السلام). وأخبرني عبدالرحيم بن إبراهيم بن محمّد العدل بقراءتي عليه، قال : أخبرني عبداللّه بن محمّد بن مسلم، فيما أجازه لي أنّ محمّد بن إدريس حدّثهم، قال : حدّثنا الحميدي. قال : سمعت سفيان سُئل عن {عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال : هم أصحاب محمّد. وقال الكلبي : هم أُمّة محمّد اصطفاهم اللّه لمعرفته وطاعته، ثمّ قال إلزاماً للحجّة : {ءَآللّه} القراءة بهمزة ممدودة وكذلك كلّ إستفهام فيه ألف وصل، مثل قوله : (آلذين وآلآن) جعلت المدّة علماً بين الاستفهام والخبر، ومعنى الآية : اللّه الذي صنع هذه الأشياء {خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} من الأصنام، وقرأ عاصم وأهل البصرة (بالياء)، الباقون (بالتاء)، وكان النبي (عليه السلام) إذا قرأ هذه الآية قال : (بل اللّه خيرٌ وأبقى وأجلّ وأكرم). ٦٠{أَمَّن} قال أبو حاتم : فيه إضمار كأنّه قال : آلهتكم خير أم الذي {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأ نْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة} حُسْن. {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَآ} هو (ما) النفي، يعني ما قدرتم عليه {أَءِلَاهٌ مَّعَ اللّه} يعينه على ذلك، ثمّ قال : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يشركون ٦١{أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَارًا} لا تميد بأهلها {وَجَعَلَ خِلَالَهَآ} وسطها {أَنْهَارًا} تطّرد بالمياه {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} جبالا ثوابت {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ} العذب والملح {حَاجِزًا} مانعاً لئلاّ يختلطا ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقيل : أراد الجزائر ٦٢{أَءِلَهٌ مَعَ اللّه بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إذَا دَعَاه} أي المجهود، عن ابن عباس وقال السدّي : المضطرّ الذي لا حول له ولا قوّة، ذو النون هو الذي قطع العلائق عمّا دون اللّه، أبو حفص وأبو عثمان النيسابوريّان : هو المفلس. وسمعت أبو القاسم الحسن بن محمّد يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبداللّه الأصبهاني يقول : سمعت أبا الحسن عمر بن فاضل العنزي يقول : سمعت سهل بن عبداللّه التستري يقول : {الْمُضْطَرَّ} الذي إذا رفع يديه إلى اللّه داعياً لم يكن له وسيلة من طاعة قدّمها {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} أي الضرّ {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض} يهلك قرناً وينشئ آخرين ٦٣{أإلَهٌ مَعَ اللّه قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ أمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْر} إذا سافرتم. {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} قدّام رحمته ٦٤{أإلَهٌ مَعَ اللّه تَعَالَى اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه} للبعث {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ} المطر {والأرض} النبات {مَّعَ اللّه قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن} حجّتكم على قولكم إنّ مع اللّه إلهاً آخر ٦٥{إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللّه} نزلت في المشركين حيث سألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن وقت قيام الساعة. قال الفرّاء : وإنّما رفع ما بعد {إِلا} لأنّ قبلها جحداً كما يقال : ما ذهب أحد إلاّ أبوك {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ} متى {يُبْعَثُونَ} قالت عائشة : مَن زعم أنّه يعلم ما في غد فقد أعظم على اللّه الفرية، واللّه عزّ وجل يقول : {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللّه}. أخبرنا أبو زكريا الحري قال : أخبرنا أبو حامد الأعمشي قال : حدّثنا علي بن حشرم قال : حدّثنا الفضل بن موسى، عن رجل قد سمّاه قال : كان عند الحجّاج بن يوسف منجّم، فأخذ الحجّاج حصيّات بيده قد عرف عددها فقال للمنجّم : كم في يدي؟ فحسب، فأصاب المنجّم، ثمّ اعتقله الحجّاج فأخذ حصيات لم يعددهنّ، فقال للمنجّم : كم في يدي؟ فحسب، فحسب، فأخطأ ثمّ حسب أيضاً، فأخطأ، فقال : أيّها الأمير أظنّك لا تعرف عددها في يدك. قال : فما الفرق بينهما؟ قال : إنّ ذاك أحصيته فخرج من حدّ الغيب، فحسبت فأصبت، وإنّ هذا لم تعرف عددها، فصار غيباً، ولا يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّ وجل. ٦٦{بَلِ ادَّارَكَ} اختلف القرّاء فيه، فقرأ ابن عباس بلى بإثبات الياء {ادَّارَكَ} بفتح الألف وتشديد الدال على الاستفهام. روى شعبة عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عبّاس : في هذه الآية {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فى الآخرة} أي لم يدرك، قال الفرّاء : وهو وجه جيّد كأنّه يوجّهه إلى الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث، لقولك للرجل تكذّبه : بلى لعمري لقد أدركت السلف فأنت تروي ما لا تروي، وأنت تكذّبه. وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي {بَلِ ادَّارَكَ} بكسر اللام وتشديد الدال أي تدارك وتتابع {عِلْمُهُمْ فى الآخرة} هل هي كائنة أم لا؟ وتصديق هذه القراءة أنّها في حرف أُبي أم تدارك {عِلْمُهُمْ فى الآخرة} والعرب تضع بل موضع أم، وأم موضع بل إذا كان في أوّل الكلام استفهام كقول الشاعر : فواللّه ما أدري أسلمى تغوّلت أم البوم أم كلٌّ إلي حبيب أي بل كلٌّ إليّ حبيب، ومعنى الكلام هل تتابع علمهم بذلك في الآخرة، أي لم يتتابع فصل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه؛ لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد، وقرأ أبو جعفر ومجاهد وحميد وابن كثير وأبو عمرو {بَلِ ادَّارَكَ} من الادّراك أي لم يدرك علمهم علم في الآخرة، وقال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم لأنّهم كانوا في (الأنبياء) مكذّبين، وقيل بل ضلّ وغاب علمهم في الآخرة فليس فيها لهم علم، ويقال : اجتمع علمهم في الآخرة أنّها كائنة وهم في شكّ من وقتهم. {بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أي (جهلة) واحدها عمي، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار غير مهموزة، وقرأ ابن محيض {بل أءدّرك} على الاستفهام، أي لم تدرك، وحمل القول فيه أنّ اللّه سبحانه أخبر رسوله (صلى اللّه عليه وسلم) أنّهم إذا بعثوا يوم القيامة استوى علمهم بالآخرة وما وعدوا فيه من الثواب والعقاب، وإنْ كانت علومهم مختلفة في الدنيا وإنْ كانوا في شكّ من أمرها بل جاهلون به. وسمعت بعض العلماء يقول في هذه الآية : إنّ حكمها ومعناها لو ادّارك علمهم في ما هم في شكّ منها حيث هم منها عمون على تعاقب الحروف. ٦٧{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي مكة {إذا كُنّا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون} من قبورنا أحياء ٦٨{لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} البعث {نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ} وليس ذاك بشيء {إِنْ هَذَآ إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ} أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها. ٦٩-٧٠{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن} على تكذيبهم إيّاك عنك {وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين أقسموا بمكّه وقد مضت قصتّهم. ٧١-٧٢{ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون رَدِف لكم} أي دَنا وقرب لكم، وقيل : تبعكم. وقال ابن عباس : حضركم، والمعنى : ردفكم، فأدخل اللام كما أُدخل في قوله : {لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} و {لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ} وقد مضت هذه المسألة. قال الفرّاء : اللام صلة زائدة كما يقول تقديرها به ويقدر له {بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب فحلّ بهم ذلك يوم بدر ٧٣-٧٤{وإنَّ ربّك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإنَّ ربّك ليعلم ما تكن} تخفي ٧٥{صدروهم وما يعلنون وما من غائبة} أي مكتوم سرّ وخفيّ أمر، وإنما أدخل الهاء على الإشارة الى الجمع. {فِى السَّمَآءِ والأرض إِلا فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ. ٧٦{انَّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي فيهم يختلفون} من أمر الدين ٧٧-٧٨{وَإِنَّهُ} يعني القرآن {لهدى ورحمة للمؤمنين إنّ ربك يقضي بينهم} أي بين المختلفين في الدين يوم القيامة {بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع فلا يردّ له أمر {الْعَلِيمُ} بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. ٧٩{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} البيّن ٨٠{إِنَّكَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الكفار كقوله {أفمن كان ميتاً فأحييناه} وقوله {ومايستوي الأحياء ولا الأموات} . {وَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} نظيره {صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ} . ٨١{وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ} قراءة العامة على الاسم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يهدي العمى بالياء ونصب الياء على الفعل ههنا وفي سورة النمل {إِن تُسْمِعُ} وتفهم {وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ} بأدلّتنا وحجتنا {فَهُم مُّسْلِمُونَ} في علم اللّه سبحانه وتعالى. ٨٢{ وإذا وقع القول } وَجَب العذاب والسخط { عليهم أخرجنا لهم دابةَ من الأرض تكلّمهم } قراءة العامة بالتشديد من التكلم وتصديقهم ، وقرأ أُبيّ : تنبئهم . قال السدي : تكلّمهم ببطلان الاديان سوى دين الإسلام ، وقرأ أبو رجاء العطاردي : تكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الحرج أي تسمهم . قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس عن هذه الآية يكلّمهم أو تكلمهم فقال : كل ذلك يفعل تكلم المؤمن ويكلم الكافر . { إنّ الناس } قرأ ابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بالنصب وقرأ الباقون بالكسر . { كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ } قبل خروجها . ذكْر الأَخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها أخبرنا الشيخ أبو محمد عبدالله بن حامد الأصبهاني قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، قالحدّثنا عبدالله بن محمّد بن رسموية قال : حدّثنا الحكم بن بشير بن سليمان ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر { وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } قال : حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر . وأخبرنا عبدالله بن حامد الأصفهاني عن أحمد بن عبدالله بن سليمان قال : أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه قال : أخبرنا أبو بكر بن خرجة حدّثنا محمّد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي عن ميثم بن ميناء الجهني عن عمرو بن محمّد العبقري عن طلحة بن عمرو عن عبدالله بن عمير الليثي عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( يكون للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ يمرّ زماناً طويلا ثمّ تخرج خرجة أخرى قريباً من مكّة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكّة فبينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله سبحانه يعني المسجد الحرام لم ترعهم إلاّ وهي في ناحية المسجد تدنو تدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنهم وتثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنّها الكواكب الدرّية ثم ولّت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلّي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، ويتجاور الناس في ديارهم ويصلحون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يُعرف الكافر من المؤمن فيقال : للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر ) وأخبرني ابن محمّد بن الحسين الثقفي عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي عن محمّد بن عبدالغفّار الزرقاني عن أحمد بن محمّد بن هاني الطائي عن محمّد بن النضر بن محمّد الأودي عن أبيه عن سفيان الثوري عن شهاب بن عبدربّه الرحمن عن طارق بن عبدالرحمن عن طارق بن عبدالرحمن عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (دابّة الأرض طولها سبعون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تسمّ المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليهما السلام)). وأخبرني الحسين بن محمّد قال : أخبرني أبو بكر مالك القطيعي عن عبداللّه بن أحمد بن حنبل عن أبي عن بهز عن حمّاد عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال : (تخرج الدابّة معها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم، حتى أنّ أهل الخوان ليجتمعون فيقولون : هذا يا مؤمن ويقولون هذا يا كافر). وأخبرنا الحسين بن محمّد عن عبداللّه بن محمّد بن شِنبة عن الحسن بن يحيى عن ابن جريج عن أبي الزبير أنّه وصف الدّابة فقال : رأسها رأس الثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيّل، وصدرها صدر الأسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّة، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم البعير، وبين كلّ مفصلين إثنا عشر ذراعاً معها عصا موسى وخاتم سليمان، ولا يبقي مؤمن إلاّ نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء فيفشو تلك النكتة حتى يضيء لها وجهه، ولا يبقى كافر إلاّ وتنكت وجهه بخاتم سليمان فتفشو تلك النكتة فيسود لها وجهه، حتى أنّ الناس يبتاعون في الأسواق بِكَمْ يا مؤمن وبكم يا كافر، ثمّ تقول لهم الدّابّة : يا فلان أنت من أهل الجنّة ويا فلان أنت من أهل النار، وذلك قول اللّه عزّ وجل : {واذا وقع القول أخرجنا لهم دابّة..} الآية. وأخبرنا الحسين بن محمّد عن ابن شنبة عن ابن عمر، وعن سفيان بن وكيع عن الوليد بن عبداللّه بن جميع عن عبدالملك بن المغيرة الطائفي عن أبي البيلماني عن ابن عمر قال : تخرج الدّابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى قال : فتحمل الناس بين يديها وعجزها، لا يبقى منافق إلاّ خطمته ولا مؤمن إلاّ مسحته. وأخبرني الحسين بن محمّد عن عمر بن الخطاب عن عبداللّه بن الفضل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبيداللّه بن عبدالمجيد الحنفي عن فرقد بن الحجّاج القرشي قال : سمعت عقبة بن أبي الحسناء اليماني قال : سمعت أبا هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (تخرج دابّة الأرض من موضع جياد فيبلغ صدرها الركن ولما يخرج ذنبها بعد قال : وهي دابّة ذات وبر وقوائم). وأخبرني الحسن قال : حدّثنا علي بن محمّد بن لؤلؤ قال : أخبرنا أبو عبيد محمّد بن أحمد بن المؤمل قال : حدّثنا أبو جعفر محمّد بن جعفر الأحول قال : حدّثنا منصور بن عمّار قال : حدّثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبداللّه بن عمرو أنّه ضرب أرض الطائف برجله وقال : من هاهنا تخرج الدّابة التي تكلّم الناس، وأخبرني عقيل بن محمّد الجُرجاني الفقيه قال : حدّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادى قال : أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا الأشجعي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيّام وما خرج ثلثها. وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني عصام بن بندار بن الجرّاح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان بن سعيد قال : حدّثنا المنصور بن المعتمر، عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان قال : ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه الدابّة، قلت : يا رسول اللّه من أين تخرج؟ قال : (من أعظم المساجد حُرمة على اللّه، بينما عيسى يطّوف بالبيت ومعه المسلمون؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم من تحرّك القنديل وينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا أوّل ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسمّي الناس مؤمناً وكافراً، أمّا المؤمن فتترك وجهه كأنّه كوكب دُرّي، وتكتب بين عينيه : مؤمن، وأمّا الكافر فتترك بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر). وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني أبو عبدالرحمن الرقي قال : حدّثنا ابن أبي مزينة قال : حدّثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قالا : حدّثنا ابن الهاد، عن عمرو بن الحكم أنّه سمع عبداللّه بن عمر يقول : تخرج الدابة من شعب، فيمسّ رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ماخرجتا، فتمرّ بالإنسان يصلّي، فتقول : ما الصلاة من حاجتك، فتخطمه وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآهها أنّ أهل مكّة كانوا بمحمّد والقرآن لا يوقنون، وفي هذا تصديق لقراءة من فتح أنّ. وقال كعب : صورتها صورة الحمار، وروى ابن جريج روح، عن هشام، عن الحسن أنّ موسى (عليه السلام) سأل ربّه أن يريه الدّابة، فخرجت ثلاثة أيّام ولياليهنّ تذهب في السماء، وأشاره بيده لا يرى واحداً من طرفيها، فرأى منظراً فظيعاً، فقال : ربّ ردّها، فردّها. ٨٣قوله عزّ وجل : {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} جماعة {مِّمَّن يُكَذِّبُ بَِايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ثمّ يُساقون إلى النار، وقال ابن عباس : يوزعون : يدفعون ٨٤{حَتَّى إِذَا جَآءُو} يوم القيامة {قَالَ} اللّه سبحانه لهم {حَتَّى إِذَا جَآءُو قَالَ أَكَذَّبْتُم بَِايَاتِى} ولم تعرفوا حقّ معرفتها {أم ماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فيها من تكذيب أو تصديق، وقيل : هو توبيخ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها، ولم تتفكّروا فيها؟ ٨٥{وَوَقَعَ الْقَوْلُ} ووجب العذاب {عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا} أشركوا {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} لأنّ أفواههم مختومة. وقال أكثر المفسّرين : {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} بحجّة وعذر، نظيره قوله سبحانه : {هذا يَوْمَ لاَ يَنْطِقُوْنَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُوْن} ٨٦{ألَمْ يَرَوْا أنَّا جَعَلْنَا} خلقنا {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ} مضيئاً يُبصَر فيه {إِنَّ فِى ذلك } الذي ذكرت {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدّقون فيعتبرون قوله تعالى : ٨٧{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ} وهي النفخة الأولى. أخبرنا محمّد عبداللّه بن حامد الوزّان قال : أخبرنا محمّد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أسباط قال : حدّثنا سلمان التميمي، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبداللّه بن عمرو قال : جاء إعرابي إلى النبي (صلى اللّه عليه وسلم) فسأله عن الصُّور، فقال : (قرن ينفخ فيه). وقال مجاهد : الصُّور كهيئة البوق، وقيل : هو بلغة أهل اليمن، وعلى هذا أكثر المفسّرين، يدلّ عليه قول النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يُؤمَر فينفخ). وقال قتادة وأبو عبيدة : هو جمع صورة يقال : صورة وصور، وصور : مثل سور البناء والمسجد، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة : سرت إليها في أعالي السور فمعنى الآية : ونفخ في صور الخلق. وقد ورد في كيفيّة نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمّد بن عبداللّه بن ابراهيم الشافعي ببغداد، قال : أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال : أخبرني أبو عاصم الضحّاك بن مخلد، عن إسماعيل بن رافع، عن محمّد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّ اللّه عزّ وجلّ لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى؟ قال : قلت يا رسول اللّه : وما الصور؟ قال : القرن، قال : قلت : كيف هو؟ قال : عظيم، والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه بثلاث نفخات : الأُولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين، فأمر اللّه عزّ وجل إسرافيل (عليه السلام) بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلاّ من شاء اللّه، فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول اللّه عزّ وجلّ : {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} فيسيّر اللّه عزّ وجلّ الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سراباً، وترجّ الأرض بأهلها رجّاً فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح، أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول اللّه عزّ وجلّ : {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذ واجفة} فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهنا، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول اللّه عزّ وجلّ {يوم التناد يوم يولّون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم} . فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إليّ قطروا أو أمراً عظيماً لم يروا مثله، وأخذهم من الكرب والهول ما اللّه به عليمٌ، ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل، ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها. قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك). قال أبو هريرة : يا رسول اللّه فمن استثنى اللّه عزّ وجلّ حيث يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلاّ من شاء اللّه}. قال (صلى اللّه عليه وسلم) (أُولئك هم الشهداء وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربّهم يرزقون ووقيهم اللّه فزع ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب بعثه اللّه تعالى إلى شرار خلقه، وهو الذي يقول اللّه {يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زَلزَلة الساعة شيءٌ عظيم} إلى قوله {وإنّ عذاب اللّه شديد} فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء اللّه إلاّ أنّه يطول عليهم، ثمّ يأمر اللّه عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلا مَن شَآءَ اللّه} فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلاّ من شئت، فيقول اللّه سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا فيقول اللّه عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق اللّه العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل، فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان. ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنتّ الحيّ الذي لا تموت وبقيتْ حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون، فيأمر اللّه العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت. ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمتْ فيموت فإذا لم يبق إلاّ اللّه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وكان آخراً كما كان أوّلا طوى السموات كطيّ السِجِلِّ للكتب. ثمّ قال : أنا الجبّار، لمن الملك اليوم، ولا يجيبه أحد، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : للّه الواحد القهّار {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات مطويّات فيبسطها بسطا} ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكافي {لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً} . ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل، من كان في بطنها، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثمّ ينزل اللّه سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال، ثمّ يأمر السحاب أن تُنزل بمطر أربعين يوماً حتى يكون)من فوقهم) إثنا عشر ذراعاً، ويأمر اللّه سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت، قال اللّه سبحانه : ليَحيَ حملة العرش، فيحيون. ثمّ يقول اللّه تعالى : ليَحيَ جبريل وميكائيل. فيحييان، فيأمر اللّه إسرافيل، فيأخذ الصور فيضعه على فيه، ثمّ يدعو اللّه الأرواح فيؤتى بها، تتوهّج أرواح المؤمنين نوراً والأخرى ظلمة، فيقبضها جميعاً ثمّ يلقيها على الصور، ثمّ يأمر اللّه سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض، فيقول اللّه سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده، فتدخل الأرواح الخياشم، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ. ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعاً، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عُراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافرون : هذا يومٌ عَسِر). قوله عزّ وجل : {فَفَزِعَ} أي فيفزع، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها أذا، لأنّ إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك : أزورك إذا زرتني، وأزورك إذا تزورني. {مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللّه} أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنّهم الشهداء {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص {أَتَوْهُ} مقصوراً على الفعل بمعنى جاءوه عطفاً على قوله : {فَزَعٍ} و{أَتَوْهُ} اعتباراً بقراءة ابن مسعود. أخبرنا محمّد بن نعيم قال : حدّثنا الحسين بن أيّوب قال : حدّثنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا هشام، عن مغيرة، عن إبراهيم، وأخبرنا محمّد بن عبدوس قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا محمّد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني عدّة، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلّهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال : قرأت على عبداللّه بن مسعود {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} بتطويل الألف، فقال : {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} قصره وقرأ الباقون بالمدّ وضمّ التاء على مثال فاعلوه كقوله : {وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وهي قراءة عليح {دَاخِرِينَ} صاغرين. ٨٨قوله تعالى : {وَتَرَى الْجِبَالَ} يا محمّد {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} قائمة واقفة مستقرّة مكانها. {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} حين تقع على الأرض فتستوي بها. قال القتيبي : وذلك أنّ الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالواقفة وهي تسير، وكذلك كلّ شيء عظيم وكلّ جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمته ويُعْد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير، وإلى هذا ذهب الشاعر في وصف جيش : يأرعن مثل الطود تحسب أنّهم وقوف لحاج والركاب تهملج {صُنْعَ اللّه} نُصب على المصدر وقيل : على الإغراء أي اعلموا وابصروا {الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ} أي أحكم (كلّ شيء، قتادة) : أحسن. {إِنَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَفْعَلُونَ} قرأ أهل الكوفة {تَفْعَلُونَ} بالتاء. غيرهم بالياء، واختار أبو عبيدة بقوله : {أَتَوْهُ} إنّما هو خبر عنهم ٨٩{مَن جَآءَ} أي وافى اللّه {بِالْحَسَنَةِ} بالإيمان. قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ما يستثني أنّ الحسنة : لا إلهَ إلاّ اللّه، قتادة : بالإخلاص. وأخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد ابن شنبه قال : حدّثنا عبيد اللّه بن أحمد بن منصور قال : حدّثنا سهل بن بشر قال : حدّثنا عبداللّه بن سليمان قال : حدّثنا سعد بن سعيد قال : سمعت علي بن الحسين يقول : رجل غزا في سبيل اللّه، فكان إذا خلا المكان قال : لا إلهَ إلاّ اللّه وحده لا شريك له، فبينما هو ذات يوم في أرض الروم في موضع في حلفاء وبرديّ رفع صوته يقول : لا إلهَ إلاّ اللّه وحده لا شريك له، خرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض، فقال : يا عبداللّه ما ذات قلت؟ قال : قلت الذي سمعت، والذي نفسي بيده إنّها الكلمة التي قال اللّه عزّ وجل : {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} . {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يومئذ ءَامِنُونَ} وأخبرني أبو عبداللّه محمّد بن عبداللّه العباسي قال : أخبرنا القاضي أبو الحسين محمّد بن عثمان (النصيبي ببغداد) قال : حدّثنا أبو بكر محمّد ابن الحسين السبيعي بحلب قال : حدّثني الحسين بن إبراهيم الجصّاص قال : أخبرنا حسين بن الحكم قال : حدّثنا اسماعيل بن أبان، عن (فضيل) بن الزبير، عن أبي داود السبيعي، عن أبي عبداللّه الهذلي قال : دخلت على علي بن أبي طالب ح، فقال : يا عبداللّه ألا أنبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله اللّه الجنّة، والسيّئة التي من جاء بها أكبّه اللّه في النار، ولم يقبل معها عمل؟ قلت : بلى، قال : الحسنة حُبّنا والسيّئة بُغضنا {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أي فله من هذه الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب، قال ابن عباس : {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} أي فمنها يصل إليه الخير، الحسن : معناه له منها خير، عكرمة وابن جريج : أمّا أن يكون له خير من الإيمان فلا، وإنّه ليس شيء خير من لا إله إلاّ اللّه ولكن له منها خير، وعن ابن عباس أيضاً {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} يعني الثواب لأنّ الطاعة فعل العبد والثواب فعل اللّه سبحانه. وقيل : هو إنّ اللّه عزّ وجل يقبل إيمانه وحسناته، وقبول اللّه سبحانه خيرٌ من عمل العبد، وقيل : {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} يعني رضوان اللّه سبحانه، قال اللّه تعالى : {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ} . وقال محمّد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} يعني الإضعاف، أعطاء اللّه الحسنة بالواحدة عشراً صاعداً، فهذا خيرٌ منها، وقد أحسن بن كعب وابن زيد في تأويلهما لأنّ للإضعاف خصائص منها أنّ العبد يُسئل عن عمله ولا يُسأل عن الإضعاف، ومنها أنّ للشيطان سبيلا إلى عمله ولا سبيل له إلى الإضعاف، ولأنّه لا مطمع للخصوم في الإضعاف، ولأنّ دار الحسنة الدنيا ودار الإضعاف الجنّة، ولأنّ الجنّة على استحقاق العبد، والتضعيف كما يليق بكرم الربّ {وَهُم مِّن فَزَعٍ يومئذ ءَامِنُونَ} قرأ أهل الكوفة {فَزَعٍ} منوناً {يومئذ} بنصب الميم وهي قراءة ابن مسعود، وسائر القرّاء قرأوا بالإضافة واختاره أبو عبيد قال : لأنّه أعمّ التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال : {مِّن فَزَعٍ يومئذ} صار كأنّه فزع دون فزع، وهو اختيار الفرّاء أيضاً، قال : لأنّه فزع معلوم، ألا ترى أنّه قال : {يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ اكْبَرُ} فصيّر معرفة؟ فإذا أضفته كان معرفة فهو أعجب إلي ٩٠{وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} يعني الشرك. أخبرنا عبداللّه بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدّثنا عبداللّه بن هاشم قال : حدّثنا عبدالرحمن، عن سفيان، عن أبي المحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم {مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ} قال : لا إلهَ إلاّ اللّه. {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} قال : الشرك. وأخبرنا عبد بن حامد قال : أخبرنا أبو الحسن محمّد بن شعيب البيهقي قال : حدّثنا بشر ابن موسى قال : حدّثنا روح، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال : ثمن الجنّة لا إلهَ إلاّ اللّه. {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ} قال ابن عباس : أُلقيت، الضحّاك : طرحت، أبو العالية : قلبت، وقيل لهم : {هَلْ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّمَا أُمِرْت} يقول اللّه سبحانه لنبيّه محمّد (عليه السلام) قل : ٩١{إِنَّمَآ أُمِرْتُ} {أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذه الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا} يعني مكّة جعلها حرماً آمناً، فلا يسفك فيها دم حرام، ولا يظلم فيها أحد، ولا يهاج، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلي خلالها، وقرأ ابن عباس (التي حرمها) إشارة إلى البلدة. {وَلَهُ كُلُّ شَىْءٍ} خلقاً ومُلكاً ٩٢{وَأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ وَأنْ أتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أنَا مِنَ المُنذِرِين} {وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَاغُ} نسختها آية القتال ٩٣{وَقُلِ الْحَمْدُ للّه} على نعمه، {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} يعني يوم بدر، نظيرها في سورة الأنبياء : {سأُريكم آياتي فلا تستعجلون} وقال مجاهد : {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق، دليله قوله : {سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِى افَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ} وقوله : {وَفِي الأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوْقِنِيْنَ وَفِي أَنْفُسكم} {فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . |
﴿ ٠ ﴾