سورة العنكبوت

مكية،

وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفاً،

وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة،

وتسع وستون آية.

أخبرنا الخباري قال : أخبرنا ابن حيان،

قال : أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال : حدثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدثنا يوسف بن عطية قال : حدثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم،

عن أبيه،

عن أبي أمامة،

عن أبي بن كعب،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين).

بسم اللّه الرحمن الرحيم

١-٢

{ألم أحسب} أظن وأصله من الحساب {النَّاسِ} يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من أذى المشركين {أَن يُتْرَكُوا} بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا : {مِن} كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب،

(إن) الأولى منصوبة ب والثانية خفض بنزع الخافض،

أي لأن يقولوا،

والعرب لا تقول : تركت فلاناً أن يذهب،

إنّما تقول : تركته يذهب،

معه جوابان : أحدهما يشتركوا لأن يقولوا،

والثاني : على التكرير تقديره : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا} أحسبوا {أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ يُفْتَنُونَ} لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق،

وقيل : {يُفْتَنُونَ} يصابون بشدائد الدنيا،

يعني : أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم : {مِن} .

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية،

فقال ابن جريج وابن عمير : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في اللّه.

وقال الشعبي : نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام،

فكتب إليهم أصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا،

فخرجوا عائدين إلى المدينة،

فاتبعهم المشركون فردوهم،

فنزلت فيهم هذه الآية،

فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا،

فقالوا : نخرج،

فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا،

فاتبعهم المشركون،

فقاتلوهم،

فمنهم من قتل ومنهم من نجا،

فأنزل اللّه سبحانه فيهم هاتين الآيتين،

وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد اللّه مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله،

فقال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة)،

فجزع عليه أبواه وامرأته،

فأنزل اللّه سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لابد لهم من البلاء والمشقة في ذات اللّه تعالى،

وقيل : {وَهُمْ يُفْتَنُونَ} بالأوامر والنواهي.

ثم عزّاهم،

٣

فقال عز من قائل : {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّه الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} واللّه تعالى عالم بهم قبل الإختبار،

وعلمه قديم تام،

وإنّما معنى ذلك : فليظهرنّ اللّه تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة.

قال مقاتل : فليرين اللّه،

الأخفش : فليميزنّ اللّه.

وقال القتيبي : علم اللّه سبحانه نوعان : أحدهما : علم شيء كان يعلم إنّه كان،

والثاني : علم شيء يكون،

فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائناً واقعاً إلاّ بعد كونه ووقوعه،

بيانه قوله سبحانه : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين،

فكذلك هاهنا فليعلمنّ اللّه ذاك موجوداً كائناً وهذا سبيل علم اللّه في الإستقبال.

٤

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} الشرك {أَن يَسْبِقُونَا} يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم فلا يقدر على الإنتقام منهم {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء حكمهم الذي يحكمون

٥

{من كان يرجوا لقاء اللّه} قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث. سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب اللّه {فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لآتٍ} يعني ما وعد اللّه من الثواب والعقاب الكائن

٦-٧

{وهو السميع العليم ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه} له ثوابه. {إنّ اللّه لغنيٌ عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولنجزينّهم أحسن الذي كانوا يعملون} أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة.

٨

{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} اختلف النحاة في وجه نصب الحسن،

فقال أهل البصرة : على التكرير تقديره ووصيناه حسناً أي بالحسن،

كما يقول : وصيته خيراً،

أي بخير،

وقال أهل الكوفة : معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً،

فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز :

عجبت من دهماء إذ تشكونا

ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيراً بها كأنّنا جافونا

أي يوصينا أن نفعل بها خيراً،

وهو مثل قوله : {فَطَفِقَ مَسْحَا} أي يمسح مسحاً.

وقيل معناه : وألزمناه حسناً،

وقرأ العامة {حَسَنًا} بضم الحاء وجزم السين،

وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين.

وفي مصحف أبي {إِحْسَانًا} نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص : مالك بن وهبان،

وذلك إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : يا سعد بلغني إنّك صبوت فواللّه لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه،

وكان أحب ولدها إليها،

فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل،

فأتى سعد النبي (عليه السلام) وشكا ذلك إليه فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف،

فأمره النبي (صلى اللّه عليه وسلم) أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه : {وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إنّه لي شريك {فَلا تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قراءة قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد اللّه بن هاشم قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا نمير بن حكيم،

عن أبيه،

عن جده،

قال : قلت : يا رسول اللّه من أبرّ؟

قال : (أمّك)،

قلت : ثم من؟

قال : (أمّك)،

قلت : ثم من؟

قال : (ثم أمّك)،

قلت : ثم من؟

قال : (ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب).

وأخبرنا عبد اللّه إجازة قال : أخبرنا عثمان بن أحمد قال : حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال : حدثنا منصور بن مهاجر قال : حدثنا أبو النصر الأبار،

عن أنس بن مالك قال : قال النبي (صلى اللّه عليه وسلم) (الجنة تحت أقدام الأمهات).

٩

{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ} أي في زمرتهم وجملتهم،

وقال محمد بن جرير : أي في مدخل الصالحين وهو الجنة،

وقيل : {فِى} بمعنى مع،

والصالحون هم الأولياء والأنبياء.

١٠

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّه فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللّه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي أذاهم وعدائهم {كَعَذَابِ اللّه} في الآخرة فارتد عن إيمانه {وَلَ ن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ} هؤلاء المرتدون {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} وهم كاذبون

١١

{أو ليس اللّه بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمنّ اللّه الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين} أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالإبتلاء والاختبار والفتن والمحن.

واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية :

فقال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم،

فإذا أصابهم بلاء من اللّه ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون،

فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس : نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر،

فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم {إنّ الذين توفهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ... الآية،

وقد مضت القصة. قتادة : نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة.

وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا،

وسائرها مكي،

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد اللّه بن عمر بن مخزوم القرشي،

وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (عليه السلام) ،

فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لاتأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأساً ولا تدخل لبيتاً حتى يرجع إليها،

فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأُمّه جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه،

فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة : قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها باراً،

وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتاً حتى ترجع إليها،

وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين،

فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها،

فلم يزالا به حتى أخذ عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه،

فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما،

وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت،

قالا : فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد (رحمهما اللّه) جزعاً من الضرب وقال ما لا ينبغي،

فأنزل اللّه سبحانه فيه : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللّه فَإِذَآ أُوذِىَ} ... الآية.

قالا : وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا،

فحلف عياش باللّه لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنّ عنقه،

فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حيناً ثم هاجر النبي (صلى اللّه عليه وسلم) والمؤمنون إلى المدينة،

فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه.

ثم إنّ اللّه تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث بن هشام،

فهاجر إلى المدينة وبايع النبي (عليه السلام) على الإسلام ولم يحضر عياش،

فلقيه عياش يوماً بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه،

فضرب عنقه،

فقيل له : إنّ الرجل قد أسلم،

فاسترجع عياش وبكى،

ثم أتى النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك،

فأنزل اللّه سبحانه وتعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَئا} ... الآية.

١٢

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من أهل مكة {لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أوزاركم،

قال الفراء : لفظة أمر ومعناه : جزاء،

مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه : {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} وقوله سبحانه : {يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر :

فقلت ادعي وادع فإنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان

يريد إن دعوت دعوتُ.

فأكذبهم اللّه تعالى،

١٣

فقال : {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون وليحملُنّ أثقالهم} أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل اللّه {وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} نظيرها و{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} الآية.

روي عوف،

عن الحسن أنّ النبي (عليه السلام) قال : (أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً وأيما داع دعا إلى ضلالة،

فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) ثم قرأ الحسن {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد اللّه بن هاشم قال : حدثنا أبو معاوية،

عن الأعمش،

عن مسلم،

عن عبد الرحمن بن هلال العنسي،

عن جرير قال : خطبنا رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) فحثّنا على الصدقة،

فأبطأ الناس حتى رُئي في وجهه الغضب،

ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها،

فتتابع الناس،

فأعطوا حتى رُئي في وجهه السرور،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء،

ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

١٤

{وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} .

قال ابن عباس : بعث نوح (عليه السلام) لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا.

١٥-١٧

{فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا اللّه واتقوه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون إنّما تعبدون من دون اللّه أوثاناً وتخلقون إفكاً} .

ويقولون كذباً،

وقال مجاهد : وتصنعون أصناماً بأيديكم فتسمونها آلهة،

نظيره قوله سبحانه : {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ،

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} على المبالغة والكثرة. {إنّ الذين تعبدون من دون اللّه لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللّه الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون }

١٨

{وإن تكذّبوا فقد كذّب أمم من قبلكم} فاهلكوا {وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين }

١٩

{أو لم يروا} بالتاء كوفي غيرهم بالياء {كيف يُبدىء اللّه الخلق ثم يعيده إنّ ذلك على اللّه يسيرٌ }

٢٠-٢١

{قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ} اللّه،

{الْخَلْقِ} يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئاً فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيداً.

{ثُمَّ اللّه يُنشِئُ النَّشْأَةَ} أي يبدأ البدأة {الآخِرَةُ} بعد الموت.

وفيها لغتان : بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت،

و بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس ونظيرها الرأفة،

والرأفة {إنّ اللّه على كلّ شيء قديرٌ يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} تردون.

٢٢

{وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَلا فِى السَّمَآءِ} اختلف أهل المعاني في وجهها،

فقال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجز،

وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت :

فمن يهجو رسول اللّه منكم

ويمدحه وينصره سواء

أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.

وقال قطرب : ولا في السماء لو كنتم فيها،

كقولك : ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي،

وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها.

٢٣

{وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا نصير والذين كفروا بآيات اللّه ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليمٌ} فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيراً وتحذيراً لأهل مكة،

ثم عاد إلى قصة إبراهيم،

٢٤

فقال عز من قائل : {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}

قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا : في محل الرفع على اسم كان،

وقرأ سالم الأفطس {جَوَابَ} رفعاً على اسم كان،

وإن موضعه نصب على خبره {إِلا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللّه مِنَ النَّارِ} وجعلها عليه برداً وسلاماً،

قال كعب : ما حرقت منه إلاّ وثاقه.

٢٥

{إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال} يعني إبراهيم (عليه السلام) لقومه : {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللّه أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} اختلف القرّاء فيها،

فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب {مَّوَدَّةَ} رفعاً {بَيْنِكُمْ} خفضاً بالإضافة،

واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى : أنّ الذين اتخذتم من دون اللّه أوثاناً هي {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} . {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم} لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله : ({لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار} ثم قال : {بَلَاغٌ} ) أي هذا بلاغ،

وقوله سبحانه : ({يُفْلِحُونَ} ثم قال : {مَتَاعَ} ) أي هو متاع،

فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن.

وقرأ عاصم في بعض الروايات {مَّوَدَّةَ} مرفوعة منونة {بَيْنِكُمْ} نصباً وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى،

وقرأ حمزة {مَّوَدَّةَ} بالنصب {بَيْنِكُمْ} بالخفض على الإضافة بوقوع الإتحاد عليها وجعل إنّما حرفاً واحداً وهي رواية حفص عن عاصم،

وقرأ الآخرون : {مَّوَدَّةَ} نصباً منونة {بَيْنِكُمْ} بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا.

{مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا} تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها.

{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} وتتبرأ الأوثان من عابديها {وَمَأْوَ اكُمُ} جميعاً العابدون والمعبودون

٢٦-٢٧

{النار وما لكم من ناصرين فآمن لَهُ لوط} وهو أول من صدق إبراهيم (عليه السلام) حين رأى أنّ النار لم تضرّه.

{وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى} فهاجر من كوتي من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة،

وهو أول من هاجر،

قال مقاتل : هاجر إبراهيم (عليه السلام) وهو ابن خمس وسبعين سنة.

{إنّه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذرّيته النبوّة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنّه في الآخرة لمن الصالحين}.

٢٨-٢٩

{وَلُوطًا} فاذكر لوطاً {إذ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنّكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم} مجلسكم {الْمُنكَرَ} .

حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي،

قال : حدثنا جدي لأُمّي أبو الحسن المحمودي،

قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : أنّ بشر بن معاذ العمقدي حدثهم قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا حاتم بن أبي صغيرة،

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا عمير بن مرداس الدونقي،

قال : حدثنا عبد اللّه بن الزبير الحميدي،

قال : حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال : حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة،

عن سماك بن حرب،

عن أبي مولى أم هانيء،

عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت : سألت رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) عن قوله سبحانه : {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون؟

قال : (كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم).

وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين،

قال : حدثنا موسى بن محمد،

قال : حدثنا الحسن بن علوية،

قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى،

قال : حدثنا المسيب،

قال : سمعت زياد بن أبي زياد يحدّث عن معاوية قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إنّ قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كلّ رجل منهم قصعة فيها حصى،

فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه،

فأيهم أصابه كان أولى به)وذلك قول اللّه سبحانه : {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (إيّاكم والخذف فإنّه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد،

ولكن يفقأ العين ويكسر السن).

وأخبرنا الحسين قال : أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال : حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري،

قال : حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي،

قال : حدثنا هارون بن حاتم،

قال : أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني،

عن أبيه،

عن يزيد بن بكر بن دأب،

عن القاسم بن محمد {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} قال : الضراط،

كانوا يتضارطون في مجالسهم،

وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم.

أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال : حدثنا أبو العباس التباني قال : حدثنا أبو لبيد السرخسي،

قال : حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق،

قال : حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول،

قال : عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط : مضغ العلك،

وتطويق الأصابع بالحناء،

وحل الأزار،

وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس،

والسلينية،

ورمي الجلاهق،

والصفير،

والخذف،

واللوطية.

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّه إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إنّه نازل بنا وذلك إنّه أوعدهم العذاب،

٣٠-٣١

{قَالَ} لوط {ربّ انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} من اللّه سبحانه اسحاق ويعقوب : {قالوا إنّا مهلكوا أهل هذه القرية} يعني قوم لوط {إنّ أهلها كانوا ظالمين }

٣٢-٣٣

{قال} إبراهيم للرسل : {إنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطا} وحسب إنّهم من الإنس {سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقالوا لا تخف ولا تحزن إنّا منجّوك وأهلك إلاّ امرأتك كانت من الغابرين }

٣٤-٣٥

{إنّا منزلون على أهل هذه القرية رجزا} عذاباً {من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بيّنة} عبرة ظاهرة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وهي الخبر عما صنع بهم،

وقال ابن عباس : هي آثار منازلهم الخرباء. أبو العالية وقتادة : هي الحجارة التي ألقاها اللّه. مجاهد : الماء الأسود على وجه الأرض.

٣٦

{وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال : يا قوم اعبدوا اللّه وارجوا اليوم الآخر} وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني ابن شنبه قال : حدثنا أبو حامد المستملي قال : حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال : حدثنا محمد بن سلامة الجمحي قال : قال يوسف النحوي : {وَارْجُوا الْيَوْمَ اخِرَ} يعني اخشوا {ولا تعثوا فِى الأرض مُفْسِدِينَ

٣٧-٣٨

* وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ} في الضلالة،

قال مجاهد وقتادة : {مُسْتَبْصِرِينَ} في ضلالهم معجبين بها. الفراء : عقلاء ذوي بصائر. ضحاك ومقاتل والكلبي : حسبوا إنّهم على الهدى والحق وهم على الباطل.

٣٩

{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الأرض وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} فائتين من عذابنا

٤٠

{فَكُلا أَخَذْنَا} عاقبنا {بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} ريحاً تأتي في الحصباء،

وهي الحصى الصغار،

وهم قوم لوط {وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} يعني ثموداً. {وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض} قارون وأصحابه {وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} فرعون وقومه وقوم نوح.

{وَمَا كَانَ اللّه لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

٤١

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللّه أَوْلِيَآءَ} يعني : الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} لنفسها كيما يكنّها فلم يغن عنها بناؤها شيئاً عند حاجتها إياه،

فكما أنّ بيت العنكبوت لا يدفع عنها برداً ولا حراً كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً.

{وَإِنَّ أَوْهَنَ} أضعف {الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} قال النحاة : العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها،

وقد يذكّرها بعض العرب،

أنشد الفراء :

على هطالهم منهم بيوت

كأنّ العنكبوت هو ابتناها

وزنته فعللون.

أخبرني ابن فنجويه،

قال : حدثنا ابن شنبه،

قال : حدثنا أبو حامد المستملي،

قال : حدثنا محمد بن عمران الضبي،

قال : حدثني محمد بن سليمان المكي،

قال : حدثني عبد اللّه بن ميمون القداح،

قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي يقول : قال علي بن أبي طالب : طهّروا بيوتكم من نسيج العنكبوت،

فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر،

قال : سمعت علياً يقول : منع الخميرة يورث الفقر.

٤٢

{إِنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال : لذكر الأمم قبلها. واختلف فيها عن عاصم،

غيرهم بالتاء.

٤٣

{من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال} الأشياء والأوصاف،

والمثل : قول سائر يشبّه حال الثاني بالأول {نَضْرِبُهَا} يبيّنها {لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ} . أخبرني ابن فنجويه،

قال : حدثنا ابن مندة قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا داود بن المخبر قال : حدثنا عباد بن كثير،

عن أبي جريج،

عن عطاء وأبي الزبير،

عن جابر أنّ النبي (صلى اللّه عليه وسلم) تلا هذه الآية : {وَتِلْكَ امْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ} فقال : (العالم من عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه).

٤٤-٤٥

{خلق اللّه السموات والأرض بالحق إنّ في ذلك لآية للمؤمنين أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال ابن عمر : تغني. الفراء : أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله : {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} أي بقراءتك. وقال آخرون : هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود.

قال ابن مسعود وابن عباس : يقول : في الصلاة : منتهى ومزدجر عن معاصي اللّه سبحانه وتعالى،

فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من اللّه إلاّ بعداً. وقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا صلاة لمن لم يطع الصلاة،

وإطاعة الصلاة أن تنهي عن الفحشاء والمنكر).

وروى أبو سفيان عن جابر قال : قيل لرسول اللّه ( (صلى اللّه عليه وسلم) : إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل،

فقال : (إنّ صلاته لتردعه).

وقال أنس بن مالك : كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلاّ ركبه،

فوصف لرسول اللّه (عليه السلام) حاله،

فقال : (إنّ صلاته تنهاه يوماً ما)،

فلم يلبث أن تاب وحسن حاله،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (ألم أقل لكم إنّ صلاته تنهاه يوماً ما).

وقال ابن عون : معناه أنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها،

وقال أهل المعاني : ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله : {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا} .

{وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} اختلفوا في تأويله،

فقال قوم : معناه {وَلَذِكْرُ اللّه} إياكم أفضل من ذكركم إياه،

وهو قول عبد اللّه وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير،

ورواية عبد اللّه بن ربيعة عن ابن عباس،

وقد روى ذلك مرفوعاً :

أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري،

قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني،

قال : حدثني أحمد بن علي بن الحسين،

قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي،

قال : حدثنا الحسين اللّهبني،

قال : حدثنا صالح بن عبد اللّه بن أبي فروة،

عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة،

عن عمّه موسى بن عقبة،

عن نافع،

عن ابن عمر إنّ رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) قال في قول اللّه سبحانه : {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} قال : (ذكر اللّه إياكم أكبر من ذكركم إياه).

قالت الحكماء : لأنّ ذكر اللّه سبحانه للعبد على حدّ الاستغناء،

وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار،

ولأنّ ذكره دائم،

وذكر العبد مؤقت،

ولأنّ ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر،

وذكر اللّه سبحانه إياه للفضل والكرم. وقال ذو النون : لأنّك ذكرته بعد أن ذكرك،

وقال ابن عطاء : لأنّ ذكره لك بلا علة،

وذكرك مشوب بالعلل. أبو بكر الوراق : لأنّ ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له،

ولأنّ ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق. وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة : معناه ولذكر اللّه أكبر مما سواه وهو أفضل من كل شيء.

أخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن محمد بن محمد الثقفي الحافظ قال : حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي،

قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد،

عن جويبر عن الضحاك،

عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) في قوله : {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} قال : (ذكر اللّه على كل حال أحسن وأفضل،

والذكر أن نذكره عند ما حرم،

فندع ما حرم ونذكره عند ما أحل فنأخذ ما أحل).

وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال : حدثنا إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال : سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد اللّه القراظ،

عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) نسير بالدف من حمدان إذ استنبه،

فقال : (يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر اللّه،

من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللّه سبحانه).

قال إسحاق بن سليمان : سمعت حريز بن عثمان يحدث،

عن أبي بحرية،

عن معاذ بن جبل،

قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه سبحانه،

قالوا : ولا الجهاد في سبيل اللّه؟

قال : لا ولو ضرب بسيفه،

قال اللّه سبحانه : {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} . وأخبرني الحسين بن محمد،

قال : حدثنا ابن شنبه،

قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني،

قال : حدثنا يحيى بن عمار المصيصي،

قال : حدثنا أبو أسامة،

عن عبد الحميد بن جعفر،

عن صالح بن أبي غريب،

عن كثير بن مرة الحضرمي،

قال : سمعت أبا الدرداء يقول : ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم،

وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم،

وخير من إعطاء الدنانير والدراهم،

قالوا : وما هو يا أبا الدرداء؟

قال : ذكر اللّه،

قال اللّه سبحانه : {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} .

وقيل لسلمان : أي العمل أفضل؟

قال : أما تقرأ القرآن {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} لا شيء أفضل من ذكر اللّه سبحانه.

وأنبأني عبد اللّه بن حامد،

قال : أخبرنا محمد بن يعقوب،

قال : حدثنا حميد بن داود،

قال : حدثني يزيد بن خالد قال : حدثنا عبد الرحمن بن ثابت،

عن أبيه،

عن مكحول،

عن جبير ابن هبير،

عن مالك بن عامر،

عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول اللّه ( : أي الأعمال أحب إلى اللّه تعالى؟

قال (صلى اللّه عليه وسلم) (أن تموت ولسانك رطب من ذكر اللّه).

وأنبأني عبد اللّه بن حامد،

قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم،

قال : حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي،

قال : حدثنا خالد بن يزيد العمري،

قال : حدثنا سفيان الثوري،

عن عطاء بن قرة،

عن عبد اللّه بن ضمرة،

عن أبي هريرة،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها،

إلاّ ذكر اللّه عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم).

قالت الحكماء : وإنّما كان الذكر أفضل الأشياء لأنّ ثواب الذكر الذكر،

قال اللّه تعالى : {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} ويؤيد هذا ما أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان،

قال : حدثنا عبد اللّه بن هشام،

قال : حدثنا أبو معاوية،

عن الأعمش،

عن أبي صالح،

عن أبي هريرة،

قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (يقول اللّه عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني،

فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي،

وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم،

وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً،

وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً،

ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).

وأخبرنا عبد اللّه،

قال : أخبرنا علي،

قال : أخبرنا عبد اللّه بن هاشم،

قال : حدثنا عبد الرحمن،

قال : حدثنا سفيان،

عن أبي إسحاق،

عن الأعز أبي مسلم،

قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنّهما شهدا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) إنّه قال : (ما جلس قوم يذكرون اللّه سبحانه إلاّ حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم فيمن عنده).

وأخبرني ابن فنجويه،

قال : حدثنا ابن شيبة،

قال : حدثنا الفرباني،

قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه،

قال : حدثنا عبد اللّه،

عن إسرائيل،

عن السدي،

عن أبي مالك {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} قال : ذكر اللّه العبد في الصلاة أكبر من الصلاة. ابن عون : معناه : الصلاة التي أنت فيها وذكرك اللّه فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر،

وقال ابن عطاء : {وَلَذِكْرُ اللّه أَكْبَرُ} من أن تبقى معه بالمعصية.

{وَاللّه يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .

٤٦

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ}

الجدال : فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه،

وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر : أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه،

وقيل : الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض.

{إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} ألطف وأرفق،

وهو الجميل من القول والدعاء إلى اللّه والبينة على آيات اللّه وحججه.

{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قال مجاهد : يعني إن قالوا شراً فقولوا خيراً {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب،

فأولئك انتصروا منهم وجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يقرّوا بالجزية. قال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب من لا عهد لهم فجادلوهم بالسيف. ابن زيد : {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم.

ومجاز الآية : إلاّ الذين ظلموكم لأنّ جميعهم ظالم. وقال قتادة ومقاتل : هذه الآية منسوخة بقوله : {قَاتِلُوا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّه} ... الآية.

{وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن حمدون،

قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن،

قال : حدثنا محمد بن يحيى،

قال : حدثنا عبد الرزاق،

عن معمر،

عن الزهري،

قال : أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري : إنّ أبا نملة أخبره واسمه (عمّار) إنّه بينما هو عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) جالس جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة.

فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اللّه أعلم)،

فقال اليهودي : إنّها تتكلم.

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (اذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا باللّه وكتبه ورسله،

فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوهم).

وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية،

فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام،

فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) {وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} ... الآية).

وروى سفيان ومسعود،

عن سعد بن إبراهيم،

عن عطاء بن يسار قال : بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبّحون كلما ذكر شيئاً من أمرهم،

قال : فأتوا رسول اللّه (عليه السلام) فأخبروه،

فقال : (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن {قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}).

٤٧

{والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك} أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم. {وَ كذلك أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ} يعني مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام وأصحابه.

{وَمِنْ هؤلاء} الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلا الْكَافِرُونَ} قال قتادة : إنّما يكون الجحود بعد المعرفة.

٤٨

{وما كنت تتلوا} يا محمد {مِن قَبْلِهِ} أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك {مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ} تكتبه {بِيَمِينِكَ إِذًا رْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} يعني : لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب قبل الوحي إذاً لشك المبطلون أي المشركون من أهل مكة وقالوا : هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه،

قاله قتادة.

وقال مقاتل : {الْمُبْطِلُونَ} هم اليهود،

ومعنى الآية : إذا لشكّوا فيك واتهموك يا محمد،

وقالوا : إنّ الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب.

٤٩

{بَلْ هُوَ} يعني القرآن {بَيِّنَاتٍ فَسْ لْ} عن الحسن،

وقال ابن عباس وقتادة : بل هو يعني محمد (صلى اللّه عليه وسلم) والعلم بأنّه أمي {بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ} أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها في كتبهم. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميقع {بل هي آيات} .

٥٠

{وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربّه} كما أنزل على الأنبياء قبلك،

قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر {ءَايَةً} على الواحد،

الباقون {ءَايَاتُ} بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله : {قُلْ إِنَّمَا ايَاتُ عِندَ اللّه} حتى إذا شاء أرسلها،

وليست عندي ولا بيدي.

٥١

{وإنّما أنا نذيرٌ مبينٌ أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} هذا جواب لقولهم {لَوْ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} ،

وروى حجاج،

عن ابن جريج،

عن عمرو بن دينار،

عن يحيى بن جعدة أنّ أناساً من المسلمين أتوا نبي اللّه (عليه السلام) بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال : (كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم)،

فنزلت {أو لم يكفهم} ... الآية.

٥٢-٥٣

{قُلْ كَفَى بِاللّه بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} أني رسوله،

وأن هذا القرآن كتابه. {يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا باللّه أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء وقال : عجل لنا قطنا.

{وَلَوْ أَجَلٌ مُّسَمًّى} في نزول العذاب،

وقال ابن عباس : يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة،

بيانه قوله : {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} ... الآية،

وقال الضحاك : يعني مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل : يوم بدر.

{لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم} يعني العذاب وقيل : الأجل

٥٤

{بَغْتَةً وَهُمْ يَشْعُرُونَ * اخِءُ يَوْمَ ذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} لا يبقى منهم أحد إلاّ دخلها،

٥٥

وقيل : هو متصل بقوله : {يَوْمَ يَغْشَ اهُمُ} يصيبهم {الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} يعني : إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم.

{وَيَقُولُ} بالياء كوفي ونافع وأيوب،

غيرهم بالنون {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .

٥٦

{يا عبادي الذين آمنوا} بإرسال الياء عراقي غير عاصم،

سائرهم بفتحها {إِنَّ أَرْضِى} مفتوحة الياء ابن عامر،

غيره ساكنة {وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ} توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي،

قال سعيد بن جبير : إذا عُمِل في أرض بالمعاصي،

فاهربوا فإنّ أرضي واسعة.

مجاهد : {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ} فهاجروا وجاهدوا،

وقال مقاتل والكلبي : نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن،

يحثهم على الهجرة ويقول لهم : إنّ أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد اللّه بن الشخير : {أَرْضِى وَاسِعَةٌ} أي رزقي لكم واسع،

أُخرج من الأرض ما يكون بها.

أخبرنا عبد اللّه بن حامد،

قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان،

قال : حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي،

قال : حدثنا صالح بن محمد،

عن سليمان،

عن عباد بن منصور الناجي،

عن الحسين قال : قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) (من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام)).

٥٧

{كُلُّ نَفْسٍ ذَآقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فلا تقيموا بدار المشركين.

٥٨

{وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا} علالي،

قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء،

غيرهم بالياء أي لينزلنّهم

٥٩-٦٠

{أُولَائِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} وكم {مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} وذلك إنّ رسول اللّه (عليه السلام) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : (أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها).

فقالوا : يا رسول اللّه كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال،

فمن يطعمنا بها ويسقينا؟

فأنزل اللّه سبحانه : {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ} ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم.

{اللّه يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} يوماً بيوم {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوالكم : نخشى لفراق أوطننا العيلة. {الْعَلِيمُ} بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم.

أخبرني أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الثقفي،

قال : حدثنا عبد اللّه بن عبد الرحمن الرقاق،

وقال : حدثنا محمد بن عبد العزيز،

قال : حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي،

قال : حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي،

عن الزهري،

عن عطاء بن أبي رياح،

عن ابن عمر قال : دخلت مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه وسلم) حائطاً من حياطان الأنصار،

فجعل رسول اللّه (عليه السلام) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال : (كل يابن عمر)،

قلت : لا أشتهيها يا رسول اللّه،

قال : (لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاماً ولم أجده).

فقلت : إنّا للّه،

اللّه المستعان،

قال : (يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة،

ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين)،

فنزلت على رسول اللّه (عليه السلام) : {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} ... الآية.

أخبرني ابن فنجويه،

حدثنا ابن حنيش،

حدثنا أبو يعلى الموصلي،

حدثنا يحيى من معين،

حدثنا يحيى بن اليمان،

عن سفيان،

عن علي بن الأرقم {وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} قال : لا تدخر شيئاً لغد.

قال سفيان : ليس شيء مما خلق اللّه يخبّيء إلاّ الإنسان والفأرة والنملة.

٦١-٦٤

{ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر ليقولنّ اللّه فأنّى يؤفكون اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إنّ اللّه بكل شيء عليمٌ ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولنّ اللّه قل الحمد للّه بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ولكنهم لا يعلمون ذلك.

٦٥-٦٦

{فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ} وخافوا الغرق والهلاك {دعوا اللّه مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم} ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية {وَلِيَتَمَتَّعُوا} جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب،

واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير،

الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد ليكفروا لكون الكلام نسقاً. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب . {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

أخبرني أبو محمد عبد اللّه بن حامد فيما أذن لي روايته عنه قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد،

قال : حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت،

قال : حدثنا عقال،

قال : حدثنا جعفر بن سلمان قال : حدثنا ملك بن دينار،

قال : سمعت أبو العالية قرأ {لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} بالياء،

فالكسر على كي والجزم على التهديد.

٦٧

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ} بالأصنام {يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّه} يعني الإيمان

٦٨

{يكفرون ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً} فزعموا أنّ للّه شريكاً،

وقالوا إذا فعلوا فاحشة،

{قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا} .

{أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} بمحمد والقرآن {لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل

٦٩

{للكافرين والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبُلنا} أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه.

قال أبو سورة : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا} في الغزو {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} سبيل الشهادة أو المغفرة.

أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه،

قال : حدثنا عبد اللّه بن محمد بن وهب،

قال : حدثنا إبراهيم بن سعيد،

قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ اللّه سبحانه وتعالى يقول : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} .

وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينّهم سبل العمل به.

وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد،

قال : حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون،

قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحسين،

قال : حدثنا محمد بن إدريس،

قال : حدثنا أحمد بن أبي الجواري،

قال : قال أبو أحمد يعني عباس الهمداني وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} قال : الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون.

وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء،

فقال له الوضين بن عطاء : بِمَ أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟

قال : ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا،

ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا.

وعن عبد اللّه بن الزبير قال : تقول الحكمة : من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين : أن يعمل بأحسن ما يعلمه،

أو يدع أسوأ ما يعلمه.

وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. ضحاك : والذين جاهدوا بالهجرة لنهدينّهم سبل الثبات على الإيمان،

وقيل : والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبل دخول الجنان،

سهل بن عبد اللّه : والذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنة ثم قال : مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى،

من دخل الجنة في العقبى سلم،

فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم،

وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا {وَإِنَّ اللّه لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بالنصر والمعونة في دنياهم،

وبالثواب والمغفرة في عقباهم.

﴿ ٠